القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية الحصان والبيدق(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا") الفصل 16-17-18بقلم ناهد خالد

 رواية الحصان والبيدق(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا") الفصل 16-17-18بقلم ناهد خالد






رواية الحصان والبيدق(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا") الفصل 16-17-18بقلم ناهد خالد


16-17-18


الفصل السادس عشر " اختيار" 


" لكلاً منا حق الاختيار, وعليهِ تحمل النتائج" 


صباح اليوم التالي...


تململت في نومها أثر أشعة الشمس المتسللة من نافذة الغرفة, لتفتح عيناها بتكاسل بعد نومها المتأخر أمس, فقد خلدا للنوم بعدما تخطت الساعة الثانية ونصف صباحًا, بعد ساعتين قضوهما في الحديقة, لا يفعل شيء سوى أنه يجلس على فخذيها يغني لها تارة, ويتغزل بها تارة أخرى, وأحيانًا يتذكر أحد مواقف طفولتهما ليأخذها الحنين للماضي! وللحق أمس اجتازت مسافة كبيرة بينهما, على الأقل بداخلها حتى وإن لم تُظهر هذا, شعرت أنه ليس بهذا السوء, بل ويمكنهما أن يحيوا حياة سعيدة! ومع انتظامها على الأدوية لثلاثة عشر يومًا سابقين, فهي تشعر بتحسن, لم ترى "سارة" فيهما سوى خمس مرات, على عكس أنها كانت تراها يوميًا تقريبًا, وفي الخمس مرات لم تتحدث معها, فعلت مثلما اخبرها الطبيب.. تستمع لها, ولا تنفعل, أو تجيبها, وتشغل نفسها في أي شيء آخر, والذي كان على الأغلب أنها تنهض ملتقطة هاتفة تتحدث مع أي شخص "فريال" "رنا" "مراد" أو حتى تهبط للأسفل وتجلس مع "ليلى" تتحدث معها في أي حديث.


أخذت نفسها بعمق وراحة, لأول مرة في حياتها تشعر بها, أول مرة تعرف معنى السلام النفسي, حتى وإن كان ليس كاملاً, لكنه بدأ يتسلل لها! ويا للتطور!


انقلبت لتنام على جانبها الأخرى فأصبح وجهها مقابلاً لجانب وجهه, ينام بعمق واضعًا كفه فوق بطنه, والأخر يغطي به جبهته, ظلت تنظر له لدقائق بنظرات غير مفهومة حتى منها هي, وأخذت تتساءل كيف لم تلاحظ وسامته من قبل؟ هي كانت تعلم أن له جاذبية ويمتلك بعض الوسامة, لكن لم تكن تراها كالآن، حتى شعرت برغبة ملحة في إزعاجه, فمدت كفها بتردد طفيف حتى استطاعت لمس وجنته اليسرى بأناملها النحيفة، ولأنه اعتاد أن ينام مغمضًا عين ومفتحًا الأخرى، وقد يستقيظ لنسمة هواء اصتدمت بوجهه، فبالطبع استيقظ على لمستها، وحرك جفنيهِ بانزعاج، فتوقفت للحظة قبل أن تقترب منه أكثر وقد دفعها الحماس، وأخذت تحرك إصبعها فوق حاجبه بخربشة خفيفة، وكأنها ذبابة أو أحد الحشرات الطائرة المزعجة، ولم تعرف بمكر النائم، والذي ما إن تكررت الحركة حتى علم مصدرها، فكبح ضحكته بصعوبة وبغتًة رفع كفه ليضرب اصبعها وكأنه يضرب الحشرة المزعجة، فصرخت بوجع وخضة في آنٍ، ليفتح عيناه بخضة مصطنعة وردد بتساؤل وهو يراها تقبع فوقه حرفيًا بنصف جسدها العلوي، وقد سعد لخطوتها تلك التي توشي بعدم خوفها منه، وعدم رجفتها للاقتراب كالعادة!


_ ايه ده خديجة!؟ هي كانت ايدك؟


مسدت إصبعها بوجع خفيف وهي تردف بملامح منزعجة بعدما ابتعدت قليلاً:


_ أنتَ شايف ايه؟


رفع منكبيهِ يلاعبها:


_ أنا مش شايف، أنا كنت نايم، هو ايه اللي جاب ايدك على وشي؟


ودون خجل او تردد فهي حقًا مغتاظة منه الآن:


_ حبيت ارخم عليك.. فكرتك هتنزعج بقى وتصحى تبتسم لما تشوفني والكلام ده.


ضم شفتيهِ معتذرًا بأسف مصطنع:


_ مخدتش بالي انها ايدك، فكرتها جاموسة.. قصدي ناموسة.


نظرت له بعيناها بشك، تضيقهما وكأنها تجبره على الاعتراف بالحقيقة، ورأت العبث يتراقص هناك بين غيوم رماديتهِ، فهتفت بحذر:


_ أنتَ حسيت بايدي صح!؟


ابتعد قليلاً بذعر مصطنع وقال:


_ على حسب..


التفت تلتقط الوسادة وما إن عادت له حتى وجدته قد قفز من فوق الفراش واقفًا على مسافة آمنة، لتنهض هي الأخرى وبيدها الوسادة تقول بغيظ:


_ قصدك على ايدي انها ايد جاموسة صح؟ 


_ عيب يا خديجة متقوليش على نفسك كده. 


ركضت تجاهه ليركض هو أمامها وهي تصرخ بهِ:


_ والله ما هسيبك، يا عديم الرومانسية. 


توقف بمنتصف الدرج يهتف باستنكار:


_ شوف مين بيتكلم!  خديجة كآبة! 


شهقة قوية كادت تبتلع روحها، ورددت بدهشة:


_ انا.. أنا خديجة كآبة! 


وفي اللحظة التالية كانت الوسادة تصتدم بوجهه، ليرتد رأسه للخلف قليلاً، وما إن عاد ينظر لها حتى وجدها تلتقط تحفة فنية كانت بجوار بداية الدرج، لتتسع عيناه ذعرًا:


_ بت، اعقلي يا ديجا بطلي جنان دي فيها فتح راس! 


ابتسمت ابتسامة غريبة وهي تردد:


_ وماله، وانا هخيط راسك بايدي. 


_ دي اتجنت رسمي! 


قالها وهو يلتف مستكملاً ركضه لاسفل.. وصل للردهة الواسعة ليجد "ليلى" تجلس أمام التلفاز وبجوارها "مصطفى" ممسكًا بأحد كتبه الدراسية يخط فيها، لتتسع أعينهما ذهولاً و "ليلى" تسأله:


_ في ايه يا مراد؟ 


رمى نفسه بجوارها وهو يردد بلهاث:


_ معرفش.. البت اتجننت باين! 


قطبت ما بين حاجبيها ولم تفهم جملته، لتلتفت حين استمعت لخطوات" خديجة" القادمة ليلتفت هو الآخر متوقعًا نفس هيئتها، ليُصدم حين وجدها قد تركت تلك التحفة لا يعلم أين، وتأتي ناحيتهم مطأطأة الرأس والوجوم يحتل وجهها، ليرفع حاجبه يشعر بالخطر حيالها، اتجهت للجلوس جوار شقيقها، بعد أن احتضنت رأسه تدعمه بصمت، جلست جواره تسأله:


_ عامل ايه في المذاكرة يا حبيبي؟ 


ابتسم لها براحة:


_ كويس جًدا، المدرسة كويسة اوي، والمدرسين شرحهم حلو، حتى مش محتاج دروس.


وارتاح قلبها لراحته، فابتسمت بسعادة، وهي تنحني مقبلة وجنته بحب:


_ ان شاء الله تجيب مجموع كويس، وتنجح بتفوق كل سنه. 


_ صحيح يا مصطفى عاوز تدخل كلية ايه؟ 


تسائل بها "مراد" وهو يتدخل لينهي وصلة الدلال المائعة كما وصفها، ليقول "مصطفى" بتمني:


_ مهندس طيران. 


_اشمعنا طيران. 


اجابت هي بالنيابة عنه:


_ مصطفى ولهان بالطيران. 


وافقها "مصطفى" يقول:


_ كفاية انه قادر ينقلك من مكان لمكان، وتبقي حره في السما. 


_ ربنا يناولك اللي في بالك يا حبيبي. 


قالتها "ليلى" برضا، ليؤمن على دعائها هو وشقيقته، لتكمل بعدها:


_ مالك يا خديجة؟ شكلك متضايقة! 


قالتها بعدم لاحظت عودة وجومها، لتنظر له بجانب عيناها بخبث وهي تقول:


_ ابدًا..حاجة مش مهمة. 


_ بس مضيقاكِ! 


وهنا تركت للسانها الكاذب العنان وهي تقول:


_ بصراحة بقى يا طنط، ابنك السبب. 


_ مراد؟ 


قالتها "ليلى" وهي تنظر له بجانب عيناها ليرفع كفيهِ باستسلام ينفي التهمة عنه، لتكمل:


_ ايوه، قالي انه بيعرف يعمل مكرونة بشاميل حلوة اوي.. وبقالي ساعة بتحايل عليه يعملها مش راضي. 


رفع حاجبيهِ ذهولاً من إدعائها الكاذب، متى قال هذا بحق الله! لتقطب "ليلى" ما بين حاجبيها غير مصدقة:


_ مراد بيطبخ؟ 


وثبتت على موقفها:


_ ايوه.. هو قالي كده، فمفيهاش حاجة لو عملها ودوقناها من ايده. 


_ ده بجد يا أبيه؟ ليك في المطبخ؟ 


رددها "مصطفى" متسائلاً بدهشة، لينقل "مراد" انظاره بينهم، هل عليهِ أن يكشف كذبها الآن؟؟ وحينها ستكون كالكتكوت المبلول يقسم، قرر أن يرأف بها، وقال باقتضاب:


_ اممم... صح. 


_ طب ما تدوقنا يا مراد. 


قالتها "ليلى" بحماس، ليعض شفتيهِ حانقًا من المأزق برمته، قبل أن يومأ برأسه مع ابتسامة ماكرة:


_ ماشي، بس خديجة هتساعدني. 


ابتلعت ريقها بتوتر، آلت الأمور إلى ما لا تحبذ أبدًا، انتفضت حين أمسك بكفها يسحبها خلفه وهو يقول بتوعد خفي:


_ تعالي يا حبيبتي نسلي بعض. 


________________


منذُ استيقظ وهو لا يتعامل معها، وهي كذلك، حضرت الافطار وجلسا يتناوله بصمت، صمت لم يقطعه سواها وهي تزفر بقوة قبل أن تقول:


_ ايه الحال الي جيت بيها بليل دي؟ 


رد ببرود مستفز:


_ حالة ايه؟ 


كبحت غضبها تقول:


_ أنتَ كنت سكران؟ شارب خمرة يا ابراهيم؟ 


قلب شفتيهِ بلا مبالاة:


_ وفيها ايه؟ بنفرح عن نفسينا شوي، مجامتش الجيامة يعني! 


استنكرت تقول:


_ تفرح عن نفسك بالمنكر؟ كانك مخابرش انه حرام ولعن الله شاربه؟ 


_ أنتِ هتديني درس في الأخلاج؟  بعدين ايش دخلك انتي اسكر ولا مسكرش! 


ادمعت عيناها وهي تجيبه:


_ دخلني.. للاسف دخلني، أنتَ چوزي، والمفروض لما تكون ماشي في سكة عوجة يا اهديك يا ابعد، لكن اني اعيش معاك مستعمية مهينفعش في الحاچات دي. 


اقترب بجسده ساندًا على الطاولة، فبات قريبًا منها، وربت على خدها بكفه بخشونة وهو يقول مستهزءًا:


_ لا هينفع، وبعدك مش بكيفك يا....يابت عمتي، ده انا اجطعلك رجبتك جبل ما تفكري تخطي خطوة بره الدار. 


ابتسامة ساخرة زينت ثغرها وهي تقول:


_ اللي يشوف اكده يجول إن من حبك فيا. 


امتعضت ملامحه وهو يقول متهكمًا:


_ حب ايه وكلام فارغ ايه؟ ده انا طايجك بالعافية، بجولك ايه انا مهحبش الحديت الكتير وجفلي بجى..


تسللت دموعها على وجنتيها وهي تسأله بقهر احتلى عيناها وقلبها قبلاً:


_ مادام مش طايجني اتجوزتني ليه؟ 


ببرود اجاب وهو يتناول لقمة من طعامه:


_ طبيعي اتجوز، واخلف.. ولا هعيش راهب اياك!؟ 


روتين... الأمر مجرد روتين، طبيعي أن يتزوج وينجب من أي فتاة، وليست هي على وجه الأخص، ويا لقهرة قلبها وكسرته، نهضت في صمت وغادرت الجلسة، وقد شعرت بانهزام مرير.. فلطالما بررت له افعاله البربرية أنه يحبها ولكنه لا يستطيع التعبير، يحبها لكنه يجهل التعامل مع أنثى.. يحبها وطبعه يغلبه، وياليته يحبها...!! 


________


وقتًا رائعًا قضوه في المطبخ، وقد احدثوا ثورة بهِ من مزاحهما وارتباكهما في تحضير الطعام، ارتباكه كان يأتي من جهله بتلك الأمور، وارتباكها من قربه الذي كان دومًا ملتصق لها، إما جوارها تمامًا، إما خلفها، وكلاهما يثيران اعصابها، وبين ضحك وجدية، تركيز ولا مبالاة احيانًا، انتهيا من اعداد المعكرونة بالبشاميل واللحم المفروم، ليثني الجميع على مذاقها الجيد. 


وبعد انتهائها من تنظيف المطبخ، جلست في الحديقة على الأرجوحه، تهتز بها ببطء وخصلاتها تهتز معها في تناغم، وبيدها هاتفها تحدث "جاسمين" التي طلبتها فجأة ولأول مرة:


_ انا ملقتش حد اتكلم معاه واخد رأيه، مينفعش اتكلم مع ماما، ولا باهر طبعًا، ولا حتى بابا، فجيتي على بالي.. 


وراحت تقص لها تفاصيل الأمر.. 


وبكل الحزن والألم كانت تردد:


_ يا حبيبي يا باهر، الله يكون في عونه، ده اكيد هيتأثر اوي بالخبر ده، الموضوع مش سهل ابدًا.


اتاها صوت "جاسمين" الباكي يقول:


_ انا من وقت ماعرفت حاسة قلبي مقسوم نصين.. نص مشفق عليه وبيقولي اوعي تسبيه وافضلي جنبه وقوية، ونص محتار وخايف من تحمل قرار زي ده.. وانا بينهم تايهه ومش عارفة اعمل ايه، انا مش هقوله حاجه بس اكيد صاحبه الدكتور هيقوله، ده مكانش ناوي يديني النتيجة لولا الممرضة اللي طلعتها من غير ما تسأله..


تجعدت ملامحها تسألها باستغراب:


_ محتارة؟ بس أنتِ لو بتحبيه زي ما بتقولي مش هتحتاري! 


غزى الألم نبرتها:


 _ انا بحبه فعلاً، بس في نفس الوقت من حقي اكون أم.


زفرت "خديجة" أنفاسها بوجع، تخشى أن تقرر "جاسمين" الانفصال، وهذا حقها، لكن ماذا عن "باهر" وشعوره!؟ لكن هي اختارتها لترشدها لذا ستكون حيادية:


_ يعني أنتِ شايفه ايه؟ مش هتقدري تكملي؟ هتسبيه عشان موضوع الخلفة؟ في النهاية محدش هيقدر يلومك فالقرار قرراك.


تساقطت دموعها اكثر، وضمت شفتيها بقوة تمنع بكائها، وقالت بنبرة ألم عاصف:


_ لو هو اللي كان مكاني كنت قولتله يتجوز، وكنت فضلت معاه، رغم ان كان الموضوع ده هيقتلني، بس كان هيكون خيار تالت متاح.. لكن دلوقتي معنديش خيارات، يا اكمل واتقبل اني انسى موضوع الولاد ده حتى لو بيتعالج، عشان محطش أمل ميتحققش ، يا ابعد.. واقرر الانفصال ووقتها هتكون قصتنا خلصت... لو مكاني هتعملي ايه؟


هزت رأسها نافية بحزن وأردفت:


_ مقدرش اقولك.. لأن كل واحد بيتصرف غير التاني، وانا مجربتش عشان احكم.. احنا لا في فيلم ولا في قصة عشان اقولك متضحيش بحبك عشان الاطفال، احنا في واقع.. الواقع اللي ممكن يخليكي دلوقتي ما يكونش عندك مشكله وتفضلي حبك على احساسك بالامومة، لكن ممكن بعد كذا سنه تحسي بالندم، ووقتها هتكوني ضيعتي عمرك على الفاضي لا هتعرفي تبعدي عشان تحققي حلمك ولا هتعرفي تفضلي عايشه معاه، وانتِ كل يوم في وجع وندم لقرار اخدتيه  في يوم، انا ما عنديش حاجه اقولها للاسف، و للاسف ما فيش اي حد هيقدر يفيدك انتِ الوحيدة اللي هتقدري تقرري.


تسطحت فوق الفراش ناظرة بعينيها لسقف الغرفة ومئة فكرة تتلاعب بعقلها، قبل أن تقول باختناق واضح ودموعها تزين جانبي خدها:


_ يعني.. يعني متخيله احساسة لما اقوله اني عاوزه انفصل عشان طلع عنده مشكلة في الخلفة؟ متخيلة شعوره؟ ده كأني بقتله!! عمري ما هقدر اقولهاله وانا عارفه انه عارف السبب، انا مش وحشة ولا أنانية والله، بس.. غصب عني انا عيشت طول عمري بنت وحيدة وكنت دايمًا باحلام باليوم اللي اتجوز فيه ويكون عندي اطفال كتير يعوضوني عن وحدتي. 


_ أنتِ مش أنانية، ومش مضطرة تتنازلي عن حلمك عشان حد، حتى لو كنتِ بتحبيه، في حاجات اهم من الحب بكتير..


انتفضت جالسة وهي تسمع لصوته، نظرت له لتراه واقفًا أمام باب الغرفة وملامحه جامدة، لا يظهر عليها أي شعور، لا حزن ولا غضب، وقفت بعدما اغلقت المكالمة، ونظرت له عاجزة عن الحديث، ليكمل هو بنبرة هادئة:


_ بعفيكي من عبء انك تطلبيها عشان متحسيش نفسك أنانية.. وصدقيني أنا عمري ما هفكر فيكي بالشكل ده، بالعكس انا لازم اشكرك انك فكرتي بعقلك وفكرتي لصالح حياتنا بعيد الشفقة ولا المشاعر، لأنها هيجلها وقت وتنتهي.. أنتِ تستاهلي كل خير يا جاسمين..


ابتسامة طفيفة بالكاد رُسمت على ثغره وهو يكمل:


_ تستاهلي يكونلك العيلة اللي حلمتي تكونيها، وتكوني أم، وأنا عارف انك هتكوني أم ممتازة، وهتعرفي تربي عيالك صح...


اقترب حتى أصبح يقف أمامها تمامًا الآن، كوب وجهها بين كفيهِ، وأردف بما جعلها تشهق في بكاءٍ عنيفٍ:


_  أنا بحبك، أول بنت احبها في حياتي، وأول واحدة اعرف معاها يعني ايه حب وادوق حلاوته، عمري ما هنساكِ، وهفضل دايمًا فاكر البنت الشقية أم لسان طويل اللي ظهرت في حياتي فجأة عشان تمرمطني وراها..


مالت برأسها على أحد كفيهِ ودموعها انهمرت كشلال جاري، ونظرة عيناها لوحة فنية عنوانها الألم والقهر، وصوت شهقاتها يتعالي أكثر مع كل كلمة يقولها:


_ أسف لو كنت في مرة زعلتك ولا جيت عليكي من غير قصد، واتمنى تفتكريلي الأيام الحلوة بس.. جاسمين....


وخفق قلبها رعبًا، وانخفض تنفسها وهي تدرك ان الكلمة القادمة هي النهاية.....!!!


_______


زفرت بضيق حين انتهت المكالمة فجأة، وتهاوت دموعها حزنًا عليه، يالها من صفعة قاسية، ماذا تريد منه الحياة بعد؟ ألا يكفي ظلمًا؟ "باهر" ذو الحظ البائس عكس أخيه، كن تركته والدته لتتزوج بآخر، وقضى حياته مع زوجة والده، من لقى كرهًا غير مبرر من النصف شقيق "ابراهيم"، ربما ليس كرهًا بالمعنى الحرفي لكنه.. عدم تقبل!؟ دومًا شعر بحاجز ما بينهما لا يعرف له سببًا.. 


"باهر" من خرج من بلدته بلا عودة لاتهام عمته الفاسق وطعنه في شرفه وشرفها هي "خديجة"، وهو من توفى والده فجأة بعد انقطاع دام سنوات ليُعاقب بمرارة الندم! ماذا تريد منه الحياة بعد!؟ 


شهقت ببكاء، لتشعر فجأة بمن يجلس بجوارها فوق الارجوحة، ينظر لها بقلق يسألها:


_ في ايه يا ديجا؟ مالك يا حبيبتي بتعيطي ليه؟ 


نفت برأسها رافضة الافشاء عن سر أؤتمنت عليه، لتقول:


_ مفيش. 


ومسحت دموعها متحكمة في نفسها، ليلح عليها وهو يمسك كفها بحنو:


_ لا فيه، وهتقولي، مالك يا حبيبة حياتي بتعيطي ليه؟ 


وبالاخير استسلمت جزئيًا لتجيبه:


_ باهر عنده مشكله صعبة، جاسمين لسه مكلماني وحكتلي، فصعب عليا. 


ربت على كفها ببرود:


_ لا ميصعبش عليكي غالي. 


نظرت له بأعين باكية أثرت بهِ:


_ لو سمحت بلاش تريقة، انا فعلاً زعلانة عشانه. 


كبح غضبه وغيظه بصعوبة لن تتصورها، وقال بهدوء يهاودها:


_ في ايدي ايه اعمل طيب؟ ممكن نساعده بحاجه؟ 


اجابته بنبرة باكية:


_ ياريت كان ينفع.. محدش يقدر يساعده غير ربنا. 


جذبها لأحضانه بغتًة وهو يحيطها باحتواء، يهمس لها رغم شعوره باضطرابها:


_ هتعدي يا حبيبتي وهيكون بخير.. 


وبنفسه غمغم ماقتًا:


_ معرفش شاغله نفسك بيه ولا كأنه ابن اختك!! ما يروح في داهية...! 


و"مراد" صراحةً لا يحب "باهر" مطلقًا.. والعكس... بالطبع صحيح. 


_______


_ لا.. لا يا باهر.. متقولهاش ارجوك. 


صرخت بها " جاسمين" وهي تمنعه من إطلاق رصاصته الغادرة، على الأقل الآن وبتلك السرعة تُعد غادرة، حتى وإن آلت إليها الأمور لاحقًا لكن ليس الآن... هناك محاولات قبلاً... 


امسكت كفيهِ وطالعته بعيناها المتورمة من البكاء:


_ يشهد ربنا اني عمري ما فكرت ابعد عنك، لأي سبب كان، ولا عمري هفكر، انا بس اتلخبطت وحسيت... حسيت ان دماغي لفت ومبقتش عارفة اعمل ايه، باهر انا غصب عني.. انتَ عارف ان انا مهووسة ان يكون عندي اطفال، من وقت ما اتجوزنا وانا ما عنديش سيره غير الخلفه والاولاد، ورغم ان انا اللي اصريت ان احنا نروح نعمل تحاليل بس كنت وقتها شاكه فيا أنا، ولما طلعت كويسه حسيت براحة وإن خلاص ما فيش اي مشكله، انا بس اتصدمت والصدمه خلتني مش عارفه افكر وخصوصا اني  بحاول افكر بواقعيه عشان ما اظلمكش معايا. 


صمتت تلتقط انفاسها:


_ انا عارفه إن انتَ عمرك ما هتتقبل اني اعيش معاك وانت حاسس ان انا ممكن اكون ندمت على قراري، او طول الوقت تحس ان لسه مش قادره اتخلى عن حلمي ان يكون عندي اطفال، ووقتها هكون باذيك وبوجعك غصب عني ومن غير ما اخد بالي.. عشان كده كنت محتاجه حد اتكلم معاه، اخرج كل اللي جوايا واشوفه هيدلني على ايه لكن عمرها ما هتنتهي كده.. انت بجد كنت هتطلقني!!؟ ده احنا لسه ما حاولناش، انتَ للدرجة دي بايع؟


ملست على كفه الممسكه بهِ وقالت بابتسامة باهتة:


 _ بس انا عارفه ان الموضوع مش كده،  عارفه ان انتَ كمان اتصدمت، وصدمتك خليتك تتصرف من غير تفكير، بس احنا دلوقتي محتاجين نروح للدكتور ده ونشوف ايه المفروض نعمله الفتره الجاية. 


نظراته كانت مبهمة لها طوال الوقت، وملامحه الجامدة لم تتغير، حتى وهو يقول:


_ بس أنتِ فكرتي في الانفصال، ومادام فكرتي، يبقى هييجي وقت وتعمليها.. 


كادت تجيبه نافية، مبررة، موضحة موقفها، ليقاطعها قائلاً بجدية غريبة:


_ وانا مش هستنى اليوم ده، ومش هسيبك تتعلقي بأمل واهي معايا.. ولا هدخلك في دوامة علاج ودكاتره يعلم تخلص ولا متخلصش.


نظرت له بعدما صمت، لم تفهم تمامًا ما يقصده، لكن أتت رصاصته الغادرة حين التف معطيًا اياها ظهره ناويًا المغادرة:


_ أنتِ طالق يا جاسمين.


انتهت قصتهما؟؟ هل انتهت في لحظة اختيار؟ بهذه السرعة؟! انتهت باختيار متهور أم صائب؟ 


#يتبع 

 النهارده ❤️الفصل السابع عشر 

بكِ أحيا 2 

" منا من يسير نحو الهاوية بإرادته،" قد ترى الجملة مُريبة" لكنها واقعية جدًا، كالذي وقف على حافة جبل يتأرجح بين الناحية والأخرى، هل لك أن تراهن عليهِ بالنجاة! هو اختار أن يقف هناك" على قمته" برغبته، لذا حين يسقط سيكن قد لقى حتفه بإرادته.. 

وفي واقعية الحياة هناك من يتأرجح بين الهاوية والأرض الثابتة.. بأفعاله، بخطواته، بقراراته الخاطئة، وحينها يكن غافلاً.. غافلاً عن أن النهاية قد تكن نهايته! "


في اليوم التالي... عصرًا.. 


تتبع خطوات سيره وهو يتجه لمكتبه والأخير خلفه بالقرب منه يهمس:


_ بس يا باشا الوضع بقى خطر ومش هتعرف تتهرب اكتر من كده، من يومين دياب شك فيها وشكله هيبدأ يدور وراها. 


_ هي اتهربت منه ازاي يومها؟


قالها وهو يدلف من باب مكتبه الذي فُتح بفعل السكرتير الخاص به والذي سبقه ما إن علم بدلوفه الشركة، اجابه "طارق" :


_ عملت نفسها تعبانة ودايخة وحاسة بصداع، ولما سألها قالتله إن بقالها يومين ضغطها واطي وصحتها مش كويسة، فقالها انها اخر مرة هيسمحلها تتغيب عن شغل، بس هي حست انه مصدقهاش. 


جلس خلف مكتبه على مقعده الوثير باسترخاء، وضرب بأصابعه فوق المكتب بحركة رتيبة، ثم أخبره:


- عمومًا خليها بس تمشي امورها يومين، بعد اليومين هتكونوا سافرتوا. 


سأله "طارق" بقلق واضح:


_ بس يا باشا هم اكيد هيعرفوا بسفرنا! 


نظرة حادة رشقه بها وهو يقول:


_ ليه هو انا بلعب! 


توتر مجيبًا:


_ مقصدش يا باشا، اكيد حضرتك مظبط الدنيا. 


حدقه بنظرة عابرة مستنكرة قبل أن يفتح الملف الذي امامه وهو يقول:


_ تمام، سبني بقى عشان عاوز انجز شغلي وامشي. 


ابتسم بفكاهه مستدعيًا اواصر صداقتهما قائلاً:


_ حاضر، حاكم انا ملاحظ انك مبقتش تحب تغيب عن البيت كتير. 


رفع عيناه له بتحذير زائف:


_ عندك مشكلة! ماهو كله بيصب في مصلحتك، الأول كان شغلك بيعدي ال ١٦ ساعة، واغلب اليوم كنا بنبقى بره، دلوقتي اليوم كله مبيكملش ٦ ساعات شغل بين بليل وبالنهار. 


رفع كفيهِ مستسلمًا، وقال بصدق:


_ ده في مصلحتي جدًا، الأول كنت بروح مهدود ويومي كله ضايع في الشغل، دلوقتي معظم اليوم فاضي فبقيت اقدر انا كمان امشي أموري.. 


وغمز بالاخيرة ليتبين مقصده ألا وهو "زيارة هاجر" فبات يقضي معها وقتًا أكثر، وبات يراها يوميًا تقريبًا، واكمل حديثه:


_ كانت فين الهانم من زمان، لو كنت اعرف انها هتشقلب الحال كده، كنت دورت عليها بنفسي مع الرجالة. 


وحديثه اعاده لتلك الفترة العصيبة التي لم يفلح في ايجادها بها، تلك الفترة التي شعر فيها انه لن يجدها، واحيانًا ورغم يقين قلبه كان يتملكه اليأس غصبًا، فيشعر باستحالة ايجادها، وأنه لن يجتمع بها يومًا، ويا للطف القدر الذي جمعهما ثانيًة، فكم كان رحيمًا بهِ، وكأنه يعلم أن قلبه لن يستمر إلا بها، وحياته لن تكون من غيرها، ليهديه تحقيق حلمه الذي طال انتظاره. 


تنهد بقوة شاعرًا برغبة عارمة في الذهاب إليها الآن واحتضانها، الشعور بها وبوجودها، فقد شعر بوحشة في قلبه وكأن ذكرياته زعزعت حقيقة كونها موجودة بالفعل وأصبحت معه، وكأن قلبه خشى.. ولن يطمأنه سوى الشعور بها. 


وهو فيما يخصها "مجنون" وهو يعلم، فنهض فجأة، تحت نظرات "طارق" المندهشة والمتعجبة وهو يراه يلتقط هاتفه وحافظة نقوده، ويتجه للخروج قائلاً:


_ ين*** معرفتك يا طارق. 


فهو من أقام الفكرة في عقله، ليجعله يخرج من الشركة بعدما دلف اليها بخمس دقائق! اتبعه "طارق" سريعًا بعدما فاق من صدمته وهو يهمس لذاته:


_ هو خده الحنين ولا ايه؟ ولا انا بكلامي صحيت مشاعره! يلا احسن اهو اروح اتغدى وانام تاني.. 


بالأسفل فتح له باب السيارة، واستقل هو المقعد الأمامي وهو يقول بتذكر:


_ صحيح يا باشا كنت قولتلي هنروح للبوص الكبير، ده امتى!؟ 


اجابه دون أن يحيد بعينيهِ عن الطريق:


_ من امتى ببلغك بخطوتي قبلها؟ 


- مش قصدي، بس يعني هو انا هوصل حضرتك واروح؟ 


لمعت عيناه بالخبث وهو يجيبه:


_ لا، هتفضل بره يمكن احب اخرج تاني. 


رفع حاجبيه بدهشة وهو يهمس لذاته:


_ يعني مفيهاش راحة! 


____________


يجلس في غرفتهما وقد شعر بالخواء التام بعد ذهابها، كان يعلم أنه سيفتقدها، لكن ما باليد حيلة، فقد عفاها من مصير مظلم، ورحمها من طريق طويل ستسيره معه دون أن تحصد في النهاية، لا تنفك جملة زميله بالعمل تتردد على أذنه حين أخبره بالحقيقة الكاملة، ولا ينسى كل ما دار بينهما من حديث، وشعوره حين اخبره.. 


_ باهر انا محبتش اقول للمدام الحقيقة، قولتلها ان في مشكلة ويمكن تتحل بالعلاج، لكن أنت صاحب الشأن ودكتور وفاهم، مش هينفع اخبي عليك الحقيقة... 


_ باهر للأسف التحاليل اثبتت إن نسبة العقم عندك عالية ٨٠٪، وفي الحالة دي نجاح العلاج مبيعديش ١٠٪  وبياخد وقت طويل جدًا.. أنا أسف إني بقولك ده، بس مش هينفع اخبي عنك اللي بيقوله الطب، لكن إرادة ربنا طبعًا فوق كل شيء، ولازم تحاول. 


ربما سيحاول، لكنه لن يربطها بهِ، لن يعذبها معه، يحرقها بنار الانتطار والتمني، يعطيها أمل ويسحبه منها لاحقًا، ومن حديث الطبيب كمجمل، شعر بصعوبة حالته للدرجة التي تجعله في عين الطب حالة ميؤسة، ولكن الطبيب أراد ان يعطيه بعض الأمل.. 


هو من اختار نهاية علاقتهما، هو من القى بنفسه في الهاوية، لكنه مرغم... وعقله هداه إلى أن هذا الحل الأمثل.. يعفيها ويعفي نفسه من انتظار سخيف تليه نتيجة بائسة.. 


____________________


_  يعني برضو مش عاوزه تقولي اطلقتوا ليه؟ 


هتفت بها جدتها "سميرة" وهي تنظر لها بقلب مفطور على حالتها البائسة، فمنذ أتت لها وهي لا تكف عن البكاء، والحزن يبتلعها. 


_ معلش يا نينا، مش حابة اتكلم، انا جيت هنا ومحبتش اروح عند بابي عشان محدش يسألني عن حاجة ومش حابة انهم يعرفوا دلوقتي. 


تفهمت "سميرة" الوضع لتقول:


- ماشي يا حبيبتي مش هضغط عليكي، بس قوليلي وطمنيني هو أذاكي؟ عملك حاجه؟ 


نظرت لها بدموعها الغزيرة وهي تنفي برأسها:


_ بالعكس، ده طلقني عشان مصلحتي، فاهم انه كده عمل اللي فيه صالح ليا. 


ظهرت الحيرة على وجه "سميرة" اكثر، وهتفت بعدم فهم:


_ لا إله إلا الله هو ايه اللي حصل بس! طيب استهدي بالله يا حبيبتي وقومي اغسلي وشك وتعالي اطلبي غدا بقى لاحسن هموت من الجوع.. 


وقبل أن تعترض كانت تسبقها:


_ ووالله ما هاكل لقمة من غيرك، ويبقى ذنبي في رقبتك لو مت جعانة..


نهضت وهي تقول بهدوء:


_ بعد الشر عنك، حاضر. 


تابعت دلوفها للداخل ثم قالت بحزن بالغ على حالتها وما حدث لها:


_ يارب هدي النفوس واصلح حالها يارب. 


_________


في سوهاج... 


ربطت على فخذها تسألها بهمس حتى لا يسمعهما الجالس امامهما:


_ جوليلي كيفك مع جوزك؟ 


نظرت لها بجانب عيناها واكتفت برد ساخر:


_ اسأليه هو، يمكن الخدامة مش عجباه.


حدقتها بحدة واضحة قبل أن تقول لها:


_ لمي نفسك يا بت وردي زين، وفيها ايه يا روح امك لما تكوني خدامة لجوزك! كلنا خدامين لجوازنا، مانتيش اول ست تخدم جوزها. 


وفي لحظه كانت الدموع توخز مقلتيها، وامتلأت عيناها بالدمع الذي حجزته خلف اهدابها وقالت بكسرة نفس واضحة:


_ خدامة بس! ولا خدامة و ****. 


جحظت عينا "سُرية" وهو تسمع اللفظ الذي اطلقته، من أين لها بلفظ هكذا! "فريال" متحفظه في الفاظها وحديثها، ولا يمكنها ان تعلم لفظ كهذا لا يعلمه سوى ذوي الأخلاق الفاسدة، سألتها بأعين متسعة بصدمة:


_ أنتِ بتجولي ايه! من ميتى وأنتِ تعرفي الالفاظ دي وتجوليها!؟ أنتِ اتجننتي اياك؟ وازاي تجولي على نفسك اكده من اصله؟ 


نزلت دموعها بلا هوادة وهي تهمس لها باختناق:


_ مش انا اللي جولت.. 


وتلقائيًا اتجهت نظرات "سرُية" للجالس أمامهما، والقائل معروف، ولكن السؤال لِمَ نعتها بلفظ قبيح كهذا؟ وكيف استدعاه الموقف؟؟ 


_ ايه اللي حوصل عشان يجولك اكده؟ 


سألتها بصرامة، لتجيبها "فريال" بتعب:


_ مش مهم.. صدجيني مش مهم. 


واكتفت بالصمت، و"سُرية" صمتت، لتشرد "فريال" فيما حدث ليلة أمس في أسوء ليلة مرت عليها، وكأنه يعاندها، أتى متأخرًا، مخمورًا كالليلة السابقة، وحينها لم تستطع الصمت كسابقتها، لتحاول الحديث معه وبين شد وجذب علىَ صوتها، فوجدته ينهال عليها ضربًا كما لم يفعل من قبل.. ثم... ثم سبها بالفاظ تأذت لها مسامعها، وكأنه لا يراها، كأنه يرى أخرى كي ينعتها بتلك الالفاظ التي ليست فيها، وانتهى الأمر بها ملقية بجوار الفراش انفها وشفتها ينزفان، وخصلات شعرها لا تشعر بها، ناهيك عن كدمات زرقاء اخذت تأخذ محلها في ذراعيها وصدرها...


وصباحًا استيقظت "خديجة" على مكالمتها لها، لتجدها منهارة في البكاء بشكل لا يوصف، وبين شهقاتها سردت لها ما حدث، لتستشيط "خديجة" غضبًا وتسألها سؤال واحد " ماذا تنتظر بعد؟" ورغم وضوح السؤال إلا أن الإجابة كانت صعبة، فطال صمتها على الجهة الأخرى، لتفقد "خديجة" اعصابها وهي تخبرها قبل أن تغلق المكالمة 

" يبقى متزعليش من اللي يعمله فيكِ، لأنك تستاهلي" 


ورغم قسوة جملتها، إلا أنها حملت كل معاني الصواب... 


ومن حينها و" خديجة " بمزاج غير رائق تمامًا، وعصبيتها تسيطر عليها، وما زاد الأمر سوءًا علمها بخبر طلاق "باهر وجاسمين"، فحين هاتفت "جاسمين" بعد محادثتها ل" فريال" بقليل لتعلم هل علم" باهر" شيء، فقد كانت تنوي التحدث معه حيال ما يفعله الاخرق شقيقه، علّه يردعه، لتتفاجئ بجملة الفتاة الوحيدة وهي تخبرها 


" باهر طلقني، وانا في بيت أهلى" 


ولم تزيد، وهي لم تضغط عليها، فقد شعرت برغبتها في البقاء بمفردها، زفرت بقوة وهي تقف في مطبخ الفيلا، تعد لها كوب شاي، بعدما شعرت بصداع يداهمها، استمعت لرنين جرس الباب، لتتجه للخارج مستغربة، فالجميع بالمنزل و"مراد" خرج للتو منذُ اقل من ساعة، فتحت الباب لتتفاجئ بهِ أمامها، سألته باستغراب:


_ أنتَ نسيت حاجة؟ 


دلف واغلق الباب خلفه، عيناه تأكلها حرفيًا، حتى أنها توترت من نظراته، لم يجيب سؤالها وإنما سألها:


_ كنتِ بتعملي حاجة؟ 


اومأت مجيبه:


_ بعمل شاي، راسي مصدعة. 


_ لا سيبك من الشاي، انا هضيعلك الصداع بطريقتك. 


قالها بعبث ومكر لمع في عيناه، لتردد بعدم فهم:


_ طريقتي! 


وتغاضى عن حديثها مرة أخرى وهو يسألها:


_ فين مصطفى و ماما؟ 


_ مصطفى لسه قايلي انه هينام شوية عشان راجع من المدرسة على السنتر واتغدى وفصل خلاص، وطنط قالت هتطلع تصلي العصر وتاخد علاجها وتقرأ في المصحف شوية. 


سألها باهتمام:


_ ساعدتيها تتوضى؟ 


_ اه، اتوضت هنا قبل ما تطلع متقلقش. 


اصطحبها من كفها للأريكة الموجودة في آخر الردهة، والتي من خلفها زجاج مطل على حمام السباحة، جلس وجعلها تتسطح عنوة رغم رفضها وحرجها، ووضع رأسها على فخذه، مرتبًا خصلات شعرها بيده، قبل أن يبدأ في عمل مساج بأصابع يديهِ لفروة رأسها، كما فعلت معه من قبل، والآن فهمت جملته، ورغمًا عنها استرخى جسدها المشدود واغمضت عيناها براحة، لنصف ساعة كاملة ظل على وضعه، دون تأفأف أو ملل، حتى شعرت هي اخيرًا بالوقت بعدما استفاقت من غفلتها القصيرة، فانتفضت جالسة وهي تقول بحرج:


_ اكيد صوابعك وجعتك، انا اسفة والله مش عارفة نمت ازاي. 


طالعها بحنان قبل ان ينهض خالعًا عنه سترته، ووضعها على الاريكة الأخرى جالسًا مرة أخرى موضعه وهو يقول:


_مين قالك ان صوابعي وجعتني، ومين قالك قومي؟ تعالي.. 


قالها وهو يربط على فخذه بكفه، لترفض بخجل واضح:


- لا انا بقيت كويسة والله. 


لم يريد احراجها أكثر، فاشار لها بالاقتراب فقط:


- قربي طيب. 


اقتربت على استحياء حتى جلست جواره، فاقترب قاطعًا المسافة التي تركتها، ليصبح ملتصقًا بها، وفجأة طوقها بذراعيهِ لتصبح بين احضانه، مستندة على صدره برأسها وكفها وُضع تلقائيًا على بطنه، ازاد من ضمها حتى شعرت بجسدها يؤلمها بهتفت تنبهه:


_ براحة كده هتخنق. 


ارخى ضمته تلقائيًا، وقال بهدوء:


_ اوقات بخاف يكون كل ده حلم، وافوق الاقيني لسه بدور عليكِ. 


سألته بفضول:


_ ووقتها هتعمل ايه؟ 


وعفويًا ضمها اكثر، ورغم تألمها لم تتحدث هذه المرة، واستمعت له يقول:


_ هموت.. 


تجمدت ملامحها وجحظت عيناها بعدم تصديق، لترفع رأسها له محاولة الخروج من حضنه، ونجحت رغم انه مازال يطوقها من خصرها، وقد انخفض ذراعه الذي كان يحيط ظهره ليماثل الآخر، حركت رأسها بعدم استيعاب:


_ اكيد بتبالغ! 


نظر لها قليلاً بصمت، كأنه يحاول ايصال صدق حديثه، حتى سألها:


_ ايه اكتر حاجه نفسك لو مكانتش حصلت؟


والإجابة كان يعلمها، وقد أتت كما توقع حين قالت بحزن:


_ أن سارة تكون عايشة، ومكناش عملنا اللي عملناه. 


_ ولو ده اتحقق، وفجأة لاقيتِ ان كل اللي حصل محصلش وسارة عايشة؟ 


لمعت عيناها تقول:


_ هبقى أسعد انسانة في الدنيا. 


_ ولو بعد ما بقيتِ أسعد إنسانة في الدنيا، لقيتي نفسك كنتِ بتحلمي، والوضع زي ما هو دلوقتي. 


حزنت ملامحها بوضوح:


_ هتجنن، مش بعد ما اتعلقت بأمل مستحيل واتحقق ارجع للصفر تاني، مش هقدر اتقبل الحقيقة. 


ابتسم ابتسامة صغيرة يقول:


_ اهو انا بقى كان لقاكي أملي المستحيل، ولو كل اللي عيشته معاكي السنتين وكام شهر اللي فاتوا حلم، مش هتجنن... هموت، ومش ببالغ، انا كنت نص ميت قبل ما الاقيكِ، كنت عايش حياتي عشان الاقيكِ، فتخيلي لما الأمل ده يضيع مني.. هبقى إنسان ميت بالكامل، والموت مش بس بطلوع الروح من الجسم، في موت أصعب بكتير أوي، وهو انك تكوني عايشة ميتة... في مشاعرك، في احساسك بالحياة في كل حاجة حواليكِ. 


لم يسعها سوى أن تقول بلطف وملامحها لينة كما لم يراها من قبل وكأن قلبها رفق بهِ:


_ أنا هنا، مش حلم دي حقيقة، أنا جنبك وبقيت مراتك، بلاش تسيب نفسك لتفكيرك، وصدق قلبك اللي حاسس بوجودي. 


ولم يسعه سوى إعادة احتضانها بنفس القوة، وزفر انفاسه براحة كبيرة، وقد هدأ قلبه، وبعد دقائق من الصمت، قال:


_ ايه رأيك نعمل الفرح اخر الأسبوع؟


ابتعدت عنه قليلاً تسأله باستغراب:


_ فرح؟ فرح مين؟ 


_ فرحنا. 


_ هو أنتَ لسه مصمم؟ انا قولت انك اتغاضيت عن الفكرة. 


هز رأسه نافيًا باصرار:


_ استحالة، انا بس كنت برتب الدنيا، عشان ده مش هيكون اي فرح، ودلوقتي كل حاجة واقفة عليكي أنتِ، حتى فستان الفرح انا طلبتهولك، طلبت تصميم مخصوص من باريس، بس ليكِ الحق إنك تختاري حاجه تانية لو محبتيش الديزاين، مش بفرضه عليكِ يعني، انا بس حسيت اني اتخيلتك فيه.. وغير كده كله جاهز. 


شعرت بالارتباك والتوتر بشكل غير طبيعي، وظهر هذا واضحًا وهي تقول بتلعثم:


_ انا.. انا بخاف من الزحمة، وبتوتر اوي لما يكون عيون حد عليا، مش هحس اني مرتاحه لو عملت الفرح اللي بتقول عليه. 


_ بصي يا حبيبتي، انا غرضي الوحيد اني اعملك فرح يليق بيكِ، وعشان الناس كلها تعرف مكانتك عندي، لكن لو مش حابة، قوليلي وهعزم بس اللي عاوزه تعزميه. 


_ مش عارفه. 


رددتها بحيرة وتوتر وهي تفرك كفيها، ليمسكهما بكفيهِ ورفعهما لثغره يقبل كل واحد على حدى، وهي تكاد تنصهر من كثرة التوتر والخجل، ثم نظر لها يقول:


_ متخافيش، ولا تتوتري طول مانا جنبك، وانا في الفرح مش هسيبك لحظة ومش هيكون طويل، هو ساعتين او تلاته بالكتير وهيخلص، مفيش داعي تقلقي. 


هزت رأسها ومازال الارتباك والقلق حليفيها، لتسمعه يقول:


_ بكره الفستان هيكون وصل، بس مش هينفع تشوفيه هنا عشان هو هييجي على الاتيلية فهنروح نشوفه هناك عشان البنات اللي هناك يساعدوكي تجربيه ولو مش عجبك تختاري حاجه تانية... واخر الأسبوع هيكون الفرح. 


_ يعني بعد ٤ ايام؟ 


اومأ برأسه مبتسمًا:


_ ايوه يا حبيبتي، وهنقعد هنا اسبوع كده هجيب فيهم الخدم اللي رافضه انهم ييجوا لدلوقتي، عشان لما نسافر هاني مون ابقى مطمن ان في حد هنا بيساعد اخوكي وأمي. 


_ أنا مش رافضة، كل الحكاية شايفة إن مفيش داعي أنا فاضيه مش بعمل حاجة وشغل البيت مش كتير، عشان كده قولت بلاش نجيب حد، غير اني بحب اعمل كل حاجة بنفسي. 


_ عندك وقت خليه لنفسك، استمتعي بيومك، متشغليش نفسك بطبخ وتنظيف وترتيب.. الحاجات دي بتاخد يومك من غير ما تحسي.. وتقدري برضو يوم ما تحبي تعملي حاجه منهم محدش هيقولك لا، بس يكون في حد تاني ملزوم يعمل، ولو عندك وقت فاضي اوي اوي.. اشغليه بيا، ولا منفعش؟ 


أردف الأخيرة بعبث، وهو يغمز لها بعيناه اليسرى، لتبتسم رغمًا عنها، وهي تقول بخجل:


_ خلاص اللي تشوفه. 


اقترب مقبلاً رأسها بحنان عاهدته منه، قبل أن ينهض قائلاً:


_ هطلع اغير هدومي، وياريت لو تعمليلي معاكِ فنجان قهوة عشان هخلص شغلي من على اللاب. 


- حاضر. 


صعد للأعلى واتجهت هي للمطبخ تصنع مشروبه، وبعدما انتهت استمعت لرنين الباب، لتتجه له بتعجب اكبر من هوية الزائر، وهي تهمس:


_ ايه حكاية الباب النهاردة؟ وبعدين ما كله بقى في البيت هيكون مين ده؟ 


تناولت خمارها الطويل الذي يغطي جسدها باكمله ما إن ترتديه، وفتحت الباب بحذر، لترى رجل غريب لم تراه من قبل، ولكن رؤيته قبضت قلبها ولا تعلم السبب، له هيبة مخيفة، ونظراته لها اخافتها، فسألته باضطراب:


_ أنتَ مين؟ 


مشط جسدها باذدراء وقال بوقاحة:


_ روحي نادي اللي مشغلك اجري. 


_ اللي مشغلني؟ 


رددتها بصدمه، لتنتفض على صوته حين هدر بها:


_ اجري يابت أنتِ هتنحيلي!! 


ثم قال لذاته بصوت مسموع:


_ من امتى مراد بيشغل عنده الاشكال دي!!؟ 


وما فعله تاليًا ازاد من صدمتها.....! 


....... انتهى الفصل....... 



الفصل "الثامن عشر ج١" 

الحصان والبيدق

بكِ أحيا 2


دلف بكل وقاحة  وكأنها ليست واقفة، بل والأدهى اصطدامه بكتفها أثناء عبوره! تركت الباب مفتوح وسألته بانزعاج وهي تدلف خلفه:


_ مين حضرتك وازاي تدخل كده؟


التف لها ساخطًا وهو يقول:


_ مش قولتلك روحي نادي سيدك!


كادت تتحدث ليهتف بها بقوة غاضبًا:


_ أنتِ لسة واقفة! اما انك بهيمة مبتفهميش صحيح.. المفروض اعيد كلامي كام مرة عشان تفهمي وتتحركي؟


ادمعت عيناها من صراخه بها وسبه لها، وانعقد لسانها من الإجابة، وشعرت بقليل من الخوف من هيئته التي ظهر بها شرًا غير مبرر تجاهها!


_ اهلاً يا حسن بيه، خير؟


التفتا كلايهما على صوت "مراد" الذي صدح فجأة وهو ينزل الدرج، لتشعر بالراحة ويتبخر خوفها في الحال، فقد كانت تستنجيه بداخلها، تناديه بصمت ولبى النداء..


قال "حسن" بضيق:


_ كويس انك نزلت، الناس اللي مشغلهم عندك دول مبيفهموش باين، بقالي ساعة بقولها تناديك وواقفة متنحة.


نقل "مراد" بصره لها ليرى بعض الدموع تلمع في عينيها، تقف تفرك في اصابعها بتوتر وقلق، كالتلميذه المذنبة! رأى في نظرتها اطمئنان لوجوده، وسمع صوتها الصامت يخبره أن يعرف ذاك الغريب هويتها، او ربما هي متأكده اساسًا من أنه سيفعل، عاد ببصره ل "حسن" ليرى في نظرته انه يدرك هويتها جيدًا، هو فقط أراد إهانتها....


_خير؟ في حاجة مهمة خلتك تيجي لبيتي؟


اتسعت عيناها ذهولاً وهي تراه لم يأخذ رد فعل على حديث الشخص المسئ لها، وتخطى الأمر!


_ جاي اشوف مراتي وابني.


ابتعلت شهقتها بداخلها وهي تنظر ل "حسن " بعدم تصديق، هل هذا والده!!؟ هل هو حسن وهدان نفسه؟ وتلقائيًا رجعت خطوة للوراء.. تخشاه، تخشى هذا الرجل من مجرد ذِكر اسمه، وجملته التي قالها لها ذات مرة قديمًا تتردد في أذنها الآن

" بكره مراد يقتلك زي ما قتل أختك، واللي يقتل مرة.. يقتل ألف"

كان يحادثها كأنها شخص كبير وليست طفلة يرعبها بحديثه، لذا لازالت ذكرياتها تجاه سيئة، وتخشاه، نسيت شكله لكنها لم تنسى حديثه السام لها.


_ ابنك بتشوفه في الشركة، قول إنك جاي لمراتك.


رد ببرود:


_ اه جاي لمراتي يا مراد، حد له عندي حاجة! أنا شايف إنك كفاية اوي قعادها هنا، غير إني مش مأمن عليها في وجود البت اللي روحت اتجوزتها دي، مين عارف ممكن تعمل فيها ايه ولا تعاملها ازاي. 


اتسعت عيناها ذاهلةً وهي تستمع لحديث "حسن" والذي أدركت الآن كنيته، انه هو والده، ووحش طفولتها، الذي لطالما أظهر عداءًا واضحًا تجاهها، طالما حدقها بنظرات لمعت بها شرارات التحذير والغضب، دومًا أظهر رفضه لوجودها وقربها من ولده، كل مشاكل مراد معه كانت بسببها، واخيرًا تهديده لها بترك المنزل والهرب، كل هذا كان كافيًا لها لتظهر خوفها وبغضها له في آنٍ واحد الآن حين علمت هويته، نقلت نظرها ل "مراد" موقنة بأنه سيدافع عنها الآن، لكنها صُدمت حين تجاهل الحديث عنها لثاني مرة وقال موجهًا الحديث للجزء الأهم:


_ مش أنا ولا أنت اللي نقول كفاية قعدتها.. هي الوحيدة اللي لها حق تقول كفاية او لأ هي ماما. 


_ وانا بقول لأ. 


أتى صوت "ليلى" من خلفهم بعد أن خرجت بكرسيها من المصعد الكهربائي، لتمتعض معالم "حسن" يسألها بضيق واضح:


_ يعني ايه؟ 


وبثبات اجابته:


_ يعني امشي يا حسن، انا مش هسيب بيت ابني ، ولا هرجع بيتك تاني. 


ابتسم ابتسامة ساخرة، ونقل انظاره بينهم جميعًا، ثم قال وهو ينظر ل "ليلى" أخيرًا:


- براحتك.. براحتك يا ليلى وأنا كده عملت اللي عليا معاكي. 


شدت ظهرها بقوة، ونظراتها الشامخة اوشت له بعدم اهتمامها للأمر.. فهو حقًا لم يعد يشكل فارق لها. 


لم يتوقف هنا بل اكمل بجملة مُبهمة:


_ عشان محدش يلومني على اللي هعمله بعد كده. 


وانسحب من بين الجميع بعدما رمى نظرة نارية للواقفة بعيدًا شاخصة ببصرها وقد ظهر خوفها جليًا على وجهها، خرج وساد الصمت لدقيقة قبل أن تقطعه "ليلى" بابتسامة مصطنعة وهي تنظر ل "خديجة" :


_ مالك يا خديجة خايفة كده ليه؟ 


نظرت لها وهي على نفس حالتها لكنها هزت رأسها بانكار واهي، فخوفها طاغي عليها، لتكمل "ليلى" :


_ متخافيش حسن ميقدرش يعمل حاجه، وإن كان على دخلته دي مجرد فرشة عشان يخوفنا، أنا فهماه كويس، لكن انا واثقة إن مراد هيقدر يوقفله لو فكر يعمل حاجه. 


حولت نظرها في هذه اللحظة ل "مراد" لتجد نظراته مريبة، مُفزعة! لِمَ ينظر لها هكذا؟ توترت وتراجعت خطوة تلقائيًا وكأنها تحاول تفادي تلك السِهام التي تنطلق من عينيهِ ولكنها مُسلطة عليها! أشاحت ببصرها بعيدًا، وابتلعت ريقها الجاف تقول:


_ أنا.. أنا مش خايفة.. هطلع اصحي مصطفى. 


وانسحبت سريعًا من بينهما تصعد درجات السلم ركضًا، تابعها بنظراته الداكنة، واسنانه المطبق عليهم بقوة كادت تهشمهم، وملامحه المتصلبة، حتى انتبه لصوت "ليلى" يقول:


_  مالك يا مراد؟ وشك قلب ليه؟ اوعى تكون اهتميت لكلامه. 


نظر لها وقد هدأ من حدة ملامحه باحترافية وقال:


_ لا ابدًا، انا متوقع انه يحاول يعمل اي حاجة، لأن عمره ما هيحب يفضل الوضع بالشكل ده، خصوصًا إنك جيتي هنا برغبتك وضد رغبته.. حتى انا مستغرب ان زيارته اتأخرت. 


هزت رأسها بتأكيد ثم قالت:


_ معاك حق، هو مستحيل يسكت، واكيد في حاجه ناوي عليها، المهم حاول تهدي مراتك لأن خوفها منه باين، ولو حس انها بتخاف منه ممكن جدًا يستغلها في اي حاجه ضدنا. 


ارتفع صدره بنفس قوي وانخفض فجأة قبل أن يقول:


_ متقلقيش، انا هتصرف معاها. 


_________________


في سوهاج.... 


تقدمه يدلف لداخل البيت بعد أن أبلغ الموجودين بحضور المحامي لفتح وصية والده، والتي تفاجئ بوجودها حين أتى له المحامي صباح اليوم في عمله يخبره بأن الوالد قد ترك وصية لديهِ قبل وفاته بشهر واحد فقط، وشرطًا لفتح الوصية حضور كلاً من "باهر" و "خديجة" و "فريال" و "رباح".. والجميع حضر عدا "خديجة" والتي تحدثت مع "باهر" سلفًا وأخبرته بصعوبة حضورها وانها لا تهتم للأمر من الأساس فبالكاد تغاضى المحامي عن حضورها، جلس الجميع وعنوة جلست من بينهم "سُرية"، وفتح المحامي الوصية وبدأ بقرائتها... 


" بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أفضل خلق الله، أما بعد، فأوصي أنا المدعو" منصور.......... الدالي" بالآتي:


أن يكون لولدي" باهر منصور...... الدالي" نصف منزل العائلة الكبير، و نصف المزرعة الموجودة في الناحية القبلية، ونصف مصنع العلف الموجود بالقرب من الطريق الزراعي.


ولولدي " ابراهيم منصور..... الدالي" النصف الاخر من المزرعة القبلية، و ثلاثة أرباع المزرعة الموجودة في الناحية البحرية، ونصف المنزل الخاص بي. 


ولزوجتي "رباح........" نصف المنزل المُقيمة بهِ، وربع المزرعة البحرية.. 


ول إبنة أختي " فريال....." ربع منزل العائلة الكبير، ونصف مصنع العلف مشاركًة مع باهر..... 


ول "خديجة محمود.... الدالي" مصنع العلف الموجود بأخر البلد بأكمله، وربع منزل العائلة الكبير... ليصبح مشاركة بين باهر وفريال وخديجة. 


وأقر أن هذه الوصية دون أي ضغط، وكتبتها وأنا بكامل قوايا العقلية، على أن تُنفذ فور فتحها. 


لقد نشب الحريق في المنزل بأكمله.... 


_______________


في مطار القاهرة الدولي..


دلفت ترتدي "نقاب" اسود وعبائة من نفس اللون، تجر خلفها حقيبة سفر متوسطة الحجم، واتجهت فوراً لمكان ختم الجوازات، وقفت تحاول تهدئة تنفسها وهي تراقب الضابط يختم لها الجواز بعد أن طلب منها رفع الوشاح عن وجهها، وتأكد من أنها  الفتاة صاحبة للجواز، وارتاح قلبها أخيرًا وختم التصريح يُطبع على اوراق سفرها، واتجهت للمر المؤدي للطائرة والمتبقي فقط خمسة عشر دقيقة لإقلاعها...


صعدت للطائرة وبحث عن رقم مقعدها بلهفة حتى أتت المضيفة ووجهتها لمقعدها، لتبتسم من أسفل الوشاح وهي تراه أخذ مكانه بالمقعد المجاور لها، جلست وتصنعت انها لا تعرفه، ولكن في الخفاء شعرت بكفه يمتد ليمسك كفها، فقربته منه ليلتحم كفيهما ويهدأ قلبيهما وقد انقطع نصف الطريق..


كان يرتدي قبعة كبيرة وقد اصبغ شعره وذقنه بلون أحمر ناري وكذلك بشرته فقد لونها بمساحيق التجميل ليعطيها بياض غير طبيعي، غير ثيابه التي اتخذت تصميم غربي عجيب، فبدى وكأنه عارض أزياء أو أحد أصحاب الطبقة المخملية...


واقلعت الطائرة بعد قليل... وأصبحا يحلقا في الفضاء الآن..


ساعات قليلة وهبطت الطائرة مرة أخرى، ليبدأوا في النزول تباعًا، خرجا من المطار كما كانا، لا يعرفان بعضهما، حتى استقل كلاً منهما سيارة أجرة، واتجهت بهما لميناء تلك البلدة، وبعدها كانا يتجهان لمركب ضخم  ينقل لضفة أخرى أو بالأحرى لبلد أخرى، وقفا على حافة الميناء وأمامها ضابط يسألهما بلكنته الغربية.. 


_ هل أنتِ شيماء محمد علي؟ 


اومأت برأسها مدعية عدم فهم اللغة وعدم قدرتها على التحدث بها، اعطاها تأشيرة سفرها وجعلها تمر، وأتى بعدها ل "طارق"  ليسأله:


_ هل أنتَ انطوان جاك كروس! 


اردف بلكنة اجنبية:


_ نعم أنه أنا. 


ومرَ... ليستغرق المركب حوالي ساعة ونصف قبل أن يستقر على ميناء بلدة أخرى.... 


ترجلا منها وسارا في شوارع متعدده، خلف بعضهما، حتى دلفا لمول كبير، ومنه استطاع كلاً منهما أن يدلف لحمام ليغير ثيابه ومظهره بأكمله... 


____________


نزلت بعد قليل، وتلفتت حولها وهي تجد سكونًا غريبًا يحتل المكان، لكنها انتفضت فجأة على صوته يقول من خلفها تمامًا:


_ بتتلفتي زي الحرامية ليه؟ 


نظرت له تلتقط أنفاسها الذاهبة، ومن ثم أجابته:


_ مبتلفتش، وايه حرامية دي! انا بشوفكوا روحتوا فين عادي. 


نظرة عميقة، شعرت وكأنها تخترقها، وصمت دام لثواني، ولكن مع نظرته وصمته توترت، وارتبكت، فكادت تنسحب، لولا انه جذبها بغتًة من رسغها، لتجد نفسها ترتطم غصبًا بصدره الصلب، فتأوهت بوجع وهي ترتد برأسها لتنظر له، وليتها لم تفعل، فوجدت نظراته تخترقها قبل أن يسألها وهو يشرف عليها من فوق:


_ كنتِ خايفة من حسن؟ 


...... 


انتهى الفصل 


...... 


الفصل الثامن عشر ج٢

"لحظة" 

الحصان والبيدق

بكِ أحيا 2


"هي لحظة بين أن تحجز لنفسك مكانًا، أو تضع مكانتك تحت أقدام الجميع.. هي لحظة إما أن تغتنم فيها الفرصة أو يكن حظـك تعيسًا، بين الانتفاضة والسكون.. لحظة، وبين التقدم والتراجع.. لحظة، القرار يؤخذ في لحظة ولكن قد يترتب عليهِ كل ما هو قادم في حياتك.. فلا تستهين باللحظة وضع لها ألف حساب "


واللحظة أتت الآن.. 


في أوج ثوران الجميع وبين مؤيد ومعارض، أتت اللحظة التي ستثبت فيها ذاتها، تعلن أنها صاحبة شخصية وحق، ألا تتركهم يقرروا مصيرها وما عليها فعله كما يحدث دومًا، هي إنسانة حرة.. ذات عقل وهبها الله إياه لتقرر بهِ ماتريد وما لا تريد، وكما أخبرتها "خديجة" ذات مرة في محادثة لهما " متبقيش زي العروسة اللعبة يحركوكي زي ما هم عاوزين، أنتِ طول عمرك سامحة ليهم يحركوكي على مزاجهم، يخلوكي تعملي اللي هم عاوزينه حتى لو ضد رغبتهم، من حقك تعترضي وتقرري انتي عاوزه ايه، اعملي لنفسك كرامة يا فريال، وكرامة الإنسان من أنه ميسمحش لحد يتحكم فيه" 


هل لها أن تقف الآن في وجههم وتعلن عن ذاتها، وتثور لكرامتها؟ لها، ولكن التردد والخوف يقيدنها، تجلس بكرسيها وعيناها تنتقل بين طرفي النزاع،" ابراهيم" و" سُرية"، الأول ثار ما إن سمع بوصية والده، رافضًا توريث " فريال وخديجة"، و الأخيرة انتفضت رافضة رغبته مدعية أن الوصية واجبة التنفيذ! و "باهر" يجلس كما هو لم يحرك ساكنًا، لم يتلفظ بحرف، ولم يحاول ايقاف النِزاع، و"رباح" مثله تمامًا.. 


بوجه محمر، وعروق نافرة، وقف ولأول مرة مواجهًا لعمته، لأول مرة يختلفا، ولكن الخلاق ليس بهين، وعلى أمر ليس هينًا ابدًا، وتحت اصرار كل طرف بوجهة نظره، اشتد النِزاع، وعلت الاصوات، ليردف بعصبية مشتعلة:


_ من ميتى الحديت ده يا عمتي؟ دلوجت بتجولي وماله ما يورثوا ووصية! مش أنتِ اللي طول عمرك شايفه ان البنات ملهماش حج لا في ورث ولا في علام! 


رفعت حاجبها الأيسر برفض واضح:


_ وميتى جولت انهم ملهمش حج في ورث؟ مانا خدت ورثي من ابوي زمان، ليه دلوجت يتحرموا من حجهم؟ 


طاح بها غاضبًا:


_ مش حجهم، ده ورث ابوي.. ورثي وورث اخوي، حجهم كيف؟ ملهمش حج في مال ابوي. 


وخرجت "رباح" عن صمتها اخيرًا وهي تقول بهدوء تام:


_ ابوك بيعوض خديجة عن حج ابوها، لان عمك زمان مخادش حجه من ورث جدك، وعمتك تشهد على الحديت ده، 


التف لها بملامح متجعده ساخره:


_ وست الحسن والجمال، بتاخد حج مين!؟ 


انتفضت "فريال" بخفة حين اشار عليها، لتبتلع ريقها بتوجس تتابع رد "باهر" بالنيابة عن "رباح" :


_ يمكن عشان كان عارف انك ملكش امان، كان بيأمنها. 


التف له يطالعه شذرًا:


_ متتدخلش أنتَ. 


نهض "باهر" كرسيه ووقف مواجهًا له يهتف باستعداد تام للشِجار:


_ ولو اتدخلت هتعمل ايه؟ بعدين مش انت اللي تقولي ادخل ولا لأ. 


رفع شفته العليا يحدثه بسخرية:


_ بجيت مصراوي وتتحدت زييهم، اهنه مبجاش مكانك يا حضرت الدكتور، ولا بجى يليج بيك، فمتتدخلش في اي حاچه تحصل اهنه. 


وقف ندًا له وقد اشتعلت روح التحدي بداخله ليقول بغيظ تملك منه:


- برضو مش انت اللي تقول اتدخل ولا لأ، وفريال وخديجة اخواتي، واللي هيفكر يجور على حقهم انا اللي هقفله. 


الآن وبعد اقتراب "ابراهيم" من أخيه لم يتبقى سوى أنشًا واحدًا بينهما، وعينا "ابرهيم" تنير بالشرار، وعينا "باهر" جامدة ومتحدية، ليقول الأول من بين أسنانه:


_ أنت خابر إن مفيش صفا بينا، متغفلجهاش

اكتر من اكده، وإلا الله في سماه هنسى إنك اخويا من أصله. 


صدمه "باهر" بكفه في صدره ليرتد الواقف أمامه خطوة واحدة فقط وتمالك نفسه، ليقول "باهر" بغضب:


_ وأنت فاكر اني اخوك ياله! أنت اصلاً لا معتبرني اخوك الكبير ولا متعبرني اخوك من أساسه، وبعدين مش أنا اللي تقف تهددني، اظبط نفسك عشان ماندمكش. 


_بس.... 


صرخت بها "رباح" وهي تنهض مقتربة منهما:


_ ايه هتتضربوا بعض! بكفياك يا ابراهيم عاد، الوصية هتتنفذ يعني هتتنفذ وابوك هيكون مرتاح في تربته، وكل اللي انت عامله ده مهيغيرش حاچه. 


ابتعد يهدأ نفسه ويرتب افكاره، حتى أتى على عقله الحل، فهدأ وعاد يقف بينهم يقول للمحامي:


_ شوف اللازم يا متر، وخلي كل واحد ياخد حجه ونخلص. 


والجميع لم يطمئن له عداها، جميعهم شعروا بأنه يدبر لأمر آخر، فهو لا يتهاون ولا يتنازل عن رغبته في الوصول لأمر ما، لذا فهو حتمًا يخطط لشيء في الخفاء. 


أما هي فصدقته، وارتاح قلبها لتقبله للأمر دون اللجوء للنزاع والمناطحة، ودون أن تضطر للإعلان عن نفسها والثورة لكرامتها والتي كانت حملاً على عاتقها من الأساس. 


________________


نظرة عميقة، شعرت وكأنها تخترقها، وصمت دام لثواني، ولكن مع نظرته وصمته توترت، وارتبكت، فكادت تنسحب، لولا انه جذبها بغتًة من رسغها، لتجد نفسها ترتطم غصبًا بصدره الصلب، فتأوهت بوجع وهي ترتد برأسها لتنظر له، وليتها لم تفعل، فوجدت نظراته تخترقها قبل أن يسألها وهو يشرف عليها من فوق:


_ كنتِ خايفة من حسن؟ 


فكرت أن تنكر خوفها منه بعد ان رأت نظرته التي توشي برغبته في الحصول على إجابة نافية, ولكن في الوقت ذاته هناك شيء يكمن خلف نظراته ونظرة اخرى اندمجت بالنظره الاولى وهي تحذرها تمامًا من الكذب أو محاولة خداعه, لذا وجدت نفسها تبوح بالحقيقه وهي تقول:


_ اه خوفت طبيعي اخاف, واحد داخل البيت من غير استئذان وبيكلمني بقله ذوق غير نظرته اللي كانت مليانه شر فطبيعي خاف.

هزه بسيطه من رأسه تبعها يقول بصوت عميق:


- لا مش طبيعي الطبيعي انك ما تخافيش من اى حد ولا من اي حاجه طول ما انا معاكي, الطبيعي إن حتى وانا مش موجود الخوف ما يعرفش طريقك ما بالك بقى وانا معاكي وفي نفس البيت وخوفتي...


ابتسامه ساخره ونقِمة زينت ثغره وهو يكمل:


- نفس البيت ايه ده انا كنت واقف قدامك وانتِ كنت واقفه تترعشي من الخوف كل ما يبص لك!!


حاولت امتصاص غضبه والذي استشفته بوضوح فقالت بهدوء صادق:


- يعني حتى لو انتَ عاوزني ما اخافش وانت موجود اكيد ده مش هيحصل على طول كده! احنا يا دوب لسه عايشين مع بعض قريب مش طبيعي إن انا ابقى مطمنه دايمًا بوجودك, وعمومًا الشخص ما بيطمنش غير بالمواقف, المواقف هي اللي بتخلي الشخص يطمن بوجود حد معين جنبه , يعني اعتقد مش من حقك تبقى غضبان كده عشان خوفت وانتَ موجود!


ونجحت, استطاعت امتصاص غضبه واقناعه بوجهة نظرها, فترك كفها لتبتعد خطوة واحدة وتسمعه يقول بهدوء مخالف لغضبه:


-ماشي يا خديجة وإن كان على كونك تطمني وانا معاكي فده انا هعرف اعمله كويس , بس الموضوع مش كده وبس, انا مش عاوزك بس تطمني وانا موجود او بوجودي انا عايزك انتِ نفسك ما تخافيش, مش عشان حد موجود او لا انا عاوز أعلمك ان مافيش اي حد في الدنيا يستاهل انه يثير خوفك.


انكمشت المسافه ما بين حاجبيها وظهر الضيق على ملامحها وهي تسأله:


_ هو فعلاً والدك ما يعرفنيش؟ هو انا متأكده انه ما شافنيش قبل كده بس يعني على الاقل كان طبيعي يشك إن أنا خديجه! لكن هو من اول ما فتحتله بيعاملني على اني الخدامه ده حتى ما حاولش يسألني أنا مين! 


ظهرت السخريه جليه على وجهه وارتفع جانب شفته العليا مستهزأً وهو يقول:


_ ما يعرفكيش! حسن بيه عارف دبت النمله اللي بتحصل في حياتي يعني عارف كويس إن أنا ما جبتش خدم وإن ما كنتيش انتِ خدامه زي ما هو قال هتكوني مين! 


اتسعت عيناها بعدم تصديق وهي تردد:


_ ولما هو عارفني ليه ادعى انه فاكرني الخدامه؟ 


رفع منكبيهِ تزامنًا مع تحريك رأسه لليمين وهو يردف:


_ شوفي انتِ. 


استغرق الامر ثواني قليله معها تفكر في سبب ادعائه الكاذب حتى اتى الجواب لعقلها لتقول فوراً بصدمه:


_ يعني هو كان عارف وقصد يقول عليا اني خدامه عشان يهني ويقلل مني! حب يوضحلي بطريقه غير مباشره ان حتى مظهري مايلقش إني اكون مرات ابنه.. 


وصمته كان خير تأكيد على ما توصل إليهِ عقلها, قطبت ما بين حاجبيها بضيق وعدم فهم في الوقت ذاته وهي تسأله:


_ ولما انتَ فهمت كده من الاول ليه ما تدخلتش؟ يعني انتَ كنت سامع اهانتي ووقفت تتفرج! فهمني ما تدخلتش ليه؟؟! 


نظرته الغامضة، وهدوءه اثار استغربها، تحرك الخطوتين الفاصلتين بينهما فاصبح قريبًا منها، تمامًا مرة اخرى، واكتفى بجمله اكثر غموضًا:


_ شكلك نسيتِ اللي علمتهولك زمان، بس ما فيش مشكله نعيد من الأول. 


وهل عاد مراد القديم لعهده؟ هل عاد يعاملها كطفله صغيره يشكلها على يده؟ يزرع فيها قيم يراها صحيحة، وربما هو فقط من يراها هكذا، وقيم اخرى ينتزعها منها رغم صوابها؟ 


لم تفهم جملته التي زينها الغموض فسألته:


_ يعني ايه مش فاهمه؟ ايه اللي انتَ علمتهولي زمان ونسيته؟ 


اجابها وكأنه يأخذها لسنوات مضت يعيد تذكيرها بما كان يعلمها اياه قديمًا:


_ علمتك انك ما تستنيش حد ياخد حقك، علمتك ان مهما كان اللي يغلط فيكِ او يجي عليكِ حتى لو ابوكِ نفسه تاخدي حقك منه، فازاي كنتِ عوزاني ارد وادافع عنك؟ 


تنفس بصوت مسموع ثم اكمل:


_ مش هرد يا خديجة، ومش هدافع، ومش هاخدلك حقك، عشان تتعلمي انتِ تاخديه.. يمكن بقولك اطمني لوجودي وطول ما انا موجود ما ينفعش تخافي، بس ده مش معناه انك تلغي شخصيتك! وبعدين لو اتعودتِ إن أنا اللي ارد وادافع واخد حقك في اي وقت مش هكون موجود فيه مهما اتقال لك ومهما اتداس على كرامتك مش هتعرفي لا تردي ولا تاخدي حقك، وده انا مش عاوزه... 

رغم إني بعد كده مليون في الميه هاخدلك حقك بس انا مش عاوز كده، مش عاوزك تعتمدي عليا ولا على اي حد، مش عاوز خديجه تكون شخصيه ضعيفه اللي رايح واللي جاي بيلطش فيها... عاوز الكل يعمل لها الف حساب عشانها هي شخصيًا قبل ما يكون عشان كونها مراتي. 


كيف لكلماته رغم حدتها أن تسعدها هكذا؟ كيف تغللت لداخل اعماقها بهذا الشكل لتلمع عيناها ويرفرف قلبها وهي تستمتع بكلماته، وأول ما خطر على عقلها هو المقارنه بينه وبين معظم الازواج، والذي من بينهم "ابراهيم" ابن عمها كيف ان الاخر يفعل كل ما يفعل ليهدم شخصيه زوجته، وهو هنا يفعل كل ما يفعل ليحاول بنائها بالشكل الصحيح... الاخر يسعى جاهداً لمحو شخصيه زوجته، بينما الواقف امامها على النقيض تمامًا فهو يحاول خلق افضل شخصيه منها, وهذا ما جعلها ممتنه له، ممتنه بالشكل الذي دفعها للوقوف امامه لا تنطق بحرف واحد تعقيبًا على حديثه، وانما فقط تنظر له وكأنه... آخر الرجال المحترمين!!!! 


-روحتِ فين؟


سؤال افاقت عليه يخرج منه بعد ان اطالت الصمت والنظر, فابتسمت بصفاء وهي تجيبه:


_ معاك ماروحتش في مكان، هعملك فنجان القهوه اللي طلبته على ما تغير هدومك ما لحقتش تغيرها. 


ابتسم لها والتقط كفها رفعه لفمه وطبع قبله عميقه فوقه جعلتها تنتفض داخليًا من شعورها بملمس شفتيهِ فوق كفها ورفع رأسه لها ثانيةً يقول بنبره حنونة مُحبة:


ماشي يا حبيبي و تسلم ايدك مقدمًا. 


وانسحبت من امامه متجهه للمطبخ، ووقف هو ناظراً امامه متنهداً بعمق كأنه يفكر في شيء ما، انهى وقفته وهو يقول بتوعد:


_ اما نشوف هتعمل ايه يا حسن بيه، ده انا حتى متشوق قوي انك تعمل حاجه.. 


وكانت جملته تخبرنا بمدى استعداده وترحيبه ببدء المعركه.


----------------------------


سارا في شوارع متعدده، خلف بعضهما، حتى دلفا لمول كبير، ومنه استطاع كلاً منهما أن يدلف لحمام ليغير ثيابه ومظهره بأكمله... 


خرجا من المول هي غيرت ثيابها ومظهرها لتصبح مرتديه بنطال من الجينز الازرق وفوقه كنزه بدون اكمام من اللون الاسود وتركت لشعرها المصبوغ بلون احمر يشبه دم الغزال العنان لينسدل حراً على كتفيها، ولم تنسى مستحضرات التجميل التي تفننت في وضعها لتغير ملامحها قليلاً، وذلك القرط الصغير الذي ثبتته في فتحة انفها، تمشي بثقه مجاوره للذي اصبح مجاوراً لها الان بعد ان غير مظهره هو الآخر... ليرتدي ثياب أقل غرابه من تلك التي ارتداها أولاً فارتدى الآن بنطال من الجينز الاسود وقميص بني اللون ووضع قرط صغير للغايه في اذنيهِ وغير طريقه تصفيف شعره ليصبح للخلف، ويضع سيجار فخم بين شفتيه يمتص دخانه من وقت لآخر. 


_ اعتقد كده اقدر اقول اننا نجينا. 


قالتها "هاجر" وهي تتنفس براحه ليجيبها "طارق" بابتسامه سعيده:


_ بما اننا وصلنا للنقطه دي وماحدش ورانا يبقى اه فلتنا. 


اغمضت عيناها لوهله وتمتمت بصوت مسموع:


_ الحمد لله، الحمد لله، ما كنتش متخيله ان الكابوس هيخلص وهنقدر نهرب منهم. 


وصلا لبيت صغير مكون من طابق واحد معظمه نوافذ وابواب زجاجيهؤ وسقفه على شكل مخروطي منحدر الجانبين، اخرج طارق مفتاحًا من جيبه وفتح به باب المنزل ودلفا فاغلقه خلفه وهو يقول:


_ انا كنت واثق في مراد، وعارف انه هيقدر يخرجنا منها من غير ما ياخدوا خبر، بس ما انكرش من وقت للتاني كنت بقلق وبحس ان الموضوع مش هيتم. 


مشطت المكان بعينيها وهي تقول:


_ بس هو كان قايلك اننا هنسافر بعد يومين، ليه فجأه اتصل عليك بعد ما دخل بيته وقالك ان ميعاد الطياره بعد نص ساعه!؟ 


جلس على كرسي موجود بردهة المنزل الصغيره واجابها:


_ عشان دايمًا الحاجه اللي بتيجي فجأه هي اللي بتنجح، ومبحبش يقولي الميعاد امتى بالظبط عشان ما يبقاش في اي احتماليه ان الموضوع يفشل، ده غير ان اصلاً مراد بطبعه ما بيحبش حد يعرف حاجه قبل ميعادها، زي ما قلتِ بيعرفني ميعاد الطياره قبلها بنص ساعه... بس يلا المهم ان احنا نجحنا والكابوس ده انتهى. 


اقتربت منه حتى جلست على يد كرسيه واحتضنت عنقه تسند رأسها على رأسه وتنفست بعمق وهي تقول :


_مش مصدقه ان من النهارده ما فيش حاجه هتفرقنا عن بعض تاني، واننا هنكون سوا طول الوقت حاسه اني بحلم يا طارق. 


احتضن خصرها بذراعيهِ مقربًا اياها له وهمس لها يطمئنها:


- لا يا قلب طارق ما بتحلميش، دي حقيقه يا هاجر حقيقه بعد كل المرمطه اللي اتمرمطناها وعلاقتنا اللي كانت في الضلمه ومش عارفين نخرجها للنور، نكون دلوقتي مع بعض وقدام كل الناس اللي حوالينا وابننا قريب هيكون معانا وهنعيش الحياه اللي اتمنناها. 


سألته بقلق ظهر في صوتها واضحًا:


_ بس تفتكر ربنا هيبارك لنا في حياتنا الجايه بعد كل اللي عملناه.. احنا غلطنا كتير قوي يا طارق، مشينا في طريق غلط وساعدنا ناس كتير فاسده على فسادهم، وكنا وسيلة في يوم من الايام ان الفساد ده يستمر. 


ارتعش بدنه على ذِكر الله، واحتمالية عدم مسامحته لهما، والا تسير حياتهما على النحو المرجو منهما كعقاب على افعالهما السابقة، قطب ما بين حاجبيهِ قلقًا وجاهلاً:


_ مش عارف، مش عارف اذا كان ربنا هيسامحنا ولا لأ، ومش عارف إن كان هيبارك لنا في حياتنا ولا لأ، بس كل اللي عارفه اننا عمرنا ما حبينا اللي كنا فيه، يمكن في الاول اه حبينا الفلوس، حبينا المكانة اللي خدناها، حبينا حياتنا اللي اتغيرت، لكن بعد كده احنا ما كناش عاوزين نستمر.. ولو كان بايدينا كنا من زمان قوي وقفنا الشغل معاهم وبعدنا عنهم، ربنا عارف اننا كنا مجبورين حتى لو في الاول كان ده اختيارنا، مش عارف يا هاجر لإن للأسف ما اعرفش كتير عن ربنا فما اقدرش اقولك إذا كان كل اللي عملناه هيسامحنا عليه ولا لأ..... 


تنهدت واغمضت عيناها سانده رأسها على رأسه من جديد وقررت الصمت، فلا اسئلتها يمتلك هو جوابا لها، ولا اسئلته تمتلك لها جواب، ولعل الايام تكون هي خير جواب... 


----------------------------


انتهت مهمة المحامي وأخبرهم بأنه سيبدأ في إجراءات الوصية ليصبح لكل شخص حقه باوراق مسجلة حسب وصية المتوفي, وبعد ان انتهى ذهب المحامي و خرجت "سرية" من البيت بعد أن رمت "ابراهيم" بنظرات غاضبة وحانقة و جمله وحيده قالتها دون ان تنتظر رد عليها:


" كبرت يا ابراهيم وبجيت تجف جدامي وتعلي صوتك عليا وتناطح من غير ما تعمل حساب لشكلي جدام الغريب, لا بجيت راجل يا ابن اخوي.


 وهو لم يهتم بالتعقيب على حديثها وتركها تخرج دون ان يحاول حتى ايقافها, وبالمثل فعل "باهر" حين نهض عن كرسيه متجهًا لرباح وتحدث معها لدقيقتين تقريبًا قبل أن تحتضنه مودعه إياه , ويتجه ل "فريال" يقف امامها وهو يقول لها بصوت حرص على ألا يسمعه غيرها


" لو عملك اي حاجه او حسيتِ بأي خطر منه تتصلي عليا فوراً وهتلاقيني عندك, وما تخافيش وما تسمحيش له انه ييجي عليكِ وما تفرطيش في حقك يا فريال ,مهما عمل ومهما قال انا معاكي عمري ما هسيبك, وزي ما قلت قدامه انتِ وخديجة اخواتي الصغيرين وفي اي وقت هتحتاجوني هكون جنبكم في لحظه حتى لو كان ضد اخويا"


 نظره ممتنة وابتسامة هادئة هدته اياهم وهي تؤكد له 


"ما تقلقش لو حصل اي حاجه انتَ اول حد هجري عليه واحكيله سافر وانت مطمن وخلي بالك من نفسك"


 وبعد انسحاب الجميع ومن بينهم رباح التي اتجهت لغرفتها لتصلي فرضها, أشار لها إبراهيم بأن تتبعه لأعلى , وفعلت كما أراد واتبعته لغرفتهما الخاصة فدلفت خلفه مغلقة الباب نازعه عنها حجابها وشرعت في أن تتجه لخزانتها لتأخذ ثيابا منزليه مريحه, لتتوقف على صوته يقول:


تعالى يا فريال رايد اتحدث معاكِ في حاجة اكده.


 اتجهت ناحيته حتى وقفت خلفه وهو ينظر من نافذة الغرفة وسألته باستغراب:


خير يا ابراهيم حاجة ايه  اللي  رايدني فيها؟


 التف لها يقول بهدوء تام:


بكره المحامي هيروح يسجل لكل واحد حجه كيف ماجال جدامنا تحت, يعني بكره هيكون ربع البيت الجديم ونص مصنع العلف هيكونوا باسمك ,هنستنى اسبوع اكده وهنروح الشهر العقاري تنجليهم باسمي.


 وكأن أحدهم ضربها بمطرقه على رأسها,  شعرت وكأن رأسها تطوف بلا هوادة, لم تفسر حديثه في بداية الأمر ومع مرور الوقت بدأت تستوعب ما يخبرها او أدق ما يجبرها على فعله, وهل هدأ وقبل بالأمر منذ قليل لانه نوى ما اخبرها بهِ الان؟!  وكأن اليوم أبى أن يمر دون أن يترك لها حرية الاختيار إما أن تكن عروسًا معلقه بخيط يتلاعب به الجميع للابد, إما أن تعلن عن كونها انسانة لها حق وقرار, وما ظنته قد هربت منه في الأسفل اتى الآن ليكن واقعًا مريرًا لا هرب منه!!


 هو ينتظر أن تخبره بالموافقة على حديثه لا ينتظر رداً لا بالاجابه  او القبول,  وهي تستعد لاخذ قراراً بالتقدم او البقاء في نفس النقطة .


  والأدهى أن عقلها الآن يفكر لِمَ ظهرت الوصية اليوم تحديداً؟ فهي فقط بالامس كانت قد قررت أن تترك كل هذا وتهرب، والهروب كان بالمعنى الحرفي.. كانت قد قررت ان تسافر لابنة خالها وهي لديها شعور قوي بأن زوج ابنة خالها سيستطيع حمايتها حتى من ابراهيم نفسه، واتاها هذا الشعور من تلك المواجهه التي حدثت بينهما في عزاء خالها حينها شعرت بانه له سطوه وطغيان على ابراهيم الذي تقهقر حينها وكأنه علم ان هذا الشخص ليس بهين، لياتي اليوم وتجد نفسها امام أمراً واقعاً بأن الهرب بات صعبا فكيف ستهرب وتترك الأمانه التي تركها لها خالها وكأنها رساله منه!؟ رسالة بأنها عليها المواجهه، ولأنه لم يعد معها ولن يستطيع ان يقف بجانبها، اكتفى بأن يؤمنها بمنزل تستطيع العيش فيه ان ضاق بها الحال،  ومصنع ستدبر بهِ قوت يومها.. ليس عليها اللجوء لاحد. 


وهي:


 بقيت عمراً، صامتة، متنازلة، و راضيه، وراضخة، خاضعة، اقبل واقبل، متنازله وبكل استسلام حتى عن أبسط حقوقي ك إنسانه حرة، مكرمة، وحين قررت الانتفاضه حدث ما قيدني وجعل انتفاضتي تخمد وعزيمتي تتذبذب، وبدلاً من المضي قدمًا رجعت خطوه للوراء.... 


 وهذا تحديداً ما أتى بعقلها الآن، هل ما حدث ارجعها خطوه للوراء وذبذب عزيمتها عن اخذ موقفا؟ أم أنه دافعًا بحد ذاته للقدوم للامام... 


 _ سمعاني انتِ ولا روحتِ فين؟ 


 وانتفضت على صوته وقد نفذ صبره من صمتها لتنظر له وهي تقول:


 _ سمعاك بس مش هعمل اللي هتجول عليه.. 


 فردت ظهرها وشمخت برأسها ورغم كل الخوف والذعر الذي يحتلها من الداخل لكنها أبت ظهوره عليها، وهي تكمل بشموخ انثى يعرف الطريق اليها لأول مره:


_  البيت الكبير ونص المصنع خالي أمر انهم يكونوا باسمي، حجي، وابجى عبيطه لو اتنازلت عن حاجه حتى لو كان ليك... او بالأخص لو كان ليك..!!! 


 ونظرته في تلك اللحظه وتحول ملامح وجهه كان اختباراً لها إما أن تمضي قدمًا، وتكمل إما أن ينتصر خوفها وتتراجع.....!!! 


........ انتهى الفصل...... 


يتبع


تكملة الرواية من هناااااااا


لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول1 من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني2 من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع