رواية عن تراض الفصل السادس 6بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
رواية عن تراض الفصل السادس 6بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
(٦) #رواية_عن_تراضٍ
-حد نازل؟!
-أيووووه.
قالتها سراب وحاولت الوثب، وتخطي السيدة دون أن تُحركها، وأخذت السيدة تعاندها وتسد الطريق، وسراب تهدر بها أن تفسح الطريق لكن أبت السيدة أن تفعل...
ندت من سراب صرخة خافتة، أجفلت على إثرها السيدة وبخاصة حين طالعتها سراب بأعين متسعة وهي تزم شفتيها في تلك اللحظة تحرك السائق واهتز جسد سراب أثر حركة السيارة، حاولت سراب أن تستند على أي شيء فانغمست يدها بوعاء العسل...
وبارتباك أطلقت السيدة ضحكة خافتة وهي تقول:
-ومالو دا يزداد حلاوه يا حلوه.
أخرجت سراب يدها من الوعاء وهي تهوى جالسة على المقعد مرة أخرى، وانطلقت السيارة وضحكات السيدة تجلجل بها بينما ضحكات الرُكاب الساخرة كانت خافتة كزفراتٍ مرتفعة...
-إنتِ مش طبيعية... مش طبيعية.
هدرت بها سراب وهي تمسح يدها بمنديلًا ورقيًا، فقالت السيدة وهي توقع كلماتها بابتسامة صفراء:
-ربنا يخليكِ.
-ربنا يخليني! هو أنا بمدحك.
قالتها سراب بانفعال بليغ، فردت السيدة وهي تغضن جبينها:
-ما أنا كمان مش بدعيلك، إنتِ عارفه يخليكِ يعني إيه؟ يعني يتركك...
قالت أخر جملة وهي تضحك، بينما حدقت لها سراب وتكاد تقسم أن هذه المرأه بعقلها لوثة ولا ريب!
أعطتها السيدة خرقة من القماش لتمسح يدها، فرمقتها سراب بازدراء وأخرجت علبة من المناديل الورقية لتمسح يدها، بينما سألتها السيدة والفضول يطل من عينيها:
-هو إنتِ رايحه فين؟ ... كنتِ هتنزلي ليه والشارع بتاعنا قدامه شويه!
زفرت سراب بقـ ـوة ولم تجب، فقالت السيدة:
-هو إنتِ حلاوتك دي طبيعيه ولا فلتر؟
صاحت سراب بضجر:
-إنت يا عم يا سواق... أنا عايزه أنزل...
ابتسمت السيدة وهي تغني:
-يا عم يا سواق قولي الحكايه ايه!
حدجتها سراب بنظرات ثاقبة فابتسمت السيدة وقالت:
-أنا خالتك سعيده.
أشاحت سراب وجهها للجهة الأخرى وهي تتمتم:
-استغفر الله العظيم يارب... دي معـ ـتوهه.
سمعت «سعيده» همهماتها فقالت بابتسامة ماكرة:
-ربنا يخليكِ.
زفرت سراب بقـ ـوة وصمتت، فسألتها سعيده:
-هو إنتِ هتخلصي كليه امته؟
لم تلتفت لها سراب، فقالت سعيده:
-هو إنتِ مش بتردي ليه؟
صمتت سراب وقالت سعيدة:
-هي صحيح أمك ولدتك في نفس اليوم اللي جدتك كانت بتولد فيه... أما حاجه تضحك.
قالتها وانفجرت ضاحكة، ثم أكملت:
-دا إنتِ عندك حتة جد راجل كده طول بعرض مش باين عليه السن ومعاه فلوس، شكله كده قاعد على كنز مش عارف يوديه فين... هو صحيح الواد عمرو دا بيضايقك كتير كده ليه؟ تعرفي إن ما محبه إلا بعد عداوه!
رمقتها سرب شزرًا، فأخذت سعيدة تثرثر:
-استعدي أنا شيفاكِ عروسه لعمرو أصلًا انتوا لايقين على بعض... وتقى وعامر كمان لايقين على بعض برده أنا ملاحظه كل حاجه... صحيح هو رائد مش هيسافر تاني؟ ردي عليا يا بنتي... هي نداء شغاله ايه؟ طيب شيرين أخبارها ايه؟ طيب ريم أمها لسه تعبانه؟
أمطرتها بوابل من الأسئلة وسراب تصر على أسنانها بغيظ، فتلك السعيدة تتدخل في شؤون غيرها بشكل فظ جدًا!
هدرت سراب بانفعال:
-لأ كده كتير أوي... كفايه لو سمحتِ.
رمقتها سعيده ومصمصت بشفتيها ثم نظرت أمامها وهي تصيح بدلال مصطنع:
-على جنب يا عم يا سواق...
نظرت سراب من النافذة فقد وصلت شارعها أخيرًا، ارتجلت سعيدة من السيارة وتبعتها سراب ثم أسرعت خطاها، خطوتين ثم وثبة ثم خطوتين فوثبة لتبتعد عن سعيده التي قالت بنزق:
-ما تستني يابنتي نكمل كلامنا... اه يا شوية متكبرين، يلا ملناش دعوه بحد.
أسرعت سراب خطواتها وهي تغمغم نازقة من تلك السيدة، حملت هاتفها تطلب رقم تقى التي أخبرتها باختفاء جدها وأن هاتفه لازال خارج نطاق الخدمة...
تذكرت مدح سعيدة عن جدها وجملتها:
«دا إنتِ عندك حتة جد راجل كده طول بعرض مش باين عليه السن...»
شعرت بخفقة قلق ولهفة على جدها، تريد أن تراه بخير الآن...
وقفت أمام بيتها، تنهدت بعمق وطلبت رقم جدها، ولازال خارج نطاق الخدمة، فقالت بقلق:
-ربنا يستر... أنا مش مطمنه، منك لله يا سعيده.
نظرت صوب منزل دياب وتذكرت قول سعيده:
«استعدي أنا شيفاكِ عروسه لعمرو...»
وقولها:
«لايقين على بعض»
إنفعلت سراب هي تزمجر بصوت مرتفع:
-مستحـــــيــــــــــــــــــل.
فقد وضعت شروط لفارس أحلامها وإن انطبقت جُلها على عمرو لكن عمرو أكبر منها بعامين فقط ويجب ألا يقل فرق السن بينها وبين زوجها عن أربعة أعوام ولا يزيد عن ست! نطقت مرة أخرى:
-مستحيل مش هيحصل أبدًا... أنا وهو لا لا لا.
حدجها رجل مر جوارها بنظرة اخترقتها، فتلفتت حولها بارتباك وقد بدأت قطرات المطر تتزايد فأسرعت تدخل لبيت دياب حيث تقى تنتظرها بالأعلى...
********
وبعد فترة من هطول المطر الغزير، انكشف الغمام وظهرت أشعة الشمس الخافتة...
وفي منزل دياب
وقفت «تقى» بالشرفة تشد من معطفها بعدما شعرت بلفحة من البرودة اقشعر لها بدها، طالعت السماء والسحاب، فوقع بصرها على سحابة كالحليب الأبيض، ظهرت باسم «الله» وكأنها رُسمت لتُأكد أن هذا الكون ملكٌ لله وحده لا شريك له...
أخذت تقى تسبح الله وتستغفر وتدعو أن يعود أبوها سالمًا فقد أوشكت الشمس أن تغادر السماء...
طلبت رقم والدها مجددًا ليأتيها صوت:
«الهاتف المطلوب مغلق أو خارج نطاق الخدمه...»
تنهدت بقلة حيلة، وشعرت بخفقة غريبة مرت على قلبها، وحين تذكرت ذلك الكابوس المتكرر اشتدت خفقات قلبها وارتجفت جوارحها، فعادت تشد معطفها عليها وعقدت ذراعيها أمام صدرها وكأنها تحتضن حالها، وبداخلها يدوي صوت:
«مش هيرجع... مش هيرجع.»
فكت عقدة ذراعيها ووضعت إحدى يديها على موضع قلبها وكأنها تطمئنه...
اشرئبت برأسها قليلًا لترى عامر وعمرو أطلا ببداية الشارع، ارتبكت واضطربت حواسها، عامر سيعود لذا يجب أن تغادر، لكن إلى أين؟ لا يهم! الأهم ألا تجتمع في مكان واحد مع عامر؛ ذاك الذي يستفز مشاعرها فتتحرك له رُغمًا عنها...
دخلت من الشرفة وطالعت سراب التي تلزم شيرين بالمطبخ يتسامران ويضحكان بصوت مسموع وسراب تحكي لها عن السيدة سعيده...
وقفت «تقى» مكانها لبرهة وابتلعت غصة حلقها، وهي ترجو أن يعود والدها والآن، تسائلت ماذا سيفعلان دونه؟ ماذا وإن لم يعُد حقًا!
******
وبالمطبخ وقفت سراب تأكل شرائح الخيار، تتابع شيرين وهي تُعد الطعام بينما كانت شاردة...
غاصت في أفكارها، أفكار لأول مرة تطرق قلبها، أخذت تتخيل عمرو وابتسامته وطريقة كلامه، ملامحه، والأهم عضلات جسده، زينه لها عقلها لكنها أسرعت بانتشال حالها من بحر أفكار إن حاولت الغوص به ستغرق لا محالة، أخذت تهز رأسها يمنة ويسرة بعنف وتصيح:
-لأ لا لا مستحيل... مينفعش أفكر كده... مينفعش...
استغربت شيرين قولها، فرمقتها بنظرة متفحصة، وقالت:
-اي يابنتي مالك؟
حاولت سراب المراوغة، فقالت بابتسامة مرتبكة:
-خـ... خليني أكملك بقا اللي اسمها خالتي سعيده دي عملت فيا ايه!
وقبل أن تتحدث سراب، كانت تقى تقف خلفها، تقول بنبرة محبطة:
-سراب... يلا نمشي.
قالت سراب بلهفة:
-هو جدو رجع؟
لم ترفع تقى يدها عن قلبها الذي كان يختلج قلقًا على أبيها، قالت:
-موبايله مغلق... تعالي ننزل ندور عليه بصراحه أنا قلقانه.
تدخلت شيرين قائلة:
-هيروح فين يعني زمانه جاي هتلاقيه بيزور صديق قديم ولا بيشتري حاجه وجاي متقلقيش.
وقالت سراب:
-أيوه اصبري، شويه يا تقى وهتلاقيه جاي.
-طيب أنا نازله عايزه تخليكي خليكي.
قالتها «تقى» بنفاذ صبر وهرولت نحو باب الشقة، فتبادلتا شيرين وسراب النظرات الحائرة ثم ركضت سراب خلف أختها، وتبعتهما شيرين وهي تقول:
-طيب استنوا حد من الولاد يروح معاكم.
لم توافق تقى وهرولت لتخرج من البيت قبل وصول عمرو وعامر...
قابلتا عمرو وعامر عند مدخل البيت، رمقت سراب عمرو تلاقت نظراتهما فأجفلت وأزاحت بصرها عنه وأمسكت بيد تقى وكأنها تحتمي منه ومن نظراته تلك! وبداخلها ضجيج أن لا لا، إياكِ والتفكير به...
ألقى «عمرو» السلام عليهما، فردت تقى وأسرعت خطاها وهي تسحب سراب ودون أن تنظر لعامر، خشيت أن يسألها عن سبب حالتها فتنفجـ ـر باكية أمامه، فهو متطفل جدًا ويهتم بها بشكل مريب...
صعد «عامر» مسرعًا للبيت وسأل والدته:
-هي تقى مالها يا ماما؟
قلبت شيرين فمها لأسفل وقالت:
-عمك كارم مرجعش البيت ومش معاهم مفتاح للشقة وقاعدين مستنينه ومظهرش لحد دلوقتي، نزلوا يدوروا عليه.
سمعها «عمرو» فتحدث وكأنه لا يكترث:
-هيكون راح فين يعني... زمانه جاي.
وأضاف وهو يرنو من باب الشقه ليخرج:
-أنا خارج مع أصحابي...
وقف «عامر» يفكر هنيهة ثم دخل غرفته التي لا تحوى سوى فراش يتشاركه هو وعمرو ومخدع بلاستيكي لملابسهما...
قرر أن يُكمل اختراعه الذي يود إظهاره للنور في أقرب وقت، ساعة كاملة وهو ماكث على صندوق زجاجي مضيء الجوانب، صغير بحجم كف يده، وضعه على سطح الأرض وجلس قبالته للحظة منتظرًا النتيجة بعدما انتهى، حثه على العمل وهو يقول:
-هااا... يلا... يلا... اشتغل بقا.
قرب وجهه منه ليتفقده فانفـ ـجر فجأة وتحطم مصدر دوي مرتفع، ركضت على إثره شيرين...
وقف عامر يُطالع وجهه بالمرآة ويتفقد ملامحه، حمد الله أنه بخير، تنهد بارتياح وتزامن ذلك مع دخول شيرين أخذت تتأمل الغرفة بلهفة، لم تجد شيئا في غير موضعه فاطمئنت وخاطبته بضجر:
-ارحمنا وارحم نفسك بقا يا عامر.
-محصلش حاجه يا ماما.
قالها عامر مطرقًا بحرج، فرمته والدته بنظرة ثاقبة وخرجت من الغرفة تغمغم بضجر بينما وقف عامر ينفخ بضجر وهو يتأمل الإختراع المهشم ويقول:
-إيه بس الغلط!!! يارب بقا...
استغفروا ♥️
بقلم آيه شاكر
★★★★★
ارتفع آذان العشاء ولازالتا _سراب وتقى_ تتجولان بالطرقات، سألتا عنه من قابلهما ولم تتوصلا لأي شيء...
وكان عمرو يتبع خطواتهما بترقب، ويحرص ألا تنتبهان لوجوده حتى دخلتا لمُصلى السيدات لأداء صلاة العشاء، فدخل هو الأخر لمسجد الرجال ليصلي...
وبعد آداء الصلاة...
استندت «تقى» على أحد الأعمدة، والخوف قابع بين عينيها، ولسان حالها يقول لا تتركنا أبي! لازلنا بحاجتك...
فهما فتاتان بلا عائلة، لا أحد لهما إلا هو، هو مأواهما وأمانهما وسندهما الذي إن غاب ستغيب شمسهما، وسيحل عليهما ليل بهيم، وقد لا يضيء نهاره مجددًا...
أفاقت من خضم أفكارها على صوت سراب:
-قومي خلينا نرجع البيت يمكن يكون رجع...
أومأت تقى، وأسرعتا بالعودة إلى البيت، وكلتاهما تضم كف الأخرى وعمرو يتابعهما حتى وصلتا فدخل لبيته...
دقت «تقى» جرس الباب بينما طرقت سراب الباب بقبضة يد مرتعشة، ولا مجيب!
قالت سراب بدموع:
-هنعمل إيه يا تقى!
هوت «تقى» جالسة على درج السلم بتعب وهي تقول بقلق وبأعين تبرق بالدموع:
-أنا خايفه.
قالت سراب متظاهرة بالقـ ـوة:
-متخافيش! هيرجع، يعني هو هيروح فين؟
-أنا خايفه يكون عمل حادثة ولا حاجه!
قالتها تقى ودموعها تنحدر، فمدت سراب أناملها وجففت تلك الدموع وهي تقول:
-لا لا، ما احنا لفينا كتير وسألنا ومفيش أي حوادث... اتفائلي مش إنتِ دائما تقوليلي أبشري بالخير، أبشري... إن شاء الله هو هيرجع بخير.
-يارب...
★★★★★
دلف عمرو لشقته والحيرة تطل من عينيه رمق «عامر» الذي خرج من غرفته للتو، بعد فترة من اليأس قضاها متجهم الوجه حزين على اختراعه الفـ ـاشل، الذي تناسى تقى واختفاء والدها لانشغاله به...
جلس عمرو جوار والدته دون نطق، مما دفع الجميع للنظر إليه بنظرة استعادتها سريعًا....
ران عليهم الصمت كانت تحيك ثوب بيدها وهي جالسة قبالة والده الذي يرتدي عويناته ويصب تركيزه في قراءة كتاب يمسكه بين يديه، وقبل أن يبادر بقول شيء، نطقت شيرين:
-رن كده على سراب ولا تقى يا دياب لما نشوف الراجل ده رجع ولا لسه!
رفع دياب رأسه عن الكتاب وهو يقول:
-هو إنتِ مكلمتهمش لحد دلوقتي؟
-معلش اتشغلت والله.
وضع دياب الكتاب جانبًا وجلس عامر جوار عمرو ينصتان للمكالمه بتركيز، حيث فتح دياب مكبر الصوت...
ردت تقى بصوت متحشرج:
-أيوه يا عمو...
-ايه يا بنتي أبوكِ رجع؟
إنهارت «تقى» فلم تعد تستطع كبح جماح مشاعرها المحطمة أكثر من ذلك، لم تستطع أن تواري قلقها وخوفها، ارتشفت دموعها وقالت بضياع:
-بابا مرجعش يا عمو... لفينا كتير في الشوارع ودورنا عليه لكن ملقيناهوش.
حين سمع عامر حشرجة أنفاسها هب واقفًا وكأنه لُدغ، رمقه دياب سريعًا وعاد يخاطب تقى:
-طيب اهدي يا حبيبتي انتوا فين دلوقتي؟
-احنا قاعدين على السلم قدام شقتنا.
-معقوله يا تقى قاعدين على السلم، تعالو يا بابا بيتكوا هنا... تعالوا يا حبايبي زمانه جاي ان شاء الله... يلا تعالوا.
-حاضر.
قالتها وأغلق دياب الهاتف، وهو يقول بذهول:
-الراجل مرجعش!!
قالت شيرين:
-هيكون راح فين دا عُمره ما عملها؟
-لا حول ولا قوة إلا بالله... روحت فين يا كارم وسيبت البنتين كده!!
قالها دياب بينما نزل عامر مسرعًا ليفتح بوابة البيت لتقى وسراب كان قلقًا، ومترقبًا لظهور تقى من البناية المجاورة، حتى رآها تتأبط ذراع سراب وتخرجان من البيت وقد خط قلم الحزن خطوطه على صفحة وجههما، قابلهما عامر بقوله:
-اهدوا ان شاء الله هيرجع يا جماعه... تعالوا.
قالها وهو يشير لأعلى ويصعد أمامهما، بينما كان عمرو يقف بالشرفة يتابعهم بترقب، فهناك الكثير من الغموض حول كارم...
وعلى درج البيت قابلهم «رائد» الذي سأل عن سبب حالتهما، فقالت تقى:
-بابا مرجعش!
-مرجعش! دا مر عليا في السنتر الظهر واتكلمنا شويه ومشي.
بلل عامر شفتيه، وهو يقلب الكلام في رأسه قبل أن ينطقه:
-بابا كمان بيقول إنه راحله العطاره النهارده وكان كويس.
قالت سراب بصوت مختنق:
-موبايله مغلق.
وقالت تقى:
-المشكله كمان إن مفتاح الشقه مش معانا، إحنا الاتنين نسيناه جوه.
قال رائد:
-طيب ما دي بسيطه أنا ممكن أفتحلكم الشقه عادي.
قال عامر:
-روقوا ان شاء الله تلاقوه راجع دلوقتي...
-طيب تعالوا نفتح الشقه ممكن يكون...
قالها رائد وأمسك عن الكلام حين لكزه عامر بذراعه خوفًا أن ينطق بأي شيء يقلقهما، ففطن رائد، واستطرد:
-يعني قصدي، يكون نايم جوه ولا حاجه، استنوني دقيقه واحده...
صعد يجلب شيئًا من شقته ليفتح به باب شقتهما وخرجوا في سرعة ولهفة ورجاء أن يكون بالداخل كما قال رائد...
محاولة ثم أخرى ولم يُفتح الباب، فقال عامر:
-والعمل؟
حمحم رائد ثم قال:
-هتصرف متقلقوش...
طفق رائد يطرق بمعداته على قفل الباب وكل طرقة يختلج لها قلب تقى، تتخيل أن يُفتح الباب فتجد جسد والدها ملقى على الأرض ومفارق الحياة...
فتح رائد الباب فجأة، فهربت الدماء من وجهها، وشُلت حركتها ودون أن تدخل وقفت مكانها تقلب بصرها بأرجاء الردهة، بينما دخلت سراب تنادي جدها، أخذت تدلف لغرفة وتخرج من أخرى قبل أن تقف قبالتهم وتقول بنبرة لم تسمعها تقى ولكن رأت حركات شفتيها:
-مش هنا...
أما تقى فكان داخلها صوت ضوضاء وجملة تلح عليها وكأن أحد ما يصيح داخل رأسها «مش هيرجع... مش هيرجع»
نطقت تقى بصوت متهدج، ونبرة خرجت خافتة:
-أنا عايزه بابا، عايزه أبويا... هو راح فين؟ أبويا راح فين؟
هوى جسدها وكأن هناك قوى تسحبها من الخلف، فلحقتها سراب، وهي تصرخ، وجملة سعيدة تتردد في رأسها:
«دا إنت عندك حتة جد، راجل كده طول بعرض مش باين عليه السن....»
أيعقل أن تفقد جدها هكذا على حين فجأة، أحسدتها سعيده؟ ربما....
صاحت سراب:
-تقى... قومي...
استغفروا🌸
بقلم آيه شاكر
★★★★★★
ماذا ستفعل إن تبدل حالك على حين فجأة؟ اختفى عزيز عليك وكأنه لم يكن هنا يومًا، وكأنه تلاشى في الهواء!! بمَ ستشعر؟ مهما حاولت أن تفسر مشاعرك فلن تكفي الكلمات لوصفها...
أربعة أيام من البحث داخل المحافظه، ولا أثر لكارم...
رائد ويحيى ومحمد وعمرو وعامر يتجولون بالطرقات حاملين صورة له، سألوا أُناس كُثر، بحثوا بأقسام الشرطة والمستشفيات ولم يتوصلوا لأي شيء...
نشرتا «تقى» و«سراب» صورة له على تطبيقات التواصل الاجتماعي وكانت التعليقات عبارة عن دعوات بالعودة ولا أي جديد.
نشر «نادر» فيديو يحكي به عن اختفاء كارم، فلاقى تفاعل كبير جدًا ولكن... لا أثر لكارم على الإطلاق...
حتى جائتهم الصدمة الكُبرى...
في بيت دياب حيث اجتمع البعض، في حين رفض آخرون الإنضمام لتلك المواجهة...
جلست «تقى» جوار «سراب» وكان الإرهاق متجليًا على قسمات وجههما، وكأنهما لم تتذوقا النوم لأيام...
كانت «تقى» تمسك بيدها ورقة سلمها لها «دياب» قبل دقيقة، قراتها عدة مرات في صمتٍ مهيب خيم على الحضور «عمرو وعامر ورائد ونداء وشيرين ودياب»
هزت «تقى» الورقة وهي تقول بصدمة شديدة:
-أيوه يعني دي شهادة وفاة بابا من أكتر من ٢٠سنه يعني قبل ما أنا اتولد، أومال مين اللي كان عايش معانا ده؟ مش انتوا شوفتوه يا جماعه؟ معقوله يكون مش بابا؟!
زفرت سراب ضاحكة وقالت باستنكار:
-أنا مش فاهمه حاجه! يعني هو كان شبح مثلًا!
تبادلا عمرو وعامر النظرات، وعدل عامر نظارته وهو يتنهد بعمق...
ران عليهم الصمت كلٌ يفكر في احتمال، حتى نطقت شيرين:
-احنا اتعرفنا عليكم لأن تقى كانت بتلعب مع عامر دايما واتوطدت العلاقه بيننا وعرفنا إن أم سراب اتوفت وهي بتولدها وان انتوا ملكمش حد... لكن احنا منعرفش عنكم إلا كده...
-يعني برده بابا راح فين؟ أدور عليه فين؟ أنا، أنا هتجنن.
قالتها تقى بانفعال، حينها قرر عمرو الخروج عن صمته، فكر لبرهة كيف يخبرهم عن الرجل الذي دخل لبيت كارم قبل فترة، فكثيرًا ما أوصاه كارم ألا يخبر أحد عنه بتاتًا ومهما حدث ولكن...
ماذا عن الذهب الذي رآه آنذاك، والذي خبئه كارم أسفل الفراش، نهض واقفًا وقال:
-قوموا... عايزين نروح نفتش أوضة عمي كارم.
وبعد فترة وجيزة بغرفة كارم...
ساعد عامر أخيه في رفع الفراش والجميع مترقبون حتى ظهرت عملات نقدية من الذهب، لكن لم تكن بالكمية التي رآها عمرو سابقًا، قالت تقى بذهول:
-دي فلوس ذهب!
أخذ عامر ملف مغلق، فتحه، وقال:
-دا فيه رساله مكتوبه.
أخذه عمرو من يده وانتبه له الجميع وهو يقرأ:
-أنا عارف إن عمرو هيدور هنا، الفلوس دي مش كتير يا بنات بس مشوا حالكم بيهم، كان نفسي أستنى معاكم لحد ما تتجوزوا واطمن عليكم بس غصب عني حكمة ربنا، أنا بحبكم أوي يا بنات خلي بالكم من نفسكم، وصيتي إنك متدوريش على أهلك يا سراب، أنا سميتك سراب عشان لازم تفضلي سراب...
خلي بالك منهم يا دياب، وإنت يا عمرو خلي بالك من سراب ومتخليهاش تدور على أهل أبوها، خلوا بالكم منهم ومتزعلوش عليا ركزوا في حياتكم، أنا اشتريت البيت ده، لما الفلوس تخلص عيشوا من ايجاره ومن فلوس سنتر للدروس والچيم والمحلات اللي أنا متأكد إنها هتكبر... هتوحشوني.
-ايه بقا ده!!
قالتها سراب بصدمة عارمة، فقال عمرو بتشوش:
-عمي كارم وراه سر، أنا حاسس إنه بيشتغل في المافيا أو...
قاطعته سراب بانفعال:
-مافيا ايه!! مش ممكن!
اقتربت سراب من عمرو خطوتين واستطردت بانفعال أشد:
-تعرف تسكت؟ جدي مش ممكن يكون غير راجل صالح، راجل محترم كان بيحبنا وربانا على مبادئ وأخلاق مستحيل حد يتظاهر بيها، بُص ليا كده وبص لتقى...
بدل عمرو نظره بينها وبين تقى في شدوه، في حين أضافت سراب بنبرة حادة:
-شايفنا رقاصين يا عمرو؟ احنا أهوه لابسين حجاب، بنصلي، وعارفين ربنا، الراجل ده ربانا على أخلاق ودين مش عندك إنت.
قالت أخر جملة وهي تصرخ في وجهه، فانفعل عمرو وصرخ في وجهها:
-احترمي نفسك يا بت.
صرخت به بانفعالٍ عارم:
-متعليش صوتك عليا.
جذبه دياب من ذراعه بعنـ ـف، وسحبتها شيرين لأحضانها فتدارك عمرو حاله، أطبق يده على فمه واغلق عينيه لبرهة مفكرًا فليس بوقته، فتح عينه وخاطب سراب التي تبكي:
-طيب أنا آسف... خلاص يا سراب أنا آسف اهدي... أنا بفترض مش أكتر، بفكر بصوت عالي... آسف.
قالت سراب بصوت متهدج ومن خلف دموعها:
-احنا لازم ندور عليه لازم نلاقيه، أنا عايزه جدو...
-مش هيرجع... مش هيرجع...
نطقت بها تقى أخيرًا، أخرجتها من بين شفتيها بعدما كانت تمور برأسها، فحق لها أن تكون...
ذُكر في الأثر أن «البلاء موكل بالنطق»، وفيه أنشد أحدهم قائلًا:
لا تنطقن بما كرهت فربما... نطق اللسان بحادث فيكون.
جال في عقل تقى طيف الأشهر الماضية وكيف كان كارم يدفعهما دفعًا لتلتصقا بعائلة دياب، أغلقت تقى عينيها لتعصر دموعها، وعامر يُطالعها بشفقة وقلق وقلة حيلة، نظر لوجوه الجميع ونطق بجملة التفتوا لها جميعًا، قال بإماءة خفيفة:
-تقى... أنا هنا...
كان يطمئنها، أخرح من جيبه شريطًا قماشي أحمر اللون، لفه على يده وطلب منها الإمساك بطرفه الأخر بينما كان والده يطلب منه أن يكف عما يفعل فليس وقته!
ألم يكن يعلم أن هذا الشريط الأحمر له معهما ذكريات عديدة! فحين أُصيب عامر بالعمى في صغره، كانت تقى تأبى أن يمس يدها لذا أحضرت هذا الشريط ليسيران معًا وليكون حلقة وصل بينهما حتى عندما أبصر عامر ظلا يسيران بتلك الطريقة...
وبأيدٍ مرتعشة مدتها تقى بعدما رمقت عامر بنظرة منـ ـكسرة اختلع لها قلبه، ثم أمسكت بطرف الشريط وشهقت باكية بنشيج مسموع تمنت لو تعود لطفولتها فعقلها لا يستوعب تلك الأحداث سريعة الرتم...
وقفوا جميعًا يتابعون ما يحدث، وسراب تبكي بين ذراعي شيرين، وتقى تبكي وهي تغلق عينيها وتعقد طرف الشريط على يدها، والجميع يراقب مكتوفي الأيدي...
أما «عمرو» فالآن فقط شعر بمسؤولية كبيرة تقبع على عاتقه تجاههما، فيجب أن يساعدهما...
صلوا على خير الأنام ♥️
بقلم آيه شاكر
★★★★★★
زحفت بهما الأيام زحفًا حتى مر عام كامل واليوم هو الذكرى الأولى لاختفاء كارم...
وفي البيت على الأريكة جلستا متجاورتين، فحتى الآن لم يفلحا في التأقلم على اختفاء «كارم» المباغت، ترك لهما اختفاءه جرحًا عميقًا، وبعض الجراح لا تذبل ولا تندمل دون أن يعالجها صاحبها، وهما تركا جرحهما ينزف بل وتلوث باليأس حتى صارتا كجثتين متحركتين، رغم محاولتهما المستميتة في التظاهر بالقـ ـوة والبأس لكن... ما أن انفردتا في بيتهما وأُغلق الباب همى الدمع من أعينهما كالمطر وصرخت روحهما ألمًا، لطلما تسائلتا، هل كانتا تعيشان وهمًا؟
نشرتا صورته على تطبيقات التواصل الاجتماعي، وجلستا تشاهدان الفيديو الذي أعاد نادر نشره للمرة الثالثة دون أن يجدي نفعًا...
ولكن اختفاء «كارم» المباغت أفاد تجارتهم كثيرًا فأصبحت اسم محلات «عن تراضٍ» يرن في كل مكان، بأسعاره المميزه وتصاميم ملابسه الجذابه...
********
في مساء هذا اليوم،
ارتشفت تقى دموعها، ومسحت وجهها ثم نظرت لسراب الجالسة جوارها والدموع تهطل من عينيها دون صوت ودون حراك، نطقت تقى باستنكار:
-إحنا حرام علينا اللي عملينه في نفسنا ده... شكلنا بقا عامل كده ليه! لازم نفوق لنفسنا ونركز في حياتنا زي ما بابا قال و... والحمد لله إنه مماتش ويمكن يظهر في يوم من الأيام ونعرف الحقيقه...
قالت سراب بفم متشنج:
-حاسه إن الزمن بيجري بينا وإحنا واقفين مكاننا... تخيلي اسم محلات «عن تراض» بقا بيرن في كل مكان، والبركه في اختفاء جدي، ولا نادر اللي بقى مشهور بفضل اختفاء جدي...
تجاهلت تقى ما قالته، وقالت لتحـ ـمسها:
-اسمعي... إنتِ مش كنتِ عايزه تبقي ميكب أرتست ايه رأيك نفتح صالون تجميل نسائي بنفس اسمنا عن تراض؟
قالت سراب بلامبالاة:
-أنا مش عايزه حاجه يا تقى...
-لأ... إنتِ لازم تخرجي من حالتك دي... لازم تفوقي لازم نتأقلم على غيابه، وإلا بالمنظر ده هنمـ ـوت...
-ياريت...
قالتها سراب يائسة، فبكت تقى وهي تقول:
-حاسه إننا في كابوس أنا نفسي أفوق بقا... مبقاش عندي طاقة لأي حاجه، روحي بتتسحب مني كل يوم... يا سراب عشان خاطري خدي بايدي عشان نقف على رجلينا، قومي نصلي ونشكي لربنا احنا دورنا في كل مكان وإشتكينا في كل حته وطلبنا مساعده من الناس ومطلبناش من رب الناس، تخيلي؟
ضمتها سراب واختلط صوت بكائهما معًا، حتى نهضت سراب، مسحت دموعها وقالت بقـ ـوة:
-خلاص... هنفوق يا تقى وهنقف على رجلينا من جديد... قومي نبدأ من جديد... قومي نصلي...
شقت الإبتسامة دموع تقى، وقالت بحمـ ـاس:
-يلا نصلي...
وفي السجود همستا بدعوة متشابهة، دون أن تتفقا:
«ضاقت يارب... ضاقت واستحكمت حلقاتها فهل من فرج قريب...»
استغفروا🌸
بقلم آيه شاكر
★★★★★★
ومن ناحية أخرى
في إحدى محافظات الوجه القبلي...
بعزبة واسعة يتوسطها بيت يشبه القصر يقع بمنتصف الأراضي الزراعية، ومن حوله عدة بيوت حجرية بسيطة الحال من طابق واحد أو اثنين على الأكثر...
وخارج القصر سلم طويل بنهايته تمثال حجري فخم على شكل أسد وكأنه يحرس البيت...
وبالداخل ردهة واسعة تضم جناحين متصلين، يتوسطها سلم يتفرع لجناحين منفصلين بالطابق الثاني وكان يضم أثاث فاخر وتحف فنية ورسومات على الجدران تجذب الناظرين...
بالطابق الثاني يتمشى عجوز بأواخر عقده الثامن يستند على عكازه كان يفتح الغرف تباعًا وهو ينادي بصوت واهن:
-يا بدر... يابني هو إنت هنا ومش هنا! يعني إنت جاي تقضي وقت معايا ولا تسيبني لوحدي كده... أنا رأيي ترجع تاني القاهره أحسن...
وكان هناك شاب في منتصف عقده الثالث، يتمدد على أريكة مستطيلة داخل غرفة واسعة تضم مكتبه وعدة أرائك، كان شاردًا وبيده ألبوم من الصور يُقلب به، ويتأمل صوره حتى وقف على صورة عريس وعروس وظل يتأمل بها...
وبمجرد أن سمع أزيز باب الغرفة وهو يُفتح اعتدل جالسًا، فقال جده بابتسامة واسعة أماطت اللثام عن أسنانه الصناعيه:
-إنت هنا يا بدر! دوختني! صوتي اتنبح وأنا بناديك.
رنى إليه بدر بقامته الطويلة، وهو يطالعه بابتسامة عذبة وقال:
-في حاجه ولا ايه يا جدي؟
-كنت عايزك تعد الفلوس عشان هسلمها للعمال بكره الصبح.
-حاضر ياحبيبي حالًا...
نظر الجد لألبوم الصور بيده وقال:
-لقيته فين ده دا أنا دوخت عليه!
-لقيته هنا.
قالها وهو يشير لرف بالمكتبة ثم سأل جده وهو مغضنًا حاجبيه يشير لصورة في الألبوم:
-هما مين دول يا جدو؟
ضيق الجد جفونه ثم ارتدي نظارته التي يربطها حول عنقه بسلسلة فضية، وقال بنبرة خالطها الحنين:
-دي يابني أختي الصغيره صباح، أبويا جوزها صغيره كان عندها حوالي ١٣ سنه، جوزها كان اسمه كارم شاب من القاهره، اتعرف عليه أبويا من خلال شغل... وكنا بنزورهم كل فترة، قصتهم طويله...
-احكيهالي يا جدي أنا بحب القصص أوي.
-وأنا مبحبش أحكي يكفيك تعرف إن في يوم عرفنا إن جوزها مات وملقيناش لا ليها ولا لبنتها أثر... ومرت السنين ومعرفناش عنها أي حاجه، لكن أهل جوزها دول الشـ ـر مالي قلوبهم، ربنا ينتقم منهم مطرح ما هما.
أومأ بدر متفهمًا ثم قلب الصورة وعاد يسأله بفضول:
-طيب ومين العروسه اللي إنت واقف جنبها دي؟ هو حضرتك اتجوزت غير تيته؟
اغتصـ ـب الجد ابتسامة وقال وهو يحدق بالصورة:
-أيوه... دي صفيه مراتي الأولى، حكم أبويا كان يحب يجوزنا صغيرين، عجبت أبويا فجوزني كنت لسه مكملتش ١٧ سنه، وطلقتها بعد ٥ سنين، بعدما خلفت منها ولد وبنت.
-أكيد ماتوا بقا عشان أنا عمري ما شوفتهم؟
-والله يابني معرفش عنهم حاجه... أنا كنت أب سيء معرفش عن عيالي حاجه ولا اعرف أراضيهم فين!!
تنهد بعمق وأضاف:
-سافرت مع أبويا ولفينا وبعدين رجعنا بنينا القصر ده وأسسنا العزبه دي واتجوزت جدتك وخلفنا أبوك ونسيت عيالي...
هز بدر رأسه متفهمًا ثم سأل:
-المهم فين الفلوس عشان أعدها؟
-جوه على المكتب...
قالها الجد، فتوجه بدر لغرفة المكتب بينما جلس الجد على أقرب أريكة، بعدما نكأ حفيده جرح قديمًا، ظنه اندمل بمرور الأيام، تأمل صورة أخته وتنهد بألم قائلًا:
-يا ترى حصلك ايه يا صباح؟!
نظر لصورة طليقته وقال:
-يا ترى الأيام عملت معاكِ ايه يا صفيه إنت وعيالنا!
يملك قصر بل يملك العزبة بأكملها «عزبة البدري».
أضحى وحيدًا لا يؤنس وحشته سوى خدمه وعماله الذين اعتبرهم أهله وعشيرته، وبدر هو حفيده الأقرب لقلبه يأتي كل فترة، يطمئن عليه يقضي فترة ويغادر ويبقى الجد وحيدًا...
انشغل بالدنيا ولم يتذكر طليقته وأولاده إلا في أواخر عمره بعدما خارت قواه وهلكت صحته فلم يعد يستطيع البحث، تسائل هل ماتوا كما مات ابنه «والد بدر» أم لايزالون على قيد الحياة؟! كان قد قرر سلفًا أن يطلب من بدر البحث عنهم فأخر مكان كان به هو محافظة الدقهلية، ولكن هل سيوافق بدر أم سيرفض كما رفض والده من قبل؟!
....
خرج «بدر» من غرفة المكتب بعدما أنهى عمله، جلس جوار جده وقال:
-خلصت يا جدي... بقولك ايه يا حبيبي، إيه رأيك تسيب هنا وتيجي معايا القاهره...
رفع الجد بصره يحدق ببدر، وملامحه الهادئة التي تبعث الطمأنينة في قلب الناظر إليه، وقال:
-أنا زي السمك إن خرج من المايه يموت، وأنا مكاني هنا إن خرجت منه همـ ـوت.
تنهد بدر بقلة حيله، فربت الجد على فخذه وقال:
-متقلقش عليا يا بدر أنا كويس يابني... إنت أحن واحد عليا يا بدر بتحبني بدون مقابل مش زي البقيه مش بيجوا هنا إلا عشان يطلبوا فلوس...
داعبه بدر بقوله:
-أنا بحبك يا جدي لكن بحب الفلوس برده...
ثم أردف بدر بجدية:
-بس كله رايح عشان كده مش بجري ورا الفلوس ولا ورا الدنيا اللي أكيد هتنتهي مهما طالت...
-إنت الوحيد في أخواتك اللي مش زي أبوك الله يرحمه، أبوك كان بيحب الفلوس زيي وبيجري وراها، دا حتى رفض يدور على أخواته عشان يورثني لوحده، لكن سبحان الملك...
صمت الجد هنيهة ثم قال والدموع تترقرق في عينيه:
-عايز أطلب منك طلب وأتمنى توافق عليه.
اعتدل بدر في جلسته وقال منتبهًا:
-أؤمرني يا جدي.
-عايزك تدور على ولادي في محافظة الدقهلية؟ ولحد ما تلاقيهم يابني هيكون ليك مرتب ثابت... عشان هتسيب شغلك الفتره دي وإن وصلتلهم هديك هدية حلوه، قولت ايه؟
أطرق بدر هنيهة وهو يفكر في عرض جده، في الأساس هو عاطل عن العمل فقد تخرج من كلية الهندسة قبل ثلاثة أعوام ولم يجد عمل يناسب طموحاته حتى الآن، رفع رأسه وقال وهو يومئ موافقًا:
-حاضر يا جدي... من بكره هروح الدقهليه بس زودني بمعلومات عنهم آآ... أنا هدور فين؟ الدقهليه أكيد كبيره!
ابتهج الجد وسحب صورة من الألبوم بأيدٍ مرتعشة، وقال:
-دي طليقتي صفيه هتدور على الست دي... اسأل عنها هي أم لـ ولد بنت آآ... إسمهم... مش فاكر...
حاول الجد أن يتذكر الإسم ولم يستطع، أطرق وصمت بينما حدق بدر بالصورة للحظات ثم قال:
-الموضوع صعب بس هجرب عشان خاطرك.
ابتهج الجد وأخذ يلهج بالدعاء لحفيده، فقبل بدر يد جده وقال:
-طلباتك أوامر يا جدي وبالنسبه للمرتب الثابت مش عايزه، أنا أصلًا عاطل عن العمل مش هتفرق، هقوم أجهز شنطتي وأركب أول قطر.
-بس أنا هجهزلك مبلغ تاخده معاك يا بدر... نفسي أقولك تدور على أختي وبنتها بس مش عايز أشق عليك..
-سيبها لله يا جدي... نوصل الأول لأولادك قصدي، لعمي وعمتي وبعدين ندور على أختك وبنتها...
رددوا
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين🌸
★★★★
في صباح اليوم التالي كان يوم شديد البرودة، بأواخر شهر يناير، في الثامنة صباحًا والسماء ملبدة بالغيوم، سارت تقى جوار سراب كلتاهما تضع يديها بجيبي معطفها الشتوي، سراب ستذهب للصالة الرياضية بينما تقى فستتجه إلى مصنع الملابس، لم تنتبها لعمرو وعامر اللذان يسيران خلفهما ويسرعان الخطى للحاق بهما...
قالت تقى:
-بفكر نفتح صالون تجميل نسائي! وتحققي حلمك وتبقي ميكب أرتست مشهورة...
تحمـ ـست سراب وقالت:
-موافقه طبعًا، بس ناخد رأي أبله هيام وأبيه رائد.
-أكيد، هاخد رأيهم كلهم حتى طنط شيرين...
قالتها تقى، فقد أضحوا عائلتهما الحنونه فمنذ اختفاء كارم لم يتركوهما وحدهما مطلقًا طوال عام كامل، كانوا يحاوطونهما بمحبة وود، ظللوا عليهما دون كلل...
فمن قال أن العائلة بالقرابة وصلة الد*م فقط، ربما تعيش بين عائلتك وتشعر بالغربة بينهم، تحس أن تختلف روحك عن أرواحهم، وحين تلتقي بأخرين تتشابك أرواحكم وكأن مكانك بينهم من البداية.
التفتت تقى يمينها حين ألقى عمرو السلام ردته، سألها عن حالها بابتسامة بينما رمق سراب بنظرة غضها في سرعة ولم يتحدث معها...
كانت سراب تنظر أمامها تتجاهله كعادتها، يعلم أنها لا تحبه لأنها لا تمكث بمكان هو فيه، عام كامل ولم تتحدث معه، لم تعطه فرصة ليشرح لها أي شيء بشأن العمل بل كانت تصده وتخبره ألا يتحدث معها لأنها تكرهه...
فكان يعطي معلومات العمل لنداء وتأخذها هي منها، ولم تعطه فرصة واحدة ليثبت لها أنه لن يضايقها، أما هو فقد ازداد اشفاقه عليها بعد اختفاء جدها، ظل يراقبها من بعيد في صمت ودون كلام، يحميها ولكن من بعيد...
تركها وانصرف وتبعه عامر بعدما أوصى تقى أن تتصل به ان احتاجت أي شيء، فقد كان متجهًا لعمله بسنتر الدروس الخصوصيه أما عمرو فكان قاصدًا محل الملابس...
وفور رحيلهما جزت سراب على أسنانها بغيظ، لماذا لم يعد يتحدث معها! لمَ يتجنبها هكذا، ولا يهتم لوجودها لا تدري...
ران عليهما الصمت غرقت سراب في تفكيرها، وتقى تتابعها وكأنها غاصت داخلها فعلمت بمَ تفكر، قالت:
-عايزه اعرف متعصبه ليه؟ إنتِ اللي فضلتِ تقوليله أنا بكرهك... كل ما تشوفيه تقوليله بكرهك لحد ما الراجل كرهك وبعد عنك عشان ميسمعش الكلمه دي.
توقفت سراب عن المشي وقالت:
-بس أنا مش بكرهه أنا كنت متعصبه منه وقتها، دا زي ما يكون مخاصمني... بقاله سنه كامله مقاليش حتى ازيك!
حثتها تقى على إكمال السير بقولها:
-خلاص ابقي قوليله إنت، ابدئي...
-مش هعرف أبدأ يا تقى... وبعدين أصلًا فكك أنا فعلًا بكرهه دا واد رخم.
حدجتها تقى بابتسامة ونظرة تشي بالكثير، رمقتها سراب ثم ران عليهم الصمت وأكملتا الطريق وهي تتهرب من نظراتها المتفهمة وابتسامتها المتخابثة، قطعت سراب الصمت فجأة ثائرة:
-تقى! ارحميني بقا متبصليش كده، إيه عايزاني أكون ضعيفه زيك، إنت ضعيفه يا تقى حبك لعامر بقا واضح ومسببلك ضعف إنتِ مش واخده بالك منه.
ثارت تقى وهدرت بها:
-بتخرفي تقولي ايه! أنا مش بحب عامر هـ... هو زي أخويا... أنا بس بحس بالأمان وهو حواليا...
-بتحبيه يا تقى وواضح جدًا.
قالتها سراب وأسرعت خطاها فهذا مفترق طرق تقى إلى اليمين لعملها بينما سراب سلكت اليسار...
نفخت تقى متضجرة وأكملت طريقها وقد شعرت بحرارة الغضب تلفح جسدها رغم الجو البارد، نظرت حولها بترقب ثم خلعت معطفها...
هبت ريح قوية هزت عبائتها السوداء الواسعة، فأسرعت خطاها للمصنع قبل أن تمطر...
لم تتحدث سراب مع تقى طوال اليوم إلى أن حل الليل، جلستا متجاورتين على الأريكة، نظرتا لبعضهما ثم ضمت إحداهما الأخرى وبكيتا مجددًا، فالجرح الذي تركه كارم لم يندمل بعدُ، ولازال يحتاج تضميد بالصبر والسلوى...
شعرت تقى ببعض الإعياء وببرودة شديدة انتفض لها جسدها فدخلت غرفتها وتدثرت في فراشها وهي تبكي...
وبعد فترة دخلت سراب الغرفة وسألتها:
-إنتِ كويسه يا تقى؟
قالت تقى بأسنان تصطك ببعضها:
-برادنه أوي.
هرعت سراب وتحسست جبين تقى ثم شهقت بصدمة وهي تقول:
-إنتِ سخنه!
-لأ أنا كويسه بس غطيني ببطانيه كمان، هنام شويه وأبقى كويسه.
ركضت سراب تجلب غطاء أخر وتدثرها به آملة أن تنخفض حرارتها هكذا، وظلت تقى تنتفض وتزداد حالتها سوءًا، مما دفع سراب لطلب رقم شيرين التي حضرت على الفور، تفقدت تقى وقالت:
-هي كده من امته؟! مش عارفه تعمليلها كمادات يا سراب، اجري هاتي قماشه قطن ومايه وكلمي عامر هو بره يجيب معاه علاج... يلا بسرعه.
كانت سراب تبكي وتومأ رأسها باضطراب وهي ترى تقى ترتعد وتهذي من الحمى، فهدرت بها شيرين أن تتحرك لذا هرعت تفعل ما طلبته منها....
استغفروا🌸
★★★★★
وصل «بدر» الدقهلية بعدما ألقى الليل وشاحه المعتم، كان يوم شاق قضاه بالمواصلات، لم يكن يعلم من أين عليه أن يبدأ البحث، وقف يحملق بالصورة بيده لبرهة ثم عدل حقيبة ظهرة وسار بالطرقات يسأل عن أقرب أوتيل ينزل فيه ليرتاح الليلة ثم يفكر بعدها...
أخذ يستغفر الله ويدعوه أن يرسل له طرف خيط يركض وراءه وبينما هو على ذلك اصطدم فجأة بعامر الذي كان يهرول ليصل للبيت بعدما أخبرته سراب بحالة تقى، مما جعل الصورة تطير من بدر، ركض بدر خلف الصورة التي مرت عليها سيارة حتى انحنى والتقطها، وظل عامر يعتذر:
-آآ... أنا آسف والله مأخدتش بالي.
نهض «بدر» واقفًا وقال بغضب وهو يتأمل الصورة التي اختفت ملامحها:
-ياعم الصوره اتبهدلت يا عم، منك لله...
-آسف والله ليك... طيب أقدر أساعدك في حاجه.
قالها عامر فنفخ بدر بضيق، صمت هنيهه وهو يتفحص عامر بعينيه اللتين تشعان غضبًا، هدأ قليلًا ثم قال:
-ممكن تساعدني أنا كنت عايز مكان أنام فيه الليله.
-هو إنت مش من هنا؟
-لأ أنا من القاهره وعندي شغل هنا...
أطرق عامر هنيهة يفكر، ثم أخذ يتفحصه بنظراته وقال:
-طيب تعالى معايا...
وسار معه بدر وهو يُطالع الصورة باهتة الملامح، ويفكر ماذا سيفعل الآن؟
يتبع
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا