رواية بين دروب قسوته الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم ندا حسن( جميع الفصول كامله )
رواية بين دروب قسوته الفصل الاول والثاني والثالث والرابع والخامس بقلم ندا حسن( جميع الفصول كامله )
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الأول
#ندا_حسن
"طفولة مُرهقة بالحب والقسوة"
نظر إليها بعينيه البُنية الخلابة وفي لحظة تعامد الشمس عليها تصبح عسلية صافية، مد يده يُشير بإصبعه على شاشة الحاسوب الذي تحمله على قدميها بعد أن انتقل بنظره إليه وهتف بنبرة واثقة مقترحة:
-أنا شايف إن ده أحلى
بعد أن أبصرت الصالون الذي أشار إليه وقد كان حقًا بشع بالنسبة إليها عادت ببريق عينيها الزيتوني الواسعة إليه وهتفت باستنكار وضجر وشفتـ'ـيها المكتنزة تتحرك أمامه:
-يع وحش أوي يا عامر.. طول عمرك ذوقك بلدي
أقترب بوجهه يُميل بجسده عليها ناظرًا إليها بعينيه الوقحة الجريئة يحرك شفتيه الرفيعة قائلًا بخبث ووقاحة:
-وحياتك مافي حاجه حلوة في القعدة دي غيرك.. وبعدين ذوق ايه اللي بلدي دا أنا منقي بطل..
أبصر ابتسامتها الرقيقة، عينيها الواسعة المرسومة بدقة طبيعية ووجنتيها مع شفتيها المكتنزة غير خصلات شعرها المتطايرة حول أكتافها وصاح بحماس وشوق:
-وديني بطل
صدحت ضحكاتها في المكان وهي تعود للخلف برأسها مُتمسكة بالحاسوب، فالنظر إليه وهو يهتف كلماته المتلاعبة يجعلها تضحك بصخب..
منزل يظهر من الخارج كـ الفيلا، شاسعة المساحة رائعة التصميم، كبيرة للغاية بتصميم عصري حديث، في المنتصف بوابة حديدية كبيرة تجعلها تنفصل لجزئين مكونه من طابقين، الطابق الأرضي والأول علوي ثم الثاني، لونها رائع وفريد لا تستطيع تحديد ماهو وما اسمه، عينيك تنبهر بجمالها وروعة مظهرها وكأنه تُسر أعين الناظرين إليها كمن يقيمون بها، وهذا في الظاهر!..
حول هذه الفيلا مساحة كبيرة واسعة للغاية من الأرض الخضراء المحاطة بسور عالي يتوسطه بوابة حديدية كبيرة أكبر بكثير من الأخرى في الداخل وفي الجانب الخلفي للسور هناك واحدة مثلها..
حديقة جميلة ورائعة بها ألوان زاهية بفعل الزهور المتناثرة في نباتها في كل مكان، هناك طاولة كبيرة ومن حولها المقاعد الخاصة بها وتفصلها البوابة عن الناحية الأخرى من الحديقة حيث أنه في المنتصف طريق يتسع لسيارة واحدة من البوابة الخارجية إلى الداخلية يفصل الحديقة إلى ناحيتين..
بينما في الناحية الأخرى والجانب الظاهر منها أرجوحة كبيرة رائعة كشكل البيضة الملتفة حول نفسها، يجلس بها ذلك الشاب الثلاثيني صاحب الخصلات السوداء الحالكة، والعينين البُنية رائعة المظهر، خلابة وساحرة عندما تأتي أشعة الشمس عليها تتحول إلى لهيب صافي يُسرك فقط لأنك تنظر إليه، أنفه شامخ حاد يتماشى مع بقية ملامح وجهه وشفتيه رفيعة يعلوها شارب نابت خفيف ولحيته أيضًا نابته بينما وجهه بالكامل نحيف قليلًا يأخذ المظهر الطويل ولكنه يتمتع بقدر عالي من الوسامة والحدة المُرتسمة على ملامحه، يتمتع بجسد رياضي، ليس كثيرًا ولكنه جسد رشيق وطويل أيضًا، يظهر وكأنه شخص يتلاعب بالحديث والخبث ينبعث من حديثه بعد أن تحدث بجملتين معها..
بجانبه فتاة رقيقة لا تستطيع قول غير ذلك ولكنها أيضًا شرسة، مظهرها لن يدعوك لقول أنها رقيقة للغاية بل تظهر وكأنها جريئة قليلًا، خصلاتها تهبط إلى بعد كتفيها بقليل ليست طويلة لونها بُني رائع يختلط مع الذهبي يتدلى منه من الأمام خلصتين على جانبي وجهها لونهم ذهبي لامع، عينيها واسعة مرسومة بطريقة رائعة ليست هي من فعلتها بل هذا صُنع الخالق، لونها زيتوني رائع ككل ما بها، أنفها صغير ووجنتيها مكتنزة إلى حد ما ومثلها شفتيها ذو اللون الوردي الطبيعي دون أي مجهود منها، جسدها يبدو رشيق ليس نحيف وليس ممتلئ ولكنها تتمتع بالقدر الكافي لتكون أنثى متكاملة، لون بشرتها بيضاء ناعمة فقط من نظرتك إليها تشعر بذلك..
بعد أن توقفت عن الضحك نظرت إليه مُبتسمة بهدوء تطلب منه وعينيها تتقابل مع خاصته:
-ممكن تركز معايا شوية بقى
أقترب بجسده أكثر إلى أن التصق بها قائلًا بحرارة ونظرة شغوفه مشتاقة إليها بقوة:
-أكتر من كده؟ المرجيحه هتولع بينا
عادت برأسها للخلف مُتذمرة تبتعد عنه ومازالت تنظر إليه بقوة منادية اسمه بحدة ليتوقف عما يفعله بها في كل ركن بهذه الفيلا:
-عامر! الله
تلاعب بها وهو يضع كف يده العريض على وجنتها المكتنزة مُردفًا بهدوء وتروي ماكر:
-عيون عامر وقلب عامر وروح عامر
أبعدت يده عنها صائحة بقوة:
-والله هقوم واسيبك بطل بقى
لم يتراجع عما يفعله ولن يتراجع بهذه السهولة وهي تعرف ذلك، إنه يجعلها تود خنق نفسها من كثرة الإلحاح الرومانسي في أي موقف يمر عليهم:
-أبطل ايه هو حد هنا بطل غيرك
تذمرت بضيق محاولة أن تجعله يبقى لدقيقة واحدة من دون مغازلة وقحة لينهوا أمر هذا الزواج في أسرع وقت:
-ياخي خلينا نخلص الله.. مش عايز تتجوز ولا ايه؟ شكلك كده بتخلع
عاد للخف كما كان في البداية واتسعت عينيه مُستنكرًا ذلك الحديث الذي خرج منها يصيح بقوة ثم أكمل مقترحًا:
-ايه؟ اخلع؟ اخلع مين أنا فيها يا اخفيها.. ما تيجي نتجوز دلوقتي ونقعد في اوضتي لحد ما نخلص الجناح... أو اوضتك أنا معنديش مانع
أجابته بعقلانية شديدة وقد محت الابتسامة من على ثغرها الوردي نهائيًا لتظهر بشكل جدي لكي يفعل المثل:
-شوية جد بقى.. لو ركزت معايا هنتجوز في المعاد
قد نجحت هذه المرة، اعتدل في جلسته وعاد إلى الجدية قائلًا بنبرة جادة واضحة:
-يا سلمى ما أنا قولتلك ماليش في الحاجات دي ما تختاري أنتي
نظرت ببريق عينيها الزيتوني إليه قائلة برقة تحلت بها وهدوء قد أصابها عندما أتى الحوار بينهم إلى حياتهم الزوجية:
-مش ده هيبقى بيتنا يا عامر الله.. أنا عايزة نختار سوا
أردف قائلّا ما يحدث معه عندما يختار معها شيء، لا يُعجبها ولا يليق بها إذًا فلتختار ما تريده، أشار بيده قائلًا ثم أكمل بجدية:
-وكل ما اختار يبقى ذوقي بلدي.. حبيبي اختاري كل اللي أنتي عايزاه وأنا موافق عليه
معه حق إنها تفعل ذلك، حديثه صحيح ستأخذ بنصيحته هذه المرة فهي تعلم أنه لا يُجيد اختيار هذه الأشياء بذوق رفيع، إن ذوقه منحط للغاية في كل شيء ماعدا هي من المؤكد:
-طيب خلاص ماشي يكش نخلص
أقترب مرة أخرى عائدًا إلى نبرته وملامحه المتلاعبة المنتظرة أى حركة منها ليقوم باستغلالها وهتف بحماس ونبرة خبيثة:
-أيوه أنا عايز يكش نخلص دي
نظرت أمامها والحاسوب بيدها، لم يأخذها خلدها هذه المرة إلى تفكيره الوقح بل تحدثت بما ينقصهم لإتمام الزفاف في الموعد المحدد:
-هو كده يعتبر خلاص يعني، فاضل نفرش الجناح بس والفستان طبعًا أهم حاجه هسافر أشوفه والباقي بقى قاعة وحاجات كده تبعك أنت
نظر إليها مطولًا بشغف وعينيه تجوب على وجهها بالكامل وكل انش به، يروقه للغاية جسدها الأنثوي الفاتن الذي لا يستطيع المقاومة في حضوره، هتف وهو يضغط على شفتيه في نهاية حديثه:
-ياه يا سلمى فاضل شهر... شهر كده وتبقي تحت ايدي يا بطل وأعمل كل اللي أنا عايزة... دا أنا هفرمك
تركته وهبت واقفة على قدميها مرة واحدة مُبتعدة عنه تنظر إليه بحدة بعد أن تركت الحاسوب في مكانها تُشير إليه بإصبعها السبابة قائلة:
-بطل يا قليل الأدب بدل ما ألغي كل حاجه
لوى شفتيه بسخرية وتحدث بجدية مُميتة تهابُها دائمًا، يبدو أنه لعوب مرح ولكنه في الحقيقة ليس هذا الرجل أبدًا:
-أنتي عارفه وقتها هعمل ايه ماهو مش هستنى تلاتين سنة علشان سيادتك وبعدين تلغي كل حاجه
أردفت بكلمة واحدة وهي تبصره باشمئزاز وضيق:
-سافل
وقف على قدميه ببرود وأقترب منها ثم في لحظة لم تنتبه بها وضع يده الاثنين خلف خصرها جاذبًا إياها إليه وجعلها ملتصقة به للغاية وتحدث بحرارة:
-تعبان قدري يا مفترية
وضعت يدها الاثنين على ذراعيه المحيطة إياها وعادت للخلف برأسها عندما وجدته يقترب منها بوجهه تصرخ به بقوة وخوف:
-يخربيتك اوعى حد يشوفنا
شدد بيده عليها أكثر ناظرًا إلى جمالها الأخاذ وعقله يدعوه لفعل أشياء خطرة لا يستطيع الإنتظار حتى الحصول عليها بعد شهر من الآن:
-طب ياريت علشان نكتب الكتاب دلوقتي هو أنا لسه هستنى
اتسعت عينيها أكثر مما هي عليه وهتفت باستنكار وضجر وهي تحاول أن تبعده عنها:
-عامر بلاش جنان اوعى كده
تحدث بلين ونبرة خافتة وهو يتقرب من وجهها:
-يابت استني هبسطك
كاد أن يقترب من شفتيها المكتنزة يُقبلها ويصل إليها ليشعر بالراحة التي يريدها فهي لا تسمح له بفعلها كثيرًا بل كل مرة يفعل كل هذه الأمور ليصل إليها ولا ينال ما يريد، على حين غرة استمع إلى صوت شقيقته "هدى" وزوجة ابن عمه شقيق خطيبة التي تقف أمامه تنادي عليهم بصوت عالي من على بوابة الفيلا:
-سلمى!.. عامر!.. انتوا فين
دفعته بقوة وهو شارد ينظر إلى خلفها ويرى شقيقته تخرج من البوابة لتبحث عنهم، قائلة بضيق وانزعاج:
-يخربيتك أبعد
ضغط على شفتيه بأسنانه بقوة وهو يراها تبتعد عنه وصاح بضيق وضجر شديد:
-دايمًا كده يا هدى قاطعة كل لحظة حلوة عني
أجابت هي بصوتٍ عالٍ لتجذب انتباه شقيقته:
-أيوه يا هدى إحنا هنا
نظرت إليهم من على درج البوابة ثم هتفت داعية إياهم إلى الداخل في جلسة عائلية تخص عائلة "القصاص" والتي كانت هكذا دائمًا:
-طب يلا
أردفت مُجيبة إياها بايجاب:
-جايين
بعد أن دلفت شقيقته للداخل عادت مرة أخرى تلك الخطوات التي ابتعدتها عنه لتأخذ حاسوبها من خلفه على الأرجوحة، نظر إليها بقوة وهو يراها تتحرك أمامه ثم أقترب يحاول أن يتمسك بيدها ولكنها استدارت بعد أن أخذت الحاسوب ورأته فركضت بعيد عنه وهي تضحك بصخب قائلة:
-بعينك يا عامر
نظر إليها وهي تركض للداخل بذلك الثوب الوردي، بأكمام طويلة، ويصل إلى أسفل ركبتيها ولكنه ملتصق عليها بشدة يبرز مفاتنها وجمالها الخلاب، هتف بعد تنهيده طويلة قائلّا:
-هتروحي مني فين يعني.. كلها شهر ومش هتعرفي تتنفسي حتى
ثم سار خلفها بخطوات ثابتة بعد أن هندم ملابسه المكونة من بنطال كلاسيكي أسود وقميص مثله نفس اللون، ظهر طوله الفارع وجسده الرشيق وكم بدى واثقًا من نفسه وشامخًا حتى في سيرة.. يبدو أنه ليس كما قالت مرح ولعوب، إنه في هذه اللحظة يظهر قاسي للغاية بلامح حادة وعنيفة..
❈-❈-❈
خطى إلى داخل الفيلا من بعدها، ومن هنا نتحدث عن المساحة الكبيرة والمظهر الرائع، كم أن هناك اختلاف كبير بين الداخل والخارج، كيف هذا؟.. في بداية دخولك تقابلك صالة كبيرة شاسعة، تلمع أرضيتها بفعل ذلك الرخام الأبيض الرائع، وفي الداخل صالون يجلس به الجميع في منتصف اثنين من الدرج، واحد على اليسار والدرج الآخر على اليمين..
وفي المنتصف في الأسفل صالون به الجميع جالس، وعلى الجانبين بجوار الدرج غُرف مغلقة، على اليمين واحدة أخرى تنشغل كصالون آخر، وجوارها غرفة الطعام بها سفرة كبيرة للغاية لتجمع العائلة بأكملها..
والأخرى جوارهم بها شاشة كبيرة تأكل عرض الحائط وكأنها شاشة سينما وبها أريكة كبيرة وبعض أكياس القطن غير باب آخر داخلها يؤدي إلى مرحاض..
وعلى الطرف الآخر كان يوجد باب يؤدي إلى مدخل آخر ياخذك إلى المطبخ الكبير، وكأنه مطبخ أحد المطاعم.. وفي نفس هذا المدخل عرفة للخدم العاملين بالبيت وبها مرحاضها الخاص بينما جوار باب المدخل في الخارج غرفة للضيوف القادمين عليهم بها كل ما يلزم..
بينما خلف الدرج من الناحيتين هناك غرفتين مكتب..
وبعد كل هذه المساحة الكبيرة والوصف المبسط كان هناك ألوان زاهية على حوائط الفيلا غير تلك اللوحات المعلقة والتي تبدو غالية الثمن ورائعة المظهر، غير ما وجد من تماثيل تقف على أعمدة في المنتصف أمام كل درج..
وصف الروعة والجمال في هذه الفيلا لن يكفي حتى يصل كم هي رائعة، لا نستطيع وصفها بالشكل الصحيح ولكن المؤكد في كل هذا الحديث أنها مكان ساحر لا مثيل له يليق بعائلة كعائلة "القصاص"، عائلة من أغنى عائلات البلدة..
جلس جوارها أمام الجميع والذين كانوا أفراد العائلة، والده "رؤوف القصاص" ذو النظرات الحادة على ابنه من كل إتجاه وقد كانت ملامحه تشبه ابنه "عامر" كثيرًا وزوجته "عزة القصاص" ابنة عمه هي الأخرى تبدو سيدة محتشمة، ترتدي ملابس فضفاضة وحجاب كبير للغاية يغطي رأسها وصدرها وبداية ظهرها من الخلف وجوارها ابنتها "هدى" زوجة ابن عمها "ياسين" وشقيق خطيبة ولدها الآخر، جميلة هي الأخرى بجسد نحيف قليلًا، عينيها سوداء لامعة، بشرتها بيضاء وتبدو مرحة للغاية وابتسامتها بها حياة أخرى..
وعلى الأريكة الأخرى يجلس عمه "أحمد القصاص" ذو العيون المشابهه لابنته الساحرة وجواره زوجته "سعاد" الغريبة عن العائلة وليست كوالدة "عامر" بل كانت غير محجبة وتظهر خصلات شعرها السوداء بوضوح وأيضًا ترتدي ملابس ليست كالأخرى وجواره على الناحية الأخرى ابنه "ياسين" وقد كان ذو نظرة هادئة، ملامحه تشبه والده، عينيه سوداء، وسيم إلى حد كبير، بينما هو استولى على الأريكة الجالس عليها معها، ليشعر بالراحة أكثر وفي منتصف كل هذا طاولة كبيرة تحمل أصناف شهية من الحلوى والعصائر الطازجة الذي أتت إليهم بعد تناول طعام الغداء..
كان الحديث بين الرجال عن العمل فهتف "ياسين" بجدية ناظرًا إلى ابن عمه قائلًا:
-ورق المناقصة دي مع عامر يا بابا
أجاب "عامر" يومأ برأسه بثبات وهتف بنبرة واثقة:
-آه آه معايا
أردف والده بجدية هو الآخر وهو ينظر إليه:
-ابقى هتهولي عايز أشوفه وأبص عليه
-حاضر
تحدث عمه "أحمد" ووالد خطيبته قائلًا بمرح ومزاح وهو ينظر إليه مُشيرًا بيده إلى ابنته الجالسة جواره:
-عملتوا ايه يا عامر خلصتوا الفرش اللي سلمى صدعتنا بيه ولا لسه
أردف نافيًا ما قاله عمه ثم نظر إليها يكمل حديثه وعينيه مثبتة على عينيها ذات اللون الزيتوني الخالص:
-لأ والله يا عمي.. هي بقى تختاره وتخلصه مع نفسها تعبتني بصراحة
لكزته في ذراعه بقوة مُستنكرة حديثه ناظرة إليه بذهول تهتف بنبرة حادة:
-تعبتك؟ وأنت عملت حاجه أصلًا
مال عليها برأسه يهتف بنبرة خافتة خبيثة وعينه الوقحة الماكرة تنظر إليها بثبات وقد لاحظ الجميع أن هناك شيء آخر يتحدث به معها:
-آه عملت... انكري بقى
أجابته بنبرة خافتة مثله مضيقة عينيها عليه بقوة ولكن الضيق يشتد عليها بسبب أفعاله الدنيئة أمامهم:
-عملت عملت أخرس بقى
استمعت إلى صوت شقيقته تهتف بنبرة متسائلة تنظر إليها بهدوء وابتسامة صغيرة:
-هتروحي تشوفي الفستان امتى يا سلمى
أجابتها بهدوء هي الأخرى ثم استدارت تكمل حديثها إلى والدها الذي تريد أن تأخذ إذنه في السفر مع عامر إلى "لبنان" وحدهما لرؤية فستان عرسها الذي يصمم خصيصًا لها:
-اسبوعين بالظبط وهسافر وعامر معايا بعد اذنك يا بابا
أومأ إليها والدها بهدوء واستكمل حديثه مع شقيقه، تقدمت للأمام بجسدها تأخذ قطعة بسكويت لتأكلها فنظر إليها مُطولًا وهو يراها تأكل بنهم وبطريقة تجعله يموت داخله ألف مرة..
استدارت تنظر إليه عندما شعرت أنه أطال النظر عليها والجميع مُلتهي بالحديث والهواتف، أشارت له بعينيها فأشار لها هو الآخر على البسكويت دليل على أنه يريد مثلها، تقدمت وأخذت غير الذي اكلتهم وقدمتها إليه ولكنه أبعد نظره يبصر الجميع ليراهم منشغلين بعيد عنهم فأشار لها أن تطعمه بيدها.
أبعدت نظرها مثله ترى الآخرين ثم عادت إليه مُبتسمة بحب وقدمت إليه القطعة بيدها الناعمة، أمسك معصم يدها وهي تطعمه وتذوق إصبعها مع البسكويت فاغمض عينيه بقوة مُستمتعًا بتلك اللمسة الفريدة من نوعها..
جذبت يدها سريعًا وابتسمت بسعادة كبيرة وهي تراه واقع بها إلى هذا الحد، كم يحبها؟.. هذا لا يقدر إنه يحبها منذ أيام طفولتهم وإلى الآن ينتظرها للزواج منها بعد أن وضعت شروطها، أن ذلك لن يحدث إلا عندما تنهي دراستها بالكامل، تراه يحبها إلى حد كبير لا تستطيع معرفته أو وصفه، تراه يحبها كما تحب النجوم وجودها في السماء وتبادله ذلك الحب بالعشق الخالص الذي كان يشعرها بكونها تحبه كحب الأسماك لوجودها في المياة.. حياتها ومكانها الوحيد..
تراه مُتملك، قاسي إلى درجة كبيرة، وجديًا للغاية مع الجميع إلا هي، يكون شخص آخر معها غير ذلك الذي يعرفه الجميع، يكون معها طفل صغير يهوى معرفة المزيد عن العشق والغرام ليرسمه على ورقة من ذهب ويهديها إليها..
في لحظة ما استمعت إلى صوت هاتفها يعلن عن وصول مكالمة وقد كان على الطاولة قبل لحظة خروجها إلى الحديقة، تقدمت إلى الأمام في جلستها ثم أخذته بين يدها لترى اسم صديقتها المقربة يُنير الشاشة، وقفت على قدميها بنعومة ورقة ثم سارت في هدوء إلى الخارج مرة أخرى لتتحدث معها..
استند إلى ظهر الأريكة وفرد ذراعيه وعينيه مُثبته عليها وهي تسير للخارج، كم كان وقح في نظراته لا يعير أي أحد أدنى اهتمام أو حتى احترام، أتى بها من بداية حذائها ذو الكعب العالي الذي كلما خطت خطوة أصدر صوت مرتفع، إلى ساقيها البيضاء المغرية ومن بعدها إلى أعلى جسدها وصولًا إلى خصلات شعرها البُنية المختلطة مع اللون الذهبي...
اختفت عن عينيه البُنية وبقيت ما يقارب العشر دقائق في الخارج ولم يكن يعلم مع من تتحدث، وقف على قدميه بعد أن نظر إلى ساعة يده للمرة الخامسة وذهب خارجًا إليها ليرى مع من تتحدث ولما كل هذا الوقت..
وقف على بوابة الفيلا ليراها تهبط بالهاتف من على أذنها وانحنت برأسها قليلًا للأمام تنظر به، تعطيه ظهرها وتقف أمام شجرة كبيرة من التي في الحديقة..
ذهب بخطوات ثابتة إليها ويده الاثنين في جيوب بنطاله الكلاسيكي الأسود، وقف خلفها وأردف مُتسائلًا بجدية واستفهام:
-كنتي بتكلمي مين؟
استدارت إليه بعد أن استمعت صوته خلفها، وقفت أمامه ثم أجابته على سؤاله الجاد بجدية هي الأخرى وعينيها عليه:
-بكلم إيناس
أخرج يده من جيبه وأشار بحدة وعصبية احتلت كيانه عندما استمع إلى اسم صديقتها التي لا تريد الابتعاد عنها وعقب قائلًا:
-تاني؟ دين أم البت دي تاني؟
أبصرته بقوة مُجيبة بحدة هي الأخرى بعد الاستماع إلى نبرته الحادة الشرسة:
-ممكن تتكلم معايا عدل وبلاش الأسلوب ده
أقترب منها يهتف بنبرة حادة ناظرًا إلى عينيها بثبات وقوة، فقد قال لها كثير من المرات أن تبتعد عن هذه الفتاة ولكنها لا تبالي بحديثه:
-أسلوب ايه اللي بتكلم بيه أنا قولت مليون مرة ابعدي عن البت دي
عاندته مُجيبة بقوة ناظرة إليه بعمق:
-البنت دي صاحبتي من زمان
نفى حديثها بنبرة واثقة مما يقوله وكأنه يعلم شيء عنها هي لا تعلمه:
-مش صاحبتك يا سلمى أنا عارف أنا بقولك ايه
رفعت حاجبها للأعلى ونظرت إليه بحدة أكثر وأردفت قائلة بقوة تثبت إليه حديثها وتؤكد أنه الصحيح:
-لأ صاحبتي يا عامر ونظرية المؤامرة اللي في دماغك دي غلط
أقترب خطوة على حين غرة وهو يصيح بها بصوت حاد عالي ناظرًا إليها بعصبية وعينيه تحولت للسواد الحالك في لحظات:
-لأ مش غلط وهتبعدي عن البت دي غصب عنك طالما الكلام معاكي مش بيجي بفايدة
نظرت إليه بسخرية تلوي شفتيها المكتنزة واضعة يدها الاثنين أمام صدرها قائلة بتساؤل ساخر متهكم:
-والله؟ غصب عني ده اللي هو إزاي هتضربني مثلًا
عاد للخلف خطوة مرة أخرى كما الذي تقدمها في لحظة، نظر إليها بعمق ثم أعترف أخيرًا ولكن بخطئه في أسلوب الحديث:
-تمام تمام أنا غلطان في أسلوبي زي كل مرة افهمي أنتي بقى مرة واحدة في حياتك
كرمشت ملامح وجهها مُتسائلة بقوة:
-أفهم ايه؟ إنك عايزني أبعد عنها بدون وجه حق
عقب على حديثها بجدية محاولًا التوضيح لها ما الذي يدور بخلده:
-لأ مش بدون وجه حق قولتلك إن عمها رفعت الصاوي هو أكبر منافس لينا في السوق
اخفضت يدها من على صدرها وأشارت إليه باستنكار واضح وصريح قائلة:
-وايه يعني هو علشان منافس تبقى هي وحشه وهو وحش
أومأ إليها برأسه بجدية وأكمل حديثه بتأكد:
-آه وحشين... هو منافس آه لكن مش شريف وممكن يقضي على أي حد علشان مصلحته
نظرت للبعيد لحظة وهو عينيه مُثبتة عليها بقوة، ثم عادت إليه مرة أخرى قائلة حديث آخر بمنظور آخر تراه هي صحيح وهو يراه خطأ كبير:
-ماشي ياسيدي هعتبر إن كلامك صح.. أنا أصلّا معرفش أي حاجه عن الشغل يعني أنا مش هفيدها وبقالي كام سنة مش بفيدها ليه لسه صاحبتي
صاح مرة أخرى بصوت عالي وهو يراها تُصر على موقفها ولا تسمتع إلى حديثه، يعلم أنها عنيدة ولكنه عنيد وحاد أكثر منها:
-أنتي مصممة ولا ايه.. أنا عندي نظرة في الستات الكويسه والوحشة وبقولك دي هتخرب الدنيا ولازم تبعدي عنها
تفهمت ما الذي يقوله عندما خص الأمر النساء التي يتحدث عنهن، ولأنه "عامر القصاص" وهي خطيبته وابنة عمه فهمت إلى ماذا يشير فهتفت بحدة وضيق:
-آه قولتلي.. نظرتك بتاعت الستات دي خليها للستات إياهم ماشي؟ لكن أنا وصحابي برا النظرات دي يا عامر علشان إحنا مش شبههم
تهكم عليها بوضوح وتبسم بسخرية مُتسائلًا باستنكار ثم أكمل حديثه هازئا بها:
-إيناس مش شبههم!.. دا أنتي نايمة في العسل خالص
انزعجت من أسلوبه الساخر وحديثه المخفي عن أخلاق صديقتها الذي يشبهها هو بالنساء الذي يعرفهم، لوحت بيدها أمامه بحدة وأردفت بصوت عالي منزعج بشدة:
-بقولك ايه بلا عسل بلا بتاع مالكش دعوة بيها هي صاحبتي وأنا بحبها خلصنا يا عامر وده شيء مايخصكش أصلًا
أمسك يدها التي كانت تلوح بها وأردف بقوة وعصبية موجودة معه في جميع الأوقات حتى اللحظات الرومانسية تكون معه على أتم الاستعداد للخروج فقط أن قيلت كلمة واحدة لا تعجبه:
-اتكلمي كويس بلاش تخليني اتغابى عليكي بأسلوبك الوسـ* ده سامعه
نفضت يدها منه ولكنه ظل متمسك بها، نظرت إليه بقوة وأردفت بضيق وانزعاج من الذي يحدث بينهم، إنه عصبي إلى حد كبير ومتهور أكثر من اللازم ولا يندم على فعل شيء خطأ سريعًا وهي عنيدة ولسانها سليط وهذا يزعجهم أكثر:
-سيب كده هو فيه ايه وبعدين مش كل ما أتكلم قصادك تتعصب إحنا بنقعد خمس دقايق كويسين وطول اليوم خناق
ضغط على يدها وأردف بتأكيد ناظرًا إلى ذلك الزيتون داخل عينيها الجريئة المتحلية بها الآن:
-مهو بسببك
احتدت نبرتها مرة أخرى بعد أن نسب الأمر لها وهو من بدأ به:
-أنت هتستهبل؟
ترك يدها ووضع يده الاثنين بجيوب بنطاله كمل كان، استدار وأعطى لها ظهره ثم مرة أخرى نظر إليها وقال بجدية:
-ماشي.. ماشي أنا اللي غلطان وأسلوبي وحش متزعليش بس خليكي عارفة أنا مش هغير رأي في البت دي ودايمًا هحظرك منها
سألته بوضوح وجدية تقارن بينه وبينها ربما تجعله يصمت عن الحديث عنها بهذا الشكل:
-هو أنا بتكلم على حد من صحابك؟ أنت...
لم يجعلها تكمل ما بدأت الحديث به وصاح بغضب وقسوة قائلًا بعد أن أخرج يده من جيوبه مرة أخرى واهتاج جسده وتشنج:
-وأنتي مالك ومال صحابي أصلًا
يتمتع بغريزة التملك، تعرف ذلك جيدًا ويغار من الملابس الذي ترتديها تعرف ذلك أيضًا ولكن الأمر فوق كل طاقة تتحلى بها، رسمت الهدوء على وجهها وأردفت مُجيبة إياه:
-خلاص يا حبيبي خلاص ممكن نقفل الحوار الأسود ده؟
تنهد بعمق أخذًا نفس عميق وحاول أبعاد الفصل عنه، أقترب منها ووضع يده خلف رأسها جاذبًا إياها إليه يقبل جبينها بحنان وهدوء ثم قال وهو يبعدها عنه ناظرًا إليها:
-مش ببقى عايز ازعلك بس أنتي عنيدة ومستفزة
تحدثت بجدية مقدرة أنه يحاول لأجلها أن يكون أفضل من هذا ويتخلى عن تهوره وحديثه البغيض وكل ما به من عيوب:
-خلاص يا عامر وأنا أوعدك إني لو شوفت منها أي تصرف وحش هبعد عنها
جذبها من خلف رأسها مرة أخرى يقربها من صدره محتضن إياها بهدوء ووضعت هي الأخرى كف يدها على عضلات معدته الظاهرة بوضوح تنعم بذلك الدفء المنبعث منه بعيدًا عن أي شيء آخر، أردف قائلّا:
-ماشي يا سلمى
❈-❈-❈
"في المساء"
وقفت "هدى" أمام المرآة تعدل من هيئتها، كانت ترتدي فستان أسود بحملات رفيعة للغاية ذو فتحة صدر واسعة يصل إلى أسفل قدميها ولكنه ملتصق عليها وبشدة، وكم كان مظهره فاتن للغاية عليها، أطلقت خصلات شعرها السوداء للخف وبعضًا منها على جانب عنقها..
دلف زوجها "ياسين" إلى الغرفة، حيث أنه كان في غرفة الملابس الصغيرة الخاصة بهم يرتدي هو الأخرى حلة رسمية سوداء رائعة، مصفف خصلات شعره الأسود للخلف بعناية، ملامحه حادة واضحة شامخة ونظرته ثابته أمامه، يبدو وسيم للغاية..
وقف خلفها وأردف قائلًا بصوت حاني وهو يبصرها من خلال المرآة:
-ايه الحلاوة دي يا موزة
نظرت إليه عبر المرآة، ورآته كم بدى وسيمًا رائعًا فتحدثت قائلة بابتسامة عريضة وفرحة:
-أنت اللي ايه الحلاوة دي.. هتتخطف مني كده
استنكر حديثها متسائلًا بمزاح ومرح:
-يا شيخه؟
استدارت تنظر إليه مُتحدثة وعينيها السوداء تلمع قائلة:
-آه والله.. أنت مش حاسس بنفسك ولا ايه؟
أقترب يطبع قبلة سريعة على شفتيها يخطفها من رحيق الأزهار ليستمتع بها ثم عاد قائلًا:
-الصراحة لأ مش حاسس
ابتسمت إليه بسعادة كبيرة لم تشعر بها يوما إلا عندما أصبحت زوجته ونصفه الآخر:
-لأ حس بقى
نظر إليها مطولًا وقد كانت نظرة ذات مغزى تعلمه جيدّا، تنهد مرة واحدة وسريعًا بصوت عالي ثم أردف بجدية مقترحًا:
-طب يلا بينا علشان منتأخرش على الحفلة
-يلا
قدم إليها يده فأمسكت به بقوة وحب كبير بينهم، حب خالص لا مثيل له، تعتبره من حب الأساطير على الرغم من بساطته ولكنه يشعرها بأن لا هناك مثلهم في الوجود على الإطلاق ولن يكون هناك فـ القدر يخفي الكثير والكثير وما هي إلا أيام ويحكى كل ما خفى...
❈-❈-❈
قبل منتصف الليل بساعة واحدة كانت "سلمى" تجلس أمام الحاسوب الخاص بها تحاول أن تنتقي كل ما يلزم منزل الزوجية الخاص بها و بـ "عامر" الذي تخلى عنها في هذا الأمر مدعي أنه لا يعرف.. لا لم يكن إدعاء هو حقًا لا يعرف..
ولكن في لحظة صمت وهي مندمجة في النظر إلى الحاسوب أطلق الهاتف أصوات خلف بعضها تعبر عن وصول رسائل عبر تطبيق تواصل "الواتساب" أمسكت به وكانت الراسلة هي "إيناس" صديقتها المقربة الذي يريدها "عامر" أن تبتعد عنها..
فتحت الرسائل التي أرسلتها إليها وكانت عبارة عن مجموعة صور، صور غريبة عليها للغاية!.. ليست غريبة بل مذهلة! عقلها لم يستوعب ما الذي تراه أهو حقًا أم لا.. هل هي تمزح معها؟ ولكنها مزحة بشعة للغاية..
لا هذه ليست مزحة إنها تعلم لقد مرت بهذا الشعور سابقًا ولكنها الآن أشد قسوة وضراوة..
أرسلت إليها كلمة واحدة فقط إلا وهي "موجود" يتبعها علامة استفهام لتتلقى منها الإجابة بسرعة مؤكدة ما تسائلت عنه فطلبت منها شيء أخرى وقامت الأخرى بالإجابة عليها وفي لحظة كانت تقف على قدميها.. أبعدت عنها ذلك التيشرت البيتي سريعًا وخلفه البنطال هو الآخر ودلفت سريعًا تركض إلى غرفة ملابسها ثم لحظات فقط وخرجت مرتدية بنطال أسود يعلوه قميص أسود به رسمه بسيطة من الأمام على صدره وحذاء رياضي أبيض اللون..
أخذت الهاتف الخاص بها ومفاتيح سيارتها ثم ذهبت إلى الخارج لتتأكد مما رأته.. والذي وقع أمامها سابقًا مرتين ولكنها تمثل الشخص الأبلة الذي لا يفقه شيء..
وقفت بسيارتها أمام ملهى ليلي موجودة به صديقتها، دلفت إلى الداخل وعينيها تدور في المكان بحثًا عن أي شيء يدلها عنه... يدلها على "عامر"
وقد كان، نظرت إلى تلك الطاولة الكبيرة وجدته يجلس عليها وبجانبه فتاة!.. فتاة لم تستطع الجلوس على مقعدها فوقفت بين قدميه!..
يضع يده اليمنى أسفل ظهرها والأخرى خلف خصلات شعرها وأيدي الفتاة الاثنين فوق يديه وكأنها تثبتهم، تقف بين قدميه وتبتسم إليه بطريقة لعوب مقززة كان هو معتاد عليها..
انشق قلبها نصفين!.. استمعت إلى صوت انشقاقه، أو كان هذا كسر به!.. للمرة الثالثة بطرق مختلفة تراه يفعل أشياء دنيئة كهذه!.. ولكن لتعترف هذه المرة الأصعب على الإطلاق..
وقفت الدموع في عينيها حائرة، تود الهبوط وهي لا تساعدها.. تود الصراخ ولا تسمح بذلك، مشاعر كثيرة ثائرة بداخلها تود الخروج في وسط هذه الضجة والصخب المحيط بالمكان ولكنها لا تستطيع إلا النظر إليه ورؤيته وهو في هذا الوضع المقزز الوقح..
أقتربت بجمود واضح وكل خطوة تخطوها إليه ثابته قوية، نظرتها عليه حادة واضحة، وقفت أمامه مباشرة، تنظر إليه بعمق ولم تتحدث ولم تبعد هذه الوقحة عنه ولم تثور بل فقط نظرت إليه تنتظر أن يشعر بوجودها..
وقد كان بعد لحظات يشعر أن هناك من يقف جواره فاستدار برأسه ينظر ليراها أمامه!.. أبعد الفتاة عنه بسرعة وبحركة لا إرادية منه، بشكل عفوي للغاية فقط عندما أدرك وجودها.. وقف أمامها وحاول التحدث ولكن لم يستطع قول كلمات مترابطة مفهومة.. لقد كان ثمل!..
ضحكت بطريقة ساخرة للغاية ثم في لحظة خاطفة تخطت كل الحدود الذي عرفتها معه القاسي العنيد ورفعت كف يدها تهبط على وجنته بكل ما بها من قوة، صفعة مدوية هبطت على وجنته جعلته يستدير للناحية الأخرى وقد رآه البعض في هذه الحالة المزرية، تصفعة امرأة!.
❈-❈-❈
"يُتبع"
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الثاني
#ندا_حسن
"قسوة الأيام ومرارة الفراق قادمة"
لم يشتهي القلب سواه، أعوام وأشهر، أيام وليالي داخلها ساعات ودقائق وبين كل هذا لم يكن هناك سواه، قد عشق القلب والتهبت الروح بشدة بعد أن علمت بالخطر المحيط بها لأجل ذلك العشق..
منذ أن كانت طفلة صغيرة تحبه، مراهقة تحبه، شابة تحبه، فتاة راشدة تحبه، وإلى الآن تحبه، كان هناك خطر دائم كمثل أمواج البحر الثائرة، تهبط وتهدأ ثم على حين غرة تأتي إليها من دون ميعاد لتدمر كل ما بنته.. ولم يكن هذا الخطر إلا هو..
كان صبي مشاغب وفتى مرح يحب خوض تجارب كثيرة في الحياة والآن هو رجل ناضج عاقل ومن حين أن أصبح كذلك يفعل كل ما يحلو له، دون أخذ أمر من أحد أو الاستماع إلى نصيحة من أحد، يلهو كثيرًا مع فتيات الملاهي الليلية، يعبث معهم بكل جوارحه، يشرب الخـ ـمر وما حرم عليه..
يفعل كل ما يخطر على البال، وهي تعرف كل ذلك، تعرف أنه قاسي، عنيد وحاد الطباع، عندما يرغب أن يكون محب ومرح يفعلها ويكن لأجل نفسه وللاستمتاع قليلًا، وبقية الوقت يكن الرجل الذي يريد أن يكون عليه وهي تدري.. متملك يغير وبشدة، يغضب ويثور في لحظة..
تعرف أنه لا يستمع لأبيه ولا يستمع لأي أحد من أفراد العائلة، حديثه يأتي من عقله ومهما كان خطأ فلا رجوع عنه..
تعرف إنه لعوب خبيث، ماكر وما بعد المكر شيء أسوأ من هذا، مهلًا هناك الأسوأ عندما يمارسه على من يحب.. كيف يحب؟..
مع كل ذلك أحبته، وظلت تحبه وستحبه إلى الأبد البعيد، قلبها عنيد غبي غريب لا يستجيب إليها، يعلم أنه سيواجه كثير من المتاعب، يمكن أن تكون جسد'ية لأنه في كثير من الأحيان يتطاول، يمكن أن تكون نفسية وهذا أكيد..
قلب غبي لا يستمع لأحد مر عليه سابقًا الخيانة وعاد إليه مرة أخرى غافرًا له ما فعله بعد كثير من الاعتذارات، بعد كثير من الندم والقهر الذي ظهر عليه بسببها..
ولكن الآن هذه الأخيرة، لن يكون هناك مانع أن تحبه إلى الأبد وما بعده ولكن المانع في كونها معه..
وضع كف يده اليسرى على وجنته التي تلقى الصفعة عليها، أغمض عينيه بقوة مُستنكرًا ما فعلته بطريقة حادة وقاسية ضاغطًا على أسنانه بقوة وبعنف شديد..
استدار بوجهه ينظر إليها بعد أن فتح عينيه وظهر من خلفها سماء سوداء حالكة ليس بها أي نجم معتم حتى ينير ولو ضوء بسيط بها، أخفض كف يده من على وجنته ونظر إليها بقوة ومن حولهم ينظرون إليهم..
"عامر القصاص" إنه شخص معروف هنا، المكان ملئ بالموسيقى العالية وأصوات الغناء الصاخبة ولم يرى أحد أو ينتبه لما حدث إلا القريبون منه في الجلسة وللأسف كانوا على معرفة به وبخطيبته..
عينيها لم تهبط من على عينيه، بقيت تنظر إليه بقوة وثبات، يرى الدموع تترقرق خلف الزيتون القابع داخلها ولكنها تحاول الثبات بقوة، يرى العتاب واضح بعينيها وجميع ملامحها تتحدث وهي ترفض الخضوع لكل هذه المشاعر..
وضع يده اليسرى على البار خلفه وأمسك بمفاتيحه، وضعها في جيبه وعينيه مازالت عليها دون حديث، ثم بيده اليمنى أمسك معصمها يعتقد أنه من هنا سيأخذها ويذهب للخارج ثم يعود كل شيء إلى طبيعته بكلمتين وظهور الندم عليه..
لم يحذر أبدًا نفضت يدها منه بعنف وقوة والتقزز مُرتسم على ملامحها ثم دفعته بيدها في بطنه بقوة ليعود للخلف ولكنه لم يفعل بل وقف ثابتًا..
استدارت بهمجية تُسير للخارج وهي تندب حظها وتعنف قلبها الضعيف الذي لا يتعلم من أخطائه أبدًا، خرج ورائها سريعًا يحاول الإمساك بها لكي يتحدث معها ويجعلها لا تقود السيارة وهي بهذه الحالة.. تبدو قوية ولكن هشة.. ضعيفة..
كل هذا كان تحت أنظار صديقتها "إيناس" التي ابتعدت عنهم ووقفت تشاهد بهدوء..
رآها وهي تنطلق بالسيارة ولم يستطع اللحاق بها ولكن سريعًا أحضر سيارته وذهب خلفها بأقصى سرعة، عنيدة وغبية، لسانها سليط وتتطاول بيدها لا يعلم كيف هم الاثنين يحبون بعضهم البعض.. كيف اثنين كالبنزين والنيران يعشقون بعضهم؟..
ولكنها طيبة القلب وهشة من الداخل خائرة القوى، جريئة وعنيدة ولكنها بريئة، تتمتع بمزيج غريب من الصفات التي لا تتطابق مع بعضها ولأنه تعيس الحظ وقع في حبها منذ أن كانت طفلة وكبر على أنها له هو وحده.. ملكه ومملكته.. ولن تكن سوى ذلك..
يحب كل ما بها ولكنه شخص شهواني غريب.. يعترف بذلك، يحبها هي ويهوى الغرام الأبدي معها، يحب أن يراها انثى متكاملة الأركان وهي للأسف تتمتع بهذا في جميع الأوقات.. تُرهقه..
لكنه يعترف أيضًا أنه غبي، لما قد يثمل الآن؟ لما قد يضع هذه الفتاة بين يده بهذه الطريقة الغريبة!.. لأ يتذكر من الأساس متى فعل هذا؟ هو فقط وجدها تقف أمامه وقبلها جذبته إلى ساحة الرقص دون حديث بينهم.. لما قد يفعل ما تريد تلك الغبية وزفافه بعد شهر واحد منها هي..
وقف أمام بوابة الفيلا الداخلية بالسيارة، خلف سيارتها التي هبطت منها للتو، وسارت إلى الداخل بسرعة، كم حادث حاول أن يتفاداه لأجلها، عقله ليس به إنه إلى الآن ثمل.. دلف خلفها ركضًا ليمنعها من الحديث مع أي أحد، يعلم أنها أيضًا غبية ولن تصمت كما المرات السابقة وتجعل الجميع يعلم بأشياء تخصهم وحدهم..
خيبت ظنه وراها تصعد متجهة إلى غرفتها، تنهد بقوة وتقدم إلى المرحاض في الأسفل، دلف إليه ووقف أمام حوض الغسيل يأخذ من صنبور المياة الذي فتحه ويلقي بقوة على وجهه لكي يستفيق أكثر ويستطيع التحدث معها والإجابة عن كل ما ستطرحه عليه والتحدث عما يريد..
أغمض عينيه بقوة شديدة وهو يلقى المياة مرات كثيرة ثم أخيرًا أغلق الصنبور وأمسك بالمنشفة يجفف وجهه..
خرج إلى الصالة الكبيرة ولم يكن هناك أي أصوات في الفيلا.. نظر إلى الأعلى حيث مكان غرفتها، تقدم يسير بثبات ثم صعد على الدرج بخطوات سريعة..
دلف إلى الناحية الخاصة بهم، لقد كان الطابق العلوي منقسم نصفين، كما في الأسفل تمامًا، النصف الأيسر من الفيلا يخص "أحمد القصاص" وزوجته وأولاده به غرفة نوم له، وأخرى إلى ابنته "سلمى" وأخرى كانت تخص "ياسين" قبل الانتقال للأعلى مع زوجته "هدى"، وغرفة بها شاشة تلفاز وصالون والناحية الأخرى مثلها تمامًا، غرفة نوم لـ "رؤوف" وزوجته وأخرى لـ "عامر" وأخرى لشقيقته قبل الانتقال للأعلى مع زوجها وكل غرفة بها حمامها الخاص..
وقف أمام باب غرفتها ثم أمسك المقبض وفتحه، طل من الخارج ينظر إلى الداخل ليراها تجلس على الفراش منحنية على نفسها تضع وجهها بين كفي يدها ولم تكن تتوقع أنه سيصعد إليها هنا في غرفتها..
وقفت سريعًا عندم استمعت إلى صوت الباب، نظرت إليه بقوة صارخة:
-أمشي من هنا
لم يستمع إليها ودلف إلى الغرفة وأغلق الباب خلفه، رآها تتقدم منه بعنف فأغلق الباب بالمفتاح وأخذه في جيبه، استدار ينظر إليها بقوة، بعينين لونهما أسود حالك واستمع إلى صراخها الحاد:
-أطلع بره يا عامر
وقفت أمامه ثابتة ومحت كل ما رآه منذ لحظات، وأصبحت أخرى أمامه، لم ينسى ما الذي فعلته لذا أول ما قاله كان بصوت جاد قوي:
-أنا هفوت القلم اللي أخدته منك بمزاجي
نظرت إليه ساخرة بشدة، لوت شفتيها بتهكم وأردفت مُجيبة إياه وهي ترفع إحدى حاجبيها:
-لأ متفوتوش.. أنا مش عايزاك تفوته وريني هتعمل ايه؟ هتضربني ولا هتردلي القلم؟ ولا يكونش هتعاقبني وتروح تتوسخ مع واحدة من الأوسا* بتوعك
بلل شفتيه بلسانه، أخذ نفسٍ عميق ثم عقب على حديثها بجدية محاولًا السيطرة على الوضع الذي بينهم:
-سلمى إلزمي حدك معايا.. بلاش الأسلوب ده علشان أنتي عارفه أنه بيعك عليكي في الآخر
صاحت بشراسة وعنف مُردفة:
-لأ دا كان زمان.... دلوقتي مافيش الكلام ده ويلا أطلع بره من هنا
أقترب منها بهدوء ناظرًا إليها بقوة وهتف بنبرة مُنزعجة متضايقة بشدة:
-سلمى أنتي فاهمه غلط.. محصلش حاجه لكل ده
صاحت بعنف وشراسة وهي تعود للخلف ملوحة بقوة بيدها مُتهكمة على الحديث الذي يهتف به:
-آه صح محصلش.. ايه يعني لما ألاقيك سكران وإيدك على واحدة وسـ** في وضع وسـ* زيكم
أقترب هو خطوة وكرمش ملامح وجهه محاولًا التعلق بأي شيء ليقنعها أن تنهي ما يحدث:
-اديكي قولتي كنت سكران وبعدين معملتش حاجه لكل ده هي جت جنبي وكل اللي حصل اللي أنتي شوفتيه والله حتى معرفش حصل إزاي
أبصرت عينيه السوداء بفعل غضبه مما يحدث وتسألت بجدية ثم أجابت على نفسها تُهينه:
-بجد؟ أنت كداب
نفى ما قالته عنه وهو يشيح بيده مثلها بقوة:
-لأ مش كداب
ذهبت إلى الفراش ثم أخذت الهاتف من عليه، وقفت لثواني تفتحه وتأتي بتلك الصور التي كانت في رسائل صديقتها "إيناس" والتي كانت عبارة عنه هو ومعه تلك الفتاة في وضعيات صعبة للغاية عليها كـ خطيبته وحبيبته وزوجة المستقبل القريب للغاية..
أقتربت منه ووضعت الهاتف أمام وجهه على إحدى الصور تتحدث بغل وكراهية لا تدري من أين حلت عليها، تزيح غيرها وهي على نفس الحال:
-طب وده ايه؟. مش بترقص معاها هنا؟ إيدك الزبالة فين؟ ودي شايف دي بتعمل ايه؟.. بتقولها كلمة سر في بوقها مش كده
أخفضت الهاتف من أمام وجهه وألقته بعنف على الفراش مرة أخرى، نظرت إليه وتحلت بالقوة دون الضعف، أجبرت نفسها على الصراخ والظهور في وضع قوي ليس ضعيف وأجبرت عينيها على الصمود إلى حين مغادرته:
-أطلع بره أنا مش عايزة أشوف وشك ده تاني
أقترب مُمسكّا ذراعيها الاثنين ضاغطًا عليهما بكفي يده، تحولت ملامح وجهه للين والهدوء راجيًا منها السماح مؤكدًا على حبه لها:
-سلمى أنا بحبك وأنتي عارفه كده ومش بشوف أي واحدة تانية غيرك، أنا كنت سكران وعارف إني غلطت بس أنا معملتش أكتر من كده
أبصرت عينيه بقوة، تود لو تصدقه ولكنها لن تفعلها، يكفي إلى هنا عذاب منه وإليه، يكفي إلى هنا غفران له، عليه أن يتحمل نتيجة ما يفعل ويرى أنها ليست مضمونة القبول دائمًا:
-المطلوب مني ايه؟ أسامحك؟ واستنى المرة الجاية لما تكون نايم في سريري مع واحدة منهم مش كده؟..
ضغط على يدها أكثر وهتف برجاء أكبر لا يراه أحد أبدًا ولم يخرج يومًا لأي أحد سواها، هي فقط من رأت المرح به والصدق والمكر والخبث والضعف، هي من رأت كل الصفات وهو بغبائه يضيعها من بين يده ولكنه صدقًا لم يفعل هذا بإرادة منه:
-سلمى أنا آسف أوعدك مش هتتكر تاني وهبطل شرب خالص
نفضت يدها الاثنين منه بقوة وعنف وعادت للخلف صارخة به مُتهكمة عليه وكل ما يخرج من بين شفتيه يذكرها بما فعله سابقًا وهي غفرته ولكنه لم يتعلم الدرس:
-يا سلام على الصدق والحنية.. نسيت إني سمعت الكلام ده قبل كده؟. أفكرك؟ تمام مرة قبل كده لقيت صور قذرة أقذر ما يكون على موبايلك!.. وياترى المرة التانية كانت ايه! كانت ايه! آه كنت بتكلم واحدة عليا بردو في القذارة مش كده!.. بقينا في تقدم ما شاء الله أهو استمر
مسح على وجهه بكف يده بضيق وضجر شديد نظر إليها ووضع يده اليسرى في جانبه والأخرى يلوح بها بنبرة جادة قوية بعد أن ارهقته في اللين والهدوء:
-الموضوع مش مستاهل كل ده يا سلمى.. غلطه صغيرة محصلش حاجه وأنا أهو بعتذر وبقولك مش هتتكرر تاني ولا أنتي عايزة مشكلة تانية تأجلي بيها الفرح تاني
عقبت بشرود وعينين ذائغه:
-الفرح!.. صح الفرح
أبصرت عينيه مُطولًا ولكن هذه المرة تخلت عن القوة والشجاعة، أبصرته بعتاب وضعف، عيون مُرهقة وشفـ ـتين ترتجف، نظرت إلى بنصر يدها اليمنى والذي به خاتم خطبة من الألماس، جذبته من إصبعها ثم تقدمت ممسكه بكف يده ووضعته به تغلقه عليه وعادت للخلف خطوة وكأن شيء لم يكن..
فتح كف يده ينظر إلى الخاتم به بذهول، ثم رفع عينيه عليها يتسائل بقوة:
-ايه اللي بتعمليه ده
أردفت تُجيبة بنبرة خافتة ووجهها يحمل ألم ومعاناة لن يستطيع أن يفهمها مهما حدث:
-مافيش فرح ومافيش جواز ومافيش أي حاجه تربطني بيك غير إنك ابن عمي يا عامر
أقترب منها على حين غرة يضرب جانب رأسها بأصابع يده بقوة وعصبية بعد أن أغضبته بحديثها الغير مقبول بالمرة:
-أنتي اتجننتي.. لأ فوقي كده وركزي معايا الفرح في معاده يا سلمى والهبل ده تنسيه
دفعته في صدره بعنف شاعرة أنها تود التقيؤ فقط بسبب رؤيته:
-أبعد عني وأطلع بره أنا أصلًا مش طيقاك.. أطلع بره
صرخ بصوتٍ عالٍ وحاد غاضب للغاية، خطأ ويعلم أنه مُخطئ ويعترف بذلك وستكون آخر مرة لما تفعل هذا؟:
-يعني ايه مش طيقاني؟ يعني ايه.. أموتلك نفسي ما قولت غلطة ومش هتتكرر تاني
إنه إنسان مُذهل حقًا كيف له أن يكون هكذا؟ هل يرى أن ما فعله شيء عادي تستطيع أن تنساه هكذا بسهولة! وحتى لو أنه لا يتعلم من خطأه بل هو يحبها ويهوى أن يكون مع غيرها.. إنسان لم ترى مثله أبدًا..:
-أطلع بره يا بجح يا حيوان.. بره
نظر إليها بقسوة شديدة وتقدم منها مُمسكًا بكف يدها الأيمن بقوة يعتصره بين يده واضعًا بإصبعها البنصر خاتمها مرة أخرى، في تلك اللحظات كانت تحاول دفعه بيدها الأخرى بقوة هشة قائلة بعناد:
-بردو مش هتجوزك يا عامر.. ملعون أبو الحب اللي يعمل فيا كده ويخليني مستحملة القرف ده
لم يكن يستمع إليها من الأساس، ترك يدها بعد أن وضع بإصبعها الخاتم ثم أمسك رأسها بيده الاثنين بكامل قوته على حين غرة وفي لحظة خاطفة بينهم لم تكن متوقعة أن يفعل هذا وأقترب منها بشدة واضعًا شفتيه على خاصتها بعنف وقوة كبيرة يثبت لها ولنفسه أنها حبيبته ملك له وحده تحلو له وتكن معه متى ما أراد..
ضربته في ذراعيه بقبضة يدها الاثنين بقوة محاولة دفعه عنها، ولكنه لم يفعل بل استمر في تقبيلها بطريقة مُرهقة للغاية جعلتها خائرة القوى وكان هو معتاد على ذلك ويدرك الأمر جيدًا، يده الاثنين تتمسك برأسها بقوة وعنف وشفتيه لم تترك لها الراحة بل كان هذا بمثابة عذاب..
تركها في لحظة بعد أن شعر أن قبضة يدها تثقل وأنفاسها تنقطع، عادت للخلف تلهث بعنف وقوة مُنحنية على نفسها ووجهها أحمر قاتم بسبب انقطاع الهواء عن رئتيها..
رفعت رأسها وهي تلهث بعنف وأقتربت منه تضربه بقبضة يدها في صدره صارخة بغضب شديد:
-أطلع بـره
هتف هو ببرود مستفز وهو يتوجه للخارج:
-سلمى القصاص مرات عامر القصاص من يوم ما عينه وقعت عليها وطلبتها غير كده أنتي عارفه إنه مش مقبول وأنتي أكتر واحدة عارفه مين هو عامر يا سلمى فمش محتاجة إني أتكلم كتير
صرخت بعنف وبصوت عالي وهي تتقدم منه تضربه بقبضة يدها الاثنين في أي مكان يقابلها بجسده:
-بره يا عامر
أخرج المفتاح من جيبه وفتح الباب تحت ضرباتها على ظهره وذراعيه ثم خرج وتركها، أغلقته هي من خلفه بالمفتاح وجلست على الأرضية خلف الباب تبكي بقهرة، تبكي كما لو أنها لم تبكي من قبل، وتلك الفتاة التي كانت تصرخ عليه منذ لحظات اختفت وأتى أخرى غيرها لأول مرة تحضر الموقف الآن..
لما قد يفعل بها ذلك! لما يخونها! أهي ليست كافية بالنسبة إليه! ولكنها تعلم وتتأكد أنه يحبها إلى أبعد ما يكون، لماذا إذًا! حاولت كثير من المرات أن تبعده عن ذلك المشروب الذي يدمر حياتهم ببطء ويدمر صحته كل يوم أكثر من السابق ولكنها لم تستطع فعلها!..
هل عليها أن تتقبله بكل هذه العيوب أم تحاول تغيره؟. لن تحاول تغير أحد بعد الآن فهي ملت منه ومن أفعاله الدنيئة الحل الوحيد بينهم هو الابتعاد عنه إلى الأبد.. أحيانًا يكون السم في الدواء وعلاقتهم هكذا بالضبط..
بكيت بقلب مفتور وعينين ذائغه، لقد أحبته كثيرًا ولم ترى غيره طوال حياتها، بُنيت أحلامها عليه هو، حبيبها وزوجها والنصف الآخر لها كيف الآن تتخلى بهذه السهولة، كيف تفعل ذلك..
قلبها مفتور، مُنقسم إلى نصفين، مُحطم تمامًا، تخيل الأمر صعب للغاية وهي قد شاهدته ووضعت به، شعورها الآن لا يصف، خيبة كبيرة حلت عليها مزقت ما بداخلها..
عرسهم كان بعد شهر من الآن!.. لقد تم الانتهاء من عش الزوجية في الطابق الأعلى! لم يبقى سوى أن تقوم بفرشه.. كانت ذاهبه لتحضر فستان زفافها!..
كيف له أن يفعل بها ذلك ويسرق فرحتها منها!.. لم يستطع تمضية بعض الوقت كرجل نظيف عاقل يكتفي بامرأة واحدة بحياته!..
مشاعر غريبة تصف بالخيبة والخذلان، الضعف والإنكسار وكل ما كان يعادل هذه الصفات الآن هي تشعر به مع كثير من البكاء الحاد النادم على كل ما مر بها معه..
❈-❈-❈
"اليوم التالي"
الجميع يجلس على سفرة الطعام لتناول وجبة الإفطار، الجميع يتحدث بمرح كالعادة وفي المنتصف حديث عن العمل إلا هما الاثنين، كانت عينيها مُنتفخة يظهر هذا بوضوح، ملامحها مُرهقة للغاية ووجهها شاحب بشدة، يجلس مقابل لها ينظر إليها من الحين إلى الآخر يحاول أن يفهم ما الذي تفكر به..
إنه غبي لقد أخطأ كثيرًا، ليته لم يخضع للمشروب ليلة أمس وليته لم يرى تلك الفتاة، وضع الطعام في فمه ورفع رأسه ينظر إليها بعمق والتفكير داخل رأسه لم يقف إلى الآن..
هذه أول مرة له يفعلها، كيف علمت هي! كيف علمت بمكان وجوده ومن أين أتت بتلك الصور التي جعلته يراها في هاتفها!؟..
هل هناك من رآه وقام بتصويره لها؟ أم أنها لم تثق به من آخر موقف قد حدث وراقبته؟.. لأ لأ الإحتمال الأول هو الأكثر حدوثًا هي تثق به كثيرًا وتعلم أنه يحبها حتى أكثر من نفسه.. صديقتها الخبيثة الحقيرة هي من فعلت ذلك.. لقد ظهر إسمها وهي تجعله ينظر إلى تلك اللقطات
ما حدث كان خطأ عليها أن تغفره يعلم أنه الخطأ الثالث وهذه المشكلة الأكبر والذي تصعب غفرانها ولكن لن ييأس فهي حبيبته وزوجته رغم عن أي أحد حتى هي.. هي ملك له وحده، هي من ممتلكات "عامر القصاص"
استمع إلى صوت عمه "أحمد" يتوجه بحديثه إليها قائلًا بتساؤل:
-مالك يا سلمى مش على بعضك النهاردة وشكلك تعبانه
أبصرت والدها بعمق وتركت ما بيدها، رفعت يدها على سفرة الطعام، والذي نظر إليها وكانت فارغة من خاتم الخطبة الذي ألبسها إياه بالأمس، أردفت بنبرة خافتة:
-أنا عايزة أسافر يا بابا
مضغ والدها الطعام في فمه وأبعد نظره عنها إلى الطاولة قائلًا:
-ماشي يا سلمى منا قولتلك تمام
أغمضت عينيها للحظة ثم فتحتهما قائلة بقوة هذه المرة:
-بس أنا مش هسافر علشان الفستان
نظر إليها مرة أخرى مُتسائلًا باستغراب وعينيه عليها:
-اومال علشان ايه
أجابته بقوة ناظرة إلى الآخر الذي يجلس مقابلًا لها وأردفت بجدية شديدة غير مبالية به:
-أنا عايزة أسافر امريكا عند خالي ومش راجعه
استدعت انتباه الجميع، الجميع نظر إليها باستغراب جلي وقع عليهم بعد الاستماع إلى كلماتها الغير محسوبة بالمرة، ولكنه الوحيد الذي تدارك ما قالته ووقف على قدميه يصيح بقوة وعنفوان وعروقه بارزة في جسده:
-اللي بتقوليه ده مش هيحصل.. على جثتي
وقفت قبالته بعنف وهمجية تصيح بصوت عالي مثله وأكثر وقد كانت مقررة من الأساس أن هذا الذي سيحدث:
-أنت مين أصلًا علشان تتكلم.. أنت آخر واحد ممكن أسمع منه حاجه
بكامل الغضب أجابها وصوته صارخ حاد يشير بيده اليمنى بتأكيد:
-هتسمعي غصب عنك والفرح هيتعمل في معاده يا سلمى ومافيش زفت سفر
كادت أن تُجيب عليه تحت أنظار الجميع ولكن شقيقها وقف على قدميه وتقدم منها سائلًا إياها بجدية واستغراب بعد أن توصل إليه أنها تريد التأخير مرة أخرى:
-أنتي عايزة تأجلي الفرح تاني يا سلمى!.. أظن كفاية كده عامر عنده حق
أجابت على شقيقها بتأكيد مُتهكمة ثم أكملت بجدية شديدة لا تحتمل النقاش:
-عنده حق آه.. طب أسأل اللي عنده حق هو عمل ايه وبعدين تأجيل ايه ده اللي بتتكلم فيه.. الفرح ملغي ومافيش جواز وعلشان تحط سلمى وعامر في جملة واحدة ده مستحيل
لف "عامر" حول السفرة وتقدم ليقف جوارها جاذبًا يدها لتستدر وتنظر إليه ثم صاح بحدة وبوجه ملامحه حادة:
-لمي الليلة دي وأعرفي أنتي بتقولي ايه
نفضت يدها منه بعنف مُجيبة بقوة:
-أنا عارفة كويس أنا بقول ايه الدور والباقي عليك أنت
نظر "أحمد" إلى شقيقه "رؤوف" الذي بادلة نفس النظرات لقد حظره من الموافقة على زواج ابنه من ابنته، كان على دراية بما سيحدث في المستقبل بينهم، كان يعلم أن ابنه ليس جدير بالثقة الذي أعطاه إياها عمه وأعتقد الجميع أنه يقف أمامهم..
وقف "أحمد" بينهم ونظر إلى ابن شقيقه مُتسائلًا بجدية ونبرة ثابتة:
-عملت ايه يا عامر
لم ينظر إلى عمه بل بقيٰ ناظرًا إليها، عينيه السوداء الذي اختفى لونها الحقيقي منذ أمس تقابل عينيها في صراع بينهم:
-معملتش حاجه يا عمي دا سوء تفاهم بيني وبينها بس هي مكبرة الموضوع شوية
صرخت بعنف وهي تدفعه في صدره أمام الجميع بقبضة يدها اليمنى تقول بهمجية:
-سوء تفاهم!.. لما أشوفك في وضع زبالة مع واحدة ده بالنسبة ليك سوء تفاهم؟
صرخ مقابلًا لها فبعد كلماتها الجميع سيظن شيء آخر:
-هو أنتي شوفتيني في السرير اومال لو مكنتش وسط ناس... وبعدين أيوه سوء تفاهم وموضوع تافهه كل اللي حصل إني شربت ورقصت مع واحدة واتسليت شوية فين المشكلة
أردفت شقيقته متخذة دور "سلمى" وهتفت بتقزز واستنكار لتلك السهولة التي يتحدث بها، واضعة نفسها محل شقيقة زوجها متخيلة أن هذا الحديث المستفز لها:
-بجح
تحت أعين الجميع وبعد كلماته الأخيرة نظرت إليه مُطولًا ولم يجرؤ أحد في تلك اللحظات على الحديث، حقًا الوضع سيء بين شخص يرى أنه لم يفعل شيء مشين وآخر تحطم قلبه لأجل خيانة مقررة من الطرف الآخر..
وضعت يدها في جيب بنطالها وأخرجت الخاتم الخاص بخطبتهم ثم وضعته أمام الجميع على سفرة الطعام قائلة بجدية وثبات واضح وصريح بعد الاستماع إلى كلماته والذي بدى منها أنه غير نادم:
-أنا فسخت خطوبتي بيه.. ومش عايزاه.. مش مستعدة أعيش مع واحد نسوانجي
استدارت برأسها إليه مُكملة بقوة:
-تقدر تشوف واحدة تانية غيري تستحمل قرفك ووساختـ* لكن أنا لأ... خلاص خلصت كده وهسافر يا عامر وغصب عنك
خرجت من الغرفة بعد أن نظرت إليه بحدة وقسوة غريبة عنها، لم تنظر إليه هكذا يومًا، لم تقف قبالته هكذا يومًا حتى في المرات السابقة لم تفعلها، ولكنه لن يصمت ولن يجعلها تفعل ما يحلو لها، ستكون زوجته رغمًا عن أنف الجميع وهي أولهم، لن يترك هذا الخطأ الصغير يبعدها عنه بهذه الطريقة الموجعة، لن يجعلها تهدم كل ما بناه في تلك السنوات الماضية.. ولن يترك حبه يذهب هدرًا
خرج من الغرفة هو الآخر بعصبية شديدة ووجه قاسي ملامحه مخيفة، بعد أن أخذ الخاتم من على السفرة مقررًا داخله أن كل شيء سيكون كما هو مهما حدث..
جلس والدها مرة أخرى وعينيه على شقيقه بطريقة غريبة، وكان الآخر يقول له أن هذه البداية فابنه ليس كأي شخص عادي بل إنه عنيد قاسي يستطيع أن يدمر كل من حوله فقط لإسعاد نفسه..
جلس "ياسين" مرة أخرى في مكانه تحت صمت وفراغ مُميت من الجميع.. فقط نظرات تتحدث وتقول كل ما لا تستطيع أن تقوله الألسنة..
❈-❈-❈
دلفت إلى مكتب والدها بهدوء وأغلقت الباب خلفها، سارت إلى الداخل وجلست أمامه على المقعد بصمت وجدية، رفعت عينيها عليه وتحدثت قائلة بصوت جاد:
-أنا عايزة أسافر عند خالي يا بابا
أبصرها للحظات دون حديث يفكر فيما تقول جيدًا، مُحاولًا أن يرى الأمور من كل الاتجاهات، أردف مُشيرًا بيده:
-القرار متاخد في وقت غضب
عقبت بجدية واضحة ليتفهم عقل والدها ما الذي تتحدث عنه وتفكر به، وما الذي ستفعله مهما حدث ولن تعود عنه:
-لو كان قرار السفر غلط فأنا أقدر أرجع في أي وقت أما قرار انفصالي عن عامر فده مستحيل يكون غلط
لأن والدها أول مرة له أن يستمع إلى هذا الحديث تسائل باستغراب:
-وايه اللي خلاه مستحيل يا سلمى
كرمشت ملامح وجهها بطريقة مُرهقة تسرد بوضوح وكأنها تعاتبه وهو يجلس أمامها:
-عمايله!.. من زمان أوي كان لازم أخد القرار ده وأبعد عنه.. علاقتي بيه علاقة سامة يا بابا عامر عايز كل حاجه على مزاجه حتى لو غلط وآخر حاجه كنت أتوقعها منه إنه يقف يبرر اللي عمله بالطريقة دي.. إنه بيتسلى!..
تسائل والدها مرة أخرى ليتأكد من ثبات ابنته بعد اتخاذها تلك القرارات المصيرية بحياتها:
-يعني أنتي مش هتندمي على القرارات دي
أشارت بيدها موضحة بجدية وعقلانية وكأنها كانت تحت تأثير منوم مغناطيسي والآن قد استفاقت منه:
-حتى لو هندم المهم إني حاولت أنقذ نفسي من وجودي معاه.. أنا مش مستعدة أكون مجرد واجهه في حياته.. اشمعنى ياسين محافظ على أخته
أكمل مُجيبًا قائلًا بنبرة جادة هادئة بنفس الوقت لينة على مسامع ابنته:
-إحنا مش بنختار اللي بنحبهم يا سلمى ولا بنختار صفاتهم وعامر كده من زمان وأنتي عارفه
استدارت تنظر إليه واعتدلت بكامل جسدها على المقعد لتواجهه مُتحدثة بقوة تثبت له أنها كانت تود المحاولة ولكنه لم يفلح معها:
-عارفه وحاولت أغيره بس هو متغيرش
لم يبخل عليها بقول الحقيقة الذي يدور حولها من بداية النقاش وهتف بنبرة واثقة:
-بس بتحبيه!..
نظرت إليه بعينين مُتسعة بفعل ذاتها، تحبه!.. كانت تحبه وتحبه وستحبه ولن تحب أحد غيره، يا لك من قلب غبي لقد فهمت الآن كيف القلب معذبه، أجابت بجدية بعد أن جعلت كل خلية بها تصمت سوى عقلها:
-هيفيد بايه الحب لما نتجوز ويخوني يا بابا؟.. هيفيد بايه إنه يقف يبجح فيا ويقولي بتسلى؟ هيفيد بايه لما يرجع سكران قدام ولاده؟
أومأ إليها برأسه وقد فهم أنها قررت والقرار صحيح وليس به أي ثغرة تجعلها تعود عنه، معها كامل الحق في كل كلمة هتفت بها ليس عليها أن تتحمل منه أكثر من هذا، تسائل بهدوء:
-ناوية تقعدي هناك قد ايه
تجهل إجابة هذا السؤال، متى من الممكن أن تعود هل بعد شهر يمر عليها بالاشتياق ومرارة الفراق أم بعد عام استطاعت فيه أن تتخلى عنهم جميعًا:
-مش عارفة يا بابا
شعر أن عليه التحدث بالآسف لأنه وافق على علاقتهم على الرغم من أنها كانت موافقة والجميع كذلك سوى والده:
-أنا آسف
وقفت على قدميها وتقدمت منه، انحنت بجذعها عليه وهو جالس على المقعد ثم قامت باحتضانه بقوة كبيرة تجذب منه الأمان والسند الأكبر، تتمتع بوجودة الذي ستحرم منه مدة لا تعرف كم هي ومن الأفضل ألا تعرف:
-متتأسفش أنا اللي عملت في نفسي كده
❈-❈-❈
جلست على الأرجوحة في حديقة المنزل، لم تجف عينيها ذات اللون الزيتوني عن البكاء، لا تستطيع أن تصف الشعور الذي يراودها، لا تتخيل أن هذا حدث بالفعل..
منذ ليلة أمس وعينيها الواسعة المرسومة بدقة لم تكف عن البكاء الحاد، على شخص أحبته بكل جوارحها، غفرت له كثير من المرات هفوات سابقة له، تحملته في جميع الأوقات بكل تقلباته وفي النهاية تكن هذه المكافأة الخاصة بها!.. يخونها مرة أخرى ويدعي أن الأمر ليس بهذه الصعوبة بل كان يمرح قليلًا وكأنه شيء طبيعي مفروغ منه وهي من افتعلت كل ذلك!..
مشاعر غريبة تعصف بها منذ لحظة دخولها ذلك المكان ورؤيته بهذه الحقارة تجعلها تود البكاء أكثر، في البداية شعرت بخيبة أمل به، خذلان لم تشعر به من قبل، وقد كسر قلبها وحطمه تحطيمًا، وذلك الحزن الذي ينهش كل عضو وخلية بها، حزن وقهر وبكاء ومرارة الفراق تعذبها من الآن.. من قبل أن ترحل وتتركه..
لا تستطيع أن تتخيل أنه من الأساس فعل هذا، تحزن وتعود تقول أن هذا كابوس "عامر" لن يفعلها مهما حدث فهو مُكتفي بها منذ الصغر وإلى الأبد، ولكن في لحظات تستفيق على ضربات موجعة تأكد أنه فعلها وتناسى كل ما بينهم..
لا تدري حقًا أهذا قلب أم شيء آخر؟.. بعد كل ما يفعله تحبه وتهواه، قاسي وحديثه بغيض، متهور وعصبي وأفعاله دنيئة، خائن ومتملك وإلى الآن تحبه، الشيء الوحيد الذي تستطيع أن تفرح لأجله أنها استطاعت أن تأخذ قرار الإبتعاد وحتى لو كانت روحها معلقه به، لن تتكيف مع التعايش بهذه الطريقة، ستتركه وترحل، لن تستطيع أن تمنع قلبها عنه ولكن تستطيع أن تمنع نفسها، ستبتعد وإلى الأبد إلى حين أن ترى غيره أو يرى غيرها!!... يرى غيرها!..
لا لن يفعل هذا، هل حقًا سيرى غيرها!، يحبها ويريدها أن تكون ملك له وزوجته كما هي!.. يغازلها بكلماته وعينيه الوقحة!.. يهوى غيرها ويتركها ويجعل الفراق يدلف بينهم!..
لما قد تفعل هذا يا "عامر" لما تسمح لنفسك بالإبتعاد، لما قد تدمر هذه العلاقة وتجعلنا نشتت بهذه الطريقة!..
وجدت بوابة الفيلا الخارجية تُفتح لمرور سيارة عبرها، وكانت سيارته وجدته ينظر إليها من خلال النافذة فور دخوله ومعرفته أنها هنا..
وقفت على قدميها تسير بخطوات واسعة لتدلف إلى الداخل كي لا تتقابل معه، أوقف السيارة سريعًا عندما أدرك أنها تفعل هذا وتحتمي بمن في الفيلا مبتعدة عنه غير سامحة له بالحديث معها..
خرج من السيارة ركضًا إليها وأمسك معصم يدها عندما أقترب منها جاذبًا إياها إليه:
-سلمى استني
استدارت تنظر إلى سواد الليل داخل عينيه قائلة بانزعاج وضيق:
-نعم؟
بهدوء سيتحدث هذه المرة، لن يخرج عن شعوره مهما قالت ومهما فعلت وسيحاول باللين أن يمرر الأمر ويجعلها تعود عما في رأسها:
-عايز أتكلم معاكي
صاحت بقوة وثبات:
-مافيش كلام بينا
نظر إلى شفتيها المكتنزة التي تحركت بقوة تدلى برفضها له وتحدث هو بلين ونبرة هادئة:
-معلش هما كلمتين
جذبت يدها منه ووقفت أمامه تعطي إليه جانبها ووضعت يدها الاثنين أمام صدرها تنتظر منه الحديث:
-قول يا عامر
كرمش ملامحه وأظهر عليها الضعف الشديد مع القليل من الحزن والندم الكثير ولم نقل أنه كان بارع في التمثيل:
-أنا آسف.. أنا آسف بجد، اللي حصل كله كان غلطه معقول تنهي كل حاجه بينا علشان غلطه يا سلمى، هتسيبيني وتمشي علشان غلطه
استدارت بعنف وأخفضت يدها الاثنين إلى جانبيها تتقدم منه بوجهها بعنفوان صارخة:
-غلطه!.. دي اسمها خيانة
أمسك يدها مرة أخرى ووضح إليها الأمور من منظورة الخاص والذي كان خطأ بالنسبة إليها وقرارها ليس به أي نقاشات ستجرى:
-لأ يا سلمى مش خيانة.. الخيانة دي لما أكون عايز غيرك لكن أنا عايزك أنتي ومافيش واحدة غيرك تهز مني شعره.. اللي حصل إني كنت شارب بس وغلطت لما سمحتلها تقرب وأنا اتماديت
أردفت بقسوة وثبات واضح، وبنظرة حادة قوية:
-سيب ايدي وأبعد عني لأنك مش هتعرف تغير رأي، أنا أخدت قراري وخلصنا ومبقتش عايزاك
سيحاول لآخر مرة أن يكون هادئ ويستمر في ذلك النقاش المرهق إليه وإلى تمثيله الذي لا يحب أن يستمر في فعله:
-لأ عايزاني وأنا وأنتي عارفين كده كويس.. أرجوكي كفاية لو حتى عايزة تأجلي الفرح ماعنديش مانع ولو عملتها تاني موتيني مش بس أبعدي عني
نظرت إلى عينيه بقوة مُثبتة عليهما وحركت شفتيها بحديث حاد قوي مزقه من الداخل إلى أشلاء وعبث برجولته بعد الاستماع إليه من بين شفتيها المكتنزة الخاصة به:
-أنت أخر واحد ممكن أكمل حياتي معاه.. أنا محتاجة واحد يكون مكتفي بيا.. مكتفي بوجود سلمى في حياته والواحد ده مش أنت
نفضت يدها منه بعنف وسارت في طريقها إلى الداخل، أقتربت من درجات سلم البوابة وهي تسير جوار حائط الفيلا وهو وقف ينظر إليها بذهول ويفكر في حديثها القاسي والذي أخرجته بكل برود وعنف..
سار بخطوات واسعة ولم يكونوا إلا ثلاث خطوات ووصل إليها أمسكها من يدها الاثنين دافعًا إياها إلى الحائط فـ اصطدم ظهرها به بقوة وعنـف، نظرت إليه بعد أن تأوهت بألم بفعل ذلك الاصطدام لتراه في حالة القسوة الشديدة والخروج عن السيطرة المعهود منه وصرخ قائلًا في وجهها:
-ومهما حصل مش هتكوني غير ليا... أنتي ليا غصب عن عين أهلك
استفزته بضحكتها الساخرة وسؤالها المُتهكم ببرود واضح وصريح:
-ودي هتعملها إزاي
أبصر وجهها بالكامل وأخذ لحظات يفعل ذلك وهو يسير بعينيه على ملامحها، ثم آخر شيء فعله أنه وقف بعينيه على خاصتها قائلًا بنبرة قاسية حادة متناسيًا كل الود الذي كان بينهم ويده تضغط على يدها بقوة مؤلمة:
-مش هخليكي تنفعي يا سلمى... ووقتها هنشوف مين اللي هيطلب الجواز من التاني
تبادلت معها النظرات، نظراتها نحوه كانت ذهول وصدمة خالصة بينما هو حدة وقسوة لا نهائية..
❈-❈-❈
"يُتبع"
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الثالث
#ندا_حسن
"كان الفراق فراق مسافات، الآن أصبح فراق أرواح"
بقيت بنظراتها المصدومة عليه، عينيها الواسعة اتسعت أكثر برفض تام لما تحدث به، بقيت تنظر إلى عينيه بعمق وذهول غريب، تتسأل في نظرتها كيف استطاع أن يهتف بتلك الكلمات؟ كيف هان على قلبه أن يفكر بتلك الفعلة الدنيئة بها، فقط لكي تكون زوجته ومعه سيفعل أي شيء!.. هي بالأساس كانت معه وهو من أضاعها من بين يده.. هو من خان قلبها وروحها معًا..
من يرى نظرتها إليه الآن يعتقد أنه ضربها بنصل حاد غرز داخل قلبها المفتور ألمًا وحده، يرى كم الخذلان الذي تعرضت له على يده.. يرى كل شيء مؤلم لا يستطيع أحد تحمله أبدًا ولكنها تحملت..
نفضت يدها بقسوة ونظرتها نحوه تحمل اشمئزاز وتقزز لأ نهائي ولكنها تسائلت بعتابٍ واضح:
-قدرت تنطقها!.. قدرت تفكر كده بعقلك؟
أطال النظر عليها، على ملامح وجهها التي تزف الصدمة الكاملة إليه، إنه تحدث بكلمات فقط، ولن يتراجع عنها لأنه ليس مُستعد أبدًا لخسارتها، أجابها بنظرة جادة قاسية:
-آه قدرت وهقدر أعملها وأنتي عارفه كده كويس
حركت عينيها ذات اللون الزيتوني عليه، عقلها لا يستوعب أنه يهتف بنبرة جادة هذا الحديث، كيف لشخص عاشق أن يُخيل له فعل ذلك:
-ده مش حب
نفى ما قالته مؤكدًا بقوة أنه يحبها ساردًا عليها كل ما حدث ربما تكون نسيت ما فعلته وما فعله هو، أترى بعد كل ذلك أنه ليس حب؟:
-لأ حب، حب مُميت كمان.. أنتي عارفه إن في بينا قصة من وإحنا عيال بس إحنا كبرنا خلاص جيت أطلبك للجواز قولتي لأ عندي دراسة وجامعة وعملتي فيها الإنسانة الجامعية وأنتي كنتي فاشلة أصلًا عملت نفسي عبيط وقولت مش مهم محصلش حاجه... خلصتي الجامعة وخلاص الحمدلله نيجي نتجوز بقى لأ نعمل خطوبة على أساس مش عارفين بعض مش كده؟..
لم تخفض بصرها من عليه بل كانت تعمق النظر به وبكل حركة بسيطة تصدر منه، تدور بالكلمات الذي يهتف بها داخل عقلها وحقًا إلى الآن لا تستوعب ما الذي يحدث
أكمل مُشيرًا بيده وعينيه عليها بقوة:
-عامر استحمل الهبل اللي بيحصل وقال ماشي يجي معاد الفرح تقوم الهانم مأجلة الفرح قال ايه بيكلم واحدة عليا.. مستنية مني ايه بعد كل العذاب ده.. إني أقولك ماشي يا حبيبتي مش مهم فركش!.. لأ مش فركش يا سلمى أنتي ليا مهما حصل غصب عن عين الكل
تسائلت بذهول غير مصدقة أنه يرى الأمر هكذا؟ ألا يرى كم المعاناة التي تمر بها معه؟:
-أنت واعي للي بتقوله؟
أومأ إليها برأسه بتأكيد مُكملًا بتوضيح أعمى وكأنه يبرر لنفسه ما فعله:
-آه واعي للي بقوله.. ده طيش شباب استحمليه وبعدين غلطة وأنا اعترفت بيها وقولت مش هتحصل تاني
ضغطت على أسنانها بقوة وهي تعقب على كلماته الغير صائبة، يرى نفسه شاب طائش؟. ولو كان هكذا حقًا أليس هناك إمرأة بحياته وهناك عرس يخطط له:
-ده مش طيش شباب ماشي.. أنت راجل كبير وفاهم وواعي لكل اللي بتعمله متقولش طيش شباب
حاول أن يجاريها في حديثها بنظرة ثاقبة وعينين حادة، حرك شفتيه الرفيعة قائلًا بنبرة مُتهكمة:
-ماشي مش طيش شباب.. غلطة راجل كبير وواعي ايه مافيش حد بيغلط؟..
اختلفت نبرتها عن السابق وأصبحت خافتة مُرهقة لأبعد حد ووجهها يقص مع ملامحها للأعمى أنها اكتفت من ذلك:
-كلنا بنغلط.. بس بنتعلم من الغلط أنت بتكرره ولا كأني موجودة، ليه مش مكتفي بيا يا عامر ليه؟
أقترب خطوة بملامح مرهقة انتقلت له هو الآخر بعد الاستماع إلى نبرتها الخافتة الحزينة وأجاب بعمق وتأكيد:
-وديني مكتفي بيكي بس أنا غبي وبضعف قدام الشرب ومن هنا بتبدأ المشاكل
نظرت للبعيد ثم عادت عينيها إليه مرة أخرى غير قادرة على مجابهته لأنه من الأساس لا يترك لها فرصة يحاول باللين والقوة معًا ولكنها مهما حدث لن تعود عن قرارها:
-بس أنا تعبت ومش مستعدة أكمل كده.. أنا مستحملاك من زمان أوي تملك وغيرة، عصبية بسبب ومن غير سبب قسوة الصبح وبالليل حد تاني، أنا تعبت بجد وطاقتي خلصت
وضع كف يده الأيمن على وجنتها المُكتنزة مُردفًا بهدوء ونبرة رخيمة هادئة لعلها تعود عما في رأسها:
-اوعدك هتغير علشانك.. علشان نبني بيت سوا مش ده كلامك
أمسكت بيده وأبعدتها عن وجنتها مُعقبة بضعف شديد أمام رجل أحبته بكل جوارها ويصعب عليها الفراق هكذا في لحظة خاطفة:
-بس ده مش أول وعد أخده منك ومش بتعمل بيه
مرة أخرى يحاول باللين، ضيق عينيه عليها مُردفًا بتأكيد وتلك النبرة الخافتة مازالت موجودة في النقاش بينهم:
-هحاول صدقيني
يأخذها من القوة إلى الضعف ومن اللين إلى الشدة، يتلاعب بها بقسوة شديدة ويفهم الأمر جيدًا وهي تفهمه أكثر من نفسه، ولن تسمح له أن يفعل بها هكذا، ستكون هي الغصة العالقة بحلقه..
تنهدت بضيق وانزعاج اعتبارًا أنها ستستمع لحديثه وتفكر به جيدًا، لحظة وأخرى خلفها ثم أردفت بنبرة جادة بها القليل من اللين والهدوء:
-طب أنا عايزة أسافر أغير جو وهرجع
تهكم داخله بشدة، المعضلة الأكبر بحياتهم أنهم بتفهمون بعضهم جيدًا أكثر من أي شخص آخر وهو الآن يعلم أنها تقول ذلك الحديث فقط ليسمح لها بالخروج من البلدة ثم من بعدها لن يراها مرة أخرى..
رفض بقوة وتأكيد وأكمل بطريقة أخرى تأخذها ناحية السعادة ربما يغريها ما يتحدث به:
-مافيش سفر يا سلمى لو عايزة تغيري جو بصحيح كلها شهر وهاخدك وهنسافر وهيبقى أحلى جو وحاجه متتخيليهاش
تفهمت حديثه الخبيث ونظرته الوقحة الماكرة، تعلم ما الذي يفكر به وما الذي يريده منها أكثر شيء ولم يخجل في أي لحظة ولا حتى الآن بل يقول ما يريد دون حتى التفكير:
-الحاجه دي تخصك أنت وتغير جو ليك مش ليا
أخذ نفسٍ عميق وأخرجه من فمه بوجهها متسائلًا بحدة:
-قصدك ايه
حركت عينيها عليه وأردفت مُجيبة إياه بقوة وحدة مثله بما أن الأمر لا ينجح عندما يمثلون الهدوء على بعضهم:
-اللي فهمته.. وعن اذنك بقى
استدارت ترحل وتتركه ولكنه أمسك بيدها مرة أخرى فنظرت إليه ثانيةً بقوة كبيرة منتظرة منه أي ردة فعل بعد تلك القبضة، ومن هنا هو تحدث بقوة وضراوة بعينين سوداء لامعة قاسية لأبعد حد:
-أنا قولتلك اللي عندي يا سلمى وأنتي فهمتيه كويس أوي.. بلاش شغل العِند ولعب العيال بتاعك ده علشان هيعك عليكي في الآخر ومحدش هيخسر غيرك
بادلته النظرات الحادة المُنبعثة من عيناه ولكنها وللحق الكبير والبالغ.. خائفة، خائفة للغاية مما يقول ويفعل وللأسف الشديد هي تعرفه جيدًا وتعرف ما الذي يستطع فعله دون أن يرف له جفن..
ترك يدها بهدوء وتحرك بعنجهية وثبات عائدًا لسيارته التي ترك بابها مفتوح وخرج منها على عجلة من أمره، بقيت عينيها عليه تنظر بقوة ووضوح عليه مذهولة من كل ما يحدث حولها ومنه هو بالأخص..
رأته وهو داخل السيارة يعبث بأشياء بالداخل ثم خرج منها وأغلق الباب بقوة، رفع عينيه عليها ليراها كما هي تقف في مكانها وعينيها لا تتركه..
ربما صدمت مما تحدث به.. تعرف أنه قاسي عنيد متملك لن يترك حقه بها بهذه السهولة ولكن أيضًا ليس بهذه القوة والضراوة... ليس بهذه القسوة والأفعال الدنيئة..
مر من جوارها ودلف إلى داخل الفيلا دون أن يتحرك عضو بداخله لأي مشاعر أخرى سوى التملك والقوة، الحب في جانب وحده وقد أغلق عليه لأنه موجود في كل الحالات..
عادت هي مرة أخرى إلى مكانها تجر خيباتها خلفها، لم تكن تتوقع بيوم من الأيام أن من احتمت به من الجميع في الخارج والداخل سيمارس قوته عليها..
سيمارس القسوة عليها!. حبيبته من أخذها في أحضانه في كثير من الأوقات مُبتعدًا بها عن البشر!..
تعود إليه؟ وتتناسى كل ما فعله ويفعله وسيفعله، تتناسى أنه خانها لثلاث مرات؟. أم تتناسى قسوته معها وحديثه البغيض الحاد؟ والأهم من كل هذا تتناسى أنه رجل شهواني للغاية!..
أم تصمم على موقفها الرافض له وتبتعد عن هنا قاتلة قلبها المُحب له مرحبة بحياة ليس بها سوى أفكار العقل وقراراته!..
❈-❈-❈
"بعد منتصف الليل"
خرجت من المرحاض بعد أن استحمت مُرتدية منامة بيتية مكونة من بنطال رصاصي اللون وقميص بنصف كم لونه أبيض مخطط بنفس لون البنطال، خصلاتها متناثرة على جانبي وجهها وجبينها من الأمام تغطيه خصلات قصيرة، ظهرت قصيرة أكثر مما هي عليه مختلطة الألوان الرائعة كالأسود والبُني..
ألقت المنشفة على مقعد المرآة وتقدمت تأخذ مرطب الشفاه تضع منه بدلال على شفتيها المُكتنزة، ضمتهم على بعضهم رافعة حاجبيها الاثنين أمام المرآة بطريقة مضحكة..
تركته على المرآة وكادت أن تأخذ مرطب البشرة ولكنها وجدت باب الغرفة يفتح دون إذن الطارق بالدخول، استدارت تنظر على الباب لتراه هو يبتسم بخبث ووقاحة ناظرًا إليها بعمق..
دلف "عامر" إليها بخطوة واحدة وأغلق الباب من خلفه يتقدم منها بطريقة غريبة، ينظر بثبات وعينيه بُنية لامعة بمظهر رائع خلاب يخطف أنفاسها المسلوبة منها من الأساس..
وقف أمامها مباشرة ولم يفصل بينهم شيء، وضع يده الاثنين على خصرها بطريقة وقحة قائلًا بحنين وشغف:
-وحشتيني
عقبت على كلمة الغزل بحدة دامجة بها الدلال والرقة الحانية كالمُعتاد منها:
-بذمة أهلك في حد يدخل كده؟.. أفرض بعمل حاجه خاصة.. الله
ابتسم بخبثٍ وعبث معها غامزًا بعينيه الوقحة الجريئة والتي اعتادت هي عليها:
-ده المطلوب وحياتك
وضعت يدها الاثنين على يده التي تجذب خصرها تقربها إليه أكثر مما هي عليه، ابتسمت بخبثٍ هي الأخرى وحاولت دفعة قائلة:
-طب اوعى كده وأمشي يلا لو حد شافك هنا هتبقى مشكلة
أردف بقوة وثقة وكأن حديثه جاد بالفعل ليس مجرد مزح رافعًا رأسه:
-محدش ليه عندي حاجه مش مراتي
ضحكت بصوتٍ عالٍ بعد رؤيته وهو يردف بتلك الكلمات الواثقة، مع أنه وقح للغاية:
-لا والله وده حصل امتى وإزاي؟
نظر إلى وجهها بالكامل مُمرًا عينيه عليه بقوة يحفره داخل عقله وقد أغرته ضحكتها الجريئة الصاخبة وبقوة، أقترب أكثر ضاغطًا على خصرها بيده القوية يهتف بنبرة خافتة:
-سيبك من امتى وإزاي المهم دلوقتي إن أنتي وحشاني جامد أوي
جذبت يده بقوة وأبعدته عنها ثم سارت مُبتعدة ووقفت أمام الفراش قائلة بدلال وهي تعطيه ظهرها:
-أنت بقى موحشتنيش
استدار معها بكامل جسده ينظر عليها من الخلف من الأسفل إلى الأعلى بعينين جائعة وتتوق لأي فعله تصدر منها:
-يا بت؟
استدارت تنظر إليه نظرة دلال ورقة بالغة وهناك كم من الحب المكون داخل عينيها لا نهاية له:
-آه.. وبعدين أنا أصلًا زعلانة منك جدًا.. مش كان المفروض نتعشى بره النهاردة ايه نسيت؟.. لأ وكمان من امبارح بره البيت ولا كلمتني ثانية حتى
تذكر يوم أمس الشاق، واليوم أيضًا كان كذلك، منذ صباح الأمس وهو في الخارج ولم يعد إلا في هذه اللحظات، عقب على حديثها يسرد ما الذي حدث حتى تغفر له نسيانه لموعدهم الغرامي:
-طب بذمة أهلك أنتي أنا كنت فاضي وقولت لأ؟ تقدري تسألي أخوكي هو عارف أنا كنت بعمل ايه وكان المفروض يبقى معايا بره من امبارح بس أنا بعته علشان هو واحد متجوز لكن أنا واحد غلبان حبيبتي مش عايزة تحن عليا
تسائلت بحنان أم قلبها يرق ناحية طفلها الذي اعتبرته بالفعل جائع منذ أمس بسبب عمله:
-اتعشيت طيب؟
في لحظة خاطفة بعد استماعه لسؤالها الحاني ورؤيته لذلك الحب داخل عينيها الساحرة أقترب منها بخطوة واحدة يقف أمامها كما كان منذ لحظة ويده الاثنين خلف خصرها يهتف بنبرة خبيثة:
-لأ أنا مش جعان أكل أنا جعان نوم.. نـــوم واخده بالك؟
حرك أنفه فوق أنفها بحدة مقتربًا منها أكثر فدفعته بقوة كبيرة في صدره ليعود للخلف وجلست هي على الفراش:
-أبعد كده يا مجنون ويلا بره كده عيب
ضغط على شفتيه بأسنانه بقوة ناظرًا بعمق إلى شفتيها المُكتنزة المغرية للغاية والشهية بالنسبة إلى رجل عاشق مثله:
-أنتي خليتي فيها عيب.. دا في نار قايده جوايا وحياتك
وقفت على قدميها بسرعة تدفعه في صدره مرة أخرى لكي يذهب إلى الخارج ويتركها فحديثه ونظراته خبيثة للغاية:
-طب ياعم الوالع يلا بره بقى
سار معها بخفه وهي تدفعه ولكنه أكمل في مشاكستها بمرح ومزاح لا يُجيد فعله إلا معها:
-هقولك طيب استني
تصنعت الضيق ومن داخلها تود الابتسام والضحك واستمرت في دفعة بخفة للخارج:
-مش عايزاك تقول يلا بره
أردف بصوتٍ خافت متصنع الحزن لأجل ما تفعله وهو الذي ترك كل شيء فقط لأجل رؤية عيناها والتمتع بالنظر إليها:
-بقى كده.. يعنى أنا جاي من بره عليكي وسايب كل اللي ورايا علشانك وفي الآخر تطرديني؟
أومأت إليه بتأكيد وبقوة:
-آه يلا بقى
وقف أمام باب الغرفة وتحدث بحرارة تحرق داخلة بقوة وضراوة:
-ماشي يا بطل بس خليكي فاكرة بقى اللي بتعمليه
فتحت الباب بيدها ودفعته للخارج بالأخرى مُبتسمة بقوة لأجل أفعاله الصبيانية:
-فاكرة يلا أمشي
أعاق غلق الباب برأسه حيث أنه كان في الخارج بجسده وأدخل رأسه إليها يهتف بمرح وعينيه على شفتـ ـيها:
-بوسة طيب!
وجدها صامتة تنظر إليه وصمتها يعبر عن أنها حقًا بدأت في الضجر وبقوة، ابتسم أكثر وأغاظها قائلًا بنظرة من عينيه البُنية البريئة:
-طب حضن بريء
دفعته بقوة للخارج صارخة به بعنف ثم دفعت الباب في وجهه مرة واحدة دون سابق إنذار:
-بره يا عامر
وقفت خلف الباب من بعد غلقه تضحك بصوت عالي صاخب وسعادة كبيرة تجعلها كوردة مُتفتحة في حقل بساتين ليس به إلا الزهور السعيدة، وهي كانت من ضمنهم بفعل حبيب عمرها..
استمع إلى صوت ضحكاتها الصاخب قبل رحيله فاقترب من باب الغرفة مرة أخرى متيقن من أنها تجلس خلف الباب وصاح قائلًا بنبرة لعوب:
-بطل بطل يعني مش أي كلام
ارتسمت الابتسامه الواسعة على ثغرها الوردي، وضعت كف يدها على شفتيها وهي تبتسم بمرح، يا الله كم تحبه!.. قلبها يدق بعنف عند النظر إليه، عينيها تشتاق إلى رؤيته وتلمع عند النظر إلى هيئته الرجولية..
تتوق شفتيها للرد على حديث يصدر منه وتمتع أذنها بالاستماع إلى صوته، كثير من المشاعر والأشياء الصاخبة التي تمر بها في وجوده وكأنه حقيقة سعيدة لا تود زوالها أبدًا..
استفاقت من تلك اللحظات السعيدة جالسة على الفراش بعد أن كانت عينيها غفت، جلست تنظر حولها في الغرفة المظلمة ليس بها إلا ضوء خفيف للغاية مريح للنوم..
ما الذي حدث! كانت نائمة أو كانت تود النوم فجلست على الفراش تتمدد عليه لتخلد للنوم ولكن رأسها وعقلها أخذ يذكرها بكل ما بينهم ويبدو أنها غفت وهي تتذكر تلك الأشياء الماضية!..
لم يكن هذا إلا موقف جمعهم من بين ألاف المواقف الجميلة الرائعة، التي تستخدم الآن كذكريات فقط!..
الآن لو دلف إلى غرفتها لن تكون سعيدة بذلك القدر التي كانت به، لن تشعر بالأمان من الأساس بعد تهديده الواضح والصريح لها..
الآن وغد وبعد غد لن تشعر بالأمان بوجوده معها مهما حدث بينهم، سيكون ذلك من المستحيلات أن تترك له نفسها دون خوف كما السابق سيكون من أصعب ما يكون..
في السابق كان يدلف إلى غرفتها في أي وقت وتذهب معه إلى أي مكان دون خوف، الآن الرهبة تعبث بقلبها بسبب وجوده وتشعر أن نهايتها ستكون على يده إن بقيت على وضعها وذلك القرار الذي اتخذته.. الشعور بالأمان في منزلها أصبح صعب للغاية..
وقفت على قدميها وتقدمت من باب الغرفة ثم أغلقته بالمفتاح من الداخل لتحاول كسب القليل من الراحة في تلك الفترة المرهقة..
عادت مرة أخرى إلى الفراش تجلس عليه بعد أن ذهب النوم بعيد عنها تفكر بأفعاله وحديثه الواثق وكأنه لم يفعل شيء.. هل لأنها صمتت في المرات السابقة وجعلت الأمر يمر أعتاد على ذلك وأعتقد أنها لن تتحدث مهما فعل وستكون موجودة معه..
أعتقد أن حبها له سيجعلها تدوم دون رحيل ولكنها لن تجعل الحب يؤثر عليها بهذه الطريقة مهما كانت مكانته بحياتها، ستحاول الآن أن تحافظ على كرامتها وتعز نفسها أمامه أكثر من ذلك ليتفهم جيدًا أنها إمرأة تستطيع أن تكفي رجل وأن يكتفي بها..
الخطأ منه والخيانة من قِبله وقلبها خائن أكثر منه مهما فعل يريد القرب والرحيل بالنسبة إليه موت
❈-❈-❈
جلست صديقتها "إيناس" جوارها على الفراش تحاول أن تواسيها بكلمات لينة تجعلها تخفف من ضراوة الحزن التي قبعت داخلها منذ أن علمت بما فعله "عامر":
-خلاص يا سلمى يا حبيبتي متعمليش في نفسك كده
رفعت رأسها إليها تنظر بعمق والدموع تسير على وجنتيها المُكتنزة في خطوط ثابتة تردف بحرقة:
-معملش ايه في نفسي؟.. معملش ايه هو اللي أنا فيه ده سهل.. ده عامر
أبعدت "إيناس" بصرها عنها وجعلته إلى الأمام وقالت بقوة وجدية:
-بصراحة بقى أنتي اللي غلطانه.. أنا كتير حذرتك منه وقولتلك خدي بالك عامر مش سهل وبتاع ستات وأنتي عارفه كده كويس
شعرت بأنها تنظر إليها بغرابة وعينيها مثبتة عليها ففعلت المثل واستدارات برأسها وجسدها إليها قائلة بقوة مؤكدة حديثها:
-آه يا سلمي ياما قولتلك عامر مش ليكي
وضعت وجهها بين كفيها الاثنين وأخذت في البكاء بقوة وبصوتٍ عالٍ، قلبها يحترق والنيران لأ تنطفئ بداخله، منذ تلك اللحظة وهي مشتعلة وتعذبها أشد عذاب وهي الآن تزيد البنزين عليها بقولها أنه ليس لها..
لم تعد تستطيع أن تتحمل المكوث هنا في هذا المنزل، لأ تطيق النظر إلى وجهه ولا حتى تذكره، لقد جعلها تخجل من نفسها أمام الجميع وأمام نفسها قبلهم.. لما قد تفعل هذا؟.. لما تحكم على الغرام الذي بينكم بالموت!..
أقتربت منها الأخرى أكثر ووضعت يدها الاثنين على أكتافها تحتضنها قائلة بصوت ناعم يبدو متأثر:
-اهدي يا سلمى متعمليش في نفسك كده
بعد لحظات من المواساة والكلمات الحنونة رفعت رأسها ومسحت على وجهها بقوة تزيل دمعاتها من عليه ثم هتفت بجدية:
-أنا هسافر يا إيناس.. هسافر ومش راجعة دلوقتي أبدًا
يالا الفرحة التي شعرت بها، كل ذلك البكاء التي استمعت إليه وهذه الشفقة التي كانت توزعها عليها لم تجعل قلبها يدق هكذا.. لم يجعل أي شيء قلبها يدق بهذه الطريقة العنيفة الفرحة للغاية بما استمعت إليه ولكنها تحكمت بنفسها قائلة بحزن:
-للأسف ده الحل الوحيد يا سلمى علشان تنسي
أومأت إليها "سلمى" البريئة معها للغاية.. والتي جعلتها الأقرب إليها على الرغم من كلمات "عامر" الدائمة لها عن كونها ليس فتاة صالحة لتكون صديقتها.. والأخرى قد دقت طبول السعادة والفرح داخلها..
الانتقام منه ليس شيء سهل أبدًا، لقد جعلها تشعر بخذلان لا مثيل له، جعلها تبكي ليالي بقهر وحرقة وضياع نفس.. جعلها تتعايش مع مرارة الأيام وحدها بعد الذي فعله معها منذ سنوات..
لقد دمر كل ما كان بها، جعلها أخرى أصبحت لا تعرف نفسها.. وكان عليها الانتقام منه.. الانتقام الشديد الذي استغرقت كثيرًا وصبرت أكثر لكي تقوم به على أكمل وجه ولتكون الضربة القاضية له.. ولم تكن إلا عن طريق روحه "سلمى" وصديقتها الزائفة..
تعلم أنه يفرط من شرب الكحول، ولحسن حظها رأته في ذلك المكان التي لا تحب الذهاب إليه "سلمى"، ورأته في حالة ثمالة لن تتكرر لأنه لا يمثل أكثر من هذا.. ولحسن حظها مرة أخرى كان هذا الوقت المناسب بالتحديد...
جعلت الفتاة تقترب منه للغاية وهي تأخذ اللقطات المناسبة، لم يمنعها عن الإقتراب ولكنه أيضًا لم يقترب.. وفعلت ما كانت تريد فعله.. إنه برئ ولم يفعل شيء.. لم يخونها، ولم يقبل الفتاة.. لم يحتضنها ولم يفعل أي شيء حتى اللمسة لم يفعلها بإرادته هي من كانت تحركه وتفعل ما يحلو لها لتأخذ الأخرى ما تريد وهو الأحمق لا يدري بكل هذا وأصبح أمام نفسه قبل الجميع جاني وقد خانها حقًا ويلوم نفسه لأنه أقترب منها..
نظرت إلى "سلمى" بعينين ثاقبة ونظرة حادة حاقدة، عليها أن تقاسمه العذاب، هي الأخرى مثله عليها أن تنال جزء من الانتقام..
❈-❈-❈
"بعد مرور يومين"
يومين!. كمثل عامين مضوا عليهم في بعد تام..
الإبتعاد عن من تحب وهو أمامك يمثل إليك الموت البطيء، تعرف أنه موت حتمي ولكنه بطيء
منذ آخر مشادة حدثت بينهم جعلته يهتف بحديث بغيض على قلب كل من يسمعه، وعليها هي بالاحتراق، ابتعدت عنه تمامًا تاركه له كامل الحرية في النظر إليها من بعيد كما ستفعل في الأيام القادمة..
تحاول أن تهيأ له ما سيحدث عن قريب، ستكون مُبتعدة عنه كامل الإبتعاد..
بعد أن نامت في منزلها خائفة والذي من المفترض أن يكون هو المكان الوحيد الذي تشعر فيه بالأمان، قررت أنها لن تبقى هنا لمدة طويلة وعلمت أن القرار الصائب حقًا هو الإبتعاد..
إن بقيت واستمعت إلى حديثه ستكون مضطرة إلى الزواج منه رغمًا عنها وهذا لن يحدث، ستدعس قلبها أسفل قدمها بكل قوة لديها حتى يصمت عن الصراخ داخل قفصها الصدري مطالبًا بالعودة إليه..
مضوا اليومين عليها وهي تأخذ جانب وحدها بعيدة عن الجميع وعنه هو بالأخص، تراه يدلف عائدًا من عمله من نافذة غرفتها وهو يراها تنظر إليه يحاول الصعود إليها ليتحدث معها يجد أنها تغلق الباب من الداخل.. يحاول إرسال الرسائل إليها تقرأها ولا تُجيب عليه فلم يفهم ما الذي تفكر به..
عيناها تطالب بالقرب منه وقلبها يطالب بعناق أبدي من قلبه، تشعر بفراغ مُميت وقع في حياتها منذ أن نشب ذلك الشجار المشؤوم بينهم، تبكي كل ليلة بضعف وقلة حيلة لأجل ابتعادها عنه وترك حياتها التي اعتادت عليها لأربعة وعشرون عام..
أن تترك حب عمرها والرجل الوحيد الذي وقعت عينيها عليه منذ الصغر إلى الكبر، تدريجيًا عام بعد عام تكبر وهو يكبر أمامها وبينهم ذلك العشق الأبدي..
تظهر القوة وداخلها هشة ضعيفة من مجرد هواء مار أمامها تميل معه وتترك له حرية اختيار طريقها..
كان يراها هو في الصباح تهبط إلى الأسفل بعد أن يتناول فطوره مع الجميع.. يحاول معها ولكنها ترفض، أبعدته عنها بطريقة بشعة جعلته يفتقد حتى النظر إلى زيتون عينيها، جعلته يفتقد النظر إلى خصلاتها الغريبة ووجها الممتلئ..
جعلت قلبه يشتاق لكل همسة تصدر منها بعد أن كان كل ما بها له ويتمتع به في أي وقت وأي لحظة تخطر على فكره..
جعلته يشتاق إلى لمسة واحدة منها تؤكد له أنها مازالت هنا حبيبته وملكه الوحيد الذي خرج به من حرب كانت خاسرة لا محالة وبها أصبح القائد المشهور بالفوز العظيم..
كم يحبها وكم يشتاق إليها وإلى حديثها، متملك ومغرور، عنيف وقاسي ومتهور وبه كل الصفات الكريهة ولكن هناك صفة واحدة يهوى بها الغفران إلا وهي أنه يحبها إلى الممات..
الجميع بعد الذي حدث باغض الحديث معه حتى عمه الذي كان يأخذ دور والده في حياته، لم يكن هناك أحد يشجعه على فعل شيء سوى عمه وهو من وافق على زواجه من ابنته قبل أي أحد..
على عكس والده الذي رآه أصبح مُتهور بما يكفي وحاول معه أن يعود عما يفعل ولكنه لم يعود فابتعد والده وأصبح يعلم نتائج كل ما يفعله ابنه..
أصبح قاسي بالنسبة إليهم أكثر من السابق، أصبح شخص آخر غير الذي يعرفونه..
دلف من بوابة الفيلا في منتصف اليوم على غير العادة، نظر أمامه ليجد مشهد غريب على عينيه، الجميع في ردهة المنزل، هناك حقائب سفر موضوعة في الطريق، ابنة عمه في أحضان والده تبكي! والحزن مُرتسم على ملامحهم جميعًا..
ستذهب!.. أيعقل ذلك؟
نظروا إليه عند لحظة دخوله، وهي من بينهم، ولم ينظر بعيناه على أي شخص سواها، نظرة خائبة حزينة لكن لن تدوم كثيرًا..
أقترب بهدوء وبخطوات محسوبة، عينيه عليها بقوة، قلبه يدق بعنف داخل قفصه خوفًا مما قد يحدث في ذلك الموقف:
-أنتي ماشية
كانت تبكي وازداد البكاء أكثر برؤيته وسؤاله الذي خرج من بين شفتيه بحزن وضعف ظهر لها وحدها من بين الجميع.. لم تُجيب ولن تُجيب.. الآن تندب حظها الذي اوقعها به وحظها الذي جعله يخونها بتلك السهولة..
أردف بقسوة وتحولت عيناه إلى سواد قاتم معتم إلى أبعد درجة ممكنة:
-مش هتمشي يا سلمى
عاندته مُجيبة بحدة وهي تمسح تلك الدموع المتناثرة على وجنتيها المُكتنزة:
-همشي يا عامر
أقترب منها في خطوة وحيدة واسعة على حين غرة مُمسكًا بذراعيها الاثنين بكفي يده بحدة وقسوة عنيفة صارخًا أمام وجهها:
-مش هيحصل.. على جثتي سامعه ولا لأ
تقدم شقيقها "ياسين" سريعًا منهما وجذبه من ذراعيه الاثنين الذي يُمسك بها دافعًا إياه بعيدًا عنها يهتف بنبرة حادة:
-أنت اتجننت ولا ايه سيبها.. هي قالت مش عايزاك يا عامر خلصنا بلاش نعمل مشاكل وتخرب البيت ده
أبصره بقوة ونفيٰ رافضًا ما قاله مهما كانت نسبة حدوثه عالية، فالأمر الوحيد الهام في تلك اللحظة، أنها سترحل وتتركه وحده!:
-البيت ده هيتخرب لو مشيت وده مش هيحصل.. وبعدين ايه مش عايزاك دي؟ عدا عليها أربعة وعشرين سنة وهي معايا جاية دلوقتي تقول مش عايزاني
هذه المرة استمع إلى صوت شقيقته "هدى" تعنفه بضراوة لأنها قد وضعت نفسها في موضع ابنة عمها ووجدت أن ما حدث لا تتحمله إمرأة:
-وهو اللي أنت عملته شوية.. مافيش واحدة ممكن تستحملك كده يا عامر حاول تفوق لنفسك
اخرسها بصوته الحاد الصارخ في وسط المنزل وعروقه أصبحت بارزة وجسده بالكامل متشنج:
-مالكيش دعوة أنتي
أقتربت منه "سلمى" ناظرة إليه بعينين ضائعة في وسط كل هذا الحديث، مُحبة إلى وجودها معه، تريد البقاء والتمتع بقربه وأحضانه:
-عندها حق أنت مافيش واحدة تستحملك ومش هتلاقي واحدة بعدي يا عامر.. كان قدامك فرص كتير تتغير وأنا معاك لكن ده محصلش بالعكس بتزيد في الغلط وأنا تعبت
ضيق ما بين حاجبيه وعينيه عليها بدقة عالية مُتحدثًا بكلمات تجعلها تبقى لأجله:
-قولتلك خلاص مش هيحصل تاني.. خلاص أنا آسف أموت نفسي.. عايزاني أموت نفسي يا سلمى؟
الموت! هل وصلت معه إلى هنا؟ إلى الموت؟. لم تكن تريد هذا ولن تريده مهما حدث مجرد الاستماع إلى كلمة منه كهذه جعلت قلبها ينتفض داخل أضلعها:
-لأ متموتش نفسك سيبني أمشي
أطال النظر على وجهها دون حديث والجميع بهذه الفيلا يستمع لما يدور بينهم ثم في غفلة منهم شعر أنه يريد أن يسألها:
-أنتي بتحبيني؟
خرجت الدموع من عينيها مرة أخرى، ارتعشت شفتيها الوردية أمام عيناه، وبقى ينظر إليها مُنتظر منها إجابة على سؤاله البسيط ولكنها لم تُجيب:
-جاوبي.. بتحبيني ولا لأ؟
تنهدت بعمق من بين بكائها المُمزق قلبه إلى أشلاء وجعل روحه فانية، واستمع إلى صوتها الرقيق الخافت الخالي من كل شيء سوى حبه:
-بحبك
أقترب أكثر وأمسك بكف يدها بين يده الاثنين مُتناسيًا كل من يقف هنا، لا يهمه أي أحد من بينهم، هي الوحيدة المهمة له:
-اومال ايه يا سلمى... ايه؟ أرجوكي كفاية كده وعد مني هعمل كل اللي أنتي عايزاه
أردفت ببكاء أشتد عليها وضعف انتاب قلبها، كلمة واحدة أخرى من شفتيه ستكون بين أحضانه وتطالب بالزواج الفوري منه:
-أنا أخدت وعود كتير وعلى فكرة بقى الحب مش كل حاجه.. الحب ولا حاجه جنب حاجات تانية
ضغط على يدها من دون أن يلاحظ أحد ذلك ووقف أمامها شامخًا بعد أن نفذ منه كل الحديث الذي من المفترض قوله وهتف هذه المرة بنبرة جادة عائدًا إلى أصله:
-مش هتمشي
أجابت بنفس تلك النبرة الصادرة منه وعينيها لم تتأرجح من على عيناه:
-همشي
دفع يدها الذي كان يُمسكها بقوة صارخًا بوجهها بصوتٍ عالٍ ولم يكن هام بالنسبة إليه وجود أهلها هنا:
-هتخليني اتغابى عليكي بلاش عِند
عادت للخلف خطوة بعد صراخه عليها بهذه الطريقة وأقترب "ياسين" منه بطريقة هجومية واضحة ولكن والده قد سبقه في فعل ذلك..
أبعد ابنته للخلف ووقف أمامه رافعًا رأسه ليكن بنفس طوله حيث أن "عامر" كان الأطول بينهم جميعًا، نظر إليه بقوة وعنف ولأول مرة يفعلها، نظر إليه بعينين تهتف بتهديد صريح إن أقترب من ابنته:
-ايه البجاحه اللي أنت فيها دي... أنت مفكر نفسك مين.. رد عليا مفكر نفسك مين؟.. دي بنتي وأنا اللي وافقت على جوازها منك ودلوقتي حتى لو هي رجعت في كلامها أنا رافض.. سامع
لم يكن متوقعًا من عمه هذا الحديث ولا حتى ردة الفعل هذه، أيعقل أن عمه من وقف جواره طوال حياته الآن يقف أمامه!.. الآن بالتحديد، لما الجميع يريد سرقتها منه؟:
-يا عمي...
قاطعه عن الحديث بحدة صارخًا به يسرد عليه ما حدث وكأنه لا يعرفه.. كأنه ليس معضلة يغفى ويستفيق بها:
-اخرس خالص.. أنت عارف والكل عارف أن أبوك أول واحد عارض جوازك من سلمى وقال إنك غبي والبنت مش هتستحملك وسلمى خالفت كل التوقعات واستحملت كتير بس أنت فعلًا اللي غبي وبنتي غلطت لما فضلت معاك من أول مرة عرفت فيها إنك وسـ*
أغمض "عامر" عينيه بقوة مُستنكرًا كل شيء من حوله، يحاول التماسك أمامهم، يحاول أن يكون شخص عاقل غير متهور كي يعلموا أنه يحاول التغير لأنه معروف في مثل تلك المواقف:
-أنا لما وافقت قولت يا أحمد، عامر طيب وجواه حد كويس هو بس اللي متهور وعصبي حبتين وجو روميو اللي كان عايش فيه مع بنات الكباريهات ده هيبعد عنه لما تبقى سلمى معاه لكن أنت طلعت غبي
كان يتحدث والآخر مازال مغلق عيناه ولكنه فتحمها على وسعيهما عندما استمع إلى حديثه الجاد الواثق منه:
-سلمى هتمشي ابقى وريني هتمنعها إزاي
صرخ بوجه عمه لأول مرة وأمام الجميع أيضّا، رافضًا ما قاله وما سيُقيل بعد ذلك، رافضًا كل شيء بحياته سواها:
-مش هتمشي.. وديني ما هتمشي
استدار ليذهب إلى خارج الفيلا مُقرر فعل شيء ما يجعلها تبقى دون الرحيل، استدار لهم برأسه يهتف مرة أخرى بقوة وصوت عالي صارخ في وسط الفيلا:
-سامعين كلكم.. مش هتطلع من البلد دي
نظرت إليه وهو يبتعد ووجوه الجميع مصدومة مما يفعله وما توصل إليه.. هو المخطئ الوحيد وهو من أضاعها، هو من تسبب في كل ذلك وعليه تحمل النتيجة.. أيعقل أن يفعل الحب كل ذلك؟
لم يتدخل والده مانعًا نفسه عن فعل ذلك بالقوة، لا يريد أن يكبر الأمر بينهم أكثر من ذلك ويعود ليقول أن والده هو من يُعيق زواجه وسعادته..
خرجت "سلمى" ركضًا إلى الخارج بعد لحظات استوعبت بها أنه سيرحل وهي الأخرى سترحل ولا تعلم متى من الممكن أن تراه مرة أخرى..
خرجت إلى البوابة وجدته صعد إلى سيارته وكاد أن يرحل بها، ناداته بصوتٍ عالٍ وهي تركض إليه بعينين باكية:
-عامر.. عامر
وقفت أمام نافذة السيارة ومالت عليه برأسها ولم تكاد أن تتحدث حتى ألقى عليها الكلمات القاسية المودعة إياها:
-ابعدي عن وشي ويلا روحي شوفي أنتي رايحه فين
بنبرة هادئة خافتة قتلت روحه داخله طلبت منه الخروج للحديث معه:
-أنزل لحظة
خرج من السيارة وأغلق الباب بعد الاستماع إلى نبرتها المُرهقة للأعصاب، وقف أمامها شامخًا يهتف بكل ما خطر على عقله أنها تريد الحديث به:
-نعم عايزة ايه.. عايزة تقولي إنك هتمشي وتبعدي عني وفركش للجوازة وفركش لحبي ليكي.. هقولك مش هتسافري يا سلمى
أمسكت وجهه بيدها الاثنين، وضعته بين كفيها بحنان بالغ ونظرة حزينة احتلت ملامح وجهها، بكائها ازداد وتركت قوتها في الداخل وخرجت له مجردة من كل شيء سوى حبه:
-أنا بحبك بس أنت اللي ضيعتني من ايدك.. اتغير عايزة اسمع إنك اتغيرت وأنا هرجع في لحظتها ومش هستنى دقيقة واحدة تعدي عليا وأنا بعيدة عنك
وضع يده الاثنين فوق كفيها على وجهه، وأقترب منها بنظرة عينيه التي تعلقت بأمل جديد بعد حديثها المُمزق لقلبه، قال بحب مُطالبًا منها البقاء فلو ابتعدت روحه إلى الأعلى أفضل من ابتعادها هي:
-طب وليه.. وليه يابنت الحلال ما أنتي أهو خليكي.. خليكي يا سلمى أنتي عارفه إني ماليش غيرك وسطهم.. أنا عايزك
بكت بقوة في تلك اللحظة، وبعد ذلك الحديث منه، كطفل صغير يريد بقاء والدته معه، يريدها هي فقط ولا يريد أي أحد آخر من أفراد العائلة ولكنها مضطرة لفعل ذلك:
-مش هقدر صدقني.. مش هقدر أقعد معاك كأن مفيش حاجه حصلت.. أنا بنام وأقوم على صورتك وأنت في حضنها.. بنام وأقوم على صورتك وأنت بتبوسها.. مش هقدر يا عامر لأ
نظر إلى شفتيها المُكتنزة التي ترتعش بفعل بكائها، علم في تلك اللحظة أنها لن تنصت إليه إذًا سيصمت هو الآخر، أبعد يده من فوق يدها الاثنين واضعًا إياهم على وجنتيها كما فعلت معه وتبادلوا النظرات الصامتة، ثم أقترب منها بهدوء تام واضعًا شفتيه على خاصتها في قبله حانية غريبة..
قبلها كما لو أنه لم يفعلها من قبل، بطريقة بريئة إلى أبعد حد، حانية رقيقة، قبلها إلى أن شعر بأنه عليه الإبتعاد وقد فعل..
أبتعد بشفتيه وبقى على وضعه معها فاستمع إلى صوتها الضائع بعد قبلته الشغوفة الحانية:
-لو عايزني اتغير وهرجع.. ولو فضلت على حالك شرب وسهر وستات مش هرجع أبدًا وهعرف إنك مش عايزني يا عامر
عقب بنفس تلك النبرة الضائعة، نبرة متعطشة للمزيد منها وتتروى لفعل ذلك بالهدوء ولكنه يقتلها:
-لأخر يوم في عمري أنا عايزك وأنتي ليا وبردو مش هتسافري
عاد للخلف وأخفض يدها الاثنين من على وجنتيه دافعًا إياها للخلف بخفه وتروي لتبتعد عن السيارة، ثم نظر إليها نظرة أخيرة لا تنم عن الخير أبدًا ودلف إلى السيارة وأشعل المقود ثم رحل وتركها تقف في مكانها وحيدة.. وحيدة تنتظر تغيره..
البكاء ليس حل في هذه اللحظات، لقد قالت ما عندها وفعل المثل، لقد ودعها بشيء لم تكن تحلم به، وضعت يدها على شفتيها وخرجت الدموع تتهاوى خلف بعضها..
لقد ودعها بقبلة الوداع..
❈-❈-❈
جلست في المقعد الأمامي للسيارة جوار مقعد السائق والذي كان شقيقها "ياسين" وفي المقعد الخلفي جلست والدتها ووالدها..
كانت تستند على نافذة السيارة تنظر إلى الخارج بشرود واضح، لم تكن معهم من الأساس بل كانت تسبح في ذكريات جمعتها بذلك الحبيب الذي تركته..
استمعت إلى صوت شقيقها يناديها بنبرة جادة وكأنها ليست المرة الأولى:
-سلمى
اعتدلت في جلستها ونظرت إليه باستغراب منتظرة منه الحديث فقال بمرح وابتسامه:
-فينك يابنتي بكلمك.. بتفكري في امريكا من دلوقتي
ابتسمت إليه هي الأخرى بهدوء، ابتسامة مصطنعة ذائفة وأجابته قائلة:
-ومفكرش فيها ليه.. دي بلد الدولار يابني
ابتسم أكثر يصيح بقوة وهو ينظر إلى الأمام على الطريق:
-يا ولا
قالت بنبرة حانية وهي تنظر إليه:
-خلي بالك من نفسك ومن هدى
نظر إليها ثم أبعد نظرة سريعًا من عليها ليبقى على الطريق وعقب قائلًا:
-متقلقيش علينا أنتي خلي بالك من نفسك
استدارت إلى والدها تنظر إليه نظرة طويلة، تريد قول الكثير ولكنها بالتوصية عليه، اكتفت به هو وكأنها ترحل عن مولود رضيع ليس له غيرها، ترقرقت الدموع بعينيها وقالت:
-خلي بالك من عامر يا بابا.. أنت عارف إنه مالوش غيرك.. عمي مش زيك وهو مش بيعرف يتعامل معاه بلاش تزعل منه بسبب اللي حصل خليك معاه وفي ضهره
ابتسم إليها بهدوء وقد تفهم أن ابنته لن تبقى هناك طويلًا ستعود راكضه لتبقى مع من يهواه قلبها، أنها حتى لا تستطيع إيقاف التفكير به ولو لحظة ومن المفترض أنها ذاهبة لأنها تبغضة:
-متقلقيش عليه يا سلمى عامر ابني زيكم بالظبط وأنا مش هسيبه
نظر إليها شقيقها بقوة، كيف لها أن تكون هكذا؟ بعد كل ما فعله تفكر به وتريد من الجميع الاعتناء به من بعد رحيلها.. كيف لها أن تكون تلك الفتاة الناضجة الذي أحبته وتحبه ومع ذلك استطاعت أن تأخذ قرار الإبتعاد عنه جاعلة قلبها يفتر من الحزن..
عادت برأسها للخلف بعد أن جعلتها والدتها تطمئن وبعد أن نظرت إلى الأمام من خلال زجاج السيارة صرخت بعنف وقوة كبيرة جاعلة شقيقها ينتبه لتلك الشاحنة:
-حاسب يا ياسين
لم يستطع فعل شيء فقد فات الأوان، أتت عليهم شاحنة كبيرة الحجم بقوة أكبر من اللازم تصادمت معهم وكأن بالفعل سائقها يريد فعل ذلك بهم، دعست السيارة بفعل الشاحنة وانقلبت أكثر من مرة وتلك العائلة الصغيرة بها..
ومن بعد نطقها باسم شقيقها لم تنطق بحرف أخر..
❈-❈-❈
"يُتبع"
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الرابع
#ندا_حسن
"دام الألم، للمُنتهى"
ورد إلى الجميع ما حدث مع بقية العائلة، عائلة بها شقيق وزوج وحبيبة وأم لولدين.. كان خبر صادم مفزع هلعت له القلوب خوفًا ورهبةً من فقدان أحدهم.. السماء تمطر دمًا والقلوب تدمع من الداخل جاعلة بقية الأعضاء تحزن عليها، والعيون وما بها إلا النزيف كشلال لا يرى مستقر له..
فور أن استمع "رؤوف" هذا الخبر القاتل لقلبه ولبقية عائلته وقع على الأريكة التي كانت خلفه بعد أن ألقى الهاتف من يده التي فقدت أعصابها ولم يستطع أن يفعل أي شيء، فقط ينظر إلى الأمام بصدمة تامة وعيون زائغة مذهولة تود البكاء، لم يتفوه بأي شيء، غير قادر على الحركة أو النطق، لقد شعر بأنه عاجز عن فعل أي شيء ولم يسعفه جسده على ذلك..
مكالمة قاسية للغاية لم تكن بالحسبان، لقد كانت العائلة بالكامل حزينة لما حدث بها ولكن لم تكن تريد هذا الحزن! ومن يهتف من الناحية الأخرى كان يحمل قساوة أكثر من المكالمة نفسها ناطقًا بفقدان شخصين!.. شخصين يا الله من عائلته!.. تُرى من؟.
شقيقه ورفيق دربه!.. ابن أمه وأبيه، والد ابنه وحامله وقت ضعفه وجواره وقت قوته، أم زوجته المرأة طيبة الأصل والروح، كريمة القلب وجميلة اللسان.. أم فقد ابنة شقيقه، "سلمى"! ابنته الثانية وروحه الضائعة حبيبة ولده المتهور، ويالا القهرة إن كان سنده وقوته "ياسين" ابنه الآخر وزوج ابنته..
ومن بعده ابنته الوحيدة تلقت الصدمة بقهر لم تصادفه بحياتها، صدمة! هذه ليست صدمة إنه كابوس وعليها أن تستفيق منه هي ووالدها ولكن فور استيعابها لما حدث أخذت الصراخ السبيل الوحيد لها للتعبير عما تشعر به..
زوجها كان معهم؟. "ياسين"!. حبيبها! من فُقد في هذا الحادث! عمها وزوجته؟ أم ابنة عمها وحبيبتها والنصف الآخر لشقيقها!.. أم نصفها هي! وملاذها وكل ما تملكه في الحياة!.
كل منهم كان يحمل قلبه على يده ويسير به في رواق المشفى مُتقدمًا للاستماع إلى أي حديث غير متوقع بعد الذي استمعوا إليه والقلب خارج مكانه ليتلقى الصدمة ويلقى حتفه..
لم يبقى سواه الذي لم يكن يعلم بشيء، أخبرته والدته بعد أن فقدت السيطرة على زوجها وابنتها وكأنه هو الذي يستطيع أن يسيطر عليهم..
وقع قلبه بين قدميه بعد أن بدأ بالخفق بقوة، ولأول مرة بحياته يشعر بالخوف الشديد، لأول مرة حقًا والرغبة الحارقة لقلبه وجسده في الوصول إليهم ليعرف ما الذي أصابهم.. ليته تركها تذهب!.. ليته تركها تفعل ما يحلوا لها..
ما الذي من الممكن أن يحدث! من الذي تركهم ورحل إلى الأبد لن تكون هي!. مؤكد لن تكون هي حبيبته! روحه وعمره، كيانه وكل ما به، إن حدث لها شيء لن يسامح نفسه إلى الممات..
عند وصوله إلى المشفى ولحظة إدراكه أن عمه وزوجته قد فقدوا من وسط العائلة، اشتد البكاء على عينيه ولم يستطع أن يمنع نفسه من فعلها، لقد كان عمه بمثابة والده.. لا لقد كان والده حقًا ودون أي مقابل.. لقد أخذ دور والده وأعتبره ابنه أكثر من "ياسين" نفسه، لقد كان يقف جواره وفي كل طريق يبدأ السير به يشجعه على التكملة.. لم يكن يستمع لحديث أي شخص سواه.. عمه!..
أبتعد عن الجميع في تلك اللحظات ودلف إلى مرحاض في المشفى بعد أن علم أنها في غرفة العمليات ولكن حالتها على ما استمع إليه ستكون مستقرة ليست كما الجميع، وشقيقها في غرفة العمليات أيضًا ولكن في حالة حرجة، دلف إلى المرحاض وبدأ في البكاء الحاد وكان يلوم نفسه على ما حدث وبقوة..
لما قد يفعل هذا؟ لما لم يتركها ترحل من البداية ويبتعد عن طريقها هو المخطئ الوحيد.. هو من فعل كل هذا وهو من جعل البيت يخرب عليهم مثلما قال ابن عمه..
انحنى على نفسه كجبل أصابه زلزال بقوة كبيرة واشتد البكاء عليه وبصوت نحيب عالي يخبئ وجهه بيده الاثنين متذكرًا عمه الحنون وزوجته..
ماذا سيقول لها عندما تستفيق؟ ماذا سيقول لابن عمه؟ الجميع الآن سيراه المخطئ وهو كذلك.. قلبه لن يرحمه وضميره يقاتله الآن بقوة معترضًا على كل ما حدث من قِبله.. لقد كان قمة في الحقارة والدنائة..
وقف أمام حوض الغسيل بالمرحاض ورفع أكتافه للأعلى ونظر إلى وجهه بالمرآة، حاول أن يتماسك في تلك اللحظات والساعات القادمة فهو سيكون يد العون الوحيدة للجميع..
فتح صنبور المياة وأخذها بين يده الاثنين يلقيها على وجهه بقوة وعنف عله يستفيق مما حدث، ولكن ذلك لن يحدث.. لن يستفيق أحد مما حدث ولن تعود الأمور كما كانت.. الآن ومن هنا بدأ التحول الحتمي في عائلة "القصاص" ستكون الليالي القادمة أسوأ من أسوأ ليالي مرت على دولة كاملة تموت جوعًا وعطشًا في ظل حروب ضارية..
❈-❈-❈
"اليوم التالي"
فتحت عينيها ببطء شديد، وجدت نفسها تنظر إلى سقف غرفة لونه أبيض لحظات تحرك عينيها على السقف ولا ترى أي شيء سوى أنه أبيض، لم تستطع تحريك رقبتها جيدًا، شعرت بألم بها، وصداع داهم رأسها فور أن فتحت عينيها..
رفعت يدها إلى أعلى رأسها بعد أن كرمشت ملامح وجهها بألم شديد يداهمها، هناك شيء على رأسها، خصلاتها ليست أسفل كف يدها بل كان هذا قطن وشاش!.. أدوات طبية!.. رأسها ملتفة بأدوات طبية، حركت كف يدها لأبعد قليلًا لتجد خصلات شعرها أخيرًا..
يدها لا تستطيع تحركها جيدًا أيضًا، أبعدت كف يدها من أعلى رأسها ونظرت بدقة إلى ذراعها لتجده به كدمات كبيرة وبعد المعصم ملتف هو الآخر!..
الذراع الآخر كان حر ربما ولكنه يؤلمها أيضًا، إنه مجبر ليس حر!، جسدها بالكامل يؤلمها وقدمها اليسرى لا تستطيع تحريكها جيدًا!..
أغمضت عينيها لحظة وعادت إلى وضعها التي كانت عليه ثم بدأت الذكريات تأتي إلى عقلها واحدة تلو الأخرى، واحدة من بعدهم ثم تتلوها الأخرى، خانها "عامر"!.. كانت ذاهبة إلى بلد خالها الذي يستقر بها، كان معها والديها وشقيقها ثم حدث ما لم يكن متوقع ولم تراهم من بعدها وها هي هنا!.. أين هم؟..
فتحت عينيها على وسعيهما وفي تلك اللحظة كان الباب يُفتح ودلفت منه "هدى" لتطمئن عليها، نظرت إليها بقوة وهي تراها تتقدم منها ثم دون سابق إنذار أردفت بتساؤل مُتلهف على عائلتها:
-فين بابا وماما.. وياسين؟
أقتربت منها "هدى" ووجها يعبر عن كل شيء حزين، عينيها كما لو أنها وردة دبلت بسبب عدم شربها للماء، ووجها شاحب كشحوب الأموات، وقفت جوار الفراش تبتسم بتصنع يظهر في كل حركة قائلة:
-حمدالله على سلامتك يا حبيبتي
مرة أخرى تفوهت بنفس السؤال السابق التي لم تحصل على إجابة له من ابنة عمها:
-فين بابا وماما وياسين يا هدى
ربتت عليها بهدوء ويدها ترتعش فوق جسدها ثم أردفت بنبرة مترددة خائفة من الحديث التي ستقوله وكم كان الحزن ظاهر عليها:
-موجودين يا حبيبتي متقلقيش
نظرت إليها "سلمى" بعينين تشكك بذلك الحديث، عينيها وشفتيها ولغة جسدها بالكامل تقول غير ذلك:
-هما فين؟
ابتلعت تلك الغصة التي كان بحلقها ثم قالت جزء صغير جدًا من الحقيقة المُدمرة لعائلة بالكامل:
-ياسين في العناية.. محتاج إنه يكون فيها لكن هو كويس وهيقوم بالسلامة إن شاء الله متقلقيش
وكانت هي عقلها منشغل بالجميع، رغم أنها لا تصدق تلك الكلمات وقلبها يتحدث بشيء آخر داخلها ولكنها استكملت متسائلة:
-وبابا وماما؟
كذبت الكذبة الأكبر على الإطلاق، كان من المفترض أن تقول بأنهم الآن أجساد ليس إلا وقد صعدت الأرواح إلى خالقها ولكنها قالت:
-في اوض تانية
لن تنتظر أكثر من هذا، تتسائل وهي تُجيب بحديث كاذب، قالت بجدية وهي تستدير لتذهب حتى أنها لم ترى وجهها:
-أنا هخرج أقول للدكتور إنك فوقتي
لم تعاملها جيدًا، لم تظهر اللهفة عليها لكونها استفاقت من حادث مروع كهذا!. ما بها؟ أهناك شيء حدث وهي لا تعلم! قلبها يقول ذلك ولكنها ستحاول أن تكذبه لا تريد أن تستمع له.. ومن بعدها إلى أخباره الحزينة الموجعة..
وجدت "عامر" يدلف الغرفة بلهفة وشوق كبير يرتسم على وجهه كأنها كانت مع الموتى!.. أليست تلك نفس الملابس الذي كان يرتديها منذ أن كانت ترحل!.. ترى هي هنا منذ متى! اليوم فقط؟ لما وجهه هكذا؟..
عينيه مُنتفخة بشدة، فاقدة بريقها، وجهه منحوت وظاهر عليه الإرهاق التام، ملابسه ليست مهندمة ومظهره بالكامل ليس على ما يرام.. لو الجميع بخير لما هو هكذا! لما عينيه منتفخة
جلس جوارها على الفراش وأمسك بيدها رافعًا إياها إلى فمه بخفه مقبلًا إياها قبلة مطولة للغاية، يبث بها كامل خوفه الذي شعر به منذ أن استمع إلى ما حدث إليهم:
-حمدالله على سلامتك يا حبيبتي
أبصرته بقوة وعينيها تتحرك عليه بغرابة، لن تشعر بالاستغراب بسبب خوفه ولهفته الظاهرة تلك ولكن هناك شيء آخر يربكها..
استمعت إلى صوته الخافت المرهق، الخائف من كل شيء ولأول مرة تستشعر ذلك به:
-سلمى.. أرجوكي متبعديش عني أنا كنت هموت.. والله العظيم كنت حاسس إني هموت.. أنتي روحي
أجابته بضعف شديد والألم برأسها يزداد:
-بعد الشر عليك
تسائل بجدية وعينيه عليها ليطمئن من أنها أصبحت بخير فيكفي من رحلوا:
-أنتي كويسه؟ حاسه بتعب
أردفت لما تشعر به بجسدها وتذكرت أنها من وضعت حزام الأمان بالسيارة وقالت لشقيقها أن يفعل ولكنه لم يعطي للأمر أهمية:
-صداع جامد أوي وجسمي كله بيوجعني... اومال لما أنا حصلي كل ده هما حصلهم ايه.. دا أنا الوحيدة اللي كنت حاطة الحزام
أخفض رأسه إلى أرضية الفراش ومازالت يدها بين كفه العريض، نظرت إليه بغرابة، لما صمت الآن! لما لم يُجيب عليها!.. تسائلت هي:
-بابا فين وماما وياسين
أحمرت عينيه الفاقدة للحياة بسبب ضغطه على نفسه ألا ينصاع خلف رغبة البكاء التي تلح عليه، تفوه بالكلمات بتوتر وارتعشت شفتيه:
-في العناية.. الحمدلله عدت على خير
وجدها تتحرك بألم في الفراش وعينيها عليه بدقة كبيرة لا تصدق الذي يقوله، وجهه وعينيه، جسده هو وشقيقته يقول غير ذلك وقلبها الأحمق هو الآخر يخفق بقوة كبيرة تجعلها تخاف أكثر..
-استني أساعدك
وقف على قدميه وأقترب منها، وضع يده أسفل ذراعيها وعدل من الوسادة خلفها ثم رفعها ببطء لتجلس نصف جلسة على الفراش..
في لحظة وجدوا الباب يفتح بقوة وعلى مصراعيه ووالده يدخل بلهفة شديدة والبكاء يغرق وجهه بالكامل وخلفه شقيقته تنادي عليه أن يعود لغرفته..
لقد انتكس في الأمس ليلًا واضطر أن يكون هو الآخر في غرفة مرضى مثلهم ليعتنوا به، لم يتخطى ما حدث وعند الاستماع إلى أن ابنة شقيقه قد استفاقت أتى ركضًا إليها ليتشبع منها ومن رائحة شقيقه بها..
هتف باسمها بلهفة وحزن وهو يدلف إليها:
-سلمى
نظرت إليه باستغراب شديد، رأته وهو يتقدم منها ركضًا ورأت "عامر" يفسح له الطريق ليقترب منها وقد كان.. أتى إليها وجلس أمامها على الفراش والدموع لا تتوقف عن الخروج من عينيه..
نظرت إليه مطولًا وفعل المثل، لم يتحدث ولم يقترب منها! وزعت بصرها على من معها بالغرفة غيره لترى "هدى" في الخلف تحاول مداراة دموع عينيها وحزن قلبها المرسوم على ملامحها، زوجة عمها التي استدارت وأعطت إليها ظهرها.. و "عامر" الذي وضع يده الاثنين أمام وجهه وأبتعد للخلف لاعنًا لحظة دخول والده.. لم يستطع أن ينتظر قليلًا حتى يهيئ لها الأمر..
نظرت إلى عمها مرة أخرى خرجت الدموع من عينيها بصمت رهيب وبدأ رأسها في تجميع خيوط الفكرة التي تُحكى أمامها!.. أين عائلتها!؟
حركت شفتيها المكتنزة بارتعاش واضح ورهبة ظاهرة بقوة في نبرتها:
-بابا وماما فين يا عمي
لم تجد منه ردًا إلا إنه بدأ في البكاء بصوت مرتفع! لما؟ نظرت إلى "عامر"وتسائلت بنفس تلك النبرة السابقة والخوف الذي يرافقها:
-ياسين فين يا عامر
لم تجد ردًا من أحد منهم والجميع على وضعه، ازداد بكائها المُمزق للقلوب المتجمعة حولها وهتفت مرة أخرى بانين:
-هما فين
أقترب منها "عامر" سريعًا بعد الاستماع إلى نبرتها الباكية ويعلم أن قلبها لن يتحمل هذا أبدًا، وقف جوارها وصاح قائلًا بنبرة محاولًا أن يجعلها جادة:
-ياسين في العناية متقلقيش عليه إن شاء الله هيبقى كويس
رفعت ذراعها بألم ولكنها تريد أن تتعلق بأي شيء يشعرها بالأمان، أمسكت يده ونظرت إليه بعمق متسائلة مرة أخرى:
-بابا وماما فين؟
أخفض رأسه إلى الأرضية ولم يستطع أن يقول شيء، نظرت إليه بقوة مُنتظرة أن يُجيب، مُنتظرة أن يُمحي كل ما خطر على بالها من مظاهرهم، ولكنه أزاد العذاب على قلبها عندما رأت دمعة تفر من عينيه أزالها سريعًا:
-أنت بتعيط؟.. بتعيط يا عامر
"عامر" والبكاء معًا، هذا مُستحيل؟ كيف لعامر أن يبكي ولما ولأي سبب قد يفعل ذلك؟.. حدث شيء لوالديها!.. حتمًا حدث شيء لهم، تسائلت بحدة هذه المرة متحاملة على نفسها:
-هما فين
أقترب منها عمها يجهش بالبكاء المر على قلبه وأحتضنها بخفه مراعيًا ما الذي تمر به ثم هتف في أذنها:
-تعيشي أنتي يا بنتي.. تعيشي أنتي
لم تتحرك!.. لم تبدي أي ردة فعل!.. بقيٰ عمها مُحتضن إياها وهي تنظر إلى الأمام في الفراغ تكرر ما قاله داخل عقلها تحاول أن تستوعبه!.. لن تستوعبه لقد قال أن!... هل يقصد أن والديها توفيا!..
لحظات وأخرى تمر عليهم وعمها محتضن إياها وهي صامتة! لم تفعل أي شيء ولم تبكي حتى بل توقفت عن البكاء.. أقترب منهم "عامر" وجعل والده يبتعد عنها ليرى ما الذي أصابها..
نظرت إليه محركة شفتيها المكتنزة بصوت خافت للغاية غير مصدق قائلة:
-بابا
جلس هو جوارها مُحاولًا أن يخفف عنها الذي تمر به، فنظرت إليه أكثر وقالت بحزن طاغي وقهره حقيقية تمر بها مع مرارة أيامها:
-بابا وماما
حاول مرة أخرى وهو من الأساس عينيه تهدده بفرار الدموع منها، لكنه استمر وهو يربت على كتفيها:
-سلمى ممكن تهدي.. دا أمر ربنا وقضاءه
نظرت إليه مطولًا ودقتت به وهو يحاول أن يجعلها تهدأ، أليس هو من جعلها تذهب وتأخذهم معها إلى المطار؟ أليس هو من كان السبب في كل ذلك:
-أنت السبب
لم تستمع منه إلى أي إجابة وجدت نظرته كما لو أنها تقول أنه يعلم أنه سيوضع في هذا الموقف وسيكون سبب من الأسباب، أكدت حديثها بقوة وهي تنظر إليه:
-لو مكنتش خونتني مكنتش أصريت إني أمشي ومكناش هنا دلوقتي.. مكانوش سابوني
لم تكن تشعر بأي شيء غريب، ما الذي من المفترض أن تشعر به، ألم؟ هو معاها دائمًا ليس جديد، حزن؟ وجد وبكثرة:
-سلمى اهدي
صرخت على حين غرة وفي لحظة طلبه منها الهدوء، صرخة استمعت إليها المشفى بأكملها ومن بها، صرخات تتلوها صرخات أخرى تعبر عن كم القهر والحزن الذي تمر به، تعبر عن كم الألم الذي يرافقها حتى في أسوأ لحظاتها..
تسرد بصرخاتها وحركاتها الهوجاء المسببة لها الألم مرارة الأيام عليها.. تسرد بالبكاء الحاد كم أن القسوة سهل الشعور بها..
صرخات وبكاء، تتلوى أسفل يده الذي تحاول تثبيتها، يحاول أن يقيدها! ألا يكفيه ذلك؟ ألا يكفيه كل هذه المعاناة التي تمر بها!..
لم تهدأ صرخاتها والنداء بإسم والدها ووالدتها، لم يهدأ ذلك العويل إلا عندما سكنت فجأة أسفل يده ولم تعد شاعره بأي شيء من حولها، سحبتها غمامة كان من المفترض أن تدلف بها مُبكرًا ولكنها تأخرت عليها.. والآن هي في مكان آخر..
❈-❈-❈
"بعد يومين"
منذ بضعة أيام كانت عائلة "القصاص" تحضر إلى زفاف أبنائها، أكبر وأفضل زفاف كان سيحدث في البلدة بأكملها ولكن كان للقدر رأي آخر، رأى أن من بين أفراد العائلة جنازات مؤجلة حان موعدها..
إذا تخيلت ما الذي حدث للجميع واحد تلو الآخر من العائلة بعد رحيل اثنين منهم لن تستطيع أن توفي خيالك حقه مهما حدث..
"هدى" ما بين حزنها على عمها وزوجته وابنته الملقية في المشفى لا تبدي أي ردود فعل منذ أن تلقت الصدمة وما بين تمزيق قلبها على زوجها وحبيب عمرها، "ياسين" الذي لم تستطع أن تأخذ قدر كافي منه.. تزوجته منذ ستة أشهر فقط وكان من المفترض أن يتم زفاف شقيقها معهم ولكن "سلمى" اعترضت على هذا وأجلت العرس..
منذ ستة أشهر فقط تبني معه ذكريات سعيدة لتتذكرها في الكبر وهو معها، لم تكن تتخيل أنها ستحتاج لتذكرها الآن وهم في ربيع شبابهم..
لم تجف عينيها من البكاء إلى أن شعرت أنها تأتي بكل ما بها من دموع ولن يتبقى شيء، تبكي بعينيها وقلبها وروحها المأخوذة معه..
وفي تلك اللحظات المُنتظرة تتذكر كم كان رجل حكيم رائع، عاقل وناضج، يحمل من الحنان ما يكفي الجميع وغيرهم، دائمًا كل كلمة له إيجابية ومواقفه مع الجميع سعيدة وفرحه.. حتى في أغلب الأوقات الذي كان شقيقها يزعج شقيقته بها يأخذ الأمر بهدوء ويحاول أن يصلح الأمر بينهم..
لم ترى منه إلا كل طيب وجميل، لم يشعرها يومًا بالحزن ولم يتركها في مرة تنام حزينة منه، لم يتركها وحدها في أصعب الأوقات وأسعدها..
يمر على عقلها كثير من الذكريات معه، سعيدة وفرحه حزينة وسيئة وفي نهايتها تتذكر وجهه وكم كان وسيم مرح محب للحياة معها..
قلبها ينزف ألمًا وحزنًا على وجوده هنا بين الحياة والموت ولا تستطع أن تعرف ما به، ما تستمع إليه أنه في غيبوبة ولا أحد يعلم متى يستفيق منها وها هي بين الوجود والاختفاء، تحاول أن تفهم ما الذي حل عليهم في لحظة خاطفة ليبدل حالهم بهذه الطريقة المُرة
في اليومين الماضيين لم يفعل "عامر" شيء سوى أنه كتم جميع مشاعره في داخله وأظهر رجل جامد التعابير حاد الملامح مع الجميع.... سواها..
كتم كل ما يشعر به من حزن على والده الآخر، وقهر على ما مر بالعائلة بأكملها، كتم مشاعر الألم بعد كل نظرة يلقيها عليها بعينيه البُنية ويرى كم تتألم في صمت ولا تبدي أي أفعال..
بقيٰ جوارها لا يتحرك بعد نوبة الاهتياج الذي صابتها عند معرفة الخبر المحزن إلى قلبها، في الغرفة معها يخرج ليطمئن على ابن عمه ويدلف مرة أخرى ليخبرها بأنه على ما يرام وهذا من أفضل الكذب الذي يلقيه عليها..
سيبقى هذا الوضع ويبقي كل شيء محزن وكل مشاعر مخذية في قلبه ويبقى جوارها هي فقط إلى حين أن تستفيق من تلك الصدمة وتعود مرة أخرى إلى حياتها.. سيكون الأمر صعب ولكنه لن يتركها مهما كلفه الأمر ولن يترك الحزن يتمكن منها أبدًا، سيكرث حياته القادمة من أجلها إلى حين عودتها من جديد لتكون "سلمى" حبيبته..
يدعي كل يوم أن يعود إليها شقيقها ليكون الأمر أخف عليها مما يحدث، لم يأتي اليوم الذي يطمئنهم به طبيب على حالته ولكنه يتأمل أن تحدث مُعجزة ويقف الله معه بعيدًا عن كل معاصيه ويعود شقيقها إليها من جديد..
بينما حالتها لم تكن أفضل منهم بل كانت الأسوأ على الإطلاق، استفاقت مساء اليوم الذي علمت به بموت والديها، وظلت تأخذ أدوية مهدئة لتبقى على وضعها الصامت، لم يكن يعلم أحد أنها ستبقى عليه من دون شيء، لما ستهتاج وتصرخ مرة أخرى؟ هل سيعود والديها أن فعلت ذلك؟..
بقيت في حزنها غائبة، تسبح في قهرها على حياتها الضائعة، تنظر إلى الجميع بعين باهتة تتسائل عن الذي بقيٰ لها من بين عائلتها..
تنظر إليه وتراه مُتلهف عليها، مُشتاق إلى رؤيتها سعيدة، ترى الندم بعينيه كل يوم وكل لحظة تنظر إليه بها، ترى الخوف في عينيه، ترى الحزن في ملامحه مرتسم وكأنه من فعلها..
تستمع إلى صوته الحاد في الخارج ثم يدلف إليها طفل صغير حنون على حبيبته، يبقى جوارها ولا يتركها.. حتى عند وجود صديقتها التي لا يطيق النظر إلى وجهها خصيصًا بعد أن افشت سره لها وكانت هي السبب في كل ما حدث، لم يزعجها وتقبل وجودها معها، تقدر ما يفعله ولكنها مهما حدث يبقى السبب الرئيسي فيما حدث لهم..
يبقى هو من خانها وخان العهد معها، هو من جعلها تُصر على الرحيل بعيد عنه وحبه في قلبها ينبض، هو من أظهر اللا مبالاة وأخفى ندمه بعد فعلته الدنيئة..
لم يظهر ذلك الندم إلا حينما يريد أن يلهيها عما يفعل ويظهر كم هو بريء بتمثيله الرائع عليها..
سيبقى هو من تسبب في فقدان والديها ودمار عائلتها الصغيرة، سيبقى هو السبب الوحيد في تحطيم قلبها وجعله أشلاء صغيرة، سيبقى هو من خان..
كان "عامر" يجلس على المقعد جوار نافذة الغرفة الذي يدلف منها النور، وكأنه يستمد منها أي ضوء يعطيه أمل لحياته، مُنحني على نفسه يضع وجهه بين يده الاثنين يُخفيه مغمضًا عينيه وهي تنام على الفراش كما منذ يومين وإلى الآن على نفس الوضعية..
لحظةً مرت وأخرى مثلها والوضع كما هو عليه كالعادة.. الحديث قليل الصمت أكثر من الكثير، ثم دون سابق إنذار ولحظة عرى للجميع انطلقت صرخة حادة وقاسية في الخارج استمعوا إليها معًا ومن خلفها صوت شقيقته تنادي بإسم زوجها!..
رفع وجهه سريعًا بلهفة وقلق جلي، نظر إليها بعينين مُتسعة وبادلته تلك النظرة للوهلة الأولى وقلبها ينتفض رعبًا..
وقف سريعًا مُتقدمًا من الباب بخطوات واسعة وفتحه ذاهبًا إلى الخارج لينطلق الصوت إليها أكثر وأوضح، ابنة عمها تنادي ببكاد حاد:
-لأ يا ياسين لأ.. متسبنيش يا ياسيــن
مرة أخرى بصراخ اهتز له جدران المشفى بأكملها:
-ياسيـــن
وأخرى بعنف وحرقة قلب مغلوب على أمره، ليس معه أي سبيل سوى الصراخ على الفقيد:
-ياسين راح يا عامر... ياسين راح
صوت زوجة عمها تبكي خارج الغرفة معها بقوة وعنف!.. تحاول أن تهدأ ابنتها الصارخة باهتياج..
عاد إلى الغرفة سريعًا بعد معرفة الخبر وتيقن أنها فهمت كل شيء، وقف أمام باب الغرفة من الداخل ينظر إليها بحزن طاغي على قلبه لو لم تكن ملامحه تحكي ذلك..
بادلته النظرات الصامتة، عينيها تنزف بدلًا عن الدموع دماء، نظراتها نحوه لم يكن يفهم ما هي بالضبط معاتبه وكأنها تقول أنت من فعل ذلك وسلبت مني كل احبائي وعائلتي، ونظرات أخرى حزينة مصدومة لا تعلم ما الذي يحدث لها مصيبة خلف الآخرى وتريد من يقف معاها بها، ونظرات أخرى لم يستطع تفسيرها ولكنها تظهر حرقة قلب بات مقتولًا بعد كثرة المحاولات لاغتياله..
تقسم أنها شعرت برجفة في قلبها لما تشرع بها يومًا، رجفة حادة قاسية مثل كل شيء حولها..
لم تخرج أي صوت ولم تبدي أي رد فعل لكل ما يحدث في وسط ذلك الصراخ الذي تستمع إليه من زوجة شقيقها في الخارج ومعها والدتها وصوت عمها الذي يعلو كل لحظة والآخر يندب الذي يحدث ثم يعود قائلًا "اللهم لا اعتراض"
دلف إليها بقدمين ترتجف ثم جلس أمامها على الفراش وعينيه تنزف الدموع هو الآخر على ابن عمه، أقترب منها وانحنى عليها محتضن إياها محاولًا أن يفعل أي شيء يمدها بالدعم وذلك لن يحدث على الإطلاق..
ولكن كان لها رأي آخر، فور احتضان "عامر" لها بدأت في البكاء الحاد بصوت عالي في أذنه، شاعرة أن قلبها سيتوقف من هذه الصدمة.. ستموت هي الأخرى لا محال.. لم يمر يومان بأكملهم يا الله.. لم يمر يومان على فقدان والديها ليتبعهم شقيقها.. إلى من تركوها هنا!..
إلى من تركوا ابنتهم؟. إلى "عامر"؟ من تسبب في كل ذلك وخان وباع في يوم وليلة!.. إلى من يا الله!..
بكاء حاد من الجميع، حتى هو خرج صوته فقد وضعه في صمت تام منذ بداية الأمر عليهم، عليه الآن الخروج هو الآخر لما لا..
بكى معها في أحضانها وبادلته ذلك بحرقة قلب وقهرة لا نهاية لها، بكت بحزن طاغي وضياع وُجد في حياتها في لحظة واحدة..
ولكن لن يفيد البكاء مهما حدث، لن يفيد..
❈-❈-❈
"بعد مرور أسبوعين"
خرجت من المشفى منذ يومان، وعادت معهم إلى فيلا العائلة، أين العائلة!؟..
لم يكن حال أحد منهم أفضل من الآخر بل كان الجميع في حالة حزن طاغية ولا نهائية، الجميع يتشح بالسواد حتى الخادمتين بالمنزل، الجميع يبكي بقهر كلما مروا على غرفة من غرف أحدهم..
كلما نظروا إلى صوره إليهم، وأكثر من بكى بجوار "سلمى" كانت "هدى" بكيت لأول مرة بحياتها بحرقة مخزية وبروح مفقودة..
ومن هنا معه روح! الجميع فقد روحه بعد هذا الحادث، تحدثت الصفح عنهم كثيرًا وكثيرًا، عائلة "القصاص" تفقد ثلاثة من أفرادها في حادث سير
منعوا التعازي وتأدية ذلك الواجب، لا يريدون أحد حتى خالها الذي كانت ستذهب إليه منعته من القدوم إليها قائلة أنها هي من ستذهب إليه فلا داعي لذلك..
لم تمر ليلة عليها إلى الآن إلا وهي باكية بقهر متذكرة كل لحظة معهم شاعرة بالمرار القادم على حياتها، كيف السبيل للتخلص من كل هذا إلا إذا ذهبت إليهم!..
عقلها لا يمل من كثرة التفكير وقلبها لا يكف عن الشعور بالألم وبين هذا وذاك روحها تموت حرقة لما أصابها..
جلست في حديقة الفيلا بهدوء على المقعد أمام الطاولة، ترتدي بنطال بيتي أسود وتيشرت بنصف كم مثله من نفس اللون، ترفع جميع خصلات شعرها إلى الأعلى دون تمرد أي منهم..
تركت الهاتف على الطاولة بعد أن اكتفت من النظر إلى صور شقيقها ووالديها الذي ملئت المواقع من الأصدقاء والمعارف..
تنهدت بقوة وخرجت دمعة من عينيها فازالتها سريعًا بيدها الحرة قبل أن تبدأ في وصلة أخرى من البكاء، لم يأتي موعدها بعد..
كان يقف في شرفة غرفته يفكر بها تلك التي قاطعته بكل الطرق وابتعدت نهائيًا عنه حتى بالنظرات..
من بعد أن أتوا إلى هنا وهي لا تطيق النظر في وجهه ولا رؤية ملامحه، لا تطيق الحديث معه وتعتبره السبب الأول في حدوث كل ذلك.. من الأساس هو يشعر بالندم لا يريد أحد أن يضغط عليه أكثر من ذلك..
نظر إلى السماء السوداء بعينيه البُنية، أبصر نجومها الذي تشع بالضوء وذلك القمر البعيد، أليست حياته سوداء مثل السماء هذه! وها هي ذلك القمر يبقى النجوم فقط ليعود الأمل..
أخفض رأسه إلى الأسفل ليجدها تجلس على المقعد في حديقة الفيلا، لم يفكر كثيرًا بل استدار وذهب ليهبط إليها..
وفي لحظات كان في الأسفل يقف أمامها ثم لم يطلب منها الإذن بالجلوس وقد فعل ليبقى أمامها، نظر إليها بعمق وطلب بهدوء:
-ممكن أتكلم معاكي شوية
أبصرت ذلك الذي جلس أمامها دون سابق إنذار ووجد من دون أن تلمحه حتى، أظهرت الجمود على ملامحها ووقفت على قدميها مُمسكة بالهاتف الخاص بها:
-لأ مش ممكن.. عن اذنك
أمسك يدها سريعًا بيده وقد ظهر عليه الندم الشديد في هذه اللحظة ليس كالمرات السابقة يمثل عليها لتبقى:
-استني يا سلمى، أرجوكي بلاش كده.. أرجوكي
نفضت يدها الحرة منه فالأخرى بقيت كما هي وجلست أمامها بوجه جامد حاد لا يشجع على الحديث من الأساس:
-نعم عايز تقول ايه
تحامل على نفسه وأقترب منها بجسده للأمام مكرمش ملامح وجهه بعتاب خالص يصبه نوحها:
-عايز أقول إني ماليش ذنب في اللي حصل، ليه محملاني ذنب شيء معملتوش
ضيقت ما بين حاجبيها باستنكار وضجر واضح له، ذمت شفتيها المُكتنزة أمامه تظهر كم هي مذهولة من حديثه ثم أردفت بنبرة حادة ساردة به كل الذي تناساه:
-معملتوش؟!.. معملتوش إزاي؟ مين اللي خاني؟ مين اللي بجح قدام الكل؟ مين اللي وصلني لمرحلة إني مش قادرة أشوفه وعلشان كده عايزة أمشي.. مين اللي خلاني أسافر وأهلي معايا.. مش أنت مش كل دي أسباب لو مكنش كل ده حصل من البداية مكنوش راحوا.. مكنتش أنا بقيت يتيمة الأم والاب ولا كانت أختك بقت أرملة
عاد للخلف مرة أخرى ناظرًا إليها بقوة وبصدمة كبيرة، لما كل هذه القسوة في الحديث! لما قد يتحمل هذا الحديث منها هي بالأخص؟، أردف بلين ونبرة مُنزعجة مُرهقة:
-بلاش القسوة دي... دي أعمار والأعمار بيد الله، ده نصيبهم ومكتوب ليهم كده.. دي بس أسباب
أظهرت إليه الضجر وكم تنفر منه بحديثها ونظرات عينيها وملامح وجهها الرافضة لوجوده معها من الأساس:
-أنا عمري ما هسامحك مهما عملت
أشار إلى نفسه مُكرمش ملامحه بقوة وعينيه البُنية مُثبتة عليها بعد أن انتابه الضعف لمجرد سماع هذه الكلمات منها:
-سلمى أنا بحبك.. بحبك ومقدرش استغنى عنك، صدقيني... وديني وما أعبد وأنتي في العمليات كنت حاسس إني بموت.. والله روحي كانت بتتاخد مني
وقفت على قدميها أمامه ثابتة وملامحها حادة ليست تلك التي كان يعرفها، أردفت بقوة وعينيها مُثبتة عليه بدقة لتوصل إليه كل حرف تود قوله:
-مبقاش ياكل معايا الكلام ده يا عامر.. أنا وأنت طريقنا مش واحد وعمره ما هيكون واحد بعد اللي حصل.. بعد ما أهلي ماتوا
وقف هو الآخر أمامها شامخًا هذه المرة، مُستغرب للغاية مما تقوله وتلقيه عليه، مُستغرب من هذه القسوة الغير محدودة التي تقع في حديثها، تفوه بجدية ضاغطًا على كل حرف يقوله:
-أهلك هما أهلي ولا مش واخده بالك؟.. أبوكي هو أبويا وأكتر كمان وأمك هي أمي وأخوكي يبقى أخويا وصاحبي وجوز اختي. أنتي بتحاولي تدوري على أي حاجه علشان تكملي في بعدك عني
بمنتهى اللا مبالاة ناظرت إليه قائلة:
-قول مهما تقول.. أنا مبقتش طيقاك أصلًا
أشار بأصابعه ناحيتها بعنف وقوة ينفي ما قالته:
-كدابة.. بتحبيني وأنا بحبك
نظرت إليه مطولًا بعينين جادة ليس بها أي أمل للحياة، ثم استدارت وذهبت تُسير من أمامه إلى داخل الفيلا وتركته هو ليبقى مع نفسه بعيد عنها..
❈-❈-❈
"بعد أسبوع آخر"
قد قررت كل شيء بالأمس، وعلمت ما الذي من المُفترض أن تفعله بعد هذه اللحظات التي مرت عليها مع الجميع هنا، لقد فهمت وعلمت إلى أين يوجهها عقلها هذه المرة ولن تعود عما في رأسها حتى ولو كان الموت لها.. وإن كان فهذا سيكون الأفضل على الإطلاق لا تريد حياة ولا تريد زواج ولا تريد "عامر" لا تريد أي شيء مهما كان هو..
وقفت أمام عمها في غرفة مكتبه بملابسها السوداء كالعادة ثم هتفت بقوة وجمود قائلة واضعة يدها الاثنين خلف ظهرها:
-عمي أنا هسافر
❈-❈-❈
"يُتبع"
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الخامس
#ندا_حسن
"في إنتظار فصل الخريف"
تفوهت بكلماتٍ بسيطة أمام أي أحد تبدو طبيعية ولكن هنا وعند عمها بالأخص لم تكن طبيعية بالمرة، وقف على قدميه وترك مقعدة وأخذت قدميه في الإقتراب منها ببطء وهدوء ووجهه حزين للغاية وكان هذا يظهر بوضوح..
الاستماع إلى كلماته كهذه بالنسبة إليه موت آخر غير الذي تعايش معه، آخر فرد بقيٰ من رائحة شقيقه لن يتركه بهذه السهولة مهما حدث..
وقف أمامها مباشرة ونظر إليها بتلك العينين الباكية دومًا على كل شيء وهتف قائلًا بنبرة ضعيفة مُنهكة:
-ليه يا سلمى
أبصرت مظهره جيدًا ورأت كل ما يجب أن تراه ولكنها كانت مُقررة منذ دخولها إلى هنا لذا عليها التحلي بالقوة إلى النهاية:
-أنا من الأول كنت هسافر يا عمي ويمكن دا السبب اللي قلب حياتنا بالشكل ده
تسائل بعينين ضيقة عليها وحاجبيه معقودان بشدة:
-ولما أنتي عارفه كده لسه بردو عايزة تسافري
ضغطت على يدها التي بقيت خلف ظهرها وتحلت بالصبر والقوة تاركة كل ما كان يُبكيها خلف ظهرها وأردفت:
-أنا ماليش حد هنا.. أهلي ماتوا
أقترب منها باستنكار لحديثها الغريب عنه والذي لأول مرة يستمع إليه منها وهي الابنة المطيعة للجميع في المنزل من بداية قدومها، عنيدة ولكن ليس معهم:
-وإحنا يا سلمى؟ إحنا مش أهلك يا بنتي؟ أنا مش في مكان أبوكي اللي يرحمه
تداركت ما تفوهت به وعلمت أنه كان خاطئ عمها دومًا بمثابة والدها يحبها كابنته ولم يكن يريدها لـ "عامر" لأنه يخاف عليها منه:
-انتوا أهلي وكل حاجه لكن أنا عايزة أمشي.. مش قادرة أقعد هنا
أقترب وأمسك ذراعها وجذبه ناحيته ليبقى كف يدها بين يده يضغط عليه بدعم وراحة قائلًا بنبرة واثقة ولكن مُتسائلة:
-علشان عامر؟
أخفضت عينيها إلى الأرضية وتغيرت نبرتها وأصبحت مهزوزة بعد أن ترقرقت الدموع بعينيها:
-علشان كل حاجه يا عمي
ضغط على يدها أكثر وأعتدل يقف بشموخ ليظهر حديثه جادًا واثقًا وليكن قادر حقًا على فعل ما يتفوه به وهو كذلك ولكن ما وقع عليهم كان صعب للغاية:
-مش هخلي عامر يتعرضلك وهعرف أوقفه عند حده يا سلمى وطالما أنتي مش عايزاه محدش يقدر يغصبك على حاجه لكن بلاش تمشي..
رفعت عينيها المُتجمعة بها الدموع عليه وأردفت بخفوت:
-بس أنا....
قاطعها يذكرها بما لها:
-مابسش يا سلمى.. أنتي ناسية إن ليكي زينا هنا بالظبط في الشركات والبيت وكل حاجه نملكها
عارضت حديثه بهدوء:
-دي مش القصة يا عمي
انتقلت إليه عدوى البكاء ولكنه كان مُختلف عنها، جاهز تمامًا للبكاء وبقوة وقد فعلها تحت أنظارها بعد أن أصبح غير قادر على المواجهة وحده:
-عارف.. بس أنا مش عايزك تمشي.. مبقاش غيرك من ريحتهم بلاش تمشي يابنتي... كده كلكم عايزين تسيبوني لوحدي
ربتت على كتفه بيدها الأخرى ونظرت إليه بملامح حزينة مُعاتبة إياه:
-أنت مش لوحدك، طنط عزة معاك وهدى وعامر
سخر منها عند نطقها باسم ولده، استنكر وجوده من الأساس وقال بجدية يوضح لها ما تعرفه:
-عامر!.. أنتي عارفه إن عامر عمره ما كان قريب مني كان إبن ابوكي وهو الوحيد اللي كان بيقدر عليه من بعدك.. دلوقتي مافيش حد هيقدر عليه
تعرف ذلك وهو كان لا يريد الإقتراب من والده بسب نزاعاتهم الدائمة وكانت هي تحاول معه بكل الطرق ليكون جواره ويستمع إليه، لقد كان الأحب إلى والدها هي:
-قرب منه أنت يا عمي يمكن ربنا يصلح حاله
نظر إليها وهو يمسح بيده دموعه المُنهمره على وجنتيه وأقترب منها مُحتضن إياها باشتياق وحنين لأرواح من فارقوه الذي بها:
-يارب يا بنتي.. مش هتمشي مش كده؟.. خليكي معايا يا سلمى، بلاش تبقي معاهم خليكي معايا أنا
خرجت دمعة حزينة من عينيها بعد أقتراب عمها منها بهذه الطريقة والاستماع إلى صوته المتلهف الراغب لوجودها بكل الطرق، وما كان منها ألا أن توافق على طلبه:
-حاضر يا عمي.. حاضر مش همشي
كانت ستذهب لا محال ولم يكن هنا أي شيء لتبقى له ولكن عمها الطرف الأضعف بين الجميع رغم قوته وجبروته، رغم كل شيء يفعله ويحدث بينهم هو الأضعف الآن بين الجميع.. هو من هزمت عائلته في لمح البصر وأُخذ منه اثنين كانوا له العون والعائلة..
ستبقى لأجله فقط، لأجل أن تسعده برؤية شقيقه بها، ولأجل أن ترى والدها به..
❈-❈-❈
أمسكت بكتاب الله وجلست على الفراش في غرفتها بعيد عن كل شيء وفرغت بعض الوقت لقراءة القرآن الكريم لكي تجد راحتها به، لكي يربط الله على قلبها وتبقى على هذا الوضع صامدة إلى النهاية،..
فهي كلما مرت عليها لحظة وتذكرت بها والديها وشقيقها تبدأ وصلة بكاء مريرة تعكر صفو اليوم والأيام التالية له..
والأمر صعب تقبله، وثقيل نسيانه، ستبقى قوية بأمر الله إن بقيت هكذا، ستحاول دائمًا وأبدًا أن تكون الأقوى بين الجميع لتستقبل العاصفة التالية بحياتها القادمة..
مرة أخرى وفي منتصف النهار وجدت باب غرفتها يُفتح على مصراعيه وبكل عنف قد حدث ذلك ليظهر هو بجسده المتشنج الضخم يدلف إلى الغرفة وأغلق الباب بقوة اهتزت لها الجدران المجاورة له..
دلف يتقدم منها بهمجية وتشنج تحت أنظارها المصدومة من دخوله هذا، وقف على قدميه ثابتًا وحرك يده بتصميم وصوته حاد:
-اسمعي بقى سفر مافيش.. على جثتي يا سلمى فاهمه؟
تركت الكتاب من يدها على الفراش وأعتدلت في جلستها تنظر إليه بعينين ثابتة قوية لم يهزها حديثه بالمرة ولم يحرك بها شعرة واحدة:
-أطلع بره
استفزه أسلوبها البارد الذي يظهر بثقة وكأنها لا تبالي بحديثه وتقول له أفعل ما شئت، أقترب منها بغيظ مُمسكًا بذراعها جاذبًا إياها لتقف أمامه:
-سامعة؟. مافيش سفر حتى لو قلبتي قرد هنا
وضعت يدها الأخرى على كف يده المُمسك بها وازاحته عنها بقوة وحدة عنيفة، ناظرة إلى عينيه مباشرة بعينيها المختفي بريقها وأردفت بعناد وتأكيد على حديثها:
-أنا لو عايزة أمشي حالًا همشي يا عامر وأنت مش هتقدر تعمل حاجه صدقني فبلاش بقى الجو ده
حك جانب لحيته بأظافر يده اليمنى وهو يلوي شفتيه ناظرًا إليها بقوة يردف بنبرة قاسية:
-بلاش الأسلوب الوسـ* ده معايا قولتلك مليون مرة
بقيت على وضعها وهي تنظر إليه وكم كان يروق لها ما تفعله به، ليشعر بأقل من قليل الذي يفعله بها وأكملت بنفس العناد والبرود:
-أنا أتكلم زي ما أنا عايزة وأسلوبي بردو هيبقى زي ما أنا عايزة
أشار إليها بيده وحاول صدقًا أن يكون هادئ ويكمل ما بدأه معها وليكن جوارها في كل وقت ولكنها تغضبه وتخرج أسوأ ما به:
-أنا مقدر اللي أنتي فيه ومش عايز ازعلك
ابتسمت بسخرية واستهزاء ناظرة إليه من الأسفل إلى الأعلى بتقليل منه وأردفت:
-لأ زعلني، بس أنت متقدرش
عاد للخلف خطوة وقال بجدية ونبرة ثابتة محاولة البقاء كما هي أمام حديثها المستفز البارد:
-احترمي نفسك يا سلمى وبلاش عِند.. أنتي عارفه آخرته وحشه
رفعت كتفها للأعلى وأخفضته بلا مبالاة تامة وبعينين بريئة للغاية أظهرت مدى القوة التي بها وهي تُجيب:
-عليك مش عليا
ومرة أخرى توضح له بعد أن جلست على الفـ ـراش في مكانها ناظرة إليه بقوة وثبات، وقد حسمت كلماتها التي ستلقيها عليه وليفهمها كما يريد:
-وعايزة أفهمك حاجه بالمناسبة، أنت مالكش حكم عليا لا في لبس ولا في خروج ولا في كلام ولا سفر ولا أي حاجه.. ومحدش هنا ليه حكم عليا حتى عمي أنا بس هستأذنه في كل حاجه ذوقيًا مني لأنه في مقام بابا الله يرحمه
رفع حاجبيه للأعلى وأردف بلفظ بذيء في وسط حديثه:
-دا أنتي فُجرتي بقى.. طب استني يعدي على موتهم شوية وقت
وهي التي لم تشجع قول الكلمات الدنيئة من قبل أبدًا كررتها كما قالها تحرك رأسها بالايجاب تؤكد أن ما قاله صحيح غير مبالية به:
-فُجرت آه ولسه كمان دي البداية بس
ضيق عينيه وأقترب الخطوة التي ابتعدتها عنه مُتسائلًا بنبرة مستفهمة وعينيه عليها بدقة لتأخذ ردود فعلها وحركات وجهها:
-يعني ايه دي البداية؟
بادلته نظرته المحدقة بها قائلة بابتسامة خبيثة:
-يعني اللي فهمته أيًا كان هو ايه بقى
مسح على وجهه وداخله كان يحاول أن يبقى على ذلك الثبات الذي هو به بعد كل هذا الحديث الذي تفوهت به والذي لو كان في وقت آخر لكان فعل كثير لا يستطيع فعله الآن:
-نقي كلامك
-مش شغلك
ضغط على نفسه كثيرًا وإلى هنا ولم يستطع التكملة بعد نظرتها المرهقة له والتي تدل على أنه أضعف وأبعد من أن يلقي عليها أوامر، لذا عليه أن يوضح لها بعض الأمور..
أقترب في لحظة خاطفة مُمسكًا بذراعها جاذبًا إياها إليه مرة أخرى ولكن هذه المرة ثنى ذراعها خلف ظهرها وأدارها بيده لتواجهه بظهرها مقتربًا من جانب وجهها يهتف بقوة:
-لأ شغلي.. أنتي مفكرة نفسك ايه؟. أنتي ضعيفة أضعف ما يكون واخده بالك
تألمت بقوة بسبب قبضته عليها، إلى اليوم وبعد أسبوعين وأكثر تبقى آثار الحادث عليها، صاحت بقوة متألمة:
-سيب دراعي
لم يبالي بما تقوله مثلها يرد إليها أفعالها التي تلقيها عليه وهتف في أذنها وهو على مقربة كبيرة منها بجدية وثبات:
-أنتي مهما روحتي ولا جيتي بتاعتي، مراتي غصب عنك.. فاهمة
تركت ألام يدها القابض عليها وعادت رأسها للخلف لتقترب منه أكثر وعقبت على حديثه بتأكيد واثق حاد وكأنه تحول من أمير وفتى أحلام إلى جني يود خنقها:
-لو آخر راجل على وش الأرض مش هتجوزك يا عامر
أكمل على حديثها الغير مُهتم به بالمرة ولا يعطي له أي أساس وكأنه لم يستمع إليه، وقال بفحيح بأذنها وهو يضغط على ذراعها ليؤلمها أكثر:
-الكلام ده مش هياكل معايا، أنا هسيبك بمزاجي، سنة، اتنين، انشلا حتى عشرة المهم في الآخر خليكي عارفه مش هتروحي غير ليا
عاندته مرة أخرى وصرخت بقوة قائلة:
-مش هيحصل
وكأن حبه إليها توصل إلى مرحلة الجنون حقًا، منذ الصغر يحبها وهي تبادلة وكلما قال نتزوج وأقترب ميعاد الزواج تختلق شيء ليؤجل، بعد كل ما حدث بحياته وبعد أن تركت أثرها على أنها زوجته وله لن يتركها مهما حدث:
-أنا بحبك ومجنون بحبك ومش هسيبك إلا بموتي، مش بموتك لأ بموتي أنا في الحالة دي بس تقدري تكوني حرة وتشوفي غيري
أغمضت عينيها للحظة بعد كلماته التي تجعلها تشعر بالخوف والرهبة منه، وما يستطيع فعله كثير ولكنها تكذب على نفسها وعليه وتظهر القوة الهشة بداخلها:
-أنت بتكرهني فيك أكتر
ضغط على كلماته هذه المرة موضحًا إياها وهو يدرك جيدًا أنها مازالت تحبه:
-كدابة، بتحبيني وهتفضلي تحبيني لآخر يوم في عمرك.. اللي بينا مش قليل علشان يتنسي بالسرعة دي
عقبت على كلماته الغبية التي توقعها دائمًا مُردفة بقوة وكأن ما تقوله حدث بالفعل وقد تناست كل شيء كان بينهم بيوم من الأيام:
-اللي بينا نسيته في لحظة زي ما أهلي راحوا في لحظة بسببك
ضغط على ذراعها بيده بقوة كبيرة مُتعمدًا ليؤلمها أكثر من السابق وصاح في أذنها بقوة نافيًا ما تقول:
-مش بسببي.. مش بسببي أفهمي
أغمضت عينيها بقوة تعتصرهما بسبب الألم الذي يعصف بذراعها وصاحت تاركة كل ما تحدثوا به:
-سيب دراعي
لم يستمع إليها ولم يعطي لحديثها أهمية وضغط على ذراعها أكثر كما يضغط على حديثه الآن الذي يخرج من داخله بغضب جُلي بسبب عنادها:
-أفهمي إن عمك مش هيقدر يعمل حاجه معايا أنتي أكتر واحدة عارفه كده وأكتر واحدة عرفاني، أنتي ليا مهما حصل وأنا وأنتي والزمن طويل مافيش طرف تالت بينا يا سلمى
أردفت بنبرة خافتة مُرهقة، ظهر عليها الألم حقًا وتركت ما قاله ولم تعلق عليه كما كانت تفعل:
-دراعي واجعني
تركها دافعًا إياها للأمام بعنف، تقدمت لأ إراديًا بجسدها من الحائط فاستندت بيدها الاثنين عليه حتى لا تصطدم به واستدارت تنظر إليه بذهول وصدمة حقيقة، تمسكت بذراعها الذي ألمها كثيرًا ومازالت عينيها عليه لا تصدق أنه هتف بكل هذا الحديث وفعل معها هكذا!..
تركها في صدمتها تلك ولم يعطي إليها أي ردة فعل على ما تشعر به، بل أبتعد ليخرج من الغرفة ولكنه وقف في منتصف الطريق واستدار إليها قائلًا بجدية:
-أنا عملت كل اللي عليا، قربت منك بكل الطرق ووقفت جنبك في الفترة اللي فاتت مع إني أخدت كلام يسم البدن بس قولت معلش كمل للآخر
احتدت نظرت عينيه عليها وتحولت للون الأسود وأكمل بجدية قاسية عليها مُهددة بذلك الحديث:
-لكن أكتر من كده مافيش ولو فضلتي على وضعك أنا مش هفضل على وضعي لأ أنا هتحول للأسوا ومظنش إنك هتقدري تستحملي ده
ومرة أخرى بنبرة أخرى تمامًا خافتة هادئة معاتبة إياها:
-مكنتش متخيل أن أقرب حد ليا يعمل معايا كده..
فتحت عينيها الواسعة بقوة أكبر مما هي عليه وأبتعدت مقتربة منه خطوة تتحدث بثبات وتأكيد مُشيرة إلى نفسها بقوة:
-أنت هتعيش دور الضحية؟ لأ يا عامر مش هسمحلك أنا اللي اتخانت وأنا اللي اتغفلت واتغدر بيا منك وبسببك خسرت كل حاجه
أجاب بقوة هو الآخر موضحًا لها ما قاله سابقًا ولكنه هذه المرة أضاف شيئًا لم يكن يجب عليه قوله:
-أنا مغدرتش بيكي ولا خونتك أنا كنت شارب وزي زي كل الناس قاعد مع واحدة... مجبتنيش من السرير أنتي علشان تعملي هوليلة ولو جيتي للحق بقى أهلك ماتوا بسبب عنادك أنتي مش بسببي أنا
أشارت إلى نفسها مرة أخرى بذهول وصدمة احتلت كيانها فحديثه يجعلها تفقد كامل عقلها ولا تستطيع التفكير بعده:
-بسببي أنا؟
أكد سؤالها وهو يحرك يده بقوة أمامها يقف شامخًا يهتف بنبرة حادة قاسية عليها:
-آه بسببك أنتي.. أنتي اللي اصريتي تسافري وتبعدي عن الكل مع إني حاولت معاكي كتير مرة في الخفا وعشرين في العلن وأنتي مصممة زي ما تكوني صدقتي
تسائلت بنبرة أصبحت مذهولة غير مُدركة ما الذي يحدث وما الذي يجب أن تقوله وعلى الرغم من أنها تعرف إجابة سؤالها ولكنها تسائلت:
-أفضل معاك بعد كل ده؟
مسح على رأسه بكف يده وأشار بيده بعد أن اخفضها من على رأسه يتسائل بسخرية واستنكار مُتهكم عليها ويُجيب في نفس الوقت على نفسه غير مقدر لما تمر به الآن وسابقًا:
-كل ده اللي هو ايه؟.. علشان كلمت واحدة ولا اتنين؟ كل ده كلام وفي الوقت ده أنتي بتبقى مانعة أي قرب بينا حصل ولا محصلش؟ ولا قصدك إني عصبي حبتين؟ قولي متتكسفيش كل ده اللي هو ايه؟ ماهو مافيش واحد ولا واحدة كاملين
أكملت جملته بنفس الإصرار الذي عليه ولم يحرك حديثه أي عضو بها:
-ولا في واحدة تكمل مع واحد خاين
ابتسم بسخرية وأردف مُجيبًا باستهزاء:
-مع إني مش معتبر دي خيانة بس فيه.. فيه كتير بيكملوا مع خاينين
نظر إليها للحظات دون الحديث، وفي تلك اللحظات تذكر أنها الوحيدة التي كانت تفهمه من نظرة عين، تعلم ما الذي يريده قبل أن يتحدث، تعلم ما الذي يريد الاستماع إليه في كل وقت مُختلف عن الآخر، وعلى الرغم من أنهم الاثنين يتمتعون بصفات لا تطابق مع بعضها إلا أن رابط الحب كان بينهم أقوى من أي شيء..
تفوه بصوت خافت ناظرًا إليها بعينين باهتة حزينة على كل شيء معاتبًا إياها لفراقها له على الرغم من أنها تعلم أنه ليس له غيرها:
-الغريب في الموضوع إنك الوحيدة اللي ليا.. إنك الجزء الحلو وأكتر حد يعرفني وأول حد بجري عليه.. الغريب إنك ببساطة عايزة تسيبيني
لم تصدق حديثه بالمرة، لم تصدق أنه يرى نفسه بريء إلى هذه الدرجة، كيف له أن يكون هكذا؟. كيف له حقًا أن يسلب حقها في الإبتعاد والحزن على ما فعله وينسبه إليه؟..
ابتسمت بسخرية واستنكار قائلة:
-الغريب بجد إنك بجح.. أطلع بره
نظر إليها للحظة فقط ثم فعل ما أرادت وخرج من الغرفة دون التفوه بحرف واحدًا تاركًا إياها وحدها في الداخل تعيد ترتيب كلماته جميعها من جديد..
لتحاول فهم كيف له أن يأخذ دورها ويحزن هو من أفعالها التي لا تعلم ما هي من الأساس، هي كل ما تعمله أنه فعل شيء وهي قابلته برد الفعل له والمناسب لها..
❈-❈-❈
حضرت إليها صديقتها "إيناس" في المنزل كالعادة في الآونة الأخيرة، كانت تتردد عليها كثيرًا بعد ما تعرضت إليه وبقيت وحدها، لم تكن تفعلها سابقًا بل كانت تتقابل معها خارج المنزل في المطاعم والمقاهي لأنها تعلم أن "عامر" لا يطيق النظر إليها وهي تبادله نفس الشيء.. كما يقولون من القلب للقلب..
جلست معها خارج الفيلا في الحديقة بعيدة عن أعينه بعد أن علمت أنه بالداخل، تُرى لما الأسد داخله بقيٰ صامتًا بعد فعلتها!..
على كل حال هذا لا يهم، الآن هي توجد لأجل صديقتها، لأجل أن تقف جوارها في محنتها الصعبة، وتحاول معها أن تتجاوزها وتمر إلى منطقة أخرى غير تلك الحزينة التي وقعت بها وهذا ما كان أمام الجميع.. وما بالداخل سواد لأ حياة بعده..
لا تعلم أن الحزن بقلبها قد حفر مكانه وإن كانت تبتسم وتتظاهر بأن الأمر مضى، لم ولن يمضي فهي لم تخسر شيء ليس له قيمة، ولم تخسر فرد من عائلتها الحبيبة، بل خسرت الجميع كقائد دلف حرب بجيشه كله وخرج هو وحيدًا..
وضعت كف يدها على يد الأخرى تضغط عليها وكأنها تمدها بالدعم راسمة أمامها شعور القلق والأمان بذات الوقت:
-المهم تكوني كويسة يا سلمى
حركت الأخرى رأسها من الأعلى إلى الأسفل باستهزاء هاكمة وهي تقول:
-كويسة آه
ضغطت الأخرى على يدها أكثر مضيقة عينيها عليها ثم أعادت كل الحديث الذي قالته سابقًا كثيرًا من المرات:
-دا قضاء ربنا وقدره أنتي مش محتاجه أننا نفضل نقولك كده، أنتي عارفه كل حاجه وفاهمه ربنا بس بيسبب الأسباب
الإستماع إلى هذا الحديث سهل وقوله سهل، لكن الشعور به أصعب ما يكون، الجميع يكرر هذه الكلمات على مسامعها يظنون أنها لا تدري بالأمر!.. الشعور بالوحدة والألم كثيرًا عليها وتتحمله بصعوبة بالغة والألم داخل قلبها وليس مكان آخر:
-ونعم بالله، أنا راضية.. راضية بقضاء ربنا
ابتسمت إليها "إيناس" بهدوء قائلة بنبرة متعقلة:
-أيوه كده يا حبيبتي
سحبت يدها من عليها ثم نظرت إليها بدقة كبيرة قبل النطق بهذا السؤال الهام لها وبشدة:
-هو محاولش معاكي تاني؟
عادت "سلمى" للخلف تستند على ظهر المقعد، رفعت يدها تزيح خصلات شعرها للخلف صائحة بضيق وانزعاج:
-شيلينا من سيرته بالله عليكي يا إيناس مش ناقصة وجع قلب
تعلم أن الحديث في هذا الأمر يزعج صديقتها ولكنها لن تصمت، تصر على معرفة كل شيء كما كانت معها في السابق، تصر على معرفة ما يدور بينها وبينه، ذلك الأحمق الغبي:
-معلش أنا مقدره اللي أنتي فيه بس أنتي بردو لازم تاخدي قرار في حكايتك معاه.. وبصراحة كده أنا مش فاهمه أنتي إزاي مش هتكملي وتفضلي معاه في نفس البيت
أجابتها الأخرى بقوة موضحة موقفها وقرارها الذي اتخذته أمام الجميع:
-أنا أخدت القرار ومش هكمل معاه وده شيء مفروغ منه أما إني أقعد هنا فأنتي عارفة عمي رفض سفري هروح فين يعني وبعدين ده بيتي بردو
هنا بدأت ملامح وجهها تتغير من الهدوء إلى الضيق ثم في لحظة إلى الشفقة الخالصة، أخفضت وجهها إلى الأرضية ثم بنبرة خافتة وملامح بريئة بدأت بدس السم في حديثها المعسول:
-أنتي عارفه إني مش بعرف اخبي حاجه بس قعدتك هنا مع عامر في نفس البيت غلط.. ده مجنون ومتهور وممكن يعملك أي حاجه علشان توافقي ترجعيله
رفعت عينيها في لحظة خاطفة على ملامح وجه صديقتها، لم تكن تفهم ما الذي تريد أن تتوصل إليه بهذا الحديث، إنها معه منذ زمن بعيد وهي تعرف هذا لما الآن قد يتهور معها؟:
-قصدك ايه؟
رفعت عينيها هي الأخرى تقابلها بقوة وجدية كبيرة ملقية عليها الأكثر من حديثها السابقة الذي ربما يجعلها تبتعد عنه إلى الأبد:
-أنتي فاهمه قصدي عامر مش سهل يا سلمى هو آه ممكن يكون بيحبك بس الحب مش بيضعفه زي بقيت الناس ده قوي طول عمره ومهما كان ايه اللي هو عايزة بيعمله
نفت "سلمى" حديثها بقوة وضيق كبير ظهر على ملامحها، أنها أكثر من يعرفه، تعرف كيف يفكر وكيف يكون، ربما هو قاسي، عنيف، هددها بذلك سابقًا ولكن قلبه لن يجعله يفعل هذا:
-عامر مش كده أبدًا
ضحكت الأخرى بسخرية واستهزاء مُجيبة إياها بقوة وهي تُصر على حديثها الذي من المفترض أن هذا ليس ميعاده:
-أنتي بتكدبي عليا ولا على نفسك.. أنتي كنتي كل يوم في خناقة معاه
تفوت بالكلمات من بين شفتيها بضيق وهي تعود بخصلاتها للخلف مرة أخرى:
-إيناس أقفلي السيرة دي
لوت شفتيها بتهكم وأردفت قائلة بلا مبالاة:
-براحتك بس أنا صاحبتك وكان لازم أحذرك أنتي دلوقتي لوحدك قصاده
نظرت إلى البوابة الداخلية للفيلا عندما شعرت بوجوده، رأته خرج منها يسير في الحديقة متقدمًا من سيارته شامخ ثابت وكأنه لا يهتز أبدًا..
استدار بوجهه في سيره ونظر إليهم وكل منهن كان لها النظرة الخاصة بها، نظرة لحبيبته خاصة جدًا بينهم تحكي الكثير والكثير وداخلها مشاعر مدفونة تريد التحرير ولو توافق هي على ذلك لكان أسعد رجل في الحياة..
ونظرة أخرى إلى عدوة حبيبته وعدوته قبلها، يعلم أنها لا تكنُ الحب إلى "سلمى" ولو بذرة واحدة، يعلم أنها تبغضها كثيرًا وقد حذرها ولكنها توفي إليها بكل الحب القابع داخلها تجاه رابط الصداقة بينهم..
نظرته إليها كانت كريهة بغيضة، عينين حادة قاسية تُلقي عليها السلام من خلال الصمت القابع داخله، ولم يكن سلام عادي بل كان سلام بالشر..
وزعت "سلمى" نظراتها عليهم هم الاثنين، وجدته يبادلها نظرات الكره والغضب وهي الأخرى مثله تمامًا، عينيها قاسية عليه تنظر إليه بحدة ولم تخفضهما كما كانت تفعل دائمًا..
لما يتبادلون هذه النظرات القاسية؟.. لما هي لا تحبه وهو يبادلها نفس الشعور؟..
دلف السيارة وأبعد نظره عنهم ثم خرج من الفيلا بأكملها، عادت هي بنظراتها المُستفهمة إلى "إيناس" وكأنها تتسائل بعينيها عما يدور بينهم ولكن الأخرى قابلتها بسؤال بعيد عن كل شيء وللحق كانت على علم بتساؤلات "سلمى" المرتسمة بعينيها:
-هي فين هدى؟ لسه بردو حابسة نفسها؟
فعلت المثل وتركت كل ما كانت تفكر به على جانب وأجابتها:
-لأ بقت كويسة دلوقتي هي فوق
وقفت على قدميها مقترحة:
-طب تعالي نطلعلها
اومات إليها ووقفت من بعدها هي الأخرى ثم بدأت في السير متجهة إلى داخل الفيلا، السير واحد والإتجاه واحد، العقل هنا به الكثير من البراءة والآخر به الكثير من الخبث
❈-❈-❈
بعد كل ما مر عليهم، وبعد ذلك الوقت الذي حاول الجميع فيه الشفاء مما حدث، لم يتغاضى والده عن حديثه الذي ألقاه عليهم في يوم الحادث، يوم أن وقعت تلك المصيبة الكبيرة على رؤوسهم، قبل خروجه من المنزل قد هدد أنه لن يتركها ترحل مهما كلفه الأمر، لن يتركها تعبر الحدود وتمر إلى بلد أخرى وبدى واثقًا من حديثه للغاية وكأنه مُرتبًا له سابقًا..
لم يتغاضى عن نظرة عينيه ولغة جسده الواضحة المُحددة لموقفها والثابتة على رأيها، لقد ظهر جيدًا في ذلك الوقت كالنمر الهائج الذي خرج عن صمته في غابة الظلم..
والآن قبع الشك داخل قلب والده وهو يتذكر كل حركة صدرت عنه في تلك اللحظات التي مر عليها أيام وليالي، كلما تذكره في ناحية قابلته الناحية الأخرى بشك مميت يود لو يقتله، فلن يرحب بفكرة أن ابنه الوحيد هو من قام بتدبير ذلك الحادث لعمه وعائلته.. فقط لأجل ابنته!..
وقف أمام عيني والده شامخًا، واضعًا يده الاثنين في جيوب بنطاله الكلاسيكي الأنيق الذي يعلوه قميص أبيض يختفي داخل البنطال، رافعًا أكمامه إلى منتصف ذراعيه لتظهر عروق يده البارزة بقوة..
جسده ثابت شامخ أمام نظرات والده وعينيه البُنية تلمع في تلك الإضاءة العالية مثبت أبصاره عليه ولم يتزحزح عنه..
استدعاه والده وقد أتى إلى هنا في مكتبه ليقف أمامه مُنتظر أن يقول ما الذي يريده منه!.. بقيٰ الآخر جالسًا على مقعده خلف مكتبه واحتدت نظراته فقط عند ولوج ابنه عليه غرفة المكتب وقد لاحظ "عامر" ذلك الشيء ولكنه لم يعطيه أدنى إهتمام لانه يعرف طباع والده وصفاته معه..
مسح والده على وجهه بكفي يده الاثنين ثم زفر بقوة ورفع رأسه إلى ابنه ينظر عليه بثبات ليرى تعابير وجهه:
-أنت هددت قبل ما تمشي في اليوم إياه إن سلمى مش هتطلع من البلد مش كده؟
بقيٰ الآخر على وضعه ولم يحاول فهم ما الذي يريده والده من سؤال كهذا قد مر ومضى وأخلف من بعده كثير من النتائج الموجعة للقلوب:
-حصل
أتى سؤال والده هذه المرة حاد قوي واثق، عينيه احتدت أكثر وأكثر عليه وهو يلقي بتلك الكلمات:
-أنت اللي دبرت الحادثة؟
ألمه ضميره لما حدث حقًا، وشعر للحظات أنه كان السبب في ذلك ولكن ليس بهذه الطريقة المُرة!.. أخرج يده من جيوب بنطاله واعتدل في وقفته متقدمًا يسير على قدميه إلى ناحية والده وقد ظهرت ملامح الصدمة والذهول على وجهه:
-أنت بتقول ايه؟
وقف والده على قدميه وأبعد المقعد من خلفه، أبصر ولده بعينين حادة وقاسية ضاغطًا على نفسه أكثر لكي يكمل ما بدأه وليعرف هل لشكه مكان بينهم؟:
-بقول اللي سمعته.. أنت هددت أنها مش هتطلع من البلد وكنت واثق أوي ومشيت وسبتنا، كنت هتوقفها إزاي؟ قولي كنت هتوقفها إزاي إلا بالطريقة دي! الحادثة دي مكنتش صدفة ولا قضاء وقدر الحادثة دي كانت متدبرة راح فيها أخويا ومراته وابنه اللي هو جوز بنتي.. راح فيها عيلتي وأنت السبب
لم يأخد "عامر" الوقت الكافي ليفكر في هذا الحديث القاسي المُعذب لقلبه، بل صرخ بصوتٍ عالٍ في وجهه وهو يتقدم أكثر ليقف أمام المكتب مباشرة وليكن هو الفاصل بينهم:
-أنا مش مستغرب إنك تفكر فيا بالشكل ده، وآه أنا أعمل أي حاجه تخطر على بالك مش هكدب ولا هبرر حتى لو كنت معملتهاش.. لكن تيجي عند عمي اللي هو كان أب ليا قبل منك فده مستحيل، ياسين كان أخويا وعمي أحمد كان أبويا قبلك ومتنساش إن سلمى كانت معاهم في العربية يعني لو عايز أموتهم مش هعمل كده وهي معاهم..
عاد للخلف قليلًا ومازال ناظرًا إليه ولكن بعينين أصبحت ضعيفة مُنكسرة، مهزومة في واقعها، لمعتها أصبحت باهتة للغاية وهزم جسده ومال للأمام منحنيًا عليه، وبصوت أصبح خافتًا أردف:
-كنت متوقع أي حاجه منك... إلا دي
استدار بجسد متشنج ووجه عابس للغاية ليذهب من هنا، لم يكن مُتوقع أبدًا أن والده يفكر به بهذه الطريقة وبهذا الشكل المُغزي، لقد فعل كثير من الأشياء الخاطئة وأزداد في المعصية وأبتعد عن الله وأصبح لا حاكم له من هذه العائلة ولكن أن يقتلهم!.. يقتل عائلته! يقتل عمه الذي كان له الأب الأول! يقتل زوجته وأمه الثانية أم يقتل شقيقه وزوج شقيقته!.. من يقتل منهم! والمضحك حقًا ومثير للسخرية أن حبيبته ومن فعل لأجلها كل هذا كانت معهم!..
ربما كان يريد قتلها هي!.. كيف له أن يكون هكذا؟ كيف له أن يفكر به بهذه الطريقة وكيف استطاع أن يواجهه بهذا الحديث القاسي الذي هشم قلبه..
إلى هذه الدرجة يراه بشع ودنيء! يراه مُجرم! لقد كانت هذه العائلة هي صاحبة السعادة في فيلا مسكونة بالأشباح كوالده، يدفن السعادة بيده!؟..
خرج من الغرفة وهو غاضب وبشدة، قلبه وعقله وكل ما به كان على حافة الهاوية بسبب حديث ليس له أي أساس من الصحة ويالا حظه الرائع في كل مرة..
كانت هناك من تقف خلف الباب بعد أن جذبها الحديث الدائر في الداخل، أخفت نفسها عندما شعرت بخروجه من الغرفة وبقيت صامتة تهبط الدموع من عينيها بغزارة والصمت على ملامحها بينما داخلها براكين ثائرة تنوح بالداخل عن ما فعله..
أيعقل أن يكون هو من قتل عائلتهم! هو من قتل "ياسين"!. لم يشعر بالشفقة لأجل شقيقته!.. لم يشعر بالشفقة لأجلها أبدًا!.. أخذها من زوجها وجعلها أرملة في سن صغير كهذا!..
كل هذا لأجل حبيبته!.. هو المخطئ، هي لم تفعل شيء إلا ما كان عليها فعله منذ الكثير ولكنها كانت تغفر له في كل مرة وتعظم الحب الذي بينهم على حساب نفسها وسعادتها..
هو من كان السبب الرئيسي في كل ذلك!.. هل قتلهم حقًا!.. شك والده به لم يأتي من فراغ مؤكد هناك شيء يعلمه لذا قبع الشك داخله عن أنه من فعلها..
وضعت يدها على شفتيها تكتم بكائها الحاد وآلامها الذي خرجت مرة أخرى بعد أن قاربت على البدء في مرحلة الشفاء من مغادرة الحبيب والمحبوب لها..
❈-❈-❈
"يُتبع"
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا