رواية بكِ أحيـا (آخر طوق للنجاة) الفصل السادس وعشرون والسابع وعشرون والثامن وعشرون بقلم ناهد خالد (حصرية وجديدة في مدونة قصر الروايات)
رواية بكِ أحيـا (آخر طوق للنجاة) الفصل السادس وعشرون والسابع وعشرون والثامن وعشرون بقلم ناهد خالد (حصرية وجديدة في مدونة قصر الروايات)
الفصل السادس والعشرين.. "أنانيًا"
"لحظة الإدراك هي اللحظة الأخطر على عقلك، حين يبدأ في استيعاب ما غاب عنه للحظات، يكن بين الصدمة والزعر، فيسقط صريعًا بينهما، لولا عناية الله، لفقد الكثير منا عقله في تلك لحظات الإدراك العصيبة التي مرت بهِ"
وأتت لحظة الإدراك لها الآن، وهي تستوعب أنها طعنت بشرًا! طعنته في منتصف صدره دون تردد، مندفعة بتمسكها بشرفها، ارتعشت كفها الحاملة للسكين وهي تقترب منهُ في صدمة تامة مسيطرة عليها، انحنت فوقه وكل ذرة بها ترتعش متفحصة نبضه، وقد لقت ما خشته، لم تشعر بنبضة واحدة حتى، ذهب نبضه وذهب تنفسها معه، اتعشت بشدة واقعة أرضًا بجواره، ولم تستطع فعل أي شيء، لدقائق لم تحسب لها عددًا، وبالأخير اقتحم الصمت دلوفه من باب الشقة، لم تنتبه له حتى وهي تنظر للجثة القابعة أمامها بصمت مخيف.
أخبره رجله الذي كلفه بمراقبة بيتها بدلوف ذلك المخنث للبيت، وفقط مسافة وصوله من المطعم لبيتها، الأمر لم يأخذ دقيقة ربما، فقد قطع المسافة ركضًا وهي قريبة بالأساس، وقف يلتقط انفاسه الهادرة بعنف وهو لا يصدق أن تلك المدة القصيرة أحدثت كارثة كهذه، دقيقة واحدة جعلتها تقتله! إذًا لقد حاول ايذائها فور دلوفه.. ويستحق ما لاقاه على يدها.. يبدو أن فتاته الصغيرة تعلمت كيف تدافع عن ذاتها أخيرًا..!!
اقترب منها بخطوات ثابتة غير مبالية بالراقد غارقًا في دمائه، انحنى عليها يأخذ السكين من بين يدها، لتنتفض مستوعبة وجوده، نظرت له بتيه، ليخبرها بلطف:
_ متخافيش.
وهل هذه كلمة مناسبة لموقف كهذا! يخبرها ألا تخاف وهي للتو قتلت أحدًا ودمائه لم تجف على كفها بعد!
_ أنا... هو..
حاولت قول جملة مفيدة لكنها فشلت، ليقترب منها يفعل ما يشعر بهِ الآن، ألا وهو عناقها... وبمعنى أدق احتوائها، وبالفعل طوقها بين ذراعيهِ، وفي خضم تشتتها تعلقت بشدة في أحضانه وهي تشهق ببكاء اندفع فجأه خارجة عن حالتها الصامتة، شدد من احتضانها وهو يهمس في أذنها بنبرته المألوفة لها:
_ اهدي يا ديجا.
شهقت شهقة قوية شعر فيها بخروج روحه معها لينحني مقبلاً رأسها يدعمها، فاستمع لها تقول بينما تدفن رأسها في صدره، وتخرج منها الكلمات بلا وعي:
_ هو.. هو الي كان هيأذيني.. هو السبب.. انا.. انا كنت بدافع عن حقي.. كنت بدافع عن نفسي يا مراد، انتَ قولتلي مسيبش حقي صح؟
حُبست انفاسه في صدره وهو يستمع لإسمه من بين شفتيها، لأول مرة تهتف باسمه وهي تعنيه، تقصده هو بشخصه، توجه حديثها ل "مراد" وليس ل "زين"، تحتمي ب"مراد"، تذكره بما قاله لها في الماضي حين أخبرها مرارًا ألا تترك أحد يؤذيها، ألا تتنازل عن حقها، كل هذا كان أكبر من أن يستوعبه قلبه دفعة واحدة، ناهيك عن وجودها بهذا القرب، بين أحضانه، رأسها تستند على قلبه تمامًا، حاول تجميع شتات نفسه للتخلص من ذلك الذي يبدو أن روحه قد فارقت جسده، وقال لها بمهاودة:
_صح يا حبيبتي، قومي معايا يلا.
انهى جملته وقد نهض بها عن الأرضية ولكن قدميها لا تحملها حرفيًا، فانحنى هو يضع ذراعه أسفل ركبتيها ورفعها بكل سهولة حاملاً إياها وكأنها فراشة، دلف بها للغرفة التي قابلته ووضعها فوق الفراش وهي مازالت ممسكة بهِ بشدة، لا تريده أن يتركها في خضم ذعرها هذا، وبصعوبة كان يسلت نفسه منها بعدما همس لها:
_ هرجعلك، خليكِ هنا متخافيش محدش يقدر يقربلك طول مانا هنا.
وطواعيةً كانت تتركه مُفلته يدها الممسكة بقميصه، لينسحب للخارج، واغمضت هي عيناها محاولة تخطي الصدمة او على الأحرى الهرب منها...!
وبالخارج وقف أمام الجثة بابتسامة متشفية، على أي حال إن لم تفعلها هي وتقتله لكان فعلها هو، والنتيجة واحدة، بل والآن الوضع بات أفضل وسيسهل له أمورًا كثيرة فيما بعد! اقترب من المثجي أمامه وانحنى هاتفًا بغضب عاد إليه في هذه اللحظة:
_ رحمتك مني بقتلها ليك... رغم إني مش طايقك بس مانكرش إنك هتفيدني كتير.
في ظرف دقائق كان قد طلب رجله الواقف بالأسفل ليأخذ الجثه ويتصرف بها كما يجب، والآخر قام بدوره باتقان حين لفَ الجثة في أحد الأفرشة واستطاع بحنكته واعتياده على مِثل هذه الأمور أن يخرج بها من البيت دون أن يلفت الانظار، وكانت السيارة قد اصطفها أمام الباب تمامًا، وبالأعلى...
بمهارة واتقان كان قد محى أي أثر للجريمة، حتى سكين الجريمة لفه في كيس بلاستيكي محكم الغلق ووضعها في ظهره بين حزام بنطاله وجسده، ودلف لها مرة أخرى..
ابتسم باتساع وقد رأى ما توقعه، لقد هربت للنوم كعادتها، مازالت كما هي تمامًا، لم يغيرها شيء، وهذا ما جعل ابتسامته تتسع وهو يشعر أن تلك العشر سنوات التي مرت في الحقيقة لم تمر، يشعر بهذا مع كل مرة يرى فيها لمحات من طفلته المفقودة، اقترب منها جالسًا أمامها فوق الفراش يتابع ملامحها بشغف، هذا أجمل منظر قد يراه بلا مبالغة، يكفيه أن تطل عيناه عليها، ولكنه الآن يطمع في المزيد، فما المانع من عناقها! أو التمدد بجوارها! ليس هناك مانع بناءً على معتقداته، لذا وبدون تردد كان ينوي فِعل ما أراده، ولكن ما إن تحرك حتى فتحت هي عيناها بذعر منتفضة من نومتها، كأنها رأت كابوسًا، أمسكها من ذراعيها وهو يهدأها:
_ اهدي يا ديجا، مفيش حاجة خلاص.
نظرت له تستنجد بهِ بنظراتها:
_ أنا قتلته.. مراد أنا قتلت واحد صح؟ أنا ازاي عملت كده!؟
وآهٍ من "مراد" التي تنطقها بكل أريحية هكذا، تجعله يذوب حين يسمعها، رغم تأذم الموقف، امسك كفيها بين كفيهِ مرددًا بهدوء تام وكأنها لم تقتل بشرًا للتو:
_ عشان ده الصح، عشان لو مكنتيش قتلتيه كان هيأذيكِ، مش هو كان جاي يقتلك؟
نفت برأسها بقوة وهي تخبره ببكاء بدأت بهِ مرة أخرى، ومن بين شهقاتها كانت تجيبه:
_ لأ، مكانش.. جاي يقتلني..هو..هو..
لم تستطع المواصلة لكنها احتضنت نفسها بذراعيها تلقائيًا فأوشت له بما تعرضت له، طحن أسنانه حتى كاد يكسرها محاولاً كبح لجام غضبه الحارق، زفر انفاسه بتروي كطريقة منه لتهدئة ذاته، قبل أن يقول مبتسمًا:
_ شوفتي يعني كان هيأذيكِ، وأنا قولتلك قبل كده اوعي تسيبي حقك واللي يأذيكِ قيراط أأذيه ٢٤ حتى لو كان ابوكِ نفسه..
اغمضت عيناها لتنهمر دموعها بغزارة تِباعًا، فمد أصابعه يزيلها بلطف بالغ، وقال بحدة طفيفة:
_ بطلي عياط يا ديجا، قولتلك أنتِ عملتي الصح، اهدي بقى ومتندميش إنك قتلتيه.
فتحت عيناها وكادت تتحدث له لكنها توقفت وهي ترى شبحها خلفه، اتسعت عيناها وهي تسمعها تقول بنظرات متشفية وابتسامة مقيتة:
_ قتلتيه يا خديجة! بقيتِ قاتلة زيك زيه!
وهذه المرة وهي بهذه الحالة لم تستطع تجاهلها، لتنطق بوهن مدافعة عن ذاتها:
_ كنت بحمي نفسي، انا مقتلتوش من غير سبب.
ظنها تحادثه فأجاب وهو يهز رأسه بتأكيد:
_ بالضبط يا حبيبتي، ده الي لازم تقنعي عقلك بيه.
_ برافو يا خديجة بقيتِ قاتلة زيه! دلوقتي بقى تقدري تسامحيه، كده كده بقيتوا شبه بعض.
فقدت أعصابها فهاجت وهي تهتف بها بصراخ:
_ قولتِلك كنت بدافع عن نفسي، أنتِ ليه دايمًا بتشيليني الذنب.. ليه بتحمليني ذنب حاجات مليش ذنب فيها!
انتبه الآن انها لا تنظر له! هي تنظر لشيء ما خلفه، التف للخلف ولم يجد أحد، فعاد إليها ليجد انظارها مثبتة على نقطة فارغة، لم يفهم ما بها، لكنه ارجع الأمر انها لربما فقدت اعصابها مما هي فيه، فاقترب منها يحدثها بحنو وهو يجذب وجهها تجاه لتنظر له وبالفعل فعلت:
_ ديجا، انتِ أعصابك تعبانة لازم تنامي تريحي شوية، اوك؟
اومأت برأسها بضعف، لتتسطح فوق الفراش المتهالك مرة أخرى، وجذب هو فوقها الغطاء وما كاد يبتعد حتى أمسكت كفه بذعر وهي تردد برجاء ظهر واضحًا في مقلتيها:
_ متسبنيش يا مراد.
جملتها هذه التي أحيت قلبه بلا مبالغة، وهل له أن يتركها أساسًا!؟ لكن أن تطلبها هي شعور مميز للغاية كان بحاجة إليهِ، وفي الوضع الطبيعي أي شخص آخر لكان اسند حديثها الآن لحالتها الغير طبيعية، فهي لا تشعر بما تقوله او بما تفعله، وخير دليل على هذا أنها تدعوه "مراد" بتلك الاريحية! ولكنه هو الأكثر دراية بهذه الحالة، حالة الذعر والخوف تلك هي الأصدق على الإطلاق، فكل ما تتفوه بهِ الآن لا يمر على عقلها، بل يخرج من خضم مشاعرها وقلبها للسانها مباشرةً، لذا فهي الأصدق! وربما هذا ما يسعده ويؤجج مشاعره بالراحة.
جلس جوارها ممسكًا بكفها بقوة وهو يخبرها بكل ثقة:
_ عمري في حياتي ما هسيبك يا ديجا، حتى لو أنتِ الي طلبتِ ده.
أغمضت عيناها براحة وكأنها التمست آمانها المفقود..
____________________
كان يسير في طرقات المستشفى متابعًا عمله قبل أن يتوقف فجأة وهو يراها تخرج من أحد الجوانب، عقد حاجبيهِ مستغربًا وجودها هنا، وهي لم تنتبه له فكادت تكمل سيرها للخارج إلا أنها توقفت حين استمعت لصوته يناديها، التفت له بملامح جامدة، استغربها، ولكنه ابتسم ابتسامة صغيرة وقد وقف أمامها مرددًا:
_ ايه ده بتعملي ايه هنا؟
اجابته بنفس ملامحه الواجمة:
_ كنت عند مريضة بزورها.
وبغرابة كان يعقب:
_ بس مقولتليش إنك جاية؟ بعدين مريضة قريبتك؟
لم يبدو أن مزاجها جيد، فاجابته بضيق:
_ معتقدش اني ملزمة اقولك!
استغرب هجومها ليخبرها بهدوء حذِر:
_ مقولتش إنك ملزمة! بس كنا بنتكلم الصبح ومقولتيش إنك جاية كنت قابلتك.
مسدت جبينها بكفها بتعب وهي تقول:
_ سوري يا باهر انا بس مش في المود، يلا باي.
انهت جملتها ناوية الذهاب لكنه شعر بأنها ليست على ما يرام فوقف أمامها بحذر كي لا يلامسها وهو يوقفها:
_ استني بس، أنا حاسس إنك مش كويسة.. مالك يا جاسمين؟
اخفضت نظرها للأرضية وقد ادمعت عيناها بشدة ولكنها تصنعت الابتسام وهي تخبره دون ان تنظر له:
_ مفيش حاجة، بقولك ايه لو فاضي تعالى اعزمك على الغدا.
رفعه حاجبه باستنكار وهو يدرك محاولتها للهرب من الحديث، وهو لم يرد الضغط عليها، فسار مع تيار حديثها وهو يخبرها ساخرًا:
_ أنتِ الي تعزميني؟
رفعت عيناها له وقد نجحت في محو دموعها اللامعة من مقلتيها وعادت بسمتها وهي تخبره:
_ جنتل بقى وكده! خلاص يلا اعزمني أنتَ، بس مترجعش تشتكي من الحساب.
ابتسم لها براحة:
_ ياستي اطلبي براحتك، هضيع مرتب الشهر ولا يهمك، هغير بس هدومي واجيلك.. معايا ساعة بريك عشان النهاردة هاخد النبطشية ل ١٠ بليل...
_ مش المفروض بتخلص ٦ المغرب!
_ لا ما الدكتور هيتأخر النهاردة لظروف خاصه فهستمر ل١٠، دقايق وهرجعلك.
اومأت برأسها وذهب هو بعيدًا ليغير ثيابه، بينما وقفت هي وقد طفرت الدموع في عيناها مرة أخرى، الأمر فوق طاقة تحملها لكنها تلتزم الصمود ليس لأجلها بل لأجل عائلتها.. والدها، ووالدتها، حتمًا سيتأذون بشدة إذا علموا مصابها، وهي لن تسمح أن يعيشوا اوقات عصيبة هكذا، يكفي هي ما تعيشه لمدة سنة وستة اشهر للآن!
___________________
فاقت بعد نصف ساعة فقط لتجد نفسها بمفردها، وفجأة ضرب بعقلها ماحدث، لتخرج مهرولة من الغرفة وهي تتوقع رؤية الجثة بالخارج لكنها توقفت محلها بصدمة وهي ترى الشقة كما كانت وكأن شيئًا لم يكن، حتى أنها شكت في كونها قد توهمت ما حدث، وقفت ضائعه ما بين التصديق وعدمه، هل كل ما رأته كابوسًا! أم خيالها المريض تدهور لهذا الحد؟ "زين" هو الفاصل بين الحقيقة والخيال، اتجهت لهاتفها فورًا تلتقطه من حقيبتها وهي تطلب رقمه، مع كل جرس يصدح في أذنها كانت اعصابها تُهلك، حتى اجاب أخيرًا:
_ زين!
قالت اسمه بهمس خائف، ليجيبها هو متفهمًا أن خوفها وترددها مما حدث:
_ متخافيش يا خديجة، أنا اتصرفت في الجثة ومحدش هيعرف حاجه عنها، ده سر هيدفن بيني وبينك متقلقيش...
هوت جالسة ارضًا وسقط الهاتف من يدها، واعصابها في حالة تشنج تام، دموعها هي ما تعبر عن شعورها، وهي تسمح همس "سارة" في أذنها وهي تكرر عليها:
_ بقيتِ قاتلة خديجة... بقيتِ مجرمة خلاص!
ظل الوضع هكذا لدقائق طويلة قبل أن تجهش في بكاء مرير وهي تردد بدون وعي:
_ مكانش قصدي.. مكانش قصدي..
________________
اغلق المكالمة معها وجلس يفكر في حالتها الآن، لابد أنها مذعورة، وفي حالة صدمة مما ارتكبته، ولربما أو بالتأكيد سيعود لها ذكريات الماضي، مسد وجهه بكفه بسأم من الوضع برِمته، وعقله يحدثه أنه استغل الأمر لصالحه، ولربما يُعد هذا تصرفًا أنانيًا، نهض مطفأً لفافة تبغه، ووقف أمام الشرفة بصدره العاري مرددًا بشرود بينما ينظر للخارج:
_ مكانش ينفع الموضوع يخلص غير كده، مكانش ينفع اضيع فرصة جاتلي على طبق من دهب زي دي، لو كنت بلغت الشرطة كانت هتخرج منها بسهولة وهيكون واضح أنها حالة دفاع عن النفس، بس أنا مكنتش هستفيد حاجة، لكن دلوقتي الي حصل هيقربنا من بعض...
تخيلها أمامه ليبتسم لها بيأس وهو يخبرها:
_ مكانش قدامي حل تاني، مسبتليش خيار تاني يا خديجة، أنتِ قافلة كل الطرق بينا.. دلوقتي هكون بالنسبالك بطلك الي انقذك من جريمة قتل واتستر على جريمتك معاكِ، وحتى بعد كده لما تعرفي إني مراد، مش هتقدري تتهميني إني قتلت اختك، لأن زي ماقتلتِ واحد عشان تدافعي عن نفسك وأنتِ مش قاصدة تقتليه، أنا كمان قتلتها عشان ادافع عنك... بس الفرق...
لمعت عيناه بنظرات غامضة، مليئة بالشر، وعيناه الخضراء الممزوجة بالرمادية حال لونها للأخضر الداكن المخيف، وهو يردد بابتسامة عابثة:
_ اني كنت كده كده هقتلها حتى لو موقعتكيش يومها...!!!!!!!
الفصل السابع والعشرين "حاسة سادسة!"
جالسة أمامه في ذلك المطعم الراقي الذي أتيا إليهِ لتناول الطعام, شحوبها وتبدل حالتها المزاجية على عكس المعتاد هو ما دفع فضوله للتحرك متسائلاً عن سبب حالتها هذه, ولعلَّ علاقتهما التي توطدت قليلاً في الفترة الأخيرة هي ما اعطته الجرأة لسؤالها عن ما أصابها, فلم يمنع لسانه من السؤال وهو يسألها:
- أنتِ كويسه؟ حاسس في حاجة قالبة مودك, وبعدين مش حاسس انك كنتِ في المستشفى بتزوري مريضة.
رفعت عيناها عن طبقها الذي كانت تعبث بهِ, ونظرت له لدقيقة تقريبًا بلا أي حديث, حتى أن نظرتها وترته, بدت شاردة بنظراتها لحظة وتفكر لحظة أخرى, ولا يعلم أكان سؤاله يستحق كل هذا التفكير؟ كاد يسحب سؤاله شاعرًا بتسرعه في طرحه, علّها لا تريد إخباره, فلِمَ تطفل لهذا الحد؟! لكنها اوقفته وهي تقول بنبرة هادئة تمامًا وكأنها لا تلقي على مسامعه خبر فاجع الآن!
- أنا عندي الحاسة السادسة.
نظر لها لثواني وكأنه يستشف إن كانت تمزح أم تتكلم بجدية! وصمود ملامحها وثبات نظراتها أكدت له أنها لا تمزح, ولكن لِمَ يجعلها هذا واجمة لهذا الحد؟! استند بمرفقيهِ على الطاولة أمامها وهو يعقب باستغراب:
- لو بتتكلمي جد, ليه مضايقة! دول بيقولوا الحاسة السادسة دي هبة من ربنا!
هزت رأسها باستنكار وهي تخفض عيناها لوهلة تستعيد ثباتها, قبل أن ترفع رأسها له وهي تخبره بنبرة بدت سخريتها:
- دي لو زي مانتَ فاهم, قولي تسمع ايه عنها؟
تنحنح واعتدل في جلسته حين وصلت إليهِ سخريتها التي شعر بأنها تخفي ألمًا ما خلفها, فتحدث بجدية أكثر وهو يخبرها:
- الموضوع له علاقة بالطب النفسي أكتر, بس أنا سمعت عنه أيام الكلية, هي ممكن تبدو للبعض خرافة, لكن هي واقع بيحصل مع بعض الناس, وهي انهم بيشوفوا الحاجة قبل ما تحصل, أو بيحسوا بيها, تنبؤ يعني سواء كان بدليل زي حلم أو رساله من اشخاص مجهولة, أو من غير دليل زي مجرد إحساس, والموضوع كان غريب بالنسبالي لدرجة إني بحثت عنه وقتها وحبيت اعرف رأي الدين فيه كمان, وعرفت انه هبة من ربنا, ومش حرام مادام الانسان مسعاش ليها زي حوار الروحانيات والكلام ده, وحصلت مع واحد صاحبي مرة, حلم ان اخته حامل رغم ان الدكاترة اكدوا أنها مستحيل تخلف, وفعلاً بعد يومين عرفوا انها حامل وكانت معجزة وقتها, فعشان كده مستغرب ضيقك للدرجادي.
لم تعقب على استغرابه وهي تخبره بابتسامة مُرهقة:
- أنا مكنتش بزور مريض في المستشفى, أنا كنت بزور ميت في المشرحة.
عقد ما بين حاجبيهِ باندهاش وهو يسألها:
- قريبك؟
التواء ساخر ظهرَ من جانب فمها وهي تجيبه:
- ولا عمري قابلته تخيل!
بدى الأمر محيرًا لهُ, وبدت هناك الغاز حول الأمر, فتعاظم اهتمامه وهو يخبرها بجهل:
- مش فاهم.
اغمضت عيناها تتنفس باختناق, محاولة الهدوء, الذي لم يأتي لها, بل بالعكس فقد انتابتها رغبة عارمة في البكاء, ولم تستطع كبحها, فكانت بدايتها شهقة فاجأته وبعدها رأى سيل من الدموع يغطي وجنتيها قبل أن ترفع كفيها لتحجب عنه رؤية وجهها بأكمله منتحبه في صوتٍ منخفضٍ, اربكه بكائها ولم يعرف ما عليهِ فعله, سوى أنه حاول تهدئتها ببعض الكلمات الواهية, وهو يتململ في جلسته بغير راحة وكأنه يمنع ذاته من النهوض ومواساتها بالطريقة التي تناسب الموقف.
- ممكن تهدي طيب, وأيًا كانت مشكلتك اكيد لها حل, وانا هساعدك تلاقي الحل ده, بس اهدي وفهميني.
وهل ستتحكم في بكائها من بضع كلمات؟ أخذ الأمر منها دقائق تحت نظراته الحزينة عليها وعجزه عن تهدئتها, حتى أزالت كفيها أخيرًا وهي تمسح دموعها جيدًا كأنه لا يعرف أنها كانت تبكي! التقطت أنفاسها وهي تتجنب النظر إليهِ, فنظرت لكفيها اللذان تفكرهما بتوتر, وهي تسرد على مسامعه قصتها التي اكتشفت أنها مأساوية قبل ساعات قليلة:
- من لما كان عندي 15 سنة وأنا بحلم بأحلام غريبة, ناس معرفهمش ولا عمري شوفتهم بشوفهم في حلمي بيحصلهم حوادث وحشة, ولأني معرفهمش مهتمتش, وعمري ما فكرت ابحث عن الموضوع او اشغل دماغي بيه, كنت بعتبرها مجرد كوابيس ملزماني, ورغم انها كانت بترهقني لكني اتعودت عليها مؤخرًا من كتر ما بقت تزورني, يمكن مبشوفهاش بشكل يومي, بس غالبًا مبيعديش شهر من غير ما احلم بكابوس منهم, واوقات كنت بحلم بيهم مرتين في الأسبوع, كل ده كان عادي, وممكن يحصل لناس كتير, لحد اول امبارح...
التقطت أنفاسها مرة أخرى, قبل أن تطفو الدموع في مقلتيها, وبدأ كفيها في الارتعاش وهي ترفع نظرها له مُكمله بشفاه مهزوزة:
- من كام يوم حلمت بشخص عمري ما شوفته بيعدي الطريق وبتخبطه عربية وبيموت, حلمت بكل تفاصيل الحادثة لحد ماتنقل للمستشفى والدكاتره قاله انه كويس ومات بعدها فجأة, وكالعادة مهتمتش للحلم, رغمه انه دايمًا بيكون في ترتيب احداث غريب, والاغرب اني بفتكره, بفتكره بكل تفصيله فيه, اول امبارح كنت رايحة النادي, وانا في الطريق العربية الي جنبي خبطت واحد كان بيعدي فجأة, وقفت طبعًا ونزلت اشوف حصله ايه, ووقتها اتفاجأت بانه نفس الشخص الي شوفته في حلمي, رجلي خدتني وراه لحد المستشفى.. كل الي شوفته في حلمي حصل بالضبط, حتى والدته الي شوفتها في الحلم جت وانا في المستشفى, الدكتور بعد شويه قال انه كويس مجرد رضوض وكدمات وكسر في رجله مش اكتر, مشيت وانا مرعوبة, لأني شوفت ده في حلمي, وشوفت بعدها والدكتور واقف جنبه والممرضة بتقوله "ازاي مات يا دكتور ده حالته كانت كويسة" عشان كده اترعبت لده كمان يتحقق, سِبت رقمي لموظفة الاستقبال وقولتلها انه قريبي وتبقى تبلغني لو حصل حاجة..
سقطت دموعها ولم تخفيها هذه المرة, بل انتحبت بقوة وهي تكمل سرد باقي قصتها من بين شهقاتها وقد تفاعلت يدها مع سردها للأحداث:
- كلمتني من شوية ... وقالتلي انه مات, حسيت اني اتشليت لما عرفت الخبر, فضلت شوية مش مستوعبة الي بيحصل, وبعدها جريت... على المستشفى, وسمعت نفس الجملة والدكتور والممرضة واقفين قدام المشرحة... عشان يسلموا جثته لأهله, سألت الدكتور عن سبب الوفاة, قالي مفيش سبب واضح, بس اشتباه في وجود نزيف داخلي مظهرش في الاشاعات, خرجت من هناك وانا مش شايفة قدامي ومش فاهمة تفسير للي بيحصل... سألت عن دكتور نفسي ودلوني على دكتور... كان في جلسه مع مريض, استأذنت وقاطعت جلسته وحكيتله الي حصلي, وهو الي قالي عن الحاسة السادسة.. او الي بيسموها في الطب النفسي الحدس, وقالي ان ممكن كل الي شوفته قبل كده.. اتحقق هو كمان بس انا معرفتش..
التقط كوب ماء يناوله لها وهو يحدثها بشفقة:
- اهدي يا جاسمين, خدي نفسك واشربي, حالتك دي غلط وممكن تدخلك في مشاكل نفسية سيئة.
التقطت منه الكوب بكف مرتعش, وشهقاتها لم تهدأ بعد, ارتشفت القليل منه, ووضعته جانبًا وهي تكمل حديثها بعدم تصديق بدأ يعود لها مرة أخرى:
- أنتَ متخيل أنا شوفت كام واحد بيموت, طيب سيبك من دي, تخيل شوفت كام واحد بيتقتل وكان ممكن الحقه بس بغبائي اتجاهلت الموضوع.
عقد ما بين حاجبيهِ بغرابة وهو يسألها:
- أنتِ تعرفي أماكنهم؟
هزت رأسها نافيًة, وهي تمسح دموعها بكفها, ليبتسم على تفكيرها المضطرب وهو يخبرها:
- كنتِ هتنقذيهم ازاي؟
رفعت منكبيها بجهل وهي تجيبه:
- مش عارفة بس حاسة إن كان المفروض اعمل حاجة, وخايفة اوي ان اشوف الي بحلم بيهم من هنا ورايح, هيبقى الموضوع صعب اوي عليَّا.
حاول ممازحتها ليصرف تفكيرها عن الأمر كارهًا رؤيتها في هذا الحزن, فقال بفكاهة زائفة أدركتها هي لكنها قررت تخطيها ومجاراته, ربما لأنها كرهت أن تبدو في موقفها هذا الذي يظهر ضعفها أكثر:
- تفائلي خير ان شاء الله ده مش هيحصل, وبعدين متركزيش مع الموضوع عشان متتعبيش, ويلا بقى أكل لاحسن خلاص بطني بتصوت وذنبها في رقبتك.
هزت رأسها له بابتسامة باهتة دون حديث آخر, ولكن عقلها لم يتوقف عن التفكير في الأمر رغم محاولاته لصرف ذهنها عنه.
----------------------
في عصر اليوم التالي...
كان عليها أن تذهب لعملها رغم كل شيء, ليلة أمس كانت من أسوء الليالي التي مرت عليها بعد ليلة مقتل "سارة", وربما تأتي هي في الصدارة من حيث الأكثر سوءً, فعلى الأقل هي لم تقتل سارة فعليًا, هي فقط شاركت في قتلها, بالصمت والتستر, ولكن هذه المرة هي قتلت فعليًا, وربما وقتها كانت أصغر سنًا وإدراكًا للموقف, لكن ما حدث بالأمس مختلفًا تمامًا, لا تعلم كيف مرَ عليها الليل, ولا تعرف متى ارتدت ثيابها وأتت للعيادة تباشر عملها, رفعت هاتفها لترى رقمه يزين شاشته للمرة التي لم تحسبها, فهو يهاتفها منذُ أمس, وهي لا تجيبه, ليست مستعدة لمواجهة الشخص الذي شهد على جريمتها ولا تعلم كيف جاء لمنزلها ولم تهتم بمعرفة السبب حتى, خرجت من شرودها على صوت الطبيب بجوارها وهو يقول:
- ايه يا خديجة لسه قاعده ليه؟
نهضت وهي تجيبه بتوتر:
- لا مفيش, هلم حاجتي اهو.
طالعها بتفحص ثاقب وهو يسألها:
- أنتِ كويسه؟
فتحت فاهه ناوية اخباره بما حدث وقد شعرت برغبتها بهذا, ولكنها تراجعت في آخر لحظة مستشعره خطورة الأمر فقالت:
- لا, أنا كويسه.
هز "كمال" رأسه يائسًا منها وهو يذكرها بحديثه محذرًا:
- خديجة, افتكري إني قولتلك الكدب مش هيوصلك لحاجة, ومش هيحل الأزمة, بالعكس هيعقدها, وانا دكتورك يعني مينفعش تخبي عليَّ او تكدبي.
وحديثه أفاقها بالفعل, وأشعرها بخطئها الذي ترتكبه لثاني مرة, فقالت بتنهيدة حائرة:
- أنا مش كويسه, وفي حاجة حصلت معايا بس... مش جاهزه اقولها دلوقتي.
ابتسم لها بهدوء وقد سعد بنجاح حديثه معها:
- خدي وقتك, وانا مستنيكي تيجي تحكيلي, يلا قفلي العيادة وامشي.
اومأت موافقة وهي تتابع ذهابه بتفكير, هل عليها أن تخبره وتطلب مساعدته لتخطي الواقعة؟ وهل يستطع مساعدتها بالفعل؟ أسيعيد قتيلها للحياة! أم سيخفف شعورها بالذنب؟ جلست خلف المكتب ووضعت وجهها بين كفيها بتعب وعقلها يكاد ينفجر من الحيرة والتفكير...والتشتت.
-------------------------
مساءً....
لم تأتي للمطعم اليوم ولا تجيب على هاتفه, لكنه علمَ بذهابها للعيادة, إذًا لِمَ لا تجيب اتصالاته ولم تأتي للعمل بالمطعم؟ أم أنها تقصد التهرب منهُ؟ لِمَ؟ أليس من المفترض أن يكون اقرب لها بعد ما حدث بالأمس؟ أم أتى بنتيجة عكسية؟ لكنه على أي حال لن يسمح لها بالبعد, ولن يسمح بوقوع النتيجة العكسية, زفر أنفاسه باختناق بعدما تعالى رنين هاتفه مرة أخرى برقم "طارق", تجاهله لأول مرة لعدم رغبته في الحديث مع أحد الآن وهو بهذه الحالة العصبية, لكنه لم يستطع تجاهله للمرة الثانية, واجابه بضيق ظهر في نبرته:
- خير؟
أتاه الرد على الجهة الأخرى, ليستمع له بهدوء زائف قبل أن يهتف معقبًا بعصبية:
- يعني محصلش كارثة ولا الدنيا اتهدت! انت عارف اني مبحبش الزن, جرالك ايه يا طارق؟ رنيت مرة مردتش خلِصنا.
- أنا أسف يا باشا والله أنا بس...
لم يدعه يكمل حديثه ليغلق المكالمة والقى بالهاتف فوق الفراش بعصبية, واتجه لجزئه الخاص بمشروبه المفضل, تناول أحد الكؤوس الفارغة وصبَ فيهِ بعض المشروب من الزجاجة ذات المظهر الفاخر, رفع الكأس ليتناوله دفعة واحدة قبل أن يضعه مرة أخرى وهو يغمغم بأنفاس حارقة:
- ماشي يا خديجة... اما اشوف اخرتها معاكِ.
اتجه لمفاتيح سيارته وباقي اغراضه يجمعهم على عجاله قبل أن يتجه للخارج بخطوات مسرعة قاصدًا وجهه معينة..
------------------------
حاولت أن تبدو طبيعية وهي تستقبل ابنة عمتها التي جاءت في الموعد المحدد كما اتفقا سلفًا, وانقضت الجلسة على خير لحدًا ما رغم شعور "باهر" بشيء ما ليس جيد بها, "باهر" الذي تفاجئ من الشقة القاطنة بها ومدى تدهور حالتها, لم يعلق على ما رآه أمامهم رغم ظهور هذا جليًا على صفحة وجهه, والتقطته "خديجة" بسهولة لكنها اصطنعت عدم الملاحظة, حتى انقضت الجلسة أخيرًا, وما كادت تلتقط أنفاسها براحة, حتى حُبست تلك الأنفاس وهي تسمع لصوت "باهر" يحدثها بوعيد خفي:
- خديجة تعالي وصليني لتحت عشان تقوليلي اخرج منين.
هزت رأسها طواعية مجبرة, وهي تقوده بخطواتها للأسفل, وتستعد بداخلها للمواجهة التي لم تكن بعيدة أبدًا, فبمجرد وصولهما لمدخل البيت, حتى اوقفها بحديثه:
- مكنتش اعرف انك كدابة هايلة كده.
رفعت رأسها بتعب وهي تلتف له, حقًا ليست حِمل أي عتاب أو لوم, ففيها ما يكفيها ويفيض, تحدثت بهدوء تحاول شرح الوضع له:
- باهر, الي أنتَ شوفته ده مكانش ينفع احكي عنه لأي حد مهما كان مين, أنا أبويا الله يرحمه, في عز ماكنا بنبقى محتاجين عمره ما اشتكى ولا بين حاجته لحد, حتى لاخوه, وانا طلعاله في الموضوع ده, مقدرش ابين حاجتي لحد ويعطف عليًّ.
اغاظته بحديثها فانفعل عليها وهو يشيح بيده في غضب:
- أنتِ عبيطة يا به؟ عطف ايه وزفت ايه! انا ابن عمك, يعني مش واحد غريب عشان اعطف عليكِ, ده حقك عليَّ إنك لما تكوني في ضيقة أكون جنبك, اومال اسمنا قرايب ازاي؟ ولا هي القرابة عندك لها مفهوم تاني!
مسدت جبينها بتعب واضح وهي تخبره بمهاودة:
- أنتَ صح, عمومًا خلاص أنا دلوقتي فعلاً معايا فلوس ودخلي زاد, تعال بعد شهر وشوف الشقة دي هتبقى مليانة عفش ازاي.
رفع جانب فمه ساخرًا وهو يعقب:
- مش هستنى شهر يا حلوة, بكرة الصبح هتيجي معايا نشتري عفش للبيت بدل الكراكيب الي عندك دي.
رفعت حاجبها برفض تام وهي تقول:
- لا طبعًا, بعدين كراكيب ايه! انا العفش الي عندي حلو, هو بس ناقص شوية.
اشمئز بملامحه وهو يسخر منها:
- عفش! هو فين العفش ده عشان مشفتوش.
لم تهتم لسخريته وهي تخبره بضيق:
- باهر, مفيش داعي تتعب نفسك, أنا هدبر اموري.
- بس يا به.
اردف بها متحركًا وهو ينوي الذهاب ليغضبها عدم اهتمامه لحديثها فأمسكت ذراعه توقفه لتخبره بإصرارها على رفضها لتدخله, لكنها توقفت وهي تستمع لصوت مألوف يقول:
- مساء الخير.
شخصت ببصرها تجاه الصوت لتجده واقفًا أمام مدخل البيت, وعيناه ليست معها, بل هي مثبته تمامًا فوق كفها الممسك بذراع "باهر", وكرد فعل تلقائي كانت تفلت ذراعه من قبضتها وهي تهمس بقلق من ظهوره في هذا الوقت بعد أن تعمدت تجاهل مكالماته:
- زين!
_______________
قبعت بين أحضانه براحة وسعادة فهي لا تصدق أنها تراه مرتان في نفس الأسبوع، تمرمغت في أحضانه أكثر كقطة لطيفة تأخذ حنانًا من صاحبها، ليضع لفافة تبغه جانبًا وهو يضحك بخفوت على تصرفتها مردفًا:
_ ايه يا جوجو أنتِ وخداكِ العاطفة ولا ايه؟
رفعت رأسها وهي مازالت على صدره تسأله برفعة حاجب:
_ عندك مانع؟
رفع كفه مستسلمًا يخبرها:
_ ابدًا يا كبير، بالعكس ياريت اوحشك كده على طول.
اعتدلت في جلستها وهي تنظر له بأعين تنضح عشقًا مردفة بصدق:
_ أنتَ بتوحشني و أنتَ معايا، عشان ببقى عارفه انك هتغيب عن عيني فترة بعدها.
رفع كفه يمسد خصلاتها وهو يقول مبتسمًا:
_ كله هيتحل يا روحي، ياما دقت على الراس طبول يا جوجو مالك كده!
امسكت كفه بين كفها وهي تخبره بنظرة حزينة:
_ المره دي أنتَ معايا والبعد تاعبني، وخايفة.. خايفة اوي ليحصل حاجه ويكتشفوا الي بينا.
اعتدل في جلسته وجذبها لأحضانه يطوقها بحنو، بينما قبل رأس وهو يخبرها بنبرته التي تبعث السكينة لنفسها الثائرة:
_ هاجر خلي عندك إيمان أننا مش هنفترق ابدًا، وخليكِ واثقة ان حبنا اقوى من أي وحش ممكن نقابله.
اغمضت عيناها وابتسمت بحالمية وهي تقول:
_ _ نفسي يكون عندي بيبي منك، امتى هنقدر نعيش حياتنا زي الناس بجد.
ضمها لصدره أكثر وهو يقول بتنهيدة حملت الكثير:
_ احنا الي اختارنا يا هاجر، ده كان اختيارنا من البداية، والغلط مش في اختيارنا، الغلط في حبنا لبعض وأنتِ عارفة ده، مكانش لازم نحب بعض للدرجادي، مكانش لازم تبقى العلاقة دي بينا أصلا!
أغمضت عيناها بتألم، وهي توقن واقعية حديثه وهمست:
_ عارفة..!!!
شدد عليها بين أحضانه وهو يخبرها بنبرة عاشقة بهذه المرأة منذُ أن وقع نظره عليها من عامان:
_ انا بحبك ياهاجر وعمري ماحبيت ولا هحب غيرك، وواثق اننا هنحقق كل الي بنحلم بيه في يوم.
شعر بابتسامة ثغرها الملاصق لصدره قبل أن يسمع صوتها المتأثر بدفئ مشاعرها:
_ وانا بعشقك يا طارق..
#يتبع
الفصل الثامن والعشرين "دروب العشق"
"عذرًا يا سيدتي فالعاشق غير مُلام"
لم يعتاد يومًا التحكم في ذاته كما يفعل الآن، لو كان الأمر مختلفًا، لاختلف رد فعله أيضًا، لو فقط كانت تعلم بهويته وأحقيته بها لآراها الآن كيف تضع يدها على جسد آخر، ضم قبضته بقوة مخفيًا إياها وراء ظهره يحاول اخراج غضبه بتلك القبضه، او ربما هي وسيلة ليتحكم في ذلك الغضب كي لا يظهر أمامهم الآن، ابتسم بالكاد وهو يهتف بنبرة هادئة كالصقيع:
_ مساء الخير.
شخصت ببصرها تجاه الصوت لتجده واقفًا أمام مدخل البيت, وعيناه ليست معها, بل هي مثبته تمامًا فوق كفها الممسك بذراع "باهر", وكرد فعل تلقائي كانت تفلت ذراعه من قبضتها وهي تهمس بقلق من ظهوره في هذا الوقت بعد أن تعمدت تجاهل مكالماته:
- زين!
قطب "باهر" حاجبيهِ جهلاً بهوية من يقف أمامه، خاصًة وأنها تعرفه! فقد استمع لهمسها جيدًا، ليتحرك لسانه يسأله وهو يقترب منه خطوتان:
_ مساء النور، مين حضرتك؟
أو له الحق في التساؤل عنه؟؟ ايقربها لهذه الدرجة؟ ولِمَ لا وقد كانت تتمسك بذراعه منذُ ثواني! ضغط على نواجزه بغضب يعصف بصدره قبل أن يجيب الواقف أمامه:
_ أنا زين، زميل الآنسة خديجة في الشغل.
ازدادة تقطيبة حاجبيهِ وهو يسأله باستغراب أكثر:
_ ايوه وزميلها تجيلها البيت ليه؟
هنا ولم يستطع التحكم في ذاته أكثر، هل كان ولي أمرها ليقف أمامه يستجوبه بهذا الشكل؟ فاطلق العنان لذاته وهو يردف بنبرة هادئة تسبق عاصفة غضبه:
_ وحضرتك مين عشان تسأل!؟
ما هذا التبجح؟ هذا اول شيء جاء لعقله من رد هذا الغريب الذي استفزه بشدة، وما كاد يجيبه بحدة، حتى تدخلت "خديجة" تنهي سوء الفِهم بينهما حين شعرت بقرب تعقد الأمر:
_ ده باهر ابن عمي، وده زين زميلي في الشغل زي ما قالك يا باهر.
باهر! ليته لم يعرف هويته لكان أرحم مما شعر بهِ الآن، أهذا الذي كانت تحدثه وهي تضحك وتدلله ب "بهبوري" كما دعته حينها! أهذا هو ذلك السِمج الذي تمنى لو يقابله فيخنقه بيده جراء علاقته الغير ملتزمه بأي حدود مع فتاته! تفاقم غضبه، وازداد حنقه حيال الواقف أمامه، لقد كانت تمسك بذراعه منذُ قليل، ويترجل من شقتها، غير طريقتها مع في الهاتف، كل هذا جعله يشك في علاقتهما، هل يمكن أن تكن علاقة من نوع خاص! لقد سمع عن هذا الباهر منذُ عرِفَ بمكانها، وسمعَ عن علاقته بها، ولكن وعلى أي حال، ومهما كانت شكل علاقتهما فلا يهمه، فالحقيقة هو من سيحدد شكل هذه العلاقة لا أحد غيره، هو من سيضع الحدود التي نسيا أن يضعها، فليتركوا له هذه المهمة بكل رحب وسعة، استمع لصوت باهر وهو يتسائل بفظاظة:
_ ايوه حضرتك ماجاوبتنيش، جايلها البيت ليه؟
_ اعتقد هي عارفة.
قالها بعبث وهو يوجه نظراته لتلك التي انتفضت ذعرًا وقد أدركت مقصده تمامًا، فاسرعت تنهي اللقاء وهي تدفع بجسد "باهر" للأمام وهي تخبره:
_ يلا يا باهر هتتأخر، مش قولت عندك شغل.
حاول التوقف والتحرر من دفعها له وهو يقول بنزق:
- مش لما اعرف عاوز ايه الأول، في ايه يا خديجة اصبري يا بنتي!
تنحى "مراد" جانبًا وهو يبتسم بتشفي والأخرى تدفعه خارج مدخل المنزل بهذا الشكل، ولكنه لم يفته كفها الذي يدفع ظهر الآخر، فأمسك برسغها يوقفها وهو يهمس بصوت وصل لمسامعها هي فقط:
_ هو عارف طريق الباب.
وترك رسغها محذرًا إياها بعيناه من التمادي، اتسعت عيناها ذهولاً وهي ترى جرأته ليلمسها بهذا الشكل، لكنها فاقت من صدمتها على صوت "باهر" الذي أصبح خارج المنزل الآن وهو يقول بعدم رضا:
_ خديجة انا مش ماشي غير لما اعرف بيعمل ايه هنا ده، بعدين ازاي اسيبك معاه وامشي أنتِ اتجننتِ!
_ جن اما يلغلطك.
همس بها "مراد" بداخله ناقمًا على هذا السِمج سليط اللسان، ورفع صوته تاليًا يخبره بابتسامة بدت مُهذبه:
_ استاذ بهير، مفيش داعي للقلق ده، انا بس هبلغها حاجه عن الشغل وامشي، اتفضل أنتَ عشان متطعطلش.
_بهير!
رددها "باهر" بضيق وهو ينظر له وقد بدأ غضبه يتصاعد تجاه هذا الشخص ذو الابتسامة المستفزة، وأردف بنبرة ضائقة:
_ باهر يا استاذ اسمك ايه أنتَ، ثم مين قالك همشي واسيبها معاك؟
_ زين، شكلك بتنسى باين، معلش معذور باين انك دخلت في التلاتين تقريبًا! وفي ناس بتجيلها الاعراض دي في السن ده.
رغم كلماته التي تصرخ بالاستفزاز والوقاحة، إلا أن ملامحه الهادئة ونبرته الأهدأ وبسمته المزينة لثغره توهمك بأنه لا يقصد إهانه! ولكن "باهر" لم يستطع التحكم في غضبه من كلماته المستفزة، وما كاد يدفع "خديجة" دالفًا للداخل مرة أخرى يواجه المستفز بارد الأعصاب حتى سبقته "خديجة" وهي تخبره بهمس:
_ يا باهر عشان خاطري امشي، والله ماتقلق هو بس هيعرفني حاجه عن الشغل ويمشي.
رفع صوته وهو يهدر بها:
_ بطلي تقولي امشي، أنتِ شيفاني بقرون؟ والله ما همشي غير لما يمشي الأول.
وقفت حائرة بينهما، تعلم أن "زين" أتى ليتحدث معها في أمر جريمتهما، ولا يجب التحدث أمام "باهر" على أي حال، لذا عادت بنظرها ل "زين" الذي رفع حاجبيهِ إليها بعبث وهو يخبرها بمكر:
_ خليه عادي.
رفعت حاجبها الأيسر له بنزق، وتوعدته بسرها وهي تعود بنظرها ل "باهر" وتخبره بترجي:
_ خلاص هنتكلم وانت واقف، بس ممكن نتكلم بعيد شويه، اصل.. اصله هو غشيم شويه في كلامه واخاف يقولي حاجه كده ولا كده تمسكوا في بعض وانتوا اصلاً شكلكوا مش طايقين بعض.
_ وهو يكلمك وحش ليه؟ غشيم على نفسه.
_ ماهو اصل انا بقالي يومين مروحتش الشغل وهو رئيسي في الشغل.
_ هو زميلك ولا رئيسك ولا ايه مبقتش فاهمكوا.
رددها "باهر" ساخرًا، لتبتلع ريقها بتوتر وهي تجيبه كاذبة:
_ لا، هو زميلي اه، بس اقدم مني وكده فيعتبر مسؤول عن شغلي.
طالعها بضيق لثواني رافضًا رغبتها، ولكنه اسفل رغبتها الملحة وترجيها الظاهر في عينيها كان يقول:
_ ماشي، خمس دقايق مش اكتر وانا واقف اهو.
اومأت برأسها موافقة بلهفة، وهي تلتف متجهة ل "مراد" الذي نظر ل "باهر" الذي اتخذ باب المدخل مسندًا له وهو يعقد ذراعيهِ أمام صدره معبرًا عن عدم تحركه انشًا واحدًا، ليرفع جانب فمه ساخرًا واشاح بنظره عنه مثبتًا اياه على "خديجة" الواقفة أمامه ليبتسم لها بغضب دون حديث، فباشرت هي وهي تسأله:
_ أنتَ جاي ليه؟
التمعت عيناه بالغضب وهو يسألها:
_ وأنتِ مبترديش على مكالماتي ليه؟
اتسعت عيناها من جرأته الغريبة عليها لتهتف بنزق:
_ وأنا مش مجبرة ارد! افرض مش عاوزه ارد أنا حرة، بس ده ميخلكش تجيلي البيت!
_ قلقت عليكِ، خصوصًا إنك مجتيش الشغل، خوفت تكوني تعبتي بعد الي حصل وقولت لازم اجي اطمن عليكِ.
قال ما قاله برفق جعل غضبها يتبخر بلحظات، بل واصابها التوتر الذي اشعل وجنتيها بالحمرة، وهي ترى نظراته الخاصة التي تشعرها وكأنها شيئًا مهمًا له، فاخفضت نظرها عنه وهي تسأله خجِله:
_ خوفت عليَّ ليه؟
أتته فرصته على طبق من ذهب، وهو خير من يستغل الفرص، فلم يتوانى عن استغلال هذه الفرصة وهو يخبرها بصدق ونبرة اذابتها:
_ عشان في مشاعر جوايا ليكِ بتكبر كل يوم عن التاني، مسألتيش نفسك ليه مهتم بيكِ كده؟ ليه غضبت يوم ماعرفت ان الحيوان الي مات اتعرضلك؟ ولا ليه ساعدتك تخلصي منه؟ محدش هيعمل كل ده من فراغ يا خديجة، انا عملت كل ده عشان مشاعري الي بتحركني ليكِ، خوفي عليكِ هو الي خلاني مستعد حتى اشيل جريمته بس أنتِ متتأذيش.
رفعت نظرها له بوجهها المشتعل بالحُمرة، تشعر بحرارة قاتلة تغزو كل شبر في جسدها، لم تتعرض لموقف كهذا من قبل، قضمت شفتيها بتوتر وهي تعدل حجابها، لا تدرك ما يجب عليها قوله في هذا الموقف، وادرك هو حيرتها وخجلها، فابتسم بهدوء مقررًا رحم خجلها:
_ على فكره انا كنت عاوز اعترفلك من فترة بس مجاتش مناسبة.
تلفت حوله ليطالع المكان ساخرًا ثم قال باستنكار جعلها تضحك بخفة:
_ فملقتش انسب من بير السلم عشان اعترفلك فيه.
تنحنحت بارتباك وهي تسأله متحاشية النظر له:
_ بس.. يعني اكيد مكنتش بترن عليا وجاي هنا عشان كده.
رفع منكبيهِ وهو يجيبها:
_ قولتلك كنت جاي اطمن عليكِ.
_ مش هنخلص بقى ولا ايه؟
هدر بها "باهر" بضيق من طول مدة حديثهما، ليناظره "مراد" بتحدي قبل أن يتجه إليه يقف أمامه وجهًا لوجه وهو يخبره بتحدي وابتسامته المستفزة عادت لتزين ثغره:
_ استاذ باهر، انا عارف ان المكان مش مناسب، بس انا حابب اخد ميعاد عشان اتقدم للانسة خديجة.
شهقة منخفضة صدرت منها وهي تضع كفها فوق فمها غير مصدقة لعرضه الذي ظهر الآن فجأة! متى اعترف بمشاعره تجاهها ومتى طلب زواجها؟؟!
----------------
بعد ثلاث ساعات ...
في ميناء الاسكندرية تراصت السفن الحاملة للصناديق الضخمة التي تخص الشحنة الجديدة لهم، اقترب "مراد" وهو يدخن سيجاره بكبرياء شامخ، تحرك بخطواته الثابته حتى وقف أمام من نزل من السفينة، كان رجلاً يرتدي بدلة وقبعة كلاسيكية، يبدو عليه الترف، اقترب من "مراد" وهو يهتف بلكنة ايطالية:
_ مرحبا سنيور ابرام.
هز "مراد" رأسه بهدوء وهو يجيب تحيته:
_ مرحبا سنيور ماركوس، هل كل شيء جاهز؟
اومئ "ماركوس" وهو يخبره بهدوء:
_ نعم، هل المال جاهز؟
_ وهل تسألني حقًا؟ وكأنك تتعامل معي للمرة الأولى!
اردف بها "مراد" ساخرًا، ليتنحنح "ماركوس" مجيبًا:
_ عذرًا، ولكن أتيت لأسلم الشحنة لسنيور فكتوار ولست أنتَ.
كاد أن يجيبه لينتبه لسيارتان يأتيان خلفا بعضهما، فالتوى فمه ساخرًا وهو يقول:
_ ها قد وصلَ.
وبالفعل توقفت السيارة ليترجل منها "دياب" ورِجاله ومن ضمنهما "هاجر" التي ألقتهما بنظرة غاضبة، قبل أن تتبعه، اقترب "دياب" منهم ليهتف بنبرة غاضبة موجهًا حديثه ل"مراد":
_ أنتَ ايه الي جابك هنا؟
التفت له يحدقه بنظرته القاتمة وهو يجيبه:
_ نفس الي جاب جنابك.
_ هو الباشا من امتى بيجمعكم في مهمة واحدة!؟
أدرفت بها "هاجر" ساخرة، ليلقيها "مراد" بنظرة متهكمة قائلاً:
_ ابقي روحي اسأليه، بعدين ما تعلم رجالتك ميتكلموش في وجودك، ولا أنتَ قائد على ماتفرج!
ضغط "دياب" على أسنانه غاضبًا، وهكذا فعلت "هاجر" الذي شعرت بالغضب من اسلوبه المتهكم معها ونعته لفظ "رجال" عليها، ونظرت ل" طارق" الواقف خلفه بنظرة غاضبة، فحرك الآخر عينيهِ بعيدًا عنها غاضبًا من الموقف برِمته.
صدح صوت "مراد" يحدث "ماركوس" :
_ انا المسؤول عن اتمام الشحنة سنيور ماركوس، وحقيقًة لا أعلم ما هو الدور الخفي للسيد فكتوار.
كانت جملته الأخيرة تحمل سخرية واضحة، جعلت "دياب" يزمجر بغضب وهو يهتف:
_ أتيت بأمر من الزعيم، لأتفق مع سنيور ماركوس على شحنة جديدة.
قطب "ماركوس" حاجبيهِ مستغربًا:
_ ولكن لَمَ لم يكلف سنيور ابرام بالأمر؟ بما أنه هنا بالفعل ليستلم مني البضاعة.
لمعت عينا "دياب" بمكر وهو يجيبه:
_ سنيور ابرام لا يكن طرفًا في مثل هذه الصفقات، لديهِ معتقدات خاصة.
احتل الغضب الجحيمي وجه "مراد" وهو يردد من بين أسنانه:
_ تجارة اعضاء.
القى "دياب" نظره جانبية له قبل أن يشيح بنظره بلامبالاة، فكور "مراد" قبضته هادرًا ب "طارق" :
_ طارق أمن على البضاعة، خلينا نخفى من هنا.
تحرك "طارق" فورًا ينفذ الأمر، و"مراد" بالكاد يقف متحكمًا في اعصابه، دقائق وعاد "طارق" برجاله هاتفًا باختصار:
_ تمام.
_ هات الفلوس.
أمره "مراد" ليشير "طارق" لرِجاله فتحركوا على الفور يضعوا اربع حقائب سفر كبيرة ممتلئة أمام قدم قائدهم، وانحنى أحدهم يتولى فتح الحقائب لتظهر الاموال متراصة بالداخل، فهزَ "ماركوس" رأسه راضيًا وهو يهتف:
_ عهدتك أمينًا سنيور ابرام.
حرك "مراد" رأسه بلاهتمام وتحرك الرجال ينقلون البضاعة للسيارات الكبيرة، وما إن انتهوا حتى تحرك "مراد" واقفًا بجوار "دياب" يهمس له:
_احتفل بآخر صفقة هتعملها في الو**** دي عشان مش هتتكرر تاني، وبكره تقول مراد باشا قال.
انفجر صدر "دياب" غضبـًا من حديثه المقلل من شأنه، ليردف بنبرة كالفحيح وهو يميل على "مراد" أكثر:
_ معتقداتك معقدة زيك، السلاح والدعا*ره وتجارة المخدرات والاعضاء كلها واحدة يا... يا باشا، مفيش حاجة اسمها بعمل ده ومعملش ده، ولو طبلت على دماغنا هتطبل على الكل.
نفى برأسه وهو يقترب الخطوة الفاصلة مبتسمـا بخبث:
_ تؤ، فهمتني غلط، أنا قصدت آخر صفقة ليك أنتَ.
انهى حديثه وخبط بكفه على كتفه منفضًا غبار وهمي قبل أن ينسحب من أمامه بكبريائه الملازم له، وهيبته التي تفرض نفسها في أي مكان، قضم شفتيهِ غاضبًا وهو يهمس بينما عيناه مسلطة على ظهر "مراد":
_ يابن ال****، اعمل بس خطوة واحدة، وانا اطلع عليك القديم والجديد يابن وهدان.
_ وليه تستناه ياخد خطوة؟ ماتخلص أنتَ منه يا باشا.
قالتها "هاجر" التي استمعت لهمسه ليجيبها باختناق:
_ البوص لو عرف اني هوبت ناحيته مش بعيد يخلص عليَّ، انتِ عارفة قواعد المنظمة، ممنوع حد منا يغدر بالتاني او يأذيه من غير مبرر يستاهل، وخصوصًا لو كان الحصان الأسود ده.
اومات برأسها بتفهم، وقد اتضح أمامها سبب تواني "دياب" عن أذية "مراد" بطريقة مباشرة رغم كرهه الواضح له..
______________
انتفضت فزِعه من نومها، وهي تلهث بتعب، قد كان كابوسًا آخر رأت فيهِ شخص جديد يُقتل، وللغريب هذه المرة رأت المكان جيدًا، حتى أنها شعرت بمعرفتها لهذا المكان، وبالفعل بعد بعض التفكير أدركت هويته، أنها المستشفى التي يعمل بها "باهر"!
انتفضت ممسكة بهاتفها وطلبت رقمه بانفاس لاهثة، ثواني وفُتح الخط، لتهتف بلهفة:
_ باهر، أنتَ في المستشفى صح؟
استغرب نبرتها الفزِعة لكنه رد بهدوء:
_ ايوه، أنتِ عارفة عندي نبطشية بليل النهارده.
_ أنا جيالك استناني في الاستقبال.
اغلقت الخط فورًا تاركه الآخر في حيرة من أمره، وليست حيرة فقط، بل فزع أيضًا، يبدو أن أمر جلل قد حدث لتحدثه بتلك النبرة وتأتي اليهِ والساعة قاربت على الثانية صباحًا.. الثانية صباحًا! وهل ستأتي بمفردها في هذا الوقت!؟
حاول مهاتفتها لأكثر من مرة لكنها لم تجيب، ليزفر بضيق ملقيًا الهاتف فوق المقعد لاعنًا من بين انفاسه الثائرة فلن يستطع فعل شيء الآن، لن يقدر على الذهاب اليها فبالتأكيد قد تحركت من المستشفى بالفعل، فما عليهِ سوى الانتظار الذي سيقتله قلقًا..
____________
_ اه، تعبت خلاص مبقتش شايفة، هقوم انام.
أردفت بها "خديجة" وهي تنظر للساعة التي تخطت الثانية صباحًا، وقد قضيا الوقت في الحديث عن كل ما مر عليهما في الفترة السابقة، وانحصر الحديث بشكل خاص على "إبراهيم" وافعاله التي سخطت خديجة منها، فانهت حديثها لها بنبرة قاطعة:
_ فريال، طول مانتِ سلبية وهايفة كده في تعاملك معاه، هيركب ويدلدل رجليه يا حبيبتي، وبكره يعاملك زي الجارية عنده، ومش هتقدري تعترضي ولا ترفعي صوتك، الي بيتعود على حاجه بيتعود عليها دايمًا، ومستحيل تغيري فكرته بعدها، أنتِ الي بتفرضي شخصيتك متستنيش حد يعمل كده، خصوصًا مع عدو المرأه ده.
تنهدت "فريال" بتعب وهي تخبرها بحزن حقيقي:
_ بحبه يا خديجة، بحبه ومش قادره اخد موقف معاه.
لوت فمها ساخرة متشدقة:
_ حبيه يا روح قلبي بس مترجعيش تشتكي، يلا هقوم انام، سديتي نفسي بسيرته،انا عارفه بتحبي فيه ايه ده، ده حتى وشه يقطع الخميرة من البيت بتكشيرة امك دي.
_ الله! وأمي مالها؟
صاحت بها "فريال" معترضة، لتبتسم لها "خديجة" بسماجة:
_مهو امه وابوه مش كشريين، وناس زي السكر، محدش في العيلة يشبهه غير الحرباية عمتي.
شهقت "فريال" بتفاجئ من سب "خديجة" لوالدتها علنًا فحذرتها:
_ خديجة! دي أمي متنسيش!
اشاحت بيدها بلامبالاة مرددة:
_ والله لولا انها أمك كان زمانك بتشتميها معايا.
والتزمت "فريال" الصمت غير قادره على النفي، فحولت ضفة الحديث وهي تسألها:
_ قوليلي طيب، هتعملي ايه في العريس ده؟
ارتبكت، وتوترت ملامحها وهي تجيبها:
_ مش عارفة والله، هو فاجئني، متوقعتش انه يعترفلي بمشاعره من هنا، ويطلب يتقدملي بعدها بالشكل ده، حسيت اني اتشليت من المفاجأة، خصوصًا وهو بيقول لباهر هستنى ردك عليَّ بكره! مجنون ده في حد بيقرر في سواد ليل!
_ ليه باهر مقالوش كده؟
تنهدت حائرة وهي تجيبها:
_ لا باهر قاله، بس هو رد عليه وقاله انا بقالي معاها في الشغل اكتر من شهر ونص، هتفكر في ايه، مهو يا متقبلاني يا لأ.
اقتنعت "فريال" بحديثه لتقول:
_ بصراحة معاه حق، يعني لو عندك قبول له، ييجي ويتقدم انتوا مش هتتجوزوا، ده لسه هيتقدم ويقرأ فاتحة وبعدها خطوبة الموضوع طويل.
_ بس المفروض نسأل عليه يا فريال.
_ انتِ عارفه هو منين؟
ضمت شفتيها بجهل:
_ لا، بس المفروض باهر يعرف ويسأل عليه.
اقترحت "فريال" وهي تقول بحماس:
_ عندي فكرة، ايه رأيك ييجي ويتقدم وقبل ما تقرأوا فاتحة باهر يبقى يسأل عليه، اصل اكيد لما ييجي يتقدم هيجيب حد من اهله، وساعتها هنشوف برضو اهله ايه نظامهم، فهماني، يعني كحاجة مبدئية، وباهر بعدها ياخد وقت يسأل عنه براحته.
هزت "خديجة" رأسها موافقة وهي تهتف:
_ خلاص هكلم باهر بكره واقوله كده، اشوفه هيقتنع ولا ايه، ولو اقتنع اخليه يحدد معاه ميعاد ييجي يتقدم.
ابتسمت لها "فريال" باتساع وهي تضمها لها في عناق دافئ مردده بفرحة:
_ ربنا يرزقك بابن الحلال ويكتبلك الخير يا روح قلبي، ويجعل نصيبك احسن من نصيبي.
أردفت جملتها الأخيرة بحزن جلي، لتخرج "خديجة" من حضنها هاتفة بمغزى:
_ احنا الي بنختار نصيبنا بايدنا، محدش غصبنا يا فريال، وحتى لو في يوم اتغصبنا، اي خطوة بتيجي بعد كده بتكون بايدنا.
انهت حديثها وخرجت من الغرفة بهدوء لتدلف للحمام قبل أن تعود لتنام بجوارها، تاركة "فريال" غرِقة بأفكارها التي تعصف برأسها، وحديث خديجة لا يتوقف عن التردد في عقلها.
______________
وأخيرًا ابصرها تأتي تجاهه بمظهر مزري، لا يصدق أنها خرجت من المنزل بهذا الشكل! ترتدي ثياب بيتيه عبارة عن ترنج بكنزة قصيرة لحد ما، وبقدمها ارتدت خُف منزلي! حتى انها لفتت انظار الناس إليها، هرولت إليه حتى توقفت امامه، وقبل أن يسألها عن شيء كانت تبادر هي بالحديث:
_ انا شوفت واحد بيتقتل هنا، في حد هيدخل يخنقه، انا شوفت رقم الاوضة... ٣٤٥ هي فين يا باهر، يلا بسرعة أنتَ متسمر كده ليه؟
جذبته من يده قبل أن يُبدي أي رد فعل حتى، وهرولت بهِ في طرقات المستشفى وهي تخاطبه أن يرشدها لمحل الغرفة، وقد كانوا عرضًا مزريًا لكل من في المستشفى خصوصًا من يعرفه! وهم يرونه يهرول مع فتاة ترتدي ثياب بيتيه بل وهي التي تجذبه تحثه على الركض! ضاعت هيبته!!
وصلا أخيرًا للغرفة المنشودة لتقتحمها دون سابق إنذار فاتسعت عيناها ذهولاً وصرخت وهي ترى حلمها يتحقق، رجل يحمل وسادة ويضعها فوق وجه المسجي فوق الفراش، ازاحها "باهر" من طريقه حين اقترب الرجل منها يكتم صرختها، فواجهه "باهر" ودارت بينهما معركة دامية، اصبحت الغرفة ساحة قتال، وهي ركضت خارجة من الغرفة تصرخ في طرقات المستشفى تطلب الأمن، او المساعدة بشكل عام، فأتى الأمن وبعض الممرضين لينتشلوا الرجل من بين يدي "باهر"، وتدخلت الشرطة في الأمر بعد ان طلبوها، وتبين ان ذلك الرجل المريض لم يكن سوى لواء في الداخلية، وشُكر "باهر" من قِبل كل رجاله الذين اتوا للإطمئنان عليه، وبعد انتهاء الأمر، جلس "باهر" في غرفته الخاصة وامامه جلست "جاسمين" بابتسامة واسعة وهي تضع القطن المغموس في المحلول المطهر على جروحه المتفرقة في وجهه، اغتاظ من ابتسامتها ليهتف بضيق ضاربًا بشرتها بانفاسه الحارة:
_ بتضحكِ على ايه مش فاهم؟ أنتِ مبسوطة فيَّ؟
نفت برأسها بأعين لامعة:
_ لا، مبسوطة ليَّ، متتخيلش يا باهر مبسوطة ازاي..
وضعت القطن جانبًا وهي تتنهد براحة جمة:
_ انا انقذت حياة انسان، أنتَ متخيل، انا فرحانة اوي اوي، الحمد لله.
ابتسم هو أيضًا وهو يردف مرحًا:
_ هو اه انا اتعملي خريطة في وشي، بس معاكِ حق، احساس حلو اوي.
ضحكت بخفة وهي تضع اصابعها على أحد جروح وجهه وأردفت:
_ دي علامة شهامتك في انقاذ الموقف، يعني المفروض تشكرني، ده أنا حتى خليت رجالة الداخلية يقفوا يشكروك.
تاه في لمستها، وفي نظرات عينيها القريبة منها، قربها بهذا الشكل يشكل خطر على قلبه الذي ينبض بسرعة غير مسبوقة، فوجد لسانه يهمس:
_ جاسي..
توقفت عن الضحك وهي تشعر بنظرة مختلفة من عيناه، وتوترت لمناداته لها بتلك النبرة، شعرت أن القادم سيوترها أكثر ولا تعلم لِمَ، لكنها وجدت ذاتها تجيبه بنبرة خافتة وقد دق قلبها بقوة. وتاهت هي الأخرى في نظراته:
_ نعم؟
استفاق من سِحر اللحظة وشعر بتهوره إن كشف عن مشاعره الآن، لابد أن يتأكد أولاً، فابتسم بعبث وهو يخبرها:
_ امسحي رقمي من عندك، انا مش عاوز خرايط تانية في وشي يا حبيبتي، انا الحمد لله ربنا راحمني ومبحلمش بحد ولا بنقذ حد.
فاتسعت عيناها لجملته، توقعت أن يكن الأمر عاطفيًا أكثر، فالتقطت زجاجة المطهر تقذفه بها بغيظ، و التقطها هو بسهولة ضاحكًا، فاردفت وهي تنهض واقفة:
_ خسارة فيك إني عالجتك، وهتصل بيك غصب عن عينك، وهتساعدني يا باهر وابقى قول لأ، يا اسمراني أنتَ.
انهت حديثها تاركة اياه وذهبت، ليشخص ببصره وهو يردد لذاته بتعجب:
_ اسمراني! هي دي مدح ولا ذم؟؟!
_____________
في عصر اليوم التالي....
انتبه "باهر" لرنين هاتفه، فالتقطه وقد توقف عن عمله خارجًا من غرفة المريض الذي يتابعه بعد ان استفاق من أحد العمليات، كان رقمًا غير مسجل ففتح الخط مجيبًا:
_ السلام عليكم.
_انا زين، اعتقد فاكرني.
كان رده البارد الذي فاجئ "باهر" فهتف:
_ ما ترد السلام يا عم الأول.
_ اعتبرني رديته، ها ايه الرد؟
زفر "باهر" بغيظ وهو يجيبه:
_ للأسف خديجة موافقة، رغم إني شخصيًا مش موافق، لكن هي قالت نديك فرصة تيجي تتقدم، وأن شاء الله مش هتوافق بعد كده.
اتاه رده المستفز وهو يخبره:
_ مسألتكش أنتَ موافق ولا لأ، ميهمنيش رأيك، المهم هاجي اتقدم امتى؟
_ أنتَ انسان مستفز وبارد، أنتَ جبت رقمي منين اصلاً؟
وبنفس البرود اجابه:
_ مش مهم، المهم اجي امتى؟
_استغفر الله العظيم.
رددها "باهر" يحاول تهدئة نفسه بصعوبة، واردف من بين اسنانه:
_ اخر الأسبوع.
_ نعم! هو أنا قولتلك ترد عليَّ النهاردة عشان اجي آخر الأسبوع؟ بقولك ايه يا دكتور، انا هاجي بليل..
صاح "باهر" معترضًا:
_ بليل ايه يا جدع أنتَ هو سلق بيض! لا طبعًا.
_الساعة ٩ كويس؟
_ياعم انتَ مجنون؟
اردف بها "باهر" وقد علىَ صوته حتى التف المارة على صوته، فحاول التحكم في ذاته مراعيًا وقوفه في طرقة المستشفى، ولكن طار تحكمه وهو يستمع للآخر يقول:
_ يبقى كويس.. سلام.
نظر "باهر" للهاتف بفاه فاغر، حقًا! ياله من بارد، مستفز، سِمج، أحمق.. والكثير من تلك الصفات، هز رأسه بعدم استيعاب للموقف، وطلب "خديجة" وفور أن أجابت اخبرها بهياج عصبي:
_ ابن المجنونة الي وافقتِ عليه خد ميعاد من نفسه النهارده الساعة ٩!!
_________
وعلى صعيد آخر، ابتسم "مراد" براحة ما إن اغلق المكالمة، حتى أتى بعقله أحد الجمل التي قيلت اثناء المحادثة وهمس لذاته بسخرية:
_ قال رد السلام قال، عالم متخلفه.
انهى حديثه، متجهًا لكأس المشروب الخاص بهِ، ورفعه شاربًا اياه على دفعة واحدة، وما إن انتهى حتى طلب رقم "طارق" وفور أن اتاه الرد هتف:
_ طارق، الراجل الي طلبته منك يكون جاهز النهاردة الساعة ٩،وزي ما قولتلك لو غلط في حرف هطير رقبة امه.
اتاه رد "طارق" المتوتر:
_ ما تقلقش يا باشا انا فهمته هيقول ايه وهيتصرف ازاي، وحفظ دوره كويس!
#يتبع
من الفصول الجاية، الرواية هتاخد منحنى تاني خالص، هيفاجئ الكل، واتمنى تتقبلوا اي حاجة هتشفوها معايا♥️
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا