رواية بكِ أحيـا (آخر طوق للنجاة) الفصل التاسع وعشرون والثلاثون الأخير بقلم ناهد خالد (حصرية وجديدة في مدونة قصر الروايات)
رواية بكِ أحيـا (آخر طوق للنجاة) الفصل التاسع وعشرون والثلاثون الأخير بقلم ناهد خالد (حصرية وجديدة في مدونة قصر الروايات)
الفصل التاسع والعشرين "حُنكة بن وهدان"
وها هي تدق التاسعة مساءً لتعلن عن موعد قدوم عريس الغفلة كما ذكره "باهر"..جلست "خديجة" على أحد الكراسي من ضمن ثلاث كراسي المتواجدين في صالة الشقة، التي تفتقر للكثير، بعدما تزينت في فستان اسود انيق رغم بساطته الشديدة، وحجاب احمر بهِ نقوش سوداء بسيطة، ولم تضع على وجهها أي مساحيق تجميل مكتفية ببشرتها الخمرية دون أن تحاول تغيير حقيقة لونها، فقط كحل اسود حددت بهِ عيناها السوداء ذات الأهداب الكثيفة، كبحت ضحكتها بصعوبة على مظهر "باهر" الجالس أمامها يتلوى في جلستها، وهو يردد بنزق:
_ الساعة ٩ وخمسة ياترى بقى البية ناوي ييجي نص الليل!
احتفظت بضحكتها وهي تجيبه بتعجب:
_ نص الليل عشان اتأخر خمس دقايق! باهر أنتَ ناوي تطفشه بطريقتك دي!؟
زفر باختناق وهو يغمغم بحنق:
_ وهطفشه ليه ياختي بيني وبينه ايه؟ انا بس مبحبش عدم الالتزام في...
وقبل أن ينهي جملته كان جرس الباب يعلن عن قدوم الزائر المنتظر، انتفضت واقفة وخرج "مصطفى" من الغرفة بعد أن انتهى من ارتداء ثيابه للتو، واردف ضاحكًا:
_ العريس ده محترم اول ما خلصت لبس جه على طول.
حدقه "باهر" بنظرات ضائقة مرددًا بسخرية:
_ محترم اه.
فتح "باهر" باب المنزل ليبصر عريس الغفلة ومعه شخص غريب!
_ اتفضلوا.
دلفا للداخل ووضع" مراد" علبة الحلويات كبيرة الحجم فوق الطاولة المجاورة للباب، اتخذت هي خطوتان للخلف مبتعدة عن الكراسي بعدما نظر لها "مراد" مبتسمًا وعيناه تلمع بنظرة خاصة، اشار لهما "باهر" بالجلوس، ليجلس "مراد" وبجانبه هذا الغريب، ثواني ودلفت "خديجة" للمطبخ وخرجت بأربع اكواب عصير، وضعتهم فوق الطاولة وما كادت تدلف مرة اخرى حتى سمعت صوت الغريب يهتف:
_ ما تقعدي يا عروسة.
ابتسمت بخجل واتجهت للجلوس فاسرع "مصطفى" يجلب كرسي لها من الداخل، فجلست محتفظة بخجلها، بدأ الحديث بصوت "باهر" يردف بنزق خفي:
_ منورين يا جماعة.
كانت جالسة بجوار "زين" والفرق بينهما عدة سنتيمترات لتسمعه يشيح بوجهه تجاهها وهو يهمس لها:
_ منورين وهو عاوز يطردنا اصلاً.
ضحكت بخفوت على حديثه الهامس، فعقب ضاحكًا:
_ بالضحكة دي قلبي متعلق.
ازدادت حمرة خجلها وهي لا تصدق لِمَ تسمعه منه، هل هذا هو "زين" الهادئ، المحترم!
_ ما تخليك معانا هنا يا عريس، ولا رقابتك ملووحه!
لف رقابته له وهو يبتسم باصفرار:
_ اه اصل باين كده نمت نومة غلط بليل، فرقابتي شادة بعيد عنك.
ضغط "باهر" على نواجزه سائمًا من هذا السمج، ونهض فجأة متجهًا لكرسيها وامرها:
_ قومي اقعدي مكاني.
نهضت على مضض فيبدو أنها أحبت همس الآخر! واتجهت لذلك الكرسي البعيد قليلاً جالسه فوقه، ليخبط "باهر" بكفه على فخذ "مراد" قائلاً:
_ منور.
ازاح "مراد" كفه برفق مبتسمًا باصفرار:
_ ده نورك.
_ وحضرتك بقى والده ان شاء الله؟
تسائل بها "باهر" لهذا الغريب الصامت، ليهتف:
_ لا أنا خاله ان شاء الله.
قطب حاجبيهِ متعجبًا، ليهتف "مراد" فورًا موضحًا بنبرة حزينة:
_ اصل انا اهلي متوفيين، مفاضلش منهم غير خالي، هو كمان مسافر كندا دي اجازة بس لكن مسافر بكره.
اومئ برأسه متفهمًا، ولانَ "باهر" قليلاً وهو يستمع لحديثه ونبرة الحزن الظاهرة بها، فتنهد قائلاً:
_ الله يرحمهم.
_ هو مين ده؟
قالها "مراد" بجهل مصطنع وهو ينظر ل "مصطفى" الذي تولى الرد معرفًا عن ذاته:
_ أنا مصطفى، اخو خديجة.
ابتسم له بود مردفًا:
_ عاشت الأسامي يا درش.
تنحنح الرجل وأردف بوقار:
_ المهم يا دكتور باهر احنا جايين نطلب ايد الآنسة خديجة لابننا زين.
اجلى "باهر" حنجرته قائلاً:
_ احنا عاوزين نعرف طيب تفاصيل عنه، احنا تقريبًا منعرفش حاجه عنه.
تولى "مراد" الحديث قائلاً:
_ أنا زين محمود السويسي، عندي ٢٣ سنة، شغال شغلنتين، واحده في المطعم، والصبح في مكتب هندسي، عندي شقة جاهزة فاضل بس العروسة..
قالها وهو ينظر ل" خديجة" مبتسمًا، ثم عاد يكمل حديثه:
_ جهزتها من ورثي، والحمد لله تقدر تقول شغلي ماشي كويس، يعني مش هحرمها من حاجة، واهلي زي ما قولتلك، وعمومًا الخطوبة بتتعمل ليه، مهو عشان تعرفني اكتر وتطمنلي.
نظر لها "باهر" بتفحص لعلّه يستشف ماهية الرجل الجالس أمامه، أهو جيد أم سيء؟ لكنه بالأخير فشل، فتنهد حائرًا واردف وهو ينظر ل "خديجة" :
_ تمام ماشي، بس خديجة محتاجه وقت تفكر وبعدها هنرد عليكوا.
ابتسم "مراد" بخبث قائلاً:
_ بس خديجة تعرفني بقالها فترة من شغلنا مع بعض، واكيد كونت وجهة نظر عني، معتقدش محتاجة وقت تفكر، هي اكيد حاسة هي عاوزاني ولا لأ.
ورغم رفض "باهر" لهذا التسرع إلا أن طرق "مراد" الملتوية اجبرته على الموافقة، بحنكته استطاع جعل الخطبة بعد يومان فقط من الآن!
اغلق الباب وقد ضاق ذرعه بما حدث، ليلتف لها بغضب حقيقي:
_ اي الواد ده! خطوبة ايه الي بعد يومين ابن العبيطة ده؟
رفعت منكبيها ببرود:
_ الله! مش أنتَ الي وافقت أنا مالي؟!
_ مهو بني آدم مستفز و..
_ هي معاها حق يا باهر، انتَ الي وافقت فعلاً.
هذا ما أردفت بهِ "فريال" وهي تخرج من الغرفة، ليزيد اشتعال غضب "باهر" الذي اشاح بيده وهو يلتقط اغراضه:
_ أنا مش ناقص حرقة دم، أنا ماشي.
خرج مغلقًا الباب خلفه، لتنفجر الاثنتان بالضحك على حديثه وغضبه، وما إن انتهيا حتى سألتها "فريال" بجدية:
_ المهم، أنتِ مرتاحة يا ديدا؟
اومأت "خديجة" مبتسمة بخجل فطري:
_ يعني.. تمام..
غمزت لها "فريال" بعبث مردفة:
_ لا ده شكله تمام جدًا مش تمام بس.
وانطلقت ضحكات الفتاتان تعم ارجاء الشقة من جديد..
بالأسفل..
ابتسم الرجل بسخافة وهو يردف:
_ ايه رأيك فيَّ يا باشا عملت الدور مظبوط صح؟
نظر له" مراد" بجانب عيناه دون أن يجيبه، ليكمل سخافته مرددًا:
_ دول صدقوا اني خالك بجد، ولو كنت قولتلي اقولهم إني ابوك كانوا صدقوني برضو.
توقف "مراد" بغتًة يحدقه بنظرات جامدة اثارت ريبته وهو يشير له بعيناه:
_ غور من هنا.
ولم يحتاج لكلمة اخرى قبل أن يفر هاربًا في الاتجاه المعاكس...
_______________
_ مراد.
توقف على صوت" ليلى" الذي علىَ يناديه، فالتف ليجدها في الطرقة المؤدية للغرف، سار ناحيتها بخطى هادئة مبتسمًا تلقائيًا كعادته حين يراها، انحنى أمامها يحدثها بلطف:
_ عاملة ايه يا لولا؟
ابتسمت له بحب مجيبة:
_ بخير يا عيون لولا، قولي وشك منور كده خير؟
اجابها بثبات تام:
_ ابدًا، بس حسيت خديجة بدأت تطمنلي.
عبست بوجهها تسأله:
- كل ده يا مراد ولسه هتطمنلك! اومال هتعرفها بنفسك امتى يابني؟
اقترب مقبلاً وجنتها وهو يخبرها بلطف:
_ كله بآوانه يا لولا.
تنهدت باستسلام:
_ ربنا معاك يا بني.
وقف مستأذنًا منها ودلف لغرفته، في نفس اللحظة التي صعد فيها "حسن" درجات السلم، وأصبح أمامها، التفت بكرسيها لتعود لغرفتها لكنها توقفت على صوته يقول:
_ ليلى عاوز اتكلم معاكِ.
التفت بالكرسي له تسأله باقتضاب:
_ حاجة تخص مراد؟
قطب ما بين حاجبيهِ ضيقًا:
_ هو مفيش كلام بينا غير إذا كانت حاجة تخص مراد!
اومأت مؤكدة برأسها:
_ اعتقد قولت ده من سنين ليك، ايه الي جد؟
زفر انفاسه مختنقًا وهو يخبرها:
_ الي جد إني تعبت يا ليلى، تعبت ومبقتش متحمل الوضع ده، هيفضل كده لامتى؟
وبجمود اجابته:
_ لحد ما حد فينا يموت وينقضي اجله.
رفع عيناه للاعلى بملل واردف:
_ ليلى، ده مش حل! احنا متجوزين، بس بقالنا اكتر من ١٥ سنه عايشين كأننا اخوات! ده حتى الاخوات بيتكلموا مع بعض عننا!
_ وهنفضل كده، انا وانتَ استحالة نرجع زي الأول ولا ايه يا جورج؟ أنا ديني بيمنعني اعاملك كزوج.
اقترب منها خطوة يردد من بين اسنانه:
_ أنتِ عارفه انه مجرد اسم في بطاقة عشان الشغل و...
قاطعته باستهجان واضح:
_ يارتني كنت عارفه ده، المصيبة اني متأكده انه مش مجرد اسم في بطاقة، أنتَ مش مسلم يا حسن، لا قولاً ولا فعلاً.. انا عمري ما شوفتك بتصلي، عمري ما شوفتك بتصوم رمضان، وكنت دايمًا اقول بكره ربنا يهديه، عمرك ما ذكرت ربنا في اي حاجة اصلاً! إن كنت فاكر إنك تبقى مسلم لما تقول أنا مسلم، يبقى لازم تراجع دينك الي متعرفش عنه حاجه، وعزائي الوحيد في مراد انه جاي منك، هو اني مكنتش اعرف حقيقتك.. لكن رجوع تاني بيني وبينك انسى، مش هيحصل ابدًا.
انهت حديثها والتفت بكرسيها دالفة لغرفتها وخيم الصمت على المكان من حوله، لا يصدح فيهِ سوى صوت تنفسه العالي غضبًا...
___________________
يومان مروا...
وأتى اليوم الموعود..
اليوم اولى خطواته في امتلاكها، اليوم سيصبح جزءً منها ملكًا له، ويتطلع للحصول على الباقي في أقرب قريب!
_ اختاري الي تحبيه ملكيش دعوة بالسعر.
همس لها بينما يقف جوارها في محل الصائغ، وهي تنتقي ما يعجبها من ذهب شبكتها، اكتفت بنظرة خجِلة له بجانب عيناها وهي تومئ بحرج، دقائق اخرى وكانت تهتف:
_ خلصت.
رفع حاجبه الأيسر باستغراب مرددًا بينما يشير لِمَ وقع اختيارها عليه:
_ دول بس؟ خاتم ودبلة!
اومأت مؤكده، ليكمل حديثه:
_ لا اختاري حاجتين كمان.
نفت برأسها وقد أبت:
_ لا كفاية، مش عاوزه غيرهم.
_ لو حاملة هم الفلوس ملكيش دعوة، انا عاملي حسابي.
هزت رأسها نافية:
_ لا، مش فكرة كده، بس معلش انا هبقى مرتاحه اكتر بدول.
لم يرد الضغط عليها أكثر، ولكنه طالع المحل بنظرة شاملة لدقيقة ربما، حتى وقعت عيناه على سلسال ذهبي تتدلى منهُ فراشة رقيقة بها فصوص ماسية، فاشار للصائغ عليها مرددًا:
- هاتلي السلسلة دي، وحطهالي مع الحاجة الي اشترناها.
حاولت ان تبدي اعتراضها لتسمعه يهمس لها بحدة طفيفة:
_ دي هدية خاصة مني ليكِ ملهاش علاقة بحاجة، مش من حقك ترفضيها اصلاً.
فالتزمت الصمت مرغمة...
___________( ناهد خالد) ___________
القى بكل ما على مكتبه بغضب حارق، لا يصدق الوضع الذي بات فيهِ الآن، صفقته الأخيرة في تجارة الاعضاء لم تتم، علمت الشرطة بها واصبحت في قبضتها الآن هي وبعض رجاله، استمع لرنين هاتفه ورأى رقم الرئيس يزينه، ليحاول الاستعداد لهذه المواجهة، فاخذ نفسًا عميقًا، واخرجه بمهل، قبل أن يجيب على المكالمة..
_ ايه الي حصل ده يا دياب باشا! الشحنة اتمسكت! أنتَ عارف دي مكلفة كام؟ لو اشتغلت ٤ شحنات غيرها مش هتسد تمنها..
حاول الدفاع عن نفسه، فبرر بتوتر:
_ يا بوص والله أنا...
_ بوص ايه وزفت ايه، أنتَ وديتني في داهية، اعمل حسابك دي آخر صفقة ليك في الصفقات دي، وغلطه كمان يا دياب وهصفيك بنفسي..
واغلقت المكالمة!!
وهو يغلى بمراجل الغضب، بداخله يشتعل كلما اعاد حديث الرئيس برأسه، هل هو من توبخ بهذا الشكل قبل قليل؟ هل هو من أُقصيَ عن هذا العمل!؟ لم يكن في احلامه حتى أن يتعرض لموقف كهذا..
وفجأة ضرب بعقله سؤال، من افشى سر صفقته للشرطة ؟ ولم يحتاج لتفكير كثير، فالجواب واضح، هو لا أحد غيره، من هدده بآخر مرة واخبره بوضوح ان هذه الصفقة ستكون الأخيرة من نوعها.. ذلك الفاسق، الأرعن.. مراد وهدان!
وبفحيح مرعب كان يردد:
_ ماشي يا بن ال****، إن ما خليتك تلف حوالين نفسك مبقاش دياب..
وكان وعيدًا سيكن سببًا في شن الحرب بينهما ذات يوم!!
____________
تحرك كلاً من "خديجة، مراد، باهر، فريال" خارجون من محل الصائغ، وأصر "مراد" على أن يتناولوا الغداء معًا، ومع اصراره خضعوا لرغبته، وبعد تناول الطعام أصر ثانيًة على تناول أحد المشروبات في مقهى قريب، وأثناء تواجدهم بالمقهى..
_ ها يا خديجة ناوية تعملي هيصة وكده عشان الشبكة؟
قطبت حاجبيها رافضة الفكرة، وأردفت بنبرة قاطعة:
_ لا يا باهر، مش حاسه اني حابه اعمل حاجة، يعني كفاية الفرح ان شاء الله وخلاص، وعوزاه بعد سنتين، مش قبل كده.
اومئ برأسه دون حديث، ليتولى "مراد" الحديث هذه المرة وقد لمعت فكرة برأسه متجنبًا الحديث في موعد الزفاف الآن:
_ طيب بما إنك كده كده مش ناوية تعملي هيصة، ما نلبس الشبكة هنا وخلاص.
وهي لم يكن لديها مانع، فمن غيرهم ستريد حضوره!؟ وبالأخير الأمر لا يستحق تفكير، فبالنهاية هي مجرد خاتم ودبلة، لذا اومأت موافقة وتولت "فريال" أمر توثيق الذكرى بتصويرهما بهاتفها القديم.
وهو يرى الحلقة الذهبية تلتف حول إصبعها الرقيق شعور لا يمكن وصفه، راحة.. هي الشعور المسيطر، ويخلفها الكثير.. انتصار، حب، لهفة، ووله بتلك الجالسة أمامه.. لا يعلم إن كان هذا بمجرد خطبتها، إذًا ماذا عن ليلة العرس!!
وهي كانت النقيض تمامًا، وكأن هذه الحلقة الذهبية التفت حول رقبتها، حتى أن انفاسها خفتت لمجرد الشعور! لم تشعر براحة ابدًا، واقلقها الأمر، لكنها بالأخير حين رفع رأسه يبتسم لها، ابتسمت، وقررت تجاهل شعورها الأحمق، ونست أننا يجب أن نستمع لشعورنا أحيانًا! فربما هو مجرد إنذار من العقل!!
_مبروك.
همس لها بنبرة محبة، لتبتسم هامسة بالمثل:
_ الله يبارك فيك، مبروك لينا.
وهل باتت تجمعه معها في جمله؟ يا لسعده!
_ توعديني إنك متقلعيش دبلتك من ايدك مهما حصل؟
قالها بنبرة عميقة ونظرة خاصة اربكتها حقًا! وكالذي يراهن على بقاء السمك حيًا خارج المياة، كانت تهمس له بحماقة:
_ اوعدك.
_ الف مبروك يا ديدا، الف مبروك يا استاذ زين.
رددتها "فريال" مبتسمة، لتسمع ل "مراد" يحدثها:
_ بلاش استاذ بقى، زين كفاية، ده أنا خطيب اختك خلاص.
وانصهرت الجالسة بجواره خجلاً على لقبه الجديد الذي اطلقه للتو، بينما تستمع لمباركة "باهر" المقتضبه، ورد "مراد" الأكثر اقتضابًا، يبدو أن هذان الاثنان لن تنشأ بينهما علاقة طيبة!.
_____________
في المطعم الذي يعملان بهِ..
وقفا يستقبلان التهاني من زملائهما، وطارق يراقب الوضع من بعيد، وضع لا يعجبه بتاتًا، ولكنه مجبر على الصمت..
وبالبعيد أكثر كان يلتقط عدة صور لِمَ يحدث وارسلها لرئيسة على موقع التواصل الاجتماعي ، مسجلاً اسفلها مسجل صوتي يقول بهِ
"باشا، مراد باشا خطب واحده من المطعم الغريب الي شغال فيه، ودي صور وزمايلهم بيباركولهم على الخطوبة"
_________
وفي مكان ابعد بكثير...
وصلته الصور والرسالة، ليضحك غير مصدقًا وهو يريها ل "هاجر" الجالسة جواره مردفًا:
_ تتخيلي مراد وهدان يروح يخطب بت بيئة ملهاش اصل ولا فصل، لا وكمان يتنكر عشانها! تفتكري ايه هدفه؟
نظرت للصور بتمعن لتردف مبتسمة:
_ مش هدفه حاجة، هو بس بيحبها.
- نعم!؟
رددها "دياب" مستنكرًا وغير مصدقًا في الوقت ذاته، لتؤكد له مبتسمة:
_ شوف كده نظرته ليها وأنتَ تعرف يا باشا، ده واقع فيها خلاص.
التقطت الهاتف منها يطالع الصورة بتمعن، ثواني وكان ينتفض واقفًا وهو يردد بذهول احتل قسماته:
_ رنا!!!!
_ في حاجه يا باشا؟
لم يجيبها فقط طلب رقم ما، وما إن أجاب حتى أردف بسرعة:
_ سيبك من مراد والبت الي معاه، في بت لابسة ازرق واقفة وراهم في الصورة، البت دي اوعى تضيع منك، تمشي وراها وتعرفلي بيتها فين وتبلغني ومتتحركش غير لما اجيلك، فاهم؟
اتاه الرد، ليغلق الهاتف وهو يتنفس بسرعة، وعيناه لم يختفي الذهول بها، بينما يهمس بداخله:
_ يااه! دي الدنيا اصغر من علبة كبريت! بقى بعد كل ده الاقيكِ واعرف مكانك من صورة! والله ليكِ وحشة يام ابني..!
وكلمته الأخيرة قالها بأعين تحمل نظرات تشبه الجحيم بالوانه، وهو يتذكر طفله الذي لم يراه، بفضل فرار والدته بهِ، هاربة من وحش يطاردها، لم يكن سوى هو... والد الطفل! والآن سيبدأ عقابها!
---------------
أواخر يونيو لعام... ٢٠٢٠..
وها قد مرَ عامان الخطبة وفوقهما اشهر قليلة، العامان التي قررتهما "خديجة" ورغم محاولات "مراد" معها لم تتنازل عن العامان، ولو بشهر واحد..
عامان وبضعة أشهر تغير فيهم الكثير والكثير...
تم زواج "باهر" و "جاسمين" خلالهما، بعد أن لم يجد "باهر" مفرًا من حبها، ووالدها كان أكثر من مرحب بهِ، وقد انتقى شقة جيدة الحال في مكان مترف نوعًا ما ليليق ببعض مستواها، زواجهما الذي تم منذُ ثلاثة أشهر فقط..
"جاسمين" التي تفاقمت لديها احلامها، وباتت اكثر من مرهقة، ورغم استطاعتها لانقاذ الكثير، الا ان البعض لم يُقدر له النجاة، فيصيبها بالاكتئاب، ومع ذلك فباهر لم يتركها لحظة، فكان خير العون لها، ولكن لنقول أن لكل شيء حد!
"فريال" اصبحت في عامها الدراسي الثالث، لم تبدأ بهِ بعد، و"ابراهيم" الذي لم يتغير ابدًا، كما هو غير مراعيًا لها ولا لمشاعرها، وهي تصبر كالعادة!
واما عن تعيسة الحظ "رنا" فقد نجح "دياب" في اعادتها لقبضته مرة أخرى لتلاقي الذل والمرار على يده، وتعيش ما لم تعشه معه من قبل، وكل هذا بصنع يديها!
واليوم...
اليوم هو يوم سعده، يومه الذي انتظره سنوات وسنوات، اليوم ستصبح ملكه قلبًا وقالبًا، سيمتلك كل أنش بها، ويدمغه بدمغه الخاص، ستصبح حرم" مراد وهدان" دون أن تعلم...!!!
الفصل الثلاثون والأخير "بعد فوات الأوان"
"كل شيء يسير بترتيب من الله عزوجل فلا تستعجل أمره أو تقنط من حكمته"
تصببت عرقًا وهي ترى كابوسًا أخر في نفس الأسبوع، ظلت تصارع، تتحرك بعصبية مبغتة، وتمد ذراعها كأنها تحاول الوصول لشيء ما، حتى أيقظت النائم بجوارها، فانتفض مستيقظًا وأنار الإضاءة التي بجانبه، ليراها بحالتها العصبية هذه، فاسرع يحاول افاقتها وهو يهزها بلطف مرددًا:
_ جاسمين، حبيبتي اصحي ده كابوس، جاسي.
انتبهت لمحاولاته لافاقتها ففتحت عيناها بخضة، وهي تلهث من فرط المجهود الذي بذلته داخل كابوسها وفي الواقع، وكان وجهه هو أول ما رأته، وهو يقول بينما كفيهِ يمسحان العرق من فوق وجهها بحنان:
- حبيبتي اهدي، خدي نفسك بهدوء يلا.
واستجابت لنصيحته، فبدأت تلتقط انفاسها بهدوء واعتدلت بمساعدته لها، ومرت دقائق بينهما يحاول هو فيهم تهدئتها كالعادة، وبعد فترة كانت قد هدئت، فاستمعت له يقول:
_ يلا يا حبيبتي نرجع ننام، النهار قرب يطلع وعندي شغل بدري.
نظرت له بتوتر وتردد بالغين، ففهم هو نظرتها وما ورائها فقال بتحذير:
_ يلا يا جاسي ننام.
لم تستطع الصمت أكثر لتعرب عن رغبتها، فقالت برجاء ظهر واضحًا:
_ باهر، ارجوك، المره دي بس..
امتعضت ملامحه ورد رافضًا:
_ لا، لان المره الي فاتت واللي قبلها كانت اخر مره، كفاية بقى بهدلة وقلة قيمة، أنتِ نسيتي كام مرة اتبهدلنا والناس مصدقتناش؟ نسيتِ كام مرة كانوا بيقولوا علينا مجانيين واطردنا من كام مكان، انا مش رايح في حتة تاني يا جاسمين.
انسدلت دموعها بغزارة وهي تنتفض من فوق الفراش صائحة بهِ بغضب:
_ أنتَ ليه مش حاسس بيَّ؟ ليه مش مقدر الي بمر بيه؟ عاوزني اشوف حياة حد بتنتهي او في خطر واسكت! اعمل نفسي مشوفتش حاجة؟ ولو عملت كده، هشيل ذنبه ازاي من على كتافي؟
انتفض يقف في مواجهتها وهي يهتف بعصبية:
_ وانا ذنبي ايه! قولتلك روحي لدكتور نفسي يساعدك تبطلي تشوفي الي بتشوفيه ده، وأنتِ الي بترفضي كأنك حابه تعيشي دور البطلة الي بتنقذ الناس.
اشارت لذاتها بذهول:
_أنا يا باهر؟ أنا حابه اعيش دور البطلة؟ أنتَ بجد شايف الموضوع كده؟ مش شايف قد ايه بعاني من الي بشوفه! انا حابه الي أنا فيه؟
وبنفس الغضب كان يجيبها:
_ اومال ليه رافضة تشوفي حل؟ ليه رافضه تروحي لدكتور او شيخ يمكن يساعدوكِ، انا تعبت، المرمطة الي احنا فيها كل يوم والتاني دي مش نافعة، فاكره يوم ما صحيتِ وصممتِ تسافري الغردقة عشان حلمك الي شوفتيه في مكان مشهور هناك، ومشيت وراكِ وطلعنا على الطريق الساعة ٢ بليل وفضلتِ تستعجليني لحد ما عملنا حادثة لولا ستر ربنا مكناش خرجنا منها بأقل الخساير كده، عارفه كام مرة بروح شغلي مش مركز ومش فايق بسبب مشاويرك دي، كام مرة بطلع معاكِ وارجع وش الصبح ملحقش انام واروح مصدع وعاوز انام ومبقاش مركز مع العيانين ولا في العمليات الي بدخلها، هي مش دي ارواح ناس برضو واتحاسب عليها! ولا المطلوب مني اسيب شغلي واقعد اتفرغ لمشاويرك؟
هزت رأسها بألم وهي تهتف بنبرة متهكمة رغم قسوة حديثه عليها:
_ لا مش مطلوب منك حاجة، بس أنتَ من قبل ما تتجوزني وأنتَ عارف حالتي دي، جاي دلوقتي ومش متحمل؟ أنا مخدعتكش ولا خبيت عليك، وأنتَ بنفسك قولتلي أنا هقف معاكِ وهنعدي اي حاجة تشوفيها سوا، وقولتلي برضو إنك هتفضل تساعدني ننقذ الي نقدر ننقذه، جاي دلوقتي وتخلف بكلامك معايا!؟
ضغط على نواجزه بغضب وهو يخبرها بضيق:
_ لا انا مبخلفش بكلامي، بس واضح إنك نسيتِ كام مرة وقفت معاكِ وساعدتك، نسيتِ كام مرة جريت معاكِ، وسفر وبهدلة، احنا بقالنا سنتين في الوضع ده، وبقالنا سنة متجوزين وعمري ما اشتكيت، بس الشيء لما بيزيد عن حده بيمسخ، وأنتِ مش قابله اي حلول بقدمهالك عشان نخلص من القرف ده.
- قرف!
رددتها "جاسمين" بوجه محتقن بحمرة الغضب، وبعدها بأعين دامعة من فرط عصبيتها كانت تشيح بذراعها بهياج:
_ أنا بقى لقيتلك حل هيريحك خالص، وهخلصك من القرف الي تاعبك ده.
انهت جملتها واتجهت لازرر الإنارة الرئيسية لتفتحها، فعم الضوء في الغرفة، وأسفل نظارته المتابعة لها اتجهت للخزانة تخرج ثيابها وجذبت حقيبة كبيرة من اسفل الفراش تضعها فوقه وتفتحها، ليستغفر بسره محاولاً تهدئة ذاته، قبل أن يردف بضيق:
- أنتِ بتعملي ايه دلوقتي؟ الموضوع مستاهل الي بتعمليه ده؟
رفعت عيناها الباكية له تجيبه:
_ اه يستاهل، هروح بيتنا عشان اشيل عنك القرف.
_ بيتكوا! اعتقد ده بقى بيتك دلوقتي.
_ لأ، بيتي هو بيت دادي، ده بيتك أنتَ، وانا هسبهولك عشان ترتاح من قرفي.
اشاح بيده بعصبية بالغه وهو يخبرها:
_ هو أنتِ مسكتِ في الكلمة! مكانتش كلمة قولتها وقت غضب، سيبي الي في ايدك ده وبطلي جنان.
عاندته وهي تقف في مواجهته مرددة بنفس عصبيته:
- لا مش هسيب، واه مسكت في الكلمة، عشان أنتَ قاصدها وفعلاً مبقتش متحملني، وأنا بقى مش هعيش مع حد شايفني حِمل عليه.
رفع حاجبه ناقمًا:
_ يعني ايه بقى الكلام ده؟
وبنفس اصرارها اجابته:
_ يعني هروح عند دادي، لحد ما الاقي حل لمشكلتي، بعيد عنك، عشان مترجعش تتفضل عليَّ باللي بتعمله معايا.
_ اتفضل عليكِ!؟
قالها بملامح مندهشه من جملتها وتفكيرها، وسريعًا ما تحولت ملامحه لتصبح أكثر جمودًا:
_ تمام، روحي ولو عاوزه تفضلي هناك على طول براحتك.
انهى حديثه وخرج من الغرفة بخطى عصبية لا يتحمل حتى النفس الذي يأخذه، وهي سالت دموعها مرة أخرى وهي تنظر لموضع خروجه بحزن، لم تتوقع أن يحدث بينهما ما حدث الآن ولكن الحياة ومواقفها دومًا غير متُوقعه، خصوصً فيما يتعلق بالعلاقات..
---------------
_ لا بقى يا زين، أنتَ كده بتهزر، هو ايه الي ميحضرش كتب الكتاب أنتَ ناسي أنه ابن عمي!
هذا ما هتفت بهِ "خديجة" أثناء حديثها مع "زين" في الهاتف في صباح يوم عقد قرانها، حين أعرب الأخير عن رغبته في عدم حضور "باهر" لعقد القران، "زين" و "باهر" مازلا لا يتقبلان بعضهما بتاتًا وهي تقع حائرة في المنتصف بينهما، لا تعرف كيف عليها مراضاة الطرفين، اتاها صوته البارد يقول:
_ هو مش ده كتب كتابي ومن حقي اختار مين يحضر ومين لأ! ده واحد مبحبوش يحضر ليه بقى؟
_ ايوه بس كتب كتابي انا كمان، من حقي اعزم الي احب اعزمه، وده ابن عمي، يعني مش محتاج عزومه اصلاً.. انا عاوزه الفت نظرك لحاجه اكيد مش واخد بالك منها، وهي إن من غير وجود باهر مفيش كتب كتاب هيتم.
_ وده ليه بقى؟
سألها باستنكار واضح، لتتنهد بضجر قبل أن تجيبه:
_ عشان هو هيكون وكيلي، يعني من غيره مش هينفع كتب الكتاب.
_ يعني ايه وكيلك دي؟
سألها بجهل، لتقطب حاجبيها بتعجب من جهله بأمر بسيط كهذا، وظهر هذا في حديثها:
_ انتَ بجد متعرفش؟ وكيلي يعني الي هيجوزني ليك، الي هتحط ايدك في ايده في كتب الكتاب.
شعر بخطأه ليردف بمزح:
_ ايوه طبعًا مانا فاهم، بس يعني مينفعش أنتِ تقومي بالدور ده، ده حتى ايدي بتدفي في البرد الي احنا فيه ده.
هزت رأسها بيأس من حديثه الذي لا يخلو دومًا من الايحاءات لأي تلامس بينهما، وقالت:
_ لأ، انا مش مقطوعة من الأهل عشان اكون وكيلة نفسي، ومصطفى صغير مينفعش يكون وكيلي، عدي الليلة بقى يا زين بلاش نكد.
_ أنا بنكد يا بنت عمي محمود، طب اقولك بقى هتشوفي النكد الحقيقي لو مخدتش حضن وبوسة كتب الكتاب.
شهقت بتفاجئ مصطنع وهي تردف بحده:
_ بقى أنتَ مش عارف يعني ايه وكيلي وعارف بس الحضن وقلة الأدب، بقولك ايه انا مش مطمنالك، انا عاوزه افسخ الخطوبة دي.
اتاها صوته الخِطر وهو يخبرها:
_ وماله، عشان افسخ رقبتك عن جسمك يا حبيبتي.
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تجيبه:
_ ايه ده في ايه؟ انا بهزر يا حبيبي أنتَ مبتهزرش.
_ لا بهزر، وهوريكِ الهزار الي بجد بعد كتب الكتاب.
صاحت بهِ بضيق:
_ بقولك ايه متوترنيش زياده، انا اصلاً مش على بعضي من امبارح.
اتاها صوته اللعوب وهو يسألها:
_ متوترة يوم كتب الكتاب، الله! اومال هتعملي ايه يوم الفرح، وأنتِ بتفكري كده إنك هتروحي معايا و...
اغلقت الهاتف دون أن تستمع للمزيد، وقد اضرمت نيران الخجل في وجهها لمجرد تخيل ذلك اليوم، تعلم ان اعطته فرصة لسرح بخياله لأبعد من الذي قاله والأكثر خجلاً، فقد عهدته قليل الحياء، بهِ جرأه تجعلها تتمنى لو تختفي من أمامه، ولكنها وللعجب احبتها منه! طوال العامان ولم يمر حديث بينهما بسلام دون أن يلقي في منتصفه ما يخجلها ويجعلها تهرب من تكملة الحديث معه، لذا لم يعد الأمر غريبًا لها كما كان في بداية الأمر.
___________
اجرى مكالمة هاتفية ب "طارق" الذي اجابه على الفور ليسأله:
_ ها عملت ايه في موضوع المأذون؟
اجابه الأخير بنزق:
_ مفيش ولا مأذون وافق على الي سعادتك عاوزه، كلهم رفضوا ويقولوا حرام.
التوي فمه ساخرًا وهو يردد بعصبية:
_ حرام! أنتَ واقف تتساير معاهم يا طارق ولا تاخد رأيهم! هاتلي اي مأذون من قفاه واخلص.
حمحم "طارق" وهو يهتف بهدوء:
_ حاضر يا باشا.
اغلق الهاتف بضيق، لِمَ تسير الأمور ضد رغبته! استمع لصوت دقات فوق باب غرفته، فاتجه بخطى متريثة يفتحه وهو على الاغلب يعلم من الطارق، وبالفعل وجدها والدته "ليلى"، ابتسم لها ابتسامة صغيرة، وافسح المجال لتدخل، فتحركت بكرسيها حتى وصلت لمنتصف الغرفة، التفت له تسأله مبتسمه:
_ ايه يا حبيبي بقالك كذا يوم مشغول وبشوفك بالصدفة، ايه الي شاغلك اوي كده؟
وهل سيخبرها أن انشغاله يعود لتحضيراته الأخيرة لعش الزوجية، تلك الشقة الفاخرة التي اشتراها في أحد الأحياء الراقية بمدينة القاهرة، والتي سعى في تلك الايام الاخيرة لانهاء كل تجهيزاتها كما تريد "فتاته" بالضبط، لذا لم يترك الأمر لرجاله واعتنى هو شخصيًا بكل تفصيلة صغيرة، لن ينسى يوم أن نزل معها ليشتريا أحد مستلزمات الشقة، حينها وهما في إحدى المحال حين أحبت أن تأخذ برأيه وهي تسأله
" زين، ايه رأيك اجيب النجفة الفضي ولا الدهبي"
نظرَ لِمَ تشير له، ولم يبالي كثيرًا وهو يجيبها:
" هاتي الدهبي"
نظرت للاثنان بتفكير قليلاً قبل أن تقول للبائع:
" خلاص هاخد الفضي"
رفع حاجبيهِ مندهشًا من قرارها، إذًا لِمَ أخذت برأيه من الأساس!
وبعدها حين كانا يشتريا السِجاد سألته مجددًا:
" زين، اخد السجادة البني ولا الكاشمير؟"
نظرا للألوان بسأم مجيبًا:
" يعني دي لون ودي لون تاني خالص، حسب الوان الشقة بقى"
" ايوه مانا عندي الحيطة اوف وايت، والركنة هعملها كاشمير، بس حيطة الشاشة احنا عاملينها خشب بني، فالاتنين هينفعوا"
قلب عيناه بلا اهتمام مجيبًا:
_ هاتي البني.
اومأت باقتناع، او هكذا بدى، قبل أن تقول للبائع:
" خلاص هاخد الكاشمير"
" هو أنتِ بتسأليني ليه مادام مش هتعملي برأيي؟!! "
سألها بتعجب وغيظ في الوقت ذاته، لتبتسم له تلك الابتسامة التي تسحره وهي تجيبه بنبرة بها بعض الدلال:
" يا حبيبي انا ببقى محتارة، بس أول ما باخد رأيك بلاقيني ارتحت لعكس الي اخترته تلقائي"
ضرب كفيهِ ببعضهما وهو يغمغم لذاته:
" حاجة تفقع المرارة، مش كفاية مراد وهدان نازل يلف على المعارض ويشتري سِجاد ونجف، لا كمان مش عامله رأيي حساب!"
"ها يا حبيبي، يلا؟"
نظر لها مبتسمًا بغيظ، وأومئ برأسه لتجحظ عيناه وهو يسمعها تخبره بينما سبقته بخطواتها للخارج:
"يلا هات السجادة بقى"
عاد من ذكرياته وهو يمنع ضحكته بالكاد، لا يستطيع أن ينسى مظهره وهو يحمل السِجادة ويسير بها وسط العامة، شعرَ حينها أن الجميع يعرفه ويستنكر فعلته، رغم أنه اختار مكانٍ لا يذهب إليهِ ذوي المكانة الرفيعة، ولكن الهواجس لم تتركه حينها.
" مراد؟ سرحت في ايه يا بني؟"
فاق من شروده ليجيبها بهدوء:
_ معاكي اهو يا حبيبتي، معلش كان عندي شغل كتير الفترة الأخيرة والفترة الجاية كمان هيبقى اكتر.
_ ربنا معاك يا حبيبي ويقويك يارب.
هز رأسه بلا اهتمام، واقبل عليها يقبل وجنتها بحنان وهو يخبرها:
_ أنتِ عامله ايه؟ محتاجه حاجه؟
نظرت له لثواني بتوتر وتردد ظهر واضحًا في عيناها قبل أن تقول:
_ مراد، انا.. انا.. يعني..
_ في ايه يا ماما ما تقولي!
قالها بتعجب من توترها البالغ، لتزفر انفاسها بضيق قبل أن تقول:
_ انا عاوزه حاجه فعلاً، بس مش عارفه هتقدر تحققهالي ولا لأ؟
ابتسم ابتسامة جانبية وهو يخبرها بثقة:
_ مفيش حاجه في الدنيا مقدرش انفذها، قولي بس عاوزه ايه؟
ادمعت عيناها، وفركت في كفيها بتوتر بالغ، وبصوت مهزوز قالت:
_ مراد أنا، أنا عاوزه امشي من هنا، عشان خاطري مشيني من هنا لأي حتة، بس مبقتش متحمله اعيش هنا اكتر، انا.. انا حاسه إني لو فضلت هنا اكتر من كده هموت.
تجمدت ملامحه وهو يسألها بنبرة تبشر بهبوب العاصفة:
_ بابا عملك حاجه؟ بيضايقك؟
نفت برأسها صدقًا:
_ لا، بس أنتَ عارف إن انا وهو منفصلين من سنين وعايشين مع بعض بس عشانك، لكن دلوقتي أنتَ كبرت، مبقتش محتاج لوجودنا احنا الاتنين سوا، انا اتحملت خوفًا عليك اني اسيبك لوحدك معاه وانا عارفه انه قاسي، لكن دلوقتي خلاص أنتَ كبرت ومبقتش محتاجني احميك، انا الي محتاجاك تحميني دلوقتي يا مراد وتحققلي الي يريحني.
لم يرد الضغط عليها أكثر وهو يشعر بقرب انهيارها، فأومئ لها برأسه وهو يخبرها:
_ حاضر، اديني بس كام يوم وهخرجك من هنا، مش لوحدك، هخرج أنا وأنتِ مش هتخرجي لوحدك، مش هسيبك تعيشي لوحدك بعيد، بس اديني فرصة ارتب أموري.
اومأت برأسها موافقة وهي تلتقط أنفاسها وكأنها ازاحت حملاً كبيرًا من فوق كاهلها، ولكن يبقى خوفها الأكبر منه هو.. حسن، بالتأكيد لن يمرر الأمر على خير.
__________
بعد ساعة طلبه "طارق" يخبره بوجوده برفقة المأذون، ليذهب لهما بالقرب من منزله، سار بخطواته الثابته وظهره المفرود تجاههما حين رأى "طارق" ورجل غريب يقفا خارج سيارة "طارق"، رأى اهتزاز حدقتي الرجل وهو يراه يقترب منهما، فابتسم بثقه وهو يتوقف أمامهما، يردف بصوت جامد:
_ خير يا حضرة المأذون، رافض تكتب الكتاب ليه؟
توتر في وقفته وهو يجيبه:
_ ياباشا البيه بيقولي اني هكتب باسم غير الأسم، وده حرام شرعًا.
هتف "مراد" بنبرة خِطرة:
_ بقولك ايه يا شيخ أنتَ راجل كبير في السن ومش عاوز ازعلك مني، هتكتب في الورق بتاعك اسم "مراد وهدان"، وفي الخطبة الي بتقولها دي قول "زين" سهله اهي.
بدى الامتعاض والرفض واضحًا على محيا الرجل وهو يقول:
_ ازاي بس يا بني، يعني اكتب في عقد القران اسم، واقول خطبة القران باسم تاني؟ واخد موافقة العروسة ازاي وهي فكراك شخص تاني! كده الجواز كله باطل!
اقترب ومد كف يده يضعه على كِتف الآخر وردد بتحذير قاتل:
- بقولك ايه يا شيخ، هتكتب الكتاب ولا اكتب أنا اسمك في تعداد الوفيات؟
ابتلع الرجل ريقه بصعوبة وهو يومئ برأسه موافقًا حين حرك "طارق" سترة بدلته وظهر المسدس المثبت في جانبه، فجعل الرجل يدرك مع من يتعامل.
-------------
- يابنتي يعني ايه الي حصل؟
تسائلت بها والدة "جاسمين" لتلك الباكية التي لم تتوقف عن البكاء منذُ أن أتت، وترفض أن تبوح بشيء، وفي نهاية المطاف، كانت تجيبها من بين بكائها:
- مفيش يا مامي، زعلانه مع باهر شوية بس.
- طيب ايه الي حصل يا حبيبتي؟ غلط فيكِ؟ ضربك؟
نفت برأسها وهي تجيبها:
_ لأ، محصلش كده، هو بس سوء تفاهم، سبيني بس يا مامي وانا هبقى كويسه.
تنهدت والدتها بيأس وقررت ترك مساحه لها كي تستطيع اخراج حزنها دون حاجز، فانسحبت من الغرفة بهدوء، وانخرطت هي في بكاء اعنف وكل كلمة قالها لها تُعاد في ذهنها، والتي كان وقعها على قلبها اقسى من وقعها على مسامعها.
_______________
كان جالسًا في مكتبه في الشركة الخاصة بهِ، حين أتاه اتصال من الرجل المُكلف بمراقبة ولده، فاجاب على الفور وهو على ثقة أنه سيعلم جديد..
-ها؟
كان هذا رده الذي حث الأخير على الحديث حين قال:
_ باشا انا عرفت حاجه من شوية بالصدفة، وقولت لازم ابلغك.
_ اخلص.
_ انا شايف تجيهزات كده في بيت خديجة، ولما سألت اهل المنطقة قالولي أن النهاردة كتب كتابها على واحد من الي شغالين معاها في المطعم، واكيد ابن سعادتك مراد باشا.
انتفض "حسن" من مجلسه وهو يهدر بهِ:
_ كتب كتاب مين يا حيوان أنتَ؟ كتب كتاب ازاي؟ هم اتخطبوا امتى عشان يكتبوا كتابهم؟!
رد الرجل بتوتر:
_ ياباشا مهو طلعوا مخطوبين من سنتين لما سألت الراجل قالي كده، ومش عارف ازاي اتخطبوا وانا ملاحظتش، ده انا حتى سمعت انه كان بياخدها ويروح ينقوا العفش، معرفش كل ده حصل امتى وازاي.
_ أنتَ زي قلتك، لو تور كان عرف الي بتقول ده من زمان، حسابك معايا بعدين يا بهيم أنتَ.
اغلق الهاتف والقى بهِ أرضًا بعصبية بالغة، واخذ يدور حول نفسه في محيط المكتب، شاعرًا بقرب توقف عضلة قلبه من فرط غضبه، وهو يتمتم بين اسنانه:
_ عملتها يابن وهدان، عملتها وهتتجوز الجربوعه دي، لعبتها صح وعرفت ازاي تخبي عليَّ، بس ماشي، ابقى شوف مين هيسيبك تتمم الجوازه.
أردف بالاخيرة بغل وهو يتجه لهاتفه يلتقطه طالبًا نفس الرقم مره اخرى، وما إن سمع الاجابة حتى هتف:
_ هتسمع الي هقولك عليه وتنفذه بالحرف الواحد....
__________
واتى الموعد المنتظر..
بداخل غرفتها المتهالكة كانت تقف أمام المرآة وخلفها "فريال" التي تنظر لها مبتسمة بفرحة، ابتسمت "خديجة" والتمعت عيناها بالسعادة التي لم تعرف طريقها يومًا وهي تطالع انعكاس صورتها، ترتدي فستان ابيض بتصميم بسيط، بهِ بعض الكريستالات المرصعة عند منطقة الصدر، وحجابها الأبيض المماثل، واليوم سمحت لنفسها بوضح مستحضرات التجميل الخفيفة على وجهها، فبدت ساحرة!
_ وه! يابوي على الحلاوة، تتاكلي أكل يابت خالي.
أردفت بها "فريال" بابتسامة واسعة، لتلتف لها "خديجة" وهي تقول بتوتر:
_ انا خايفة اوي، وحاسه اني مش متمالكة اعصابي، متوترة وحاسة اني مش طالعة حلوه، وخايفة من الحياة الجديدة الي داخله عليها و...
_ بس بس، على مهلك، ايه يا خديجة كل ده، طبيعي تكون خايفه وجلجانة ومتوترة، انا لما كتبت كتابي كنت نفس احساسك ده، رغم اني خابره انه مجرد كتب كتاب والفرح بعد ٤ سنين، بس شعور طبيعي، فاهدي ومتجلجيش استعيذي من الشيطان اكده، واجري الفاتحة في سرك.
اومأت "خديجة" موافقة وأخذت تردد الفاتحة وهي تفرك كفيها ببعضهما بتوتر، حتى استمعت لطرقات "مصطفى" فوق الباب وتبعها فتحه وهو يخبرها بابتسامة:
_ يلا يا خديجة، المأذون عاوزك عشان يسمع رأيك.
زفرت انفاسها المتوترة مرارًا حتى استعدت للخروج..
وبنفس اللحظة اخبرتها "فريال" حين وقع بصرها على الطاولة المجاورة للباب وفوقها ظرف كبير:
_ ياخرابي على مخي، نسيت اجولك ان في حد جه جبل العصر وسابلك الظرف الي هناك ده.
قطبت "خديجة" حاجبيها متعجبة:
_ ظرف! ظرف ايه ده؟
واتجهت له ملتقطه اياه، وما كادت تفحته حتى استمعت لصوت "مصطفى " يخبرها:
_ مش وقته يا خديجة، الناس مستنية بره، يلا وشوفيه بعدين.
فتركته فوق الطاولة مرة أخرى وخرجت، وفقط لو تعلم ما بهِ لتخلت عن أي شيء وفتحه، فقد كان منقذها... لكنها ترتيبات القدر!
طلت عليهِ لتأخذ دقات قلبه، طلتها جعلته يتصنم محله وهو يراها بهذا الجمال، وهذا السِحر، كأنها جِنية سحرته، أو نداهة تلك التي رويَ عنها في الاساطير قديمًا، وفجأة رآها تتجسد في صورة تلك الطفلة الصغيرة ذات الثماني سنوات، تلك "صغيرته" و "فتاته" التي ارتبط بها قلبًا وقالبًا، رآها مقبلة عليهِ، وابتسامتها تزين ثغرها، حتى أنها كاد ينهض ليلتقطها بين أحضانه لولا سماعه لصوت" باهر "الذي افاقه واعاده لأرض الواقع وهو يقول:
_ العروسة اهي يا شيخنا.
وعلى مضض كبير نظر لها الشيخ آسفًا وهو يسألها:
_ قوليلي يا آنسة خديجة، تقبلي تتجوزي الاستاذ...
صمت وكأن لسانه غير قادرًا على النطق بالزور، لولا نظرة "مراد" القاتلة له والتي جعلته يُكمل:
_ الاستاذ زين محمود السويسي.
اخفضت رأسها بخجل وهي تجيبه بخفوت:
_ ايوه، اقبل.
_ من غير ما يكون حد ضاغط عليكِ او جابرك؟
سألها الشيخ ثانيًة كأنه يتمنى لو تغير رأيها، لكنها خذلته وهي تؤكد بالقبول، ومرغمًا القى خطبته وتم عقد القران، لا يتوقف سوى على امضتها، والتي تولى "مراد" هذا الدور وهو يخبره:
_ عنك يا شيخ انا همضيها.
عارضه "باهر" وهو يقول ممتعضًا:
_ وممضيهاش انا ليه؟
نظر له "مراد" بجمود قائلاً:
_ عشان انا بقيت جوزها مثلاً!
انهى جملته واتجه لها بالدفتر، وضعه فوق قدمها واعطاها القلم، وتعمد وضع كفه على محل امضته هو، وكأنه يشير لها بمكان امضتها، وبحنكته المعهوده استطاع جعلها تمضي جميع الاوراق وتبصم دون أن ترى اسمه، حتى انتهت، فاسرع باغلاق الدفتر، واعطاه للمأذون..
خطوتان وعاد اليها ليباغتها وهو يلتقطها بين أحضانه، غير عابئًا بالجميع، ولا بشهقتها هي الخِجله، احتضنها وشعر حينها بأنه ملكَ العالم بأسره، كأنه للتو استطاع أن يتنفس، أغمض عيناه وترك خياله يسبح في هذه الضمة، ترك مشاعره تثور، وتعلن عن وجودها، ولم يشعر حتى بدمعته التي انسدلت فوق وجنته تعبيرًا عما هو فيه، ولأول مرة منذُ سنوات تعلن دموعه عن تواجدها، دفن رأسه في كتفها وهو يشدد من احتضانها، غير مباليًا بطول مدة العناق.
وعنها فجسدها ينتفض بين جسده، لقد ظنت انه حين قصد "حضن كتب الكتاب" سيكون بينهما، بمفردهما، لكنه فاجئها ولم يهتم لأحد، ولكن قلبها ما بهِ؟ انه ينتفض حقًا؟! تشعر بقشعريره لذيذة وغريبه تسري في جسدها، احبت عناقه، لكن وجود من حولها يثير خجلها أكثر ويوترها، حاولت ان تهمس له بأن يبتعد، لكن كيف سيسمعها وهي رأسها تقريبًا مدفون بكتفه، وجاءت النجدة من "باهر" الذي تنحنح وهو يقول بعدما صرفَ المأذون و "طارق" الذي حضرَ كشاهدًا، ورجل آخر من طرف "مراد"
_ مش كفاية كده ولا ايه؟
فتح "مراد" عيناه على جملة الأحمق، السخيف، ليتوعد له وهو يستقيم، ولم يفلتها، بل احاط كتفيها بذراعه بكل راحه وهو يقول:
_ مراتي، حد له عندي حاجه؟
ابتسم "باهر" بغيظ يخبره:
_ لا، بس في حدود برضو، بعد الفرح اعمل الي تعمله.
_ طيب مش من حقي اقعد معاها على انفراد دلوقتي؟
رددها ببراءة شككت "باهر" بهِ لكنه لديهِ حق، فمن سيعترض!
_ لا، حقك، انا همشي انا يا خديجة، تعالى يا مصطفى عاوزك.
قالها "باهر" وهو يخرج من الشقة و"مصطفى" يتبعه، تنحنحت "فريال" بحرج وهي تقول:
_ خديجة، انا هدخل يا حبيبتي اروق المطبخ وكده.
اومأت لها "خديجة" بخجل من الموقف بأكمله، لتسرع "فريال" في الاختفاء.
_ حبيبتي ما تسبقيني على اوضتك وهحصلك.
اتسعت عيناها فزعًا وهي ترتد للخلف وقد سقطت ذراعه من على كتفها:
_ اوضتي!! اوضة ايه يا زين؟ ده كتب كتاب مش فرح!
_ يا حبيبتي عارف، بس هنقعد في الصالة ازاي والي رايح والي جاي، مش هناخد راحتنا، ياستي لو عاوزه تسيبي باب الاوضة مفتوح معنديش مانع.
وما قاله بالأخير طمئنها قليلاً، وبالفعل شقتها صغيرة لدرجة إن جلسوا في الصالة وتحدثوا ستسمعهما فريال بالتأكيد وهكذا مصطفى حين يعود.
دلفت للغرفة بتوتر وتردد كبيران لكنها بالأخير فعلت..
انتظر حتى عودة "مصطفى" وابتسم له بلُطف زائف وهو يناديه:
_ تعالى يا درش عاوزك.
اقترب منهُ "مصطفى" مبتسمًا، لا يعرف لِمَ أحب هذا الرجل منذُ أول مرة رآه بهِ، وللعجب ليس هذا فحسب بل أُعجب بهالة من الكبرياء والشموخ التي تحيط بهِ رغم عدم رؤية أحد لهذا، لكنه رآها بوضوح، رغم تعامله اللطيف والطبيعي! وهذا ما جعله لا يستطيع نُطق اسمه مجردًا.
_ نعم يا أبيه.
احاط "مراد" بذراعه كتفه وهو يسأله بود:
_ قولي باهر كان عاوزك في ايه؟
اجابه بصدق:
_ كان بيقولي اول ما تمشي اتصل عليه اعرفه، ولو طولت اتصل عليه قبل ما تمشي، عشان هو يتصرف ويخليك تمشي.
ضاقت عيناه بمكر وهو يستمع لحديث الآخر، إذًا "باهر" يريد فرد سلطته حتى وهو بعيد! إن بدأ هذه اللعبة فهو خير من ينهي المباراة لصالحه، فاخرج من جيبه حافظته وعبث بها قليلاً مخرجًا بعض العملات الورقية ربما تخطت الربعمائة جنيهًا، ووضعهم في جيب "مصطفى" أسفل نظرات الآخر المصدومة، ليبتسم له "باهر" بود قائلاً:
_ خلي دول معاك يمكن تحتاج حاجه للدروس، ومن هنا ورايح اي حاجه تحتاجها تقولي انا عليها ملكش دعوه بخديجة، وياريت متعرفهاش عشان الجنونة بتاعتها متقومش علينا وتقف تدينا محاضرة عن الكرامة وعِزة النفس.
ضحك "مصطفى" بسعادة بالغة وهو يومئ برأسه سريعًا:
_ لا لا مش هقولها خالص.
ربط على كتفه وهو يقول:
_ جدع يا مصطفى، عاوزك بقى كمان عشر دقايق كده تتصل بابن عمك ده وتقوله اني مشيت، ماشي يا حبيبي؟
وبدون تفكير كان "مصطفى" يجيبه:
_ عشر دقايق بالثانية وهكلمه.
_ جدع يا درش.
رددها وهو يبعثر خصلات شعره بمرح، وتركه متجهًا لغرفة "فتاتة"....
دلف الغرفة ليتسمر محله وهو يراها واقفة أمام المرآة بعد أن تخلت عن حجابها سامحة لخصلاتها السوداء بتغطية ظهرها، مازالت بنفس فستانها وزينتها البسيطة، لكنها تخلت عن حجابها فقط، رآها تفرك كفيها بتوتر واضح، واخفضت نظرها فور انعكاس صورته في المرآة خجِلاً، اقترب بخطواته التي ترفع من دقات قلبها وقلبه هو قبلها، حتى أصبح خلفها تمامًا، فقبض على كتفيها برفق يديرها له، فاستدارت ومازال نظرها يطالع الأرضية، استمعت لتنهيدة عميقة خرجت منه قبل أن تسمعه يقول بنبرة لم تسمعها منهُ من قبل، نبرة مليئة بالمشاعر:
_ وهل يرضيكِ إن أهديت عيني إلي عينيــكِ
تنظـرها ثواني
فأسقط والفـؤاد صريع حبٍ
ومغشيٌّ عليه بمـا غشـانـي
وحسبي في الهوى أنّي جليسٌ
لمن جلست على عرش الحِسانِ
تفيض من الرّبيع أريج عطرٍ
وتمـلأ روحهــــا ريـح المكـانِ
هي الحسناء ما أسكَتُ عنها مساعي القرب
لو جاءت زماني
ولكنّ البديـع أراد منهـا عزيـزاً في المنال لكي أعـاني.
رفعت نظرها له مندهشه وسألته باستغراب:
_ أنتَ ليك في الشعر؟!
ضحك بخفوت وهو يجيبها:
_ عمري، بس حسيت إن أي كلام هقوله ليكِ مش هيوصلك الي جوايا، وكنت سمعت حد مرة قال أن الشِعر بيعبر عن الي منقدرش نعبر عنه بكل كلامنا العادي، ففضلت ادور وابحث لحد ما لقيت دي وحسيت إنها ممكن توصل جزء من احساسي.
ادمعت عيناها وهي تنظر له بامتنان جم وقالت ضاحكة:
_ حلوة اوي، عجبتني.
رفع كفيهِ ليكوب وجهها بينهما غير مهتمًا بتلك. النفضة التي اصابتها ولا بالقشعريرة التي انتابته، وأعينه تحمل حبًا وشوقًا، لهفًة وعشقًا، كان يهمس لها بأعين لامعة:
_ خديجة، أنا بحبك، بحبك أكتر حاجة في دنيتي، واكتر من أي حاجة ممكن تتخيليها، مش هبالغ لو قولتلك بحبك اكتر من نفسي بمراحل، بس ده هتكتشفيه لوحدك مع الوقت، هتعرفي إني مستعد أضحي بروحي عشانك، هتعرفي إن بكلمة منك تقدر تغير مزاجي وتقلب يومي كله، انا عمر ماحد قدر يسيطر عليَّ، ولا يفرق معايا لدرجة إني اغير قراري عشانه، عمري ما حطيت روحي في ايد حد، ولا سمحت لحد ياخد جوايا اكتر من اللي المفروض ياخده، لكن أنتِ...
تنهيدة أعمق وهو يهز رأسه يأسًا على حالته معها:
_ أنتِ كسرتي كل القواعد، خلتيني احط روحي في ايدك وأنا راضي، تخيلي!؟
انسدلت دمعاتها بسعادة، لم تتخيل في اضغاث احلامها أن تسمع كلامًا كهذا من أحد، لم تتوقع أن يحبها أحدهم هكذا!
_ أنا... أنا كمان بحبك، مش عارفة حبيتك ازاي وأنا كنت حالفة ما اعيش الحب ولا اجربه، بس لقتني بقع فيك من غير ما احس، لاقتني مهتمة بتفاصيلك وبسلامتك، لاقيت قلبي طاير لما اعترفتلي بمشاعرك وإنك جاي تتقدملي، كل يوم في سنتين الخطوبة كنت بحبك اكتر، لحد ما.. ما مبقتش شايفه حياتي من غيرك، أنا بحبك اوي يا...
قاطعها كي لا تكمل، قاطعها لأنه لا يريد أن يسمع لإسمه المستعار، لا يريد أن يفقد حلاوة حديثها بذِكرها لأسم لا يخصه، ومقاطعته لها كانت بشيء لم تتوقعه، شيء حبسَ أنفاسها بداخلها، حين اقتحم عذرية شفاتيها ليثبت أنه الآن بات زوجها بحق!
دقائق وصلت بها مشاعرهما لأقصى ما يمكن أن تصل بهِ، والاثنان لا يصدقان أنهما يمرا بتجربة كهذه، حتى ابتعد عنها ولم ينظر لها فقط احتضنها، وبقت في احضانه لأكثر من خمس دقائق.. لا حديث، فقط مشاعرهما تتحدث.
__________________
استمتعت لدقات فوق باب غرفتها التي تتخذها مخبأً لها، فاتجهت بكرسيها لتفتحه، فوجدت "حسن" أمامها، امتعضت ملامحها وهي تشيح بوجهها للجهة الأخرى وهي تغمغم بضيق:
_ نعم؟
ابتسم ساخرًا وهو يخبرها بينما يستند بذراعه على جانب الباب:
_ مش جاي ازعجك متخافيش، انا جاي ابلغك حاجة وامشي.
نظرت له بنفس ملامحها تحثه على الحديث لتسمعه يسألها:
_ اومال المحروس ابنك فين؟
عقدت حاجبيها استغرابًا، اجابته:
_ ايه الي فين؟ في الشغل.
ضحك بسخافة يخبرها:
_ شغل! لأ واضح إنك متعرفيش صحيح، ابنك يا ليلى هانم غفلني وغفلك.
_ أنتَ بتقول ايه ما تتكلم من غير الغاز!؟
هدرت بهِ وقد قلقت من حديثه على ولدها، لتراه يردد بكره حقيقي:
_ ابنك راح يتجوز، النهاردة كتب كتابة على بنت الخدامة فكراها؟ الي زمان قولتيلي عيال وبيلعبوا، واقولك الاكتر بقى...
اقترب بجسده منها وانحنى ليكن وجهه مقابل لوجهها وهو يخبرها بابتسامة متشفية:
_ ابنك راح يتجوزها باسم تاني وشخصية تانية، عارفه ليه!؟
ملامحها مصدومة، عيناها واسعتان غير مصدقة ما يقع على مسامعها، هل "مراد" خدعها وكذب عليها كل هذه الفترة السابقة!
رأى صدمتها ليبتسم أكثر وهو يقول:
_ هقولك ليه... عشان هو زمان قتل اختها، سارة.. فكراها، يعني ابنك مش احسن مني يا ليلى.. قعدت سنين بتحاربي عشان يكون احسن مني، لكن الحقيقة انه من وهو عنده ١٢ سنة قتل! تخيلي...
حُبست انفاسها في صدرها لثواني، وتجمدت دمائها غير مستوعبة ما تسمعه، وكان أول ما هتفت بهِ وقد زينت دموعها وجنتيها، بانهيار تام كانت تقول:
_ لا.. لا انت كداب، ابني مش كده، ابني مش هيكون زيك، أنا ضيعت عمري عشان ميكونش زيك.. مراد مش كده، مش كده سامع يا حسن، سااااامع...
صرخت بالأخيرة بقهر وقد ذهب من أمامها، بلا مبالاة بحالتها، فقد اوصلها ما أراد إيصاله.....
________________
_ امشي بقى يا زين اتأخرت اوي..
أردفت بها "خديجة" وهي تسحب يدها من يده الممسكة بها منذُ ساعة مضت، اشبعها كلامًا معسولاً، حتى ارهق مشاعرها، خجلت بما يكفي اليوم، ألن يذهب إذًا!؟
تأفأف نازقًا وهو يخبرها:
_ أنتِ زهقانة مني؟
ابتسمت له وهي تجيبه:
_ لا والله، بس بجد كفاية كده، عشان برضو فريال مش واخده راحتها بره لتطلع في اي وقت.
وعلى مضض كان يعقب لاويًا شفتيهِ كالأطفال:
_ ماشي، بس هجيلك بكره تاني.
ضحكت وهي تهز رأسها بيأس على تذمره، وتمسكه بها وكأنها ستهرب، وبعفوية منها قرصت خده بلطف تخبره:
_ أنتَ تيجي في اي وقت براحتك اصلاً.
غامت عيناه بالمشاعر مرة أخرى واقترب بوجهه قليلاً يخبرها بوله:
_ همشي، بس هاتي قبلة الوداع.
انتفضت مبتعدة عنه ضاحكة:
_ وداع ايه أنتَ مهاجر! بطل قلة أدب بقى.
انهت حديثها وخرجت من الغرفة على الفور ليضطر هو أن يتبعها، وودعته أمام باب الشقة، وعادت لغرفتها تخبر "فريال" :
_ فريال هدخل اغير واطلعلك..
دلفت للغرفة مغلقة الباب خلفها استندت على ظهره تتنهد بحالمية، لقد كانت طوال الساعة المنصرمة ترتفع فوق السِحاب، تمنت لو لا يمر الوقت، تمنت لو بإمكانها الذهاب معه لشقته الآن...
خجلت من تفكيرها لتضرب جبهتها وهي تردد بمرح:
_ ايه الهطل ده، انا لازم اتقل شوية مش كدة، بس اتقل ازاي بعيونه الزرقا ولا الخضرا ولا الرمادي دي الي محدش عارفلها لون ولا كلامه اللي...
توقفت وهي ترى ذلك المظروف الذي اخبرتها عنه "فريال"، فاتجهت له تتفحصه باستغراب، وقررت فتحه فلترى ما بداخله....
وياليتها بم تراه، ليتها لم تفتحه من الأساس..
اوراق، صورة بطاقة، وصورة من جريدة لصورة تضم "مراد" وهو ببذلة انيقة جدًا ويقف وبيده سيجار، وكُتب فوقها بالبنط العريض
" رغم صِغر سنه، استطاع رجل الأعمال" مراد وهدان" أن يُثبت جدارته خلال سنوات قليلة، ليترأس قائمة أفضل رِجال الأعمال الصاعدين"
ومرفق بهم صورة لها وله حين كانا طفلان....
انتهى الجزء الأول من روايتنا "بكِ أحيا"
كونوا بالقرب لبدأ ملحمة جديدة في الجزء الثاني" الحصان والبيدق" ملحمة ستكون مختلفة بكل تفاصيلها♥️
ترقبوا الجديد❤️❤️❤️
تكملة الرواية الجزء الثاني من هنااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا