رواية عشق الغرام الفصل الخامس عشر 15بقلم ندى ممدوح (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات) عشق الغرام
رواية عشق الغرام الفصل الخامس عشر 15بقلم ندى ممدوح (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات) عشق الغرام
15_عشق الغرام
شعرت غادة بقلبها يكاد يتوقف من فرط الرعب على يوسف، ثم ذهبت مع شقيقها يمان برفقة الشاب الذي أخذهما إلى المستشفى التي يُعالج بها يوسف، وهناك طال إنتظارها لتعرف عنه خبرًا يغنيها عن الدنيا وما فيها فلم تجد، كانت تغمض عينيها ويسحُّ دمعها كنهرٍ جاري، تتراءى لها نفسها تقفُ في الظلام تتلفت، تنظر على إثر يوسف وهو يغيب في الظلام راحلًا بعيدًا عنها، تاركًا لها أطيافًا من الذكريات تطوف حولها.
هكذا كانت تجدُ نفسها كالضائعة التي تبحثُ عن مأوى، وحضن يوسف فقط ملاذها.
كانت تحترق ألمًا وتفنى ضياعًا؛ أيمكن أن يحور قلبها للحياة!؟ قلبُها الذي تلفع بحزنٍ بدا كظلامٍ بهيم.
وأعينها التي أسودت بهما الحياة فلا ترى اطمئنان ولا راحة، بل خوفٍ ورعبٍ ووحشة.
أخذ يمان يغدو ويروح في الرواق بعجزٍ عن أن يفعل شيء يهدأ به شقيقته.
ومضى الوقت بهما جالسان في الانتظار حتى خرج الطبيب لهما بالبشرى بإقاقة يوسف وتجاوزه للخطر، هنالك سجدة غادة شكرًا لله العظيم على أنه منحه فرصةً جديدة في الحياة.
دخلت لتراه وتطمئن فؤادها المفجوع عليه، فهالها رؤيته شاحب الوجه، متهالك الجسد موصلٌ به بعض الأجهزة، فشهقت تجهشُ في البكاء وهي تكمم فمها براحة يدها، وتقترب ببطء من فراشه خيفة أن توقظه، لكن عينيها ألتقطتا رفرفت أهدابه في وهن، فجلست على طرف الفراش على كثبٍ من رأسه، واحتوت كفه بين يديها في حنوٍ، وبملامح تطفح بالحب مالت تلثم جبهته بقلبة عميقة، ثم سلمت جبهتها إلى جبهته وشرعت دموعها تقطر فوق وجهه، وتناهى لها همسه الخفيض باسمها وهو يقول بصوتٍ ضعيف:
_غادة.
فرفعت رأسها لتضم وجهه وهي تقول في لهفة:
_يوسف.
افتر ثغره عن بسمة واسعة وهو يغمغم ضاحكًا في مشاكسة:
_دا أنتِ ولا عفريتك ولا أنا بحلم؟!
فوكزت ذراعه بخفة وهي تقول بضحكة ممزوجة بالدمع:
_تعرف أنك حد بارد جدًا؟!
فتبسم وهو يقول ببساطة:
_عارف.
كفكفت عبراتها وهي تتأمله بنظرات امتلأت بالعتاب، ثم تمتمت بنبرة تقطر حزنًا:
_ليه كدا يا يوسف؟ ليه خبيت عليَّ أنك بتشتغل في المخابرات؟!
أسبل يوسف جفناه وهو يقول مفصحًا في هدوء:
_لأن شغلي لازم يكون في سرية تامة محدش يعرف بيه؟!
فهتفت بانفعال وهي تهب واقفة:
_حتى مراتك يا يوسف؟!
أردف يوسف في وضوح:
_كنت هقولك بس مجتش فرصة.
ضحكت غادة في تهكم وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها، وقالت في سخرية:
_آه وعشان كدا بقا خدتني معاك في مهمتك وأنت معرفني أننا في شهر عسل.
تنهد يوسف تنهدًا عميقًا وألتفت يتطلع إليها قائلًا:
_اقعدي يا غادة الأول وهفهمك!
فلم تأبهْ به أو تعره اهتمامًا فجذبها من ذراعها برفق وهو يدمدم:
_اقعدي يا بنتي هفهمك.
جلست غادة على مضض، بينما أستطرد هو يقول مفصحًا:
_مش عاوزك تقاطعيني لحد ما تسمعي اللي عندي، أولًا مكنش هينفع أأقولك أي حاجة عن شغلي في فترة الخطوبة لأن كان ممكن منكملش سوا، وطبيعي مش هقولك في يوم فرحنا يوم الصبحية كان نداء الوطن بيناديلي ملبيش النداء؟ ومكنش هينفع أأقولك اني مسافر من اول يوم جواز عشان كدا خدتك معايا.. على أساس أننا في شهر عسل ودا اللي كان هيكون فعلاً كنت هخلص مهمتي اللي متكفل بيها وهنقضي وقت كويس هناك.
نظرة له غادة بعتاب وهي تقول:
_ومخفتش يحصل ليّ حاجة؟
هز يوسف رأسه نافيًا وهو يقول في ثقة:
_مستحيل كنت أسمح لأي حاجة تأذيكِ!
ثم وضع كفه فوق كفها وقال بصوتٍ خافت:
_حقك عليَّ يا غادة مكنتش أتمنى تشوفي اللي شوفتيه هناك بس المهمة دي كانت مهمة لأنقاذ واحد صاحبي.
قطبت غادة جبينها، سألته في اهتمام:
_صاحبك مين ده؟
شردت عينا يوسف وأشاح بوجهه بعيدًا، وانبلجت بسمة على وجهه وهو يهتف في وقار شارد:
_الصنديد.
تنبه من شروده على صيحة غادة:
_مين؟
فزوى ما بين حاجبيه، وغمغم:
_متخديش في بالك!
لكن غادة هتفت في فضول:
_صاحبك اسمه أيه يوسف؟ وايه الصنديد دي؟!
أردف يوسف بنبرة أجشة:
_اسمه (سلمان) والصنديد ده لقبه ويعني الفارس الشجاع.
ثم أبتعد بعيناه وهو يقول:
_سلمان صنديد من صناديد زمان بيضحي بروحه عشان طفلة صغيرة لا من وطنه ولا من دينه ولا يعرف عنها حاجة.
غمغمت غادة في فضول حين لاذ بالصمت:
_وأيه كمان؟
فتابع كالمتغيب:
_الطفلة كان والدها من المافيا وفي حد من خصومه قتله هو ومراته وكان هيقتل الطفلة بس سلمان أنقذها ومن الوقت ده وهو بيحمي الطفلة.
تمتمت غادة في دهشة:
_هو مسيحي ولا مسلم ولا ايه نظامه.. اسمه اسم مسيحي صح؟! وبعدين هو كان بيعمل ايه مع المافيا ده وشافه وهو بيقتل الطفلة.
ضيق يوسف عينيه في ضيق ونظر لها في حنق وهو يقول:
_ سلمان اللي كان المفروض يقتلها.. وبعدين وهو اي حد اسمه سلمان يبقى مسيحي أنتِ معندكيش عقل يا بنتي، مقرتيش قبل كدا قصة سلمان الفارسي صاحب رسول الله صل الله عليه وسلم الباحث عن الحق.
ثم ضحك قائلًا:
_دا انا حافظ قصة الصحابي ده زي اسمي من كتر ما سلمان بيحكيها لينا وهو فخور ان اسمه على اسم صاحب رسول الله.
سلمت غادة ذقنها إلى راحة يدها وهي تتأمله بأعين تشع حبًا، مغمغمة:
_احكيلي باقي قصة صاحبك ده؟! إزاي كان هيقتل الطفلة وبعدين انقذها.
_ياااه دا عمل حرب وقتها عشانها.
************
جاء زكريا ليلًا يبحثُ عن غرام فلم يجدها في الغرفة، فتوجه إلى المطبخ ربما تكون هنالك، وبالفعل صدق حدسه فلم يكاد يدخل حتى راها تجلسُ على المائدة تتناول الطعام فأدرك أنها تنوي الصيام غدًا، وكان يتعجب لا غرو من صيامها، تلك الأيام التي تكون فيها متغيرة!
نشيطة، مرحة، متسامحة، ذات وجهٍ مشرق لا تبرح سجادة الصلاة، ولا ترقأ من الدعاء ببكاء، كان كل ذلك يبهره.
كيف يصنع الصيام كل ذلك فيها؟!
لماذا لا يجرب؟!
تقدم منها واستهل الحديث عندما تنبهت لوجوده:
_مساء الخير.
فغمغمت غرام دون أن تلتفت إليه:
_مساء النور.
ثم رفعت بصرها إليه وهي تردف في اهتمام:
_راجع بدري النهارده!
فسحب مقعدًا قبالتها وهو يقول:
_عادي.
ثم شرع يتناول بعض اللقيمات وهو يستطرد قائلًا:
_أنتِ صايمة بكرا!
فأومأت برأسها دون أن تنبس ببنتِ شفة أو ترفع نظرها إليه، فغمغم مقرًا:
_وأنا كمان.
فاحتلت الصدمة وجهها وهي ترفع رأسها إليه في ذهولٍ تام طغى على كل شيء، فتبسم لها وهو يقول:
_نويت أصيم بجد.
فأكتفت بهز رأسها مستريبة.
لكنه قد صام ذاك اليوم رغم إصابته بحمى أرقدته طوال اليوم، وشعر أن للصيام حياة.
يعيد النشاط، يمحو كل حقدٍ في القلب، وكأنما يزيل كل سوادٍ فيه، يتلفع بالضياء والضي والطهور، ينثر التسامح مع الجميع، يكون له لقاءٍ خاص مع الله.
ربما في خشوع الصلاة، وربما مع خشوع الدعوات.
الصيام يربي..
يعلم..
يهدي..
فمع ظمأ الهواجر تنبت التوبة..
ظلت غرام هذا اليوم بجانبه، تفعل له الكمدات تطمئن كل حينٍ وآخر من حرارته، تعطيه دواءً..
لكن بعد ذلك اليوم وتغير كل شيء، أصبح زكريا كثير المرض، كثير الهزال، كثير الحمى التي لم تعد تفارقه، وبات ينحف.
عندئذ أهتاج مختار وهو يرى ابنه يزبل أمام عينيه وبإصرار طلب منه أن يذهب إلى طبيبًا ما ليطمئن على نفسه.
جلست غرام حائرة لا تدري هل تذهب معه أم تتركه يذهب بمفرده، لذا فقد استهلت الحديث قائلة:
_زكريا تحب آجي معاك!
فالتفت إليها قائلًا بنفي:
_لا مفيش داعي خليكِ في البيت أحسن.
فأومأت برأسها ولم تنبس كانت لا تفضل الخروج معه أبدًا وحمدت ربها أنه لم يوافق على ذهابها معه لكنها كانت تشفق عليه وهي ترَ مرضه يذداد.
ما كاد زكريا يخرج من باب البيت حتى عاد إليها وهو يسعل بشده قائلًا بتيه:
_غرام متعرفيش فين تلفوني؟
فتطلعت فيه غرام باندهاش إذ كان الهاتف بيده، فنقلت بصرها إلى وجهه وهي تقول بحذر:
_التلفون معاك!
فغمغم في تعجب:
_معايا فين؟
فتبسمت غرام في توتر وهي تشير إلى كفه قائلة:
_في أيدك.
فزوى زكريا ما بين عينيه مذهولًا، لم يلبث أن شعر بالأحراج فضحك في توتر وهو يقول:
_معلش مخدتش بالي، بعد أذنك.
_أتفضل.
غمغمت بها غرام وهي تشيع رحيله بقلق شرع يلتهم قلبها قلقًا.
سار زكريا حيثُ سيارته وهو متشاغل في هاتفه ثم توقف بغتة بجوار باب السيارة وضيق ما بين عينيه بشدة وهو يقرأ إشعار رسالة وصلته توًا فحواها:
_زكريا لماذا لا ترد على مكالماتي، أجب أرجوك فأنا حامل بابنك! وأوشكت على الولادة!
أجتاحه سعال حاد جعله يميل فوق السيارة مرتكزًا عليها بإنهاك، وعاد مجددًا يقرأ الرسالة وقد بُهت وجهه وامتقع، كانت فتاة من الخارج قد قضى معها وقتًا لا بأس به، وها هي ذا تخبره أنها حامل منه؟! بل والأحرى أنه سيكون أبًا قريبًا!
صعد سيارته وانطلق بها إلى طبيبٍ للفحص لكي يطمئن على صحته.
***********
جلس زكريا أمام الطبيب المعالج بعدما قام بعمل بعض الفحوصات التي طلبها منه، وجلس وحيدًا يترقب الطبيب وهو يدقق النظر في التقارير ويقلب فيهم عدة مرات، ثم ألتقط نفسًا وهو يضعهم أمامه ويتبسَّم بسمة متوترة ويتطلع إليه في صمت لهنيهة، ثم بادر قائلًا:
_طبعًا يا أستاذ زكريا إحنا مؤمنين بالله، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
سكت، وازدرد زكريا لعابه وقد شعر أن مقدمة الطبيب تعني أن القادم سيء، فألتمع الدمع في عينيه والطبيب يستطرد قائلًا في هدوء وهو يشبك كفيه أمامه:
_حضرتك بتعاني من مرض الإيدز، أنا هكتب لك على بعض الأدوية اللي هتستمر عليها بحيثُ نوقف الفيروس عن الأنتشار في الجسم، وتقوية جهازك المناعي.
صدمة، كانت تحتل ملامح زكريا وقد طغت على كل كيانه، ظل يستمع إلى الطبيب بذهنٍ شارد حائر متفكر، يتطلع إليه بوجهٍ باهت شديد الشحوب، هل سيقى مريضًا طوال عمره القادم؟!
أهذه تكون نهايته؟
لكن هو المتسبب الوحيد في كل هذا لقد أخذ عقابه، عن كل افعاله الشنعاء.
خرج من لدن الطبيب ثم توقف في منتصف الطريق كالتائه، وحيدًا يترقّب لعل وعسى يكون حلمًا يتستيقظ منه فيجد نفسه في فراشه.
بمن يلوذ وقد تسبب في إبعاد الجميع عنه؟!
عاد إلى البيت وحيدًا ضائعًا شاردًا، فاستقلبته غرام في لهفة وغدت نحوه وهي تهتف:
_ها عملت أيه طمني الفحوصات كويسة؟!
سؤالها لم يكن حبًا أو خوفًا، بل واجب وشفقة.
حدق فيها زكريا طويلًا كالمتغيب، ولم يعرف بما يجيبها فتركها واقفة ورحل من أمامها صاعدًا الدرج إلى حجرته.
شيعت غرام رحيله متعجبة، لكنها لم تلبث أن تحركت إلى المطبخ.
جلس زكريا على طرف الفراش واضعًا رأسه بين كفيه، كأنما استحال ظهره إلى جبلٍ من الهموم، لماذا يشعر أن أجله قريبًا؟!
وأن الموت زائر يطوف حوله في إنتظار لحظة إنقباض روحه حين يأتيه الأمر.
لأول مرة تسيل عبراته وهو يستشعر معنى كلمة موت..
موت يعني فراق الدنيا والأهل والأحبة.
يعني قبرٍ مظلم موحش ربما يعذب فيه!
يعني حساب وعقاب وجنة أو نار.
أعتصر جفناه ألمًا فنزل دمعه شآبيبٍ تترى.
أحس بحاجته أن يقرأ عن القبر، أن يدرك ماذا سيجد هناك! أن يعلم كيف ستكون اول ليلته!
فتناول هاتفه من جيبه، وفعل سيرش عن القبر فظهرت له بعض المقالات التي علم منها أن عذاب القبر حقيقة لا مراء فيها، وربما نعيمًا لا أحد يدرِ مصيره، وأرتجف فؤاده وهو يقرأ حديث النبي أن الميت يسمع قرع نعال الناس فإذا بملكان يأتيان له يسألانه عن ربه ودينه ورسوله فيرَ مقعده من الجنة أن أجاب وكان من الناجيين، ويرَ مقعده من النار أن كان من العاصين، وعند ضمة القبر للجسد تأمل طويلًا.
كيف ستطبق الأرض عليه؟!
كيف؟!
أنَّى ينجو من ضمة القبر؟ كيف يفر منها؟
عندئذ أخذ يبكي بكاءٍ مرًا وعلا نشيجه، ما قرأه عن القبر قد هده وأورثه خوفًا عن خوف، وأخذ يسمع أكثر وأكثر حتى وجد مقطغ لشيخ سمير مصطفى أستمع إليه وهو يرتجف.
هنالك قرر أن يتوب، أن ينال ضمة خفيفة حنون من القبر، أن يرَ الملائكة بيض الوجوه، ألا يفزغ؟ ألا يشعر بالوحشة في القبر.
عليه أن يعمل لكل ذلك فقد أضاع حياته وما تبقى إلا القليل.
هل يقبل الله توبته؟
أم يتوب ويترك الباقي على الله.
نعم سيتوب سيلوذ هذه المرة بالله الرحيم عساه يكفر عن ذنوبه.
ماذا عليه أن يفعل الآن؟!
ذهب مشرعًا في الوضوء، شعر أن الماء يغسل جل أوساخه، كانت دموعه تهوى ممتزجة بماء الوضوء، وقف بين يدي ربه وبدأ يصلي لم يكن يحفظ أي شيء من القرآن إلا الفاتحة ربما مع بعض الأخطاء فيها من التجويد والتشكيل، لكنه صلى بها وهو ينوي أن يحفظها جيدًا، أحس أن الله قريب منه قرب الوتين من القلب، فازداد دمعه أنهارًا يشعر بالخزى والعار، وما أن لامست جبهته الأرض وسجد لله أخذ ينشج ويلهج بالأستغفار عسى الله أن يتوب عليه..
أن يرحمه.
أن يعفو عنه..
دخلت غرام إلى الحجرة فتفآجئت به ساجدًا ينشج نشيجًا فلق قلبها شَطْرين، هل هذا الذي أمامها هو زكريا الذي تعرفه!!
فغرت فاهً وهي مشخصت النظر فيه من الصدمة.
ما الذي غيره، وبدل حاله إلى أفضل حال؟
كيف؟!
هل تاب زكريا حقًا؟!
أيمكن للمرض أن يربى المرء، أن يطهر فؤاده؟
هل أقلع عما كان يفعل؟! ألن يمارس الزنى مجددًا؟! في كل مرة كان يخرج فيها كانت تبكي قهرًا، رغم أنها لم تحبه، إلا أنها كانت تشعر بالخيانة، أن بها نقصًا ما!
************
جلس يمان برفقة يوسف يتسامران وقد قربت بينهما فترة مرض يوسف كثيرًا فأصبحا صديقين يتلاقيا دائمًا ويتحدثا في كل شيء، يتشاورا، ويتناقشا!
قص يمان على يوسف شجون قلبه وحبه إلى غرام وما فعله، وأنصت يوسف في تأني، ثم غمغم في كل حكمة:
_أنت غلطان يا يمان، عملت أكبر غلطة في حياتك، يا ابني أنت معندكش عقل تفكر بيه؟! يعني زكريا أتهمكم بتهم مش كويسة وأنت رايح تقول لراجل أنك بتحب بنته؟! أنت بتفكر إزاي بجد!؟ وبعدين رايح توضح لخالك حقيقة ابنه فتقوله انك بتحب مرات ابنه، ما هو طبيعي طبعًا محدش يصدقك.
حك يمان مؤخرة رأسه في خجل، لقد بدت لها نفسه وكأنها جنت جنون محب تملأه الغيظ فأودى بوقاره فما يطيق قرارا، وقد استعر قلبه، فتمتم في استحياء:
_وقتها مكنتش بفكر وكنت بقول الصدق وبس بدون تفكير في العواقب، أنا عارف أني غلطت!
ربت يوسف على كتفه، وقال:
_أنتَ دلوقتي لازم تنساها لأنها بقت على ذمة راجل تاني يعني مستحيل تكون ليك، فبلاش تفكر فيها وطلعها من قلبك.
أومأ يمان له موافقًا لكن بداخله كان ثمة حدسٍ يخبره أن غرام مائلها إليه.
تنبه من شروده على قول يوسف وهو يقول:
_يلا بقا تعالى نروح زمان أختك مستنياك متنساش أنك معزوم عندنا النهاردة.
ذهب يمان إلى مع يوسف وقضى معهما وقتًا لطيفًا، حتى رن رقم هاتف غادة التي كانت داخل المطبخ تعد لهم الشاي، بينما يوسف يتحدث في الهاتف، لم يكن الرقم مسجل، لذا فقد وضع الهاتف على أذنه وما هم أن يلقي السلام حتى وصل إليه وتسلل إلى قلبه صوت غرام وهي تقول:
_غادة معايا..
فسكت يستمع إلى صوتها المحبب دون همس، بينما قالت هي:
_ألو..
عندما لم تجد ردًا أغلقت، فظل يمان شاردًا وهو يقبض على الهاتف حتى أقبلت غادة وهي تقول:
_مين اللي كان بيرن يا يمان؟!
قال يمان وهو يتهيأ للرحيل:
_غرام.
هتفت غادة ببهجة:
_بجد؟!
أومأ يمان برأسه، وقال:
_ايوة، سلام أنا همشي!
فحاولت غادة أن تبقيه وهي تقول:
_تمشي حالًا كدا؟ طب اشرب الشاي!
لكنه أصر على الرحيل، يطوِ حبًا داخل قلبه قد دُفن.
**********
غمغم مختار محدثًا زكريا وهم على طاولة العشاء:
_أيه رأيك يا زكريا تسافر أنت وغرام تغير جو؟!
تطلعت غرام في زكريا في ترقب وهي تتمنى أن يرفض، ولم يخيب زكريا ظنها عندما قال رافضًا في صرامة:
_لأ.
ثم ألتفت إلى أبيه، وأضاف:
_مقدرش أسافر أنا وهي، خاصةً أني مسافر في أأقرب وقت واحتمال غيابي يطول!
توجس مختار خيفة من كلمة سفر وغيابٍ طويل، فكف عن طعامه ونظر له باهتمام، وتمتم:
_مسافر ليه يا حبيبي؟! مفيش سبب لسفرك، وهتسافر فين؟!
نظر زكريا بعيدًا عن والده وهو يردف:
_عندي أسبابي يا بابا أتمنى تسبني براحتي! انا مش عيل صغير.
أومأ مختار برأسه مستريبًا، وهو يقول:
_طيب هتغيب قد أيه؟
غمغم زكريا وهو يحرك كتفيه في بساطة:
_مش عارف!
تطلع مختار في ابنه الذي نمت لحيته لأول مرة في غرابة، كان يشعر أن ثمة من أخذ ابنه وبدله.
غرام وحدها كانت تعرف إلى ماذا تغير زكريا!
فلقد تغير تمامًا إلى الأحسن، لم يعد يترك فرضًا إلا وقد لبى النداء سريعًا، وهو الذي لم يقترب من صلاة قط، أصبح يصيم مثلها الأيام البيض والأثنين والخميش، أصبح كثير السمع لمحاضرات الشيخ سمير، بالأخص السيرة النبوية، ودروس القضاء والقدر، وعن القبر والآخرة.
زكريا تغير وهذا كان شيء يطمئن قلبها.
رغم أنها كانت تتمنى أن تتحرر منه!
*********
كان زكريا يقيم الليل باكيًا يناجي ربه يطلب منه المغفرة في الثلث الأخير من الليل، استيقظت غرام من نومها على صوت بكائه، فاستوت جالسة في الفراش، تراه يصلي ببكاءً لا يرقأ، هذا الرجل يخبي شيئًا يجب أن تعرفه قبل أن يسافر، انتظرت حتى فرغ من صلاته وكفكف دمعه وهم أن يراجع على ما حفظه من صور قصار، لكنه تنبه إلى غرام التي جلست بجانبه على الأرض، ومدت كفها لأول مرة لتربت على كتفه، وهي تقول:
_زكريا أنت كويس؟ قولي هو أنت مخبي علينا حاجة؟
هز زكريا رأسه قائلًا:
_مش مخبي حاجة يعني هخبي أيه!
وأشاح وجهه بعيدًا عنها عندما أحس بدمعه عالق في أجفانه يبغي التحرر، وهمس بصوتٍ خفيض:
_هو لازم يكون في سبب عشان الانسان يرجع إلى ربه؟
ثم التفت إليها وقد سال دمعه وهو يسألها في صدق:
_هو ممكن ربنا يغفر ليّ يا غرام؟ ممكن يقبل عبد عمل كل الكبائر ويفتح له أبواب رحمته؟! هل ممكن يوم القيامة أعدي الصراط بسلام؟ ممكن النبي يسقيني من كوثره؟ ولا الملايكة هتبعدني عنه، أنا.. أنا بقيت بقرف من نفسي كل ما أفتكر اللي كنت بعمله أو لما بشوف بنت من اللي كنت..
سكت وأخذ يهتز من البكاء وألقى برأسه في حجرها، فراحت تمسد على رأسه في شفقة، وهي تقول بنبرة تقطر حزنًا:
_ربنا سبحانه وتعالى غفورٌ ودودٌ رحيمٌ حشاه أن يرد عبدًا أتاه تائبًا بإخلاص، دا ربنا الكريم يا زكريا كرمه ملهوش حدود أبدًا، ومش معنى أن إحنا كنا وحشين يبقى لما نتوب نبقى كذلك، في ناس كتير كانت حشة وتابت وعملت عملًا صالحًا وأصبحوا من الصالحين.
أدوا معًا صلاة الفجر وأمَّ بها ثم أوى إلى فراشه وغفى ورغم ذلك أستيقظ باكرًا ليعد حقيبة سفره، لكنه قبل أن يغادر الحجرة بادرته غرام قائلة:
_زكريا أنت هترجع إمتى؟!
فرد عليها على عجل:
_مش عارف.
فسألته حائرة:
_طب أنت مسافر ليه؟
فأجابها وهو يدنو منها قائلًا:
_لما هرجع هقولك.
ثم لثم جبهتها بحنوٍ لأول مرة وهو يقول موصيًا:
_خلي بالك من نفسك يا غرام ومن بابا.
ثم سكت لهنيهة وأردف بحزنٍ دفين:
_سامحيني على كل اللي عملته فيكِ أرجوكِ!
ورحل سريعًا دون أن ينتظر منها ردًا، بينما أجهشت هي في البكاء، لا تدرِ هل تستطيع السماح حقًا؟!
ودع زكريا أبيه وجلس في سيارة أجرة لكي تقله إلى المطار وهو يتحدث في الهاتف قائلًا:
_ساعاتٍ وستجدينني عندك، أستقبلينني في المطار!.
وأنتظر الرد ثم غمغم بنبرة منفعلة:
_كيف أستطعتي أن تخبي عليَّ حملك كل هذه الشهور حتى جئتِ بطفلي؟!
وسكت يستمع إلى الطرف الآخر، الذي تمتم صوته في رقة:
_ظننتك لن ترحب به، لكني قُلت أن أخبرك وليحدث ما يحدث، يجب أن تتزوجني يا زكريا ونربي طفلنا معًا.
ردد زكريا وهو يصر على أسنانه:
_أنني قادم لأجل هذا.
وصل زكريا إلى المطار وأنهى جميع أوراقه، وجلس مترقبًا في صالة الأنتظار حتى أُعلن عن قرب إقلاع الطائرة، فنهض واقفًا وأستدار إلى باب المطر وبأعين بها الشوق جليًا بدا أنه يودع أرضًا لن يطأها مجددًا، وأُناسٌ لن يراهم مرةً أخرى.
أتخذ زكريا مقعده في الطائرة، وربط حزام الأمان ثم أسند رأسه إلى ظهر المقعد وأخذ يستغفر، وبعدما أقلعت الطائرة واستوت في السماء فك الحزام، وتنهد وهو يتطلع من النافذة بجواره إلى السحب البيضاء، ثم راح يتفكر في الملائكة.
ترَ كيف هو الملك جبريل؟!
كيف هيئته وهيئة أجنحته، شعر بالرهبة فتبسَّم وأحس أنه يشتاق إلى الله.
إلى لذة النظر إلى رؤيته!
يشتاق إلى النبي والصحابة!
وعلى ذكر الصحابة ألتقط كتيب كان معه وشرع يقرأ قصة البراء بن مالك فتى الأنصار..
من كان شعاره الله ثم الجنة.
وتأثر تأثرًا عظيمًا عندما خلص البراء أخيه أنس من الخطاطيف المحمية بالنار وفقد كفيه.
لم يلبث أن فرغ من قراءة القصة بقلبٍ متلهف لرؤية البراء، ثم أرتجت الطائرة إرتجاجة عظيمة رجت الأجساد، وعلت على إثرها الصرخات، والشهقات وبكاء الصغار والنساء، هدأت الأرتجاجة وخفت الصراخ وعم الهدوء، فظهر صوت المذيعة وهي تتحدث في المكبر، قائلة:
_السادة الركاب..
وتسرب صوتها في الفراغ عندما هوت الطائرة من شاهق، وصرخ زكريا مكبرًا بصوتٍ عال، ثم لهج لسانه بالتشهد، وانغمرت دموعه وهو يردد سيد الأستغفار، الصراخ والبكاء كاد يصم أذنيه لكنه شرع يكبر ويقول الشهادة وفجأة انفجرت الطائرة بحريقٍ هائل حولها إلى إشلاء وغاب كل شيء عن الوجود إلا ذاك الدخان الذي عبأ السماء ثم راح يخفت شيئًا فشيئًا.
يتبع…
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا