رواية بين دروب قسوته الفصل الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم ندا حسن( جميع الفصول كامله )
رواية بين دروب قسوته الفصل الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم ندا حسن( جميع الفصول كامله )
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الحادي_عشر
#ندا_حسن
"اختارت الحُب وهو، دام الحُب ورحل هو"
صرخ بصوت عالي جهوري اهتزت له أرجاء غرفة المكتب وهو يسبها:
-اخرسي يا زبالة يا وسخـ*، ايه فكراها زيك.. مفكراني هصدقك يا حيوانه
ابتسمت بهدوء وقالت بجدية والسعادة تكبر مع كلمة تخرج منها إلى أذنه:
-مجبور تصدق يا عامر علشان ده اللي حصل فعلًا
صرخ مرة أخرى وهو لا يطيق الاستماع إلى هذا الحديث، لا يطيق وضعها في جملة واحدة مع غيره، ماذا عن الذي تتحدث عنه!:
-بقولك اخرسي.. اخرسي همـ ـوتك يا إيناس وديني همـ ـوتك
لوت شفتيها وأكملت ببرود وابتسامة شامته به وبها وقلبها يرفرف فرحًا وسعادة والحقد يكبر وبجواره الغل والكـ ـراهية:
-خليك كده مش مصدق عنها أي حاجه.. هشام دلوقتي عندكم في البيت رايح يطلب ايد سلمى من أبوك وبيعجل في الجوازة علشان اللي حصل.. بيحطوك قدام الأمر الواقع يا أهبل.. غلط معاها يبقى يشيل الليلة وده اللي هما عايزينه وأنت عبيط لسه عايز تتجوزها..
ثقلت أنفاسه بسبب ذلك الاهتياج والكلمات التي يستمع إليها تعصف بكل خلية به، عقله كاد ينفجر ولم يعد يشعر بنفسه حقًا، لكنه أردف بنبرة ثقيلة حادة غاضبة:
-حسابك تقل يا إيناس تقل أوي عندي وأنا مش هحاسبك دلوقتي.. هسيبك للناهية
أغلق الهاتف بوجهها، ونظر إلى شاشته التي أراد تحطيمها ولكن كان الهاتف يحتوي على كنز كبير سيجعل تلك الغبية تصدق حديثه وتبتعد عنها، وضع الهاتف في جيبه وتقدم من المقعد يأخذ جاكيته بسرعة وبحركات غير محسوبة..
وأخذ مفاتيحه من على المكتب ثم أنطلق سريعًا يفتح الباب راكضًا إلى الخارج تحت أعين "جومانا" المُتسائلة ما الذي يحدث..
أخذ السيارة ليعود إلى المنزل ويرى ما الذي تتحدث عنه، هل هو الآن هناك حقًا يود الزواج منها؟..
أول شيء لن يصدقها.. مهما حدث لن يصدقها، "سلمى" لا تفعل هذا.. يستحيل أن تترك نفسها لتنحدر في وادي الحرام وتكن من محبيه وزواره..
لا يعقل، لن يصدق ولن يواجهها بهذا الحديث الآن، لن يزعجها بحديث بغيض مثل ذلك ولن يفتحه أمامها سيفكر في شيء جدي لتلك الحقيرة ومن هنا سيجعل حبيبته تعلم بكل شيء.. ولكن الأكيد والمؤكد أنها لم تفعل ذلك ولن تفعله.. إلا معه
هناك شيء آخر كيف ذلك الحيوان الآخر في بيتهم يطلب يدها؟ أخذ منهم ميعاد ولم يقول له أحد؟ هل بقيت في المنزل اليوم لأجل ذلك؟ هل تريده حقًا..
أسئلة تتهاوى على عقله ولا يمتلك لها أي إجابة، يكاد قلبه يتوقف بسبب الذي استمع إليه، تشنج جسده بقوة وأصبح لا يدري ما الذي يحدث..
ولكن، هو يعرف ثلاثة أشياء فقط ويتأكد منهم كما أنه متأكد أنه "عامر القصاص" ألا وهما، أن "سلمى" لأ تفعل ذلك وأن هذه الزيجة لن تحدث وهي ستكون زوجته، وأن إيناس ستحاسب بقسوة مهما تركها تلهو معهم...
❈-❈-❈
تفهم "هشام" أن "عامر" علم بكل شيء وما كانت تضعه "سلمى" حجه أمامه قد اختفى، فانتهز الفرصة ودون حتى أخبارها بأنه قادم لخطبتها، فجأة قرر ذلك بعد أن أخذ إذن والده أن يقوم بفعلها وحده في البداية..
ثم يستكمل درب الانتقام معه، والذي سيكون شديد القسوة على الجميع وعليها هي ومن يرى نفسه رجـ ـل على الجميع..
إنها ستوافق رغمًا عنها بسبب تعليقها له كل هذه الفترة، الأمر الذي يعيق هذه الزيجة هي موافقة عمها ثم من بعده يضرب "عامر" رأسه في الحائط..
الآن هو جالس في منزلهم يتحاور مع عمها، ويراها تقف في الخارج تكاد تدلف توبخه أمام الجميع على هذه الحركة الصبيانية..
لقد علمت من "هدى" التي صعدت إليها تقول بأن "هشام" ذلك الذي تحدثوا عنه في الأسفل يريد الزواج منها، عقلها توقف للحظات عن العمل، كيف أتى دون اخبارها؟.. كيف يقوم بالتقدم لطلبها دون أن توافق من الأساس!..
لما وضعها في هذا الأمر الصعب، يضعها أمام الأمر الواقع وأمام الجميع حتى لا تستطيع أن تضع له حجه بعد اليوم.. ولكنها لا تريد!.. لا تريد الزواج منه!..
هذا العقل المشوش والقلب الخائن لا ينفعوها بشيء، لا ينفعوها بشيء أبدًا، واحدًا منهم يطالب بالزواج منه وهو لا يرغبه من الأساس والآخر يطالب بالعودة إلى الخائن الآخر الذي مثله..
استمعت إلى صوت عمها الجدي الهادئ في نفس الوقت:
-وأنت جاي من غير والدك ليه
رفع "هشام" وجهه المهذب الهادئ إليه وأجاب بصوت عاقل رخيم، الجميع هنا يجيد التمثيل ولديهم خبرة به:
-بصراحة أنا جاي أخد الموافقة المبدئية منك وبعد كده والدي هيجي معايا في الزيارة الجاية إن شاء الله
ضيق "رؤوف" عينيه عليه، وعقله به الكثير من التساؤلات عندما أدرك من هو "هشام الصاوي" لقد كان غافل عن الإسم وما خلفه، لأ يدري كيف لم يفكر في الأمر ولم يخطر على باله سابقًا، هل هذا من أحكام السن؟ أو من كثرة هموم عائلته! ولكنه عندما عرف نفسه إليه أدركه جيدًا وشعر بالخوف للحظات على ابنة شقيقه وهو ينظر في ملامح ذلك الشاب:
-وأنت واثق إنك هتاخد الموافقة؟
ابتسم بثقة وعينيه ثابتة عليه ثم أجابه:
-أنا واثق من رأى سلمى بس فاضل حضرتك طبعًا الرأي الأهم
يتحداه، إنه يعرف هذه النظرة جديًا، يقول شيء وداخله غيره والآن ازداد الخوف أكثر من ناحيته وتذكر أشياء مدفونه من الماضي، يبدو أنها تريد الخروج، تفوه عمها بجدية:
-أنا رأي هيكون على حسب مصلحة بنتي.. سلمى
أومأ إليه الآخر بنفس الابتسامة وهو ينظر إليه بهدوء:
-أكيد طبعًا
كاد أن يتحدث "هشام" مرة أخرى ولكن صمت الجميع وهم يستمعون إلى صوت وقوف سيارة بقوة، يصدر عنها صوت مُرتفع أفزع الجميع لوهلة وجعلهم في حالة صمت..
فتح باب الفيلا ودلف إلى الداخل بهمجية واهتياج وازداد بعد رؤيته للسيارة في الخارج، وقف في الردهة ونظر إليها بعمق وقوة ضاغطًا على أسنانه بعنف ووالدته تجلس في صالة الفيلا مع شقيقته خلف "سلمى"..
بادلته النظرات، ولكنها خائفة، مُتوترة مُرتبكة من كل ما يحدث ولم تكن تتوقع أن آخر ما ينهي ختام هذه الليلة هو حضور "عامر" وذلك الأبلة في الداخل..
وقف للحظات ينظر إلى عيناها يعيد على عقله وهو يرى تلك النظرة البريئة أنها لا تفعل ما قالته صديقتها، لا تخونه، لا تخون عائلتها ونفسها، ليست بلهاء لتقدم نفسها إليه بهذه الطريقة..
أخفض عينيه من عليها وسار إلى الداخل، توجه إلى غرفة الصالون ودلف إليهم ليراه يجلس مع والده، كانت الدماء تغلي وتفور داخل عروقه وقلبه ينبض بقوة وجسده بالكامل يريد أن يتعامل مع البشر بعنف وهمجية لأجل كل ما استمعه ويراه الآن ليس لأجل شيء واحد..
سار في الغرفة ببطء بعد أن وضع يده في جيوب بنطاله ثم أردف ببرود تحلى به بعد التفكير قليلًا:
-إحنا عندنا ضيوف ولا ايه
والده يريده الآن، يريده وبشدة، فور أن دلف ونظر إليه شعر أن الخوف الذي انقض عليه لن يجعله يذهب إلا "عامر"، وهو والده دوره أن يسانده في قراره الذي سيتخذه الآن ويرفض ذلك الشاب..
أردف بهدوء وهو يشير بيده إلى "عامر" الذي كان ينظر إلى الآخر:
-أقعد يا عامر عايز أخد رأيك
نظر عامر إلى والده باستغراب، أولًا بسبب نبرته الغريبة ثانيًا لأنه يريد أن يأخذ رأيه في زواجها!.. مستحيل، جلس "عامر" فقط لأجل نظرة والده إليه، فقال مرة أخرى:
-ده هشام الصاوي طبعًا أنت عارفه.. جاي يطلب ايد سلمى، أنت رأيك ايه يا عامر
نظرة والده ذات مغزى، سؤاله خلفه شيء، ما يحدث ليس طبيعي، نظر إليه بقوة يحاول أن يفهم ما الذي يريد الوصول إليه ولكنه في النهاية أجاب بعد أن نظر عليها في الخارج:
-مش موافق
عاد والده بظهره للخلف ونظر إلى "هشام" الذي كان يريد الفتك بابنه، هتف بهدوء وصوت جدي عاقل:
-عامر ابني هنا الكل في الكل.. مش بقولك إن كلامي مابيمشيش لأ، كلامي بيمشي بس عامر ليه نظره في الناس وفاهم الدنيا والبشر.. وأنا للأسف مش هقدر أخالف كلمته.. طلبك مرفوض
اعتدل "عامر" في جلسته، اتسعت عيناه على والده، حديثه كاذب، كل ما قاله كذب، إنه لا يستمع لأي حديث منه، لما يفعل ذلك؟ لقد قال إنه سيزوجها لمن تريد وسيقف أمامه إلى الممات ويدافع عن ابنة أخيه، لما جعله يرفضه ووافق هو الآخر..
وهي في الخارج شعرت بالذهول، عمها يتفوه بحديث غريب لم يحدث سابقًا، لم تتوقع من الأساس أن يسأل "عامر" عن رأيه في الزيجة، أتى الرفض في صالحها لأنها تراجعت عن الزواج به ولكن ما الذي يحدث حقًا..
اشتعلت النيران داخل "هشام" وهو يرى ذلك العجوز يقوم بترتيب لعبة لأجله، يحققها مع ابنه الذي لا يطيقه من الأساس، يقفون أمام مخططه هؤلاء الاثنين وهو لن يسمح بذلك..
أردف بقوة ونبرة واضحة مؤكدة أن حديثه صحيح ناظرًا إليه بعينين قوية حادة:
-سلمى اللي هتتجوز مش عامر.. يعني رفضه مايهمنيش مادام صاحبة الأمر موافقة
كاد أن يتحدث "عامر" ولكن والده سبقه بالحديث بثقة:
-وأنا لو جبت صاحبة الأمر وقولتلها إني رافض مش هتكسر كلامي
ابتسم بسخرية وقال:
-معتقدش
نظر إليه "رؤوف" بتحدي واضح ثم صاح بصوت عالي مناديًا باسمها، أجابته من الخارج ثم دلفت ببطء وارتباك
سألها بوضوح وقوة وعينيه على ذلك الذي لم يرتاح لدلوفه منزلهم منذ النظرة الأولى:
-أنا رافض الجوازة دي.. عندك مانع يا سلمى ولا اعتراض على رأي.. قولي ومتخافيش أنتي عارفه إن ليكي حرية الإختيار
نظر إليها "هشام" وكان يشعر بالنصر لأنها لن تخذله ولكن عند الاستماع إلى حديثها الجاد الذي خرج من بين شفتيها بارتجاف:
-لأ يا عمي الرأي الأول والأخير ليك أنت
وقف "عامر" على قدميه وأشار لها بالذهاب ففعلت ثم أشار للآخر قائلًا:
-ورينا عرض كتافك
وقف على قدميه، وعينه مثبتة على "عامر" بقوة وقسوة، والشراسة تندفع من داخله ناحيته..
لقد أنهى المهمة الخاصة به بكلمتين فقط؟ وتلك الحقيرة هدمت كل ما بناه هو بالخضوع إلى رأي عمها العجوز!.. تحولت نظرته من الهدوء والاحترام إلى نظرة شرسة عنيفة وملامحه تغيرت بالكامل تدل على الشر الخالص القابع داخله..
كل هذا رآه "عامر" وكان يعلم سببه جيدًا بينما والده نظرته ابتعدت إلى مناطق أخرى ربما يعلم تفاصيلها أكثر منهم..
سار "هشام" خارجًا من الغرفة بخطوات ثابتة قوية تهتز لها الأرضية، وقف على أعتاب الباب بعد أن خرج منه ينظر إليها على جانبه الأيسر تجلس مع زوجة عمها وابنته، ابتلعت ريقها ونظرت إليه بتردد وارتباك فبادلها نظرة حادة غريبة ثم استكمل طريقة مُقررًا داخله أنه لن يترك الأمر يفلت من بين يده..
لن يتركها له بهذه السهولة.. وسيحقق انتقامه مهما كلفه الأمر..
خرج عمها من الغرفة ومن خلفه ابنه، سار إلى أن وقف أمامها فوقفت هي الأخرى بوجهٍ باهت تطالعه بعينين ذابلة فقال هو بجدية يتخللها الحنان:
-هتكلم مع عامر شوية وأجيلك يا سلمى.. أنا عايزك
أومأت إليه برأسها موافقة على الرغم من استغرابها واستغراب الجميع لما يحدث بين "رؤوف" و "عامر" لأول مرة يطلب التحدث معه ولأول مرة يجعله يتحكم في أمر ما خاص بابنة أخيه.. الأمر داخله شيء مخفي..
سار إلى غرفة مكتبه وخلفه "عامر" الذي لم يكن يقل استغرابه عن أي شخص منهم..
أغلق باب المكتب من خلفه، جلس والده على الأريكة به فدلف إليه "عامر" يشاركه الجلسة..
نظر إليه للحظة ولم يكمل الأخرى إلا وهو يهتف مُتسائلًا باستفهام عاقدًا ما بين حاجبيه:
-ليه عملت كده؟ أنا مش فاهم حاجه
علق نظره بعينيه وهو يجيب على سؤاله بجدية وعقلانية كي يقنعه:
-مش مرتاح للولد ده ومش هرتاحله وخصوصًا إنه من عيلة الصاوي
ضيق "عامر" عينيه على وجه والده ولم يدلف حديثه عقله، أجابه مُعقبًا على حديثه بجدية هو الآخر:
-ما إيناس صاحبتها ومن عيلة الصاوي وياما اعترضت على ده وأنت ساكت والكل كده
أشار والده بيده وهو على اقتناع تام أن "إيناس" مهما كانت سيئة لن تستطيع أن تفعل لها شيء سيء بينما هو يستطيع أن يفعل كل شيء:
-إيناس غير الولد ده.. كفاية أنها لوحدها يعني مش عايشه معاهم وأهي في الأول ولا الآخر بنت متعرفش تأذي سلمى غير أنها كويسه معاها.. لكن الولد ده لأ
تسائل "عامر" مرة أخرى وهو يريد معرفة كل شيء:
-وأنت ايه اللي يخليك تقول كده؟
لا يريد والده الاستماع إلى كثير من الأسئلة لأنه لن يجيب عليه ولا يريد النبش في أشياء قديمة وهو يعلم عقلية ابنه كيف تكون:
-شكلك رجعت في كلامك، أسألتك بتقول إنك موافق على جوازها منه
نفى الآخر سريعًا بعنف فور الاستماع لكلمات والده:
-لأ طبعا أنا مقولتش كده
تسائل والده مرة أخرى:
-اومال ايه الأسئلة دي
اعتدل "عامر" في جلسته ونظر إلى والده بعمق ثم طرح عليه ما يريد معرفته منه وما جعل عقله يشعر بالاستغراب:
-عايز أفهم ليه رفضته، وليه عاملتني قدامه كده مع إنك كان ممكن ترفض من غير أي تدخل مني
أجابه بصدق وجدية يبادله الحديث كي يتفهم الوضع كيف يكون وما الذي يريد والده فعله حتى لا يخطأ ويحدث أمر آخر:
-قلقان منه وعايزاها تبعد عنه بأي طريقة وأنت الوحيد اللي تقدر تعمل كده بعيد عن أي خلاف بينا، وعملت معاك كده علشان اوريله إنك معايا وواقف في ضهري وأنا في ضهرك.. أكيد هو عارف كل حاجه عننا شكل علاقته بسلمى من زمان
هنا علم "عامر" أن والده يعلم جيدًا أنه الوحيد الذي يستطيع إبعاد "سلمى" عنه ويعلم أيضا أن القوة كامنه بيده هو ومن دونه سيكون الأمر صعب، عاد للخلف مُتسائلًا:
-اعتبر ده موافقة مبدئية على جوازي منها
نفى حديثه بجدية دون خوف منه أو تراجع عما قاله سابقًا هو وابنة أخيه الذي يعتبرها أهم من أبنائه الآن ويريد الحفاظ عليها:
-لأ طبعًا، أنا رفضت الولد ده لمصلحتها وطول ما هي رافضة الجواز منك أنا كمان رافض واللي هي عايزاه هيحصل بس أكون مطمن عليها..
ابتسم إليه بيقين أنه هو من سيتزوجها وقريب للغاية، ثم اتسعت ابتسامته وهو يفكر في كل لحظة مرت عليه هو ووالده وهم مُبتعدبن عن بعضهم وهناك فجوة بينهم، ثم الآن الأمر يختلف كُليًا:
-موافقة سلمى عليا جاية جاية.. المهم دلوقتي إني عرفت المعنى بتاع مثل أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب
وقف "عامر"على قدميه يود الرحيل بعد أن فهم ما الذي من المُفترض أن يفعله هو ولما فعل والده ذلك، ولكن والده استوقفه وهو يتوجه ناحية الباب قائلًا بصوت خافت حزين:
-عامر.. خد بالك منها وبالراحة عليها.. أنا هعتمد عليك
استدار له "عامر" نظر إليه للحظات وهو يعيد نبرة صوته داخله يستمع إليها مرة واثنان واستنتج أنه خائف، قال بجدية وعينين حادة تتعمق به:
-كلامك مش مريحني
ابتلع والده ما وقف بحلقه ثم عاد إليه بنبرة جادة قائلًا:
-لأ ارتاح.. أنا بس حابب أعتمد على ابني وفي الفترة دي هنسى كل خلاف بينا وأفتكر مصلحة بنت أخويا بس، ياريت تعمل زيي
أومأ إليه بهدوء ثم استدار يستكمل سيرة إلى أن خرج من غرفة المكتب، لم يدلف حديث والده عقله، ما به "هشام الصاوي" يجعله يرفضه هكذا ويريد لها الإبتعاد عنه، إنه كان يعلم بالأمر لما الآن فقط فعل هذا؟ لا يدلف حديثه إلى عقله أبدًا وإلى الآن يفكر ما الذي قد يكون حدث منه ليجعل والده هكذا!..
إنه متيقن أن هناك شيء ما جعله يحتاج إليه ليقف جواره في مثل ذلك الموقف التافهه الذي لو كان قام بدوره فيه وحده لانتهى الأمر قبل بدايته...
سار صاعدًا إلى غرفته في الأعلى وعقله يعمل بجدية على استنتاج أي أمر يجعله يفهم ما الذي يحدث، لأنه يعلم أن والده لن يصارحه بهذه السهولة..
❈-❈-❈
جلست "سلمى" في غرفتها بعد صعود زوجة عمها وابنتها إلى غرفهم، ذهبت هي الأخرى إلى غرفتها وجلست بها، تفكر فيما فعله "هشام" وما فعله عمها وتلك الأحداث التي أتت خلف بعضها هكذا دون سابق إنذار وقبل أن تخطط لأي شيء..
ربما ما فعله "هشام" كان مناسب لجعلها تتفهم ما الذي تريده هي، لقد كانت موافقة عليه وتود الإرتباط به على الرغم من أنها تحب "عامر" وتريده هو لكن ما بقيٰ منها يرفض ذلك فتركض بخبية أمل ناحية الآخر لتكمل ما بقيٰ من حياتها معه على أمل أن
تحبه يومًا ما..
ولكن حضور "هشام" المفاجئ إليهم ليتقدم لخطبتها جعلها تستفيق مما كانت به وأشعرها بالرهبة والخوف مما تفعله ومما هي قادمة عليه، كيف لها أن تكون بهذه الحقارة؟ تعشق رجـ ـل وتريد الزواج من آخر؟ وما ذنبه هو ليتحمل إمرأة خائنة القلب مثلها؟ ما ذنبه ليبقى معتقدًا أنا تحبه وتهواه من قلبها وذلك القلب الخائن من الأساس مع رجـ ـل آخر!..
لا تريد ذلك، لا تريد الزواج منه، هي لا تحبه، لا تريد تكملة دربها المفقود معه، قلبها إلى اليوم لم يجد أحد آخر غير الخائن حبيبها السابق ليكمل معه ذلك الدرب ومنذ الفراق وهو مفقود..
ما توصلت إليه اليوم وكان من أهم الأشياء التي حدثت أنها لا تريد الزواج من "هشام" تراجعت عن ذلك ولن تفعلها حتى لا تظلم نفسها وتظلمه هو من قبلها بزواجه من خائنة..
بينما ما فعله عمها لا تدري ما الغرض منه، ولما رفضه بهذه الطريقة؟، ولما الآن فقط وأمامه أقترب من "عامر"؟ تساؤلات كثيرة داخل عقلها ليست حاصلة على أي إجابة وربما لن تحصل ولكنها تريد أن تفهم لما قد يحدث كل هذا!..
قبل أن تكمل تفكيرها دق باب الغرفة، تقدمت ثم فتحته فطل من خلفه عمها، فتحت الباب إلى آخره وأشارت إليه بيدها ليدلف إلى الداخل ففعل وتوجه ليجلس على الفراش فبقيت هي واقفة على قدميها تنتظر منه الحديث..
لكنه أشار إليها لتأتي وتجلس جواره، تقدمت ببطء وفعلت كما طلب منها ثم نظر إليها وأردف بصوت هادئ حنون:
-سلمى يا حبيبتي أنتي عارفه إني عمري ما ازعلك ولا أاذيكي.. أنا بس عايز مصلحتك وأنا شايف أن مصلحتك مش مع ده
أردفت بجدية ويقين أنه يفعل ذلك لأجل الحفاظ عليها ولكن في تلك اللحظة داهم عقلها سؤال ألقته عليه:
-وأنت عارف إن عمري ما أكسرلك كلمة لأني عارفة ومتأكدة إن اللي بتعمله لمصلحتي.. لكن سؤالي هنا عايز تجوزني لعامر؟
رد رافضًا ما قالته بقوة داعمًا موقفها مهما كان:
-لأ طبعًا طول ما أنتي رافضة عامر أنا رافضة ومش موافق على جوازك منه
رفعت حاجبيها للأعلى وتسائلت باستغراب بعد تفهمها أنه مازال رافضًا زواجها من ابنه:
-طب أنا عايزة افهم ليه رفضت هشام؟ وايه اللي خلاك تقرب من عامر بالطريقة دي فجأة كده؟
أجابها بما صرح به لابنه بالأسفل وأكمل حديثه مُتسائلًا باستفهام:
-هشام ده مش سالك وأنا مش مرتاح ليه نهائي، تعرفي إن ده أكبر منافس لينا؟
تذكرت أن "عامر" كان قد قال لها هذا الحديث سابقًا ولكن ما دخلها بكل ذلك:
-عامر كان قالي قبل كده، بس أنا ماليش علاقة بأي حاجه بتحصل
استغرب كيف لها أن تقول هكذا، أنها هنا تمتلك مال وبيت وأسهم في الشركة كما الجميع، أوضح لها قائلًا:
-مالكيش إزاي يا سلمى.. أنا خايف عليكي صدقيني الناس دول لو وصلت معاهم للقـ ـتل علشان مصلحتهم يعملوها
اتسعت عينيها أكثر عن وضعها الطبيعي وتسائلت برهبة:
-يعني ايه؟
وضع يده فوق كف يدها الموضوع على ركبتها وقال بجدية مُحاولًا معها إلى أن تتفهم حديثه وتقتنع به:
-يعني اللي سمعتيه يا سلمى، هما مش زينا وعمرهم ما هيكونوا زينا، أنتي فكرك أنا ساكت عن إيناس ليه وأنا عارف إن عامر معاه حق؟
أكمل بجدية وهي تنظر إليه تستفهم من حديثه أي شيء:
-إيناس مهما راحت ولا جت مش هتعرف تعمل معاكي أي حاجه ولا توديكي في طريق غلط لأن أنا عارف تربيتنا عاملة إزاي.. لكن دلوقتي أنا ملاحظ إنك بداتي تتخلي عن مبادئك
أنكرت ما قاله بشدة ودافعت عن صديقتها وابن عمها أمامه ولم تكن تعلم أنها بلهاء تدافع عن من يريدون إلحاق الأذى بها:
-لأ يا عمي أنا متخلتش عن مبادئ اللي حصل كان غلطة وإيناس بنت كويسه حتى هشام مشوفتش منه حاجه وحشه
أردف بصوت جاد وبه بحه من الرجاء الخالص لها:
-سلمى أبعدي عنه الولد ده وخلي علاقتك بايناس محدودة.. علشان خاطر عمك يا سلمى أنا خايف عليكي
وقفت على قدميها تنظر إليه وعقلها لم يستوعب أي كلمة مما قالها، هتفت بجدية شديدة وهي تتسائل بضيق وانزعاج لما يحدث وهي لا تفهم شيء:
-خايف عليا من ايه أنا مش فاهمه حاجه.. عمي أنت كلامك من الشرق والغرب وبجد مش فاهمه فيه ايه
رد عليها بتفهم وجدية واضحة مؤكدة حديثه السابق مرة أخرى:
-اللي قولته واضح يا سلمى، ناس مش كويسه يمكن طمعان فيكي يمكن ليه غرض تاني المهم أنهم مش كويسين أنا عارفهم يابنتي..
أكمل بهدوء لكي تقتنع أنه لا يغصب عليها في شيء وأن لها حرية الإختيار:
-أنا لسه عند رأي اللي أنتي عايزاه هيحصل ولو مش عايزة عامر يبقى لأ وليكي حرية الإختيار لكن ده لأ يا سلمى لأ
وقفت أمامه ونظرت إليه للحظات، ترى صورة والدها به، إنه يحبها ويستحيل أن يلحق الأذى بها ويعرف ما الذي يتحدث عنه، لو كان والدها لسارت خلف حديثه وهي مغمضة العينين ولأنه شقيقه ستفعل ذلك:
-على الرغم من أني مش مقتنعة بالكلام ده لكن كلامك هيمشي
وقف على قدميه وأقترب منها مُحتضن إياها وهو يحمد الله داخله أنها اقتنعت بحديثه لكي تبتعد عن ذلك الشاب الذي يشعر أن الخراب سيأتي من أسفل رأسه:
-هي دي بنتي
بقيت للحظات ساكنة في أحضانه ولكن عقلها لم يهدأ أبدًا...
بعد خروج عمها من الغرفة استمعت إلى صوت رنين هاتفها، تقدمت منه لتراه هو "هشام" يهاتفها..
أخذت الهاتف وقامت بالايجاب عليه ثم رفعته على أذنها ولم تتحدث بحرف واحد إلا وكانت تستمع لصوته الغاضب عبر الهاتف:
-ايه اللي عملتيه ده.. بعد ما أعملك مفاجأة علشان افرحك وأجي اخطبك ترفضيني عادي كده علشان خاطر عمك وابنه
أجابت على حديثه بجدية وعينيها تدور في المكان من حولها قائلة بقوة وتأكيد:
-أنا مرفضتش أنا وافقت على كلام عمي لأني مقدرش أكسر كلامه.. عمي هنا يبقى مكان بابا وهو ولي أمري
صرخ بعنف وهو يهتف بقوة عبر الهاتف وكانت شرارات الغضب تقطر منه من كل جانب بسبب فشل مخططه:
-يعني ايه ولي أمرك هو أنتي عيله أنتي عندك ستة وعشرين سنة بلاش شغل عيال صغيرة
ضغطت على حديثها الجاد حرف خلفه الآخر كي يلزم حده معها:
-كلمني بأسلوب كويس ووطي صوتك
مرة أخرى يهتف بنبرة حادة وفي نهاية حديثه يتسائل باستغراب وقوة:
-أنتي خليتي فيها كويس.. أنا مش متخيل إزاي قدرتي توافقي كده بسهولة معقولة أنتي بتحبيني.. معقولة!
صمتت للحظة كانت بها لا تعرف ما الرد المناسب على حديثه الحقيقي، تقول أنها لا تحبه حقًا؟ أم تكمل في الكذب وتقول أن هذه رغبة عمها:
-هشام الموضوع مش كده
استمعت إلى صوته الحادة الذي تسائل بقوة وغل استشعرته به:
-لأ كده وأبو كده.. ولا تكونيش لسه بتحبي عامر
ضغطت على نفسها لتكمل ذلك الحديث الكاذب، فهي لن تستطيع أن تعترف بما فعلته ستكون خائنة وهي تعرف جيدًا معاناتها كيف تكون:
-أنا لو بحب عامر مكنتش هوافق على جوازنا
صرخ مرة أخرى بصوته الحاد على ذكر ابن عمها وقال بقوة واستغراب حقيقي لأنه كان متوقع أن توافق عليه دون تفكير:
-واديكي رفضتي وابن عمك عامل نفسه كبير عليكي وبيرفض بقلب جامد وأنتي ساكتة.. إزاي مش عارف
جلست على الفراش بضعف ثم أجابته بقلة حيلة وضيق شديد احتل كيانها:
-أنا مكنش ينفع أكسر كلام عمي يا هشام.. صدقني غصب عني اللي حصل ده
هددها وبنرة حادة وهو يعلم أثر كلماته عليها الذي سيخفيها بعد قليل وكأنها لم تأتي ولكن ستزرع الرهبة بها:
-كلميه وقوليله إنك موافقة على الجواز مني وبتحبيني وإلا مش هيحصل كويس
للحظة شعرت بالخوف واستمعت إلى كلمات عمها المحذرة إياها منه في أذنها ولكنها تسائلت باستنكار:
-قصدك ايه
أصبحت نبرته لينة ضعيفة، رخيمة تحمل إليها الحب والحنان وما بدر منه ما هو إلا غضب لأجل سرقـ ـتها منه:
-قصدي إني بحبك يا سلمى وأنتي عارفه كده، وعارفه بقالي قد ايه بصبر نفسي علشان تكوني ليا ومعايا وبعد كل ده نبعد كده عادي
حاولت الحديث والبدأ باعتراف كي تستطيع أن تكمل:
-أنا آسفة بس...
مرة أخرى يلعب على ذلك الوتر الحساس وهو يڨاطعها:
-مابسش أنا مستعد أجي مرة تانية وانسى كل اللي حصل علشان خاطرك.. علشان نكون مع بعض
يعلم أنها تحب "عامر" ولكن يعلم أيضًا أن ضميرها لا يتركها يوميًا بسببه، بسبب أنها جعلته ينتظرها منذ عام على أمل الزواج منها، لن تكسر خاطرة وتكون خائنة كما "عامر":
-أنا مش هقدر استغنى عنك بالسهولة دي يا سلمى.. مستحيل أنا حياتي كلها واقفة عليكي دلوقتي وأنتي كنتي موافقة من الأول مكنتش أعرف إن كل ده هيحصل
أجابته بقلة حيلة وهي ترى نفسها المخطئة هنا:
-ولا أنا كنت أعرف إن ده هيحصل
تحدث بجدية وقوة قائلًا:
-يبقى تتصرفي.. أنا أبويا وافق على الجواز وسألني ومقولتش أنه رفض أنا قولت إنكم هتفكروا ياريت بقى تخلصي الموضوع ده
أومأت برأسها عدة مرات وكأنه يراها ثم نطقت بكلمة الموافقة من بعدها تهربت لإغلاق الهاتف:
-طيب.. أنا هقفل دلوقتي
فعلتها دون حتى الاستماع إلى حديثه، أنها الآن في موقف لا تحسد عليه أبدًا، لقد وقعت في شر أعمالها، كانت تحاول أن تنساه فجعلت غيره يقع في حبها وهي تمادت في الأمر وجعلته يتعلق بها إلى درجة بعيدة وأصبح البعد عنه شيء صعب عليها للغاية
ضميرها لن يتركها ترتاح لأنها من فعلت به ذلك وفتحت له الطريق للإقتراب منها وهي من أعطته الموافقة في بداية الأمر وجعلته يتعايش على أمل الزواج منها..
لم تكن تعلم أنها ضعيفة إلى هذه الدرجة وستعود عما كان في رأسها وتتطالب بشخص غيره وغيره وغيره إلى أن تصل إلى مرادها المرفوض "عامر"
ليتها رحلت مع من رحلوا منذ عامين، كان الوضع سيكون أفضل من هذا بكثير.. على الأقل لن تكون وحيدة إلى هذه الدرجة..
ليتها تستطيع أن تفهم لما عمها قام بفعل ذلك، ولما تحدث عنه هو ووالده بهذه الطريقة لأول مرة، ولأول مرة بحياتها تراه يتحدث عن أي أحد بالسوء من الأساس، ليتها تستطيع أن تغير ما حدث وما فعله الجميع..
ليتها تستطيع أن تنزع حب "عامر" من قلبها وتضع ذلك الأحمق الآخر مكانه لتستطيع أن تقف في وجه الجميع وتطالب بالزواج منه مهما كانت العواقب..
الشجاعة مسلوبه منها لفعل أمر كهذا والأسباب كثيرة كأنها لا تحبه من الأساس، كأنها لا تريد الزواج منه، كأنها لن تجعل حديث عمها يضرب به عرض الحائط لأجل سواد عيناه..
يطلب منها حل وينتظرة، ما الذي بيدها تفعله؟ لقد وافقت على حديث عمها بل وقالت له أنها ستبتعد عنه من الأساس، وحتى لو لم تقول هكذا ولم يفعل عمها هذا من البداية، "عامر" لم يكن ليتركها تفعل ما يحلو لها معه، لم يكن ليتركها تذهب وتخرج هكذا دون وقفة حادة منه معها، هو من الأساس يتحدث عن الزواج منها بكثرة هذه الأيام وقلبها يرتاب منه ومن أفعاله الدنيئة التي اعتادت عليها..
أتدري ما عليها فعله! الانتظار.. حقًا هذا هو..
أن تجلس بهدوء وحدها في ركن بعيد عن الضجيج المزعج منتظرة العاصفة المُدمرة، التي ستسلب منها كل ما بقيٰ، أو تعطيها حتى ترضى
❈-❈-❈
"اليوم التالي"
وقفت "سلمى" في غرفة المكتب التي كانت تخص والدها الراحل، وقفت في أحد زوايا الغرفة أمام مكتبة الكتب الخاصة به، تنظر إليها بعينين ذابلة حزينة، توزع نظراتها عليها وهي غير واعية لما تبصره من الأساس..
عقلها منشغل بما حدث معها، وما الذي عليها فعله بعد ليلة أمس وأحداثها الغريبة كُليًا، كم تحاول تصفية ذهنها وعدم التفكير في أي شيء يجعل رأسها يداهمه الصداع الشرس الذي ينهش به..
مدت يدها وأمسكت بكتاب من بين الكتب الموضوعة على رفوف المكتبة أمامها.. أمسكته تنظر إليه بعينيها ثم مرة أخرى وضعته في مكانه بضيق وتشتت واستدارت بجسدها تعود للخلف ذاهبة لكنها اصطدمت به!..
منذ لحظات وهو يقف هنا خلفها مباشرة يتابع ما تفعله، تأخذ الكتب وتضعها مرة أخرى في مكانها، يبصر بعينه خصلاتها السوداء اللامعة بالبُنية، يبصر كل زفره ضيق ويستمع إليها مُستمتعًا بأي حركة تصدر عنها، يستنشق عبيرها الرائع الذي يدغدغ أنفه كلما تحركت خطوة بسيطة..
استدارت تذهب لكنها تعثرت به، وجدته جسد صلب شامخ يقف أمامها ولا يفصل بينهم شيء، عادت للخلف خطوة واحدة لترى أن المكتبة خلف ظهرها فلم تستطع الإبتعاد أكثر عنه..
بنظرة من عينيها على خاصته قد ظهر له أنها لا تفكر في أي شيء الآن، نظرة واحدة فقط فهم منها وأدرك أنها حتى لا تريد التفكير، تبدو مُشتتة، حزينة وهو أتى ليزيدها حزنًا ثم سيسلبة منها مرة واحدة دون أي إنذار..
بقيت تنظر إليه، عينيها تبادله النظرات الحزينة، الضعيفة، أزاحت كل شيء عن عقلها وبقيت تنظر إليه، هل هذا يكفيها منه؟ بعض النظرات فقط؟..
تنهدت بعمق أمامه مغلقة عينيها بهدوء ثم فتحتهما وأشارت إليه بيدها قائلة بنبرة خافتة:
-عديني
أخذ دورة للتعمق بنظراته عليها وخاصة عينيها ذات اللون الزيتوني، وقال بجدية مُلقيًا حديثه عليها:
-استني.. عايز أتكلم معاكي
أجابته بهدوء كما هي تبصره بدقة:
-نعم
أردف بجدية شديدة ووضوح تام وبعينين قوية فعلها ناظرًا إليها:
-أظن كده كفاية أوي.. إحنا لازم نتجوز
فتحت عينيها المُتسعة عليه بصدمة وذهول تام، كيف له أن يكون هكذا؟ يتحدث وكأن الأمر حتمي ويجب فعله، ابتسمت بسخرية لاذعة ثم قالت:
-مين قال إنه لازم؟ ومين قال إني هتجوزك يا عامر... أظن أن أنا وأنت والعيلة كلها في غنى عن كلامي اللي بقوله كل شوية واللي هو إني مش هتجوزك مهما حصل
عاد للخلف خطوة بعد أن وضع يده داخل جيوبه ثم أعطاها ظهره قائلًا بتأكيد وثقة:
-ده كلام فارغ مش هيحصل منه حاجه
أطلقت الكلمات منها بعنف بعد أن أغضبها حديثه الذي يصر عليه:
-هتتجوزني غصب؟
استدار بهدوء تام ونظر إليها بعينين حادة قائلًا بثقة:
-لأ برضاكي وهاخد الموافقة منك دلوقتي
رفعت يدها الاثنين أمام صدرها ونظرت إليه بسخرية شديدة ثم أردفت:
-ودي هتعملها إزاي بقى؟
ابتسم هو الآخر يبادلها تلك السخرية ولكنه كان كالصقر الجارح، كان فهد، في تلك اللحظات وبعد سخريته مثلها كان كالصياد الماهر المنتظر القبض على فريسته، أقترب منها ما ابتعده ويده مازالت في جيبه، تحدث ببرود وقسوة ظهرت على منحنيات وجهه:
-أنا مكنتش أحب أخد موافقتك كده لكن أنتي اللي بتضطريني.. بس معلش ولأخر مرة هسألك موافقة على جوازنا يا سلمى برضاكي؟..
أقتربت الأخرى خطوة مثله، تقلصت المسافة بينهم أكثر، وقفت أمامه وجهًا لوجه وبكل عنف وقوة أجابته ماحية كل مرة ضعف شعرت بها:
-نجوم السما أقربلك مني.. إنك تمسك نجمة من السما أقرب من إنك تتجوزني وتلمس مني شعرة واحدة يا عامر
أبتعدت شفتاه الرفيعة عن بعضهما وهو يبتسم ببرود، نظر إليها للحظات وأخرى بثبات وعيناه تلقي عليها ما لم تفهمه، ثم في لحظة أخرج يده من جيبه ساحبة معها هاتفه ليفتحه أمام وجهه ثم يأتي بما يريد أن تراه وهنا نستطيع القول إنه انخفض إلى أبعد من مستوى الدنائة...
مد يده إليها بالهاتف فنظرت إليه باستغراب وعدم فهم، لكنها بالأخير أخذته منه، أشار إليها بعيناه أن تنظر به ففعلت..
ابتعد عنها وأخذ يُسير في غرفة المكتب ببرود تام، ثم تحدث بكل القسوة الموجودة في العالم، وبكل القهر أشعرها بذلك قائلًا:
-بصوابع ايدك الحنينة الحلوة اللي كنتي بتمسكي بيها ايد هشام الصاوي فري في الموبايل وتأملي نفسك وجمالك الخلاب
استدار في سيره ينظر إليها بوقاحة وخبث شامتًا بها:
-الصور فيها هضاب ومرتفعات بس جامدة الصراحة، تخيلي بقى بعد موت عمي اللي يرحمه الراجل الطيب الأصيل بنته تعمل فيه وفي سمعته كده؟ لأ لأ مايصحش.. تعرفي إني الصور دي في صالحي من أي إتجاه
وقف ثابتًا على بعد خطوات منها ينظر إليها بثبات وقوة ولم يحمل لها في تلك الكلمات إلا القسوة والذل:
-مهو أصل أنا لو نشرتها هتتفضحي وعمي الله يرحمه معاكي والعيلة كلها وبعدها هتجوزك علشان نلم الفضيحة.. ولو حبيتي نمسح الصور هنمسحها وتتجوز من غير فضيحة وكان يعز عليا والله إني احطك في الموقف ده بس أنتي اللي عملتي كده
انهمرت الدموع من عينيها بغزارة، تنظر إلى صورها الفاضحة في هاتفه، تستمع إلى حديثه القاسي الذي ينهش بجسدها دون رحمة أو هوادة، انهمرت الدموع بكثرة وهي لم تستطع الحديث أو النظر بوجهه، كيف له ان يفعل بها ذلك؟ كيف؟
بقيت على وضعها لحظات وعقلها لا يطرح عليها إلا التساؤلات الغير موجود لها إجابة، في لحظة خاطفة رفعت عينيها الباكية عليه لتراه يتعمق بالنظر عليها..
فور أن رأته ينظر إليها دون ذرة شفقة بعينيه فارت الدماء بعروقها واشتعل الغضب داخلها، تقدمت منه بخطوات سريعة متعثرة ثم ألقت الهاتف بوجهه لكنه تمسك به جيدًا ونظر إليها مُبتسمًا بسخرية..
أقتربت أكثر ثم رفعت يدها في الهواء لتهوى عليه بصفعة تذكره بمن هي ومن هو ولكنه لم يجعلها تحذر بأن ذلك سيحدث، أمسك بذراعها وثناه خلف ظهرها ثم أمسك بالآخر بعد أن ألقى الهاتف من يده على المقعد جواره، جعلها تستدير إليه لتواجهه بظهرها وضغط على ذراعيها الاثنين بعنف وقسوة هاتفًا بضراوة بجوار أذنها بعد أن قربها منه للغاية:
-الفرح هيبقى بعد شهر من دلوقتي وهتقولي للكل إنك موافقة بمزاجك وإلا أنتي عارفه اللي هيحصل
استمع إلى نحيبها الذي خرج منها ولم يرأف بها أبدًا متذكرًا خيانتها لثقته وخروجها مع ذلك الحيوان فصاح بعنف وشراسة أكثر وهو يضغط على ذراعيها:
-مش هسيبك تروحي مني مهما حصل.. مش هتكوني لحد غيري
أردفت بضعف ونبرة خافتة خرجت من بين شهقاتها المستمرة بفعل بكائها:
-أنا بكرهك
❈-❈-❈
"يُتبع"
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الثاني_عشر
#ندا_حسن
استمع إلى نبرة صوتها الخافت الباكي يخرج بضعف وارتعاش مُصرحًا بكرهها له!..
قربها منه أكثر وبقيٰ بمحاذاة أذنها وقال بتأكد وثقة ونبرته قوية حادة:
-بلاش كدب بقى مش هينفعك بحاجه.. أنا عارف إنك بتحبيني وللنهاردة وبكرة ولبعد سنين بتحبيني
حاولت جذب يدها الاثنين منه وأبتعدت برأسها للناحية الأخرى مُبتعدة عنه وصاحت بقوة والدموع تنهمر على وجنتيها بقهر وحزن شغر أنحاء قلبها:
-لو كنت بحبك فأنا بعد اللحظة دي بكرهك.. بكرهك أوي، مكنتش أتخيل إنك ممكن تعمل معايا كده في يوم من الأيام
ابتسم بسخرية والألم داخله يزداد لحظة بعد الأخرى وهتف بانكسار:
-ولا أنا كمان كنت متخيل إنك تعملي معايا كده
صرخت به وهو يشدد على يدها لتبقى كما هي تحت رحمته:
-بلاش تعيش دور الضحية أنا معملتش فيك حاجه
أسودت عيناه وابتغى قتـ ـلها هي وذلك الأبلة الحيوان الذي رافقته دون علمه وتحدث بقسوة وغضب:
-خونتيني!. ولا دي كمان بقت عادي
جذبت يدها في لحظة ضعف منه شعرت بها أن قبضة يده تثقل على يدها، فجذبتهم منه بقوة وابتعدت للخلف خطوة تقف قبالته صارخة بعنف والبكاء لا يتوقف لديها:
-أنا مخونتكش أنت كداب.. أنت اللي خونتني أنت، أنت اللي بعدت عني وخطفت أهلي مني وبكل بجاحه حاولت تخليني أحس إني أنا السبب.. أنت اللي قسيت عليا بدل ما تحتويني
نظر إليها بذهول وعينين مُتسعة عليها ثم تقدم الخطوة التي أبتعدتها وصاح مُشيرًا إلى نفسه باستنكار:
-أنا؟ أنا قسيت عليكي؟ أنا حاولت معاكي بدل المرة مليون وأنتي اللي كنتي رافضة أي حاجه من ناحيتي.. دا أنتي كنتي رافضة الكلام حتى جايه دلوقتي تقولي قسيت عليكي
صرخت مرة أخرى بعنف أكبر من السابق وانهمرت الدموع أكثر تهتف ببكاء حاد ونبرة مُرتعشة:
-أيوة قسيت عليا ولسه قاسي والدليل أهو.. أنت اللي سرقت موبايل إيناس
أكملت وهي تعود للخلف مُبتعدة عنه متذكرة ما حدث منذ عامين قبل أن تنقلب حياتهم رأسًا على عقب:
-الصور دي كانت على موبايل إيناس لما كنت معاها في الرحلة إياها، اتصورتهم وأنا لابسه مايوه زيي زي أي حد وإحنا لوحدنا ووقتها الموبايل انسرق منها وأنت مكنتش تعرف أصلًا لكن جيت وقولتلي أبعدي عنها وأصريت إني أقطع معاها فترة
نظرت إليه بعمق وعينين ضائعة بين الحقائق الزائفة:
-دلوقتي بس فهمت كل حاجه.. أنت اللي سرقت الموبايل بتاعها ولحد النهاردة شايل الصور دي معاك علشان مستني الفرصة اللي تظهرها فيها.. يعني مكنتش بتحبني أنت بس عايز تمتلكني مش أكتر
عاد هو الآخر للخلف مثلها بعد أن استمع لحديثها الساخر، أيعقل أن تكون تفضل صديقتها الحقيرة عنه إلى هذه الدرجة!.. حتى وإن كان خائن، وإن كان حيوان وذئب بشري وإن كان شيطان ألا تعرفه إلى هذه الدرجة؟ ألا تتذكر أنها كبرت معه في منزل واحد؟ ألا تتذكر أي شيء فعله لأجلها؟..
ابتسم بسخرية والذكريات تتهاتف على عقله لأجل ما تحدثت عنه، والحقيقة بهذه الذكريات تقول أن صديقتها هي من قامت بإرسال الصور له وقامت بتهديده أنها في أي لحظة تستطيع أن تقوم بعمل فضـ ـيحه لحبيبته وابنة عمه فما كان منه إلا أنه يسرق هاتفها ليستطيع حمايتها، وعندما لم يستطع أن يفتحه قام بتكسيره وإلقاءه في المياة وبقيت الصور التي أرسلتها إليه معه..
في ذلك الوقت حاول أن يشرح لها ما الذي حدث من قِبل صديقتها ولكنها لم تستمع إليه كالعادة وأظهرت عنادها فعاندها هو الآخر وبقيٰ ما حدث داخله وجعلها تبتعد عنها بالقوة ولكنها عادت إليها مرة أخرى رغمًا عنه..
ابتسم إليها ببرود ثم ألقى الكرة بالملعب الخاص بها لتحصل على الإجابة وحدها:
-ولما أنتي بتقولي إني مكنتش أعرف حاجه سرقت موبايلها بناءاً على ايه؟
حركت رأسها إليه وجذب انتباهها حديثه، تعمقت بعينيها على عينيه الساخرة منها وتسائلت:
-قصدك ايه؟
رفع حاجبيه للأعلى بلا مبالاة ولوى شفتيه قائلًا:
-شوفي أنتي بقى
رفعت يدها الاثنين على وجهها ومسحت الدموع المنهمرة عليه بأصابعها، ثم للحظات فقط ركزت عقلها على التفكير فيما حدث في هذا الوقت، لما قد يسرق الهاتف وهو حقًا لا يعرف بما به؟.. لما في ذلك الوقت بالتحديد قد يجعلها تبتعد عنها بالقوة! لما يبغضها من الأساس ولما هي لا تحبه؟
أبصرته مُتسائلة باستغراب:
-أنت كنت عارف أن الموبايل فيه صور ليا؟
استهزأ بها وهو يُسير أمامها في الغرفة قائلًا بسخرية:
-شوفي إزاي! وياترى بقى أنا بشم على ضهر أيدي ولا في حد قالي ولا في حد وراني؟
وقف أمامها من بعيد وتعمق بالنظر في عينيها وما داخل حديثه كثير من المشاعر العميقة المتألمة منها ومما يحدث:
-عارفه المهم في الموضوع ده ايه؟ هو إني بطلع وحش في الآخر بس مش مهم أنا اتعودت على كده.. حتى منك
للحظة أخرى فكرت وهو يتحدث، كيف له أن يأخذ الهاتف دون سبب؟ لما لا يحب إيناس ويحذرها منها دائمًا، إن كانت هي من بعثت له بالصور ثم قام هو بأخذ الهاتف لحمايتها فهنا هو معه كامل الحق، تتذكر أنه في ذلك الوقت أراد أن يشرح لها شيء وكان غاية في الغضب وهو يعبث بهاتفه ليريها ولكنها منعته عن ذلك!:
-إيناس بعتتلك صوري؟ ولا قالتلك؟
لوى شفتيه ساخرًا ثم أكمل بحزن لم يظهره لها:
-هسيبك تفكري فيها شوية بلاش أقولك يمكن تخترعي حاجه جديدة تتهميني بيها
غمزها بعينيه اليسرى وأشار إليها بيده يذكرها بما قاله عن العرس قبل قليل:
-ومتنسيش الفرح بعد شهر
ناداته بإسمه بضعف، بحزن وضيق، والذل طغى على كل هذه المشاعر وأكملت بنبرة خافتة تنظر إليه كامرأة هواها الحب بجماله وتركها لألامه فقط:
-عامر.. أنا مش عايزة
بادلها تلك النظرات الحزينة التي تهطل عليه من عينيها، بادلها الضعف، إنها تعلم أنه ضعيف وما خرج منه ما هو إلا تهديد وقح وقذر ليس لديه أي سبيل آخر إلا هو ليحصل عليها، أردف بجدية وقوة وادعى اللا مبالاة بما تريد:
-بس أنا عايز
خرجت الدموع مرة أخرى بصمت من عينيها منهمرة على وجنتيها المُكتنزة وهي تطالعه بضعف قائلة بتأكيد تعرفه داخلها:
-أكيد مش هتعمل فيا كده.. ولا هتعمل حاجه بالصور دي أنا عارفه إنك بس بتهددني
أشار إلى صدره بإصبع يده اليمنى ونظر إليها بعمق وقسوة والشراسة تهطل من حديثه بعنف:
-اللي عملتيه من ورايا يخليني أعمل أسوأ من كده
أقتربت منه وهي تقول برجاء محاولة التوضيح له أنها لم تفعل شيء:
-بس أنا معملتش حاجه صدقني.. أنا حتى أول ما رفضت أنت وعمي أنا كمان رفضت
أقترب بخطوات هوجاء وارتفع صوته وهو يوضح لها قليل مما فعلته هي وهو يعطي إليها الثقة الكاملة مُعتقدًا أنها مازالت حبيبته البريئة:
-بقالك سنة بتتسرمحي معاه وأنا مديكي الأمان والثقة، سنة بتخـ ـوني عامر اللي منع عن نفسه أي معرفة بأي سـ ـت تانية غيرك من وقت ما بعدتي
صرحت بما يعرفه الآخرون وما تقوله لا يمت بصلة إليها:
-أنا مخونتكش.. أنا وأنت مافيش بينا حاجه علشان اخونك لا أنا مراتك ولا خطيبتك
أبصرها بجدية شديدة وخرجت الكلمات من بين شفتيه كالسيف الحاد على علم بطريقه جيدًا:
-أنتي عارفه أنتي ايه كويس أوي يا بنت القصاص.. أنا مديكي مهلة شهر كده كويس أوي
تخشى الرفض بعناد كما كانت تفعل دائمًا فتغلبه غيرته وتهوره، وطبعه الغلاب على كل مشاعر داخله ويفعل ما قال عنه، تعلم بقرارة نفسها أنه من المستحيل أن يفعلها أو أن يعرض جسدها بهذه الطريقة الرخيصة ولكن لن تستطيع ألا تخاف، فقالت بنبرة خافتة:
-لا أنت هتعيش ولا أنا هعيش يا عامر
أخذ هاتفه المُلقى على المقعد ووضعه في جيبه وهو يبتسم بسخرية واستهزاء من حديثها وأردف ببرود ولا مبالاة:
-أنا كده مش عايش وكده مش عايش يبقى وأنتي مراتي أحسن
تسائلت رافعة حاجبيها الاثنين بذهول منه:
-ورفضي ليك! مالوش أي أهمية
أردف بجدية وقال الصدق وما كان سيحدث حقًا، فهو من المستحيل أن يجعل إمرأة تتزوجه وهي تبغضه ولكنه يعلم أنها تحبه إلى المنتهى ولن تتخلى عنه مهما حدث:
-لو كنتي رفضتي علشان مش بتحبيني مستحيل كنت اتجوزك.. لكن أنا عارف رفضك ليه ومادام بتحبيني وبحبك يبقى خير البر عاجله
استدار ليذهب من هنا تاركًا إياها ولكنه وقف عند باب غرفة المكتب واستدار إليها ناظرًا إلى عينيها مباشرة بقسوة وخرجت الكلمات منه بغضب وتهديد واضح:
-شهر يا سلمى وإلا وديني المرة دي هتشوفي وش وسـ* معداش عليكي قبل كده
خرج من الغرفة وتركها بها، يعلم داخله أنه من المستحيل أن يقوم بفعل أي شيء يؤذيها به، من المستحيل أن يترك هذه الصور على هاتفه من الأساس، أنها تدلف طريق ليس مناسبًا لها مع الحقيرة "إيناس" ومهما فعل فهي تعانده وبقوة وهذه هي الطريقة الوحيدة التي بها يجعلها ترضخ إليه وتفعل ما يطلبه منها.. ومن هنا يستطيع أن يجعلها زوجته ليحميها من شر عائلة "الصاوي"..
تراه الآن دنيء، حيوان؟ لا يحبها؟ تراه ما تريد هذا لا يهمه المهم إليه الآن أن يحميها من أي شخص يستطيع أن يؤذيها ولو بكلمة والأمر الأهم من المهم أن تكون زوجته.. حلاله وله وحده وهذا ما سيفعله حتى لو طبقت الأرض فوق السماء...
تركها في الداخل، تقدمت وجلست على المقعد وانحنت على نفسها تبكي بقوة، خرجت الدموع من عينيها بغزارة نادمة على ما فعلته مع "هشام" نادمة على عدم استماعها لحديث "عامر"، تشعر أن الحياة تلتف عليها هي وحدها وتريد أن تسلب منها روحها وما بقيٰ منها..
تخاف منه ومن تهديده وبشدة ولكن هي على دراية أنه لن يفعل ما هددها به، ومع ذلك الخوف تربع داخل قلبها والرهبة ارتعشت بجسدها.. والتفكير لم يتركها لحظة واحدة، كيف له أن يفعل ذلك بها؟ كيف له أن يكون دنيء إلى هذه الدرجة!
ولكن إن كان حقًا سـ ـرق الهاتف من "إيناس" بعد أن علم بما به فهنا سيكون شيء مازال مخفي وهي لا تعرفه، سيكون معه كامل الحق وهي الوحيدة الغبية التي لم تستطع أن ترى الأشخاص بحياتها جيدًا، إن كانت "إيناس" من فعلت ذلك لن تسامحها أبدًا..
"عامر" يحذرها من إيناس وعمها يحذرها من "هشام" وعائلته بالكامل، إن كان "عامر" مخطئ أو يريد إبعاد الناس عنها لتكون معه وحده فعمها لن يكون كذلك!..
هناك أمر لا تعلمه هي يخص عائلة "الصاوي" وإلى أن تعرفه عليها أن تقوم بتوخي الحذر من ناحيتهم..
في لحظة خاطفة ترك عقلها كل ما كانت تفكر به وطرح عليها سؤال واضح وصريح، هل ستتزوج من "عامر"؟
❈-❈-❈
بعد أن تحدث معها والدها في أمر "تامر" مُحاولًا إقناعها بالموافقة بحديثه وأنه يريد الزواج منها وأخذ فرصة وحيدة لتكملة حياتها كما أي شخص ينعم بأقل حقوقه.. وبعد الحديث مع ابنة عمها وشقيقة زوجها الراحل اكتشفت أنها هكذا تضيع ما بقيٰ من عمرها.. لو لم تكن تشعر بانجذاب ناحية "تامر" لم تكن لتفكر في الأمر من الأساس ولكنه يشغل تفكيرها في الآونة الأخيرة حقًا ويسلب الجزء المفكر داخل عقلها في الليل مستعيدة حديثه بالكامل عن "ياسين" وعنها..
حديثه صحيح! والجميع حديثه صحيح ولكن حبها لزوجها كان يفوق كل الحدود.. لم تنعم معه بالسعادة التي أرادت الحصول عليها ولم تبني الكثير من الذكريات لتتذكرها.. لم تأخذ ما أرادته منه بل هو أخذ كل شيء معه ورحل..
وإلى الفترة الماضية كان هو من يشغل عقلها وقلبها إلى أن شعرت أن الجميع محق وبدأ "تامر" يتخلل ثنايا عقلها بحديثه اللبق ونظراته الصافية المحبة نحوها..
من هنا ستحاول أن تعطي له فرصة ولنفسها وبتلك العلاقة التي أخذت القرار فيها في سواد الليل بعد الاستماع إلى حديث الجميع وترك الذكريات الماضية في ركن بجانب الزاوية.. فرصة واحدة فقط لهذه العلاقة وإن لم تنجح فلتعود إلى ما كانت عليه..
أمام الموظفين جلست على الطاولة المستديرة في كافيتريا الشركة مع "تامر" الجالس مقابلًا لها مُبتسمّا بسعادة وحب وائتمان لأجل أنها وافقت على إعطاءه فرصة..
حرك شفتيه قائلًا بصوت هادئ وبنظرة مُبتسمة:
-أنا مبسوط أوي إنك وافقتي تديني الفرصة دي.. لو كنت أعرف أنك هتيجي من بعد الكلام مع والدك كنت عملتها من زمان
رفعت يدها أعلى الطاولة، نظرت إليه بجدية تامة ثم أردفت قائلة موضحة له ما خطر على بالها:
-مش الكلام مع بابا هو اللي خلاني اديك الفرصة دي بس زي ما تقول كده هو كان زقة.. زقة بسيطة خلتني أشوف الصح واللي المفروض يحصل.
ابتسم بوجهها وأظهر وجهه البشوش وهو يتحدث قائلًا:
-الحمدلله.. على كل حال أنا مش هخليكي تندمي أبدًا يا هدى
صمت للحظة ثم أكمل بيقين وهدوء وهو يحاول أن يجعلها تتقبل فكرة وجوده هو في حياتها عوضًا عن "ياسين":
-أنا عارف إن ياسين كان فارشلك الأرض ورد وكنتي بالنسبة ليه حاجه كبيرة أوي وعارف بردو إنه لسه مطلعش من حياتك بس اوعدك على قد ما أقدر هحاول أكون أحسن منه وهخليكي تنسيه
نظرت إليه مُطولًا ثم تحركت شفتيها بالرفض وهي تقول بجدية وقوة:
-بس أنا مش عايزة أنساه
بادلها نفس النظرة ثم بجدية تامة عقب على حديثها موضحًا مقصده مما قال:
-لما ربنا يوفقنا وأكون جوزك لازم تنسيه.. ومتفكريش غير فيا
رفعت حاجبها الأيمن ونظرت إليه بقوة تدقق في النظر إلى ملامح وجهه لتتفهم تعابيره ثم ألقت عليه سؤالها:
-أنت ايه اللي مخليك مصمم على الجواز من واحدة أرملة؟
أجابها قائلًا بنبرة جادة قوية:
-عايزك يا هدى.. حبيتك وشايفك المناسبة ليا ولا هو عيب؟
لوت شفتيها وضيقت عينيها عليه ومازالت تكرر نفس السؤال:
-مقولتش إنه عيب بس بقول إنك تقدر تتجوز أي واحدة تشاور عليها ليه واحدة زيي
تفوه بكلمات جادة حنونة في ذات الوقت من بين شفتاه ليجعلها تشعر بأنها ليست كما أحد.. بل أفضل منهم:
-أنتي مش ناقصك حاجه علشان تقولي واحده زيي.. أنتي ست البنات اللي ملت عيني وخلتني مش شايف غيرها
نظرت إليه بقوة وعينيها مُثبتة عليه ثم تدريجيًا بدأت شفتيها في الابتعاد عن بعضهم البعض راسمين ابتسامة واسعة خجلة قد حدثت على أثر استيعابها لما قال..
-الله الله.. قاعد تحبلي؟ علشان كده بقى رميت اللي بينا في أقرب سلة زبالة قابلتك
استمعت معه إلى هذا الصوت النسائي الذي تردد على مسامعهم يهتف بهذه الكلمات الساخرة بطريقة مُتهكمة..
وقف على قدميه بعد أن علم هويتها التي ظهرت له من الاستماع إلى صوتها، استدار إليها بجسده وهو يقف أمامها ناظرًا إليها باستغراب جلي:
-أنتي هنا بتعملي ايه؟
صاحت بعنف وصوت عالي نسبيًا استمع إليه من حولهم:
-جايه أشوفك وأنت حبيب... هي دي اللي سبتني علشانها
وقفت "هدى" على قدميها فور أن علمت أن الحديث يذهب إلى منحدر لا تريده ولن تحبه أبدًا، نظرت إليه مُتسائلة:
-مين دي؟
-أجابها وهو يبعد عينه من على الأخرى باشمئزاز واضح:
-منه.. اللي كانت خطيبتي.. أظن واضح قدامك سيبتها ليه أهو
أردفت الأخرى بصوتٍ عالي وطريقة سوقية لا تناسب المكان المتواجدة ولا تناسب الأفراد الذين أمامها أيضًا:
-هو ايه ده اللي واضح.. أنت سيبتني علشان مرات صاحبك اللي مات، هتستهبل ما أنا عارفه كل حاجه
نظر إليها بغضب وعصبية شديدة ثم صرخ بها:
-اخرسي
أردفت "هدى" باستغراب واستنكار لما تقوله وقد فهمت الآن لما قال لها "تامر" أنه لا يستطيع التكملة معاها فهي مختلفة عنه كامل الاختلاف:
-دي مجنونة
أجابها وهو ينظر إلى الأخرى بعينين حادة قائلًا:
-مجنونة وستين مجنونة
ارتفع صوتها الهائج وهي تقول ملوحة بيدها الاثنين إليهم:
-أنا مجنونة.. دا أنا هفضحك هنا، خطبتني وسيبتني من غير سبب ايه هي بنات الناس لعبة في ايدك
أكملت بسخرية وصوت عالي مُتهكمة عليه وأظهرت أن ما تريده منه ما هو إلا أشياء مادية:
-ولا تكونش فاكر إني هبلة وهسكتلك بعد ما تدخل بيتنا وتخرج كده عادي.. لأ مش هطلع من المولد بلا حمص
ظهر عليه الحنق الشديد فقال بطريقة مُهلكة ناظرًا إليها باشمئزاز:
-يا شيخه منه لله اللي كان السبب في إني أعرفك.. ده ايه القرف ده
هتفت "هدى" وهي تبتعد عن الطاولة بجدية تامة:
-تامر.. الناس بدأت تتفرج أنا طالعة مكتبي ومشي البتاعه دي من هنا
صرخت الأخرى بها وارتفع صوتها أكثر بعد أن تمسكت بيدها كي لا تجعلها تذهب:
-بتاعه.. بتاعة مين يا أم بتاعة تعالي هنا وأنا أعرفك البتاعه دي ايه
نفضت "هدى" يدها منها بقوة ونظرتها نحوها لا تعبر عن أي شيء إلا التقزز وقد استوعب عقلها كل شيء حدث حقًا:
-سيبي يا مجنونة أنتي
جذب يدها التي أمسكت بها الأحرى ونظر إليها بقوة وعمق صائحًا بغضب:
-أنتي بتعملي ايه؟ فاكره نفسك في الشارع بتاعكم أمشي من هنا أمشي
عاندته بوضوح وقوة وهي تضع يدها الاثنين في وسط خصرها:
-مش همشي مش أنا اللي تاخدني لحم وترميني عضم..
نظر إلى "هدى" وترك الأخرى وهو يقول لها بجدية:
-روحي اطلعي وأنا هتصرف مع دي
أومأت إليه برأسها ونظرت إليها باشمئزاز وتقزز ثم سارت مُبتعدة عنهم ففعل الآخر شيئًا لا يليق به، تمسك بها من معصم يدها ثم سار بها وهي خلفه شاعرًا بالحنق الشديد من وجودها بحياته وكأنها كـ اللاصق لا تخرج بسهولة...
وصل معها إلى مدخل الشركة ثم ألقاها في الخارج وهتف لأفراد الأمن بقوة:
-الست دي متدخلش الشركة تاني
لم ينتظر حتى أن يستمع أو ينظر إلى ردة فعلها بل استدار وذهب إلى الداخل مرة أخرى لاعنًا الساعة التي تعرف عليها بها والتي كانت غاية في الهدوء والرقة.. بها من الأخلاق ما يكفي بنات العالم أجمع ولكن مرة بعد الأخرى كان يظهر كل شيء بوضوح إلى أن طفح الكيل منها ومن عائلتها فلم يستطع الإنتظار أكثر من هكذا معها..
حان دور الذي اختارها قلبه، ستكون العوض والعون، سيبادلها بالسند والظهر.. وستكون حياتهم معّا جنة الأرض..
❈-❈-❈
جلست على الطاولة أمامه بوجهٍ باهت حزين مُشتت ونظراتها عليه ضائعة مترقبة لأي حركة قد تصدر منه تؤكد حديث عمها و "عامر" عنه وعن عائلته، مُنتظرة أن يثبت أنه هو الآخر خائن كاذب ومخادع لا أمان له وهناك غرض آخر خلف معرفته بها
أصبحت لا تثق بأي شخص في حياتها، لقد تعرضت للخيانة من الجميع حتى من كانت تظنه أقرب الأشخاص إليها ومهما ابتعدت عنه وفرقهم الزمن سيكون سندها والحامي الأول والأخير لها..
انقلبت الموازين وتحلى بوجهٍ آخر فوق وجهه ليصبح قناع دائم من القسوة الذي يخلفها كسرة قلب وقهرة لا نهاية لها..
بعينيها الباهتة نظرت إليه بضعف وقلة حيلة وقد خجلت كثيرًا مما تريد قوله إليه بعد المدة التي أعطته بها الأمل الأكبر بحياته، بشفتين ترتعش ونبرة غير متزنة قالت:
-هشام أنا.. أنا آسفة على كل حاجه بس إحنا، إحنا مش هينفع نتجوز
أقترب إلى الأمام بعينين مُتسعة حادة عليها تحولت مئة وثمانون درجة:
-بتقولي ايه؟
فركت يدها الاثنين بتوتر أمامه محاولة شرح موقفها له بنبرة خافتة حزينة:
-اللي سمعته.. أنا آسفة أقسم بالله ما كان قصدي كده بس اللي حصل وأنا مقدرش أكسر كلام عمي
أبعد من أمامه كوب القهوة الخاص به ونظر إليها بقوة وانزعاج تام صارخًا بعصبية:
-أنتي اتهبلتي ما تكسريه ولا تنيليه بنيلة
ابتلعت ما وقف بحلقها وأبعدت عينيها ذات اللون الزيتوني عنه ثم عادت بخجل شديد قائلة:
-أنا هتجوز أنا وعامر
صرخ بعنف مرة واحدة وعينيه منصبه عليها بتركيز شديد وقد ثار البركان بداخله واشتعلت النيران الذي ستحرقه هو ووالده إن لم ينفذ ما قاله له وخطط إليه:
-لا دا أنتي اتجننتي بقى.. هتتجوزي عامر إزاي مش المفروض إنك بتحبيني ولا كنتي كدابه وخاينة زيه بالظبط وبترسمي عليا الحب
ضيقت ما بين حاجبيها وضيقت عينيها هي الأخرى عليه قائلة بصدق وجدية:
-أنت عارف إني مش كده والله العظيم بس الظروف أقوى مني
عاد للخلف ضاغطًا على فكة بقوة وعنف شديد، ثبت عينيه الحادة على خاصتها وقال بجدية مُميتة:
-هنهرب أنا وأنتي ونتجوز وهنرجع وإحنا متجوزين وبكده تبقي قتـ ـلتي الظروف ونحطهم قدام الأمر الواقع
نفت ما قاله سريعًا معترضة عليه بقوة وانزعاج:
-لأ طبعا مستحيل أعمل كده ايه اللي أنت بتقوله ده
أكمل بإصرار ليضعها في موضع الخائنة أمام نفسها وهو يعلم أن هذه عقدة تعاني منها:
-يبقى أنتي لسه بتحبيه هو وموافقة على الجواز منه
عارضت ما قاله بشدة وبنبرة جادة:
-أقسم بالله مش موافقة أنا مغصوبة بس لازم ده يحصل مضطرة
صرخ مرة أخرى بعنف وعصبية وهو يرى ما خطط إليه يذهب إلى البعيد المطلق حريته:
-ليه مضطرة لــيــه
ابتعدت عينيها عنه، مؤكد لن تقول أن ابن عمها يقوم بتهديدها بصورها الفاضحة، أردفت بخفوت وضيق احتل كيانها منذ أول لقائها بـ "عامر":
-مضطرة وخلاص يا هشام.. مضطرة أوافق
أشار عليها بإصبع يده السبابة وأردف حديثه الحاد الجارح:
-كدابة وستين كدابة بتحبي عامر وعايزاه هو وأنا كنت لعبة في ايدك
لقد كانت تعتقد أنه يفعل ذلك لأجل حبه لها فعارضت مبررة موقفها أمامه مدافعه عن نفسها:
-والله العظيم أبدًا
لم يصمت للحظة واحدة بل تابع حديثه الحاد وهذه المرة كان حاد غاضب مهددًا لها وبكل جدية ووضوح ناظرًا إليها بعينين صائد سُلبت منه فرسيته عنوة لحمايتها:
-أنتي مفكراني ايه؟ لأ أنا مش عيل صغير ينضحك عليه كده.. قسمًا برب العزة إن ما لغيتي فكرة الجواز من عامر لكون متصرف تصرف مش هيعجبك لا أنتي ولا أهلك
اتسعت عينيها عليه واعتدلت نبرتها بجدية ووضوح مُتسائلة باستغراب واندهاش:
-أنت بتهددني؟
أكمل حديثه مُجيبًا عليها وأشار برأسه مؤكدًا بقوة:
-آه بهددك ولو منفذتيش يبقى أنتي اللي جنيتي على نفسك
وقفت على قدميها وتمسكت بحقيبتها التي كانت موضوعة على جانب الطاولة بينهم، نظرت إليه باندهاش واضح وذهول تام لتحوله المفاجئ ثم قالت باستنكار:
-أنت إزاي بتكلمني كده.. طلعت زي ما قالوا!
رآها تتركه وتتحرك بعد جملتها فوقف هو الآخر مُمسكًا بيدها بعنف مُتسالًا:
-رايحه فين؟
نفضت يدها منه بقوة وعنف شديد وصرخت به أمام الجميع في المكان العام الذي يجلسون به:
-اوعا كده سيب ايدي.. مش عايزة أشوف وشك ده تاني أبدًا
نظر إليها بوجه جامد حاد كما أول مرة رأينا بها وجهه الحقيقي، وبنفس نظرة القاتل هذه أجابها بتأكيد وثقة:
-هتشوفيه يا سلمى لكن وقتها مش هيعجبك
نظرت إليه بنفور ثم استدارت ترحل فاستمعت إلى حديثه المهدد إياها مرة أخرى:
-أقرب رد على اللي حصل دلوقتي هيبقى بالليل استني المفاجأة مني واستحمليها
خرجت من المكان تسير بقدمين ترتعش وخطواتها غير مُتزنة بالمرة، صعدت إلى سيارتها وبقيت بها ولم تتحرك، لقد خدعت به!.. تعرفه منذ الكثير وكان يمثل عليها الحب كما قال عمها!، حديثه وانزعاجه الشديد وتهديده الواضح لها يقول أن هناك غرض آخر كان يريده منها غير أنه يحبها..
يا الله ماذا لو كانت تزوجته.. ماذا لو لم يرفض عمها هو وابنه الزواج منه، كانت ستكون ضحية لغرض داخله لا تعرف عنه شيء، ستكون مسلوبة الإرادة متزوجة من شخص لا تعرف عنه شيء حتى أنها لا تعرف ما الذي يريده منها..
كيف إلى اليوم وهي تعرفه ولم يظهر عليه أي مما رآه عمها وابنه؟ هل هي إلى هذه الدرجة مخدوعة بالبشر المحاوطين لها؟ أول شخص حبيبها "عامر" ومن خلفه كان شقيقها "ياسين" والآن "هشام"؟!..
من هناك غيرهم في حياتها يقوم بخداعها؟ من هناك غيرهم يراها غبية وحيدة لا تستطيع التصرف في الأمور والحكم على الأشخاص يقوم بالضحك عليها بسخرية ويراها ساذجة؟..
تحركت بالسيارة بعد أن قامت بتشغيلها وابتعدت عن المكان وعقلها داخله قنابل تفجر به الأفكار لتظل تزداد إلى أن تنفجر رأسها هي الأخرى من كثرة التشتت..
❈-❈-❈
"في المساء"
بعد أن تعرض إلى حرقة قلب وقهره لا نهائية من تلك الغبية التي كان من المفترض قتـ ـلها كما أمره والده توجه إلى منزل "إيناس" ابنة عمه لتساعده في الورطة التي وقع بها وليقوم بالانتقام منها ومن ذلك الحقير ابن عمها الذي تحداه بثقة وسلبها منه عنوة.. لن يتركهم أبدًا
دلفت "إيناس" بالصينية الموضوع عليها كوب كبير من عصير الليمون ليقوم بتهدئة أعصابه التالفة منذ أن أتى، وضعت الصينية على الطاولة وجلست مقابلة له ثم أردفت بخبث ومكر مدسوس في حديثها:
-اهدى بس يا هشام أكيد سلمى عامر اللي غصبها على كده وأنت أكيد مش هتسيبهم يتجوزو
-بنت الكلب ضحكت عليا.. بقى أنا ينضحك عليا من واحدة غبية زي دي؟
لقد كان قلب "إيناس" يحترق بالفعل وأكثر منه، لن تجعل "عامر" ينعم بالحب معها، لن تجعله يتزوجها بهذه السهولة وتخرج هي من حياتهم الوحيدة الخاسرة، حتى ابن عمها لم يخسر شيء... إن تركتهم يتزوجون ستخرب عليهم كل شيء، سيكون زواج مفعم بالانتقام:
-وأنت هتعمل ايه
أردف "هشام" بحرقة وقلبه يزداد في عذابه:
-بنت الكلب دي مستحيل توافق تتجوزني بعد تهديدي ليها ولو وافقت الكلاب اللي عندها مش هيوافقوا هي كده متقفلة بس أنا لازم اشفي غليلي النهاردة قبل بكرة والباقي هعمله على رواق
رفع نظرة عليها مرة واحدة ثم قال بجدية شديدة جعلتها تتفاجئ منه:
-وأنتي اللي هتساعديني أنا عارف إنك مش بطيقيها أصلًا بس كنت ساكت علشان مصلحتي
نظرت إليه باستغراب، كيف علم أنها لا تحبها وكل ما تفعله كذب؟ الغبية الأخرى لم ترى منها شيء سيء هو كيف علم؟:
-وعرفت منين بقى؟
تحدث بانزعاح وضيق شديد وهو يشعر بعدم الصبر والتعجل في الانتقام منهم الليلة:
-بقولك ايه انجزي معايا كده أنا عارف اللي فيها بس ايه السبب الله أعلم وهعرفه منك بس مش دلوقتي لازم الأول اتصرف معاهم
اعتدلت في جلستها ونظرت إليه بتعمق ثم أخرجت كل ما عندها ومحت دور الصديقة المخلصة وكشفت عن وجهها قناع البراءة:
-طب بما إنك بقى عارف إني لا بطيقها ولا بطيقه وهتعرف مني السبب يبقى أنا كمان أعرف أنت بتعمل كده ليه ما أنت كنت راسم عليها دور الحب قدامي وأنا معرفتش اهرش عمايلك
تحدث بنفاذ صبر:
-كل ده مش وقته دلوقتي
تفوهت بالكلمات المنجية إياه والذي يريد الاستماع إليها منذ أن أتى إلى هنا:
-ماشي وأنا عندي اللي يدمرهم سوا بس عندي شرط
مرة أخرى بقوة وانزعاج يردف:
-ايه اخلصي
ابتسمت بسخافة وقالت بجشع:
-خلي أبوك يزودلي مصروف الشهر
أومأ إليها برأسه واعتدل في جلسته مُتقدمًا للأمام منها بقوة مُنتظر حديثها الذي سيشفيه:
-موافق.. قولي بقى
أردفت بهدوء وهي تعيد ظهرها للخلف تستند إلى ظهر الأريكة:
-هتكلم عامر
أشار إليها بيده بحدة يلح عليها في الحديث بنفاذ صبر:
-هعمل بيه ايه انجزي
بمنتهى الخبث والحقد القابع داخل قلبها، وبمنتهى الكـ ـراهية والبغض المزروع في قلبها تجاه "سلمى" البريئة من كل شيء سوى البراءة نفسها تحدثت ببرود:
-اتقل.. هتكلم عامر وتقوله إن سلمى عملت معاك علاقة وإنك كنت رايح تخطبها علشان كده وأنها رافضة الجواز منه لنفس السبب
صاح بعنف وانزعاج لأجل الغباء الذي تتحدث به:
-وكده بقى هو هيصدق؟ أنتي يابت أنتي عبيطة
ابتسمت ببرود وسخرية، وظهر على ملامحها القسوة الشديدة الذي استشعرتها من "عامر القصاص" الذي جعلته مُدمرّا لحياتها لتلقيها على حبيبته بالنيران الملتهبة التي تريد أن تشوه بها جمالها، أكملت بنفس الكـ ـراهية والقسوة تجاهها:
-ما قولتلك اتقل.. أنا سبق وقولت لعامر الكلام ده وهو مصدقنيش لكن المرة دي أنت هتأكد كلامي وبالدليل كمان وهنا بقى هيصدق وقول عليهم هما الاتنين يا رحمان يا رحيم أصلك متعرفش عامر بيموت في التراب اللي بتمشي عليه وهو أصلًا واحد شهواني ونسوانجي بقاله سنين مستني تبقى مراته مش معقول بعد كل ده تتاخد منه كده وبرضاها كمان
ضيق عينيه بقوة عليها، كم بدت شريرة أمامه بعد الاستماع منها إلى ذلك المخطط القذر، كم من واحدة مثلها في حياة البشر؟، تسائل بصوت جاد بعد أن ألقى تلك الأفكار من رأسه الآن:
-وايه هو الدليل ده
رفعت قدم فوق الأخرى وجلست بأريحية وبدت واثقة من نفسها وهي تقول:
-قوله الحسنة البني اللي في نص ضهرها
عاد هو الآخر للخلف بعد أن ارتاح قلبه وأخذ داخله وسيلة الانتقام الصغرى منهم ليقول بعدم تصديق:
-يخربيت دماغك
أكدت حديثه بثقة عالية وهي تتابع:
-اومال.. لو كانت أمها تعرف مكان الحسنة فهي ماتت قبل حتى أنت ما تظهر في حياتها وأبوها وأخوها يعني مافيش حد يقولك عليها ولا حتى أنا دا أنا شوفتها بالصدفة كده يعني من الآخر أنت اكتشفتها بنفسك
ارتسمت الابتسامة على شفتيه واتسعت بقوة واستمعت إلى كلماته المريحة قائلًا:
-حلو أوي الكلام ده.. يبقى اتقل زي ما قولتي وأكلمه بالليل
كل ما اجرمت به أنها لم تستمع إلى حديث حبيب عمرها وسـ ـارق أحلامها، كل ما اخطأت به هو أنها تركت طيبة قلبها تتعامل مع البشر وكذبت إصراره على عدم الوثوق بهم.. الآن ستكون ضحية لتفكير شيطاني من أشخاص قدمت إليهم كل الحب والاحترام.. ستكون ضحية حبيب عمرها.. من حذرها من البشر أجمع إلا هو..
❈-❈-❈
بعد أن صف سيارته في كراج الفيلا خرج منه وتقدم يسير في الحديقة الخاصة بهم مُتقدمًا من بوابة الفيلا الداخلية ليصعد إلى غرفته لينعم ببعض الراحة قليلًا.. لقد أصبح العمل شاق جدًا بالنسبة إليه في هذه الفترة..
استمع إلى صوت هاتفه يصدر رنين عاليًا ينم عن وصول مكالمة إليه، أخرجه من جيبه ونظر إلى شاشته فوجده رقم غير معروف.. ابتسم بسخرية واستنتج أنها ستكون هي كالمعتاد فأجاب مع تحفظه لفعل نفس الشيء كالمرة السابقة ليضمن الدليل القاطع الذي سيكون سيف قطع رقبتها..
خابت توقعاته عندما استمع إلى صوت رجل آخر يهتف بنبرة ساخرة عبر الهاتف:
-ازيك يا أبو الرجـ ـولة.. أكيد مش عارفني أنا هشام
ابتسم "عامر" بسخرية وأردف بجدية وتساءل بلا مبالاة:
-أنت أخدت الوسيلة من بت عمك الوسخـ* ولا ايه
استمع إلى صوت "هشام" على الناحية الأخرى يقول:
-تقريبًا كده بس المرة دي أنا جاي أحذرك
عاد "عامر" إلى الحديقة مرة أخرى يبتعد عن باب الفيلا ثم نقل الهاتف إلى أذنه اليمنى ليردف بسخرية شامته وتهديد:
-تحذرني.. ايه اتحرقت لما قالتك هتجوز عامر، اخلع منها علشان أنت مش قدي أنا بس اللي بحب الصبر
ضحك "هشام" على الناحية الأخرى بل وتعالت ضحكاته كثيرًا ثم قال بشماته يردها إليه:
-إهدى بس على نفسك وأسمع البوقين دول.. أنا متحرقتش ولا حاجه.. اتحرق ليه على حاجه مجربها
صمت "عامر" عندما استمع إلى هذه الكلمات الساخرة منه والشامته به، ولم يُجيب عليه لأنه لم يستطع تحديد موقفه فاستمع إلى الآخر يُكمل:
-بتسأل مجرب ايه مش كده؟ ياعم مش هخلي فضولك يقـ ـتلك وهقولك.. أصل الحقيقة كده يعني زي ما جه في بالك أنا مجرب بنت عمك
أردف "عامر" ألفاظ دنيئة بذيئة بصوتٍ عالٍ صارخ وهو يثور في الحديقة بهمجية واهتياج والعنف احتل جسده:
-أخرس يا وسـ* يا كلب وديني هطلع ميتيـ**، هخليك مرا يا ابن الكلب
قابله الآخر بالبرود التام يؤلف حديث من عقله هو وابنة عمه ليجعل القصة كاملة ويصدقها المشاهد مُستمعًا بما يحدث للآخر أمامه:
-براحه على نفسك يا ابن القصاص.. أنا بس بفهمك اللي حصل بنت عمك كانت معايا وأظن بنفسك جبتها قبل كده من بيت إيناس مكنش بيتي الحقيقة بس كنا بنتقابل هناك وغلطت معايا ولما جيت أخطبها كان علشان أصلح الغلط يا نِور.. بفهمك بس علشان متلبسش
ضرب الطاولة بقدمة ومن خلفها المقعد ليقع على الأرضية وهو يُجيب عليه بعدم تصديق وداخله يعلم أن هذه لعبة قذرة منه:
-آه انتوا متفقين سوا بقى وعايزني أعمل الغلط
بمنتهى البرود واللذة الخالصة أكمل بشماته وكذب ولكنه أحكمها جيدًا ليشعر بالمتعة وليعود الأمر عليه بتحقيق الإنتصار:
-لا يا حبيبي أنا متفقتش مع حد بنت عمك عندك وتقدر تتأكد كمان بالحسنة اللي في ضهرها بني هي وفي نص ضهرها كمان أكيد أنت مشوفتهاش.. معلش مش هقدر أقول أي أمارة تانية دي أعراض ناس بردو وآه هي كانت هتتكلم مع عمها تاني علشان تستر على نفسها هي بس طاوعتكم علشان منظركم قدامي
لم يستمع إلى صوت الآخر فأكمل مرة أخرى بنبرة شامته:
-رفضتك علشان كده يا جامد خايفه تعرف اللي حصل بينا.. تشاو
أغلق الهاتف، أبعده "عامر" عن أذنه نظر إلى شاشته وعينيه لم تكن معه من الأساس، شامة في ظهرها لونها بني؟ هو رآها! يؤكد حديث ابنة عمه الحقيرة ويقول أنه أقام علاقة معها؟ حديث "إيناس" كان صحيح؟ لقد خدعته! خانته وسلمت شرف العائلة وشرفه إلى ذلك الحقير!؟..
خانته؟ طعنته بظهره بسـ ـكين تالمه؟ قتـ ـلت كل الحب الموجود بقلبه لها؟
إنه يشعر بالمـ ـوت الآن؟ يشعر وكأن هناك من يسلب منه روحه بالقوة.. إنه أسفل المياة ولا يستطيع التنفس بشكل جيد.. يغرق في أعماق البحر.. خـ ـانته؟
حرك عينه على شرفة غرفتها.. استعاد صورة عمه الذي كان والده أمامه ثم من بعدها بلحظة أخرى استنتج أنه لن يصدق هذا الحديث!.. لن يصدقه مستحيل لن يجعل قلبه يكـ ـرهها ويمـ ـوت الحب داخله.. لن يترك هذا الأبلة يفعل بهم هكذا..
إنه كاذب، يؤلف كل هذا فقط لأجل أن يفرق بينهم، حبيبته لا تفعل ذلك.. لا تخونه، لا ترمي جسدها في أحضان غيره، لا تخيب ظنه بها، إنها تحبه..
سيتأكد من كل ذلك، سيتأكد بنفسه ومن بعدها يقرر من الكاذب والمخادع هنا..
ضيق عينيه على شرفة الغرفة ثم تقدم إلى الفيلا بخطوات ثابتة حادة تسير بسرعة شديدة ليصل إليها، سيفعل ما يجب عليه فعله ليتأكد إن كان كاذب أو لا.. ليتأكد إن كانت كما هي ابنة عمه وحبيبته ومن هواها قلبه من بين كل الناس، سيفعل ما يجب عليه فعله ليتأكد إن كانت خائنة أو لا..
دلف إلى الفيلا وقد كانت هادئة للغاية، تذكر أن والديه وشقيقته ليس موجودين هنا يالا حظه السعيد، سيحلو له كل شيء الآن وما سيفعله سيكون في هدوء تام..
فتح باب الغرفة الخاصة بها على مصراعيه بيده اليمنى وتقدم بقدم واحدة إلى داخل الغرفة ينظر إليها..
كانت تقف أمام الفراش استدارت فجأة بفزع عندما وجدت الباب يُفتح هكذا وليس هناك أحد معها في الفيلا سوى العاملين بها ولا أحد يتجرأ على فعل شيء كهذا..
نظرت إليه بعينيها الزيتونية وقد رأت مظهره غريب عنها لا يبشرها بالخير، لم تتحدث وتثور عليه وتأخذ أي ردة فعل إلا عندما وجدته يدلف ويغلق الباب من خلفه بعينين صائد ماهر..
صاحت بجدية شديدة وضربات قلبها أصبحت تزداد عنفًا مرة واحدة لتجعلها تشعر بالرهبة:
-في ايه.. أنت داخل كده ليه
تقدم إلى أن وقف أمامها دون أي حديث، دون أي إشارة واحدة منه، نظر إلى عينيها مباشرة وكانت عينيه البُنية الحزينة تخاطبها بالخوف القابع داخل قلبه.. خوفه أن تكون فعلت ما هتف به ذلك الحيوان هو وابنة عمه.. يخاف أن تكون قد تخلت عن حبه لها ومحت حبه من قلبها..
رهبة تقـ ـتله وخوف يهزم كل خلية حية به أن تكون تخلت عنه وعن كل ما كان بينهم، حبه لها جنوني قـ ـاتل ينافس به أي شيء، يا ليتها تعلم ذلك..
استحضر لون عينيه الأسود القاتم في تلك اللحظات التي ستكون فارقة في حياة كلاهما، وأمر القسوة أن تتجسد به وبكل حركة تصدر عنه وقد كان ذلك..
جذبها من يدها الاثنين على حين غرة ثم جعلها تلتف عنوة عن نفسها وقام هو باحتضان جسدها بيد واحدة جاعلها تلتصق بجسده بقوة مانعًا حركتها مقيد جسدها بالكامل بيده اليسرى فقط..
صرخت بفزع عندما وجدته يفعل ذلك وهي لا تفهم أي شيء وحاولت أن تبتعد عنه وتبعد يده عنها وهي تتمتم بالكلمات المتسائلة عن ما الذي يفعله بها..
حاولت بكثرة أن تدفعه عنها ولكنه كان الأقوى وكان مُحكم لقبضته عليها وجعلها لأ تستطيع الحراك
مد يده إلى سحاب فستانها من الخلف وهي تتلوى أسفل يده بفزع ورهبة شديدة، ثم صرخت به بعنف واهتياج:
-أنت بتعمل ايه.. اوعا أبعد عني يا عامر
لم يستمع إلى أي من حديثها وبقيٰ كما هو يحاول السيطرة عليها إلى أن ينتهي مما يريد فعله، وأكمل في فتح سحاب فستانها تحت صرخاتها المستمرة عليه والخائفه منه وعقلها يقودها إلى كثير من الأشياء البشعة الذي يريد فعلها بها كما هددها قبل سابقًا..
وصل إلى ما كان يريد رؤيته، ظل يفتح السحاب على أمل أن ينتهي ولا يرى شيء مما يريده وينتظره ولكن خاب أمله كثيرًا وهو ينتهي بفتح السحاب إلى آخره وقد ظهر من خلفه الشامة!..
في تلك اللحظة يقسم أنه استمع إلى تكسير حاد في قلبه لم يستمع إليه من قبل.. احتل العنف جسده واهتاج أكثر وهو ينظر إلى ظهرها يحاول أن يتأكد.. يحاول أن يرى غيرها أو أن يمحيها.. يحاول فعل أي شيء يقول أن كل ذلك كذب وهي كما هي حبيبته وابنة عمه الشريفة..
لا يستطيع وصف ما يشعر به، يقسم أنه لا يستطيع أن يشرح أي شي أو يشعر بأي شيء سوى أن قلبه قد كُسر حقًا
رفع سحاب الفستان إلى آخره مرة أخرى بحدة وعنف يد ثم دفعها أمامه لتلتف هي في هذه اللحظة إليه صارخة بعنف واستنكار لما فعله:
-أنت حيوان وزبالة يا عامر أطلع بره وإلا قسمُا بالله مش هيحصل كويس بينا
أتدري أن عامر لا يشعر بأي شيء سوى قسوة ونيران حارقة في قلبه بعد أن كُسر؟ أتدري أن عامر قلبه تحطم وعقله لا يستطع استيعاب ما حدث؟ أتدري أن عامر لحظة آخرى لو بقيٰ بها على وضعه هذا يكمل في الصمت الذي حل عليه سيقع على الأرضية يلقى حتفه؟
استغربت نظراته عليها ولم تدري لما فعل ذلك وما الذي يريده منها ومرة أخرى صرخت عليه بقهر كان هذه المرة يأخذ مكان أكبر في نبرتها ولكنها لم تشعر بعدها بأي شيء سوى أنها أخذت لطمة على جانب وجهها جعلتها تقع على الفراش ناظرة للناحية الأخرى بعيده عنه..
لم يتحمل أكثر من هذا، لم يتحمل الاستماع إلى صوتها ورؤيتها هكذا دون أن يعبر عن رفضه لكل ما يحدث.. فلم يجد شيء يفعله سوى أنه صفعها بكل قوة لديه على وجنتها دون أي حديث منه..
انهمرت الدموع من عينيها بغزارة وهي تضع يدها على وجنتها وقد شعرت بسائل ينهمر على كف يدها من جانب شفتيها غير دموع عينيها المتألمة..
تقدم منها بخطوة واحدة وضع قدمه اليمنى على الفراش والأخرى على الأرضية وهي تجلس بالمنتصف على الفراش، جذب خصلات شعرها من الخلف وجعلها تنظر إليه بعينين مقهورة باكية متألمة يتعمق بعينيه على وجهها المطبوع على جانبه أصابع يده وشفتيها الذي يسيل منه خط دماء، يتعمق على عينيها الباكية المخادعة، ثم أردف بقهر وضعف شديد:
-خونتيني معاه؟ ليه تعملي كده؟ ليه؟ نمتي معاه لــيــه
نظرت إليه بذهول تام واستنكار لا نهائي لما يقوله، لقد تفهمت ما السبب خلف تصرفاته ولكن أيعقل أن يكون هذا؟. صاحت بعنف وعينيها متسعة عليه تنفي ما قاله:
-أنت مجنون ايه اللي بتقوله ده اوعا أبعد عني
شدد يده على خصلات شعرها القصير وجذبه أكثر لتتألم بقوة أمامه ولكنه صاح بجنون وقسوة العاشق داخله هي المسيطرة على الوضع بينهم:
-مش هسيبك يا سلمى.. مش هسيبك
انهمرت الدموع أكثر وأردفت بشفتين ترتعش بخوف وضعف شديد ونبرتها تنم عن القهر والذل التي تتعرض له الآن:
-أنا معملتش حاجه يا عامر ده كدب أنت إزاي مصدق اللي بتقوله
دفعها على الفراش للخلف بعنف فاصطدم ظهرها بالفراش بقوة وانحنى فوقها يهتف بنبرة حادة شرسة:
-خونتيني.. بيعتي نفسك وبيعتي حبي بالرخيص يا بنت القصاص
رأته يقدم يده منها وعيناه تنوي على فعل الشر بها فصاحت بصوت عالي وعيناها تترجاه بأن يبتعد:
-أبعد عني يا مجنون معملتش حاجه
وضع يده الاثنين حول عنقها وضغط عليه بقوة وعنف ولم يكن هو بحالة جيدة ليفهم ما الذي يفعله بل كانت حرقة قلبه وقسوة الحب الذي تعايش به معها الذي يتصرفان:
-مش بالساهل يا سلمى.. مش بالساهل، همـ ـوتك
رفعت يدها الاثنين هي الأخرى على يده تجذبهم بعيد عنها شاعرة بالألم الممزوج بالرهبة والخوف الذي يكاد يوقف قلبها عن النبض منتقلًا مع أهلها في عالم آخر:
-آه.. شيل ايدك همـ ـوت
ضغط بيده أكثر وأكثر واسودت عيناه أكثر من السابق وقلبه لا يوجد به شيء من الرحمة ولا الشفقة على مظهرها ورهبتها التي تتحدث من ملامح وجهها:
-همـ ـوتك يا سلمى... همـ ـوتك وأغسل عارك واشفي
غليلي
صمم على قتـ ـلها ولم يتراجع عن فعلها ورآها وهي لا تستطيع الحديث ووجها يحدث به الألوان السبعة، تفوه بالكلمات الحادة ولكن كانت عيناه غلفتها الدموع التي تنم عن قهرة رجل عشق حقًا:
-همـ ـوتك يا بنت عمي.. همـ ـوتك
في لحظة شعر أنها بعينيها تهتف بكم تحبه وتودعه وفي اللحظة التي كانت بعدها زاغت عيناها عنه وثقلت يداها الموضوعة فوق يده تبعده عنها واختنق وجهها وشفتيها باللون الأزرق الذي وقفت عليه اختلاف الدرجات.. في تلك اللحظة سقطت من عينه دمعة فقط تتحدث عن كم الألم الموجود بالدخل وهو لا يستطيع التعبير عنه، تتحدث عن ألمه القادم بعد فقدانها!!..
❈-❈-❈
"يتبع "
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الثالث_عشر
#ندا_حسن
"حاول سلب روحها الخائنة فلم يستطع، لحظات وسُلبت منه روحه"
جلس في حديقة الفيلا الخاصة بهم بعد أن قام بتنفيذ انتقامه ناظرًا إلى السماء ونجومها البراقه، الآن أرتاح قلبه قليلًا بعد أن نال منهم هم الاثنين، يعلم أن تأثير ما قاله سيكون صعب على كلاهما إذًا فهو مُتأكد من أن العواقب ستكون وخيمة..
يريد النيل منهم هم الاثنين معًا، يريد أن يرى كل منهم ذليل أمامه ليمتع عيناه بقهرهم وذلهم، يريد أن يشبع أنظاره من رؤية القهر على وجوههم وملامحهم تتحدث به..
لم يكن "عامر" عدو له من الأساس، إنه كان يريدها هي فقط، يريدها وحدها ليستطيع النيل منها وتشكيل العذاب عليها كما يريد ولكن "عامر" كان الحامي لها، كان "عامر" سـ ـارق قام بسـ ـرقة فريسته منه ليجعل انتقامه متوقف على بعده عنها وقد كان ولكنه كان الأقوى في قربه منها حتى في الفراق..
لم يكن يريد منه شيء ولكن عندما وقف أمامه وقام بتعطيل ما يريده منها جعله من أوائل المُسجلين في قائمة الانتقام لديه من بعد والدها وعائلتها بأكملها..
رفع نظرة إلى السماء مرة أخرى بعد أن اخفضها ونظر إلى النجوم المنيرة بها، وضع يده الاثنين أمام صدره وتكرمش جسده وعيناه تتابع النجوم باهتمام..
عادت ذاكرته لمشهد وقع أمام عيناه منذ سنوات عديدة، مشهد حُفر داخل عقله بالنيران المُشتعلة وهو طفل بعمر الستة سنوات!!..
"كان طفل بعمر الستة سنوات يلعب ويلهو في حديقة منزل والده وعائلته، وهو يضع الرمال في عربته المُحملة بالكثير نظر إلى البوابة ليجد والده يخرج منها بوجهٍ متهجم جامدة تعابيرهه ثم سار إلى الخارج..
بعينين طفل بريء للغاية نظر إلى المنزل وخفق قلبه للحظة لا يعلم لما حدثت وما سببها..
ترك السيارة ورماله التي كان يعتبرها بضاعه تباع وتشترى منه هو وألعابه الكثيرة، وقف على قدميه ثم نفض الغبار عن ملابسه ومسح بيده الاثنين بقوة حتى يدلف إلى والدته نظيف كي لا تعنفه على توسيخ ملابسه التي ارتداها في الصباح ولم يفت عليها وقت طويل.. يعلم هذه الإسطوانة جيدًا..
سار بخطوات هادئة وعيناه السوداء تتابع المنزل والطريق إلى أن دلف إلى الداخل.. كان تارك والدته في المطبخ قبل خروجه تعد له الكيك والحلوى الذي يحبها فتوجه في سيره إلى المطبخ ليراها ولكنها لم تكن موجودة به عند دخوله إليه، اشتم رائحة الكيك الخاصة به فدلف إلى الداخل أكثر ثم مد يـ ـده إلى الطاولة في المطبخ والتي كانت موضوع عليها قطع شهية من مأكولاته المفضلة..
أخذ قطة منهم بيده وبدأ في تناولها بنهم واستمتاع شديد ثم سار إلى الخارج من أخرى وأتجه في سيره إلى الأعلى ليصعد إلى والدته.. همهم في أثناء صعوده الدرج وود شكر والدته على هذا الطعم المثير الذي يجعله يستمتع كثيرًا وهو يتناوله..
وصل إلى الرواق يسير إلى أن وصل إلى غرفة والدته وقطعة الكيك بيده يأكل منها، بيده اليمنى كان يقربها من فمه ليأكل وبالأخرى كان يفتح مقبض باب غرفة والدته..
في لحظة جحظت عيناه السوداء البريئة، وقعت قطعة الكيك الشهية من يده على الأرضية الرخامية، أطبق شفتاه فوق بعضهما مُحاولّا ابتلاع ما وقف بجوفه، ارتعش جسده وانخفضت يده لا إراديًا عن مقبض الباب.. طفل صغير لا يدري ما الشعور الذي يراوده الآن سوى أنه خائف وبشدة ينظر إلى والدته المعلقة في الهواء من عنقها في حبل متصل بسقف الغرفة، بعينين مفتوحة على وسعيهما وجسده مُتدلي لا يتحرك..
بلل بنطاله برعب قفز إلى قلبه وهو يقف عند ايطار باب الغرفة ينظر إليها بعينين دامعة.."
عاد مرة أخرى إلى واقعة، رفع يده الموضوعة أمام صدره إلى أسفل عيناه يزيل تلك الدموع التي انهمرت منه وهو لا يشعر، دموع تسارعت خلف بعضها على وجنتاه وهو لا يدري بها حزنًا على ما مر به في طفولته التعيسة..
تنهد بصوت مسموع وأخذ نفس عميق ناظرًا بسواد عيناه إلى النجوم المنيرة، مُعتقدًا منذ صغره أن والدته واحدة منهما، تنظر إليه في كل وقت وتحدثه وتنتظر منه القدوم إليها ليجلس هذه الجلسة وينظر إليها متحدثًا بقلبه عما يشعر به..
إنه الآن شاب في الثلاثين من عمره، ولم يتخطى تلك الحادثة ولن يتخطاها أبدًا، إنه منذ ذلك الحين وإلى الآن يتيم فقد حنان والدته في لحظة لم يشعر بها، ولكن طفولته التعيسة وعذابه المُستمر منذ أربعه وعشرون عامًا لن يذهب هباء.. سينتقم أشد انتقام وكما تعذب هو كل ذلك الوقت سيجعلها هي في الأيام القادمة تنال عذاب يعادل عذابه لكل هذه السنوات.. سيكون دون رحمة، لم يبقى إلا هي لينال منها وذلك الاخرق ابن عمها الذي أوقع نفسه في طريقه دون مجهود منه..
عليهم الإنتظار والصبر كما قال "عامر" سيتبع هو الآخر طريقته، سيكون هذه المرة صياد ماهر ولن يتخلى عن فريسته..
❈-❈-❈
كان الحُب هو السبيل الوحيد لجعله يعيش بين البشر حيًا بروحه وقلبه، أتى الفراق فمات القلب وسُلبت منه روحه، ولكن الأمل بقيٰ بداخله للعودة والآن وبعد سنوات اكتشف بمرارة قلب عاشق أن من أحبها خانت العهد!..
قلبٍ مفتور حزنًا على حبه الضائع، على ثقته الذي ألقاها عليها من كل جانب قائلًا بأنها حبيبته وروحه الموجودة بجسدها، لم يكن يدري أنها ستطعن قلبه بذلك الخنجر وهي تبتسم..
نظر إليها بعينيه الدامعه، وجدها تبكي بغزارة وتنحدر دموعها على جانبي وجهها ولم تعد تستطيع أن تتمسك بيده لقد خارت قوتها ولم تعد أعصابها تتحمل الضغط عليها، كانت تنظر إليه بعينين ذائغة توضح له كثير من الأشياء وتنظر إليه نظرات خلف الأخرى جميعها ذات مغزى وأولهم أنها تحبه، لم تخونه، وتعذبت من فراقه، تودعه بسلام وتقول بتلك العينين الزيتونة أن لا ينساها ويخلد ذكراها بقلبه وستكون راضية إن مـ ـاتت على يده، فإن لم تنعم بالعيش داخل أحضانه غارقة بحبه وغرامه لها فلا مانع أن تمـ ـوت على يده، كانت على وشك غلق عينيها ففي لحظة واحدة جذب يده عنوة عن نفسه وأبعدها عن عنقها..
لم يكن هو من يخنقها، لم يكن هو من يريد قتـ ـلها كان هذا الحب الذي جمعه بقلبها ليتربع على عرشه في الداخل فعاد مُنتقم بعد أن خانت كل ما حدث بينهم..
جذب يده عنوة وكأن هناك شخص آخر لا يريده أن يبتعد عنها، يريد مـ ـوتها في الحال..
بعد أن أبعد يده تنفست بقوة وعنف، استمع إلى لهاثها بوضوح وهي تأخذ أنفاسها الذي سلبها منها لتلقى حتفها في لحظات ويكن هو الجاني والمجني عليه.. وتكن هي الأخرى كذلك..
مال عليها وجذبها من يدها اليمنى لتقف على قدميها ولكنها كانت في عالم آخر تمـ ـوت وهو لا يدري، أنفاسها مسلوبة وجسدها مُسترخي ولا تستطيع أن تميز ما الذي يحدث في تلك اللحظات..
ولكنه لم يعطيها الفرصة جذبها من يدها لتقف أمامه مُتمسكّا بها ثم وضع الأخرى خلف ظهرها جاعلها تستند عليه وسار بها بثبات وجدية وجسده متصلب، سار إلى باب المرحاض الموجود بغرفتها ودفعه بقدمه ليُفتح..
ثم دلف إلى الداخل بها وجعلها تقف أمام حوض الغسيل ومد يده إلى صنبور المياة يفتحه من بعدها بدأ بملئ كف يده بالماء والقاءه عليها، مرة خلف الأخرى وهي تشهق بعنف كلما فعلها..
سالت الدماء التي كانت على جانب شفتـ ـيها ومحيت بالمياة ولكن مظهرها كان يثرى له، المياة تغرق مقدمة صدرها وما طالته من خصلاتها القصيرة الغير مُرتبة بعد أن جذبها منها عدة مرات..
وجهها باهت حزين، يتحدث بملامحه الجميلة الفاتنة كم هو حزين مقهور مسلوب الإرادة.. يبرر فعله ليست لها بها ذنب...
مرة أخرى دفعها للخارج ليخرج من المرحاض ثم دفعها بيده لتجلس على الفراش وهي في صمت تام، كل تفكيرها به بعد أن استفاقت، لقد صدق أنها تخونه وتخون عائلتها، صدق أنها تخون والدها وتربيتها، تخون حبيب عمرها وسـ ـارق أحلامها؟ تخون عامر؟ من لم تقع عينيها إلا عليه وحده، من اشتهى القلب وجوده وحبه وحنانه..
مرة أخرى تسائلت، قارب على قتـ ـلها؟ خنقها بيد العاشق المُتألم داخله وسمح لنفسه أن يقتـ ـلها؟ يستطيع التخلي بهذه السهولة وتكون قُتـ ـلت على يده!..
عذاب قلبها في تلك اللحظات لا مثيل له، عند الاستفاقة على يد حبيبها تذبـ ـحها حقًا وليست كلمات!..
أقترب منها بوجهٍ لا يوجد عليه أي تعابير سوى القسوة:
-وديني يا بنت عمي لتشوفي مني وش عمرك ما شوفتيه.. لو كنت حبيتك في يوم فأنا دلوقتي بكرهك أضعاف
عقبت على حديثه الذي نغز قلبها بقوة بلهاث ودموع تنهمر دون صوت ولكن قلبها المتحدث:
-صدقني أنا معملتش حاجه.. أنا لسه زي منا أقسم بالله ما عملت اللي بتقوله ده يا عامر أنت ظالمني والله العظيم ظالمني
نظر إليها بعينين حادة قوية، داخلها ألم لا ينتهي وعذاب يكفيه إلى مـ ـوته ولكنه ضغط على نفسه مُنتظرًا خروجه من هنا، أخرج من جيبه هاتفه ثم عبث به أمامها للحظات وهي تنظر إليه باستغراب لما يفعله ولكن لحظة وقد فهمت وهي تستمع إلى صوت صديقتها المقربة "إيناس".. وهي تطعن بشرفها لإبن عمها وتسبها بألفاظ بشعة.. تقول أنها أقامت علاقة مُحـ ـرمة مع ابن عمها الحقير لذلك أتى لخطبتها..
بكت بقوة مرة أخرى وارتفع صوت بكائها واضعة يدها على فمها لتكتم شهقاتها وهي تستمع إلى ذلك الحديث الذي وقع على أذنها كالسيوف الحادة التي تـ ـذبح بها، لقد حذرها منها! منذ سنوات وسنوات وهو يحذرها منها، يبعدها عنها وهي تقترب، يهتف بأنها ليست صالحة لتكون رفيقتها وهي تعاند، يفعل كل ما بوسعه لتكون بأمان في مكان لا تراها به وهي لا تقتنع فتعود إليها مرة أخرى مُعتقدة أنه كاذب ولا يحبها بدون سبب واضح وصريح.. اعتقدت أنه كان يريدها مجردة من البشر وحيدة أمامه ومعه وحده..
ظهر الحق وأتضح أن "عامر"هو أكثر من خاف عليها، أتضح لها أنها كانت تقهر قلب مظلوم من جميع البشر وينتظر العوض منها فقامت هي الأخرى بقهره..
استمعت إلى سبه لها ونكرانه لما تقوله، استمعت إليه وهو يقول أنها شريفة لا تفعل ذلك ويثق بها أكثر من نفسه والأخرى تُصر على حديثها.. يلا قهرة قلبها الآن!!
رفعت أبصارها إليه بعينين دامعه حمراء بشدة من كثرة البكاء الذي تعرضت إليها اليوم وفهمت من ذلك الحديث أنه كان منذ أن أتى "هشام" ولم يصدقه إذًا ما الذي حدث مرة أخرى..
أخفض عيناه من عليها ثم قام بتشغيل الآخر من خلفه وجعلها تستمع مرة أخرى إلى صوت ذلك الحقير الذي قام بتهديدها اليوم صباحًا وفهمت ما كان قصده عندما قال أن أجابته على ما فعله ستصل إليها في المساء..
من أين علم بالشامة الموجودة بظهرها؟ لا تستطيع أن تقول أن إيناس من قالت له لأنها لم تراها من الأصل!.. عندما كانت ترتدي ذلك الثوب المشؤوم كان مغلق من الخلف فلم يكن ظهرها مُتعري!
لن تفكر في الغدر الذي تعرضت له عليها فقط الآن أن تقنعه أنها لم تفعل ذلك، وقفت عن الفراش واتجهت نحوه بنظرة مُعاتبة مُرهقة ثم أردفت بصدق وألم:
-صدقني يا عامر.. والله العظيم كدابين أقسم بالله كدابين أنت بنفسك اللي كنت بتحذرني منهم إزاي دلوقتي هتصدقهم
بادلها النظرات ولكن خاصته كانت غيرها تمامًا كانت نظرات حادة قوية عليها ونبرته رجـ ـولية مجروحه:
-عندك دليل على كلامك
خرجت الدموع من عينيها أكثر من السابق وانتحبت بقوة وهي تتقدم لتقف قبالته ثم تسائلت من بين بكائها الحاد:
-أنت محتاج مني دليل يا عامر؟ محتاج من سلمى دليل؟ أنت أكتر واحد عارف أنا ايه؟ أكتر واحد عارفني إزاي بتطلب مني دليل ومصدق إني أعمل كده
لحظة خلف الأخرى يتابع الدموع المنهمرة على وجنتيها وينظر إلى عتابها عليه ويستشعر كل كلمة خرجت من بين شفتيها، ولكنه لا يستطيع التمرير بهذه السهولة فأجاب على حديثها بقسوة وجمود:
-أنا معرفكيش!.. أنا كنت أعرف واحدة والظاهر إنها فعلًا ماتت من سنتين مع بقيت أهلها
تقدمت أكثر منه ووضعت يدها على قميص بدلته تجذبه ناحيتها منه وهي تلح عليه بالصدق ليستمع إليها والقهر مُرتسم على كافة ملامحها:
-لأ مموتش.. أنا لسه عايشه وزي منا.. والله العظيم دي لعبة منهم هما الاتنين أنا النهاردة كنت قابلته وقولتله إني مش عايزاه هددني أنه هيعمل حاجه مش هتعجبني وأهو عملها وأنت صدقت
وضع يده فوق يدها وتسائل بعينين حادة دون تفكير:
-المفروض مصدقش؟ قوليلي طيب إيناس شافت الحسنة اللي في ضهرك دي؟
أردفت بعدم تصديق لما يحدث ونفت أنها أظهرتها لها سابقًا وهذا شيء هي متأكدة منه:
-لأ مشافتش أنا والله هتجنن إزاي عرف بس والله العظيم أنا مظلومة معملتش حاجه صدقني
دفع يدها بعيدًا عنه بنفور وعاد للخلف خطوة ناظرًا إليها بقسوة وشراسة ثم أردف ببرود:
-الفرح بعد أسبوع يا بنت عمي مش شهر.. بكرة الصبح تعرفي الكل إنك موافقة جهزتي مجهزتيش مش مشكلتي
تفوهت بضعف وخوف يسيطر على قلبها:
-بلاش يا عامر علشان خاطري
ابتسم بسخرية دون داعي وقلبه ينـ ـذف ألمًا ثم سخر منها وجرح ما تبقى منها قائلًا:
-ايه؟ خايفة؟ خايفة أعرف إنك كدابة؟ متخافيش مش عامر اللي ياخد حاجه مستعملة
حركت رأسها يمينًا ويسارًا تنفي ما تحدث به وما ألقاه على قلبها المُدمر والمخذول منه هو وحده:
-والله العظيم لأ.. لأ والله لأ يا عامر أنت إزاي مصدق أنت عارفني
تذكر ما فعلته معه وعاد بذاكرته للخلف، ثم هتف به ليذكرها هي الأخرى وليجعلها تعلم أن الأيام تستعيد ما حدث مرة أخرى ولكن هي التي في موضع الإتهام:
-وهو أنتي مكنتيش عرفاني؟ ما أنتي كنتي أكتر واحدة عرفاني وبردو كدبتيني وأنا بجري وراكي من مكان لمكان وبحلفلك إني مخونتكيش
أشارت إلى نفسها وهتفت بثقة:
-بس أنا شوفتك
صاح بجنون وعنف وهو يسأل بصوت مرتفع حاد:
-شوفتيني بعمل ايه؟ شوفتيني في السرير
لم يستمع إلى رد منها فقط بقيت بعينيها الباكية تنظر إليه ومشاعر كثيرة تخاطبه فصاح هو مرة أخرى قبل أن تغلبه هي:
-ما تردي!
وضحت له ما حدث في الماضي وما يحدث الآن والاثنان شتان وهو الوحيد الجاني عليها ومن يهمها من بين الجميع:
-أنا مقدرتش استحمل صدقني والله مقدرتش كنت خلاص تعبت من كل حاجه.. لكن دلوقتي غير أنت بتسمع لناس عارف أنهم كدابين وكتير حذرتني بس أنا اللي كنت غبية
قال بجدية وهو يوثق ما حدث منذ لحظات في كلمات بسيطة تدعوه لتصديق ما قاله والنيل منها وأي شخص عاقل أو غير عاقل سيصدق ما استمع إليه كما هي قامت بفعلها سابقًا:
-سألت شاف الحسنة فين مش عارفة طب إيناس شافتها لأ.. نتجوز بردو لأ.. أصدق ولا مصدقش!.. اديني عقلك
نظر إليها بضعف وحزن، بقهر وألم ولكنه لن يكون ذلك الذي اضعفه حب وقتـ ـله أمامها بل سيكون ذلك القائد القوي الذي يهزم وهو وحده، بصوته الحاد وبنبرته القوية الشرسة استمعت إليه يهتف بقسوة:
-الفرح الأسبوع الجاي.. واحدة زيك متستاهلش تلبس فستان أبيض من أساسه بس إكرامًا لعمي اللي كان واخد دور أبويا هعملك فرح متعملش في البلد كلها
خرجت الدموع أكثر وأكثر من السابق وارتعشت نبرتها مرة أخرى وهي تهتف:
-أنت بتظلمني والله العظيم أنا ما عملت حاجه والله والله
عاد للخلف بجسده ومازال ينظر إليها ذاهبًا إلى الباب ليخرج منه، ناظرًا إليها بعيناه السوداء القاتمة ولم يبخل عليها بقوله القـ ـاتل:
-بكرهك يا سلمى.. أنتي من النهاردة بنت عمي وبس
خرج من الغرفة وجذب الباب خلفه بقوة شديدة أصدرت صوتًا عاليًا، بقيت واقفة تنظر إلى الباب بعد خروجه، عيناها لم تتوقف عن البكاء في صمت، لحظات وهي لا تستوعب ما حدث ووقف عقلها هنا عنده هو فقط ثم في لحظة لم تحسب أنها قادمة مرة أخرى بحياتها وقعت جالسة على الأرضية تبكي بقهر وألم حاد داخل قلبها يكاد يقتـ ـلها..
وضعت يدها الاثنين على فمها لتكتم شهقاتها العالية التي ملئت الغرفة عليها، وانحنت على نفسها للأمام والألم داخلها يزداد لحظة بعد الأخرى..
هي لن تفعل شيء، لقد اتُهمت بأبشع الجـ ـرائم، لقد وقع على عاتقها تُهمة لو كان السيف على رقبتها وفعلها هو المنجي لها لن تفعلها.
إنها يا "عامر" لم تستطع الزواج من غيرك ومجرد إقتراب الفكرة عليها دق قلبها بعنف وارتعش جسدها مُفكرًا بك وبغرامك الأبدي القـ ـاتل لقلبها..
على الرغم من أنك سـ ـارق أحلامها ولكنها تحبك! تهواك وأتى الفراق عليكم لعامان ولكن قلبها كان متعلق بكل ذكرى جمعتكم لتبقى أنت فقط في قلبها المغروم...
ازداد بكائها وارتفع صوتها ولم يعد كتم فمها بيدها ينفع بشيء فكان الألم كثير والقهر أكثر، عذاب مُستمر ولم يتوقف عليها إخراجه بتلك الصرخات والدموع المُتتالية...
عندما خرج من الغرفة سند بيده على بابها، وقف للحظات خلف الباب وهو رافض أن تبكي عيناه ولكنه كان ضعيف للغاية، كان أضعف مما يكون فانهمرت الدموع على وجنتيه للمرة الثانية ولكن والله هذه المرة ألمها يفوق الأخرى..
استمع إلى بكائها في الداخل، وبادلها هو في الخارج وقلبه يدق بعنف وقوة شديدة مُحذرة إياه،
الخيانة شعور صعب للغاية ويالا حظك التعيس إن كان من خانك من أعظم احبائك..
لقد ثار قلبه وعقله توقف عن التفكير، تشنج جسده وانخفضت الدماء بعروقه ووالله حينها شعر بأن قلبه قد كُسر..
سلبت نفسها منه عنوة وهو الذي أحبها حد الجنون، باعت ما كان بينهم بأرخص الأتمان وابتعدت عنه جاعلة الفراق يأكل ما كان بينهم أكثر وأكثر منها..
كأنها طعنته في مُنتصف قلبه، أو مُنتصف ظهره لا يدري ولكن في الحالتين هي كانت تبتسم بسعادة، لأنها تبتعد عنه وتقترب من غيره لتسلم إياه نفسها ولتكن أخرى غير حبيبته التي يعرفها..
دمعات "عامر" لم تتوقف عن الهبوط ويده ارتفعت إلى قلبه يضعها فوقه بعد الشعور بأنه حقًا سيتوقف على أثر ضرباته العنيفة المُتتالية، ثم لم يترك نفسه لتلك البقعة فابتعد عن غرفتها وهو مازال يبكي خارجًا من المنزل بأكمله..
❈-❈-❈
أطفأت نيران قلبها قليلًا، فقط قليلًا، ما فعلته بهم الليلة لا يساوي دمعة واحدة خرجت من عيناها في تلك الليالي الحزينة التي سببها إليها "عامر القصاص" كما تسميه قاهر قلوب العذارى..
خمد دخان النيران التي كانت مُشتعلة في قلبها وعقلها وروحها التي كانت مسلوبة منها بقهر وحزن شديد شعرت به لكثير من الوقت بسببه هو وحده ومن بعده ابنة عمه المصون.. التي ستجعل حياتها بمثابة الجحيم..
مؤكد أن "عامر" قال لها أن هي وابن عمها من تحدثوا عن شرفها بالسوء، ستكون غبية حقًا هذه المرة إن لم تصدقه ولكنها على كل حال ستعرف..
فقط ينتظر قليلًا وستقوم بحرقة الأخضر واليابس المُحيط به، ستشعل حياته بالنيران المُلتهبة التي تأكل كل شيء في طريقها من حياته..
ستجعله تعيس إلى المُنتهى وستأخذ منه حبيبة عمره أو أن تجعله حزين العمر كله عليها.. لن تتركه ينعم بحياته هذه المرة فقد طال الإنتظار وهي تمثل الحب عليها فقط لكي تحصل على ما أرادت وما خططت له..
قد أتى وقته وكانت الفتيلة منذ عامان عندما فرقتهما، صحيح لم تكن تعلم أن عواقب فعلتها ستكون موت أهلها وهي ربما كانت تكون معهم ولكن حدث ما حدث.. ستكمل ما بدأته منذ عامان وستسير على نفس هذا النهج وتفرق بين هذان القلبان.. ستجعلهما يتألمان شاعرين بأن نهاية العالم قد بدأت من موضع النبض لديهما.. ستكون ضريبة خيانته لها غالية الثمن.. غالية للغاية..
بعينيها وذاكرتها عادت للخلف قبل خمس سنوات حيث كانت في ذلك الوقت هي وحبيبته في عامهم الواحد والعشرون..
"جلست على مقعد عالي قليلًا أمام البار في داخل الملهى الليلي وبيدها كوب به مشروب مُحـ ـرم تناوله ولكنها في ذلك الوقت كانت فتاة صاخبة كالموسيقى الصاخبة في المكان الجالسة به، مليئة بالحيوية والنشاط في مُقتبل عمرها الذي أضاعته هباء في كل هذه الأفعال المُحـ ـرمة التي قامت بها..
خصلاتها سوداء تتخطى كتفيها، عينيها سوداء حادة حالكة لا تحبها أبدًا، شفتيها مضمومة للأمام بلونها البنفسج البارز هذا، كانت ملامحها حادة ولكن ربما تكن أيضًا جميلة، لكنها أضاعت جمالها بطريقتها المُخفية وتصرفاتها المنافية للآداب والأخلاق..
تتراقص بجسدها العلوي على المقعد وتحرك الكأس بيـ ـدها بطريقة راقصة، تنظر بعينيها في كل إتجاه وكأنها تبحث عن شخص ما.. إلى أن وجدته..
ثبتت في مكانها وتوقفت عن الرقص، رفعت الكوب إلى فمها وارتشفته مرة واحدة ثم تركته على البار أمامها بحدة وعينيها على من يدلف إلى الداخل مُتقدمًا منها وقد ارتسمت الابتسامة على شفتـ ـيها فور أن رأته..
وقف أمامها بعد أن أقترب منها ولم يكاد يتحدث فوجدها هي التي تهتف بقوة وصوت عالي كي يستمع إليها من بين أصوات الموسيقى العالية:
-وحشتني
ابتسم بسخرية شديدة مُحركًا رأسه يسارًا ويمينًا مُستنكرًا حديثها ثم صاح بقوة هو الآخر:
-أنتي لسه عرفاني من يومين وحشتك إزاي يعني
ذمت شفتـ ـيها البارزة بقوة وهتفت بما شعرت به ونظرة جدية:
-وهو أنت زي أي حد بردو.. طب ورحمة أمي من وقت ما شوفتك أول مرة وأنت واحشني
صعد على المقعد المقابل لها هو الآخر وصاح بجدية ناظرًا إليها:
-طب بس بلاش تجيبي سيرة الميتين خليهم في حالهم هما نقصينك أنتي كمان
عاد النادل بملئ الكأس الذي أمامها وقام بملئ واحد مثله إليه فأخذته وارتشفت منه ثم هتفت وهي تنظر إليه بعينين مُدققة به ربما تهواه:
-مش هتعرفني عليك أكتر!..
نظر أمامه بعيد عنها يتابع بعينيه الخبيثة النساء أمامه بطريقة وقحة، أجابها قائلًا بثقة:
-مش كفاية عليكي اسمي
نظرت إليه مُطولًا، إنه محق يكفي اسمه وهيبته، مظهره ووسامته، عقبت على حديثه وهي تراه يُتابع بعينيه الكثيرات أمامه:
-اسمك لوحده هيبة ومركز يا.. يا عامر
عاد بعينيه إليها مُستديرًا برقبته فقط ثم هتف قائلًا بنبرة جادة:
-وأنتي منا بردو معرفش غير اسمك
استندت بيدها على البار واقتربت منه بوجهها ثم أردفت بصوت ناعم يملؤه الشغف تجاهه:
-عايز تعرف ايه تاني وأنا أقولك
ابتسم بسخرية داخلة وهو ينظر إليها ويراها هكذا وهي في مثل هذا السن الصغير، أردف بنفي ثم دللها بعينين خبيثة:
-لأ مش عايز أعرف.. كفاية عليا ناني وحياتك
بادلته نفس النظرة الخبيثة وتفوهت بالكلمات المُبادلة له الدلال والرقة:
-هستغنى عن إيناس ده خالص، ناني طالعة منك فوديكا
تسائل بشفتيه وهو ينظر إليها:
-أنتي ايه اللي جابك هنا النهاردة
أجابته بنعومة ورقة بالغة وهي تريه أنها وقعت في شباكه في لمح البصر:
-جيت أشوفك مش قولت إنك بتيجي حد وخميس.. أنا كمان بقيت باجي الحد والخميس
ابتسم بشفتيه ابتسامة واسعة وهو يعقب على حديثها مُهينًا لكرامتها داخل حديثه:
-دا أنتي واقعة أوي.. طب داري نفسك شوية
عادت للخلف رافعة حاجبيها للأعلى قائلة باستنكار:
-أنت واضح وأنا واضحة يبقى ليه أداري
تحدث مؤكدًا حديثها الكاذب:
-عندك حق وحياتك
تسألت بعينين وقحة وهي تنظر إليه نظرات مراهقة وليست شابة ناضجة:
-طب ايه؟
تسائل بعينيه قبل شفتيه وهو يراها كالمجنونة أول مرة لها أن تتعرف على رجل ولكنه كان واثق في قدراته مع الجـ ـنس الآخر:
-ايه؟
ضغطت على جانب شفتيها بأسنانها بطريقة مغرية للغاية وهتفت برقة ودلال:
-ما تيجي نرقص
نظر إليها بعينيه وكأنه تسلبه نحوها لفعل شيء بشع يود فعله منذ زمن ولكن حبيبته تعوقه، يريده معها هي وحدها وليس غيرها..
ارتفع صوت الهاتف بجيبه ولكنه لم يشعر برنينه ولم يستمع إليه في ظل أنه مُثبت نظره عليها يرى كم هي وقحة أو مجنونة بل شعر باهتزازه داخل جيبه، أخرج الهاتف ونظر إلى شاشته فوجد من يقوم بمهاتفته حبيبته رفع وجهه إلى الجالسة أمامه ثم عاد مرة أخرى إلى شاشة الهاتف ينظر إلى الإسم المدون عليها والذي كان حبيبتي أغلقه ثم أعاده إلى جيبه مرة أخرى ونظر إلى "إيناس" وكأنه فكر بها بعقله فأتت إليه لتجعله يعود عما في رأسه كما كل مرة..
تحدث بجدية ليخلي مسؤوليته بطريقة غير مباشرة وليهتف بحديث ظاهر فقط وعندما يتعمق يقول ها قد قلت لك..
تحدث بحنية ورقة ومعها الجدية الكاملة ليشتتها ويكون فعل ما وجب عليه فعله:
-بصي يا ناني أنا باجي هنا علشان اتسلى.. أي حاجه بتحصل هنا بتبقى تسلية، ماشي يا ناني
نظرت إلى تغيره بعينيها واستشعرته حقًا بعد رنين الهاتف ونظرته إليه وإليها:
-ده أكيد كان حد مهم اللي كلمك علشان كده خوفت
ابتسم بثقة ثم قال بتأكيد:
-مش عامر اللي يخاف أنا بس بعرفك
استشعرت ثقته أيضًا وحديثه المؤكد الواثق، هيئته ونبرته، فقالت مُتسائلة:
-مش هترقص؟
وقف على قدميه وارتشف من كأسه ثم أخرج ورقة مالية وتركها على البار غامزًا له في نهاية حديثه:
-لأ همشي.. وهبقى أكلمك
تحرك من أمامها فتحدثت هي الأخرى وعينيها عليه:
-هستناك.... يا عامر"
عادت إلى واقعها مرة أخرى بعد أن أغلقت ذكرى رؤيته للمرة الثالثة في ملهى ليلي، كانت هذه المرة الثالثة الذي رأته بها، تعرفت عليه، جلست معه، تحدث إليه، تقابلا مرات كثيرة بعدها، وكم كانت الأمور تسير بشكل جيد إلى ذلك اليوم المشؤوم.. ولكنه هو من قام بخداعها!.. هو من فعل كل ذلك فعليه تحمل النتيجة وحده هو وحبيبته..
❈-❈-❈
لم يجد مكان يحتويه سوى الملهى الليلي!.. بعد أن انهارت حصون قلبه ووقعت قلعته مُتدمرة بعد غزو الخائنة حبيبته عليه..
سالت الدموع من عيناه فور أن خرج من الفيلا إلى وصوله هنا وكأنه لم يبكي عندما كان طفل، كأن عيناه لم تعرف البكاء يومًا..
شعوره لا أحد يستطيع وصفه ولا حتى هو يعرف بماذا يشعر، لقد مـ ـات قلبه ودُفن بعد أن اكتشف خيانة وقسوة الحب الذي كان بحياته..
لا يعرف لما يحدث معه هكذا؟ هل هي ليست مكتوبة لأجله؟ هل هي مقدرة لغيره وهو يكابر!، منذ زمن وكلما أقترب من الحصول عليها يحدث شيء يبعدهم الآن بدأ في الإقناع أنها ليست له.. ولكن مع ذلك لن يتركها.. سيجعلها ترتشف من كؤس العذاب كما حدث له..
لا يدري لما يشعر الآن أنه وحيد حقًا، هو كذلك ولكن الآن يشتد عليه هذا الشعور وبقوة، لا والد له ولا صديق ولا هي من كانت له الدنيا وما فيها..
تنهد وهو يبتسم بسخرية مُتذكرًا قبل سنوات وعمه على قيد الحياة ووالده يشتد عليه يوم بعد الآخر...
"عندما كان عمره سبعة وعشرون عامًا، عاد وقرآن صلاة الفجر يقرأ في الثالثة صباحًا صف السيارة ثم خرج منها وهو يترنح بقوة للخلف والأمام بسبب ثمالته التي نتجت عن شربه الكثير من الكحوليات، دفع باب السيارة بقوة أصدرت صوتًا عاليًا ثم سار في وجسده غير مُتزن يترنح من هنا إلى هنا وعقله ليس معه، رفع نظرة إلى شرفة حبيبته التي لا تريد أن تحنن قلبها عليه وتوافق على الخطبة في هذا العام.. يا لها من قاسية كل يوم تأجل زواجهم ليست صغيرة هذه إنها بالغة صاحبة واحد وعشرون عام لما لا تتزوجه وتجعله ينعم معها بكل ما يريد..
أخفض وجهه إلى الأرضية وأكمل سيره إلى الداخل ولكنه وجد عمه "أحمد" يخرج إلى الحديقة ينظر إليه بانزعاج وضيق شديد، وقف أمامه ونظر إليه بقوة قائلًا بجدية:
-ليه كده يا عامر مش كنا اتفقنا إنك مش هترجع للطريق ده تاني
صمت ولم يجب عليه فقط نظر إليه بسخرية وهو من الأساس ليس معه، أمسك عمه بذراعه ليساعده وهو يهتف:
-أمشي تعالى أغسل وشك من الحنفية اللي ورا قبل ما تدخل أبوك مستنيك
أردف "عامر" بنبرة مهزوزة ولكن حديثه يحمل الجدية:
-مش لازم يا عمي هو متعود مني على كده
جذبه من ذراعه بقوة وهو يُسير باتجاه جانب الفيلا حيث هناك صنبور مياة في الأرضية يخص الزرع الأخضر والورود الموجودة بحديقة الفيلا، أخذه إلى هناك ثم فتح الصنبور وبدأ في السكب على وجهه كميات كبيرة من الماء بقوة لتجعله يستفيق مما هو به..
كان الآخر مُنزعج بشدة وحاول الإبتعاد ولكن عمه لم يتركه يفعل ذلك لأن والده إن وقعت عينيه عليه وهو في هذه الحالة لن يحدث خير أبدًا..
صاح "عامر" وهو يبتعد للخلف:
-خلاص فوقت
وضع يده الاثنين على جانبي رأسه يضغط عليه بقوة بسبب الألم الذي داهمه بعنف وشراسة، أغمض عينه ضاغطًا عليهما ثم فتحهما مرة أخرى ووقف معتدلًا ناظرًا إلى عمه الذي هتف بقوة وجدية:
-أبوك قاعد جوا لحد دلوقتي علشان مستنيك، هتدخل معايا وتحترم كلامك يا عامر معاه مهما يقول متردش بطريقتك عليه لأنه المرة دي معاه حق مليون المية
احتدت نبرته وأسودت عيناه وهو ينظر إليه قائلًا بعنف وحدة:
-معاه حق ولا لأ هو أخر واحد ممكن يتكلم معايا
نظر إليه عمه بقوة وهتف بتأكيد يذكره بما كان يحدث:
-متنساش إنه أبوك وإنه حاول معاك كتير وأنت اللي كنت بتعاند وتبجح
تسائل الآخر بعينين حادة مُثبتة عليه ثم أجاب على نفسه بقسوة:
-وبعدين؟ عمل ايه بعدين؟ بقى يطردني برا البيت ويقولي روح للصيع بتوعك، بيسيبني للصيع بتوعي ليه؟ وأنا واثق إنه هيطردني دلوقتي وهتشوف
نظر عمه إلى الناحية الأخرى ثم دفعه مُربتًا على كتفه وهو يقول:
-مش هيطردك يا عامر.. يلا أدخل
سار معه إلى الداخل وهو مُنزعج بشدة والحنق سيطر عليه من كل جانب غير ذلك الصداع الذي احتل رأسه وكأنها مكانه..
دلف من البوابة وعمه معه وهو بتلك الهيئة، طوله الفارع ووجهه الطويل وتلك النظرة الحادة المزروعة بوجهه وملابسه السوداء مبلله ولكن لم يظهر ذلك..
وقف "رؤوف" والده في مُنتصف الصالة عندما وجده يدلف إلى الداخل وضع يده الاثنين خلف ظهره ورفع وجهه إليه بشموخ ثم صاح بقوة:
-كنت فين يا عامر لحد دلوقتي
أجابه الآخر بنبرة جدية مُعتدلة كما قال عمه له في الخارج:
-كنت سهران مع صحابي
استنكر والده حديثه وتسائل بسخرية:
-مع ستات وخـ ـمرة
بجح به الآخر وبقوة وهو يهتف أمامه أنه كان يحتسي الخـ ـمر دون أي خجل منه:
-خـ ـمرة بس ماليش في الستات
صاح عمه من خلفه مُناديًا بإسمه بقوة وحدة كي ينبه أن يعتدل في الحديث مع والده:
-عامر
استهزأ به واستدار ينظر إليه بمزاح ولا مبالاة:
-ايه أكدب يعني
تقدم والده منه بخطوات ثابتة وهو ينظر إليه نظرات حادة تهطل من عينيه عليه قائلًا في سيره بقسوة:
-لأ إزاي متكدبش قول كل اللي عندك ماهو أصل أنا اللي غلطان نسيت اربيك يا عديم التربية
حرك "عامر" يده إليه بلا مبالاة وعدم اهتمام كبير لحديثه وهو يردف بملل:
-اسطوانة كل يوم، لو في جديد قوله علشان ننجز مش معقول كده كل يوم يعني نفس الكلام لازم نغير بردو
أشار والده هو الآخر عليه بغيظ شديد لأنه لم يعد يستطيع أن يفعل معه أي شيء ولم يأتي أي مما قام به معه بالنفع فصاح بقوة وعنف موضحًا له ما يستحقه:
-أنت ولد قليل الأدب ومش متربي والعيشه اللي أنت عايشها دي متستهلش ربعها لأنك بترفص النعمة برجليك وكمان سُكري ونسوانجي دا أنت مليان ذنوب ومعاصي أرحم نفسك
داخله تألم لأن والده يعلم أنه في مثل هذا العمر وملئ بالمعاصي والذنوب ولم يحاول مرة واحدة أن يجعله يعود عنها باللين والهدوء، هتف مرة أخرى بلا مبالاة:
-لو قولتها بطريقة أحسن من كده كان ممكن أقتنع
نظر إلى أخيه في الخلف الذي دائمًا يُدافع عن ابنه وينصحه باللين ولا يفعل بما يقوله له، أشار إليه بغضب وعصبية وهو يقول بصوت عال:
-شايف البيه اللي أنت بتحبه وبتقولي دا طيب وغلبان عايز اللي يحتويه؟ الشحط ده عايز اللي يحتويه ولا هامه واقف يهرج ويبجح في اللي عايش من خيره
أردف "عامر" هذه المرة بجدية شديدة مُتخليًا عن تبجحه ولا مبالاته:
-أنا عايش من خير نفسي بشتغل وبشغلي بتدفعلي فلوس مش باخد منك رحمة ونور
تقدم منه والده وقال بعصبية موضحًا له مركزة:
-لأ وأنت الصادق أنت لسه يدوب من كام سنة شغال لكن طول عمرك عايش في خيري وبتاكل منه
تحدث "عامر" بتبجح مرة أخرى وهو يُشير إليه بعصبية وغضب بعد أن فارت الدماء بعروقه من كثرة ثرثرته يوميًا:
-أنت مش خلفت يبقى تشيل ولا عايز تخلف وتجري
أقترب عمه منه في خطوات سريعة وأمسك به يدفعه للداخل كي يصعد إلى غرفته:
-أخرس يا عامر بقى.. أمشي أطلع اوضتك
أشار إليه والده مرة أخرى وأردف بقسوة وحدة وصوته عالي في منتصف صالة الفيلا:
-عايز تجوزه بنتك يا أحمد.. ده عايز تأمن على بنتك معاه، ده هيبقى أب وزوج ويشيل مسؤوليه!
عاد إليه "عامر" وابتعد عن عمه ليقف أمامه بقوة وعنف متحدثًا بجدية شديدة وشراسة ليوضح إليه أن "سلمى" لن تكون لغيره:
-بقولك ايه.. أعمل أي حاجه وقول اللي أنت عايز تقوله بس كله إلا سلمى علشان أنا هتجوزها غصب عن الكل
أقترب والده منه ليقف أمامه مُباشرةً وتسائل بجدية:
-غصب عن مين
نظر "عامر" في عينيه بقوة وعنف ولم يتراجع عن أي مما يفعله أو يقوله بل أكمل قائلًا بشراسة:
-عنك أنت أول واحد
رد والده عليه بصفعة قوية على جانب وجهه بكفه العريض، التف وجه "عامر" على أثرها الناحية الأخرى..
شهقت بعنف وتفاجئ وهي تراه يصفعه هكذا واضعة يدها على فمها وكتمت شهقتها بها كي لا يراها أحد أو يستمع إليها..
ضغط على شفتيه بأسنانه بقوة شديدة قد جرحت على أثرها وخرجت منها الدماء، كور قبضة يده الاثنين بعنف كي يحاول التحكم بنفسه بعد هذه الصفعة التي تلقاها منه..
عاد ناظرًا إليه ليراه يبعث إليه القسوة الخالصة..
جذبه عمه من يـده بقوة ودفعه إلى درج السلم قائلًا بصراخ:
-أطلع فوق... أطلع
عادت للخلف سريعًا عندما وجدته يصعد وذهبت إلى غرفتها ركضًا حتى لا يراها ويعلم أنه رأته في ذلك الموقف الذي لا يحسد عليه..
بعد أن تأكدت من أن كل منهم دلف إلى غرفته، ذهبت بتلك المنامة إلى الأسفل لتفعل له فنجان من القهوة وتأخذ إليه الحبوب المسكنة للألم.. ليته يعود عما يفعل.. ليته يترك الطريق الذي دلف إليه فجأة دون سابق إنذار..
صعدت على الدرج بهيئتها الفاتنة وجمالها الأخذ، بخصلات شعرها الطويلة قليلًا ذات اللون الذهبي، عينيها الزيتونية وشفتيها الوردية المُكتنزة.. لقد كانت كتلة جمال متحركة أمامه..
دقت باب الغرفة فلم يجب عليها، علمت أنه في المرحاض فدفعت الباب ودلفت إلى الداخل تاركه الفنجان ومعه مُسكن للألم..
عادت إلى باب الغرفة وفتحته لتخرج فوجدته هو الآخر يخرج من المرحاض ناظرًا إليها بعينين خالية من أي مشاعر.. فتركته هي الأخرى بعد أن أشارت له على ما جلبته إليه..
الوحيدة التي تفكر به، على الرغم من كل ما يحدث أمامها مازالت هي ووالدها فقط من يقفون معه.. انحدر بطريق الخطأ ولا يستطيع الرجوع عنه، لما لا يجعله يعود باللين؟.. لما يفعل معه هكذا.. إنه لا يحب نفسه بهذه الطريقة، لا يريد أن يكمل على نفس هذا النهج.. إنه يريد أن يعود "عامر القصاص" كما عاهدوه.."
عاد "عامر" من تذكره لتلك الأمور التي مضى عليها كثير من الوقت والأعوام، ترك الكأس الذي كان بيده وأخرج من جيبه المال وتركه على الطاولة ثم وقف على قدميه مُتحركًا للخلف بظهره ليذهب من هنا..
اصطدام بأحد خلفه وعلى أثر الاصطدام وقع كأس الآخر منه مُتهشم على الأرضية، إلتف ينظر إليه بجدية وكان سيعتذر عن ذلك الخطأ ولكنه وجد الآخر يهتف بتبجح وصراخ:
-ما تفتح يا أعمى ولا تحب افتحك أنا
نظر إليه وإلى من معه بثبات ثم أجابه بثقة:
-عندي اوبشن أحسن، أنا ممكن أعميك أنت
صرخ الآخر عليه وتقدم منه بجسده الصلب العريض وهو يقول بصوت خشن عالي:
-وريني كده يا أبو الرجـ ـولة
رفع عامر يده ليلكمه في وجهه بقوة وعنف عندما وجده يقترب منه ثم قام بدفعه للخلف فدافع عن نفسه بقوة..
أقترب الآخرين منه واحدًا منهم لكمه في وجهه كما فعل هو بالآخر فرد له لكمته بقوة وعنف..
وقف صوت الموسيقى وارتفعت أصواتهم الرجـ ـولية المزمجرة عاليًا وحاول "عامر" أن لا يترك لهم الفرصة في النيل منه وهو يتبادل معهم الضربات..
ولكنه على حين غرة وجدهم يبتعدون عنه تاركين الفرصة لمن تشاجر معه في البداية ليقترب منه بجسده العريض بثبات وثقة ليقف أمامه ثم فجاة ودون سابق إنذار أخرج من خلفه مدية وقام بفتحها ليدفعها بكل قوته في مُنتصف بطنه لتخترق القميص الذي كان يرتديه ومن خلفها خرجت الدماء بغزارة تُسيل مغيرة لون القميص من الأبيض إلى الأحمر..
جذب الآخر المدية وظهر على وجهه الإجرام والقسوة وهو ينظر إليه بثبات كما كان، وضع "عامر" يده على بطنه موضع الجرح الذي يخرج منه الدماء بغزارة وصرخ بقوة متألمًا وتغيرت ملامح وجهه بالكامل ثم وقع على الأرضية وهو لا يحتمل ذلك الألم والدماء تسيل منه بغزارة دون توقف..
❈-❈-❈
"يُتبع"
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الرابع_عشر
#ندا_حسن
"اعتراف بالحب المكنون داخل قلب مُفتت من الحزن"
ألقاها في قاع بئر فارغ في صحراء جرداء، تركها وحيدة مع سواد الليل وصوت الذئاب البشرية التي نهشت في جسدها دون أن تدري..
منذ أن رحل وتركها وهي تبكي على عمر أضاعته في رفقة خائنة كانت تكذب عليها وتقوم بخداعها لأنها غبية..
كانت تقوم بخداع من أحبتها كشقيقة لها، جعلتها صديقة "سلمى القصاص" ابنة أحد أهم الأشخاص في البلدة بأكملها، جعلتها تدلف حياتها وتسرد عليها كل ما يحدث بها وأحيانًا تأخذ رأيها وتقوم بتنفيذه عندما يروق لها..
إلى هذه الدرجة كانت عمياء عنها؟ ولكنها لم ترى منها حقًا أي مما يثير ريبتها، لم ترى أي شيء سيء منها وإلى الآن تعترف بهذا الشيء ولكنها كانت تخفيه داخلها، تظهر إليها ورود الربيع وكأنها ملاك مُجنح.. وفي الحقيقية كانت شيطان أسود معذب لقلبها..
الآن تندب حظها العثر وعقلها الغبي الذي لم يصدق "عامر" متى كان يريد أن يؤذيها؟ متى كان يريد لها الشر؟ لقد كان الحامي الأول لها، كان كل شيء وأي شيء تريده.. لما لم تستمع إلى حديثه المُحذر إياها؟..
لا تعلم إن كان هذا تخطيط إلهي أو أنه تخطيط من هؤلاء الحيوانات المُفترسة ليجعلوها تقع في فخهم المنصوب إليها بكل ترتيب..
السؤال هنا هي لما فعلت بها ذلك؟ هي لم تفعل معها أي شيء سيء بل بالعكس، حتى أنها تعرفت عليها في البداية صدفة بحته أو ربما لم تكن صدفة كان كل ذلك تخطيط والآن كانت الفرصة المناسبة..
ربما "عامر" لم يخونها كما قال وهي من أرسلت الفتاة إليه؟ إنه قال لم يراها ولم ينادي إياها بل وجدها فجأة تقف معه وتضع يده عليها والأخرى قامت بتصويره هذا متوقع.. بل مؤكد هذا ما حدث..
وضعت يدها فوق فمها تكتم تلك الشهقات والقهر المُنبعث من داخلها، الآن فقط علمت أنها من كانت الخطأ منذ البداية، لو ابتعدت عنها لم يكن ليحدث كل ذلك، لو حتى وثقت به وقالت أنه بريء كما قال ولم تُصر على الرحيل لم يكونوا أهلها قد تركوها، لم تكن انفصلت عنه لمدة عامان وجعلت نفسها إليه القاضي والحاكم في قضية ليس له بها ذنب وقامت بالحكم عليه ظلمًا وأعطته المؤبد!..
يا الله كيف فعلت كل ذلك، كيف تركت نفسها إلى تلك الحقيرة تحركها بسهولة هكذا!.. أنه كان محق عندما قال أنها السبب الأول في موت عائلتها، لقد أتضح أنها السبب في كل شيء..
هي من كذبته فأنفصلت عنه، توفت عائلتها بالكامل بسبب إصرارها على الرحيل، تركته وحده ليعود مرة أخرى إلى معاناته القديمة وليعود إلى المشروب من جديد غير قادر أن يتحكم في نفسه..
لقد قال لها أنها الوحيدة التي يريدها في حياته، الوحيدة التي تفهمه وتستمع إلى حديثه وتداوي ألامه، لقد كانت قاسية للغاية وهي لا تدري.. كانت قاسية على الجميع وأفقدتهم كل عزيز عليهم.. إنها الوحيدة الجانية وهم المجني عليهم..
استمعت إلى صوت الهاتف يصدر صوت يقول أن هناك رسائل تأتي إليها، اعتقدت أنه هو، تركت بكائها واعتدلت سريعًا على الفراش وهي تأتي به ثم فتحته لتجده ذلك الحقير الآخر مثل ابنة عمه..
كانت رسائله عبارة عن "يارب يكون الخبر الأول وصل، التاني هيوصلك قريب بالكتير بكرة الصبح وهتدعيلي"
نظرت إلى الشاشة بعينيها المتكون عليها غمامة من الدموع وقرأت ما به كثير من المرات لتفهم ما الذي سيفعله غير ذلك.. لكنها تركت الهاتف وألقته على الفراش وعادت مرة أخرى إلى بكائها المُستمر وتأنيب الضمير الذي شعرت به منذ أن علمت الحقيقة المُرة..
ليتها كانت ماتت معهم من البداية وتركت كل شيء خلف ظهرها، أو كانت استمعت إلى حديثه وتركت صداقتها مع تلك الحقيرة ولو كان حدث هذا اليوم ربما تكون أم لطفل منها ومنه!..
ربما كانت كونت أسرة جميلة معه وعاشت أسعد لحظات حياتها وهي في أحضانه.. رفعت الوسادة ووضعتها على ركبتيها لتنحني بجذعها العلوي للأمام دافنة وجهها في الوسادة تبكي بقوة والدموع تنحدر من عينيها بغزارة ندمًا على كل ما فعلته وما قامت به منذ عامان إلى اليوم في حق الجميع ونفسها قبلهم..
❈-❈-❈
هبطت في الصباح بوجه باهت مُرهق إلى الغاية، عينيها مُنتفخة ومظهرها ليس جيد بالمرة ملامحها حزينة مُنكسرة، هبطت على الدرج بتلك الهئية الغير معتادة منها، مرتدية بنطال أبيض واسع يعلوه قميص باللون البرتقالي الهادئ بداخله نقاط خضراء بأكمام طويلة وتختفي أطراف القميص داخل البنطال، وحذاء رياضي أبيض اللون وفي يدها ساعة نسائية سوداء.. ملابسها لم تكن مُهندمة وخصلات شعرها تركت لها العنان في الإنطلاق ربما تأخذ حظ أفضل من صاحبتها..
دلفت إلى غرفة الطعام في وقت متأخر ولكنهم كانوا في الداخل، لقد كان يوم العطلة الجمعة، ألقت تحية الصباح بصوت خافت ودلفت لتجلس على مقعدها..
لاحظ عمها تغيرها ونظرتها التي كانت على سفرة الطعام منذ أن دلفت، رفع بصره عليها وتحدث بجدية:
-مالك يا سلمى
ابتسمت عنوة عن نفسها ورفعت رأسها إليه ثم أردفت قائلة بتصنع:
-أبدّا يا عمي مافيش أنا كويسه
أردف مرة أخرى يؤكد عليها مُتسائلًا:
-متأكدة؟
أومأت إليه برأسها ونظرت إليه بقوة ثم وجدت أن هذه اللحظة المناسبة لتفعل كما قال لها "عامر":
-أيوه بس في حاجه عايزة أكلمك فيها
أكمل طعامه مرة أخرى وتحدث:
-خير
أخذت نفس عميق ثم أخرجته وهي تقول بجدية شديدة:
-أنا... عامر عرض عليا الجواز وأنا وافقت
رفع نظرة إليه مُستغربًا مما استمع إليه للتو منها، حقًا وافقت على ابنه؟ تسائل بذهول واستغراب:
-وافقتي؟
أومأت إليه مرة أخرى وهي تؤكد حديثها أمام الجميع:
-أيوة
استمعت إلى "هدى" التي ظهر في نبرة صوتها الاستغراب التام والدهشة الخالصة:
-أنتي بجد وافقتي يا سلمى
توجهت إليها بوجهها ونظرت إليها قائلة مرة أخرى بتأكيد:
-أيوه
ترك عمها الطعام ونظر إليها هذه المرة بجدية وحنان في ذات الوقت وأردف دون خوف أو حتى أن يقف مع ابنه بل كان كل الدعم مُقدم إليها:
-ضغط عليكي أكيد.. لو عمل كده قولي، سلمى يا حبيبتي طول ما أنتي رافضة الجواز منه مستحيل ده يحصل
نفت حديثه وقابلته بالرفض وهي تتحدث بشيء آخر غير الذي قاله وغير الذي حدث معها وكان هذا هو الكذب بعينه:
-لأ يا عمي عامر مغصبنيش، مهو قدامك بقاله كتير بيحاول وأنا رافضة بس خلاص جه الوقت اللي المفروض أوافق فيه
سألتها زوجة عمها باستغراب:
-هو ده ليه وقت يا بنتي
أجابتها مُعقبة مُكملة حديثها الذي ربما يثير في نفوس البعض الشك:
-أيوه يا طنط.. كفاية كده أنا وافقت عليه هو كان قال إننا هنقولكم وبلاش يعني نطول بعد أسبوع نعمل الفرح
تسائل عمها حقًا بلهفة غير مصدق ما الذي تتفوه به:
-بالسرعة دي؟
اومات إليه برأسها مرة أخرى:
-أيوه
لم يشعر عمها بأن حديثها صادق، ولم يدلف عقله من الأساس، كيف لـ "سلمى" التي كانت ترفض ابنه بكل الطرق توافق عليه الآن بهذه السهولة والسرعة:
-كلامك مش داخل دماغي يا سلمى وأنا لسه بقولك قدام الكل لو عامر ضاغط عليكي قولي أنا كفيل أقف قصاده
نظرت إليهم واحد تلو الآخر ثم وقفت بعينيها على عمها وتحدثت بما أملاه عليها ضميرها وما لم يفهمه البعض:
-لأ يا عمي صدقني أنا موافقة عليه.. كان في حاجات كتيرة أوي غلط كنت أنا السبب فيها وجه الوقت اللي اصلحها فيه وأولهم إني أوافق على عامر
أومأ إليها برأسه عندما وجدها تعي ما الذي تهتف به وتتحدث عنه فقال بجدية يمدها بالدعم في أي وقت أرادت وليجعلها تشعر بالأمان:
-أنا بردو معاكي في أي قرار يا سلمى وأنا في ضهرك واللي عايزاه هيحصل ولو رجعتي في كلامك متتردديش
وقفت على قدميها وتركت سفرة الطعام واتجهت إلى مكان عمها والدموع في عينيها تترقرق بسبب ما يفعله معها وما يقوله إليها ضميرها أنها هي السبب في فقدانه عائلته، اقتربت منه مُحتضنه إياه بقوة:
-ربنا يخليك ليا.. أنا مش عارفه من غيرك كنت هعمل ايه
قابلها بالعناق هو الآخر وتحدث بحنان:
-متقوليش كده يا حبيبتي أنتي بنتي يا عبيطة
حاولت مداراة ما داخلها قد الإمكان ولكنها لم تستطع فبكيت وهي تقول بآسف:
-أنا آسفة لو كنت عملت حاجه زعلتكم مني.. أنا آسفة
جعلها تبتعد للخلف ونظر إليها بحنان أب لم يمت وأردف بنبرة هادئة:
-أنتي بتعيطي ليه يا سلمى أنتي معملتيش حاجه يا حبيبتي
لم تتحدث فقط نظرت إليه ووقفت جواره وهو مُحتضن إياها، فاستمعوا إلى صوت "هدى" ابنته المرح وهي تقول:
-طيب بالمناسبة دي بقى والجو الأسري ده أنا كمان عايزة أقول إني وافقت على تامر
أبصرتها والدتها بذهول وفرحة عارمة وهي تتسائل بعدم تصديق:
-بجد؟
أومأت إليها الأخرى مؤكدة حديثها وداخلها شيء يشعرها بالفرح والسعادة القادمة عليها غير الذي سُلبت منها:
-أيوه يا ماما
ابتسمت والدتها باتساع وهي تقول بسعادة:
-ألف مبروك يا حبايبي.. ألف مبروك ربنا يهنيكم ويسعدكم طول العمر
❈-❈-❈
استمعت إلى رنين هاتفها فأخذته من على الفراش وعادت مرة أخرى إلى شرفة غرفتها، كان من يقوم بالاتصال بها رقم غير معروف أجابت عليه ووضعته على أذنها لتستمع إلى الطرف الأخرى الذي انبعث منه صوت أنثوي ناعم:
-سلمى القصاص؟
عقدت ما بين حاجبيها وأجابتها ثم تسائلت هي الأخرى:
-أيوه مين معايا
استمعت إلى الطرف الآخر مرة أخرى تهتف بصوت ناعم يملؤه التوتر الذي ظهر بوضوح:
-أنا جومانا صديقة عامر والسكرتيرة بتاعته
رفعت يدها إلى رأسها تعيد خصلاتها للخلف بقوة عندما استمعت إلى اسمه ثم استنكرت المكالمة وهي تتحدث:
-أهلًا يا جومانا خير في حاجه
تحدثت "جومانا" من الناحية الأخرى بجدية وكأنه تردف بشيء عادي وخصوصًا إلى "سلمى":
-بصراحة أيوه.. أنا كنت محتاجه منك بس تجيبي لبس لعامر من اوضته وأنا هاجي اخده منك بس حضريه
ارتفع صوت الأخرى واشتعلت النيران داخلها عندما وصل إليها معنى ما تطلبه منها فقالت بصوت عالى مُستنكر للغاية:
-نعم؟ هو فين عامر؟ وأنتي ليه تاخديله لبس
توترت وهي تتحدث معها بعد تحول نبرتها فحاولت الإجابة:
-بصراحة يعني..
صرخت بها وقد فارت الدماء بعروقها وهي لا تدري ما ذلك العبث الذي يحدث منه:
-بصراحة ايه اتكلمي هو فين
هتفت بجدية وصوت هادئ وهي تسرد عليها ما حدث معه بالأمس:
-عامر اتخانق امبارح بالليل مع بلطجية ومضروب بالمطوة في بطنه وهو حاليًا في المستشفى
شعرت "سلمى" بالرعب فور استماعها إلى ذلك الحديث الذي يقول إنه في خطر الآن ومنذ الأمس وهي لا تعلم وتلك الفتاة تأخذ مكانها معه، صرخت بعنف وخوف شديد ظهر بنبرتها:
-ايه؟ أنتي بتقولي ايه أنتي
حاولت جومانا أن تقوم بتهدئتها فـ "عامر" نبهها بألا تقول لها شيء، قال أنها الوحيدة تستطيع أن تأتي بما يريد ولكن لا تقلقها عليه:
-متقلقيش هو كويس دلوقتي والله وهيخرج كمان بالليل علشان كده عايزين الهدوم والله متقلقيش وياريت متقوليش لحد من عندك
تسائلت وهي تدلف إلى الغرفة راكضة والقلق بدأ ينهش في جسدها عليه:
-انتوا في مستشفى ايه؟
قالت الأخرى بخوف وتردد:
-مش هينفع أقولك
صدح صوتها الصارخ عبر الهاتف وهي تستنكر أفعالها الغريبة، كيف لا تقول لها مكان تواجده؟، كيف تبقى وهو في مشفى لا تدري ما وضعه:
-أنتي مجنونة يعني ايه مش هينفع قولي
تراجعت "جومانا" وقالت بريبة:
-طيب هبعتلك اللوكيشن ومتنسيش الهدوم
أغلقت "سلمى" الهاتف بوجهها ولم تجعل الوقت يذهب هباء وهي تفكر فيما حدث بل ألقت الهاتف على الفراش وخرجت ركضًا إلى غرفته تأتي بما يريد والقلق زحف إلى قلبها والخوف تربع داخلها وأخذ وضع يليق به..
❈-❈-❈
لم تترك الفرصة لأي شيء يعطلها عن رؤيته، بل أسرعت في الذهاب إليه لاغية منطق التفكير من عقلها، وعندما كانت بالسيارة تتجه إليه هنا عاد التفكير إلى رأسها والقلق إلى قلبها وكثير من مشاعر الرهبة والخوف تربعت داخلها..
دعت الله كثيرًا في طريقها أن لا يصيبه مكروه، لا يحدث له أي شيء لا يشعر بالألم ولو كانت إبرة،
إنها لا تريد الإقتراب منه، ولكن لا تريد إلا كل الخير له، لا تريد التقدم خطوة إليه وأيضًا لا تريده أن ينظر إلى غيرها بطرف عينيه..
داخلها مشاعر كثيرة لا تستطيع تحديد وصفها أين المحل الصحيح لها.. ما حدث سابقًا والآن شتان بين كل ما يحدث.. لا تستطيع أن تقرر هل ما فكرت به صحيح وأنه كان بريء من كل شيء وهي من ظلمته أم أنه من ظلمها!.. ولكن منذ ليلة أمس وهي تشعر أنها هي من قهرت قلبه وتخلت عنه وهو كأنه وحيد دون أحد..
وصلت إلى المشفى وسارت ركضًا إليه بملامح مُتلهفة لرؤيته سليم مُعافى لا غير ذلك.. دلفت إلى الغرفة دون حتى أن تدق الباب، اعتقدت أن مكانتها كما هي لم يأخذها أحد..
فتحت الباب على مصراعيه وبيدها الأخرى حقيبة يد كبيرة قليلًا بها ملابس له وما سيحتاج إليه، فور أن فُتح وطلت بعينيها عليه ووجهها المُتلهف رأته فورًا ينظر هو الآخر إلى الباب مُستديرًا برأسه ناحيتها..
أغمضت عينيها للحظة وداخلها تقوم بشكر الله على نعمته وأنه مازال بخير، تنفست بعمق وفتحت عينيها ثم تركت الحقيبة جانبًا بعد أن دلفت بقدمين ترتعش..
سارت ناحيته بعينين خائفة، مُرتبكة عقلها يحاول أن يعيد عليها كل ما عاشته على يده بالأمس ولكنها ترفض، وهو ينظر إليها بعتاب خالص وحزن طاغي يظهر عليه أكثر من ظهور ألمه، وقفت أمام الفراش وهو جالس عليه نصف جلسة يريح ظهره إلى ظهر الفراش..
تعمقت بعينيها الزيتونية عليه وتحركت شفتـ ـيها المُكتنزة بارتعاش وتوتر ولم تكن تعرف ما الذي تتفوه به:
-حمدالله على سلامتك
تسائل بعينين حادة مُثبتة عليها وتجاهل حديثها ورؤيته لقلقها الذي من المؤكد أنه فتك بها:
-جيتي ليه؟
اقتربت منه أكثر وجلست أمامه على الفراش بخجل وتوتر، بخوف وقلق ثم عقبت على سؤاله قائلة:
-جيت أشوفك واطمن عليك
تبجح بجدية وعيناه تتعمق على عينيها ولم يخجل من أنه يرى خوفها بل أعطاه اللا مبالاة التامة:
-أمشي يا سلمى روحي.. أنا كويس
قدمت يدها إليه وتمسكت بيده الموضوعة على الفراش وهي تهتف بحزن بالغ وندم لا نهاية له:
-مش هقدر أمشي.. خليني معاك يا عامر
جذب يده منها وأصر على حديثه والموقف الذي أخذه منها:
-بقولك أمشي
ترقرقت الدموع بعينيها الزيتونية وشفتيها ارتعشت خوفًا من أن يجعلها ترحل عنوة:
-أرجوك، أنا اللي محتاجه أكون معاك مش أنت
مرة أخرى بحدة وتبجح أجابها:
-أنا مش محتاجك.. أمشي
يا الله، أنها جميلة حقًا، خصلاتها ليست مرتبة ولكنها سوداء حالكة لو رأتها من قبل فلم تراها بهذا الشكل، وجهها المستدير الممتلئ وعينيها الواسعة رائعة اللون، شفتيها المُكتنزة ووجنتيها المُكتنزة هي الأخرى، أنفها الصغير ونظرتها البريئة، ملابسها ليست مهندمة ومظهرها لا يليق بها حتى أن وجهها مع ذلك الجمال ولكنه باهت، تراه حزين أو ربما ذلك من أثر رعبها على "عامر".. نعم إنه كذلك إنها حتى لم تشعر أن هناك احد آخر معهم بالغرفة..
كانت "جومانا" جالسة على الأريكة في زاوية الغرفة لم تقع عين "سلمى" عليها ولم تشعر بوجود أحد معهم من الأساس بالغرفة، كانت تراه هو فقط.. هو فقط "سارق أحلامها الوردية" أو من أعتقدته سرقها..
عادت بيدها الاثنين تتمسك بكف يـده الذي جذبه منها، وهبطت الدموع من عينيها وهي تحاول إثبات براءتها له بلهفة وصدق:
-صدقني أقسم بالله العظيم أنا معملتش حاجه، ورحمة ماما وبابا اللي كان أغلى حاجه عندي ورحمة ياسين ولو عايزني أحلف على مصحف هحلف كمان يا عامر صدقني
شعر "عامر" أنها لم ترى "جومانا" لأنها لو رأتها لم تكن لتتحدث بشيء أمامها فصاح هو ناظرُا إليها ليعرفها بها ويجعلها تنتبه:
-جومانا.. دي جومانا صديقتي والسكرتيرة بتاعتي
شعرت بالتخبط قليلًا، هل هناك أحد معهم؟ استدارت بجسدها تنظر إلى المكان الذي ينظر إليه في زاوية الغرفة، وجدت حقًا فتاة جالسة على الأريكة تستمع إلى ما دار بينهم، أردفت بعدم انتباه:
-أهلًا..
أجابتها الأخرى والغيرة تنهش قلبها من الداخل ولكن حزنها أكبر من غيرتها عليه:
-أهلًا بيكي
عادت إلى عيناه تنظر إليها بعينين دامعة حزينة للغاية، وكأن الأيام تعيد عليها حادثة موت عائلتها، الحزن طغى على قلبها وأصبح أكبر من أي شيء، وجدته يبادلها ولكن نظرته معاتبة للغاية، حزينة قلقة وكأنه يهتف إليها بعذابة وبما مر به دونها وبسببها..
الاثنين كان جرحهم أعمق من قاع البحار، كان داخل قلبيهما براكين ثائرة بحمم بركانية تدمر كل ما مر أمامها..
عندما طالت نظرتهما لبعضهم البعض وتلك التي تجلس لم تتحرك لتتركهم وحدهم، استدارت إليها وقالت بجدية:
-ممكن تسيبينا لوحدنا
شعرت "جومانا" بالخجل الشديد منها وهي تطلب ذلك الطلب فوقفت على قدميها بارتباك وصاحت وهي مُتجهة تسير للخارج:
-أوي أوي
خرجت من الغرفة وأغلقت الباب وراءها، فنظرت "سلمى" إلى "عامر" بعد أن كانت تتابعها وتحدثت بخفوت ومعاتبة:
-أنا غلطت، غلطت لما مسمعتش كلامك بس مكنش قدامي أي دليل بيقول أنها وحشة، كانت كويسه معايا صدقني.. حتى هو كان كويس أنا محبتوش والله العظيم ولا حتى كنت عايزة اتجوزه بس ده اللي حصل
عقدت ما بين حاجبيها وتابعت بطيبة قلبها توضح له ما كان يحدث معها:
-يمكن أكون ظلمتك ويمكن أكون ظلمتك في حاجات كتير معملتهاش بس أنا كان قدامي دليل لكل حاجه علشان كده كنت بصدق
أردف بقوة وعينيه على خاصتها قائلًا:
-وأنا كمان قدامي دليل
حركت عينيها عليه وهي تهتف بحزن لأجل الاستماع إلى حديثه:
-بس أنت عارفني يا عامر
هو الآخر تسائل بنفس ذلك الحزن وكأنه يعيد ما فعلته هي به ولكن عليها أشد قسوة:
-وأنتي مكنتيش عرفاني؟
قالت بندم بعد أن اخفضت عينيها من عليه وأبصرت كف يده بين يديها:
-أنا أكتر واحدة عرفاك
تسائل بحزم مُنتظر منها إجابة:
-اومال ايه؟
رفعت عينيها عليه والدموع تهطل منها مع إتخاذ القرار بأنها ستعترف بكل ما داخلها له، وستهدم أي حواجز تقف بينهم:
-كنت غبية، والله كنت غبية مش عارفه أقولك ايه بس أنا تعبانة أوي والله العظيم صدقني يمكن ده مش وقته بس أنا.. أنا لسه بحبك يا عامر وعمري ما نسيتك ولا روحت من بالي بس اللي حصل بينا صعب.. صعب أوي وكان حاجز بينا مكنش ينفع أرجع
خفق قلبه بقوة فور الاستماع إلى الكلمات المُنبعثة من شفتيها والتي تنم عن حبها له، ولكنه بقيٰ على وضعه وثباته قائلًا:
-ودلوقتي؟ ليه بتقولي الكلام ده
وضحت له ما توصلت إليه بعد معرفة حقيقة صديقتها المخادعة:
-أفتكرت كلامك افتكرت إنك قولتلي إنك مقربتش من البنت ولا عرفت جاتلك إزاي وأنا عارفه إنك مش كداب ولما بتعمل حاجه بتعترف بيها.. في وقتها مصدقتش وقولت إنك بتعمل كده علشان مبعدش عنك.. بس
تعمق بعينيها وهو يتسائل هذه المرة بلهفة وشوق مُنتظر أن يأخذ دليل براءته منها:
-بس ايه كملي
وضحت له قائلة بجدية:
-بس لما عرفت حقيقة إيناس افتكرت أنها هي اللي كانت مصوراك ليا جمعت الخيوط ببعض وعرفت أنها هي اللي كانت عايزة تبعدني عنك..
أكملت بنفس الجدية ولكن مازالت تلك الفتاة البريئة التي يستغلها الجميع، تظن أن "إيناس" فعلًا كل ذلك حقدًا وكرهًا لها ولا تعلم ما الذي بينها وبين الماثل أمامها تقدم إليه الاعتذارات:
-صحيح هي طول عمرها مش بتحبك ولا أنت بتحبها في الأول كنت بقول إن فيه حاجه غريبة لكن دلوقتي بس عرفت أنها كانت بتكرهني أنا وعايزة تبعدنا عن بعض
حاول إخفاء توتره، ونجح في الأمر، أنه لا يريد أن تعلم ما الذي كان بينه وبينها، سيحاول جاهدًا أن يخفيه عنها كما فعل في كل هذه السنوات الماضية وإن أتى الوقت سيعترف بكل شيء ولكن عندما يضمن عدم تركها له
احتدت عينيه عليها وقال بجدية وصوت رجولي حاد:
-نمتي معاه؟
استغربته بشدة واستنكرت حديثه قائلة بعتاب وحزن لأنه إلى الآن يتسائل عن عفتها وبراءتها:
-أنت لسه بتسأل سؤال زي ده؟
بمُنتهى الجمود أجابها متغاضيًا عن حزنها ومعاتبتها اياه:
-ومستني الإجابة
أجابت بقوة وصدق منتظرة منه أن يعود إلى عقله ويتذكر من هي:
-لأ والله العظيم لأ أنا مستحيل أعمل كده أنت مش عارف تربيتي!.
صدمها بإجابته التي انتظرت تغيرها بعد كل ذلك الحديث:
-لأ مش عارف
تابع مُتسائلّا بقوة:
-هنتجوز؟
أغمضت عينيها للحظة ترمش بها وأجابته:
-أيوه أنا قولت لعمي النهاردة إني موافقة زي ما طلبت
تحرك للأمام ببطء وهدوء، رفع يـ ـده اليمنى إليها مُمسكّا فكها بقوة وأقترب بوجهه إليها ثم وهو يستنشق أنفاسها المُفتقد إياها قال بقسوة وشراسة، وعيناه لا تكذب ما قال:
-بعد الجواز لو اكتشفت إنك كدابة عارفة هعمل فيكي ايه؟ وديني وما أعبد المرة دي هقتلك بجد.. هاخد روحك في ايديا وبالبطيء لحد ما تطلعي عند أهلك.. خلينا ورا الكداب
تركته يفعل ما يحلو له ولكنها ألقت عليه سؤال تعلم أجابته جيدًا ولكن قلبها أراد التأكد:
-عامر! أنت لسه بتحبني؟
حرك عينيه على ملامح وجهها، كم كان مُشتاق إلى كل انش بها، كم كان مشتاق إلى لمسة واحدة منها، نظرة تعبر عن حبها إليه، الآن يفتقد اللهفة إليها والشعور بأنه يريد القرب منها، الشك داخله مثلما هو لن يذهب إلا على يده:
-فيه حاجز واقف بيني وبين حبك يا سلمى هيروح لما نتجوز وأشيله بنفسي
تفهمت ما الذي يقصده بحديثه فتركت الأمر جانبًا وتسائلت وهي تبتعد للخلف برأسها:
-ايه اللي عمل فيك كده
عاد هو الآخر مثلما كان وأردف بضيق شديد كلما تذكر ما حدث:
-اتخانقت في البار مع بلطجية
لم تكن مجرد حادثة أو مشاجرة بين أشخاص في ملهى بل كانت مُدبرة من ذلك الحقير وهو أكد لها ذلك برسالته في الأمس، لن تجعله يعرف بشيء كي لا يتهور، تسألت وهي تجوب ملامحه بعينيها:
-بس أنت كويس صح
أومأ برأسه مؤكدًا وهو يُجيب:
-ده جرح سطحي وهخرج بالليل
ابتسمت بارهاق وبحزن مازال معها ولن يتركها فالمشاعر داخلها متخبطة لا تدري هل هذا الصواب أم الخطأ:
-حمدالله على سلامتك
نظر إليها وهو الآخر لا يدري ما الذي من الممكن أن يحدث، وما الذي يفعله، مشاعره حتى لا يستطيع وصفها. أهو سيكون ملهوف على قربها كما كان في السابق أو سيظل هكذا يريد القرب فقط للتأكد من براءتها، لكنه مازال يحبها، يعشقها، نطقه لكلمات الكره كانت كاذبة هو بحياته لم يعشق ولن يعشق إلا هي "سلمى القصاص" ابنة عمه الفريدة من نوعها، التي لا تتكرر..
❈-❈-❈
دلف من بوابة الفيلا معها، ولكن سيرة لم يكن طبيعيًا وكانت هي قبل وصولهم أخبرت عمها بما حدث ولكن جعلته يطمئن عندما قالت له أنهم في الطريق إلى الفيلا..
وقف والده عندما رآه يدلف إلى الفيلا وتقدم منه سريعًا ومن خلفه والدته وشقيقته، كانت اللهفة تظهر على ملامح الجميع وأولهم والده أقترب منه بسرعة ووقف أمامه مُتمسكًا به بقوة:
-عامر أنت كويس
أقترب منه مُحتضن إياه بشدة، وجسده يرتعش وقد شعر "عامر" بذلك وهو داخل أحضانه، إنه يخاف الفقد، يخاف أن يفقد أحد أسرته وهو على قيد الحياة، يخاف أن يتركه ابنه الوحيد ويذهب إلى عمه الذي كان والده..
أردف عامر بجدية وثبات:
-أنا كويس
ابتعد للخلف فاقتربت والدته هي الأخرى بنفس لهفة والده وقلقه وعانقته بقوة وهي تتسائل:
-ايه اللي حصل
أجابها وهو يربت على ظهرها:
-خناقة بسيطة متقلقيش
عادت للخلف مُستنكرة حديثه بقوة وقلبها به لوعة الخوف على ولدها:
-كده بسيطة؟
بقيت "هدى" بعيدة عنه ولم تقترب لتفعل كما والديها وجدها تهتف قائلة:
-حمدالله على سلامتك
-لا يدري ما الذي فعله لها هي الأخرى، إلى اليوم تعتقد أنه السبب في موت زوجها؟
تنهد بعمق تاركًا ذلك التفكير وهو يدلف إلى الداخل بهدوء و "سلمى" تسير جواره والجميع تقدم للداخل..
قالت والدته بحزن:
-ملحقناش نفرح بيكم بابني، يادوب الصبح سلمى قالت أنكم هتتجوزو وهدى قالت موافقة على تامر قوم بالليل يحصلك كده
لم تكن تعلم أنه منذ الأمس خارج المنزل من الأساس في المشفى، بعد أن نقلوه العاملين بالملهى وهو بالمشفى طلب أن يطلبوا إليه "جومانا" وليس أحد غيرها.. لأنه من الأساس ليس له غيرها في ذلك الوقت..
بقيٰ صامتًا قليلًا وهم يتحدثون أمامه ولكنه كان في عالم آخر وهي الآخر كانت تتحدث وعقلها معه..
رن جرس الفيلا فذهبت "فايزة" العاملة بالمنزل وفتحت الباب والجميع في الصالة الخارجة ينظر إلى الباب ليروا من الذي أتى إليهم في ذلك الوقت..
كانت فتاة سمحت لها العاملة بالدخول وأشارت لها على الجميع من بعيد، فتاة شابة في سن العشرون وما بعده قليلًا، دلفت تنظر إليهم واحدًا تلو الآخر وليس هناك أي حد وجهه تحول وملامحه بُهتت وشعر بالصدمة سوى "سلمى"!..
تقدمت الفتاة إلى أن وقفت أمامهم جميعًا ثم صاحت بجدية شديدة:
-مساء الخير.. أنا آسفة إني جيت من غير معاد
استمعت إلى صوت "رؤوف القصاص" الذي تعرفه جيدًا يرحب بها ثم يتسائل عن هويتها:
-اتفضلي يا بنتي أهلّا وسهلًا.. بس أنتي مين
نظرت إلى "سلمى" بعينيها القوية وكأنها تقول لها ها قد فعلتها وأتيت.. استدارت مرة أخرى إلى "رؤوف" وقالت بنبرة جادة قوية واثقة:
-أنا غادة يُسري، مرات ياسين القصاص
نظر إليها الجميع بذهول تام ووقفت "هدى" على قدميها صارخة بعنف واستنكار:
-ايــه؟
❈-❈-❈
"يُتبع"
#بين_دروب_قسوته
#الفصل_الخامس_عشر
#ندا_حسن
"ربما البداية السعيدة، أو النهاية القاسية"
اقتحمت الصدمة قلوب الجميع في المنزل بعد استماعهم للكلمات البسيطة التي هتفت بها تلك الفتاة ذات المعاني الكثيرة، هبت "هدى" واقفة على قدميها تصرخ بها باستنكار تام ومن خلفها والدها ووالدتها، "سلمى" والجميع ينظر إليها بعينين مُتسعة رافضة ما تقوله..
بقيٰ"عامر" جالسًا يطالعها بعينين قوية من رأسها إلى قدميها يُقيم هيئتها الماثلة أمامه في محاولة منه لفهم ما الذي تتفوه به وهل هو صحيح أم مجرد افتراء على ابن عمه الراحل "ياسين" وأي شخص منهم يعرف "ياسين" جيدًا سيقول وهو متأكد مليون بالمئة أن ذلك افتراء وكذب ولا يصدق وحتى لو خرج "ياسين" بنفسه من قبره وأعترف على نفسه، إنه كان رجل حكيم، عاقل، لا تُغريه النساء وكان يحب شقيقته كثيرًا وأراد الزواج منها وفعلها ولم يكن يرى غيرها، كان يراه في عمله جاد صارم مع الجنس الآخر ولا تهتز له خصلة معهم على عكسه تمامًا مرح ويمزح مع النساء في العمل كثيرًا.. ما هذا الهراء!..
تقدمت منها "هدى" بخطوات واسعة حادة تدب في الأرضية وعينيها عليها بثبات وحدة واقتربت منها واقفة أمامها بالضبط ثم صاحت بشراسة وعنفوان:
-بتقولي ايه؟ مرات ياسين مين؟ ياسين مين ده اللي مراته ها أنتي بتقولي ايه أنتي
أجابتها بثبات ونظرت إليها هي الأخرى بقوة تبادلها الجدية والتأكيد على حديثها:
-بقول الحقيقة، أنا غادة يُسري مرات ياسين أحمد القصاص جوز حضرتك وأخو حضرتها
أنهت جملتها وهي تُشير بيدها إلى "سلمى" الذي تقف في الخلف لم تبدي أي ردة فعل فقط تنظر إليهم..
صرخت بها "هدى" بعصبية ووجهها أصبح لونه أحمر قاتم بسبب غضبها الذي شعرت به من تلك المجنونة:
-أنتي مجنونة ولا إيه أمشي اطلعي بره أنتي بتقولي ايه
تقدم والدها رؤوف منها وهو يردف بصوتٍ جاد في محاولة منه لفهم الأمر:
-اهدي يا هدى يا بنتي خلينا نفهم
عقبت بسخرية وغضب ناظرة إليها بعنفوان:
-تفهم ايه يا بابا دي بتقولك مرات ياسين
أكملت وعينيها تقابلها مُباشرة قائلة بسخرية لاذعة:
-يا ترى بقى اتجوزتي ياسين امتى امبارح ولا من شهر ولا من سنة ولا تكونيش اتجوزتيه في الجنة
وضعت الأخرى يدها الاثنين أمام صدرها ووقفت بجدية أمامها مُعقبة بوضوح:
-أنا مرات ياسين القصاص من تلت سنين، يعني قبلك ومعايا قسيمة جواز وأصلية والآنسة سلمى أخته اتأكدت منها وأهي عندكم تقدروا تسألوها
أغمضت "سلمى" عينيها بقوة تعتصرهما بألم شديد في قلبها، لقد وضعتها تلك الحقـ ـيرة في موقف لا تحسد عليه أبدًا، تعلم الآن أن الأعين تنصب ناحيتها في ذهول تام مُستنكرين كيف لها أن تكون على علم بأن شقيقها مُتزوج من أخرى غير ابنة عمه!!
فتحت عينيها لتجد كما توقعت عيون الجميع تقع عليها وأولهم "هدى" الذي قابلتها بعينين مذهولة دامعة، والخذلان يتألق في اللؤلؤ المتجمع في مقلتيها ولكنها والله لم تكن تعلم بشيء إلا عن قريب.. لم تكن تعلم!..
أبعدت عينيها عنها لتجد "عامر" هو الآخر يتهمها بعينيه ويقول كثير من الأشياء المخفية داخله، عن كون شقيقها خائن، وعن كونها أخفت ذلك الأمر أيضًا وعن كونها خائنة هي الأخرى وسيصاحبها ذلك دائمًا..
صرخت "هدى" ثانيةً بعدم تصديق وهي تتقدم من تلك الفتاة تتمسك بذراعيها بقوة:
-أنتي كدابة إزاي ياسين اتجوزك قبلي.. ولو ده حصل كنتي فين.. كنتي فين كل ده وكنتي فين لما مات
سارعت "سلمى" في سيرها لتقف جوارها ثم أمسكت بيدها الاثنين المُمسكة بهم الفتاة تطالبها بأن تهدأ وتبتعد بصوت خافت هادئ:
-هدى الموضوع مش زي ما أنتي فاهمه اهدي
نفضت يدها عنها بقوة ونفور ونظرت إليها بقهر وضعف شديد ولكنها صاحت بشراسة:
-ابعدي عني يا سلمى.. كنتي عارفه إن أخوكي متجوز، كنتي عارفه ومقولتيش.. متجوز قبل ما يتجوزني!
لم تعطِ لها الفرصة لتجاوب بل أجابت هي بسخرية لاذعة وقسوة ضارية:
-هقول ايه ما أنتي متعودة على الخيانة
بادلتها النظرات المُتألمة، لما لا يشعر بها أحد؟ إنها في الداخل تحـ ـترق لا هذا ليس احتـ ـراق هناك تخبط في المشاعر يساعد في الداخل على توليد الإنفـ ـجار الذي يتبعه إنهيار تام لكل خلية بها..
هنا تحدثت "غادة" التي تدعى أنها زوجة ابن عائلة "القصاص" قائلة بجدية:
-الموضوع مش زي ما أنتي فاهمه، ياسين اتجوزني شهامة منه مش حاجه تانية وكان هيطلقني بعد الجواز على طول على فكرة وأظن إنك طول الفترة اللي فاتت دي محستيش بوجودي قبل جوازك ولا بعد جوازك لأنه كان معاكي أنتي مش أنا.. متكبريش الموضوع
صرخت بها بقوة وضراوة والشراسة تنبعث من عينيها:
-موضوع ايه ده اللي مكبروش يا بني آدمه أنتي.. جاية تقوليلي جوزك كان متجوزني ومكبرش الموضوع أنتي مجنونة
أكدت "غادة" حديثها بجدية وثبات وهي تنظر إليهم واحدًا تلو الآخر داخل أعينهم جميعًا:
-أيوه متكبريش الموضوع.. ياسين اتجوزني شهامة قولتلك لاني كنت هموت، لو عايزة تعرفي القصة يبقى تتفضلوا تقعدوا علشان احكيلك ولو مش عايزة يبقى أقول أنا جاية ليه
أردفت "هدى" بقوة متسائلة:
-وأنتي جاية ليه إن شاء الله؟
بمنتهى البرود والجدية والثبات نظرت داخل عينيها ثم انتقلت إلى والدها "رؤوف" قائلة:
-جاية أخد ورثي
دفعتها "هدى" في ذراعها بقوة وهي تصرخ بها بعنفوان والحديث الذي قالته لا يدلف عقلها ولا تصدقه وإن كان حدث فهي أيضًا لن تتقبله:
-ورث مين يا أم ورث.. ورث مين يا بت أنتي
رفعت أحد حاجبيها ونظرت إليها باستنكار لطريقتها التي تغيرت مئة وثمانون درجة عن ابنة العائلة المرموقة:
-جاية أخد ورثي من جوزي الله يرحمه ياسين أحمد القصاص
بعد صمت دام طويلًا تحدث "عامر"وهو يستند بظهره إلى ظهر الأريكة قائلًا يتسائل بجدية شديدة وعينيه مُثبتة عليها:
-وأنتي أفتكرتي دلوقتي إنك متجوزة وليكي ورث؟ كنتي فين من سنتين؟
رفعت بصرها إليه للحظة وهي تتعمق به ثم أجابته:
-من بعد موت ياسين وأنا بره البلد ولسه راجعه من شهرين بالظبط
تسائلت والدته هذه المرة بفضول يلح عليها منذ أن أردفت أنها زوجة زوج ابنتها:
-وأنتي عرفتي ياسين إزاي واتجوزك ليه
حركت عينيها إليها هي الأخرى وأردفت:
-قولتلكم لو عايزين تعرفوا اتفضلوا
أشار إليها "رؤوف" كي تدلف إلى الداخل لتجلس وتقص عليهم الذي حدث في الماضي الذي اتضح له مؤخرًا أنه يخفي أشياء كثيرة ستخرج في الحال خلف بعضها:
-اتفضلي
صاحت "هدى" بقسوة واعتراض وهي تُشير بيدها بهمجية:
-اتفضلي فين يا بابا
تحدث بهدوء ووقار يناسبه في تلك اللحظات قائلًا بجدية:
-استني يا هدى خلينا نفهم ايه اللي حصل.. متقلقيش أنا هعرف إذا كان حقيقي ولا لأ
أشار إليها مرة أخرى فدلفت إلى الداخل وجلست على مقعد مجاور الأريكة التي يجلس عليها "عامر" تقدم الجميع من خلفها وجلس كل منهم مُنتظرين الإستماع إلى قصتها التي سترويها عليهم ليعرفوا كيف تزوج بها "ياسين"..
عندما جلست "سلمى" جوار "عامر" نظر إليها بسخرية مُميتة شامتًا بها وبأن شقيقها الذي كانت تضرب به المثل في كل عراك بينهم أصبح هو الآخر خائن..
نظرت "غادة" إلى "هدى" التي لم تود الجلوس كما الآخرين وبقيت واقفة وثبتت نظرها عليها ثم بدأت في الحديث بجدية وهي تعود بذاكرتها للخلف:
-أنا.. أنا كنت بحب واحد مكنش عليه القيمة وعيلتي مكنتش موافقة بيه بس أنا كنت مخدوعة فيه وفي حبه ليا وهو كان كداب بس عرف يرسم الدور عليا كويس وخلاني فعلًا حبيته واتأكدت إنه بيحبني وحاربت أهلي كتير علشانه وللأسف أنا أهلي ناس شديدة أوي لأبعد ما تتخيلوا و...
قاطعتها "هدى" بنفاذ صبر ولا مبالاة قائلة:
-وإحنا مالنا ومال القصة دي ما تقولي عرفتي ياسين إزاي
لم تهتم بحديثها الأبلة إنها تعلم شعورها جيدًا في ذلك الوقت لذا لن تأخد حديثها على محمل الجد وإلا لن تمر هذه الليلة مرور الكرام على الجميع وهي أولهم.. لا داعي لذلك.
أكملت مرة أخرى منتقلة بعينيها إلى عيني "عامر":
-ولما أهلي رفضوا مرة واتنين وعشرة جوازنا أنا اعتقدت إني مش هلاقي حد في حياتي يحبني زيه ومش هعرف اعوضه.. هربت معاه وسبت البيت
نظرت إلى الأرضية ثم رفعت عينيها وأكملت بخجل شديد وندم خرج ليالي طويلة على هيئة مياة مالحه تخالط الوسادة:
-حاول معايا من غير جواز بس أنا كنت رافضة بس هو كان أقوي من رفضي ده بعد كده رماني على الطريق وأنا بين الحياة والموت
تعمقت بالحديث وتجمعت الدموع بعينيها لا يدري أحد أهي مزيفة أم لا:
-ياسين كان ماشي بعربيته لقاني مرمية اخدني ووداني المستشفى وفضل معايا لحد ما بقيت كويسه ودفعلي حساب المستشفى وبعد كده حاول يكلمني ويرجعني لأهلي لما لقاني بعيط طول الوقت وبقوله معنديش حد اروحله.. حكيتله قصتي وهو اقنعني أنه هيرجعني لأهلي ومش هيعملوا معايا حاجه..
خرجت دمعة من عينها تحت نظرات الجميع المنتبهه لحديثها ما عدا "سلمى" التي استمعت إلى ذلك الحديث سابقًا:
-بس اللي حصل كان غير كده أول ما وصلنا أهلي قاموا علينا وكانوا هيقتلوني ياسين حاول يتكلم معاهم وفعلًا قدر يعمل كده لكن أول ما حكي ليهم اللي حصل أخويا قام جاب سكينة وكان مُصمم يقتـ ـلني ولو مكنش ياسين معايا كان ده حصل فعلًا... حتى ياسين يومها اتعور من السكينة وهو بيحوشه عني أضطر يقولهم أنه هو ممكن يتجوزني وهنا كلهم سكتوا ووافقوا لكن هو كان بيعمل كده جدعنه منه مش أكتر، شهامة ورجولة مكنش عايز واحدة تموت قصاد عينه
أردفت والدتهم مُتسائلة بجدية وهي تتابعها بعينيها:
-وليه مطلقيش بعدها..
رفعت نظرها إلى "هدى" بتوتر وارتباك ولم تكن تريد أن تتحدث بهذا الشيء أبدًا أمامها ولكنها ابتلعت ما وقف بحلقها ونظرت إليها قائلة:
-هو كان هيطلقني بعد الجواز بأربع شهور بالظبط وكنا رحنا للمأذون فعلًا.. بس أنا، أنا كنت في الوقت ده حامل
صدح صوت "هدى" الصارخ بانفعال شديد ووجهها يصرخ قبل شفتيها وصوتها المرتفع:
-حامل إزاي!؟ حامل إزاي يعني
أردف "عامر" بلا مبالاة وسخرية شديدة وهو يمُر بعينيه على "سلمى":
-هتكون حامل إزاي يعني! باللاسلكي
حركت "سلمى" عينيها عليه بانزعاح واضح وصريح أظهرته له من خلال عينيها وهي تعرف تمام المعرفة ما المقصود من حديثه وطريقته الساخرة ونظراته التي يلقيها عليها..
أكملت "غادة" موضحة لها بجدية:
-ياسين قربلي هي مرة واحدة طول السنة اللي اتجوزته فيها متقلقيش حتى الطفل اللي كنت حامل فيه مكملش ونزل بعدها.. مقربليش حبًا فيا هو كان متخانق معاكي أنتي وجالي وقتها
ترقرقت الدموع بعيني "هدى" مرة أخرى ونظرت إليها بقهر وحرقة لا نهاية لها يشعر بها قلبها ثم صاحت قائلة:
-قومي أطلعي بره
وقفت "غادة" على قدميها ثم فتحت حقيبتها الصغيرة ومدت يدها بها وأخرجت منها ورقة مطوية وأخرى غيرها، أقتربت ووضعتها على الطاولة في المُنتصف وقالت بجدية:
-دي قسيمة الجواز تقدروا تتأكدوا إذا كان كلامي صحيح ولا لأ وده كمان عقد شقة كتبها ياسين باسمي بعد الجواز علشان أعيش فيها وكل ده الآنسة سلمى أخت ياسين اتأكدت منه قبل كده وعرفت إني كلامي مظبوط..
تقدمت خطوتين للأمام لتذهب ثم استدارت ونظرت إلى "رؤوف" ومن بعده "عامر":
-أنا هامشي واسيبكم يومين على ما تتأكدوا وهرجع علشان أخد حقي..
رفعت عينيها إلى عيني "هدى" وهي تسير إلى الخارج ذاهبة بعد أن فجـ ـرت قنـ ـبلة بالداخل لن يشعر بانفجارها أحد سوى "هدى" المُعذب قلبها بعد اكتشافها أن زوجها وحبيبها الذي رفعت حداد قلبها عليه كان خائن ومتزوج من غيرها.. ومهما كانت الأسباب الذي دفعته لفعل ذلك الفعل المشين فهي لن تسامحه لأجل خداعه لها كل ذلك الوقت..
لن تسامحه لأنه خائن مثله مثل شقيقها الذي كان يعذب "سلمى" ليلًا ونهارًا ولكن على الأقل شقيقها لم يكن يخاف أحد وكان يفعل ذلك علنًا ولا يكذب بل يعترف بكل ما يفعله حتى وإن كان خطأ وسيحاسب عليه..
نظرت إلى "سلمى" تعاتبها متحدثة بكم الخذلان الذي تعرضت له منها هي الأخرى وكأنها تضعها في محلها عندما انصدمت في الجميع من حولها..
أقتربت منها بعينين تحولت إلى أخرى حادة صارخة بالخيوط الحمراء داخله مانعة البكاء، تسائلت بجدية:
-كنتي عارفة إن أخوكي متجوز ومقولتيش؟ كنتي عارفه كل ده وسيبتيني على عمايا
وقفت "سلمى" على قدميها تنفي ما قالته بكل جدية وتأكيد وهي تنظر إليها بثبات:
-والله أبدًا وأنا هعرف منين أنا زيي زيك على فكرة الفرق الوحيد إني عرفت من شهرين بس.. هي بنفسها قالتلك أنها راجعة من بره من شهرين ولما رجعت جاتلي الجمعية وكانت أول مرة أشوفها
صرخت بها بعصبية وغضب شديد وهي تنظر إليها باحتقار:
-بردو مقولتيش.. مقولتيش إن أخوكي خاين
أجابتها "سلمى" بصوت حاد قوي تدافع عن شقيقها الراحل أمام الجميع:
-أخويا مش خاين يا هدى قالتلك إنه اتجوزها علشان متموتش.. كانت هتتـ ـقتل قدامه، كنتي عايزاه يعمل ايه
صدح صوت "هدى" الصارخ مرة أخرى بكره وندم لما اشعرت به نفسها عندما وافقت على "تامر":
-ما تولع.. ما تولع، يعني متجوز من قبلي أصلًا وأنا الغبية رافعة الحداد عليه وبعذب نفسي وأقول إني مكنش المفروض أوافق على تامر علشان كده كأني محبتش ياسين
خرج صوت "عامر" الساخر من "سلمى" والشامت بما قد ظهر لأجل ألا تتحدث مرة أخرى عن وفاء شقيقها لشقيقته:
-يعني لو اتجوزت واحدة هتتـ ـقتل يا سلمى يبقى دي مش خيانة بالنسبالك!.. طب الحمدلله كده أقدر أعملها
استدارت تنظر إليه بحدة وهي التي أتت به من المشفى منذ قليل وحاولت البدأ معه من جديد يعود هو بها إلى نقطة الصفر:
-متدخلش نفسك يا عامر في الموضوع ده وخلينا كويسين مع بعض أحسن
هتفت شقيقته بحدة وهي تأكد لها أن شقيقها الذي خانها في السابق فعل ما فعله زوجها بها:
-ميدخلش نفسه ليه يا سلمى، مهو ده عامر الخاين بردو.. اللي سيبتيه علشان خاين هو زيه زي أخوكي بالظبط
استدارت "سلمى" برأسها إليها وأجابتها بحدة وعنف نافية أن "عامر" مثل "ياسين" ولا يجوز من الأساس التشبيه بينهم:
-عامر مش زي ياسين.. عامر حاجه وياسين حاجه
عارضتها الأخرى بقوة وأشارت بيدها بحدة وهمجية وهي تشعر بالنيران داخلها لأجل ما تعرضت له الآن:
-لأ زي بعض
مرة أخرى تنفي حديثها وتسرد عليها جزء من مميزاته:
-لأ يا هدى عامر مش زي ياسين والكل عارف كده.. ياسين مش خاين وبيحبك ومايقبلش عليكي نسمة هوا تضايقك
ترقرقت الدموع في عيني "هدى" وهي تستمع إلى هذه الكلمات البسيطة وتأكد أنها صحيحة بالفعل وهو كان كذلك ولكن ذلك لا يمحي أنه خائن وكان متزوج من أخرى غيرها:
-دي الكدبة بتاعته.. متجوزش عليه إلا الرحمة
استمر "عامر" في السخرية وهو ينظر إليهم ولا يتدخل فيما حدث إلا بحديثه الساخر:
-أحسن حاجه حصلت إني مش لوحدي اللي خاين.. مع إني مش عارف خونتك امتى بس يعني مطلعتش لوحدي
مسحت والدتهم على وجهها بقوة وطال الصمت الخارج منها أمام الاستماع إلى حديثهم سويًا ثم أردفت بنفاذ صبر:
-كفاية يا عامر قوم أطلع ارتاح يابني وأنتي يا سلمى كمان
ابتسم "عامر" بسخافة وسخرية وهو يُشير إلى "سلمى" بيده قائلًا:
-اطلع ليه ما تخلونا نتفرج.. دي سلمى بتدافع عن حد خاين لأول مرة في عمرها
أجابته "هدى" بحرقة لا يشعر بها أحد سواها:
-علشان أخوها
نظرت إلى "عامر" ثم انتقلت إلى "هدى" شقيقته وصاحت بصوت عالي وعصبية شديدة وهي تريها الجزء الذي تناساته وتجعلها تتذكر ما يفعله شقيقها وزوجها الراحل، تجعلها تتذكر أن المقارنة بينهم مستحيلة:
-انتوا هتعملوا عليا حفلة.. آه ياسين مش خاين ومش زي عامر، ياسين كان قارفك في عيشتك؟ كان بيغير عليكي من طوب الأرض؟ ولا عاقل؟ كان عصبي وأيده بتتمد عليكي؟ كسر قلبك وشوفتيه في حضن واحدة بعينك؟ عينيه زايغه وبتاع ستات؟ سُكري ياسين؟ هاا عامر بقى فيه كل الصفات دي.. إن شاء الله يغيرها لأن اللي فات غير اللي جاي
لم تتحدث "هدى" بالفعل هي معها حق، لم يكن هناك أحد مثل "ياسين" في أي شيء و "عامر" يختلف عنه كامل الاختلاف ولا يأخذ منه شيء، لن تنكر أنها رأت معه أسعد لحظات حياتها وأنه أحبها أكثر من نفسه لكنها مصدومه بما علمته، مصدومه به كثيرًا، اتضح لها أنه كان مُخادع، كان متزوج وأقام علاقة مع زوجته الأخرى قبل زواجه منها هي..
كانت تظن أنها أول إمرأة يقوم بلمسها! أول إمرأة ينام جوارها وأول مرة إمرأة تحمل اسمه وتكون زوجته واعتقدت أنها الأخيرة..
لقد أحبته كثيرًا ودابت فيه عشقًا ولم تكن تتوقع أن تعلم بشيء مثل هذا في يوم من الأيام.. كان "ياسين" بالنسبة إليها شخص لا يخطأ، كان كل شيء لطيف وجميل في دنياها!..
عندما رأت نفسها تنجذب إلى "تامر" قامت بتشغيل وضع جلد الذات وتأنيب الضمير وقاربت على العودة عن قرارها فقط لأجل أن تكون زوجة "ياسين القصاص" فقط!.. لم تكن تعلم أنه هو منذ البداية خائن مخادع لا يؤتمن..
طال صمتها ولم تستطع الإجابة على حديث ابنة عمها وبقيت تنظر إليها بعينين دامعة وقلبها يحـ ـترق من الداخل والصدمة إلى الآن تجعله يدق بعنف وحرقة..
تحدث والدها "رؤوف" بجدية شديدة وهو يُشير إليهم بوجه جامدة تعابيره:
-يلا كل واحد على اوضته.. أنا هتأكد من كلامها يا هدى
نظرت إليه "سلمى" قائلة:
-أنا اتأكدت يا عمي مالوش داعي تعبك.. هي فعلاً مرات ياسين
أكد حديثه مرة أخرى يُصر على التأكد بنفسه إن كانت زوجته أم لا:
-هتأكد تاني يا سلمى.. ولو طلعت مراته بجد يبقى تاخد حقها وتمشي
نظرت "هدى" إلى والدها بصدمة وهي تستمع إلى حديثه وصاحت بعنف وقسوة لا تناسبها:
-حق ايه ده اللي تديهولها.. لأ طبعا مش هتاخد حاجه
امتص والدها غضبها بالهدوء الذي قابلها به وتحدث بجديدة وصدق:
-لو مراته يبقى زيها زيك يا هدى وهتاخد حقها.. إحنا مش نصابين ولا ناس متعرفش ربنا.. هتاخد حقها
تركها من بعدها وصعد على الدرج بخطوات ثابتة ليذهب إلى غرفته ومن خلفه ذهبت زوجته، لحظات وقفت "هدى" تنظر إلى "سلمى" بعينين مُعاتبة إياها بقوة قائلة لها بأنها لم تتوقع أن تفعل ذلك بها.. حتى لو كانت تعلم في الأمس..
صعدت هي الأخرى خلفهم ونظرت إليها بنفور واحتقار لأول مرة بحياتها تفعلها وتقابل "سلمى" بتلك النظرات ولكن صدمتها من شقيقها وما تعرضت إليه يؤثر عليها وبقوة وجعلها تفعل ذلك وهي لن تلوم عليها..
استدارت "سلمى" تنظر إليه ووقفت مقابلة له وهو ينظر إليها بلا مبالاة تامة فاردفت قائلة:
-ليه بتعمل كده.. المفروض أننا بنبدأ صفحة جديدة
ابتسم بزاوية فمه باستخفاف بها وبحديثها ثم أجاب مُتهكمًا:
-وأنا عملت ايه.. بقول أن ياسين الله يرحمه خاين زيي
أشارت إليه بحدة وأردفت تضغط على كل حرف يخرج من بين شفتيها:
-ياسين مش خاين يا عامر وأنت عارف كده كويس، ياسين مش زيك.. عمره ما كان زيك
وجدته لا يُجيب فأكملت تترجاه أن يعود عما يفعله وإن كان حقًا يود البدأ معها حتى وإن كانت زوجته وحتى إن كان ذلك لأجل التأكد مما يشك به:
-بلاش تشتغل بمبدأ دس السم في العسل أرجوك اللي بينا هدى ملهاش دعوة بيه ولا حد ليه دعوة بيه وإحنا قادرين نعالجه وقولتلك كده في المستشفى.. انسى بقى
أقترب للأمام ببطء لأجل جرحه وأردف هو الآخر بجدية شديدة وعيناه مُثبتة عليها يبادلها نفس الجدية والتأكيد:
-مش هنسى حاجه غير لما اتأكد من اللي في دماغي ومش هتعدل بردو غير لما ده يرجع يشوفك سلمى من تاني
أكمل بقية حديثه وهو يُشير بيده إلى الناحية اليسرى من جانب صدره موضع قلبه تمامًا
نظرت إليه بعينيها الزيتونية للحظة ثم قالت:
-تصبح على خير
توجهت للصعود للأعلى دون الحديث معه بأي شيء آخر، تفكر فقط في القادم عليهم جميعًا، في الفترة الأخيرة أصبح هناك مواضيع كثيرة وأشياء تظهر لم يكن يعلم عنها أحد شيء..
❈-❈-❈
صعدت "سلمى" إلى غرفتها وقد تعمق الحزن داخلها، حتى أنها لم تعد تفهم الذي تفعله مع ابن عمها صحيح أم خطأ، لم تعد تحدد بين الصواب الذي عليها فعله والخطأ الذي عليها الابتعاد عنه، قلبها لا يساعدها بل تغمد الحزن داخله وعقله لا يستطيع التفكير بشكل صحيح..
جلست على طرف الفراش واستندت بيدها الاثنين عليه مغمضة عينيها ترفع رأسها للأعلى، تنفست بعمق محاولة أن تجعل ضجيج عقلها يهدأ لأنه يثور داخلها بلا داعي ولا يأتي بفائدة..
دق هاتفها فأخذته بعد أن فتحت عينيها عليه، وجدت أن تلك الصديقة الحقـ ـيرة التي كانت تعتبرها كشقيقتها هي من تهاتفها، أمسكت الهاتف بيدها ونظرت إلى شاشته للحظات بعينيها الزيتونية تسترجع كل لحظة مرت عليها معها لحظة طيبة جميلة وأخرى خبيثة ماكرة لم تكن تدري أنها ستكون كذلك..
أجابت عليها ثم وضعت الهاتف على أذنها ولكن لم تخرج الكلمات من بين شفتيها في إنتظار الاستماع إلى الأخرى والذي خرج صوتها بلهفة مصطنعة أصبحت تعرفها:
-سلمى فينك يا بنتي بكلمك مش بتردي
خرجت الكلمات من الأخرى بنبرة حادة قاسية مُتسائلة:
-نعم عايزة ايه
تصنعت الأخرى الاستغراب وأردفت بنبرة خافتة لينة:
-في ايه مالك
وقفت "سلمى" على قدميها وسارت في الغرفة بثبات وهي تتحدث بجدية وعنف خالص تطلقه ناحيتها:
-لأ بصي هاتي من الآخر وشيلي قناع الطيبة والحنية اللي أنتي لابساه خلاص مبقاش لايق عليكي يا إيناس
مرة أخرى تردف بنبرة مستغربة ترفع حاجبيها وكأنها تراها لترسم الدور عليها جيدًا:
-ايه اللي بتقوليه ده أنا مش فاهمه حاجه
اشتدت نبرة "سلمى" وأصبحت أكثر حدة وهي تلقي كلماتها القاسية عليها:
-لأ أنتي فاهمه كل حاجه وعارفه أنا بتكلم عن ايه وقصدي ايه فهاتي من الآخر عايزة ايه مني
لم تستسلم الأخرى بسهولة بل أكملت المسرحية التي تقوم بها لتجعلها تصدق ما تتحدث به:
-لأ بجد أنتي غريبة النهاردة.. متخانقة مع عامر ولا ايه
لم تكن تعلم أنها علمت كل شيء وبالدليل التي طالبت به كثيرًا لذا سيكون من الصعب تصديقها مرة أخرى، صرخت بها قائلة:
-متجيبيش سيرة عامر على لسانك الوسخ ده، عايزة ايه مني ومن عامر ها.. عايزة ايه انطقي
تغيرت النبرة المُتحدثة لها "إيناس" وخرجت بتهكم وسخرية:
-وأنا هعوز منكم ايه
عقبت "سلمى" على حديثها بحرقة داخل قلبها تكويه كل لحظة والأخرى فقط عندما تتذكر ما الذي قامت به معه ومع الجميع:
-لأ أنا اللي بسألك.. الغريب إني أعرفك من زمان ومعرفتش نيتك القذرة من ناحيتي والغريب أكتر إني أصدقك وأكدب عامر اللي متربية معاه وأنا متأكدة إنه بيحبني.. بجد كنت غبية
ابتسمت "إيناس" بسماجة وتهكم وهي تُجيب عليها ساخرة منها وقد كشفت القناع عن وجهها:
-ما إحنا عارفين إنك غبية طول عمرك ده مش شيء جديد عليكي
تحدثت بنبرة حادة تطالب بالابتعاد عنها ثم أخرجت كلمات مُهددة إياها لتزرع الخوف بقلبها:
-اخرسي يا إيناس وابعدي عني أنتي وابن عمك.. أنا لو سبت عامر عليكم مش هيطلع عليكم صبح وأنتي عارفاه كويس
ضحكت عبر الهاتف مُتهكمة على حديثها توصل إليها أنها لا يهمها كل ذلك ثم قامت بالقاء جزء من القنبلة المخفية عليها لتجعلها تتشوش من ناحيته:
-طب خدي بالك منه بقى وفتشي وراه.. لسه في أسرار كتيرة متعرفيهاش والأسرار دي معايا بس هدوخك شوية يمكن تخفي من الغباء بتاعك ده شوية
أكملت ساخرة أكثر من السابق وهي تقول:
-سلام يا بطل.. مش كان بيقولك كده بردو؟.
أغلقت الهاتف ثم ألقته على الفراش بعد غلق الأخرى وكلماتها تعبث بها، ما الذي يخفيه عامر عنها إلى الآن؟ ما الذي يخفيه عنها وتعلمه "إيناس" وهي لا؟ هل هناك شيء بينهم وهي الغبية المتواجدة بينهم؟
أسرعت تمحي ذلك التفكير الغبي مرة أخرى من رأسها معنفة نفسها بقوة فـ "عامر" من البداية لا يطيق الاستماع إلى اسمها ولم يكن يريدها أن تكون صديقتها منذ أول مرة وقعت عينيه عليها وأخبرها بها أنها ليست فتاة مناسبة لتكون صديقتها..
غير أن "عامر" مؤكد لن يخونها مع صديقتها هذا من أبعد الأشياء الذي من الممكن أن تفكر بها! إنه توقف عن خيانتها منذ الكثير وبهذه المرة الأخيرة كانت رأت الأمور بمنظور خاطئ وإن فعلها لن يقوم بفعلها مع "إيناس"..
خيانته لها كانت عبارة عن مهاتفة فتيات من الملاهي الليلية، والنظر بعينيه الخبيثة الوقحة على مفاتنهن في غيابها والسرقة المستلزه في حضورها.. كانت عبارة عن مكالمات قذرة يقوم بها معهن كانت كل هذه أشياء تجعلها تبتعد عنه وتطالب بالانفصال الفوري لأنه لا يكتفي بوجودها بحياته وهو يعلل بأنه يحبها أكثر من نفسه وما يفعله ما هو إلا لهو وتسلية طفيفة.. غير مبالي لمشاعر الأنثى داخلها التي تثور وتنفجر بما يفعله، ويقوم كل مرة بالعودة إليها عن طريق الوعود الكاذبة وهي الخاطئة لم تكن تتعلم أي شيء، يرق قلبها ناحيته وترى الحياة من غيره مـ ـوت فتعود مُرغمة وقلبها يضغط عليها بالاقتراب أكثر وسيكون في أفضل حال ويقوم والدها بتهدئتها قائلًا بأنها بعد الزواج ستكون المُسيطرة عليه ولن يفعل هذا مرة أخرى..
تعترف أنه قبل الزفاف كان قد توقف عن كل ذلك وما دفعها للموافقة مرة أخرى على زيجته منه هو ذلك ولكن لم تكن ثقتها به كافية لتتأكد من أنه لم يخونها وقد فعلتها "إيناس" في الوقت المناسب ثم من بعدها انقلبت حياتها رأسًا على عقب.. بسبب صديقتها المخلصة التي رأتها دومًا هكذا وقد حظرها منها مرارًا وتكرارًا ولكن العقل لم يكن واعي بالكفاية ليقوم برؤية خبثها عليها..
والآن أيضًا تقوم بفعل ذلك مرة أخرى وتريد أن تجعلها تُشتت من ناحيته بعد أن علمت بكل الحقيقة المخفاه.. لا لن تفعل ذلك ولن تجعلها تأخذ ما تريد عندًا بها وبابن عمها القذر الحقير الذي كان هو الآخر يكذب عليها ستحاول قدر الإمكان أن تصلح علاقتها بـ "عامر" وتعود إليه من جديد وتترك المعاناة إلى أحد آخر غيرها فقد اكتفت منها..
❈-❈-❈
دق باب المكتب عليها في الجمعية التي تديرها، أذنت للطارق بالدخول ورفعت نظرها إلى الباب لترى من بالخارج..
فتح الباب بهدوء وبطء وولج إليها لتقع نظراته الماكرة الخبيثة عليها ووقفت عيناه على عينيها الزيتونية الخائفة والتي ظهرت له ما بداخلها بوضوح..
أغلق الباب بيده بعد أن ولج للداخل وتقدم إلى أن جلس أمامها بغرور وعنجهية، يلقي عليها نظرات حادة ماكرة واثقة، وعقله داخله يبتسم ضاحكًا بصوت مُرتفعًا يصل إلى عنان السماء شامتًا بها مُتذكرًا ما فعله..
انتشلته من ذكرياته القذرة الحقـ ـيرة مثله وهي ترتفع بصوتها الحاد ناظرة إليه بعدم خوف والجدية تتحدث عنه:
-جاي ليه يا هشام وعايز مني ايه
ابتسم بسماجة وتهكم واعتدل في جلسته ليستطيع النظر إليها جيدًا:
-وحشتيني بس قولت اجي وأقـ ـتل الاشتياق ده
حدثته بجدية شديدة وحدة قاتلة وهي تنظر إليه بقسوة تنبع من داخلها بعد معرفة حقيقته:
-هات من الآخر وأتكلم على طول.. قول عايز مني ايه؟ وليه بتعمل معايا كدة
وجدته لم يعطيها أي إهتمام فأكملت هذه المرة بنبرة مذهولة وحاجبيها معقودان باستغراب شديد:
-دا أنا حتى مكنتش أعرفك، اللي عرفتني عليك هي بنت عمك يعني لا ليا عداوة معاك ولا عملتلك حاجه من الأصل ليه بقى بتعمل كده وعايز مني ايه.. أنا كنت صدقت إنك حد كويس بجد وفكرت في الجواز منك إزاي تطلع كده
أشار إليها بيده وعقب على حديثها بكلمات قاسية تعرفها جيدًا وقد جلدت ذاتها بها سابقًا:
-اللي حصل ده بسبب غبائك، أنتي واحدة غبية مش ذنبي ده خالص، لو كنتي سمعتي كلام ابن عمك اللي بيحبك ومربيكي مكنتيش وصلتي لهنا، بس أنتي خاينة زيه ويمكن أكتر منه واكيد أنتي عارفه كدة كويس.
ابتلعت ما وقف بحلقها ونظرت إليه بقوة قائلة بثبات:
-كل ده مايخصكش ومالكش دعوة بيه.. أنت عايز ايه وليه بتعمل كده وليه إيناس كمان عملت معايا كده أنا كنت بعتبرها زي أختي
ابتسم مرة أخرى وهو يرمي عليها بكلمات سامة وقعها عليها حاد وهو يغمز بطرف عينه لها:
-لأ سيبك من إيناس دي حكايتها حكاية وهتصدمك أوي أصلها تخص حد من حبايبك.
أكمل بلا مبالاة تامة وهدوء لا مثيل له وهو يقول بثقة ناظرًا إليها:
-أما بالنسبة ليا بعمل كده ليه؟ بكرة تعرفي مش دلوقتي خالص وبالنسبة لعايز ايه؟ فأنا عايزك متتجوزيش عامر
تهكمت عليه وعادت للخلف بالمقعد عندما رأته ينحدر بتفكيره في تلك المنطقة محذورة:
-وأنا المفروض اسمع كلامك مش كده؟
نظر إليها بثقة، عينه الهادئة تحولت إلى أخرى قاسية شديدة القسوة والحدة وهو يقول بنبرة هادئة:
-هتسمعيه، عارفه ليه؟ علشان أنا أقدر أخلي السكينة المرة الجاية تخلص عليه مش مجرد مطوة تالمه تجرحه
حركت رأسها يمينًا ويسارًا ترفض ما يهتف به ذلك الأبلة وشفتيها تتبعها:
-مش هتعمل كده أكيد
ابتسم بسماجة على براءتها الغبية التي ترفض أي فعل دنيء من أي شخص يقربها، ألا تعلم أن العالم لا يوجد به إلا ذئاب بشرية؟:
-وليه أكيد ما أنا عملتها قبل كده أصلًا أقدر أعملها تاني وتالت وعاشر واجيب أي عيل يلبسها ولا شاكه فيا ومفكره قلبي ضعيف
عارضته بشدة وهي تهتف بجدية وثقة مطالبة بالقرب من حبيبها الذي فرقتهما الليالي الخائنة:
-مش هتعمل كده، مجرد ما عامر يكون كويس هنتجوز، كفاية أوي اللي راح من عمرنا واحنا بعاد عن بعض بسبب بنت عمك الخاينة
صحح ما تتفوه به ببرود:
-بسبب غبائك وعينه الزايغة
أكمل بتوعد وجبروت ظهر في عينيه وجميع ملامح وجهه:
-ورحمة أمي لو اتجوزتيه لكون محصرك عليه العمر كله مش بس سنتين فراق
نظرت إلى عينيه للحظات خلف الأخرى تحاول أن ترى أي شيء من الذي كانت تراه به سابقًا ولكن لم تجد سوى الكبر والقسوة، الخيانة والخبث فتسائلت باستغراب:
-ليه بتعمل كدة!؟
وقف أمام مكتبها واعتدل في وقفته ثم بدأ في الاسترسال يقص عليها ما كانت تغفل عنه:
-اوعي تكوني فاكرة الشويتين اللي حصلوا بينا دخلوا عليا لأ أنا عارف كويس أوي إنك بتحبيه ومش عايزاني ولا أنا كمان عايزك ولا كنت طايقك أصلًا بس جيتي في الجون بقى أعمل ايه
أكمل وهو يتوجه للخارج بلا مبالاة ولم يفكر بها، بل يفكر في مخططه الذي حتم عليه بالنجاح أمام الجميع:
-فكري في كلامي.. لو عايزه تتجوزيه ماشي اتجوزيه بس استني عليا وهرد عليكم الرد التمام وبالهداوة واحدة واحدة
سار إلى أن وقف أمام بابا المكتب وفتحه ليخرج منه بعد أن فعل ما أتى لأجله ولكنه استدار إليها قائلًا بسخرية وتهكم داخله تهديد رأته بوضوح:
-سلام... يا سلمى هانم
نظرت إليه وهو يخرج وتابعته بعينيها، دق قلبها بعنف بعد خروجه، لقد حبست أنفاسها أثناء وجوده معها هنا في الغرفة، ظهرت بوجه جامد حاد والثقة تنبعث منه ولكنها والله والحق عليها أن تبوح به كانت تموت داخلها، والآن ازداد ألم قلبها الذي يرقص على طبول الخوف والرهبة، كيف لها أن تبعد ذلك المجنون عنهم، أو تترك "عامر" الذي افترقت عنه عامان من القسوة والعنف، عامان من الجفا والحرمان ولم تكن أبدًا أيام تمر بل كانت ليالي يقتلها بها الاشتياق والندم...
❈-❈-❈
"يُتبع"
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا