رواية سجينة جبل العامري الفصل الواحد وعشرين والثاني وعشرون والثالث وعشرون والرابع وعشرون والخامس وعشرون الأخير بقلم ندا حسن جميع الفصول كامله
رواية سجينة جبل العامري الفصل الواحد وعشرين والثاني وعشرون والثالث وعشرون والرابع وعشرون والخامس وعشرون الأخير بقلم ندا حسن جميع الفصول كامله
#سجينة_جبل_العامري
#الفصل_الواحد_والعشرون
ندا_حسن
"ربما، خدعة بسيطة بتدمير العلاقات تكن بداية ظهور الحقائق"
وقف أمامها ذلك الذئب البشري الذي رأته كثيرًا من المرات منذ أن أتت إلى الجزيرة ولكن منذ فترة طويلة لم ترى طيفه ولم تشعر بوجوده.. كيف له أن يخرج الآن!..
تحرك أهدابها بكثرة تنظر إليه بخوف ورهبة شديدة، الارتعاش احتل سائر جسدها وأخذ قلبها يخفق بعنف وقسوة خوفًا مما هو قادم عليها معه..
أقترب منها ينحني على الفراش يستند عليه بإحدى قدميه ليقبض على خصلات شعرها مرة أخرى بقسوة ضارية فصرخت خائفة من اهتياجه وشراسته الواضحة ولكن صوته خرج خافتًا أمام وجهها:
-طاهر طريقك لجهنم يا غزال.. عرفاها؟
رفعت يدها تقبض على يده الممسكة بخصلات شعرها بعد أن شعرت بالألم المُميت يضرب رأسها وكأنه يقتلع شعرها من جذوره قائلة بتردد وارتعاش:
-اسمعني يا جبل أنا هفهمك اللي حصل
سألها قاطبًا جبينه مضيقًا عيناه عليها شاعرًا بالألم يغذو قلبه والغدر متربع على عرشه:
-تفهميني ايه بالظبط
اشتدت يده على خصلاتها يكرر بعنف وغلظة:
-تفهميني إنك خاينة وغدارة وحقيرة
أكمل بنظرات محتقرة ولا يحركه تجاهها إلا العشق الذي اضنى قلبه:
-بس العيب مش عليكي العيب على الخايب اللي زيي اللي سمحلك بالتمادي كده.. العيب عليا علشان حبيت واحدة زيك
حركت يدها أمام وجهه وترقرت الدمعات بعينيها بعدما رأت نظرته المحتقرة نحوها غير مدرك ما الذي حدث يظلمها بقسوة:
-والله العظيم أنا هفهمك كل حاجه بس استنى
وضع إصبع يده أمام شفتيه قائلًا بجمود:
-شش، مش عايز أسمع صوتك..
انهمرت العبرات من عينيها بكثرة خلف بعضهما وكأن باب السجن فتح على مصراعيه، تنظر إليه بضعف وقهر شديد لا تصدق أن كل ما امتلكته سيضيع بهذه الطريقة خرج صوتها ملحًا:
-لازم تسمعني لازم تفهم اللي حصل علشان يبقى رقمه عندي علشان خاطري يا جبل بلاش تعمل كده اسمعني
نظر إلى عبراتها، وشعر بارتعاش بدنها، خفق قلبه داخل أضلعه وأشبع عيناه من ملامحها، تلك الطعنة تؤثر على ما يخرج منه، ينظر إليها بعتاب خالص وتحدث بخفوت:
-قولتيله السر اللي مأمنتش حد من أهلي عليه غيرك! ضربتيني في ضهري وقولتيله إني بشتغل مع الحكومة
حركت رأسها بقوة يمينًا ويسارًا تتابعه بعينين متسعة للغاية فهي لم تفعل لذلك لتصرخ بهستيرية:
-لأ والله العظيم لأ.. أقسم بالله لأ يا جبل لأ أنا معملتش كده
ترك رأسها وخصلاتها ووقف مستقيمًا ينظر إليها بخذلان واضح تعبر عنه عيناه القاسية التي تحاول جاهدة إخفاء ما به ليظهر لها فقط الغلظة والعنف:
-اومال عملتي ايه؟ كنتي بتدوري ورايا علشانه مش علشان ترتاحي
اعتدلت جالسة على الفراش تمسح عبراتها قائلة بحزن طاغي عليها:
-والله لأ أقسملك بالله لأ افهمني واسمع كلامي الأول بعدين أحكم عليا
أومأ إليها برأسه يقول بجدية:
-قولي كلامك
ازدردت ريقها بصعوبة بالغة، وأخذت نفس عميق ثم بدأت بسرد ما حدث باستفاضة:
-هو كلمني وأنا مكنتش أعرفه والله قالي إن اسمه طاهر موجود في الجزيرة هنا ويقدر يخرجني منها من غير أذى لأنه عارف إنك مقعدني غصب عني الكلام ده كله قبل ما أفكر فيك ولا تفكر فيا أقسم بالله كل ده من زمان
جف حلقها أكثر وتابعت عيناه المناظرة إليها ببغض يماثلة الضعف، أكملت بخفوت:
-كلمته كام مرة بس استعجله في خروجنا من هنا وهو كلمني كام مرة يسألني عن حاجات عنك بس أنا مكنتش أعرف أي حاجه عنك أصلًا
ابتسم بتهكم، يبكي على قلبه المُتألم الذي لعبت به لعبة قذرة ومازالت تكمل بها معتقدة أنه طفل صغيرة سيصدق ما تقوله كما كان يفعل، سألها ساخرًا:
-ولما عرفتي قولتيله كل حاجه
نفت حديثه بقوة شديدة:
-والله العظيم محصلش
استدار يقف يعطيها ظهره لا يريد النظر إلى وجهها، ذلك الحب بقلبه كبير للغاية يضعفه بشدة وكأنها آخر نساء الأرض، كلما نظر إليها شعر بأنها صادقة لا تفعل ذلك ولكن العقل والمنطق يكذبونها..
-وهو عرف منين!..
أمسكت بكف يده وهو مازال يعطيها ظهره لتبدأ في البكاء الحاد خائفة من فقدانه بعدما شعر قلبها بمذاق العشق معه، ارتفع صوتها بالنحيب:
-معرفش والله معرفش بس أنا مقولتش حاجه يا جبل صدقني أنا عمري ما اغدر بيك أنا وقتها كنت عايزة أمشي بأي طريقة.. والله ما عرفته غير لما أنت حكيت عنه
صدح صوته في الغرفة صارخًا يبعد يدها عنه بعصبية:
-لو مش أنتي اللي قاله إني شغال مع الحكومة يبقى مـــيـــن
أجابته دون علم بجدية وصدق:
-معرفش
أقترب منها يُميل عليها بجسده إلى الأسفل، تحولت نظرات عينيه الراجية صدقها إلى نظرات أخرى مفترسة ثاقبة يخرج الكلمات من فمه بجمود:
-أنتي كدابة يا غزال.. كدابة عارفه ليه
وضع يده على وجنتها كما كل مرة يقوم بفعلها بحميمة، ولكن الآن يده لا تعبر إلا عن القسوة والجمود ككل ملامحه وحديثه:
-علشان بقالي سنين وسنين شغال وهو ولا عشرة زيه عرفوا حاجه عني.. معرفش غير لما امنت لواحدة زيك.. ولا عايزة تشككيني في عاصم من تاني
انهارت في البكاء أكثر، تهاب الفقدان بشدة، تهابه لدرجة لا يمكن تحملها ولأول مرة تكن هكذا تبكي بكل هذا القدر ولكن مذاق الحب غالي.. وفقدانه مرير، تفوهت قائلة:
-أنا مش عايزة اشكك في حد بس والله مش أنا
حرك عينيه عليها، لا يستطيع التصديق وإن صدق كيف يمرر ما حدث لا يوجد غيرها يعلم و "عاصم" إن كان يريد فعلها لما الآن.. ولما قد يفعل:
-حتى لو عايزة أنا مش هشك في عاصم علشان هو ميعملهاش.. ولو كان عايز يعملها كان عملها من زمان أوي.. مافيش غيرك
بررت موقفها مرة أخرى بضعف وبكاء حاد:
-احلفلك بايه إني معملتش كده كل اللي عملته إني كلمته علشان يهربني من الجزيرة ومن فترة كبيرة أوي.. ومكنتش أعرفه هو اللي كلمني والله
بقيٰ ينظر إليها، يشعر بقلبه يطالبه بالرحمة والغفران يطلب منه أن يسامحها ويلقي ما حدث خلف ظهره، ولكن كيف وهو ليس وحده! لم تؤذية هو فقط بل قدمت الأذى على طبق من ذهب للجميع ودمرت كل شيء.. كيف سيصدقها وهي من تحدثت معه؟ كيف وهي الوحيدة التي تعرف ذلك السر والذي لم يعرفه أحد إلا من بعدها ولم يكن أي أحد..
ضيق ما بين حاجبيه وسألها ببرود:
-ايه أسوأ حاجه ممكن تيجي في بالك هعملها فيكي!
اخترقت قلبها تلك الكلمات الغليظة المعبرة عن قسوة القادم، شهقت بعنف وحدة من بين بكائها لتقول بيقين تنظر إلى عيناه برجاء:
-مش هتعمل فيا حاجه يا جبل.. أنت بتحبني
أبتعد للخلف وتعالت ضحكاته في الغرفة ينظر إليها بقوة، إلى هذه الدرجة أصبح ضعيف أمامها لتتحدث بكل هذه الثقة! صرخ بعنف وصوت حاد:
-علشلن كده جبل ماينفعش يحب.. ماينفعش علشان كلكم اوساخ
سار في الغرفة بهمجية شديدة ليتقدم من الطاولة يضربها بقدمه لتقع على الأرضية تهبط بكل ما عليها ليتهشم فيعود صارخًا:
-بس تعرفي أنتي تستاهلي أي حاجه أعملها فيكي.. أي حاجه
تابعته بنظرات خائفة مذعورة مما قد يفعله بها وعلى الرغم من ذلك كان قلبها يحثها أنه لن يؤذيها
أقترب منها يقبض على خصلاتها من الخلف يقربها منه وتحدث أمام وجهها بألم كبير وادمعت عيناه مرة أخرى أمامها:
-بس علشان أنا بحبك مش هعرف اذيكي.. بس هقهر قلبك يا زينة.. هقهرك
ابتلعت ما وقف بحلقها ورفعت يدها الاثنين إلى وجنتيه تمررهما عليه بحنو ورفق قائلة ومازالت تبكي بضعف:
-جبل صدقني أنا معملتش حاجه.. أنا عارفه إنك في موقف صعب وعارفه إن معاك حق تشك فيا بس والله العظيم معملتش حاجه وحياة ربنا
ابتسم أمام وجهها وتحولت نظراته المتألمة إلى أخرى عنيفة ليجذبها من خصلاتها بضراوة وهتف بصوت يجلجل أرجاء المكان:
-تـعـالـي
وقفت رغمًا عنها يجذبها معه متمسكًا بشعرها بعنف وضراوة يخرجها من الغرفة عنوة ليتبع خروجهما صوتها المتألم:
-هتوديني فين.. الجبل
ابتسم بقهر وازلال ناظرًا إليها:
-أسوأ
وقفت تثبت قدميها في الأرضية لا تريد النزوح عن عنها خوفًا مما سيفعله فلا شيء ينذر عن وجود خير أبدًا ولم يقابلها منه إلا البغض والغلظة وهو يجذبها:
-يــلا
رفعت يدها إلى يده تحاول بكل قوتها أن تجعله يتركها صارخة به بعنف وهي تُسير في القصر أسفل قبضته:
-جبل اوعا سيبني اوعا
شدد على قبضته عليها لا يعيرها اهتمام ولكنه توقف يصيح بهمجية واحتقار:
-اخرسي خالص مش عايز أسمع نفسك فاهمه ولا لأ
حاولت مرة أخرى وبكائها يعلو:
-بقولك اوعا أنا والله معملتش كده أنت ظالمني يا جبل والله
لم تجد منه إلا الصراخ القاسي:
-اخرسي
خرجت والدته على صوتهم المرتفع تنظر إليه باستغراب شديد وتوجهت نحوه سريعًا تدفعه بعيدًا عنها صارخة عليه بقسوة:
-أنت بتعمل ايه يا جبل سيبها
قابلها بالقسوة والكره الشديد يخرج صوته متألمًا:
-محدش ليه دعوة.. اللي هيدخل مش هرحمه
أتت على الصوت شقيقتها التي اقتربت منه بقوة شدية تحاول جذبها منه تقوم بضربه على ذراعه الممسك بها تصرخ بخوف وارتعاش:
-أبعد عنها.. اوعا سيبها أنت بتعمل فيها ايه حرام عليك
تحدثت "زينة" بضعف وهي أسفل قبضته قائلة بصوت خافت مقهور:
-اسكتي يا إسراء اسكتي
هبط بها درجات السلم عنوة وكادت أن تسقط على وجهها أكثر من مرة ولكنها تشبثت بذراعه تحاول النظر إليه بضعف وقلة حيلة لا تعلم ما السبيل للتخلص من هذا العذاب تحاول مرة أخرى أن تثبت له أنها بريئة..
ركضت ابنتها تتشبث بها تبكي بقوة وهي تحاول دفعه للخلف تضربه في قدمه بقبضة يدها:
-سيب ماما.. سيب ماما
نظر إلى والدته بقسوة شديدة مُشيرًا إليها لتتقدم تأخذ الصغيرة بين يديها محاولة السيطرة عليها وهي تنظر إلى ابنها الذي لم يصل إلى هذه الحالة أبدًا حتى عندما تركته "تمارا" ورحلت.. فلم تستطع التدخل وهي تشعر أنه صقر جريح محجوب عنه التعبير عن ألمه
لم تستطع "إسراء" الصمود وهي تراه يجذبها نحو البوابة فصرخت عليه مرة أخرى لم تستطع التحمل وهي ترى شقيقتها تبكي بكل هذا القدر لا تقوى على أبعاده عنها فأقتربت هي تحاول أن تبعده تصيح عليه بهمجية شديدة تغلبت على ضعفها وخوفها منه تقف أمامه بالمرصاد للدفاع عن شقيقتها..
دفع بـ "زينة" إلى الحائط ليرطدم ظهرها به بعنف فتألمت بخفوت لتراه يفتح البوابة يصيح باسم "عاصم" فوقفت "إسراء" معها تحتضنها بقوة بينما ابنتها تحاول جاهدة في أن تتركها جدتها ولكن لا مفر
وقف أمامها قائلًا بنظرات محتقرة كارهه:
-مش هخلي حد يشمت فيا بسبب واحدة زيك.. أنتي مكانك مش من هنا
كان يُشير ناحية بوابة القصر الذي كان عازم أمره على خروجها منها ولكنه غير رأيه في آخر لحظة، أتى "عاصم" إليه ليصرخ قائلًا مشيرًا ناحية "إسراء":
-خد البت دي في أي داهية
استعادت "زينة" قوتها وهي تصرخ بوجهه تمسك بشقيقتها بقوة:
-جبل متتجننش البنت معملتش حاجه وملهاش دعوة
خرج صوته غاضبًا:
-عـاصـم
كان "عاصم" يقف مذهولًا لم يفهم ما الذي يحدث بينهم من الأساس ولكنه لم يكن قادرًا على الإقتراب منها عنوة ووقف ينظر إليهم باستغراب فصرخ "جبل" عليه بقسوة ليتقدم جاذبًا إياها بقوة شديدة محاولًا السيطرة على جسدها وهي تحاول أيضًا الفرار منه تبكي بعنف تصرخ عليه:
-أبعد عني يا عاصم.. حرام عليك خليه يسيبها هو عايز منها ايه
بينما كانت "زينة" تفعل المثل معه تترجاه أن يترك شقيقتها خائفة أن يفعل لها شيء بشع كالذي هددها به سابقًا لكنه لم يعطيها أهمية وسار بها يجذبها من ذراعها إلى خلف الدرج ليرفع ذلك الباب الخشبي من الأرضية مرة أخرى يجعلها تهبط إلى الداخل عنوة..
تحت صراخ شقيقتها وابنتها التي تتلوى بين يدي جدتها.. والجميع يقف مذهولًا مما حدث بينهم في لمح البصر..
هبط بها إلى الغرفة في الداخل يغلق الباب من خلفه، ثم أخذها قهرًا وبغضًا ليُسير في الممر الذي يؤدي إلى غابة الجزيرة بعدما أشعل ضوء هاتفه الذي أخذه معه في جيبه..
وقفت في المنتصف دافعة إياه بقوة وعنف لتصرخ بجنون:
-أنت موديني فين يا جبل.. قولتلك إني معملتش حاجه
أجابها ساخرًا متحكمًا بمشاعره:
-أنتي قولتي اسمعني وأحكم وأنا حكمت
ابتلعت ريقها الذي شعرت بمرارة العلقم به وصرخت عاليًا:
-حكمت ظلم أنا معملتش حاجه
أقترب ممسكًا بذراعيها الاثنين قابضًا عليهم بعنف وقسوة يهتف بجدية وجمود:
-مافيش غيرك كلمه.. من ورايا حتى لو قبل كل ده وأنتي صادقة بردو كنتي هتغدري بيا.. محدش يعرف سري غيرك وهو عرفه كل الأدلة ضدك يا زينة.. يمكن قلبي مصدقك بس مش هديله فرصة أنه يخليني مضحكة الناس من تاني
لانت ملامحها وانهارت الدموع من عينيها مرة أخرى بغزارة أكبر وهي تنظر إليه برجاء:
-جبل صدقني
شدد على يدها بغضب أسفل قبضته، اخترق عينيها بعيناه الخضراء ليقول بنبرة مرهقة متألمة:
-هطلع قلبي من مكانه وادوس عليه بكل قوتي علشان ميصدقش واحدة ست مرة تانية
صاحت أمام وجهه بضراوة وهي متمسكه به لأبعد حد توضح له بحدة:
-أنا مراتك مش واحدة.. أنا مش تمارا
ابتسم ساخرًا محركًا رأسه بياس ثم صدمها بحديثه الجاد:
-تمارا كانت أحسن منك مليون مرة.. تمارا مشيت من غير أذى إنما أنتي.. أنتي طعنتيني وعلى قد الحب كان الوجع يا غزال
أكمل يقبض عليها أكثر يخرج قوته وسطوته عليها وعلى الجميع:
-بس أنا جبل العامري.. وغلاوتك عندي ما هصرخ ولا هتألم.. أنا هنا بس علشان أتعلم
حركت عينيها على ملامحه، تراودها مشاعر كثيرة أوضحها الخوف والرهبة، الخوف منه ومن فقدانه، تألمت سائلة إياه:
-عايز تعمل فيا ايه يا جبل
خفف من حدة قبضته على ذراعيها، ليحرك يده بهدوء ينظر إليها بضعف شديد غير قادر على أن يؤذيها:
-مقدرش اذيكي.. هبقى كداب لو قولت أقدر.. بقيت ضعيف بسببك.. بسبب حبك بس مع خروجك من هنا هرجع جبل اللي الكل يعرفه
استنكرت تردد:
-خروجي
قال بنبرة جافة قاسية:
-دي الأذية اللي أقدر أعملها فيكي.. هبقى مقربتش منك بس قهرتك يا زينة
أبعدت يده عنها ونظرت إليه بذهول وتحولت ملامحها تسأله بنبرة مترددة:
-أنت بتقول ايه.. ووعد وإسراء
ابتسم ساخرًا ثانيةً ليقول مهزوزًا:
-هو محدش قالك
حركت رأسها متسائلة:
-قالي ايه
تعمق في النظر إليها ليلقي عليها قنبلته الموقوتة:
-مش أنا قررت أجوز إسراء لعاصم.. ووعد بنتي مش هتطلع من هنا
تعلقت به وهي تقبض على يداه كما فعل معها تصيح بقوة وخوف:
-أنت أكيد اتجننت مستحيل اسيبك تعمل كده
استرد بخشونة على الرغم من أنه يشعر بالشفقة عليها:
-أنتي هتبقي بره يا زينة.. بره
عادت مبتعدة عنه تنظر إليه بذهول، الآن فهمت أنه لن يؤذيها ولكن يدمرها.. صاحت قائلة:
-جبل إسراء أختي أنا اختي.. مش من العامرية علشان تتحكم فيها ووعد بنتي
أجابها ببرود:
-وده حكمي
اخترقت سمعه بكلماتها القاسية:
-ظالم.. ليه مع كل الناس عادل إلا أنا
اهتاج وهو يقبض على يدها بشراسة قائلًا من بين أسنانه:
-وأنتي ليه عملتي معايا كده
صرخت بعنف بعدما نفذ صبرها:
-معملتش صدقني معملتش
بكيت بضعف والحديث بينهم مختلف والمشاعر مهتاجة ومتضاربة، خرج صوتها ضعيف للغاية راجية منه التصديق:
-والله العظيم أنا بحبك.. كل كلمة قولتها ليك صدق أنا حبيتك من قلبي ومش عايزة اسيبك عايزة أفضل معاك يا جبل.. وأنا غلطت لما كلمت طاهر عارفه بس والله العظيم ما قولتله أي حاجه عنك ده ملعوب صدقني
فكر قليلًا في حديثها، ولكن مَن مِن الممكن أن يفعلها مَن مِن الأساس يعلم بمجال عمله، نعم ربما كما قالت خطة مدروسة ومحكمة التنفيذ ولكن كيف؟ كيف عقله سيجُن أنها الوحيدة التي تعلم ولا يستطيع الشك بـ "عاصم" إنه معه في جميع الأحوال..
سألها مضيقًا عينيه عليها بقوة:
-ملعوب من مين محدش يعرف غيرك
أجابته بعدم معرفة مُتحيرة ولكنها مُتأكدة مما تقوله:
-معرفش بس اتعملت قبل كده مع عاصم يقدر يعملها معايا
عقب على حديثها بعدما عاد للخلف ينظر إليها بتركيز:
-اللي عملها مع عاصم فرح وجلال
أكملت بجدية موضحة:
-وطاهر
بقي ينظر إليها للحظات، لا يدري أهو تسرع في الحكم عليها أم أنها كاذبة مخادعة استطاعت أن تفعل به ذلك وتجعله اضحوكه أمام نفسه وأمام الجميع.. ولكن كل الأدلة ضدها.. كيف يصدق كيف
قالت بلهفة بعد أن تذكرت:
-طاهر قالي أنه جايب رقمي من جوا القصر
لن يصدقها، يحبها ويعشقها وبات عشقها يسري في أوردته ولكنه لن يضحي ببلدة بأكملها لأجل حب خادع:
-أنا حكمت.. وحكمي طول عمره بيتنفذ
جذبها من ذراعها بقوة ليسير بها مرة أخرى يخرجها من الجزيرة عنوة لم يسلك الطريق العام كي لا يراه أحد من أهلها فيصبح أضحوكة الجميع..
عارضت ما يفعله تضربه بقوة وهو يحكم قبضته عليها لا تستطيع الفرار منه تصرخ بعنف وقهر خائفة مما يفعله أنه يسلبها حياتها كلها.. ابنتها وشقيقتها وهو!..
نظرت إلى الأرض وهو يسير بها كان عليها سلاح ملقى منذ تلك المرة الأولى التي دلفت بها إلى هنا..
عمقت النظر إلى السلاح ثم إليه وهو يجذبها معه فدفعته بقوة كبيرة مبتعدة عنه لتقع على الأرضية تتمسك بالسلاح بيدها تشعره بصدمة كبيرة ينظر إليها بحدة..
رفعت السلاح وهي تقف أمامه على بعد خطوات فضحك بقوة متألمًا:
-هتقتليني
ابتسمت هي الأخرى ودمعاتها تفر من عينيها بغزارة وجهت السلاح إلى منتصف صدرها قائلة بصوت خافت ضعيف:
-هقتل نفسي
صرخ بعنف وهمجية شديدة بعدما خفق قلبه من فعلتها وارتعدت أوصاله يُشير بيده بغضب كبير محاولًا الإقتراب منها:
-سيبي السلاح بلاش جنان
انهرمت الدموع من عينيها بيأس وضعف:
-مش هسيبه.. هتفيد بايه حياتي وأنت واخد مني كل حاجه عايشة علشانها وأنت واخد مني روحي بعد ما ربنا رجعهالي
أقترب أكثر بخطوات بطيئة وعيناه متعمقة عليها يقول بلهفة وقلق:
-سيبي السلاح وهنتفاهم
حركت رأسها بالنفي تبكي بشدة وأردفت بحزن:
-أنا حاولت افهمك واوضحلك اللي حصل بس أنت مش عايز
أومأ إليها برأسه والخوف يخترق روحه فقال بهدوء ليجعلها تطمئن:
-سيبي السلاح يا زينة متعمليش كده
صرخت بعنف وهي تنتحب بشدة:
-أنت عملت كده وقتلتني وأنت مش واثق فيا
يدري أن حديثها صحيح، هو ليس رجل أحمق وليس طفل لا يستطيع التفكير ولكنه للأسف مشتت للغاية وما حدث يؤثر عليه، قال بارهاق:
-حطي نفسك مكاني يا زينة محدش يعرف غيرك
انهارت من حديثه المتهم إياها به ونظرته المشكلة بإخلاصها له فصرخت بعنف وتهور:
-يارب وعد بنتي تموت لو كنت أنا اللي قولتله أنك شغال مع الشرطة
نظر إليها طويلًا وهو يدرك مدى حبها لابنتها وتمسكها بها، إنها أم لمن المستحيل أن تدعي على ابنتها فلذة كبدها بالموت وهي بريئة
مد يده إليها بهدوء وقد أشفق عليها بسبب حالتها وهو يرى مدى تمسكها بأن تثبت له براءتها:
-هاتي السلاح يا زينة مصدقك
نظرت إلى عيناه مباشرة للحظات وهي على نفس الوضع ثم بعد أن أدركت ما به قالت بانهيار:
-لأ أنت مش مصدقني يا جبل.. مش مصدقني
تقدم خطوة واسعة منها فعادت هي للخلف فوقف مكانه وهو يصيح بنفاذ صبر خوفًا من تهورها:
-الله وكيل صدقتك خلاص.. هاتي السلاح وهنرجع نتكلم بالراحة ومش هسيبك يا زينة
تابعته أكثر بعيون متمسكة له لأبعد حد تنتظر أن يدلي بثقته الكبيرة بها وبتصديقه لحديثها فقالت من بين بكائها الحاد:
-مصدق بجد إني مغدرتش بيك.. أقسملك بالله ما عملتها أنا بس كلمته علشان يخرجني من الجزيرة ووقتها مكنتش بحبك يا جبل والله.. أنت معملتش فيا كده لما حاولت اقتلك
تنهد بعمق وزفر الهواء بقوة، وقف معتدلًا ينظر إليها بهدوء وخرج الحديث من داخل أعماقه يقول بجدية شديدة وحزن طاغي على نبرته:
-أنا مجروح.. حبيتك، حبيت بجد ومحبتش حد قدك ومن وقت ما قلبي حس وبدأ ينبض وأنا عندي نقطة ضعف اسمها زينة.. حسي بيا وقدري اللي فيه محدش يعرف غيرك يا زينة وهو عرف شغل سنين هيروح مني.. عمري كله هيروح
اجفلت بعينيها ثم سألته بعدما نظرت إليه مرة أخرى:
-أنت ايه عرفك إني قولتله كده
أشار إليها يتحدث بهدوء وهو يقترب منها ببطء:
-كلمته من رقمك وهو اللي قال
ازدادت دمعاتها وهي تكذب ما قاله له تنفي بقوة:
-والله كدب والله العظيم كدب وحياة بنتي كدب
أقترب أكثر بهدوء ينظر إليها بترقب ومد يده وهو على بعد بسيط منها يقول برفق:
-خلاص أنا مصدقك هاتي السلاح.. يلا
بقيت تنظر إليه ولم تجيبه تتمسك بالسلاح بيدها بقوة شديدة فاقترب هو منها أكثر ليحاول جذبه ولكنها متمسكه به بقوة فرفعه للأعلى سريعًا في لمح البصر عند لحظة إدراكه أنها لن تتركه.. عندما رفعه إلى الأعلى متمسكًا به فوق يدها انطلقت منه طلقة نارية تخترق سقف الممر الذي هم به وانطلقت صرخة منها توازيها في الخروج لتجد الأتربة تهبط عليهم من الأعلى..
سحب السلاح منها عندما ارتخت يدها بسبب الرصاصة وأقترب يجذبها بقوة إلى صدره يأخذها بأحضانه فلم تجد ما تفعله إلا أنها دست نفسها به تخفي وجهها عنه تبكي بقوة والدموع تنهمر منها بغزارة..
تعلم أنها وقعت بخطأ كبير عندما تحدثت إلى "طاهر" ولكنه كان في هذا الوقت الوحيد الذي يستطيع إخراجها من الجزيرة على حسب حديثه فتعلقت به وكأنها غريق وهو المنقذ.. كل هذا كان منذ فترة بعيدة ولم تخبره أي شيء عن "جبل" فكيف علم!.. يحق له أن يشك بها ولكن ليس بهذه الطريقة فهي والله لم تكذب بشيء..
شعر بأن روحه كانت تنسحب منه أمام عيناه ولا يستطيع أن يفعل أي شيء، شعر وكأن العالم يضيق من حوله والجميع يطالبون بموته..
كانت تقتله وهي لا تدري، لم يستطع أن يرفع يده عليها أو يرى الألم بها فذهبت لتفعل أسوأ شيء على الإطلاق.. إنه لا يكذب صدقها ولكن يصدق الأدلة التي أمامه.. يصدق أن لا أحد يدري غيرها ولا يستطيع أن يُخَون "عاصم" مرة أخرى.. يصدق أنها كانت تبغضه ووعدته بأن نهايته على يدها فربما كانت تريد!...
ليس غبي إلى هذه الدرجة ولكنه ضل الطريق.. سيحاول جاهدًا أن يعلم كل شيء بعيد عنها، وبعيدًا عن الشك بها، أن تقوم بالدعاء على ابنتها وتحاول قتل نفسها لأنه لا يصدقها أمر لا نقاش به.. وتصديقها بات حتمي
شدد على احتضانها وهو يقربها منه ليشعر بأنها مازالت هنا.. تلك التي أصبحت تجري داخل شرايينه..
❈-❈-❈
"صباح اليوم التالي"
دلف "جبل" إلى غرفة الصالون صباحًا مكفهر الوجه وملامحه حادة عابثة، نظر إلى "إسراء" ثم قال بصرامة:
-خدي وعد واطلعي فوق
أومأت برأسها باستغراب لتقف تأخذ الصغيرة وذهبت من الغرفة تاركه إياهم صاعدة إلى الأعلى، نظرت إليه "زينة" باستغراب ظهر على ملامحها..
قد تسائل الجميع عن ما حدث بينهم في الأمس فكذبت قائلة بأنها أخطأت بحقه كثيرًا وكان خطأ لا يغتفر ففعل بها ذلك ولكن الأمر مر عليهما.. لم يدلف حديثها عقل أي منهم ولكنهم تغاضوا عنه بإرادة منهم..
تحدث بجدية شديدة وهو يتقدم إلى الداخل ليقف أمام "وجيدة" وشقيقته ومعهم "زينة" خرج صوته بحدة:
-أنا هرجع تمارا الجزيرة من تاني
هبت والدته واقفة فجأة وكأن صاعقة ضربتها بعدما استمعت إلى حديثه لتتحول ملامحها تصرخ عليه:
-ترجع مين يا جبل أنت اتتجننت.. عايز ترجع تمارا اللي كانت هتقتل مراتك
أشار إلى "زينة" بيده ساخرًا:
-متخافيش أهي مراتي قدامك بسبع أرواح
وقفت "زينة" على قدميها والدموع تترقرق في عينيها قائلة بحزن:
-لو رجعت تمارا القصر تاني أنا اللي هامشي يا جبل
أجابها ببرود واستفزاز:
-لو عايزة تمشي أمشي أنا مش همنعك.. لكن زي ما قولتلك امبارح هتطلعي من هنا لوحدك.. بطولك
أحرقها بحديثه ولا مبالاته أمامهم فانفعلت قائلة:
-لأ يا جبل مش هامشي لوحدي أنا هاخد كل اللي ليا معايا
نظر إليها بقوة وتمعن يحتقرها أمامهم بشدة وذلك الرجل الذي كان موجود سابقًا متيم في هواها محاه وكأنه لم يكن يومًا:
-أنتي عارفه كويس أوي إنك مش قدي.. أنا قولتلك عايزة تمشي في ستين داهية بس لوحدك وإلا أنتي عارفه اللي هيحصلك
أشارت إليه والدته صاحبة الملامح القاسية الحادة تقول بعنف:
-كلمني أنا هنا يا جبل.. الكلمة كلمتي هنا وأنا قولت تمارا مش هترجع
ابتسم ببرود لوالدته ونفى حديثها بلا مبالاة قائلًا:
-تمارا هترجع.. وهتجوزها
أبعد نظرة إلى زوجته قائلًا بقسوة:
-على الأقل تمارا لما مشيت كانت مسالمة مأذتنيش مش خاينة وغداره
تذكرت ما حدث منذ الأمس إلى اليوم، لم تعد تتحمل أي إهانة منه أمامهم فقالت بنفاذ صبر:
-هو إحنا مش خلصنا من الموضوع ده حرام عليك كفاية بقى
تحدث بجدية دون إهتمام بما تقوله يلقي عليها كلمات قاسية:
-مخلصناش.. أنا مش هتغابى وهسمع كلام عقلي وأشوف الأدلة اللي قدامي واللي وصلني النهاردة يخليني امحيكي بس أنا مش هعمل كده
وضع يديه في جيوب بنطاله وأقترب يتابع ذلك البرود الذي هو عليه ينظر داخل عينيها مباشرة:
-عايزة تمشي مع السلامة يلا.. بس لوحدك
أقتربت من والدته راجية إياها بعدما اخفضت نظرها من علي
#سجينة_جبل_العامري
#الفصل_الثاني_والعشرون
ندا_حسن
"خديعة دُفنت أسفل الأتربة في صحراء جرداء، حفر محب وعاشق ولهان ليخرج بزهرة لا تنم إلا عن الحب والسلام محولة الرمال إلى أرض خضراء تحمل كل معاني السلام"
ثلاثة أعين يتبادلون نظرات مختلفة تمامًا عن بعضها البعض، أحدهما ينظر إلى الآخر بتشفي وشماتة لا نهائية، وابتسامة عريضة مزينة مُحياة بطريقة ماكرة خبيثة..
بينما نظرات أخرى مصدومة، تشعر بالقهر والمزلة، نظرات ضعيفة مجردة من الثبات يظهر كل ما داخلها إلى الجميع لتعبر عن القهر الذي شعرت به
وغيرها نظرات حادة قاسية، مهيبة غليظة، لحظات مترددة نادمة وأخرى شامخة متزنة واثقة، كل لحظة والأخرى تتغير النظرات وتتبادل الأعين العتاب..
ذلك العتاب الممزوج باللوم والخذلان، يتبادلون الضعف المميت والقوة الشامخة، لحظة والأخرى والقبضة تشتد على قلبها تعتصره بقوة وعنف لتتابع النظر إليه بدهشة وصدمة خالصة..
نظر "جبل" إلى "تمارا" بقوة والغضب يعمي عيناه فأبعد عينه مرة أخرى قابضًا بيده فوق ذراع "زينة" يضغط عليه لتآن بألم وتحدث إلى ابنة عمه بعنف:
-اطلعي بره يا تمارا... شكلها عايزة تتربى كويس
اقتربت منه تضع يدها على ذراعه بغنج ودلال متحدثة برقة مزيفة:
-خلاص يا حبيبي سماح
خرج صوته بعنف وقسوة يُشير إليها بيده الأخرى قائلًا:
-لازم تتربى علشان بعد كده مترفعش عينها فيكي.. أنا اللي عملت ليها قيمة وكبرتها عليكي وأنا اللي هاخدها منها.. اطلعي
ابتسمت بتشفي وهي تنظر إليها بغرور وثقة ولكن عينين "زينة" كانت معلقة به هو فتابعت سيرها للخارج بغنج:
-ماشي يا حبيبي اللي تشوفه
ذهبت إلى الخارج فنظر خلفه ليراها خرجت، ترك يد "زينة" وذهب خلفها ليوصد الباب بالمفتاح وهو يصيح بهمجية:
-أنتي شكلك كده كبرتي على البيت باللي فيه.. بس أنا هعرف اربيكي كويس
أقترب منها سريعًا ليضع قبلة على وجنتها التي لطمها عليها ناظرًا إليها بآسف نادمًا عما فعله، دفعته للخلف تتحدث بخفوت:
-أنت بتضربني يا جبل؟ بتضربني تاني
أخذ كف يدها بين قبضته ليرفعه إلى فمه متحدثًا بآسف:
-ششش.. أنا آسف كان لازم أعمل كده علشان تصدق
اتسعت عينيها عليه أكثر وهي تدفعه تقول بصوت خافت للغاية:
-تقوم تضربني كده قدامها
قرص وجنتها بضراوة ويده تشتد عليها فصرخت عاليًا ليتابع هامسًا:
-أيوه كده خليكي شغاله
صدح صوتها وهي تدفعه أكثر للخلف مستغربة تمامًا مما يفعله معها، تتحمل الحديث والتصرفات وجنونه عليها ولكن يصفعها!.. هل هو مجنون حقًا:
-أنت بتضربني والله العظيم أنت شكلك اتجننت
أقترب طابعًا قبلة فوق شفتيها برقة ولين يقول بصوت أجش شغوفًا نحوها:
-مقدرش.. الله وكيل ما أقدر بس كان لازم أعمل كده أنا آسف قولتلك
عاد للخلف مغيرًا نبرة صوته الهامسة الرقيقة بجانب أذنها لترتفع عاليًا:
-أنتي اتجننتي ولا ايه محدش عارف يلمك.. لأ فوقي يا زينة هانم مش أنا
غمزها بعينه كي تستمر معه في الصراخ ومعاداة بعضهم لكي يصل الأمر مطبوخًا بتوابل فريدة من نوعها لعقل "تمارا":
-أبعد عني بقولك وملكش دعوة بيا يا أما تخليني أمشي من هنا
أقترب منها وهي تتحدث يضع قبلاته على عنقها يقربها منه محتضًا خصرها بساعديه بحب ورغبة شديدة ينظر إليها بهيام، ثم صاح قائلًا بصوت مرتفع:
-لأ بقى مش هتمشي.. أنا خيرتك يا تمشي لوحدك يا تتلقحي هنا وأنتي اختارتي.. تمشي امتى بقى دي بتاعتي أنا
أجابته بغضب مزيف وصوت مرتفع:
-هو حد قالك إني جارية عندك
قربها منه أكثر محركًا يديه عليها بحرية قائلًا بقسوة:
-وهو حد قالك إني مستني اللي يقول.
صمت للحظة وهو يقتنص ثانيةً قبلة سريعة من شفتيها يردف ومازالت المسرحية مستمرة:
-أنتي من النهاردة جارية للقصر كله وخصوصًا تمارا.. خلاص رجعت وهتاخد مكانها أنا اللي كنت غبي لما سيبتها وقربت لخاينة زيك
صرخت بعنف ترفع من نبرة صوتها:
-اشبع بيها بعيد عني يا جبل
صرخت عندما دفعها للخلف لتصطدم بالحائط خلفها فاقترب منها يقف أمامها يحاصرها بجسده يقترب منها بحميمة:
-بلاش بجاحه علشان متزعليش
أكمل بجدية شديدة:
-أنا لسه عند كلامي.. أي غلط هيطلع منك بالخصوص ناحية تمارا هزعلك
مال عليها يفعل ما يشاء يكمل بحدة ليصل كل ما يقوله إلى القابعة خلف الباب:
-أنا داخل استحمى.. وأنتي لمي حاجتك دي وغوري من هنا
سخرت منه قائلة:
-يعني هغور من الجنة
أجابها بغموض:
-هي مش جنة آه بس أنتي رايحة للجحيم
أخفضت صوتها قائلة بجدية بعدما نظرت إلى أسفل الباب:
-شكلها لسه واقفة
استدار ينظر هو الآخر وعاد إليها قائلًا بصوت خافت:
-دلوقتي تمشي
أكمل ناظرًا إليها:
-اصرخي
ابتسمت باتساع غير قادرة على التكملة وهي تراه ينظر إليها بهذه الطريقة يطلب منها أن تستمر في التمثيل بهذه المسرحية الغريبة ففعلت غير قادرة على أن تتحكم بابتسامتها ولكنه صاح من خلفها:
-اوعي كده بلاش قرف
أبتعد عنها وذهب إلى المرحاض ليفتح بابه ثم دفعه بقوة ليصدر صوتًا مرتفعًا وصل إلى مسامعها فصاحت "زينة" بعد فعلته متصنعة القهر:
-ظالم ومتخلف
بينما الأخرى كانت تقف خلف الباب تبتسم بسعادة كبيرة، ترتسم على شفتيها من الأذن إلى الأخرى وقلبها يخفق داخل أضلعها معبرًا عن السعادة الذي بها، تنظر إلى البعيد وترى المستقبل القريب معه هنا في قصر العامري.. لقد ابتلعت الطُعم الذي صنعه "جبل" بمساعدة زوجته بعدما أدرك الحقيقة الكاملة لكل ما حدث..
في الداخل عاد إليها مرة أخرى ينظر إلى أسفل الباب فوجد ظلها يختفي تبتعد عنهم بعدما اطمئنت لما بينهم ليقترب من "زينة" جاذبًا إياها يجلس على الفراش ثم أخذها فوق ساقيه ينظر إليها بحب وآسف وقال بصوت خافت:
-معلش أنا آسف عارف إن أيدي تقيلة بس علشان الخطة تمشي مظبوط ومتحسش بحاجه
أومأت برأسها إليه تضع يدها الاثنين حول عنقه قائلة بابتسامة:
-خلاص مسمحاك
أكمل وهو يُمرر يده بين خصلات شعرها بحنان يقول بجدية شديدة وصرامة:
-زينة أنا مش عايز غلط وإلا كل حاجه هتبوظ خليكي زي ما أنتي مهما عملت.. ماشي؟
أومأت إليه مرة أخرى وتحدثت برفق:
-أنا عملت زي ما طلبت مني بالظبط.. وبعدين أنا مستغربة نفسي أصلًا مثلت الدور مظبوط وكأني مصدقة
تابع عيناها السوداء التي تحمل كامل الاختلاف عن عيناه وقال بجدية مبتسمًا:
-مكدبش عليكي أنا كنت خايف منك
سألته باستغراب:
-ليه
أجابها بجدية ينظر إليها بعمق:
-كنت خايف ببقى عندك حالة برود مثلًا مكنش حد هيصدق اللي بنعمله.. أو تضحكي زي دلوقتي كده يبقى كله راح في الفاضي، أنتي كنتي غزال فعلًا
تبسمت تمرر يدها على وجهه وأردفت متسائلة تضيق عينيها عليه:
-طب الخطوة الجاية ايه.. ما أكيد مش هنفضل كده
ربت على ذراعها قائلًا بثقة:
-متقلقيش أنا مخطط لكل حاجه
تعمق ينظر إليها ثم ابتسم بخبث يغمزها متحدثًا بمكر:
-بتغيري عليا مش كده.. كنتي هتولعي حسيت بيكي من مكاني
أجابته بحدة وعصبية وهي تحاول الإبتعاد عنه:
-هو المفروض أقف اسقفلك وأنت بتحضنها وكمان بتعاند فيا ومقربها منك كده
أشار إليها بيده أن تخفض صوتها وأكمل عليها بعشق وشغف يقبض عليها بضراوة:
-فرصة وجاتلي لحد عني اشوفك بتغيري عليا ولا لأ اضيعها؟
حركت رأسها بقوة يمينًا ويسارًا قائلة بسخرية:
-لأ إزاي متضيعهاش
ابتسم محركًا يده عليها مقربها منه قائلًا بثقة:
-المهم طلعتي بتغيري
ابتسمت وهي تقترب منه تبادله القبلة التي أخذها منها مقتنصًا إياها بلهفة وشغف يُعبر بها عن مكنون قلبه الذي أفصح عنه كثيرًا من المرات ولكن ولا مرة منهم عبرت عما داخله..
"قبل بعض الوقت في صباح نفس اليوم"
وقف "جبل" يفكر فيما حدث بالأمس بينه وبين "زينة" لم يخلد للنوم من الأساس بسبب كثرة التفكير فيما حدث يحاول جاهدًا أن يجد ذلك الحقير الذي فعل به ذلك ولكن للأسف لا يوجد أحد سواها هي و "عاصم" وما بدر منها في الأمس إلى اليوم يجعله يصدقها حتى وإن باتت كل الأدلة تكذبها..
إذًا لا يوجد إلا "عاصم" ولكن لما ليفعل "عاصم" شيء كهذا غير أنه لا يعلم أنه قص على زوجته ما يعمل به إذًا سيكون "عاصم" على علم أن إن علم أحد سيكون هو أول المُتهمين لأن لا غيره يعلم!..
ليس هو وليس هي! إذًا من؟
تقدم يُسير في الغرفة ينظر إلى الفراغ يحاول أن يجمع الخيوط بعقله وأن يجمع جنود أفكاره حول هذا الموضوع ولكن بات رأسه يؤلمه لم يخلد إلى النوم من الأمس ومازال يفكر ولم يتوصل إلى أي شيء.. حتى أن لا هناك وسيلة يلجأ لها كي تساعده..
من يستطيع مساعدته اثنان فقط والاثنان لا يفعلونها بينما العقل يقول غير ذلك وشيطانه يدفعه لفعل أشياء غريبة لا يريد فعلها ولكن الوضع الذي هو به لا يحسد عليه بل يواسى به..
جلست "زينة" على الفراش تطمس على ووجهها بيدها الاثنين تنظر إليه بعدما استيقظت من نومها التي دلفت به بعد شروق الشمس..
تحدثت بصوت خافت خَجلة منه لأجل شكه بها وخَجلة من الموقف الذي بقيت به أمامه فلم يفضح سره إلا بعدما هي علمت به:
-أنت لسه صاحي
نظر إليها وأبعد وجهه دون حديث ومازال يفكر بعمق، نهضت من فوق الفراش تقترب منه بهدوء ثم تحدثت:
-جبل أنا آسفة.. والله أنا عارفه أن موقفي وحش والسر مطلعش غير بعد أنا ما عرفته بس والله العظيم مش أنا صدقني
أومأ إليها برأسه يشعر بالضجر الشديد، لا يحتمل حديث أحد من الأساس وقعت على رأسه كارثة إن علم بها أحد سيكون مع الأموات هو وكل عائلته..
أمسكت بيده وجعلته ينظر إليها قائلة بحزن:
-بصلي طيب
نظر إليها وأمسك بيدها وأردف بجدية:
-زينة خلاص أنا مصدقك بس لازم ألاقي حل وأعرف هو عرف حاجه زي دي منين
أكمل بقلق بالغ عليهم:
-طاهر راجل غبي وكره لينا مديله دافع كبير علشان يقدم الأذى.. ولو ده حصل وهو قال اللي عنده أنا وانتوا كلكم هنبقى تحت التراب
وجدها تنظر إليه باستغراب تام وبدأ القلق يدق باب قلبها فأكمل بعقلانية:
-أنا واحد بس ومعايا رجالة كتير آه، لكن هما كتير ومعاهم رجالة ضعف عدد رجالتي عشر مرات، لو اجتمعوا سوا عليا هختفي لازم أبقى فاهم ده مش هخبي الحقيقة..
تركها وسار مبتعدًا متحيرًا:
-لو عرفوا إني كنت بوقع واحد ورا التاني وكل اللي اتحبسوا دول اتحبسوا بسببي مش هيسموا علينا..
أكمل بقسوة وغلظة:
-آه أنا قوي وجبل العامري مش هيقع ولا يتهز، بس في حالة زي دي مش بس هقع أنا هتمحي وانتوا معايا ومش بعيد الجزيرة كلها
سألته مضيقة عينيها عليه:
-طب والشرطة
أجابها بجدية وهو يجلس على الفراش:
-على ما ياخدوا خبر باللي بيحصل ويجوا هنكون موتنا
وضع يده بين رأسه وهو ينحني للأمام قائلًا بارهاق:
-لازم ألاقي حل علشان احميكم.. لازم أعرف طريق طاهر
أقتربت تجلس جواره تضع يدها على كتفه تربت عليه وتحركت شفتيها بالحديث ولكن رنين هاتفه قاطعها، اعتدل في جلسته يخرج الهاتف من جيب بنطاله ثم أجاب بجدية:
-أيوه يا كمال.. عملت ايه كنت مستني منك مكالمة
أجابه الرجل على الطرف الآخر بجدية شديدة:
-من وقت ما جيت وراها يا جبل بيه ومافيش أي تحركات غريبة ولا كانت بتنزل من البيت حتى لحد من يومين تلاته كده
وقف "جبل" سريعًا يستمع إليه على الناحية الأخرى فتحدث بلهفة يسأله:
-حصل ايه؟
أجابه يُسرد عليه ما حدث بينما هو يراقب "تمارا" منذ أن خرجت من الجزيرة:
-جات عربية نضيفة أخدتها، ركبت فيها طلعت وراها نزلت منها عند مراكبية ركبت المركب وراحت في عرض البحر قعدت يجي نص ساعة ورجعت تاني
تابع يسأله:
-وبعدين
أكمل قائلًا بهدوء:
-حصل ده أول امبارح وامبارح.. بس أنا مكنش ينفع انزل وراها وإلا كنت هتكشف.. حاولت أسأل الراجل اللي كانت بتركب معاه كل مرة مرديش يقول حاجه
تابع يتحدث بجدية:
-حاولت أسأل حد تاني قالي أن فيه يخت لراجل أعمال واقف بقاله مدة في عرض البحر بس مشي
أغلق الهاتف معه بعدما تأكد منه أنها الآن بالمنزل وأكد عليه أن يجعلها تحت ناظريه لا يتركها أبدًا إلا عندما يأمره هو بذلك..
عاد "جبل" يجلس على الفراش ينظر إلى الأمام يفكر فيما استمع إليه والآن بدأ بدمج الخيوط مع بعضها ليظهر من خلالها قطعة قماش ظاهرة بوضوح ألا وهي أن "تمارا" من علمت بأمر عمله، ثم بعدما خرجت من الجزيرة تواصل معها "طاهر" لأنها من المؤكد لا تعرفه ولن تصل إليه بهذه السهولة إلا إذا كان هو يريد ذلك.. ثم قصت عليه كل شيء يحدث هنا ومن بينهم خبر عمله فانتهز فرصة أن "زينة" كانت على تواصل معه فخطط معها ورسم هذه الخطة الجدية للغاية لتظهر هي من قامت تبليغه وليخرجها من الجزيرة كما فعل معها ويقوم بتنفيذ ما هددت به وهي راحله من هنا.. لأجل ذلك كانت تخرج وهي تتوعد بالعودة وبأن "زينة" راحلة بكل ثقة!!.. لأجل أنها تعلم سره!..
يا الله، هل كان يحب أفعى، كان يحب شيطانة؟ ولكن هل تكون تريد شيء وهو لا يفعله، سيعيدها إلى الجزيرة ولكن هذه المرة هو عليه أن يرسم الخطة وتكن محكمة التنفيذ أكثر منهم.. أتت إلى "جبل العامري" الذي أقسم أنه لن يرحمها هذه المرة..
ولكن يبقى السؤال هنا والذي لم يغفل عنه، كيف حصل "طاهر" على رقم هاتف "زينة"؟ ليست "تمارا" لأنها لم تكن تعرفه ومن الأساس لم تكن قد عادت إلى هنا!؟
لا يوجد إلا "فرح"، وهذا شيء متأكد منه مئة بالمئة، أعطت الرقم إلى "جلال" ومن ثم هو أعطاه إلى "طاهر".. تنفس بعمق وحصل على قليل من الارتياح على الرغم من أن الخطر مازال يحاوطه ولكن سيكون الله معه ليتخلص من هذه الأزمة في أسرع وقت.. أنه لا يفعل شيء مشين إذًا هو عنده يقين أن كل شيء سيمر بهدوء طالما علم من الذي فعل به هكذا وأفشى سره..
نظر إلى "زينة" بجدية شديدة ثم تحدث يقص عليها ما علمه الآن وما توصل إليه من خلال تفكيره لتقول بجدية:
-في نفس اليوم اللي أنت قولتلي فيه كانت عايزة تموتني.. مش ممكن سمعتنا وكانت واقفة بره..
أومأ إليها برأسه مؤكدًا:
-جايز
قالت مقترحة:
-أنت مركب كاميرات برا القصر وجوا لأ.. لازم تركب كاميرات من النهاردة يا جبل علشان نبقى فاهمين اللي بيدور حوالينا
أمسك بيدها وأكد على حديثها بجدية وعقله مازال يعمل ويفكر فيما سيفعله:
-هيحصل
تابع ينظر إليها بجدية وقال بنبرة ذات مغزى:
-أنا هرجع تمارا الجزيرة
استنكرت حديثه وخرج صوتها بعنف:
-ايه؟
أومأ برأسه واثقًا مما يقول وتابع بهدوء:
-لازم ترجع
ضيقت عينيها عليه وهي لا تفهم ما الذي يريد الوصول إليه قائلة بجدية واستنكار:
-ليه يا جبل.. بعد ما عرفت اللي عملته عايز ترجعها
قطب جبينه عليها وبدأ في الحديث معها حتى تستوعب ما الذي يريده:
-تمارا هتكون هي الطريق لطاهر وأنا لازم أوصله في أسرع وقت
فهمت مقصده ولكنها تسائلت باستغراب:
-إزاي هتوافق ترجع وإزاي هتعمل كده أنت
ربت على يدها قائلًا بجدية شديدة:
-اسمعيني للآخر وأنتي هتفهمي..
أكمل بصوت جاد ينظر إليها بعينين حادة بعدما توصل إلى ما سيفعله ليملي عليها:
-أنا هنزل قدام الكل هقول إنك مبقتيش تلزميني ومش عايزك معايا وهتكوني موجودة علشان بنتك وبس
دفعت يده بعيدًا عنها وصرخت عليه بقوة وارتفع صوتها وهي تتابعه بذهول:
-نعم.. ايه اللي بتقوله ده
قبض على يدها مرة أخرى وأكمل بهدوء لتفهم ما الذي يريده:
-اسمعي للآخر قولتلك.. دي هتبقى تمثيلية كده
ضيقت ما بين حاجبيها وحركت شفتيها متسائلة:
-طب وليه هنعمل كده عليهم هما
أجابها بعمق وجدية بصوت حاد واثق منا يقوله:
-فرح بتكلم تمارا وأنا لسه مش ضامنها وعايز الكل يبقى مصدق اللي هعمله، ومش عايز حد يشك في حاجه علشان اللي بخطط ليه ميبوظش
أومأت إليه وارتخت ملامح وجهها وهي تقول مرحبة:
-طيب فهمني
أكمل يسرد ما برأسه:
-أنا هقول كده وهخليكي تروحي اوضة وعد
رفعت أحد حاجبيها تنظر إليه بسخرية يخرج صوتها بتهكم:
-كمان؟
زفر بهدوء يكمل:
-يا زينة افهمي.. وهفهمهم إني هجيب تمارا علشان أنتي خاينة ومبقتش عايزك.. هقول كمان إني هتجوزها
صرخت وهي تدفعه للخلف ولم تتحمل ما يتفوه به وكأنه حقيقي وسيفعله حقًا بها:
-لأ كده كتير بجد كتير أنت بتقول ايه
صرخ في وجهها بصوت عالي وانتفخت عروقه وهو يُشعر بالغضب منها:
-أنتي غبية ولا ايه بقول تمثيل تمثيل فيلم يعني
ابتلعت ما وقف بجوفها ونظرت إليه ببراءة بعدما جعلته يتعصب ويتحدث بغضب فتحدثت هي بهدوء:
-طب خلاص كمل أنت بتتعصب ليه الله
حاول أن يهدأ من روعه وزفر بهدوء يعود يتحدث برفق قائلًا بجدية واثقًا:
-بعد كده هكلم تمارا ترجع وهي أكيد ما هتصدق.. أنا واثق والباقي بقى عليا بس المهم أنتي اوعي تبيني لحد إنك عارفه حاجه.. كأنك زيك زيهم بالظبط
أومأت إليه برأسها بهدوء ورفق:
-حاضر فهمت
علق عيناه بها بحدة وقال بغلظة خوفًا من أن تفعل شيء تمحي ما يريد فعله بها:
-وهيستمر الوضع لما تمارا تيجي كأني مش طايقك فاهمه يا زينة
تفهمت حديثه وتفوهت برفق:
-خلاص فاهمة.. بس متعملش كده قدام وعد وإسراء
أومأ إليها موافقًا على حديثها وأكمل بجدية واهتمام خالص بها وبمشاعرها:
-ماشي.. أنا كان ممكن أعمل كده من وراكي وتبقي زيك زيهم وردود أفعالك طبيعية، بس مش هقدر اجرحك بالشكل ده حتى لو كدب ومش ضامن رد فعلك.. فحاولي تعملي اللي قولت عليه
ابتسمت باتساع واقتربت منه تضع رأسها على صدره قائلة بحب ويقين:
-متقلقش إن شاء الله كل حاجه هتتحل أنت نيتك خير وأنا مطمنة وأنا معاك..
ربت على خصلات شعرها السوداء قائلًا بنبرة خافتة حنونة:
-ربنا يخليكي ليا يا غزال
على الرغم من أن الوضع أصبح أسهل من السابق ولكن القلق ينهش قلبه بقسوة وغلظة شديدة، لن يتربع الارتياح على عرش قلبه إلا عندما يقبض على ذلك الذي يسمى بـ "طاهر" ويلقى حتفه على يده كي يتخلص من ماضيه البشع معه ويأخذ بثأر والده منه..
على الناحية الأخرى كانت "زينة" تبتسم بسعادة وتشعر بالراحة الشديدة تغزو قلبها بعد أن ثبتت براءتها دون مجهود منها ليعلم أنها لم تخونه ولم تغدر به كما اعتقد.. وتسامحه على ما بدر منه تجاهها وظنه السوء بها لو كان أحد غيره لفعل ذلك ولو كانت هي لفعلت أكثر من ذلك.. لم يخرج السر إلا بعدما علمت وكانت كل الأدلة تقف قبالتها بقسوة.. والأكبر من كل هذا أنها كانت على تواصل مع "طاهر" دون علمه ولم تكذب ذلك..
❈-❈-❈
حركت العصاة التي بيدها على الأرض الرملية، تجلس أمام النيل في منطقة متوارية قليلًا عن أنظار أهل الجزيرة ولكن الحراس بها، أقترب منها "عاصم" يجلس جوارها نظر إليها بهدوء وسألها وهو يلقي بحجرة داخل المياة:
-مالك
حركت كتفيها للأعلى ثم للأسفل ومازالت تعبث بالعصاة على الرمال ثم قالت بحيرة:
-محتارة
قطب جبينه متابعًا طريقتها الغريبة في الحديث وتسائل بجدية:
-من ايه
رفعت بصرها نحوه تُجيبه بنفاذ صبر وضيق:
-محتارة من كل حاجه بتحصل حواليا، زينة معتبراني طفلة بس مش للدرجة دي يعني
أشار إليها بيده ولم يفهم من حديثها شيء فتابع بهدوء ورفق يحثها على الارتياح بنظرته الحنونه:
-فهميني بالراحة
تركت تلك العصاة واستدارت تجلس تواجهه، زفرت بضجر وضيق وملامحها الطفولية البريئة عابثة للغاية ثم خرج صوتها ملئ بالانزعاج:
-بيحصل حاجات كتيرة أوي غريبة في القصر وأنا مبقتش فاهمه حاجه، علاقتها بجبل كانت غير لما جينا وبعدين حبته وبقوا كويسين وحاليا متفهمش ايه اللي بيحصل بينهم كمان بعد ما رجع تمارا تاني وهي حاولت تقتلها
وجدته لم يتحدث بل نظر إليها للحظات دون رد فعل، نظرت إليه لتراه أبعد وجهه عنها إلى المياة، تابعته بشك ثم باغتته قائلة:
-أنت تعرف حاجه عن الموضوع ده
راوغ في الحديث وهو يهرب بعيناه منها قائلًا بجدية:
-وأنا هعرف منين اللي بيدور جوا القصر
ضيقيت عينيها عليه وكأنها تستطيع أن تفهم ما الذي تعبر عنه ملامحه فقالت:
-مش جايز تعرف من جبل.. ما انتوا صحاب وسر بعض
عقب بجدية وثبات:
-لأ معرفش.. أكيد لو أعرف هقولك واريحك
زفرت مرة أخرى بضيق أكبر وأردفت بانزعاج وملل واضح:
-أنا زهقت وحاسه إني بدأت أمل من كل حاجه هنا، عايشه معاهم زي الأطرش في الزفة.. مش بتقولوا كده؟
ابتسم على براءتها الجميلة ونظراتها الغريبة إن كانت سعيدة أو حزينة أو حتى تشعر بالملل، أومأ إليها قائلًا برفق:
-آه بنقول كده
صمتت وأبعدت عينيها إلى الأرضية متحيرة حقًا فيما يحدث حولها فـ إلى الآن لم تفهم أي شيء مما يدور بل شقيقتها تخفي كل شيء عنها وهي أصبحت لا تحتمل هذا الوضع أبدًا..
ابتسم ساخرًا يردف بجدية ناظرًا إليها بقوة:
-اشمعنى معايا أنا بتحبي تبقي الأطرش في الزفة وبتعملي نفسك مش فاهمه كلامي
رفعت وجهها إليه تباغته بتلك النظرة، تعامدت الشمس على عينيها الزرقاء لتصبح أكثر روعه وجمال تبادلها التشابه في لون خصلاتها الصفراء وجمالها الأخذ..
تحدث برقة وهي تبتسم تحاول أن تكون ماكرة مصطنعة عدم الفهم:
-أنا؟ امتى ده بيتهيألك
أقترب منها ليجلس جوارها أكثر قربًا، تابع وهو يبتسم ناظرًا إلى جمالها الذي لن يكون ملك أحد غيره:
-لأ مش بيتهيألي.. تحبي أقولك دلوقتي حاجه تخليكي كده
سألته وهي تبعد عيناها عنه بخجل:
-هتقول ايه
باغتها بكلمتين كان أثرهما على قلبها مغزي للغاية فدلفوا له دون إنذار يحدثون جلبة في الداخل لتسري الرعشة في جسدها خجلة منه:
-عايز اتجوزك
رفعت نظرها إليه بحب وهيام تتناسى كل ما كانو يتحدثون به منذ قليل تقول اسمه بنبرة خافتة رقيقة للغاية:
-عاصم!
اخترقت قلبه نبرتها واسمه الغريب من بين شفتيها فنظر إليها بعمق متابعًا بجدية محاولّا الثبات أمام جمالها:
-أنا بتكلم بجد، أنا بحبك وأنتي بتحبيني ايه المانع من الجواز... ليه كل ما أفتح معاكي الموضوع ده بتهربي أنا بحبك وعايزك
أبعدت وجهها مرة أخرى تنظر إلى الأرضية لا تستطيع الإجابة عليه فأكمل قلقًا من صمتها:
-ردي عليا.. ده كسوف ولا رفض
أردفت وهي بعيدة بعينيها عنه تقول بخفوت:
-أكيد مش رفض أنا كمان بحبك يا عاصم
سألها مستفهمًا باستغراب وهو يقبض على يدها بحب وحنان:
-اومال ده ايه
رفعت بصرها نحوه بعينين متحيرة وقالت بجدية خالصة:
-أنت شايف الظروف صعبة إزاي أنا لسه بحكيلك ده مش وقته خالص على فكرة، غير أن زينة رفضاك رفض تام وأنت لسه مقولتليش بتشتغل ايه
زفر محاولًا الهدوء وعقب على حديثها ومازال يرفض البوح بالسر:
-ومش هقدر أقولك.. لكن زينة عرفت حقيقة شغلي تقدري تفهمي منها هي لكن أنا لأ مقدرش
ضيقيت عينيها عليه غير مستوعبة ما الذي يقوله لتسائلة باستغراب:
-يعني ايه
ضغط على يدها بحب وحنان وبدأ في الحديث بهدوء وتروي يخرج صوته برفق لتتفهم ما يقوله لأنه يعلم أنها وإن كانت شابة إلا أن الحقيقة أنها طفلة صغيرة:
-حقيقة شغلي سر مستحيل أتكلم عنه حتى معاكي أنتي.. صاحب السر يبقى جبل وهو قال لزينة كل حاجه علشان كده تمارا رجعت.. الموضوع أكبر من استيعاب عقلك يا إسراء متفكريش فيه
سحبت كف يدها من بين يديه وصاحت بضجر:
-يعني ايه أنت كمان شايفني طفلة
نظر إليها بحب وحنان أكبر من ذي قبل يرسلهم إليها من خلال عيناه ونبرته الحنونه الشغوفه نحوها فلا يريد أن يشغل عقلها باشياء لن تستطيع أن تستوعب ما بها:
-أنا مقولتش كده بس بجد الموضوع كبير وكتر الكلام فيه يخربه.. واطمني من ناحية زينة هي فهمت كل حاجه ومش هتمنع جوازنا صدقيني إلا لو كان في سبب تاني للرفض غير موضوع الشغل ده
أبعدت وجهها وهي تصيح باختناق:
-أنا مبقتش فاهمه حاجه
أكمل بهدوء كما هو يتابعها برفق ولين وتحدث قائلًا:
-كل حاجه في وقتها حلوة المهم تكوني واثقة فيا..
أجابته بجدية وصوتها منزعج للغاية:
-أنا واثقة فيك بس عايزة أفهم
قبض على كف يدها مرة أخرى يطمئنها وهو يجذب وجهها ناحيته كي تنظر إليه فيبادلها بلين:
-طيب اسمعي كلامي وانسي اللي قولته وخليكي معايا واطمني.. ماشي
أومأت إليه قائلة بصوت خافت:
-ماشي
أكمل بجدية مقدرًا ما يمر به الجميع بالأخص بعد أن سرد عليه "جبل" ما حدث معهم وما فعلته "تمارا" وأصبح يدرك جيدًا خطورة الوضع الذي هم به حتى وإن كانت مستقرة:
-بالنسبة لحوار جوازنا أنا كمان هستنى لما الوضع يهدى والدنيا تبقى تمام.. بس كنت عايز أعرف رأيك
قالت بخجل ونبرة خافتة يكاد لا يسمعها:
-أنت عارفه كويس يا عاصم
ابتسم باتساع وهو يناظر خجلها ورقتها الشديدة، هتف بحب وهيام وجنون قلبه العاشق لا يتركه يمر بالهفوة التي ينالها منها:
-قلب عاصم
باغتته بكلمات هادئة تعبر عن كم كان شخص محظوظ حتى تكون معه الآن:
-تعرف إني عمري ما اتعاملت مع حد زيك كده
ابتسم باتساع وأخذ الأمر بالمرح مع اعترافه أنه بالفعل محظوظ بها:
-أمي دعيالي قبل ما تموت ابقى أنا أول بختك
ابتسمت تبادلة تنظر إليه تارة والأخرى إل
#سجينة_جبل_العامري
#الفصل_الثالث_والعشرون
ندا_حسن
"ثار بركان الغضب داخل أعماق قلبي أثناء معركة ضارية والطبول المُطالبة بالنجدة تُقرع دون توقف في محاولة منها لإنقاذ ذلك الفُتات الذي تبقى منه، ولكن مع كل مرة تُقرع بها ينطبق القفص الصدري على فُتات قلبي المُتبقي ليسحقهُ أكثر وأكثر مُصرًا على أن يقوم بتدميرهُ، فلم يكن هناك فرصه للهروب من تلك الحمم البركانية فوقع قلبي قتيلًا أثر هذه المعركة الخاسرة، ليأتي قائدها ينعم بجمع الغنائم من بينهم قلبي الذي أراد أن يعيد له حياته، وبقيٰ السؤال هل يستطيع!؟ "
لحظات والصمت يجتاح جسده، نظرات عينيه، أنفاسه، الصمت والصدمة تتخلله سويًا يعبثون به إلى المنتهى، فبقيت هي تطالعه بضياع وعقلها مُشتت مُغترب عن أرض الواقع، تجرأت ورفعت أنامل يدها إلى ذراعه بضعف تنظر إليه بتمعن..
شعر بلمساتها على ذراعه فاستدار ينظر إليها بذهول وعيناه مثبتة على عيناها مباشرة فلم تستطع الصمود أمام نظرته وتفوهت قائلة:
-في ايه يا جبل؟ مين مات!
حركت عقله مرة أخرى عندما ذكرت الموت فاستفاق عليها بقوة، أدمعت عيناه أمامها والصدمة تحتل كيانه، وكأن الرعشة سارت في أنحاء بدنه كطفل صغير فقد لعبته المحبة إلى قلبه، أو كطفل ضل الطريق ليصل إلى والده..
حركت عيناها عليه بقلق ورفعت أصابعها إلى وجنته تزيل تلك الدمعة التي هبطت من عين واحدة وكأنها هاربة من سجن أبدي، تحدثت بخفوت:
-جبل.. مالك؟
دومًا نرى الرجال رجالًا قولًا وفعلًا هم رجالًا، عندما يتصرف بعقلانية في أصعب الأوقات، عندما لا يترك دمعات عينيه تفر هاربة في المِحن، عندما يقف شامخًا في مهب الرياح، دومًا نردد "اللهم إني أعوذ بك من قهر الرجال" أتدري أي قهر مر على رجل قضى عمره شامخًا كالجبال!..
كانت نظرات عينيه مؤلمة للغاية، مقهورة إلى أبعد حد، يحمل داخل قلبه أسرارًا وأسرار، يحمل أشياء تشكل عبئًا ثقيلًا على صدره وكأنه حاكم دولة ليست جزيرة يحمل أرواح الآلاف على أكتافه..
يشعر بقلبه يعتصر من شدة الألم، الذي يصبح أضعاف كلما استوعب ما حدث..
دق جرس الإنذار في عقله يدوي عاليًا يحذر من احتراق الأخضر واليابس أن اهتز الجبل الشامخ، وقد كان.. فلا جبال ستصمد وتبقى راسخة صامتة ولا بشر سيتحمل انهيارها..
نهض من الفراش بحركات هوجاء يلتقط ملابسه وهو يعرف وجهته إلى أين ستأخذه ضاغطًا على قلبه أكثر وأكثر مغلقًا على آلامه وتلك الصدمات موصدًا أبواب الحزن إلى أن يأتي بثأره..
يرتدي الثياب على عجله من أمره فوقفت "زينة" سريعًا وهي تبادله ما يفعل تستر جسدها تهتف بذعر وخوف:
-جبل فهمني في ايه
لم تتلقى منه ردًا، ولم يُعير حديثها اهتمام وكأنه لا يستمع إليه فقالت تكرر محاولة فهم ما الذي حدث وجعله يصل إلى هذه الحالة الغريبة:
-جبل أنا بكلمك
أمسك بهاتفه بعدما انتهى من ارتداء ملابسه، لا تدري كيف والده توفى أو هي استمعت خطأ وفهمت خطأ أكبر، أقتربت منه تحيط ذراعيه بأناملها الضعيفة تقف أمامه بقلق بالغ:
-طيب استنى علشان لو حد بره
دفعها بغلظة وهو يتوجه إلى الخارج صارخًا وصدره فارغ وكأن قلبه نزع منه:
-أنا عايز الكل يبقى بره.. جه وقت الحساب
هندمت ملابسها وخرجت خلفه سريعًا تخطو خطوات واسعة أشبه راكضة خلفة وهي تراه يهبط إلى الأسفل مُتوجه إلى مكان جلوسهم..
انقبض قلبها خوفًا مما سيفعله أنه الآن في أسوأ حالاته وإن تركته سيضيع كل شيء فعلونه سويًا كي يصل في النهاية إلى ما يريد ويتخلص من ابنة عمه وذلك العدو الأكبر له
حاولت النداء عليه وهي خلفه لكنه لم يعيرها اهتمام تلك النيران تشتعل داخل صدره تحرق الأخضر واليابس به، تعجل في ملاقاه مصرعه بطريقة بشعة للغاية..
تلك الندوب التي تركها والده في حياته لم تكن عادية مُيسرة إلى الدرجة التي يترك حقه بها متنازلًا عنه يمرر ما يحدث وكأنه لم يكن، لم يصل إلى هنا إلا بدمائه ودماء المحيطون به، لم يصل إلى هنا إلا بعد إرهاق ومشقة دامت للكثير..
لم يكن يرى أمامه سواها، هي الوحيدة الآن التي ستكون الطريق إلى النجاة والأخذ بالثأر، قبضت يده الغليظة على خصلات شعر "تمارا" التي كانت جالسة أمام التلفاز معهم ولم يكن في حسبانها ما سيحدث على يده..
صرخت بقوة وهي تقف رغمًا عنها بفعل يده التي تجذبها إليه بقوة وقسوة شديدة تكاد تقتلع خصلاتها من جذورها تاركه فروة رأسها صلعاء..
وقفت أمامه تنظر إليه بغرابة لا تستوعب ما الذي يفعله بعد أن كان وديع محب حنون إلى الغاية، خرج صوتها بخوف تحاول مداراته:
-في ايه يا جبل اوعا
أجابها بكف يده الآخر وهو يترك خصلات شعرها ليهبط كفه الغليظ على وجنتها يجعلها ترتد إلى الخلف صارخة بعنف وقوة تحتل الصدمة كيانها..
لم تستطع أن تقف معتدلة لتنظر إليه فلم يترك إليها الفرصة لفعل ذلك في لمح البصر تقدم منها يأخذ خصلاتها على ساعده ملتفه بقوة يجذبها بعنف وقسوة ضارية يجعلها تصرخ أكثر يلطمها مرة خلف الأخرى بكل عنف وشدة لتخرج الدماء من جانب شفتيها وأنفها بغزارة..
تقدمت والدته سريعًا بعدما رأته فاقد السيطرة على نفسه تنظر إلى زوجته التي كانت تقف بعيدة لا تستطيع الإقتراب وتبدل الحال بينهم يظهر هذا على ملامحهم وأجسادهم، جذبتها منه بقوة تأخذها خلف ظهرها لتصرخ به بقسوة:
-فهمنا في ايه بدل ما أنت نازل ضرب فيها
أبتعد عن وجه والدته وأقترب منها قابضًا على ذراعها بعنف يأخذها مرة أخرى ينظر إليها بكره شديد قائلًا بغضب:
-أنتي فاكرة نفسك بتستغفليني؟ فاكرة إني رجعتك الجزيرة علشان اتجوزك بجد
أكمل ضاغطًا على ذراعها ينظر إلى عينيها نظرة ارعبتها:
-أنا استغفل مليون واحدة زيك يا بت العامري، الله وكيل ما هرحمك.. الله وكيل ما هيطلع عليكي صبح وأنتي واقفة على رجلك
ارتعشت حقًا وسارت القشعريرة في أنحاء جسدها تنذرها عما سيفعله بها قادمًا على الرغم من أنها لا تدرك لما تحول هكذا، تحدثت بصوت مرتجف خافت:
-أنا عملت ايه يا جبل.. والله معملتش حاجه دا أنا بحبك
رفعت يدها الأخرى تزيل الدماء الهابطة على عنقها من شفتيها وأنفها تبكي بغزارة وجنون نظراته نحوها تشعرها بالذعر:
-والله بحبك وجيت الجزيرة تاني علشانك وعلشان عايزة ابقى معاك يا جبل حرام عليك ليه بتعمل فيا كده
ابتسم ساخرًا وعيناه المخيفة ترسل إليها هستيرية الانتقام ليخرج صوته حاد كنصل السكين:
-صدقتك أنا كده.. صدقتك يا بت الكلب
أنهى كلماته وهو يلطمها بقسوة شديدة دافعًا إياها للخلف متسائلًا حابسًا حزنه ودمعاته المطالبة بالخروج:
-طاهر فين
ابتلعت لعابها وتمكن الذعر منها، هنا فهمت ما الذي يريده ولما يفعل هذا، هنا أدركت سبب تحوله ومقصده من قدومها إلى هنا، كم أنك ذئب يا "جبل العامري"
نظراته نحوها لم تكن إلا كرهًا وبغضًا تُخيفها إلى الجنون ولكن ما يخفيه بالداخل لم يكن سوى ضعف مميت يقضي عليه تدريجيًا، قهر احتل أعضائه الداخلية وتشابك مع روحه ليأخذه إلى النهاية المطلقة الحرة ولكن وحده في واقع غير هذا..
حركات جسده وذلك التشنج الذي يصيبه، همجية أفعاله ونظراته المجنونة التي تدفعه لقتلها لا تنبعث إلا من داخله، من داخل قلبه المطعون بسكين تارة حاد وتارة تالم فلم يعد يشعر بأي منهما الأصعب في الألم..
الجميع يقف مذهولًا، لا تدري "زينة" لما الآن قرر التخلي عن خطته التي رسمها معها وأصبحت ناجحة للغاية ستؤدي به للطريق الذي يريده وتلك الكلمات التي نطق بها في نهاية مكالمته تتردد على مسامعها ولكنها تخاف التحدث وترى ما يفعله بقلة عقل لا يأتي إلا من قهر أصابه وألم لا يستطيع تحمله..
بينما والدته التي استمعت إلى كلماته البسيطة معها أدركت منها أنه أعادها إلى الجزيرة بسبب ما غير الذي قاله لهم، غير الذي بدى عليه وأتى ظنها في محله ويبدو أن هذه المرة لن تمر مرور الكرام على "تمارا" التي لازالت مصممة على إنهاء حياتها هنا على يد ابنها..
تعلثمت متحدثة بضعف مصطنعة عدم المعرفة:
-طاهر.. طاهر مين!
أقترب يضع يده الاثنين حول عنقها يحيطهم بقسوة شديدة يضغط عليها بعنف وضراوة مصرًا على قتلها وهو يصرخ بها:
-لما تستهبلي عليا هسيبك!.. لأ أنتي كده كده ميته يا تمارا
ركضت "زينة" نحوه تقبض على ذراعيه محاولة أن تجذبه للخلف صارخة به:
-جبل سيبها.. سيبها كده مش هتعرف منها حاجه
شعر بها تختق حد الموت شفتيها تحولت إلى اللون الأزرق وأحمر وجهها بشدة فابتعد عنها ممتعضًا غاضبًا:
-اتكلمي
سعلت بشدة وهي تضع يدها حول عنقها لا تصدق أنه تركها فقد قاربت على الموت بين يديه، أدركت مدى تهوره واستعداده التام لقتلها في الحال فقالت باكية:
-أنا ماليش دعوة بحاجه يا جبل صدقني
انتحبت أكثر محاولة أن تفعل أي شيء تجعله يشفق عليها ويرق قلبه ناحيتها فلم تجد إلا أن تتحدث بخوف قائلة:
-هو ضحك عليا.. ضحك عليا بعد ما مشيت من هنا والله
تمعن في النظر إليها بعيون مليئة بالغضب والكراهية، خرج صوته بحدة متسائلًا:
-مكانه فين؟
ارتعشت بخوف وهي تبتعد للخلف قائلة بمراوغة:
-معرفش
جز على أسنانه وهو يقترب تلك المسافة التي ابتعدتها قائلًا:
-أخر مرة هسألك مكانه فين؟
نظرت إليهم واحدًا تلو الآخر، أنها هنا بينهم وحدها، وقعت بين يدي "جبل العامري" مرة آخرى كانت الأولى قد مرت وتركها ورحلت سالمة، الآن بعد أن أدرك أنها تعاونت مع "طاهر" ضده لن يتركها إلا عندما يشفي غليله منها!..
تفوهت تخبره بنبرة خائفة:
-هو.. هو كان باعتلي عنوانه الجديد في رسالة بس أنا مرحتوش والله ولا أعرفه
أقترب يمد يده نحوها ليتمسك بخصلات شعرها صائحًا بقسوة:
-بتكدبي عليا ها.. مـروحـتـيـش
أمسكت يده "زينة" سريعًا محاولة تهدئته وهي تنظر إليه برجاء أن يتركها فاستمع إلى صوتها يخرج بذعر مرتعشًا:
-روحت.. روحت والله بس كنت بقابله في النيل مش العنوان ده
أشار إليها بحدة:
-هاتي العنوان
أخرجت الهاتف من جيب بنطالها بأنامل مرتعشة فتحته على الرسالة الخاصة بالعنوان لتريه إياه:
-أهو
لكنه جذبه من يدها ينظر إليه يقرأ محتواه جيدًا ثم وضع الهاتف بجيب بنطاله تاركًا إياها بينهم متوعدًا لها وهو يخرج بهمجية وتعجل.. ذهبت خلفه والدته التي صاحت بقسوة تسائلة بعصبية لا يروق لها أن تكون مشاهد:
-جبل.. فهمني ايه اللي بيحصل
وقفت أقدامه على الأرضية واستدار ينظر إليها بعمق قائلًا بإيجاز:
-لما خرجت من الجزيرة غدرت بيا واتفقت مع أكبر عدو ليا عليا، وأنا لما رجعتها كان علشان أعرف طريقه مش علشان اتجوزها زي ما قولت
ابتلع مرارة الخبر الذي استمع إليه منذ قليل، جف حلقه وهو ينظر إليها يفكر هل عليه أن يجعلها تحزن مرة أخرى أم يكفي المرة الأولى وهو يقف صامدًا إلى الآن لم يهتز ولم يبكي على والده!..
تركها تنظر إليه باستغراب تحاول استيعاب ما قاله وذهب خارجًا تاركًا إياهم فذهبت "زينة" خلفه ركضًا تناديه بلهفة وقلق..
وقف ينظر إليها لتذهب إليه سريعًا متسائلة بقلق جلي يظهر على كافة ملامحها:
-أنت رايح فين يا جبل
وضع كف يده على وجنتها يحرك أنامله الحنونة عليها ينظر إلى عينيها السوداء يلقى بها الموت والحياة، قال بجدية:
-متخافيش.. مشوار وراجع
سألته تتابع عيناه باهتمام شديد تشعر بأنه لا يستطيع الوقوف بهذه الطريقة الشامخة وكأن هناك ما يحرك حزنه وهو محاولًا ردعه:
-مين اللي مات
وضع يده على شفتيها سريعًا محذرًا إياها بعيناه بقوة ثم تحدث:
-متجبيش سيرة باللي سمعتيه.. متفكريش فيه حتى، لما أرجع هحكيلك
تركها وذهب ليقف مع "عاصم" تحت أنظارها يتحدث معه قبل الرحيل، مرت دقائق عليهم ثم رحلوا سويًا ومعهم بعض من الحراس..
فكرت قليلًا فيما استمعت إليه وهو معها أيعقل أن يكون والده كان على قيد الحياة ولا أحد يدري بهذا والآن لقى حتفه!.. يبدو أن الوضع هكذا بالأخص عندما حذرها من الحديث عنه أو حتى التفكير به، نظرت في الفراغ شاعرة بالحزن لأجل كل ما يمر به، سابقًا كانت تشعر بالسعادة عندما تعلم بتورطه في شيء ولكن الآن بعد أن أصبحت الحقيقة بكتاب مفتوح أمامها، بعدما شعرت بأنها لا تحب أحد غيره ولا تستطيع العيش بدونه لا تجد إلا الحزن يدق بابها لأجله.. لأجله هو فقط ذلك الذي تربع على عرش قلبها دون سابق إنذار..
دلفت إلى الداخل وما كادت إلا أن تغلق الباب إلا أنها وجدت أحد الحراس يقف أمامها فسألته باستغراب:
-في ايه؟
تحدث بجدية يجيبها:
-هاخد تمارا.. أوامر جبل بيه
دلفت إلى الداخل تنظر إلى "تمارا" الجالسة على الأريكة في زاوية الغرفة بعيدًا عن الجميع والذين بقيوا داخل حجرة الصدمة يفكرون فيما قاله وما فعلته تلك التي تعيش بينهم..
أقتربت من "وجيدة" تنظر إليها بجدية ثم هتفت قائلة:
-طنط.. تعالي شوفي الحارس اللي بره
ذهبت معها إليه لتعيد عليه نفس السؤال الخاص بزوجة ابنها فأجابها مرة ثانية:
-أوامر جبل بيه ناخد تمارا من هنا
سألته باستغراب مضيقة عينيها عليه:
-هتودوها فين
أجابها بجدية:
-الجبل
دلفت إلى الداخل دون حديث، نظرت إلى ابنتها "فرح" بقوة وحدة تصيح بها:
-قومي اطلعي على فوق
وقفت على قدميها سريعًا وتحركت مبتعدة تنصاع إلى حديث والدتها الحاد دون أن تنظر خلفها حتى يكفي ما مرت به هي وفي نفس اللحظات كانت "تمارا" تخلت عنها.. تعرف ما الذي ستخضع له على يد شقيقها ولكن كما قالت "تمارا" سابقًا أنها لا تستطيع المخاطرة بعد أن حذر بأن لا أحد يتدخل..
بعدما رحلت أشارت إليها بقوة:
-تعالي يا تمارا معايا
نظرت إليها برعب احتل أوصالها ولعب على أوتار عقلها الباقية للتفكير بها، تابعتها بخوف شديد. ورهبة قاتلة فخرج صوتها بتعلثم:
-اجي معاكي فين
أجابتها وهي تقترب منها لتقبض على معصم يدها تجذبها لتقف عنوة عنها:
-تعالي متخافيش
وقفت تسير معها وهي تنظر إليها مرة وإلى "زينة" مرة أخرى بعيون التهمها الخوف ودقات قلبها المتعالية لا تنذرها إلا عن الأسوأ القادم مع أقترابها من الخارج.. تلك الذكريات الغريبة تحوم حول عقلها وكأن النهاية اقتربت ومالك الموت واقفًا في انتظارها ليقبض روحها.. ارتعش بدنها من تلك الرهبة المتعلقة بعنقها عازمة أمرها على التكملة إلى أن تؤدي بحياتها..
وقفت أمام الحارس معهما تنظر إليهم بحيرة ورجاء في ذات الوقت ولكن "وجيدة" استعادت سابق عصرها بقسوتها وحدتها ولم تترك إليها الفرصة لتنظر إلى أحد تطالب منه بشفقة أو تعاطف دفعتها للخارج بقوة وعنف ليأخذها الحارس عنوة وقهرًا فأغلقت البوابة خلفها تستمع إلى صراخها المميت المقهور تناجيهم أن يرحمونها..
لم ترحم هي نفسها كيف تنتظر من الآخرين الرحمة؟ لم ترحم بدنها وتفكيرها وقلبها، لم تفكر في روحها العزيزة بل وجدت أن الانتقام الحل الأمثل وعادت كالبلهاء إلى بلدة تنتظر ذبح فقير العقل ووقع الاختيار عليها.. كالبلهاء عادت معتقدة أنه حن إليها وعاد شغفه إلى السنوات السابقة.. كالبلهاء اعتقدت أن من تركته في أكبر المحن الخاصة به.. من تركته في أكبر الأزمات والمصائب وحده هو والليل يعاني من الممكن أن ينظر إليها كسابق عهده!.. كالبلهاء عادت إلى يد "جبل العامري" القاتلة..
❈-❈-❈
بعد ساعات وصل "جبل" و "عاصم" إلى العنوان الذي أخذه من ابنة عمه، وقف أسفل العمارة ينظر إلى الأعلى وطلب من رجاله أن يبقون في الأسفل صعد فقط هو و "عاصم" بعدما قام "عاصم" بالتواصل مع الشرطة
وقف أمام باب الشقة ثم دق عليه بقبضة يده أكثر من مرة، لحظات مرت عليهم وهم يقفون ثم فُتح الباب وظهر من خلفه "طاهر" الذي احتلت الصدمة ملامحه فور أن وقعت عيناه عليهما أمامه..
دفع "عاصم" الباب بقوة وتقدم إلى الداخل ومعه "جبل" تحت نظرات الآخر القلقة منهم، نظرات غريبة تبدو خائفة وكارهه، يحاول أن يبعث الثبات إليهم كي يروه وهو واقف متزن أمامهم..
ولكن "جبل" لم يترك له الفرصة وهو يتقدم منه يمحي ثباته وقوته وهو يلكمه بقوة شديدة جعلته يسقط على الأرضية يضع يده على أنفه الذي نزف بغزارة من لكمة واحدة ولكنها خرجت منه بغل وحقد كبير قبع داخل قلبه كثيرًا..
انحنى عليه يجذبه بقوة يرفعه ناحيته بجذعه العلوي يسدد له الضربات الموجعة والقاتلة، كان يعرف أين وجهته وأين تأتي ضربته القادمة..
كل هذا كان يخرج من صميم قلبه المقهور، وعقله النازف، كل هذا من روحه المطعونة بموت والده غدرًا على يد أحد رجال هذا الحيوان الحقير..
سدد إليه الكمات والضربات دون أن يجعله يأخذ الفرصة ليدافع عن نفسه ووقف "عاصم" مشاهدًا فقط يرى ما يفعله "جبل" به..
استمع إلى صراخه المقهور يخرج ما كنه قلبه وكتمه أمام الجميع:
-بتاخد حقك مني في أبويا.. بس أنت اخدته غدر معرفتش بردو تقف قصادي وترفع سلاحك عليا.. معرفتش تبقى جبل العامري ولا عرفت تمسني بحاجه
ابتسم "طاهر" الغارق في دمائه قائلًا بسخرية وصوت ضعيف:
-لو كنت اتأخرت شوية كنت قلبتها عليك بس أنت حظك حلو
لكمه مرة أخرى وأخرى وهو يصرخ بحقد:
-مهما عملت مش هتعرف تبقى أنا.. ولا هتعرف تعملي حاجه.. بقالك قد ايه عدوي.. طول عمرك كلام وبس
أكمل ساخرًا مبتسمًا بتهكم:
-سمعت قبل كده عن الصامت في رواية أحدهم.. أنت كنت المتحدث في روايتي.. مالكش أي قيمة غير إنك تتكلم لكن تنفيذ مافيش.
ارتفع صوت ضحكاته غير قادرًا على مجابهة الضربات التي تأتيه منه فلم يعطيه الفرصة من البداية للرد فتزايدت عليه إلى أن وقع أسفله:
-ما قولتلك لو اتأخرت شوية كانت جزيرة العامري كلها ولعت باللي هعمله
بقي يلكمه بغل وقهر على والده، وعلى حياته ورجاله الذين لقوا حتفهم بسببه، ظل يضربه بحقد وغضب ضاري وهو يصرخ به وأصبحت الدماء تغرق وجهه وجسده فتقدم "عاصم" سريعًا منه يجذبه بعيدًا عنه مذكرة أنهم يريدونه على قيد الحياة..
ابتسم "جبل" وهو يقول ساخرًا:
-اللي جاي صعب عليك.. هتلعن الساعة اللي سولك فيها عقلك تقف قصاد جبل العامري
أكمل بجدية شديدة وصدق:
-طول عمري بحب اللعب، وكنت كفيل بيك لوحدي وأعرف أجيب أجلك بس كنت سايبك تحلي اللعب معايا.. كنت سايبك تخليني استمتع في الملعب.. جه الوقت اللي تستقيل فيه من اللعبة كلها
ضربه بقدمه لآخر مرة عندما استمع إلى الدق فوق الباب الذي كان أغلقه "عاصم" تقدم مرة أخرى ليفتحه فدلفت عناصر الشرطة متناثرة في كل مكان وتقدم اثنان منهم يقبضون على "طاهر" الملقى أرضًا لا حيلة له..
لم يستطع الوقوف بسبب ما فعله به "جبل" خسر كل شيء أمامه ووقع قتيلًا أسفل قدميه، كيف فعلها ابن "العامري" لا يدري ولكن قدره السيء هو الذي ألقى بكل ما فعله في مهب الريح ليبقى الآن ذليل أمامهم وبين يديهم يعرف المصير القادم إليه سيبقى في السجون إن لم يحصل على الإعدام..
تحدث الضابط بعملية شديدة:
-مقبوض عليك بتهمة قتل زهران العامري.. غير التهم التانية أظنك عارفها كويس
أشار إلى عناصر الشرطة:
-خدوه
ثم أبعد نظره إلى "جبل" قائلًا بمواساة:
-البقاء لله يا جبل..
أجابه شاعرًا بالحزن يتخلل داخله:
-ونعم بالله
ذهب "جبل" و "عاصم" مع عناصر الشرطة، كان من السهل عليه قتلة بمنتهى السهولة ولم يكن سيحاسب على قتله ولكن في حالة القتل راحة وهو لا يريد له الراحة بل يريده أن يتعذب كما عذب والده، يريده أن يتجرع كؤوس المر والحزن.. يريده أن يتمنى الموت ولا يحصل عليه..
❈-❈-❈
بعد أن أشرقت الشمس عاد "جبل" القصر مرة أخرى، ملابسه مليئة بالأتربة، وجهه وملامحه تحمل حزن ومأسي العالم أجمع، جسده متهدل منحني إلى الأسفل ليس ذلك الجبل الشامخ طيلة الوقت.. هناك تغيير كبير حدث في حياته فقط في بضع ساعات جعله من شخصًا صلب حاد لا ينهزم بالصعاب إلى آخر لين يسهل حزنه وكسره..
دلف إلى الداخل وقارب على الصعود إلى الأعلى لينال بعض من الراحة بين أحضانها، لينال بعض من الهدوء بين طيات قلبها النقي يبكي ويفرغ ما داخله دون خوف دون أن يرى أن كسرته أمامها ككسرته أمام الجميع..
لم يستطع الصعود إلى الأعلى عندما وجد والدته تناديه بصوت حاد قاسي، لم تنم بعد منذ ليلة الأمس، تنتظر عودته من الخارج ليجلس أمامها كطفل صغير يخطئ ويخفي خطأه عنها والآن حان وقت المحاسبة ومراجعة كل ما فعله في الأيام المنصرمة دون علمها واللجوء إليها وأخذ حديثها بعين الاعتبار..
عاد زافرًا الهواء من رئتيه بضيق شديد فلا يستطيع التحمل أكثر من ذلك، يكفي ما تحمله إلى الآن يود الجلوس ليفرغ ما بداخله ثم يستقبل صدمات أخرى وأفعال غير الذي قابلها..
أشارت له بالولوج إلى الغرفة ففعل ليجلس على الأريكة، أتت لتجلس أمامه متحدثة بجدية:
-أنا عايزة أفهم كل حاجه حصلت يا جبل من البداية لحد دلوقتي..
أومأ إليها برأسه موافقًا على حديثها، الآن أتى الوقت المناسب للبوح بكل سر أخفاه عنها، حرك رأسه مفكرًا قليلًا تحت أنظارها، يبدو أنه لن يبوح عن كل الأسرار لا يجوز أن يفعل هذا، إن كان هناك حزن مرة سابقة فلما سيكون هناك حزن للمرة الثانية على نفس السبب!..
تحدث متنهدًا بعمق:
-أنا مكنتش بكمل مسيرة أبويا المشرفة في تجارة السلاح
قطبت جبينها باستغراب تتابعه بعينيها قائلة مستفهمة:
-يعني ايه
تنهد مرة أخرى يخرج ما بجوفه بجمود يلقي عليها الحديث بطريقة باردة وكأنها لا يشيء:
-أنا كنت شغال مع الحكومة بساعدهم في القبض على تجار السلاح
ولكن أثر الكلمات عليها كانت صاعقة لم تتحملها وهي تناظره بحدة وذهول تام تسأله:
-أنت بتقول ايه يا جبل
أومأ إليها يؤكد على حديثه مُكملًا بجدية:
-اللي سمعتيه، أنا مش تاجر سلاح ده اللي انتوا تعرفوه والجزيرة والكل لكن الحقيقة هي أن أنا شغال مع الحكومة
حرك يديه بارهاق يُشير إليها موضحًا ما حدث في الأيام الماضية:
-مكنش حد يعرف غير عاصم وبعدين زينة، سمعتنا تمارا وبعد ما خرجت من الجزيرة قالت لطاهر ولو هو متأخرش في أنه يوديني ورا الشمس مكنش زماني هنا دلوقتي
سألته بعينان مُتسعة عليه ترى كذبه وخبثه عليها:
-كل ده كنت بتكدب عليا
نظر إليها بجدية وعمق ثم سألها وهو يتقدم للأمام منها:
-فرحانه ولا زعلانه بالكدبة
لم تجيبه وبقيت تنظر إليه باستغراب، أليس من المفترض أنه أكمل مسيرة والده كي يأتي بحقه، أليس من المفترض أنه يثأر لوالده الذي قتل على يد الشرطة منذ سنوات وشقيقه الذي ذهب غدرًا وحرمت منه وهو في ربيع شبابه..
كان يعلم ما الذي تفكر به وهو تناظره بهذه الطريقة القاسية فتحدث ساخرًا مبتسمًا بارهاق شديد:
-مبتردش ليه؟ كنتي فخوره بابنك تاجر السلاح ومستنية مصيره يبقى زي أخوه وأبوه
أجابته بقسوة وعنف تنظر إليه بحدة خالصة:
-أبوك اللي الحكومة قتلته وأخوك اللي اتاخد غدر
انفعل وهو يقترب للأمام أكثر بجسده يبغض ما تتحدث عنه ويبغض الخروج عن القانون، يبغض ما فعله والده وشقيقه وتلك السمعة التي تركوها له من بعد رحيلهم.. يبغض أنه رجل قانون وهم خارجين عنه، يبغض أنه تخلى عن حلمه لأجلهم:
-أبويا اللي قتل نفسه لما مشي في الطريق ده، وأخويا مصيره كان لازم يبقى زيه لأنه شجعه وسهل ليه شغله بره وجوا مصر
سخرت منه وهي تعود بذاكرتها للخلف، تتذكر شجاره الدائم مع والده وشقيقه، تتذكر كم كان يكره ما يفعلونه، وذلك اليوم المشؤوم الذي ترك الجزيرة به متخليًا عن الجميع لأجل أن يسير في طريق نظيف:
-أنت راجل القانون اللي مكانش عاجبك حالهم
تابعها وهو يرى سخريتها المميتة منه، ألا يحق له أن يكون رجل ناجح نظيف برئ من كل التهم المنسوبة إليه؟ ألا يحق له أن يكون شاب يسير في دروب الحقيقة والعدل! لقد وقع في طريق الظلام عنوة عنه وعندما أراد الخروج ترك ما يحبه ويبغاه:
-اديكي قولتي، راجل القانون
أشار إلى نفسه بحدة كبيرة يتحدث بقسوة وغلظة يخرج النيران الحبيسة داخل أعماقه منذ الكثير من السنوات ينتظر أن تعبر عن رضاها عما فعله:
-لازم تبقي فخورة بيا.. لازم تحسي إن ابنك مافيش زيه.. أنا حميت ناس كتير ووقفت مع ناس كتير.. أنا مستني نظرة رضا منك عن كل اللي عملته
صمتت قليلًا تنظر إلى الأرضية تبعد عيناها عنه، تتذكر كل شيء مر عليهم منذ سنوات وكأنه حدث بالأمس يمر أمامها شريط سريع لكل شيء ولكن قلبها يقول غير الذي حفظته عن ظهر قلب، يقول إنها خسرت اثنان وبفضل الوحيد المتبقي جعل رائحة الراحل معها، وأتى بابنته إليها ليفعل كل ما يرضيها، أتى بها بالحب والحنان وأصبح والد آخر لها، أتى بها إلى جدتها لتشعر بأن ولدها مازال معها وهو في الحقيقة تركها منذ زمن..
تنهدت زافره الهواء بهدوء ونظرت إليه بعد أن فكرت في حديثه لدقائق بسيطة ينتظر بها ردها الفاصل لكل ما فعله:
-وأنا راضية عنك يا جبل مهما عملت.. صحيح أنت ذكي ومخلتنيش أشك فيك ولا مرة بس كنت حاسه أنك بتعمل حاجه صح..
ابتسمت بحب قائلة وهي تقترب تضع يدها تربت على فخذه:
-ربنا يرضى عليك
ابتسم بارهاق وهو ينظر إليها بضياع، لو تعلم أن والده كان على قيد الحياة منذ سبع سنوات واليوم حتى لقى حتفه على يد "طاهر" لو تعلم أنه هو الذي طلب منه إخفاء هذه الحقيقة، لو تعلم أن الجالس أمامها يموت قهرًا، روحه تنزف ألمًا وقلبه يبكي بدلًا من عينيه الظاهرة للجميع دماء..
تنهد بعمق محاولًا الثبات أكثر، تركها وصعد إلى الأعلى غير مصدقًا أنه وصل إلى باب الغرفة، فتح الباب وولج إلى الداخل لينظر إليها نائمة على الفراش، يبدو أنها تغط بنوم عميق فالصباح أشرق منذ القليل..
تنهد للمرة التي لا يعلم عددها وهو يشعر بالعجز دالفًا إلي الداخل يجلس على الفراش يعطيها ظهره..
وجد من يحيطه من الخلف فاستدار ينظر إليها ليجدها جلست على الفراش تغمره لا يدرى متى استيقظت فسألها باستغراب:
-كنتي نايمة
حاوطته بيدها وغمرته بقلبها تجيبه بهدوء تحاول أن تزيل النعاس:
-لأ أنا صاحية لحد من شوية بس غفلت.. كلمتك كتير أوي موبايلك كان مقفول
تابعت مظهره الغير مهندم وملابسه المتسخة غير مظهره الذي لا يوحي بالخير فتفوهت مستفسرة:
-عملت ايه؟ مال شكلك متبهدل كده
جذبها من معصم يدها لتبقى جواره ثم مال بجسده عليها يلقي برأسه على صدرها ويلقي بأحزانه في محرابها تستقبل هي عباراته بكل رحابة صدر تبتسم لأنها المكان الأمن والمحبب بالنسبة إليه..
خللت أناملها بين خصلات شعره تفعل ما يحب تلتزم الصمت ليعبر عن مكنون قلبه وما يريد البوح به هو..
بقيٰ هكذا لوقت طويل، يتنفس بعنق تخرج العبرات من عينيه دون صوت فقط تستمع إلى أنفاسه الخارجة منه يشعر بقلبه يعتصر داخل صدره ولكنه يستمر دون حديث ودون أي شيء منها ينتظر قائلًا ليفرغ شحنة غضبة وحزنه وحرمانه ثم يعود واثقًا شامخًا ينظر إليها وهو رجل قادر وواثق..
حركت يدها الأخرى عليه بحنو ولين تحسه بالاطمئنان والأمان، تجعله يشعر بأنها جواره في كل الأحوال تنتظر الحديث لتستطيع أن تخفف عنه وتواسيه.. وهو هكذا فقط تربت على أحزانه ونظراته المنكسرة لا شيء غير ذلك.. فقط تنظر إلى ما يصدر عنه تشعر بأن هناك حمل ثقيل يحمله وحده فوق أكتافه ويبدو أنه أكبر بكثير من المرة السابقة..
إلى هذه الدرجة تخلل الحزن قلبه وتغلب عليه الألم والقهر، إلى هذه الدرجة لم يعد قادرًا على التحمل ليلقي كل آلامه هنا بين أحضانها صامتًا لا يخرج منه شيء سوى أنفاس وعبرات محترقة لا يسمح لها بالخروج أبدًا مهما حدث..
بعد وقت آخر مر وهو على نفس الحال رفع وجهه إليها بعدما شعر أنه أصبح أفضل من ذي قبل، ينظر إليها بألم تنساب الحرقة من عيناه دون أي مجهود منه ليصل إليها..
سألته واضعه يدها أعلى كف يده على الفراش تضغط عليه لتشعره بوجودها:
-ايه اللي حصل
تنهد بعمق ناظرًا إليها بسخرية:
-ايه اللي حصل.. سؤال بسيط بس الإجابة صعبة أوي يا غزال
ابتسمت بهدوء قائلة برفق:
-هسمعك
زفر الهواء بحدة وعاد للخلف يستند إلى ظهر الفراش ينظر إليها ثم بدأ في الحديث يقص عليها كل شيء من البداية، بعد أن انكشف سره إلى الجميع لما هي لا:
-أبويا هو اللي كان تاجر سلاح.. بيساعده يونس، يونس اللي طمع في الفلوس والجاه والغنى وأنه يبقاله كلمة مسموعه وسط الناس، كبرها في دماغه ووسع نشاطه بقى أكبر تاجر سلاح في البلد..
كانت تستمع إلى حديثه بعينان دامعة، وقلب ينزف كرهًا، إلى هذه الدرجة كانت غبية مخدوعة به، إلى هذه الدرجة مر عليها سنوات معه ولم تستطع أن تفهم ولو مرة واحدة أو تشك بأنه يفعل أشياء غير قانونية يطعمها هي وابنتها بمال مُحرم مغطى بدماء الكثير من الأبرياء.. ودومًا كان يحذرها من "جبل" وكأنه هو الذي يأخذ مكانه وذلك البرئ "يونس" لا يوجد مثله رجل وقور مثقف ومهذب!..
شعر بما تفكر به ورأى نظرة الألم والحسرة مرتسمة على عيناها الدامعة ليكمل بجدية حزينة ونبرة خافتة ساخرة:
-محسوبك كان محامي، كان حلمي إني ابقى محامي أدافع عن المظلوم وابقى عادل وأدين الظالم، محسوبك كل الناس وقفت ضد رغبته أولهم يونس وأبويا بس بعدين أبويا وافق قالك علشان لما يقعوا أنا الحقهم..
تابعته وهو يتحدث وتعمقت في حديثه تتذكره وهو حاكم عادل بين الجميع يأخذ بالثأر من الظالم ويرد للمظلوم حقه، أكمل بجدية وهو ينظر إلى الفراغ:
-كتير حاولت ابعدهم عن الطريق ده ولما يأست حاولت أنا أبعد..
رفع بصره إليها خجلًا عيناه تمطر عليها نظرات الخيبة ليكمل بصوت خافت:
-بس.. أبويا، أبويا اتمسك متلبس واتصاب كان بيموت، بس مماتش وأنا مقدرتش أعمله حاجه، لما حس أن حياته بتروح وفهم أن اللي عمله كان أكبر غلط في حياته اعترف.. اعترف على نفسه..
اسطرد يكمل بحزن تخلل داخله ووصل إلى أعماق قلبه:
-اعترف بكل حاجه عملها ومكانتش تجارة سلاح بس.. خد مؤبد، كل ده ومحدش يعرف غيري أنا.. أنا بس
قطبت جبينها عليه مضيقة عينيها تتسائل داخلها كيف حدث كل هذا وهو الوحيد الذي يعلم!؟ خرج السؤال من بين شفتيها باستغراب:
-إزاي
تفوه بجدية وإيجاز:
-مات.. قولنا إنه مات
سألته مرة أخرى باستغراب أكبر لا تفهم ما الذي يقوله ولا تستطيع أن تستوعبه ويوافق به عقلها:
-إزاي الكلام ده أتصدق
أومأ برأسه يتفهم أن ما يقوله صعب التصديق ولكنه بالفعل ما حدث يكمل بصدق وهدوء:
-هنا في الجزيرة الكلمة اللي أنا بقولها هي اللي بتبقى الحقيقة، أبويا اتحبس بره الجزيرة وطالما بره الجزيرة مستحيل حد يعرف ده غير أن أنا كنت متفق مع الحكومة
لا يقف عقلها عن إلقاء الأسئلة عليها وبدورها هي تخرجها من شفتيها تعرضها عليه لتلقى منه إجابة مقنعة:
-إزاي اشتغلت معاهم وأنت ابن تاجر السلاح
نظر إليها للحظة بعمق وجدية شديدة لتخرج الكلمات من بين شفتيه بحدة:
-أنا اللي بلغت عنهم
نظرت إليه بقوة، اتسعت عينيها من أثر الصدمة التي ألقاها عليها بمنتهى الجدية والثبات وكأن ما قاله أمر عادي قابل للتصديق والصمت من بعده..
ابتسم على نظرتها نحوه ولكنه أكمل بجدية:
-من بعدها شغلي كان مع الحكومة سري لأبعد حد، لحد النهاردة محدش يعرف إني بلغت غيرك.. أنتي بس حتى عاصم مايعرفش
وجدها مازالت تنظر إليه نفس تلك النظرة الغريبة كليًا وكأن عقلها لا يصدق ما قاله فسألها بخفوت ورجاء ينبعث في نبرته ألا تشعره بالذنب:
-أنا غلطت؟
ابتسمت وهي تقترب منه تقبض على يده بقوة تنظر إليه بابتسامة كبيرة لا تصدق أنه فعل هذا ويشعر بأنه المخطئ، بعد كل ما قدمه إليهم مازال يشعر أنه المخطئ، قالت برفق وهي تضع يدها على وجنته تمررها برفق:
-لأ يا جبل مغلطتش.. أنت عملت اللي عليك يا حبيبي حاولت تبعدهم عن الطريق ده ومعرفتش.. انتمائك لبلدك وحبك ليها هو اللي خلاك تعمل كده.. كرهك للظلم هو اللي خلاك تعمل كده
قال بخفوت وحزن:
-كتير من الأوقات بحس بالذنب
أومأت إليه برأسها بالرفض الشديد لما يقوله متحدثة بصراحة وقوة:
-ماينفعش تحس بالذنب أنت صح..
نظرت إلى أعماق عيناه الخضراء تتذكر ذلك الوحش الذئب البشر الذي قابلته عندما أتت إلى هنا وتحملت منه ما لا يتحمله أحد لينقلب في لمح البصر إلى آخر غيره تمامًا لا يشبهه بتفصيله واحدة..
-إزاي قدرت تعمل كده أنا مشكتش ولا لحظة من وقت ما جيت الجزيرة أنك تكون حد تاني للدرجة دي، أنت كنت شخص غير اللي قدامي.. مش قادرة اشرحلك أنا كنت بشوفك إزاي
رفع كف يده يحتضن يدها بأنامه الغليظة التي تمررها على وجنته ينظر إليها بحزن ورجاء، يتابع بندم خالص لها ونبرته مرهقة تخرج بطريقة تحزنها هي:
-أنا آسف.. آسف على كل اللي عملته عارف إني غلطت فيكي كتير بس أنا.. أنا أول يوم بينا كان لازم أعمل كده معاكي علشان تعرفي إني مش سهل، متشكيش فيا ولا تحسي إني حد تاني.. كان لازم أخاف منك وابقى حويط حتى لو عارف إنك متقدريش تعملي حاجه.. الغلطة كانت هتبقى بموت الكل
أومأت إليه برأسها وفرت دمعة من عينيها وهي تتابع حديثه:
-أنا سامحتك خلاص بلاش نتكلم في الموضع ده
أكملت بجدية تتوق لمعرفة ما الذي حدث بعد ذلك:
-كملي اللي حصل
أخذ نفسٍ عميقٍ وزفره بحدة يكمل متذكرًا ما حدث وكأنه كان بالأمس:
-يونس مات وأبويا مات وتمارا مشيت وسابتني، اتخلت عني لما لقيتني بخسر ومهزوم ومش عارف أقف مرة واحدة.. وأنا اشتغلت وبقيت زي ما أنتي شايفه دلوقتي.. الكل فاهم إني تاجر سلاح حتى أهل الجزيرة كانوا بيساعدوني ويقفوا جنبي.. الاتفاق كان سري لدرجة أن لما كان بيجي حملة تفتش هنا كانت بتبقى حقيقية وكان أهل الجزيرة بيساعدوني اخفي السلاح..
شعر بارتياح قلبه بعدما أفرغ تلك الشحنة الغليظة التي كانت تتكأ عليه تود الفتك به، قال بنبرة جدية ثم حزينة للغاية:
-لحد ما أنتي جيتي وشوفتي كل حاجه، لحد ما طاهر قتل أبويا امبارح في السجن
اتسعت عيناها أكثر بصدمة كبيرة تتذكر ما استمعت إليه منه في الأمس:
-ايه
أومأ برأسه يكمل شاعرًا بأنه تجرع الأسى أضعافًا من تلك السهولة التي تخرج الكلمات بها:
-مات امبارح.. وطاهر اتقبض عليه وأنا وعاصم.. دفنا أبويا هنا في الجزيرة من غير ما حد يعرف
فرت الدمعات من عينيها حزنًا عليه تنظر إليه باستغراب تام واجهشت بالبكاء تنظر إليه بضعف وقلة حيلة قائلة:
-أنت إزاي مستحمل كل ده لوحدك
اقتربت منه سريعًا ترتمي بأحضانه تجذبه ناحيتها تأخذ منه القدر الكافي من الحزن والأسى حتى تجعله سعيدًا، تأخذ منه الشقاء والعناء الذي شعر به وهو وحده بين الجميع يدافع عن الحق مسلوب الإرادة ثم أصبح مرة واحدة ودن سابق إنذار ذلك الخارج عن القانون وهو الذي يحميه..
كانت ذكية في كل المرات التي فكرت بها بشيء يخصه ولكن أبدًا لم تكن تتوقع أن هذا ما حدث معه، لم تكن تتوقع أن المثقف الراقي المحترم زوجها "يونس" تبادل الأدوار مع ذلك الذئب البشري الذي قال أمامها وضحى بالابرياء وفعل أشياء لا تغتفر..
علمت الآن أن ذلك الرجل الذي كان يسجل كل شيء ورأته يفعل مثلها كان معه، بينما هي كانت تفعل ذلك لتدينه هو كان يفعل ذلك ليقع المجرم دون أن يكون هناك ثغرات تخرجه من حكمه المؤبد عليه..
همس بجانب أذنها:
-أنا اتخليت عن الشغل معاهم.. حمدت ربنا أن خبر شغلي متسربش وإلا كنت هخسر كل حاجه وأولهم انتوا.. بس أنا خلاص انسحبت.. عايز أعيش معاكي يا زينة وأنا مطمن
ابتسمت باتساع تربت على ظهره بيدها الرقيقة ومازالت تدفن بدنها به تنظر إلى الحياة القادمة عليهم بسعادة.. تستمع إلى دقات قلبها المتسارعة تبادله وتشعر به.. يتحدث العشق بينهم بجنون هستيري تراه مقبل من بعيد على حياتهم سويًا ليخلف من بعد الدمار حياة وليست أي حياة، بل مليئة بالعشق والجنون، الشغف ولهفة الاشتياق القاتلة..
❈-❈-❈
"يُتبع"
#سجينة_جبل_العامري
#الفصل_الرابع_والعشرون
ندا_حسن
مرت فترة قصيرة بعد الذي تعرض إليه "جبل"، قد حذر "زينة" كثيرًا ألا تتحدث مع أي شخص فيما أخبرها إياه وكأنها لم تعلم شيء من الأساس تخفي السر كما أخفاه لأعوام وأعوام، تحافظ عليه كما حافظ عليه وكأنها هو، تلك التي اتمنها على كل شيء يعلمه أقرب الناس والذي لا يعلمه..
وبالأخص ما تحدث به عن والدها وأنه كان على قيد الحياة، والدته إن علمت ذلك الأمر فقط لن تحزن مرة أخرى غير الأولى التي فقدت بها أحبالها الصوتية من كثرة البكاء والصراخ وباتت طريحة الفراش لفترة طويلة إنها ستحمله كل ما حدث فوق عاتقه وستلومه على كتمان ذلك الأمر.. ستلومه وتبغض ما فعله فكيف يكون والده على قيد الحياة وهو يعلم ويخفي هذا عن الجميع!..
شعر بالحزن الشديد ينتاب روحه ويلازمه لا يريد تركه وحيدًا، اختلى به واحتل بدنه وقلبه فلم يجد سواها رفيقة ليالي السهر، جليسة أوقات الحب والغرام هي الوحيدة التي استطاعت أن تقف جواره بعد أن حملها المسؤولية الكاملة وهو يقص عليها كل ما حدث بحياته.. يتخلل الحزن قلبه من جانب وهي تحاول أن تنزعه من الجانب الآخر..
أدرك كم تحبه وتريده، أدرك أنه قسى عليها كثيرًا وهي الوحيدة اللينة الرقيقة التي تخرج ما تحويه أنوثتها له فقط، تظهر بتلك الهيئة الشرسة الحادة ولكن معه تلك القطة الوديعة الهادئة..
وهي التي عاشت حياة مليئة بالكذب والخداع واستمرت بعدها لسنوات على نفس المنوال ولم يدرك عقلها ذلك ولم يشعر قلبها بالخيانة والغدر من أقرب الأشخاص إليها إلا هنا على يده هو.. هو الذي أوضح لها كل شيء وكشف الحقيقة المخبأه عن أعينها بادلها الحب والحنان القسوة والجنون.. جعل هناك مذاق مختلف لحياتها معه..
حاول ان يسترد ذاته مرة أخرى بعدما حدث ليعود إلى حياته ولكن دون أسرار أخرى بعدما كشف كل شيء وتخلى عن عمله مع الشرطة بعدما أدى دورة على أكمل وجه وفعل ما طلب منه وما أملاه عليه ضميره.. الآن محى كل ما فعله والده وشقيقه من أشياء غير قانونية، محى كل ذكرى كريهة منهم يدمرون بها بلدهم، بدل الأدوار ورسم فوق أفعالهم أفعال أخرى تخرج من رجل شرقي شامخ محب لبلده عادل حكيم..
كل هذا وكانت "تمارا" مازالت سجينة الجبل إلى اليوم لم تخرج منه بعد أن أمر "جبل" بفعل ذلك يذهب إليها طعام مرة واحدة في اليوم مع كوب من الماء فقط..
علمت أنها أخطأت كثيرًا عندما وقفت في مجابهة "جبل العامري" لم تكن تدري إنه تحول ليكون هذا الشخص الغريب كليًا، الذي يذيقها الآن من العذاب ألوانًا.. ندمت أشد الندم لأجل ما فعلته ولأجل أنها فكرت في الانتقام بعدما حدثها "طاهر" الآن فهمت لما هو "جبل العامري"
الآن فقط تندم على كل شيء، تندم على عودتها الجزيرة مرة أخرى وتندم على عدم تفكيرها في رغبته بالعودة إليها، هل تغير بهذه السرعة والسهولة، هل أصبح شخص آخر في لمح البصر هكذا ألم يكن هذا الذي يذوب عشقًا في زوجته.. ألم يكن هذا الذي يقف أمامها شامخ يغازلها بكل حب وغرام يبدو غريب كليًا عليه.. كيف له أن يتحول بهذه الطريقة وبهذه السرعة ليكون راغبًا بها ويريد عودتها والزواج منها.. يا لها من غبية لم تفكر في أي شيء سوى العودة لاسترداد حقوقها، لم تفكر في كونه فخ محكم للغاية لدرجة أنه لم يأتي على خاطرها..
وقفت أمامه في القصر بجسد هزيل وروح تكاد تزهق، جالسة والدته جواره تنظر إلى بدنها الذي لا يستطيع أن يقف باستقامه تنظر إليها باحتقار
رفع "جبل" بصره إليها يجلس ببرود تام اتكأ على مرفقه يضع يده أسفل ذقنه بتلك الحركة المعتادة ينظر إلى حالها الذي تبدل للغاية..
شعرها مشعث ملامحها باهتة للغاية وجسدها نحف كثيرًا عن ذي قبل لا تستطيع أن تقف على قدميها ثابتة تنظر إليه بخوف ورجاء..
خرج صوته بقوة وخشونة ساخرًا:
-ازيك يا تمارا.. شكلك اتغير كتير
أبصر ما حدث لها بتمعن يحرك عينيه عليها بتهكم واستفزاز ثم أكمل بقسوة:
-ده درس صغير أوي يعلمك إنك تخليكي في نفسك وبس يا تمارا، متلعبيش مع الأكبر منك علشان هيفرمك
خرج صوتها ضعيفًا مبحوحًا تقول بخوف:
-مكنتش أعرف أنك بقيت كده
ابتسم ساخرًا بقوة وهو يعود للخلف يستند إلى ظهر المقعد ينظر إليها بتكبر واستعلاء:
-آه كنتي مفكراني جبل اللي مستنيكي تفضلي معاه وأول ما ترجعي هفتحلك دراعتي وأخدك بالاحضان..
تحدث بغرور وهو يناظر ضعفها وقلة حيلتها أمامه ليقول بقوة:
-مش جبل العامري اللي يعمل كده وبعدين بصراحة أنا لقيت الأحسن منك أبص لواحدة زيك ليه مثلًا
نظر إلى والدته بهدوء وجدية ليتحدث يخرج صوته بنبرة قاسية:
-أنا مش عارف أعمل ايه فيها.. كنت بفكر ارميها في الغابة وهي وشطارتها يا تخرج.. يا تخرج بردو بس على فوق.. تخرج منها على فوق
خرجت الدمعات من عينيها بغزارة تنظر إليه برجاء وضعف مميت تنظر إليه بخوف ورهبة شديدة وتحدثت برجاء قائلة:
-خليني أمشي يا جبل حرام عليك أنا لحمك ودمك
تحدثت والدته بتهكم تنظر إليها بقسوة وملامح وجهها مجعدة حادة للغاية:
-ولما أنتي لحمة ودمه خونتيه ليه
انهمرت الدمعات من عينيها أكثر وارتجف جسدها بعدما استمعت إلى حديثه القاسي وكأن نهايتها على يده لتقول بندم حقيقي:
-غلطة.. غلطة يا مرات عمي والله العظيم أنا آسفة سامحوني
عدل من وضعية يده أسفل ذقنه ليقول بتفكير قاسي يحاول اخافتها ولكنها لا تحتاج إلى ذلك:
-ولا اسيبها محبوسه في الجبل زي ماهي لحد ما تبقى هيكل عظمي
فكرت والدته للحظات تنظر إليها باحتقار لتبادله تلك اللعبة القاسية المريرة عليها:
-ينفع بردو يابني.. ينفع
الآن لا يوجد ما تندم عليه سوى أنها فكرت في العودة إلى هنا، لا تندم إلا على أنها عادت إلى "جبل العامري" وفكرت في أن تأخذ كل أملاكها مرة أخرى، هي تركته بمحض إرادتها لما عادت من جديد.. هل عادت لقتلها!.
انتحبت يخرج صوتها مقهورًا:
-علشان خاطري يا جبل سيبني علشان خاطري
ابتسم بتشفي وكره وهو ينظر إليها لا يبالي بأي شيء من حديثها يتابع بقسوة:
-ولا ارميها في النيل تعيش مع السمك.. أو تخرج بردو بس على فوق
مط شفتيه للأمام وعاد ينظر إليها بتفكير يتحدث بجدية تامة:
-الحقيقة يا تمارا فيه طرق كتيرة أوي كان ممكن أقولك عليها زي أنا هدفنك حية أو اقتلك زي اللي كانوا بيتقتلوا بس للأسف مش هتصدقيني لأنك عرفتي إني مش بقتل حد
لم يكن يخرج من بين شفتيها إلا شيء واحد وهو المطالبة بالفرار من هنا بلهفة وحزن شديد والخوف يسيطر على كامل بدنها:
-سيبني أمشي ومش هوريك وشي تاني
لم يهتم بما تقول مرة أخرى يكمل ببرود وهو ينظر إليها بعمق بعينها الخضراء الذي بعثت الذعر إلى سائر جسدها:
-علشان كده تموتي قضاء وقدر في النيل أو في الغابة كده يعني
اعتدلت والدته تبتسم وهي تستمع إلى حديث ولدها تنظر إليها بسعادة لأنه يدب الرعب في أوصالها وكانت تستحق ذلك بعد الذي فعلته به فقالت بجدية:
-ولا اقولك يا جبل.. خليها تمشي بس تفضل تحت عينك بردو ولو لعبت بديلها مش بس تموتها.. أنت تخليها تتمنى الموت الأول علشان تحرم بعد كده تلعب معاك
نظر إليها يسألها بهدوء ماكر:
-أنتي رأيك كده؟ اسيبها يعني
ابتسمت "تمارا" وعاد الأمل إليها في تركها لترحل وتبتعد عنهم ولكن والدته أخذته منها مرة أخرى عندما نظرت إليها بكره وقالت:
-أنا بفكر بس.. لكن لو ليك رأي تاني ماشي
ارتمت أسفل أقدامها تترجاها ببكاء حاد وصوت متعلثم:
-علشان خاطري خليه يسيبني كفاية كده.. أنا غلطت واعترفت بكل حاجه الشيطان ضحك عليا
أمسكت بكف يدها ترفعه إلى فمها وهي ترتعش بوضوح تكمل بذعر ورجاء ومازالت تبكي بقهر:
-أنا هسيبكم والله وكأني مرجعتش من الأساس خلوني أمشي
انتشلها "جبل" من الحالة التي هي بها عندما قال بجدية شديدة:
-أنا موافق.. هخليكي تمشي يا تمارا بس الله وكيل لو عملتي أي حركة لهكون قاتلك.. لو قولتي كلمة واحدة عني بينك وبين نفسك هتلاقيني قدامك وأنتي مجربة
تابعها بنظرات قاتلة حادة، سامة تقتلها فقط من مجرد النظر إليه ليخرج صوته يحمل قسوة العالم:
-أنا هسيبك بس علشان أنتي قولتي من دمي ولحمي.. وأنا وقعت كلامي قبل كده المرة الجاية الله وكيل ما هوقعه وهقتلك
ابتعدت عن والدته ووقفت على قدميها ترتجف بحدة متحدثة بلهفة شديدة:
-مش هعمل حاجه والله العظيم بس خليني أمشي.. خليني أمشي
أومأ إليها برأسه بهدوء ونظر إليها بعمق ثم قال بجدية:
-روحي غيري هدومك دي ولمي حاجتك علشان تغوري من هنا
أومأت برأسها سريعًا وذهبت تاركة إياهم تصعد إلى الأعلى بخطوات غير متزنة ولكنها تسارع لتقبض بيدها على حياتها قبل أن يقوم هو بإنهاء كل ذلك وقتلها دون أن يشعر بها أحد..
❈-❈-❈
وقف "عاصم" أمام "إسراء" في حديقة القصر بعيدًا عن الأنظار، ابتسم لها بحب وهدوء وتحدث قائلًا:
-دلوقتي أقدر أقف قدام أختك وأطلب ايدك منها ونتجوز
قطبت جبينها تنظر إليه باستغراب ووضعت يدها الاثنين أمام صدرها تقف أمامه باحتجاج:
-مين قالك إني هوافق يا عاصم قبل ما تحكيلي كل حاجه
نظر إليها يبادلها نظرات الاستغراب مستنكرًا من حديثها فهو قد قص عليها كل شيء حدث ليخرج صوته جديًا حاد:
-أنا قولتلك كل حاجه قسمًا بالله.. مافيش حاجه تانية
حركت كتفيها بهدوء قائلة بلا مبالاة:
-أنا مفهمتش كلامك أصلًا
أقترب منها في خطوة واحدة ينظر إليها بجدية شديدة ثم قال مرة أخرى موضحًا:
-ايه اللي مش فهماه بس.. أنا قولتلك إني مكنتش شغال حاجه وحشه ولا بتاع سلاح ولا غيره أنا كنت شغال مع جبل بس ده شغل سري تبع الحكومة وخلصناه خلاص ورجعنا لشغلنا هنا
مطت شفتيها للأمام تنظر إليه بعمق خائفة من أن تصدق ما يقوله لها عن عمله ويكن يكذب فقط لأجل أن يتزوجها:
-طب وأنا اصدقك إزاي بقى.. ما يمكن تكون بتكدب مثلًا
ضيق ما بين حاجبيه ينظر إليها باستغراب شديد لما تتفوه به فسألها باستنكار:
-أنا امتى كدبت عليكي يا إسراء
قالت بجدية وثقة:
-أنا محتاجه دليل
أشار إليها بيده بهدوء يقول بجدية وصدق ينظر إلى ملامحها وتشكيكها به بعدم تصديق:
-أسألي أختك وهي هتأكد كلامي هي كمان عرفت كل حاجه.. صدقيني أنا مش وحش
حركت كتفيها تبصره تنفي ما قاله:
-أنا مقولتش إنك وحش
أشار بيده مرة أخرى يتحدث بقوة وجدية شديدة يقع الصدق من كلماته الحادة بفعل غضبه الذي احتل جسده فقد كان يقترب منها إلى الحد الذي يريده الآن هي التي تبعده عنها:
-بس أنتي مش واثقة فيا.. قسمًا بالله ما بعمل حاجه غلط أنا كنت شغال شغل شريف والكل عارف كده أنتي اللي مش عايزة تصدقي مش فاهم ليه..
زفرت بضيق وهبطت بيدها إلى جانبيها لتنظر إليه بتشتت:
-الفكرة مش في كده بس أنا.. أنا متلغبطة
أقترب أكثر ليقف أمامها دون أن تفصل بينهم مسافة ليتابع ملامح وجهها التي تتغير بحيرة فـ تحير هو الآخر وهو يقول باستغراب:
-أنتي لما قولتي أنك بتثقي فيا كتاب بتكدبي
نفت سريعًا تُشير له بيدها ترفض ما قاله يخرج صوتها الناعم بقوة:
-والله لأ أنا بثق فيك بس مش عارفه
تابعها للحظات قبل هذا الوقت كانت تريده بكل جوارحها رقتها وجمالها وكل ما بها كان يناديه برضاء تام أما الآن فهي مشتتة تنظر إليه بحيرة لا تقف على مرسى معه، قال بجدية وهو يعود للخلف:
-أنتي مش عايزاني.. قولي اللي جواكي
رفعت وجهها إليه للحظات، تلك العينان الساحرة والنظرة البريئة، ملامحها الطفولية الجميلة، استغربت ما قاله فقالت بصوت خافت رقيق:
-أنا بحبك يا عاصم
أبتعد أكثر وهو يُشير بيده بهمجية لم يتوصل لشيء معها:
-اومال ايه بقى.. أنا قولتلك الحقيقة
عقبت على حديثه بهدوء وهي تقترب منه:
-خليني أتكلم مع زينة الأول ممكن
أومأ إليها برأسه بجدية شديدة وأبعد وجهه عنها قائلًا بقوة وصدق:
-ماشي اتكلمي براحتك.. بس خليكي عارفه إني مش كداب وقولتلك الحقيقة وإني كمان بحبك وعايز اتجوزك دلوقتي قبل بعد ساعة
وضعت يدها على كتفه من الخلف لتهمس بصوتها الناعم برقة شديدة قائلة:
-طب اثبتلي كده إنك بتحبني
استدار ينظر إليها ثم خرج صوته عاليًا يهتف بحبها بجنون وقوة:
-بــحــبــك
وضعت يدها على فمها بخجل شديدة وصدمة مما فعله ثم هتفت سريعًا بلهفة:
-بس بس أنت بتعمل ايه
أقترب ينظر إليها بعشق خالص ونظرة عيناه الساحرة تبعث إليها كم الحب المجنون بقلبه لها، يقول بصوته الرخيم وهو يقف أمامها بجسده الضخم:
-ده مش إثبات.. أنا أقدر اثبتلك لما تبقي مراتي اعملك كل اللي عايزاه أي حاجه تطلبيها.. مش هثبتلك بالكلام وبس
ابتسمت بخجل تنظر إلى الأرضية ثم رفعت وجهها إليه تقول بمشاكسه ومرح:
-أنت شكلك رومانسي ولا ايه
ابتسم وهو يحرك رأسه للأمام يؤكد حديثها قائلًا بصوتٍ أجش:
-رومانسي واعجبك
اتسعت ابتسامتها أكثر ودق قلبها بقوة وهي تتابع حركاته الرومانسية التي تخرج إليها هي فقط، هتفت اسمه بنعومة ورقة:
-عاصم
استمع إلى اسمه من بين شفتيها فتخدرت مسامعه من بعدها ينظر إلى وجنتيها الحمراء وملامحها الخجولة وعقب قائلًا:
-قلبه
لم تكن تقلل من حديثه أو تشك به أنها تثق به ثقة عمياء ولكن حديث شقيقتها أيضًا تثق به وتعلم تمام العلم أنها لا تريد لها إلا كل الخير لأجل ذلك عارضت ما قاله ووقفت أمامه ولكنها تحبه وتبغاه كما هو يتمنى أن تكون له وملكه وحده..
خرج صوتها بخجل وخفوت:
-أنا موافقة اتجوزك.. دي مش أول مرة أقولها ليك
حرك عيناه عليها بهدوء تام يشبعها بنقاء ملامحها وجمال روحها، يروي ظمأه برقتها وخجلها وطفولتها المسيطرة عليها وشراستها في بعض الأوقات..
خرج صوته الرجولي قائلًا:
-وأنا لو اتجوزتك ابقى سعيد الحظ ومحدش قدي في الدنيا دي كلها.. أنتي حاجه متتوصفش ومتتكررش
بقيت واقفة معه تنظر إليه تبادله نظرات العشق والغرام، يحركهما الوله نحو بعضهما البعض، تشبع عيناها من ملامحه الرجولية وحديثه الرحيم ونظرته الحادة الشامخة..
بقيت تتحدث معه بخجل ورقة يبادلها بالمرح وكلمات الغزل المتخفية بنظرات الغرام على عكس مظهره الذي لم يوحي إليها يومًا أنه رجل عاشق، لم يوحي إليها يومًا أنها ستقف أمامه بهذه الطريقة مسلوبة الإرادة تُسير خلف مشاعرها التي تنجرف نحوه بكل حب وسعادة..
❈-❈-❈
دلف "جبل" إلى غرفته يبحث عنها بعيناه ليجدها تقف أمام المرآة ترتدي قميص طويل من الحرير لونه بنفسجي يعلوه الروب الخاص به، تطلق خصلات شعرها السوداء الحريرية إلى الخلف تنظر إلى ذاتها تقيم مظهرها برضاء وابتسامة وهي ترى جمالها الهادئ الطبيعي..
استدارت تنظر إليه بعدما شعرت به دلف إلى الغرفة وبادلها النظرة من خلال المرآة، نظرت إليه بخجل وسعادة فتقدم إلى الداخل يغلق الباب ينظر إلى مظهرها الساحل الذي سلب عقله منه، يتقدم منها وعيناه مثبتة على ملامحها ثم مظهرها ثم كل ما بها، تستنشق أنفه رائحتها الأنثوية بالغرفة تملئ المكان تشعره بأنه في مكانه الخاص الذي لا يوجد به إلا هي..
وقف أمامها لتعرف أنامله طريقها متوجهة إلى خصرها يضمها إليه بحب ووله، يهمس بجانب أذنها بنبرة عاشقة فريدة من نوعها:
-دا الليل لسه مجاش.. هتعملي ايه تاني
ابتسمت باتساع وهي تعود للخلف تنظر إلى عيناه مباشرة بعمق قائلة بجرأة غريبة عليها:
-أنا اعتبرته جه
مط شفتيه يقول بضجر مصنطع:
-لأ كده بتاكلي حقي.. الليل لسه مجاش ليا حق فيه
اتسعت ابتسامتها متحولة إلى ضحكة خلابة تخطف أنفاسه لتقول بخفه وهدوء:
-خلاص تاخده معنديش مانع
ضيق ما بين حاجبيه ينظر إليها باستغراب مشككًا بها يسألها:
-ودلوقتي؟
أومأت إليه ضاحكة يخرج صوتها بنبرة مرحة:
-تاخده بردو معنديش مانع
شدد بيده على خصرها يضمها إليه أكثر قائلًا بهيام وعشق:
-هو أنتي حتى لو عندك مانع أنا هسيبك؟ ايه الجمال والحلاوة دي
أمسك بيدها مُبتعدًا عنها يحركها لتلتف حول نفسها وتعود مرة أخرى لتقف كما كانت ضاحكة يعود بيده على خصرها مرة أخرى يحيطها قائلًا بذهول:
-ايه ده يا غزال عيني مش عارف اشيلها عنك
وضعت يدها حول عنقه تقترب منه تهمس أمام شفتاه قائلة بغرور:
-ده شيء كويس علشان متشوفش حد غيري
أقترب مثلها ليتحدث بصوت أجش عاشق واثق أمام وجهها:
-صدقيني مقدرش.. قلبي وروحي وعيني وكل ما فيا قفل عليكي يا غزال
حركت يدها على رأسه تخللها داخل خصلاته تنظر إليه باستغراب مُبتسمة قائلة بهدوء:
-ده ايه الكلام الحلو ده
تغزل بها أكثر يلقي عليها كلمات غريبة عنه أصبح يعتاد عليها لأجل أن تخرج من قلبه عبر شفتيه إلى قلبها مباشرة:
-مشوفتش الحلو غير معاكي وعلى ايديكي
ضيقت ما بين حاجبيها ودققت النظر إلى عيناه الخضراء وملامح وجهه تسأله بغرابة:
-للدرجة دي يا جبل
تنهد بصوت مسموع يقترب منها ليقطف قبلة رقيقة سريعة ويعود يستند بجبينه على جبينها يتحدث بعشق:
-وأكتر صدقيني.. وحياة غلاوتك عندي ما شوفت الحلو غير معاكي
أكملت على حديثه برقة تحرك مشاعره نحوها مع تحركات أنامل يدها في خصلات شعره:
-وأنا كمان يا جبل.. مشوفتش الحلو غير معاك أنت ومحستش بنفسي غير معاك
تابعها للحظات ثم سألها وهو يعود للخلف:
-مبسوطة يا زينة؟
تحدثت سريعًا ولم تعطي لنفسها الفرصة في التفكير بل قالت كل ما أتى على خلدها في لحظة بنظرات سعيدة نحوه:
-طبعًا مبسوطة.. جبل أنا لقيت كل اللي بتمناه هنا، كان نفسي في ضهر وسند، حد ارمي نفسي في حضن قلبه يسمعني ويطمني.. ملقتش غيرك أنت
نفى حديثها وهو يعكس ما قالته عليه يؤكد أنها هي من كانت السند والمكان الأمن له:
-بس كل مرة كنت أنا اللي برمي نفسي في حضنك وأنتي اللي بتسمعيني
ابتسمت باتساع فرحة بأنها هي ملجأه الوحيد ومكانه الذي يلقي فيه أحزانه وأفراحه:
-ده بالنسبة ليا الدنيا واللي فيها.. أنا مكانك الوحيد يا جبل ده مش كفاية؟
أكملت بسعادة أكثر تنظر إليه بهدوء:
-وبعدين.. أنت أماني وسندي بجد
ابتسم ينظر إلى عيناها بنظرات غريبة كليًا عليها لتخرج كلمة واحدة من بين شفتيه بعشق خالص وهيامه بها يظهر على كافة ملامحه:
-بحبك
ابتعدت للخلف تترك رأسه تقول مبادلة إياه بغرام واضح عليها وصدق خالص:
-وأنا كمان
قبض على خصرها أكثر وهو يعود بها للخلف ناحية الفراش يقطف منها قبلة رقيقة تحمل كل معاني السعادة والحب..
يحتضن قلبها يشعر بخفقاته المبادلة لقلبه بقوة وقسوة تعبر عن كم الجنون والشغف الذي داخلهما، ينظر إلى السعادة البادية عليهم والعوض الجميل الذي أعطاه القدر لكل منهما..
لم تكن "زينة" إلا عوض له بعد كل عناء عاشه على يد الجميع حتى أقربهم إليه ولم يأتي على خلده يومًا أن يتمثل العوض في زوجة شقيقه..
وكان هو العوض بالنسبة إليها أيضًا بعد عناء عاشته في خفاء لم تدري بوجوده إلا بعد رحيل زوجها، ولم تتخيل يومًا أن تكون زوجة أحد من بعده أو أن تترك ذكراه وتنسى ما قدمه إليها ولكن أتضح أن كل ما قدمه ما كان إلا خديعة محت على يد شقيقه.. الذي تمثل إليها في جنون الحب والهوس المصاحب له..
أخذها بين ذراعه متنهدًا بعمق، تستند برأسها على صدره تنعم بدفء أحضانه..
تحدث بهدوء وجدية:
-عاصم عايز يجي يتكلم معاكي بخصوص إسراء أنتي عارفه اللي بينهم.. وأنا قولتله يجي بالليل
رفعت بصرها إليها بجدية وقالت:
-بس أنا مقدرش..
قاطعها يكمل حديثه بجدية واضحة:
-أنا قولتله يجي وبس يا زينة إنما القرار قرارك أنتي في النهاية اللي عايزة تعمليه أعمليه أنا ماليش دعوة
اعتدلت مرة ثانية كما كانت وأومأت برأسها موافقة تهتف:
-طيب يا جبل ماشي
تحدث مرة أخرى يملي عليها ما الذي من المفترض فعله بعدما تحدث معه "عاصم" وشرح له الموقف:
-ابقي فهمي إسراء اللي حصل، عرفيها أنه مش شغال في السلاح.. اتسرعتي وقولتي ليها وهي ما صدقت
قالت بجدية وصدق فهي حينها كانت تريد أن تبعدها عنه خوفًا عليها:
-مكنتش قدامي حل تاني أبعدها عنه غير كده، كنت خايفة عليها ومش واثقة فيه
أومأ برأسه يشدد بيده على جسدها يقربها منه قائلًا بتعقل:
-اديكي عرفتي كل حاجه.. ابقي عرفيها
أومأت إليه موافقة:
-طيب
أكملت تسأله ترفع وجهها مرة أخرى تنظر إليه بعمق:
-تمارا ليه لسه هنا
أجابها بهدوء وهو يعتدل في الفراش ومازال يحاوطها:
-أمي طلعت تجبها لقيتها مش قادرة تتحرك قولتلها خلاص خليها لبكرة الصبح
نظرت إليه بجدية شديدة وتخلل القلق قلبها فتابعت متسائلة:
-ممكن تعمل حاجه
ابتسم بتهكم ساخرًا عليها يتذكر مظهرها وهي تترجاه أن يتركها ترحل، ثم أكمل حديثه بقسوة:
-مشوفتيهاش أنتي وهي بتترجاني تمشي.. الله وكيل لو فكرت بس لأكون قاتلها
ترجته هي بقلق تضع يدها عليه تحثه على اللين تجاهها:
-لأ علشان خاطري خليها تمشي بس مش أكتر من كده
مط شفتيه قائلًا بجدية:
-ده اختيارها هي بقى.. يا تمشي من سكات يا تتقتل
ضيقت عينيها عليه قائلة بجدية بعدما فكرت قليلًا، مؤكد أنها تريد الخروج من هنا دون أي ضرر بعدما فعله بها:
-أكيد ندمت بعد اللي عملته فيها وهتفكر بعقل.. مش هتتهور أكيد
قال بقسوة وغلظة ليست غريبة عليه أبدًا وهو يعني كل كلمة يقولها:
-أنا اتمنى ده علشان لو حصل غيره مش هرحمها وأنا لحد دلوقتي رحيم معاها
أبعد نظرة من الفراغ إليها يميل عليها قائلًا بضيق:
-سيبك من الكلام ده بقى
أقترب منها أكثر يقطف قبله من شفتيها بسعادة خالصة، وقلب مشتعل بالنيران المتوهجة تشعل جدرانه بالهوى المجنون..
❈-❈-❈
في المساء وقفت "زينة" تعدل من ملابسها تستعد للهبوط إلى الأسفل لمقابلة "عاصم" كما قال لها "جبل" وهذا بعد أن تحدثت مع شقيقتها وسردت عليها كل ما علمته بخصوصه فقط هو وجبل من الناحية العملية..
ما قالته لها لم يكن إلا حديث كاذب لم تدرك أنه هكذا إلا بعدما اعترف لها "جبل" بكل شيء..
قابلتها شقيقتها بالسعادة والفرح بعدما غزوا قلبها لأن ما قالته عنه ليس صحيح وما بدر منها نحوه ولن يتكرر مرة أخرى بل سيتقدم لخطبتها وهي موافقة بكل جوارحها على أن تكون حبيبة وزوجه له.. ولكن يبقى القرار في يد شقيقتها والتي إلى الآن لا تعلم ما الذي ستفعله.. لم تتحدث معها وتريح قلبها وقلبه كل ما فعلته أنها أثبتت براءته من تلك التهم التي نسبتها إليه وهي ليست متأكدة منها..
هبطت إلى الأسفل ودلفت إلى غرفة الصالون لتراه يجلس مع "جبل" ألقت السلام عليه ودلفت تجلس جوار زوجها مقابلة له..
كاد أن يتحدث معها ولكنها منعته عندما قالت بوضوح:
-لحظة يا عاصم.. خلي كل الكلام قدام إسراء
ما أن أنهت حديثها حتى وجدوا "إسراء" تدلف إلى الغرفة بفستان رقيق لونه بني غامق بنصف كم وفتحة صدر ضيقة يحكمه حزام ذهبي على خصرها يهبط إلى أسفل قدميها باتساع.. يعكس جمال بشرتها ورقتها وتلك النعومة الغريبة التي تتحلى بها
دلفت إلى الداخل تنظر إلى الأسفل بخجل شديد، رفعت عينيها عليه تلمحه فقط لترى أمامها رجل وسيم للغاية يبتسم بسعادة يناظر عيناها ملابسه مهندمة ومظهره رائع للغاية..
بينما هو حبست أنفاسه داخله وهو ينظر إلى جمالها الذي في كل مرة يأثره بضراوة وكأنها المرة الأولى..
حمحم بخشونة ونظر إلى جبل الذي أخذ دوره ناظرًا إلى "زينة" يقول بهدوء ومرح:
-أنا هنا مع عاصم.. مش معاكي
ابتسمت بهدوء تومأ إليه برأسها فأكمل قائلًا بجدية:
-وبصفتي وكيل عاصم، يسعدني ويشرفني إني أطلب ايد أخت حضرتك الآنسة إسراء لعاصم
سألته بجدية وهي تعتدل في جلستها تنظر إليه بقوة:
-ممكن أعرف عاصم بيشتغل ايه
تحدث "عاصم" يعفي "جبل" من الإجابة قائلًا:
-أنا رئيس الحرس هنا ونائب عن جبل والمتحكم بعده في كل أمور الجزيرة
أبعدت نظرها إليه، تابعته ثم سألته باستهزاء:
-بس كده؟
شعر من نظراتها نحوه ونبرتها تلك أنها مازالت لا تطيقه، تحدث بجدية يجيبها:
-عندي أرض ملكي على الجزيرة بتدخلي فلوس كويسه وعندي بيت بتاعي ده غير شغلي مع جبل وكمان عندي فلوس تكفيني طول حياتي كلها
رغم أنها كانت تسأل عن مصدر دخله وتريد أن تتأكد من أنه سيجعل شقيقتها تكون في أفضل حال ولكنها غيرت حديثها قائلة بجدية:
-بس الفلوس مش كل حاجه
سألها باستغراب تحت نظرات الجميع:
-اومال ايه
بادرت بسؤال آخر ولم تعير سؤاله اهتمام:
-أنت أهلك فين؟
أجابها بقوة ينظر إليها بعمق وحدسه يخبره أنها حقًا تبغضه:
-أنا معنديش أهل.. ماتوا، أنا وحيد
قالت بهدوء مستفز:
-لو حبيت اشتكي منك في يوم اشتكي لمين أو إسراء تشتكي لمين
اعتدل في جلسته وتأكد من شعوره، أجابها بقوة وثقة ينظر إليها بجدية شديدة:
-أنا مش هزعلها علشان تشتكي ومش هعمل حاجه تضايقك أنتي كمان علشان تشتكي بس لو حصل جبل أهو أظن ده أكتر واحد يقدر عليا وعلى الكل
مرة أخرى تترك حديثه دون اهتمام وتسأله باستغراب مضيقة عيناها عليه:
-اشمعنى إسراء وليه
أبعد نظره إلى "إسراء" ينظر إليها بحب وهدوء ونظرته تحولت مئة وثمانون درجة، ثم قال بصوت رخيم:
-علشان بحبها.. بحبها بجد ومش مستعد أن ألاقي رفض منك
تهكمت ضاحكة وهي تستند بمرفقها على ذراع المقعد تنظر إليه بسخرية شديدة:
-ولو رفضتك
ابتسم هو الآخر يبادلها بلا مبالاة وبرود تام وخرجت الكلمات من شفتيه بصدق وثقة:
-صدقيني مش هتشوفيها تاني
اعتدلت "زينة" في جلستها تنظر إليه بحدة صارخة بذهول:
-نعم!..
تدخل "جبل" سريعًا محذرًا إياه:
-عاصم
إنه يرى نظرات "زينة" نحوه يبدو أنها رافضة ولكن ما تفعله من أجل شقيقتها لأنها ترى موافقتها وحبها الكبير له، تحدث "عاصم" بامتعاض يجيبه:
-أكدب عليها؟ أنا بقولها الحقيقة علشان مترفضش وندخل في متاهات
سألته تنظر إليه بقوة وحدة:
-هتخطفها يعني
أومأ إليها برأسه مبتسمًا بسماجة:
ابتسمت ببرود والقت ما قاله جانبًا ثم هتفت بنبرة متزنة ونظرتها نحوه واثقة:
-إسراء أختي الوحيدة، وعايشه معايا من زمان أوي وأنا كنت المتحكمة في كل حاجه في حياتها لأنها رقيقة وبريئة متقدرش تتصرف في أي حاجه لوحدها
أكمل على حديثها مؤكدًا:
-أنا عارف ده
تابعت تكمل ما بدأته:
-أنا رفضتك في البداية لأن مش دي الحياة اللي أحبها تعيشها.. أنا كمان كنت رافضة أعيش الحياة دي لكن عيشتها وبرضايا فأنا مقدرش أرفض حاجه هي عايزاها
ثم نظرت إليها وزفرت بعمق:
-خصوصًا أنها هي كمان بتحبك
سألها مضيقًا عينيه عليها منتظرًا إجابة واحدة منها لا غيرها:
-يعني أنتي موافقة
أومأت إليه وأبعدت وجهها إلى شقيقتها تبتسم إليها بسعادة:
-موافقة
تهللت أساريره وهو ينظر إليها بسعادة والإبتسامة من الأذن إلى الأخرى، لم يستطع أن يمنع دقات قلبه عن التعالي وهو شاعرًا بالسعادة تغزوه بقوة ولكنها منعت تلك الفرحة من التزايد وهي تنظر إليه بخبث بعد أن بادلت زوجها الابتسامة:
-بس في حاجه
اختفت الابتسامة من على وجهه وأبصر "جبل" باستغراب ثم "إسراء" التي رفعت وجهها مستفهمة ليخرج صوته بقلق وهو لا يثق بها:
-حاجه ايه تاني
مطت شفتيها ببراءة تعود تستند ظهرها إلى ظهر المقعد تظهر في جلستها العنجهية والكبر وهي تقول بشماتة:
-أنا آه موافقة بس ده مجرد رأي.. لأن مش أنا اللي هقرر لأن مامت اسراء عايشة حية ترزق.. لازم هي اللي تقرر
انتفض واقفًا بعصبية وغضب بعدما لم يستطع السيطرة على نفسه من تلك الحركات المستفزة التي تقوم بفعلها ورفضها البادي عليها ولكنها تحاول مداراته:
-نعم.. هو لسه في مامت إسراء اومال أنتي مغلبانا ليه من الأول وعامله فيها الكل في الكل
نظرت ببرود تام تبتسم بتهكم واستفزاز ثم غيرت نظرتها وخرجت نبرتها بعصبية:
-شوفت بقى.. وبعدين أنا حاسة بكره كده خارج منك ناحيتي والله العظيم ألغي الجوازة كلها
رفع "جبل" بصره إلى "عاصم" بضيق شديد فهو لا يطيق "زينة" وهي الأخرى تبغضه يبدو هذا واضحًا من تصرفاتها وأفعالها معه، صاح بحدة:
-زينة خلاص.. عاصم أتكلم كويس في ايه
جلس مرة أخرى بامتعاض ينظر إليها بكره فابتسمت باتساع شامتة تكمل:
-أنا قولت اللي عندي مامتها عايشة لازم تعرف كل حاجه ويا توافق يا ترفض ودي مش مشكلتي بقى
أشار نحوها بقوة وهو ينظر إلى "جبل" و "إسراء" يقسم أنها تريد أن تعقد الأمر:
-قسمًا بالله أنتي بتعقديها.. أنا عملتلها ايه دي
اهتاج "جبل" عليه وصرخ به عندما وجده يتخطى حدوده معها:
-عـاصـم
تحدثت "إسراء" هذه المرة بعدما فهمت ما تحاول فعله شقيقتها، نظرت إليه بهدوء قائلة بعقلانية:
-خلاص يا عاصم كلامها صح ماما لازم تعرف وتوافق
أشار إليها بيده بهمجية وهو لا يطيق الانتظار أكثر من ذلك قائلًا بضيق:
-يعني أمك متعرفش حاجه عنك طول حياتك جايه تعرف في دي
أجابته بجدية شديدة:
-على فكرة لو مكانتش زينة قالت أنا كنت هقول
أبعد نظره إليها يتابعها بعينيه السوداء بانزعاج وضيق هاتفًا:
-لأ كتر خيرها قامت بالواجب
ابتسمت باتساع بعدما توصلت إلى ما تريده ألا وهو أن تجعله يصل إلى ذروة غضبه فلم تنسى ما فعلهم مع شقيقتها عندما أتوا إلى هنا وهي من الأساس لا توافق على زواجه منها بل هي مرغمة على الموافقة لأجل شقيقتها، تحدثت ببرود:
-تشرب ايه يا عاصم
أجابها بقوة يضغط على كل حرف يخرج من شفتيه ليصل إليها بمغزاه:
-سم.. أشرب سم
عقبت هي الأخرى على حديثه تتفهم معنى حديثه جيدًا:
-معندناش سم
مسح بيده على وجهه يقسم داخله أنه فقط إلى الآن يتحلى بالصبر لأجل "جبل" و "إسراء":
-استغفر الله العظيم يارب.. يارب صبرني
نظر إليه "جبل" مبتسمًا بسماجة يحاول مداراة ابتسامته عنه وهو يرى زوجته تفعل معه ما لم يستطع فعله أحدًا قبلها..
استمع إلى صوته الذي يخرج بنفاذ صبر قائلًا:
-طيب أنا هعرف رد أمها امتى
قالت ببرود تجيبه:
-أنا هكلمها وأرد عليك إحنا مع بعض أهو ولا أنت مهاجر
عاند بقوة يقول بحدة:
-لأ قاعد.. قاعد فيها ومش هامشي غير وإسراء معايا
اعتدلت تتسع ابتسامتها قائلة:
-خلاص ادينا قاعدين
كل هذا تحت نظرات "جبل" و "إسراء" التي كانت خائفة من أن يحتد الأمر بينهم ولكنها في النهاية ابتسمت باتساع على ما يحدث بينهم من مناوشات أسفل الطاولة ينظر إليها والشرر يتطاير من عينيه وهي تبادلة ببرود تام وكأن الأمر لا يهمها.. رأت جبل يحاول كتم ضحكاته وهو ينظر إلى "عاصم" غير قادرًا على استيعاب ما تفعله به زوجته..
❈-❈-❈
جلس "جبل" على الفراش رفع بصره إليها وتحدث ضاحكًا:
-عملتي ليه كده مع عاصم
أجابته بنبرة جادة:
-مش مرتحاله ومش موافقة عليه أصلًا أنا عملت كده علشانها لأنها عايزاه مع أنها صغيرة ومش فاهمه حاجه
أردف يجيبها بهدوء:
-بس عاصم كويس.. عاصم أفضل مني بكتير
جلست جواره وقالت:
-أنا مش بقارن يا جبل بس أنا مش زي إسراء بردو
أومأ إليها برأسه إليها ووقف على قدميه متحدثًا بجدية:
-براحتك اعملي اللي شيفاه صح بس هو حد كويس
تقدم يُسير متجهًا إلى باب الغرفة وقال:
-أنا نازل وجاي
أومأت برأسها إليه ووقفت متقدمة من المرحاض، دلفت إلى الداخل وأغلقت الباب من خلفها..
بعد دقائق فقط فُتح باب الغرفة وولجت "تمارا" إلى الداخل تنظر إلى الغرفة بجنون هستيري، اقتربت بملامح تحمل الشر داخلها تنظر إلى كل أنش بكراهية وحقد شديد..
اقتربت لتقف أمام الشرفة تنظر إلى الستائر المعلقة أمام الباب، ثم رفعت يدها التي تتمسك بالقداحة لتنظر إليها مبتسمة بشر ثم ضغطت عليها باصباعها ليخرج خط نيران خفيف ولكنها جعلته يتحول إلى آخر مرعب عندما اقتربت به من الستائر ليلتهمها تتصاعد النيران تشتعل أكثر وأكثر..
ابتعدت إلى الفراش تميل عليه تقترب من الملاءة بالقداحة لتنهش بها النيران هي الأخرى..
ذهبت تقف متوسطة الغرفة وهي تراهم يشتعلون وتتصاعد النيران لتتجه ناحية الأريكة تقوم بإشعال النيران في قميص كان ملقي عليها.. اتجهت إلى خزانة الملابس وفتحتها لتبدأ في إشعال النار في الملابس لتلتهم النيران الغرفة بقسوة شديدة..
ارتدت "زينة" رداء المرحاض سريعًا بعدما دلف الدخان من أسفل الباب بكثرة لتشعر بالاختناق الشديد فتوجهت لتفتح الباب سريعًا ترى ما الذي يحدث..
فتحت الباب دون أن يأتي على خلدها أي شيء كهذا لتندلع النيران بدخانها عليها بقسوة فعادت للخلف سريعًا بذعر وخوف شديد يدق قلبها بعنف لتخرج منها صرخة مباغتة تنظر إلى الخارج بعينين متسعة غير مصدقة ما يحدث لتتجه سريعًا وتقوم بفتح صنبور المياة لعل هذا ما ينجيها..
❈-❈-❈
"يُتبع...
#سجينة_جبل_العامري
#الفصل_الخامس_والعشرون
#الأخير
ندا_حسن
"جمعتها الصدفة به عندما دلفت جزيرة العامري التي كانت عبارة عن دماء وأسلحة وملجأ لكل من هو خارج عن القانون، الآن باتت جزيرة العامري مكان ترفع منه شعائر الهوى"
عادت "زينة" إلى الخلف لتقف في آخر بقعة في المرحاض تستند على الحائط بظهرها تنظر إلى الغرفة أمامها ترى الفراش تلتهمه النيران والستائر المعلقة على باب الشرفة، ترى سجادة الغرفة تشتعل والنيران تتصاعد بشكل مخيف يدلف الدخان بكثرة إلى المرحاض ليكتم أنفاسها ويسلب منها حياتها
لم تفعل شيء في ذلك الوقت إلا أنها تقف بعينين مُتسعة مصدومة مما يحدث لا تقوى على الحركة أو الصراخ تنتظر أن تعبر النيران إليها لتشعل المياة معها فمظهرها لا بوحي بأن هناك شيء يخمدها..
عبر شريط حياتها أمامها فلم تجد سبيل للفرحة ولو ليوم واحد ولم تجد طريق تعود منه إليه لترتمي داخل أحضانه، فلا مأوى يحتضن قلبها سوى الحزن والتعاسة..
عاشت حياتها الأولى في خديعة وكذبة مريرة لم تعبر حلقها إلا بعدما أشعرتها بمرارة العلقم ثم أكملت وحيدة ليالٍ طويلة لم يكن انيسها الوحيد سوى الذكرى الراحلة التي لم تكن إلا احتلال لقلبها المسكين، لتأتي أخيرًا إلى مذاق القسوة والجنون ترتمي في أحضان الخوف والذعر وآنات الألم وعندما أتت الفرصة لتدلف إلى عرين الذئب الذي تحول إلى صياد حنون يمسد بيده المحبة على خصلاتها ويربت بكلماته على جدران قلبها تأتي النيران المندلعة في لحظة قسوة ضارية لتأخذ منها كل شيء وأولهم حياتها فلم تدرك حينها إلا أنها خسرت كل ما ملكته ولم تكتب الفرحة يومًا لها..
استمعت إلى صرخات عنيفة في الخارج أخذت قلبها من مكانه، شعرت بالذعر والرعشة سارت في أنحاء جسدها خوفًا أن تكون شقيقتها ومستها النيران تقدمت سريعًا دون تفكير لتخرج من المرحاض تلقي بنفسها في التهلكة لأجلها ولكن قدرها اسعفها جاعلها تقف على أعتاب باب المرحاض لترى "تمارا" هي من تصرخ محاولة الخروج من الغرفة والنيران تلتهم جسدها بقسوة..
انهمرت الدمعات من عينيها وهي تراها بهذه الحالة تصارع الموت محاولة النجاة، نهش الحزن قلبها وهي تنظر إليها في هذه الحالة لتستدير "تمارا" وهي تصرخ تنظر إليها بشر ومازال الحقد يملأ قلبها ولم يزول على الرغم مما هي به وجدتها "زينة" تتقدم منها تصرخ بعنف عليها تنوي على الشر فدلفت إلى الداخل سريعًا بخطوات متعثرة تغلق الباب من خلفها بالمفتاح من الداخل..
ازدادت ضربات قلبها سرعة وهي تستمع إليها تضرب على باب المرحاض بقوة وشعرت أن قدميها لن تتحملها إلى النهاية والدخان يدلف إلى المرحاض شيء فـ شيء لتسلب أنفاسها عنوة..
تعالت صرخات "تمارا" في محاولة منها للخروج من الغرفة ولكنها تعثرت في فتح الباب..
استمع "جبل" إلى الصراخ في الأعلى فرفع بصره ليجد غرفته مشتعلة والنيران تلتهم كل ما بها يخرج الدخان إلى الخارج بكثرة ولا يظهر أي شيء بها سوى اللون الأحمر..
وقع قلبه بين قدميه هذه المرة ولم يشعر بجسده وهو يركض إلى الداخل يصارع الزمن في الوصول إليها قبل أن يحدث لها شيء ولكن صرخاتها المستغيثة كالمجنونة أوصلت إليه شيء آخر ليتشنج جسده بقوة يركض خلفه "عاصم" الذي أتى حاملًا طفاية الحريق ومن خلفه رجالة الذين فعلو مثله..
استكانت الصراخات فجأة قبل أن يفتح باب الغرفة ليشعر بأن حياته قد انتهت هنا، ذهبت إلى الجحيم وأظلمت مرة أخرى ليعود إلى عالمه في وسط غابة الذئاب الخاصة به يباشر قتل البرئ ويعذب المظلوم تحت مسمى أنه "جبل العامري" مساعد الشرطة المتنكر.. ذهبت حياته إلى الجحيم ليعود إلى دُجى الألم وعناء الحياة متناسيًا الهوى وجنونه والذي شعر به في حضرتها وغيابها، فاقدًا غمرة قلبها له وألقاء نفسه في أحضان روحها لتربت على كل جرح بسيط تمسد بيدها عليه ليشفو من كل جرح وندب وتترك هي لمسات الورد خاصتها على جسده..
فتح باب الغرفة ليجد النيران هي فقط التي تقابله تقلق عقله وتشتت روحه بمظهرها المهيب الذي أكل تقريبًا كل ما بالغرفة لتأتي الوساوس على عقله تراوده بلا هوادة أو شفقة تقدم للداخل فجذبه "عاصم" بقوة صارخًا:
-أنت بتعمل ايه استنى نطفيها
دفعه بعنف للخلف يسبه بغلظة وهو يتركهم متقدمًا للداخل بعدما حضر الجميع لتبدأ "إسراء" في الصراخ والعويل محاولة الدلوف هي الأخرى إلى الغرفة مثله ولكن "عاصم" أشار إلى والدة "جبل" بأن تمنعها عن ذلك لتقوم بأحكام قبضتها عليها هي و "فرح"
-ابعدوا عني زينة جوا
بعدما دلف جبل لحقوا به رجالة وهم يستعملون طفايات الحريق ولكنه لم يهتم بهم محاولًا إيجادها وضربات قلبه متعالية صارخة بأنه عليه إنقاذها وإلا ماتت حياته معها وزهقت روحه بأبشع الطرق..
بدأت النيران تخمد وتظهر ملامح الغرفة ولكن لا وجود لها تحت صرخات "إسراء" وخوف الجميع يخرج صوته الجهوري بعدما نفذ صبره وأرهقت روحه:
-اخرسوا البت دي
لم يكن يريد أن يستمع إلى العويل أو أي شيء يوحي بأنها ليست بخير ولكن أين الخير؟ دلف الجميع إلى الغرفة بعدما انطفأت النيران فدلف هو إلى الشرفة ولكن لا وجود لها ليستمع إلى أحد الحرس من الأسفل ينادي عليه فنظر إليهم بلهفة والذعر يسيطر على جسده ومهيب الموقف يجمد أطرافه جاعلًا عقله يقف عن التفكير وهو لا يحتاج تفكير إلا في هذه المواقف..
خرج "عاصم" ليقف جواره ينظر إلى ما ينظر إليه في الأسفل ليجد جسد ملقى على الأرض لا يظهر منه ملامح أخفاه الحراس عنه بغطاء..
ارتعش جسد "جبل" بقوة واخترقت الدمعات عيناه تقف خلف جفنيه مستعدة للفرار في أي لحظة، وقبضة قوية تعتصر قلبه تسحقه بين نيرانها المشتعلة..
رفع "عاصم" بصره إليه بصدمة ليجده واقفًا وكأنه ليس هنا، ليس معنا فقط ينظر إلى الأسفل بجسد مُتصلب في مكانه يرتعش بقوة..
دلفت "إسراء" إلى الشرفة تركض وخلفها والدته لينظروا إلى الأسفل فوقعت الصدمة على رؤوسهم، وشلت أطرافهم ليجد كل منهم طريقه للإبتعاد عن تلك الكارثة التي وقعت عليهم، أبصر "عاصم" تلك الواقفة جواره ولم يستطع بدأ ما كان يريد فعله ليجدها تصرخ بقوة عائدة للخلف ترتفع صرخاتها إلى عنان السماء ليستمع إليها كل فرض في الجزيرة تصم أذان "جبل" أول الحاضرين والمستمعين..
حاول الإقتراب منها ولكنها وقعت بين يده مغشيًا عليها تهرب من الواقع المرير الذي سلب منها حياتها عندما نال من شقيقتها الوحيدة التي كانت تجعلها تسير على دروب السعادة والصواب، الوحيدة التي انتشلتها من الغرق في كل مرة دون أن تناجيها بمحاولة إنقاذ..
كان "جبل" في عالم آخر غير الذي يعيشون به، خرج من صدمته على أقدامه الراكضة إلى الأسفل وحياته التي تتكرر أمامه بكل مشهد حب وغرام عاشه معها، حياته التي تتكرر بكل لحظة قاسية يملأها العنف والغلظة ذاقتها على يده.. أليس هناك شيء يسلب منه سوى هي؟ الوحيدة التي اكتسبها بعدما مر بأبشع الطرق إحداهما شوك والآخر جمر مشتعل والآخر ذئاب بشرية والآخر عار يلحقه من عائلته.. لم يجد إلا طريق واحد قابلها به ألا وهو العشق والوله ولم يدوم طويلًا ليشبع روحه منه فتسلب هكذا!..
وصل إليها لينحني على قدميه أمامها ترتعش يده وجسده بالكامل لتخرج الدمعات من عينه وهو يراها ساكنة لا تتحرك يأكل الغطاء كل جسدها لا يرى به شيء.. أتى خلفه عاصم بعدما ترك "إسراء" إلى والدته وشقيقته يحاولون إفاقتها من اغمائتها..
كانت المياة تحيط جسدها تغرق المكان أسفلها بعدما أطفأ الحراس النيران المشتعلة بها بالمياة..
وجد "جبل" لا يقوى على فعل شيء أو حتى رفع الغطاء عن وجهها يجلس ينظر إليها قليل الحيلة قلبه لم يعد مكانه وجسده خانه وجلس على الارض مقهور مسلوب الإرادة والفكر والروح..
مد "عاصم" يده بجراءة ليرفع الغطاء عن وجهها فأغمض "جبل" عيناه لا يريد رؤيتها رافضًا تلك الفكرة التي أتت على خلده بضراوة لا يريد إلا أن يغمرها ويشعر بها بأعماق جسده..
ظهر وجه "تمارا" المشوهة ولكنه لم يكن مدمر إلى الدرجة التي تجعل "عاصم" لا يتعرف عليها صدم مرة أخرى غير الأولى التي تلقاها في الأعلى ولكنها للحق أخف من سابقتها.. على الرغم من أنها كارثة أخرى وروح قد زهقت بطريقة بشعة وجنونية، الشفقة والرحمة مازالت هنا بالقلوب معمره ولكن هذا أفضل من أن تكون "زينة" هنا في موضعها..
ترك الغطاء ووضع يده على قدم "جبل" ناطقًا اسمه ليفتح عيناه تطل على وجه "تمارا" المحترق وجسدها الساكن أمامه، تحرك جسده وعيناه وهو ينظر إليها بصدمة كبيرة ولكن فرحته ظهرت على وجهه وهو يعود ببصره إلى "عاصم" تسأله عيناه..
دارت خيوط عقله سريعًا يرفع رأسه للأعلى ليتوصل إلى مكانها في الغرفة يقف سريعًا وقلبه يعود نبضه من جديد وقبل أن يرحل بصق على تلك الملقاة أسفل قدمه باشمئزاز ليعود إلى الأعلى ركضًا والأمل يعود داخله..
قابلتهم "إسراء" التي كانت تهبط الدرج مع والدته تساعدها والاثنين وجوههم ملطخة بالعبرات الحزينة المقهورة على "زينة" ولكن "عاصم" قابلهم صارخًا بقوة:
-مش زينة.. دي تمارا
وصل "جبل" إلى الغرفة ليحاول فتح باب المرحاض ولكنه كان موصد من الداخل فتأكد من ظنونه تقدم معه عاصم قائلًا بجدية ولهفة:
-هنكسره يلا
ابتعدوا الاثنين عن الباب ليتقدموا منه بقوة يدفعوا به بجانب جسدهم فلم يفتح ليعودوا يكررون تلك الفعله مرة وخلفها الأخرى والأخرى إلى أن فتح الباب على مصراعيه وظهرت "زينة" من خلفه ملقاه على الأرضية في الداخل برداء المرحاض..
عاد "عاصم" سريعًا إلى الخلف صائحًا على "إسراء" ووالدته:
-ساعدوه جوا أنا هطلب الدكتور
ولجت شقيقتها بلمح البصر تحاول استعادة أنفاسها وهي تنظر إليها أمامها مازالت حية ترزق موجودة بينهم لم يحدث لها شيء، تنهدت مقتربة منها تطمئن عليها تمسح عبراتها عن وجهها ولكن "جبل" لم يعطي الفرصة لأحد في الإقتراب منها وهو يدفنها بجسدها داخل أحضانه يسلب روحه منها التي أخذتها معها في لمح البصر..
ضمها إلى صدره بقسوة وجنون حتى أنه شعر أن ضلوعها تتهشم بسبب قوة ساعديه عليها، عاد للخلف تاركًا مشاعره في زاوية بعيدة عنه محاولًا إنقاذها فحملها سريعًا ليقف يخرج بها من الغرفة ذاهبًا إلى أول غرفة قابلته يضعها على الفراش محاولًا أن يعيدها إلى حياته من جديد فقد اغشى عليها بسبب كثرة الدخان الذي استنشقته..
ولكن محاولاته باءت بالفشل فأشار إلى شقيقتها سريعًا قائلًا بجدية:
-هاتيلها هدوم من عندك بسرعة
أومأت إليه برأسها وكانت في لمح البصر خارج الغرفة لتأتي والدته بزجاجة عطر من على المرآة تحاول أن تجعلها تستفيق بها تجلس جوارها ولكن لا جدوى من كل هذا..
أمسك "جبل" كف يدها بين قبضته ينظر إليها بخوف شديد ورهبته تجاهها قاتلة للحد الذي لا يتحمله فلم يكذب حينما قال أن "جبل العامري" أصبح لديه نقطة ضعف قاتلة ستؤدي بحياته إلى الجحيم وما بعده..
بقيٰ "عاصم" في الخارج بعدما طلب الطبيب لم يدلف حينما وقعت عيناه عليها في المرحاض ملقاة بتلك الملابس..
أتت "إسراء" ركضًا والملابس بيدها فأخذها منها "جبل" وأشار إليهم جميعًا بالخروج فوقفت والدته محاولة أن تبقى معه لتساعده ولكنه رفض تعريتها أمام أي أحد حتى شقيقتها ليخرج الجميع ويبقى هو فقط ليبدل لها ملابسها كي يستطيع الطبيب رؤيتها.. عندما وجدها في الداخل أدرك أنها فقط اغشيا عليها من الدخان فأطمئن قلبه واستكان..
لقد مر بدقائق قليلة كانت هي الأكثر عذاب في حياته، لم يخوض معركة ولم تنشب حرب بينه وبين أحد يتذوق بها المر بهذه الطريقة، لم يعتصر قلبه بهذه الطريقة من قبل ولم يشعر بجسده ببوادر الشلل إلا على يدها في المرة السابقة وهذه..
لم يشعر بعجزه وقلة حيلته إلا على يدها هي ليعلم تمام العلم أن حياته في يدها إن حدث لها شيء فهو هالك لا محال.. وإن بقيت معه فلن يكن هناك أحد على حال أفضل منه..
مشاعر الهوى والغرام الذي شعر بها معها لن يجدها مرة أخرى ولن يحاول أن يعثر عليها، لأنه يدرك تمامًا أن هذا الجنون في علاقتهم سويًا فريد من نوعه لدرجة أنه نشب بينهم هم فقط ولا يوجد مثيل له..
لن يجد "غزال" غيرها تشعره بأنه الأهم والأعظم، لن يجد "زينة" غيرها يذوب بين يديها عشقًا، ما حدث له لم يكن شيء مبالغ فيه بل كان رجل يعافر حتى تدوم حياته ولو قليلًا...
جلس جوارها على الفراش بعدما رحل الطبيب، أقترب منها جالسًا جوارها يأخذها بين ذراعيه شاعرًا بأنه يمتلك الحياة بين يده مطمئنًا على استمرار تنفسه..
تحدثت بصوت خافت مرهق:
-أنا كويسه يا جبل.. متقلقش عليا
قال بصوت أكثر إرهاق منها وهو يمسد بيده على خصلات شعرها:
-روحي كانت بتتسحب مني يا زينة، حسيت إني بموت قلبي كان بيتعصر
رفعت يدها على صدره بهدوء وحنان قائلة:
-بعد الشر عنك أنا والله كويسه
دلفت شقيقتها إلى الغرفة بعدما دقت على الباب تركض ووجهها ملطخ بالدموع لتتجه إلى الناحية الأخرى من الفراش تقترب منها فتركها "جبل" على مضض متأففًا..
تحدثت بحزن طاغي على ملامحها ونبرتها وهي تنظر إليها بعمق:
-أنتي كويسه صح؟
أومأت إليها برأسها بهدوء وهي تجذبها نحوها تطمئن قلبها عليها فتحدثت الأخرى ثانيةً وهي تبكي:
-زينة خلي بالك من نفسك ومتسبنيش علشان خاطري
مرة أخرى تحرك رأسها مؤكدة ثم قالت بهدوء:
-أنا معاكي أهو متخافيش.. أنا كويسه
غمرة شقيقتها داخل أحضانها محاولة أن تجعلها تهدأ ثم سألت عن ابنتها بقلق وهي تبعدها عنها:
-وعد فين؟
قالت بجدية:
-نايمة
وضعت يدها على وجنتها اليمنى تحركها بخفة وحنان وأدرفت برفق:
-طيب خليكي عندها علشان متتفزعش وخدي بالك منها أنا كويسه
حركت رأسها بالإيجاب وهي تبتعد عنها بعينان دامعة:
-حاضر.. خلي بالك من نفسك ولو أحتاجتي حاجه ناديلي
ابتسمت لها برفق وهدوء تناظرها بحب وحنان، خرجت من الغرفة تاركة إياها مع "جبل" وأغلقت الباب من خلفها، عادت مرة أخرى إلى أحضان زوجها تلقي بنفسها بين يديه ليحتضن قلقه حزنها ويربت على أحزانها..
حركت يدها على صدره قائلة بهدوء:
-أنا كويسه
مال برأسه على خصلات شعرها يستند عليها يضم ساعديه على خصرها يقربها منه بقوة وجنون الرهبة التي ولدت داخله من فقدانها تتشاجر مع عشقه لها.. قلبه أعتصر داخل أضلعه والخوف تربع على عرش اسمه..
ترقرقت الدموع بعينه بطريقة لا إرادية وهو يضمها إليه أكثر قائلًا بصوت ضعيف خافت:
-متعرفيش حصلي ايه.. مش هقدر اوصفلك
أكمل يغمض عينيه يعتصرهما شاعرًا بالضعف والعجز الشديد كلما تذكر ما حدث:
-أنا من غيرك ولا حاجه، ماليش اسم ولا ليا وجود يا زينة.. أنتي بالنسبة ليا زي النفس الللي بتنفسه من غيره مقدرش أعيش
عقبت على حديثه بنبرة خافتة رقيقة:
-أنا معاك يا جبل أهو محصليش حاجه
رفعت وجهها إليه تعتدل في جلستها بين جسده المحيط بها لتقع عيناها على عيناه الباكية، نظرت إليه مطولًا باستغراب جلي تفكر في كم يحبها إلى الدرجة التي تجعله يبكي لأجلها وهو "جبل العامري":
-أنت بتعيط!
ذلك الطفل الذي رأته كثيرًا من المرات وُلد أمامها في لمح البصر وهو يعتدل ليواجهها يحيط وجهها بكفي يده قائلًا ببكاء:
-أنا بحبك وحياتي من غيرك مقدرش اتخيلها.. خليكي معايا يا زينة
رفعت أناملها إلى وجنته تمحي تلك الدمعات الهابطة من عينيه وقالت برفق تطمئنه:
-أنا والله معاك ومش هسيبك
ألقت نفسها بين أحضانه مرة أخرى تشدد عليه تشعره بوجودها حتى يخرج من تلك الحالة الذي هو بها، سألته بعد قليل باستفهام:
-قولي هو ده حصل إزاي، أنا فتحت باب الحمام لقيت تمارا بتصرخ والنار ماسكه فيها أول ما شافتني جريت عليا حسيت أنها عايزة تأذيني قفلت الباب ودخلت جوا الحمام ولحد ما نفسي راح من الدخان ومحستش بنفسي
قال بجمود وعيناه مثبتة عليها:
-تمارا ماتت
رفعت وجهها إليه تبتعد عنه ترمقه بقوة وصدمة شديدة فتنهد قائلًا:
-النار مسبتش فيها حاجه سليمة ووقعت من البلكونة.. فكرانها أنتي لما الحرس غطا وشها وإحنا بندور عليكي، الحمدلله
شعرت بالشفقة تجاهها وحزنت لأجل ما حدث لها ولكنها لم تفعل بها شيء إلى اليوم إنها كانت تحاول أن تأخذ ما أصبح ملك لها وهي تحاول أن تحافظ عليه:
-معقول هي اللي عملت كده
أومأ إليها برأسه يتحدث بندم شديد بعدما أعطى لها الأمان وتركها بينهم يسير خلف خوفها منه ورغبتها الشديدة في الخروج من الجزيرة ولم يصدق حدثه الذي لم يخيب يومًا:
-أكيد هي.. كانت غلطتي إني سمحتلها تفضل هنا بس أنا راعيت الدم اللي بينا لآخر مرة وحسيت بصدقها وأنها عايزة تخرج من الجزيرة بأي شكل بس تقريبًا الغل كان أقوى منها
سألته مرة أخرى:
-هتقول لأمها ايه
تنهد بصوت مسموع ينظر إليها يشبع عيناه من رؤيتها وقد شعرت بنظراته الغريبة نحوها وقال:
-هروحلها بنفسي وابلغها اللي حصل
أردفت بحزن بالغ:
-ربنا يرحمها.. قسيت على نفسها أوي
قال بقسوة وهو يتذكر كل ما فعلته إلى اليوم، حتى عندما رحلت عن عالمهم كانت بأبشع الطرق ومن تخطيطها ولم يشعر بالشفقة نحوها ولو للحظة على الرغم من أنها كانت متربعة على عرش قلبه في يوم من الأيام:
-الغل والحقد اللي ملا قلبها هو اللي عمل فيها كده.. محدش اذاها مننا
جذبها نحوه يغمرها بعناق حاد يروي ظمأ قلبه به، ويمحي قلقه ورهبته وحزنه الشديد به، يشعر ذاته بالحب ويطمئن روحه به، يزيل كل شعور سيء يبدله بأخر ليمحي عجزه وضعفه وهو يراها تبتعد عنه تأخذ حياته معها
قال بصوت مُحب خافت شغوف نحوها:
-المهم إنك في حضني كويسه
قابلته تبادلة العناق أكثر حده منه تطمئن قلبها بوجوده جوارها ومعها، السند والرفيق الوحيد في رحلة لم تكن إلا أكذوبة كبيرة باتت مغمورة بها ولم تستفيق منها إلا على يده ليصبح الكون ومن عليه يمتثل به هو..
❈-❈-❈
"بعد مرور شهر"
-بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير
كانت هذه آخر كلمات قالها المأذون الذي كتب عقد قرآن "عاصم" و "إسراء" فلم يطيق الانتظار أكثر ليقف على قدميه تاركًا يده متقدمًا منها يجذبها أمام الجميع بحدة وقوة كبيرة يلقيها في أحضانه يضم يده الاثنين عليها بشدة لتخفي وجهها بصدره حرجًا مما فعله أمام الجميع..
شدد بيده عليها أكثر يشعر بالسعادة تغمر قلبه بعدما طال انتظاره في امتلاكها، اليوم هو أكثر المحبين سعادة وأول العاشقين انتصارًا..
كانت ترتدي فستان أبيض اللون رقيق للغاية بحملات عريضة يصل إلى ما بعد ركبتيها بقليل به ورود بيضاء متناثرة عليه تطلق لخصلات شعرها الصفراء العنان لا تضع أي مستحضرات تجميل فقد كانت للجمال عنوان...
ابتعدت للخلف تنظر إلى الأرضية بخجل شديد تخفي وجهها الذي تحول إلى اللون الأحمر القاني ليخرج صوته الأجش وهو يرفع وجهها إليه بأنامله:
-ألف مبروك
عقبت بحب تناظر عيناه الوقحة:
-الله يبارك فيك يا عاصم
غمزها بعينه وهو يجذبها مُبتعدًا عنهم إلى أحد زوايا الغرفة قائلًا مبتسمًا بسعادة كبيرة:
-بموت فيكي يا ايسو
كانت تبتسم بخجل يكاد يكون يقتلها وحمرة وجهها تزداد أكثر كلما تحدث معها بهذه الطريقة أمامهم فقالت باستغراب:
-ايسو؟
أومأ إليها بسعادة لا يستطيع وصفها، ولا يستطيع وصف الشعور الذي يحتل كيانه الآن، قال بصوت رخيم بمرح:
-آه ايسو.. من النهاردة أنتي ايسو
وجدها تنظر إليه باستغراب على الرغم من ابتسامتها الخجولة نحوه فسألها وهو يغمزها:
-أنا ايه بقى
تجهل ما يتحدث عنه فقطبت جبينها تطالعه باستغراب تسأله:
-ايه
قال مبتسمًا بصوت خافت:
-عاصومي
كررت ما قاله وعيونها الزرقاء تخترق سواد عيناه:
-عاصومي؟
وضع يده على قلبه عندما استمع إلى نبرة صوتها الخافتة الرقيقة ونظرة عينيها نحوه تسكره بهمساتها فقال:
-قلبه
تذمرت عندما نظرت إلى البعيد لترى معظم الأعين موجهه نحوهم فقالت بحدة وخجل في ذات الوقت:
-عاصم
مرة أخرى يكرر بدراما وهو يأخذ يدها ليضعها على قلبه:
-قلبه والله قلبه وروحه
جذبت يدها سريعًا وهي تبتعد بوجهها بخجل قائلة بامتعاض:
-بس بقى بيبصوا علينا عيب كده
أقترب منها ليمسك بيدها الاثنين بين راحتي يده متحدثًا بعقلانية:
-أنا مش عايز اسمع كلمة عيب دي تاني يا ايسو أنتي خلاص بقيتي مراتي يعني كل شيء مباح وأنا هستنى بس نعدي الفرح وده علشان خاطرك أنتي
سألته تنظر إليه باستغراب:
-هو أنت كمان مش عايز تستنى الفرح
قال بشغف وجنون اقترابه منها يدفعه إلى فعل أي شيء ليملكها:
-أنا لو عليا اخدك معايا دلوقتي ونسك على كل حاجه إلا أنتي.. بس أنا عاقل ومقدر كل حاجه
ابتسمت متهكمة عليه وتتذكر عندما قالت له شقيقتها أن والدتها لم توافق على تلك الزيجة لتجعله يغضب أكثر:
-يا سلام على العاقل.. اللي يشوفك كده مايشوفش اللي عملته لما زينة قالتلك إن ماما رفضت
تحولت ملامح وجهه إلى الجدية الخالصة وهو يقسم بجدية شديدة:
-قسمًا بالله كنت هخطفك وماحد كان هيعرفلك طريق
ابتسمت أكثر بسعادة تنظر إليه ثم إلى الأرضية والخجل يكاد يقتلها لترفع بصرها أخيرًا قائلة:
-للدرجة دي بتحبني يا عاصم
جذبها ليبتعد بها أكثر رافعًا يده إلى قلبه مرة أخرى يقول بحب واضح وبقوة:
-أنا بموت فيكي.. أنتي ساكنة جوا قلبي هنا
حاولت أن تخفي خجلها وابتسامتها المتسعة تظهر من خلفها أسنانها البيضاء تشعر بأن حرارة شديدة تخرج من وجهها تشغله بحمرة الخجل فقالت بجدية:
-طب خلاص بقى
تأفأف قائلًا:
-ما بلاش خلاص دي بقى قولتلك بقيتي مراتي
قالت تبتعد بوجهها عنه:
-أنا بتكسف
وضع أنامل يده أسفل ذقنها ليعيدها إليه مرة أخرى يغمزها بعيناه وأردف بخبث ومكر:
-هنسيكي الكسوف.. مش عايز أقولك هخليكي رقاصة على واحدة ونص
قالت بحدة:
-عاصم عيب
ابتسم باستغراب على ذلك الخجل المميت الذي يلازمها بطريقة غريبة ولكنه كفيل به ويستطيع أن يمحيه وكأنه لم يوجد من الأساس:
-بردو عيب.. شكلك مش هتنسي الكلمة دي غير لما نبقى لوحدنا
استمع إلى صوت شقيقتها الساخر الذي يأتي من خلفه:
-ايه يا عاصم هي من أولها كده.. دا إحنا أكلنا الجاتوه وشربنا العصير والمأذون مشي
استدار ينظر إليها ببغض وتحدث بكبر:
-عندك مانع؟
جلست على الأريكة ورفعت قدم فوق الأخرى تقول بقوة تنظر إليه:
-ليك حق ما خلاص بقت مراتك بس خد بالك زي ما أنا عطلت الجوازة ورجعت مشيتها أقدر افركشها
ابتسم بشر وخبث وهو يضع يده الاثنين أمام صدره يقف في مجابهتها قائلًا بشماته:
-الفركشة دي مش في ايد حد غيري أنا.. وأنا لو السيف على رقبتي مش هسيبها مهما حصل ابقي وريني شطارتك بقى
ابتعدت عنه "إسراء" متوجهة إلى شقيقتها تقول بحنق:
-عاصم كلم زينة كويس
جذبها سريعًا من معصم يدها لتستقر بين ذراعيه يحكم قبضته عليها قائلًا بصوت جاد متهكم:
-لأ قولي لزينة هي اللي تكلمني كويس
كان "جبل" قد خرج مع المأذون يوصله إلى الخارج وعاد يدلف إلى الغرفة ناظرًا إليهم باستغراب وخرج صوته:
-في ايه انتوا هتمسكوا في خناق بعض تاني
أجابه "عاصم" بجدية يضغط بيده على "إسراء" التي كانت تموت خجلًا ويضغط على حروف أخر كلماته:
-والله أنا معملتش حاجه أنا واقف مع مـــراتـــي
ضحكت "وجيدة" بقوة لتظهر تجاعيد وجهها أكثر وهي تنظر إليه وتستمع إلى حديثه وترى أفعاله الذي يحاول بها أن يشعل النيران بقلب "زينة":
-أما أنت كياد بشكل يا عاصم.. مش طبيعي
تحدث "جبل" بقوة ينهي ما يحدث:
-خلاص خلاص كفاية كده
عادت "إسراء" إلى الخلف مبتعدة عنه بعنف فقد قاربت الأرض على ابتلاعها من كثرة الخجل فرمقها هو الآخر بقوة مهددًا إياها بعينه ليستمع إلى صوت "جبل" الصارخ:
-ذكية يا ذكية
أتت مهرولة إليه:
-نعم يا جبل بيه
قال بجدية يسألها:
-العشا
أومأت إليه برأسها قائلة بعملية:
-جاهز يا جبل بيه اتفضلوا على السفرة
أقترب إلى الداخل يأخذ "وعد" من جوار والدته قائلًا لها بحب وحنان:
-نسيب ماما تتخانق مع عاصم ونروح أنا وأنتي ناكل
نظرت إلى الأرضية ببراءة وقالت بصوتها الخافت الرقيق:
-أنا زعلانه منك
افتعل أنه تفاجأ من حديثها وصدم بشدة يقول باستغراب:
-ليه؟ عملت ايه أنا
أجابته بنبرة حزينة:
-قولتلي أنك هتاخدني بره الجزيرة ومأخدتنيش
أشار إليها بيده قائلًا بحب وصدق:
-أنا لسه عند كلمتي هاخدك وهعملك كل اللي نفسك فيه.. حلو كده
رمقته بنظراتها الحنونة الطفولية تسأله بهدوء:
-وماما وإسراء وعاصم
تحدثت "زينة" تقاطعهم تبدأ مناوشة أخرى مع "عاصم" قائلة:
-وماما وإسراء ايه لازمة عاصم
أجابها "عاصم" بقوة يضرب كف بالأخر مستغربًا مما تفعله معه فهي حقًا تبغضه بشدة:
-أنا مش فاهم أنتي مالك ومالي هو أنا عملتلك ايه
حركت رأسها له بلا مبالاة وبرود تام فتغاضى عنهم "جبل" يكمل حديثه مع "وعد" باهتمام:
-وماما وإسراء وعاصم وتيته وجيدة لو عايزة وكمان عمتو فرح
أقتربت منه سريعًا تحتضنه بقوة بذراعيها الصغيرين قائلة برقة:
-أنا بحبك
ابتسم باتساع يجيبها:
-وأنا كمان بحبك.. هناكل بقى
أومأت إليه وهي تتمسك بيده بعدما اعتدل في وقته ليتوجه إلى الخارج:
-يلا
أشار إلى "عاصم" والجميع أن يذهبوا إلى السفر ليتناولوا العشاء فخرجت "زينة" خلفه ومن بعدها "وجيدة" فاغتنم "عاصم" الفرصة يجذب "إسراء" نحوه ينظر إلى عيناها بعمق قائلًا بشغف:
-القمر ده ملكي أنا
نظرت إليه بحدة تبعده عنها بعنف تضع يدها الاثنين على صدره قائلة:
-عاصم بتعمل ايه
ضم يده الاثنين على خصرها يجذبها نحوه أكثر يخرج صوته أجش:
-ما تجيبي بوسه
صرخت عاليًا باسمه بامتعاض وهي تحاول الإبتعاد عنه والخجل يقتل ما بقيٰ منها أمامه:
-عـاصـم
استفزها وهو يقول بشغف:
-قلبه
أوشكت على التحدث وملامح وجهها عابثة خائفة من أن يراها أحد ولكن صوت "جبل" المرتفع آتاهم من الغرفة الثانية ينادي باسمه:
-عـــاصـــم
تركها لتبتعد سريعًا تخرج من الغرفة قبله فسار خلفها على مضض متأففًا يلعن ذلك الأحمق الذي يستمع إلى حديث زوجته..
صعدت "وجيدة" إلى غرفة "فرح" تناديها حتى تهبط إلى الأسفل لتأكل معهم، دلفت إلى الغرفة وجدتها تجلس في العتمة تنظر إلى باب الشرفة تطالع القمر بعينان دامعة ووجنتيها ملطخة بالدموع، ملامحها حزينة للغاية وقلبها يبكي دماء على ما أقدمت بفعله بنفسها..
دلفت والدتها لتجلس جوارها قائلة بهدوء:
-قومي يا فرح كلي معانا
أجابتها بصوت خافت حزين للغاية يؤثر البكاء عليه:
-ماليش نفس
سألتها والدتها بعدما جذبتها نحوها تربت عليها بخفه تنظر إليها بحزن:
-بتعيطي ليه دلوقتي
أبعدت وجهها إلى الناحية الأخرى ومسحت بيدها على وجهها تقول كاذبة:
-عيني دخل فيها حاجه
تهكمت والدتها تسألها:
-الاتنين يا فرح؟
قالت مرة أخرى تحاول أن تأخذها إلى الأسفل:
-قومي تعالي يلا
أجابتها رافضة الهبوط إلى الأسفل وعيناها مازالت تذرف الدموع حزنًا وقهرًا على ما حدث لها:
-مش عايزة أنزل
ربتت والدتها مرة أخرى عليها يخرج صوتها بهدوء تتحدث معها بلين:
-أنتي محضرتيش كتب الكتاب.. عارفه أنك زعلانه عليه بس كله نصيب والقلب وما يريد
اجهشت في البكاء بعدما تحدث والدتها تقول بقهر وندم لا مثيل له:
-أنا زعلانه على اللي عملته في نفسي
نظرت إليها والدتها مطولًا بعدما فعلته كانت تريد أن تقتلها وتأتي بروحها في يدها ولكنها في النهاية ابنتها لا تستطيع أن تفعل بها هكذا ولا تستطيع أن ترى الوجع يمسها ولكن ما حدث كان صعب للغاية لا تتحمله امرأة على فتاتها، تابعتها وقالت بجدية قاسية:
-ربنا يسامحك يا فرح ويحلي أيامك الجاية
وقفت على قدميها تبتعد إلى الخارج تاركة إياها وحدها فلم تستطع أن تواسيها لأن ما فعلته بنفسها ليس به مجال للمواساة، لقد أخطأت كثيرًا بحق نفسها وبحق عائلتها وشقيقها، ألقت بشرفها في أحضان حقير كان من أعوان أكبر أعداء شقيقها..
جلست "فرح" وحدها تبكي بقوة وعنف يرتفع صوت بكائها وكأنها تغسل روحها تحاول أن تنقيها بعدما دنستها ودنست شرفها بفعلتها الدنيئة مع "جلال" والأخرى مع "عاصم" عندما قامت بالقاء تهمة لم يفعلها ولم يفكر بها يومًا ونصبت له محكمة أمام الجميع كاد أن يقع بها تحت حكم الإعدام شنقًا أو الأسوأ من هذا على يد شقيقها.. الآن رحل "جلال" الذي ألقت نفسها في فراشه بورقة ليس لها أي قيمة..
وهنا "عاصم" في الأسفل يحتفل بزواجه من الفتاة الذي أحبها وأرادها تلك التي عززت كرامتها ورفعت من نفسها إلى أن نالها بعد عذاب ذاقه على يد شقيقتها على عكس ما فعلته هي ذهبت لتلقي نفسها أسفل قدميه فلم تجد منه إلا الرفض القاهر..
لن يفيد الندم ولن يفيد البكاء ولكن ربما يغفر لها الله ما فعلته، ما يحدث في الأسفل الآن جعل ضميرها يستفيق من غفله كان بها فلم تستطع أن تنظر بعينين أحد بالأخص بعد ما حدث لابنة عمها "تمارا"، تخاف من أن تكون نهايتها تماثلها فحاولت اللجوء إلى ربها نادمة على كل ما فعلته إلى اليوم..
❈-❈-❈
خرجت "زينة" من غرفة "إسراء" و "وعد" بعدما اطمئنت عليهم سويًا متوجهة إلى غرفتها حيث قام "جبل" بتغيرها بالكامل بعدما اشتعل الحريق بها..
دلفت إلى الغرفة وأغلقت الباب من خلفها لترفع بصرها إليه على الفراش ثم دلفت في نوبة ضحك يرتفع صوتها وهي تقترب منه باستغراب شديد..
وقفت أمام الفراش قائلة باستفهام تسائلة بعدما أدمعت عينيها:
-أنت عامل كده ليه
كان يجلس على الفراش مجردًا من ملابسه إلا سروال صغير ينتظر حضورها، نظر إلى نفسه ثم أعاد بصره إليها قائلًا:
-ايه المضحك في الموضوع
اعتدل في جلسته ثم وقف على قدميه مبتعدًا عن الفراش مُقتربًا منها ليستمع إلى صوتها الضاحك:
-شكلك
جذبها نحوه بقوة يستدير بها ليلقيها على الفراش قائلًا بخبث ومكر:
-وشكلك بعد قليل
مال عليها قبل أن تعترض يهبط إلى شفتيها يقتنص منها قبلة رقيقة حنونة، ناعمة منه إليها يبث فيها كم هو عاشق محب هادي، رفعت يدها على عنقه تقربه منه تبادله تلك القبلة الرقيقة ولكنها في لمح البصر تحولت إلى أخرى عنيفة ..
دروب العشق صنعت للعاشقين راغبين الحب وجنونه، كان هو أول العاشقين الذي انتصر على ماض كامل وفاز بها، وأخر الخاسرين الذي خسر كل شيء لم يرغبه بحياته ليحظى بها..
درب الهوى ميال إلى قلب مرتجف بالشغف والوله ولم يكن هناك قلب كقلبها ليحظى به، تمثل إليها في العوض بعدما قالت أنه لم يشفع له الحب بعدما انتهك روحها، لم يشفع له الغرام ولم تشفع لهفة الاشتياق، لم تشفع لوعة الفراق ولم تشفع نبرته الخافتة المطالبة بالغفران الآن تقول إن كل ذلك كان يشفع له إلى أن أصبح ملاذ قلبها ومالك فؤادها..
ألم تقل انطوت صفحة غرامة بقلبها وأغلقت عليه بعدها بأصفاد حديدية فلا يوجد مكان للحب مرة أخرى، لا يوجد مكان تزهر به الورود الحمراء وإن أزهرت فلا يحدث دون وجود أشواك، قد اكتفت، يكفي ما أخذته من الحب والغرام، يكفي أنها الآن تدفع ثمن شيء لم تقم بفعله، أنها الآن "غزال" "سجينة جبل العامري"
الآن يتغير كل ما قالته، فلم تأخذ شيء من الحب، لم تكتفي من الغرام ولم تحظى بالاستمتاع به إلا معه، الآن بكامل إرادتها ترفرف الفرحة داخل قلبها تقرع الطبول به يقيم احتفالية شديدة الجمال لأجل أنها هي، التي حظيت أن تكون "غزال" "سجينة جبل العامري"
❈-❈-❈
"يُتبع" الخاتمة
#سجينة_جبل_العامري
#الخاتمة
ندا_حسن
"يتغير ولو كان عاصي"
دق "عاصم" على باب الغرفة بهمجية شديدة ووجه مكفهر وملامحه مشدودة بقوة، صرخ عليها بصوته الجهوري قائلًا:
-افتحي الباب بقى حرام على أمك
جلست على الفراش في الداخل بضيق وانزعاج شديد فهو كل لحظة والأخرى يحاول الإقتراب منها بطريقة لا تحبها، أجابته بامتعاض:
-أنت قليل الأدب وزينة كان معاها حق في اللي عملته معاك
تنفس بعمق محاولًا أن يهدأ وتحدث من خلف الباب بصوت أهدا قليلًا:
-يا ايسو يا حبيبتي افتحي وهفهمك
صرخت يرتفع صوتها إلى الخارج ومازالت جالسة تشعره كم انزعجت من طريقته معها:
-والله ما هفتح.. أنا كل شوية أقول بكرة يعقل بكرة يحترم نفسه
ضرب الباب بقبضة يده القوية للغاية وصدح صوته المغتاظ منها محاولًا السيطرة على نفسه:
-يا بنت المجنونة بقالنا اسبوع متجوزين مش عارف أخد منك بوسه
نفت حديثه بحدة صارخة:
-مش هتاخد يا قليل الأدب
ابتسم من الخارج وعاد يردف من جديد بخبث مازحًا معها:
-طب بلاش بوسه أنا عايز حاجات تانية
قبضت بيدها على الهاتف وهي في غاية الغضب والعصبية وتفوهت بتهديد:
-اخرس يا قليل الأدب أنا هكلم زينة اخليها تيجي تاخدني
دق قلبه بعنف وهو يستمع إلى حديثها غير قادرًا على الإمساك بها فلو كانت بين يديه لفعل بها ما يشاء، اخترق صوته أذنها:
-اوعي تعملي كده.. إســراء بلاش جنان يخربيتك
احمرت وجنتيها خجلًا وهي تتذكر ما الذي كان يريد فعله معها وقالت:
-الجنان اللي بجد لو سيبتك تعمل اللي عايزة
ضرب مرة أخرى على الباب محاولًا دفعه بقوة ولكنها وصدته من الداخل جيدًا ليقول بنفاذ صبر:
-يا بنت المجنونة ده حلال.. أنتي مراتي
حاول مرة أخرى أن يهدأ من روعه، تنفس بعمق زافرًا الهواء بقوة ثم قال ضاغطًا على أسنانه:
-افتحي بس وهنتفاهم.. هفهمك كل حاجه واعملي اللي عايزاه في الآخر
عارضته وهي تقول مُصرة على محادثة شقيقتها:
-لأ أنا هكلم زينة تاخدني
ضرب الباب بقدمه بقوة وعنف وهو يصل إلى ذروة غضبه منها بعدما احتار في طريقة ارضاؤها:
-لو عملتي كده مش هيحصل كويس
سألته بسخرية صارخة عليه:
-ايه خايف تنكشف على حقيقتك
وضع جبينه على باب الغرفة يستند عليه متحدثًا بقلق خوفًا من أن تفعل ما قالته حقًا:
-خايف اتــفــضــح يخربيتك
وقفت على قدميها تتقدم من باب الغرفة تقف خلفة قائلة بجدية شديدة:
-أمشي من قدام الباب وخلي عندك دم واحترم نفسك وبطل حركاتك القذرة دي انا محترمة
خرج صوته بنفاذ صبر:
-يا بنت المجانين.. اومال لما كنت بقولك حاجه كده ولا كده كنتي بتعملي مكسوفه ليه طالما مش فاهمه.. أنا كده اتغشيت
تحدثت بتذمر وضيق بعدما احمرت وجنتيها أكثر:
-أنا فاهمه كل حاجه يا قليل الأدب
عاد مبتعدًا عن الباب يغرس أصابع يده الخشنة بين خصلات شعره بجذبها بعنف:
-ربنا ياخد قليل الأدب.. طالما فاهمه في ايه
ابتسمت وهي تشعر بأنها قد أتت بأخره ولم يستطع التحمل:
-في إنك قليل الأدب يا عاصم وعيب أوي كده
أقترب من الباب مرة أخرى يصرخ عليها بهمجية:
-عيب! هو ايه اللي عيب هو أنا لحقت أعمل حاجه دا أنا كل ما أقرب بس جنبك تطلعي تجري.. يا بت دا أنا كنت بحضنك وإحنا كاتبين الكتاب أكتر من كده
أجابته ببرود تام:
-كان قدام الناس لكن هنا عايز تستفرض بيا
حاول باللين معها وهو يغير من نبرة صوته يرق ناحيتها قائلًا:
-لأ والله دا أنا غلبان أوي افتحي بس وهنتفاهم
قابلته بالرفض قائلة:
-لأ
توسل إليها محاولًا أن يتوغل أعماق قلبها لتشفق عليه يتحدث بنبرة خافتة وكأنه غلب على أمره:
-طب علشان خاطري.. طب هنام بره يعني
استشعرت حزنه من نبرة صوته فـ أعتدلت في وقفتها متحدثة بقليل من الحزن:
-ما أنت اللي خلتني اعمل كده
خرج صوته الهادئ الماكر الذي يخفي خلفه خبث العالم وهو يهتف:
-طب خلاص افتحي وبجد مش هعمل حاجه تضايقك ولا هتكلم في الموضوع ده حتى خلاص
سألته بجدية كي تطمئن أنه لن يقوم بفعل أي شيء مرة أخرى يزعجها:
-بجد
أومأ من الخارج مبتسمًا بمكر شديد:
-آه بجد خلاص
أعتدلت تفتح باب الغرفة تلبي طلبه لا تُخون ما يخرج منه تعطي إليه الأمان الكامل، فتح الباب وطل منه ينظر إليها بحزن بالغ أبرع في إتقانه أمامها يدلف إلى الغرفة دون حديث ينظر إلى الأرضية فأبتعدت عنه تولج إلى الداخل.. انتهز الفرصة يغلق باب الغرفة مرة أخرى بالمفتاح فأبصرته لتراه يأخذ المفتاح من الباب ثم تقدم إلى الداخل يلقي به أعلى ظهر خزانة الملابس!..
نظرت إليه بقوة ولم تستوعب ما فعله لتحاول التحدث وهي تبتعد عنه ولكنه لم يعطي إليها الفرصة لفعل ذلك مقتربًا منها في لمح البصر يرفعها على ذراعه متوجهًا بها ناحية الفراش ليلقي بها عليه قائلًا بخبث:
-دقت ساعة الحرب
دب الرعب أوصالها وخرج صوتها بعنف وهي تحاول أن تعتدل على الفراش تستند على مرفقيها وهو يقترب منها:
-عاصم أنت قولتلي مش هتعمل حاجه.. كده غش بجد وقلة أدب والله العظيم أمشي
صعد على الفراش أمامها لينحني عليها ضاحكًا متهكمًا:
-غش.. غش ايه هو إحنا بنلعب
ارتفع صوتها برهبة قائلة بغيظ:
-مش عجباك غش منا قولت قلة أدب
أقترب أكثر يضع كف يده العريض على وجنتها اليمنى يمرره عليها بحب وهدوء ناظرًا داخل عينيها بهيام وتحدث برفق وشغف:
-أنا جوزك وأنتي مراتي يا ايسو حلالي وحقي.. وبعدين كفاية كدا بقالنا أسبوع ويــا سبحان اللي مصبرني والله
تجمعت الدمعات بعينيها وتعلثم صوتها وهي تقول بقوة:
-لأ أصبر كمان وأبعد عني كده
أبتعد للخلف ينظر إليها بقوة وعمق مستغربًا وخرج صوته باستنكار:
-أنتي هتعيطي ولا ايه.. اهدي متخافيش
عاد إليها مرة أخرى عندما وجدها صامتة واعتدلت في جلستها تبتعد بنظرها عنه، تفهم ما الذي يدور بخلدها وتوقع تلك الرهبة ولكن ليس لهذه الدرجة، سألها بنبرة هادئة:
-أنتي خايفة مني طيب؟
أخفت عيناها عنه تشيح بيدها:
-معرفش بقى
وضع يده أسفل ذقنها يعيد وجهها إليه ناظرًا إليها بحب وهدوء شديد يرسل إليها سلامات الاطمئنان والهدوء:
-ايسو أنا عمري عملت حاجه تأذيكي؟
نظرت إلى داخل عيناه وأجابته بصدق:
-لأ
كرر السؤال مرة أخرى ويده أسفل ذقنها ينظر إلى بحر عينيها:
-طيب عمري عملت حاجه غصب عنك؟
أجابته ثانيةً بهدوء:
-لأ
عاد بيده إلى وجنتها يكررها عليها ثم إلى خصلات شعرها وتفوه بنبرة خافتة هادئة أمام شفتيها:
-ممكن طيب تديني فرصة بالراحة كده نقرب من بعض وافهمك ولو مش عايزة خلاص بجد وهبعد
أومأت إليه برأسها عندما استشعرت الصدق بكلماته:
-طيب ماشي
ابتسم إليها بسعادة خالصة فهو إلى الآن لا يستطيع فهم كيف تمكن من الصبر إلى اليوم وهي أمامه وأسفل يده، ولكن عشقه لها هو المتحكم الوحيد به والذي يجعله يفعل كل ما يروق لها وإن كان غير ذلك لا يحدث.. لكنه منذ الكثير ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر يحلم بها وهو نائم وهو مستيقظ لدرجة توصل إليه شعوره بالجنون بسببها..
أقترب منها أكثر ليعيدها إلى الخلف بخفه ورقة وهو يشرف عليها بهدوء تام ينظر إلى عيناها بعشق خالص وشغف قاتل نحوها..
مرر يده على وجهها برقة بالغة محاولًا أن يبث الهدوء داخلها ويشعرها بالراحة وهو يبتسم إليها بهدوء، مال برأسه على وجهها أكثر ليقطف قبلة من شفتيها الوردية الصغيرة التي كانت تفتقر كل هذه المشاعر ولأول مرة.. تعيشها بين يديه..
استمتع كثيرًا في قبلتها المفتقرة للخبرة وهي تفعل ما يشاء محاولة أن تجارية شاعرة بأشياء غريبة تعصف بجسدها تجعلها تطالب بالمزيد خجلًا ليحمر وجهها كحبة طماطم..
أقترب أكثر وأكثر عندما وجدها مستكينة بين ذراعيه وشعر بحاجتها للمزيد منه الخجلة في التعبير عنه والبوح به ففعل ما تريد وهو يقترب يروي ظمأ مشاعرها يرويها بالمزيد مما يفعله ليجعلها تعيش شعور مختلف للغاية عن أي شعور عاشته بحياتها بالكامل..
فاض بحر من المشاعر بينهما ليعبر لها بأمواجه عن كم الجنون المكنون لها بأعماق قلبه، كانت له شاطئ يستقبل تلك الأمواج الثائرة برحابة صدر ليغرق رمالها بلمساته الحنونة التي احتوت كل حبة رمل منها يشعرها بأنها الشاطئ الوحيد والملجأ والسكن لكل غمرة من مياة عشقه تروي ظمأ قلبها..
أخذها بين ذراعيه محتضًا إياها بقوة يهبط بوجهه للأسفل بعدما استكانت بين يده:
-حبيبتي أنتي كويسه صح؟
أومأت إليه برأسها تنظر للبعيد لا تستطيع النظر إليه ورفع عيناها بعينيه تموت خجلًا مما حدث بينهم، اعتدل في جلسته تاركًا إياها مبتسمًا بقوة وسعادة وهو يجعلها تعود للخلف ليستطيع النظر إليها وخرج صوته المازح قائلًا:
-مكسوفه
أبعدت وجهها سريعًا حتى لا يراها يقسم أنه يرى أمامه اثنين من حبوب الطماطم أو ثمار التفاح الأحمر النادر، قهقه عاليًا وهو يجذب وجهها لينظر إليه قائلًا:
-أنتي مراتي قسمًا بالله.. أي حاجه تحصل بينا عادي
رأى الدموع تتكون بعينيها مرة أخرى فاقترب منها سريعًا يجذبها إلى صدره يحتضنها بقوة قائلًا بصوت ضاحك:
-وأنا اللي كنت فاكر هنسيكي الكسوف، دا أنتي هتوبيني
حاول أن يحتوي خجلها وهو يتحدث معها بهدوء يشرح لها بهدوء ما الذي يتوجب عليها فعله وكيف سيتعامل معها في الأيام القادمة يردف بهدوء ورفق وذلك الجسد الصلب الذي يبتلعها في كل مرة يجلس أمامها ولين العالم في قلبه ويخرج من شفتيه إليها..
❈-❈-❈
"بعد مرور خمس أشهر"
وقفت الطفلة "وعد" في الحديقة مع جدتها "وجيدة" وعمتها "فرح"، كانت تقف بجوار جدتها و "فرح" تقف على بعد خطوات بعيدة عنهم تلتقط لهم بعض الصور التذكارية على هاتف "وعد"..
أقتربت منها تأخذ الهاتف تنظر إلى الصور تنظر إليهم جيدًا ثم رفعت بصرها إليها محاولة مداراة بشاعة الصور فقالت ببراءة:
-أنا طالعه وحشه أوي.. شوفي شكلي
مدت لها يدها تناظرها بجدية ثم قالت:
-طيب هاتي وأنا هصورك تاني أحسن من الأول
تذمرت "وعد" بشكل طفولي وهي تقول بسخرية وضيق:
-عمتو بقالك ساعة بتقولي كده وكل مرة الصور مش بتطلع حلوة
ارتفعت ضحكات "فرح" وهي تنظر إلى ملامح وجهها الممتعضة وقالت بحيرة فهي ليست بارعة في التقاط الصور بطريقة حرفية:
-طب اعمل ايه
رفعت "وعد" الهاتف أمامها وبدأت تشرح لها برفق كيف تتعامل مع الهاتف وتلتقط الصورة:
-ركزي كده وثبتي ايدك والموبايل وخدي الصورة وأنا وتيته هنقف كويس
أخذت الهاتف منها تومأ إليها برأسها قائلة:
-خلاص يلا روحي
أومأت إليها الصغيرة تركض متجهة ناحية جدتها:
-حاضر
صدح صوت "وجيدة" المنزعج بعدما وقفت لوقت طويل في محاولة منهم لأخذ صورة واحدة:
-صوري كويس يا فرح زهقتينا الشمس كلتنا وإحنا مستنين صورة عدلة منك
رفعت "وعد" بصرها إلى جدتها لتقول بحزن متذكرة خالتها "إسراء" التي كانت بارعة في كل شيء في الهواتف الذكية:
-لو كانت إسراء هنا كانت صورتنا من بدري
قد ذهبت مع زوجها "عاصم" إلى "دبي" من حيث أتت هي وشقيقتها كي تستكمل السنة الدراسية هذه، أردفت جدتها:
-هانت وتيجي هي وعاصم بس تخلص السنة دي
قالت "وعد" برفق وحنين:
-وحشتني أوي هي وعاصم
تأفأفت "فرح" شاعرة بالضيق من حديثهم الذي مازال يؤثر عليها في كل وقت وخرج صوتها المنزعج:
-هتتصوروا ولا لأ
أجابتها "وعد" وهي تقترب من جدتها مبتسمة مستعدة لأخذ الصورة:
-هنتصور بس أنتي خديها حلوة يا عمتو
قالت بنفاذ صبر معقبة على حديثها:
-يلا يا ست وعد خلصينا أنا تعبت
أتى "جبل" من الخارج ليستمع إلى أصواتهم فتقدم إليهم قائلًا يمازحها بحب:
-ايه ده مين مزعل حبيبة بابا هنا
حركت يدها وكأنها غاضبة في حركات طفولية للغاية غريبة عليها قائلة:
-عمتو فرح مش عارفه تصورنا خالص أنا وتيته
أجابها والإبتسامة تزين شفتيه ينظر إليها بحب ليحصل على نظرة رضا منها:
-أنا أصوركم
تقدم يأخذ الهاتف من شقيقته لتبتعد هي ويقف هو في مكانها أمامهم فوقفت "وعد" مع جدتها تستعد لأخذها ففعل ليهبط على الأرضية يتكأ على قدميه حتى ترى، تقدمت منه سريعًا تنظر إليها من خلال شاشة الهاتف فخرج صوتها الرقيق بسعادة:
-الله جميلة أوي
أبعدت وجهها إلى "فرح" تهتف:
-شوفتي من أول مرة إزاي طلعت حلوة
أومأت إليها بغيظ فهي منذ الكثير من الوقت تقف هنا محاولة فعل ما تريده منها:
-ماشي يا ست وعد
أشارت إلى "جبل" قائلة بفرحة:
-تعالى بقى اتصور معانا
تقدم من فرح يعطي إليها الهاتف لتأخذ لهم الصورة وعاد هو يحمل "وعد" على ذراعه متوجهًا إلى والدته يقف جوارها يحيط كتفها بذراعه الآخر ليقفوا ثلاثتهم مبتسمين:
أخفضت "فرح" الهاتف دليل على انتهاءها فهبطت "وعد" من على ذراعه راكضة نحوها تأخذ منها الهاتف لتنظر إليها باشنئزاز:
-وحشه أوي يا عمتو
نظر إليها "جبل" ضاحكًا وكذلك والدته وشقيقته بسبب تغير ملامح وجهها التي تلعب عليها ببراعة الاطفال المعهودة، خرج صوته بجدية:
-تعالي يا وعد وأنا هصور
أومأت إليه قائلة بمشاكسة لـ "فرح":
-يكون أحسن بردو.. تعالي اتصوري معانا
ذهبت فرح مبتسمة على حديثها وحركاتها لتأخذ الصورة معهم حيث رفع "جبل" وعد على ذراعه الأيسر ووقفت جواره والدته وشقيقتها والتقطها بالكاميرا الأمامية بيده اليمنى فظهر الجميع بها مبتسمين بسعادة كبيرة..
تحدثت "وعد" بمرح بعدما اخفضها إلى الأرضية تنظر إلى الهاتف بعدما أخذته منه:
-شايفه يا عمتو الصور عامله إزاي.. خلي بابا يعلمك
أجابتها بغيظ مبتسمة:
-متشكرين ياستي
ابتسم "جبل" بسعادة وهو يتابع حركاتها الطفولية البريئة التي تأثره وتخطف عيناه من موضعها لتتوجه إليها تتابعها تتشبع من رؤيتها ورؤية كل ما يصدر عنها..
أبتعد تاركًا إياهم يمرحون سويًا فرحين بتلك الصغيرة التي أصبحت تتحدث بينهم بطلاقة وتفعل حركات أغرب منها ومنهم جميعًا متوجهًا إلى الأعلى، إلى معشوقة قلبه ومالكه روحه.. تلك التي أخذت امضاء وتوكيل صريح منه بأن حياته لعبة بيدها..
❈-❈-❈
ولج إلى الغرفة بعينان جائعة مشتاقة إلى حبيبة روحه، وقع بصره عليها ممددة على الفراش تنام على ظهرها تمسك بيدها الهاتف تتطلع به.. أبعدته إلى جوارها عندما دلف الغرفة ونظرت إليه لتظهر ابتسامه على محياها وهي تراه يتقدم منها..
جلس جوارها مبتسمًا ورفع يده إلى بطنها الممتلئة يمسد عليها بحنان ثم خرج صوته قائلًا:
-أخبار الحلوين ايه
أجابته بنبرة فرحة تنظر إليه وإلى يده التي تمسد عليها:
-بيسلموا عليك
أقترب معتدلًا منها قائلًا بشغف:
-لأ دا أنا أسلم عليهم بنفسي
هبط برأسه بعدما أزاح قميصها يرفعه للأعلى لتظهر بطنها المنتفخة فاقترب يقبلها بحنان وهدوء متحدثًا بلهفة:
-مشتاق إني أشوفهم والمسهم بايدي
تحقق الحلم الذي كان يسعى إليه منذ الوهلة الأولى التي أحبها بها، لم يريد إلا طفل صغير منه هو يكن له السند والعون ليعينه على الحياة ويعلمه كل ما يحب ويبغى من صدق وعدل وحكمة.. ليرث هيبة والده ومكانته..
تحقق الحلم الذي كان يتربع على عرش قلبه يسعى إليه في الخفاء إلى أن تربع في الحقيقة الكاملة يشعره بكم السعادة والفرحة الخالصة فقط لتحقيقه..
في ذلك اليوم الذي علم به لم تكن الدنيا تساع تلك الفرحة الخارجة من قلبه الصغير، على الرغم من أنه مثل قبضة يد ولكن شعوره حينها لم يكن يوصف ولم يستوعب إلا بعدما دلف بصدمة لدقائق يحاول إدراك كونه قريبًا سيكون أب..
ثم بعدها ولج صدمة أخرى أكثر فرحة وسعادة بعدما أكتشف أنه ليس صبي واحد بل اثنان، فاض كرم الله من حوله بمنه عليه برجاءه الوحيد ليكمل مسيرة رجاءه وأمله في الله أن يحفظهم ويرعاهم له..
تحدثت "زينة" قائلة وهي تعتدل:
-خلاص هانت كلها أربع شهور بس
أعتدل جالسًا جوارها ثانية ينظر إليها باستنكار وتحدث وكأن هذه الأشهر ستمر كالهفوة:
-بس!
اتسعت ابتسامتها وهي تنظر إلى ملامحها الغير مصدقة بساطة كلماتها فقالت برفق:
-مش كتير ولا حاجه دول هيعدوا هوا
أقترب بوجهه منها ناظرًا إليها بحب خالص وعشق لم يكن يليق إلا بها لتخرج نبرة صوته الرخيمة:
-اليوم بيعدي سنة على أي واحد مشتاق
وضعت يدها فوق كف يده تربت عليه بسعادة وهي تشعر بكم الحب والاشتياق الذي يخرج من قلبه وروحه تجاههم:
-حبيبي ربنا يباركلك فيهم
بدل الوضع وهو يرفع يده على كف يدها ليمسك بها يرفعها إلى فمه يقبلها بحنان خالص وتخرج نبرته تماثل نظرته نحوها:
-ربنا يقومك بالسلامة الأول وبعد كده يباركلي فيهم ويحفظكم ليا
ابتسمت قائلة بهدوء:
-بإذن الله
مال برأسه عليها يقترب منها أكثر ليبقى أمام شفتيها متحدثًا باغراء ومكر:
-وحشوني أوي أوي وأمهم وحشتني أوي
أشارت إلى بطنها بيدها وهي تبتعد عنه قائلة بلا مبالاة وهدوء تام:
-ما أهم عندك الله.. عيش معاهم
حرك رأسه نفيًا رافعًا يده إلى وجنتها يحركها عليها برفق وهدوء:
-لأ ما هما وحشوني هما وأمهم مع بعض
سألته مضيقة عينيها عليه تشاكسة:
-الاتنين
افتعل صوت بفمه ونفى وهو يحرك رأسه بالرفض مصححًا لها:
-تؤ، التلاتة
أعتدلت إلى الخلف تستند إلى ظهر الفراش ثم تحدثت بجدية تبتعد عن حديثه المرهق لبدنها قائلة:
-أنا عايزة أنزل شوية علشان تعبت من القاعدة هنا لوحدي
أومأ إليها برأسه مُصرًا على استكمال تلك المسيرة التي بدأها ليخرج صوته الخبيث الماكر:
-هننزل بس مش أشوف الناس اللي وحشتني دي الأول
جلست معتدلة تنظر إليه بحدة قائلة:
-هو أنت بتستهبل نفسك مش كانوا لسه واحشينك وخلصنا
أبعد يده عنها واعتدل أمامها ينظر إليها بعمق وقوة يبادلها الشغف المخفي داخل عيونهما، أردف بجدية ومكر:
-لأ منا هفهمك كل لما بحس إني مش قادر من كتر الوحشه ببقى كده يعني
كررت ما قالته باستنكار مضيقة ما بين حاجبيها عليه:
-الوحشه!
ترك كل ما تحدث به وطريقة حديثها واستغرابها كلمته الغريبة ليأخذ يدها مرة أخرى يقبلها بهدوء وبكل شغف العالم وحنينه خرج صوته:
-بحبك
بادلته مشاعر الجوى التي تشتعل داخلهما بالرغبة الجامحة في التكملة إلى نهاية الدرب تجيبه بحب ورقة:
-وأنا كمان بحبك أوي
غمزها بعينه قائلًا بصوت ماكر ضاحك:
-الله وكيل غزال وأنتي غزال
كان يحاول أن يتحول إلى ذلك الشخص الذي يتحرك بخفه هو والرومانسية وكثيرًا من المرات كان يحاول ليبقى مظهره أمامها لا يليق به أبدًا..
قالت بجدية تهشم سقف طموحه في أن يكون نال إعجابها بمحاولاته:
-جبل.. متحاولش تبقى رومانسي يا حبيبي
سألها مضيقًا عينيه عليها مستفهمًا:
-ليه بقى
أردفت بجدية وهي تنظر إليه قائلة ما يحدث متنازلة عن حقها في الغزل والرومانسية:
-أنت مش رومانسي ومش عارف تبقى رومانسي فـ الموضوع تقيل.. خليك بهيبتك يا حبيبي أنا راضية
نظر إليها باستنكار وأجابها:
-مش وش نعمة
أومأت إليه برأسها تؤكد على حديثه:
-خالص
مال برأسه عليها تاركًا كل ما قاله خلفه يميل برفق وخفه ونظرة عيناه شغوفه مقتولة في الحب ومن أحب، مال يقتنص من شفتيها ورود الحياة بألون وأشكال مختلفة.. تتحرك يده عليها بخفه ورقة وحنانه بالغ ذوروته عليها يشعرها بكم كانت لا شيء قبل أن تكون ملكه وبين يديه..
كانت تجربتها من أمر التجارب على الإطلاق ليخلق الحب من رحم المعاناة والألم الذي لم تراه إلا على يده وبالرغم من ذلك لم يكن إلا هو الذي أحبها وغير حياتها ليغير مسارها من الخديعة إلى الغرام المسحور بجنون المشاعر المختلطة كل لحظة والأخرى بشكل مختلف هستيري يسوده الشغف والحب..
هكذا كانت حياتها من مر إلى أمر إلى "جبل العامري" الذي اعتقدت أنه الأكثر إرهابًا وقسوةً وجنونًا ليبقى الآن أمامها زوج محب ورجل حنون عاقل وأب متلهف كطفل صغير لرؤية صغاره..
في ظاهره كان الأخطر على الإطلاق ككل شيء نحكم عليه من ظاهره فقط ولا ننظر إلى باطنه، ككل شخص نحكم عليه من تصرفاته الغريبة التي يرسلها إلينا ولا نرى ما في داخله، لا نرى ما يعبئ قلبه وكيانه من الداخل..
ربما نراه الأخطر والأكثر إجرامًا فقط من نظرة خارجية وفي باطنة حنان كل أم على أولادها ولهفة كل أب على أولاده، ربما في داخله جنون عاشق مختل مُصر على اختراق الحب بكل مقايسه وتعاليمه، ربما هو كثرة المشاعر المتأججة داخلنا ولا نشعر بها.. ربما هو كل عين نظرت إلينا بقسوة وكره وداخلها الحب مضاعف مخفي..
ربما هو كل يد امتدت لتنال منا بعنف ضاري وفي اخفاءها لم تفعل ذلك إلا لأجلنا مع اختفاء الأسباب وتبريرات ما حدث..
ربما هو "جبل العامري" كل ظاهر خطر ومجرم وكل مخفي صدق وعدل ورحمة..
❈-❈-❈
"بعد مرور خمسة أشهر"
أقترب "عاصم" يأخذ "يونس" طفل "جبل" الصغير الذي لم يبلغ من العمر إلا شهر ونصف ينظر إليه بحب يتمعن في ملامحه البريئة الصغيرة للغاية ثم رفع وجهه إليهم قائلًا بمشاكسة:
-للأسف شبه أمه
تقدمت "زينة" لتأخذه منه تبصره بضيق وانزعاج قائلة بسخرية وتهكم:
-لما نشوف خلفتك هتبقى ايه
قبل أن يتحدث أبتعدت عنه زوجته "إسراء" تقول بجدية محاولة الهرب منه:
-لأ خلفته هتبقى شبهي أنا يا زينة وإلا ممكن يجيلي ضيق تنفس
ابتسمت تنظر إليه بشماتة معلقة على حديثها لتجعله يغتاظ أكثر:
-حتى مراتك مش مستحملاك
تهكم عليها ناظرًا إليها بسخرية شديدة بجيبها:
-قال يعني أنتي اللي مستحملينك
أجابته بمنتهى البرود واللامبالاة متجهة إلى الأريكة تجلس بطفلها:
-وأنت مالك
تقدم منهم "جبل" الذي كان خارج الغرفة ليستمع إلى حديثهم فخرج صوته ساخرًا:
- الله وكيل بتحط نفسك في مواقف بايخة مع زينة يا عاصم
رمقه بعصبية محاولًا التحكم في ذاته ثم أجابه ساخرًا ناظرًا إليه ببرود:
-أنت اللي مش عارف تتحكم
أردف "جبل" بجدية وحدة:
-خليك في نفسك
استمع إلى ضحكات "زينة" التي صدح صوتها متحدثة بشماتة:
-شوفت محدش طايقلك كلمة
أقتربت "إسراء" منها لتجلس جوارها تنظر إلى "يونس" الذي كان على قدميها ينام بسلام وهدوء:
-لأ بس بجد يا زينة يونس شبهك أوي نفس العيون والحواجب ونفس الشفايف حتى بصي رسمتها
نظرت إلى الطفل الآخر "ياسين" مع جدته قائلة:
-وياسين شبه جبل
ابتسمت "وجيدة" وهي تستمع إلى حديثهم ثم تفوهت:
-قسموها بالنص بينهم يونس شبه أمه وياسين شبه أبوه
أقتربت منها "وعد" تجلس جوارها ثم سألتها ببراءة:
-وأنا شبه مين يا تيته
عانقتها جدتها بيد واحدة والأخرى تسند بها "ياسين" وخرج صوتها بنبرة محبة حنونة لينة تظهر لها كم تأخذ "وعد" مكانه كبيرة في قلبها:
-شبهي أنا يا حته من قلبي
أقترب "عاصم" يسير في الغرفة بمرح وتحدث ينظر إلى زينة بطرف عينه يحاول إغاظتها بعدما صمتت:
-بس أنا مش زعلان غير على مستقبل يونس لو فضل شبه أمه.. مش هيلاقي واحدة تبص في وشه
ارتفع صوتها وهي تشيح بيدها إليه بهميجة قائلة بصوت عالي:
-ما تحترم نفسك بقى والله اطردك بره وأخد مراتك وبنتك ولا ابنك اللي لسه مشفتوش
أمسكت "إسراء" في تلك الكلمات تترجاها بقوة قائلة محاولة الهرب منه بعدما اعتادت على كل تلك الأفعال التي تصدر منه بينهم هما الاثنين وتلك اللحظات الحميمة التي تلازمهم طيلة الوقت حتى في لحظات تناول الطعام:
-آه بالله عليكي يا زينة مش عايزة اروح معاه
اتسعت خطواته ليصل إليها في خطوتين وحيدتين يقف أمامها وهي جالسة على الأريكة ليظهر طوله الفارع وكم هي صغيرة بالنسبة إليه ينظر إليها بحدة قائلًا:
-نعم يا روح أمك عايزة تروحي فين
تراجعت في حديثها ناظرة إليه بتوتر وخرج صوتها بتعلثم:
-لأ مش قصدي حاجه يعني دا علشان تفك عن نفسك شوية بعيد عني
مال قليلًا عليها ليجذبها من ذراعها لتقف على قدميها أمامه يحيط خصرها بذراعه قائلًا بتهكم:
-لأ أنا مبسوط كده تعالي
نظر إلى شقيقتها قائلًا:
-وبعدين دي لسه مكملتش شهرين حمل
أجابته ببرود:
-وايه يعني
حرك رأسه بقوة متحدثًا بانزعاج وهو يرمقها بغضب:
-خليكي في حالك
وقفت "زينة" على قدميها تعطي صغيرها إلى زوجها لتقف في مواجهته تصرخ بحدة:
-بقولك ايه بجد....
قاطعها "جبل" قبل أن تكمل حديثها صارخًا بقوة عليهم:
-خـــلاص كفاية وجعتوا دماغي
استدارت تنظر إليه بقوة قائلة بغضب وضيق:
-مش شايف هو اللي بيستهبل
تحدث بنفاذ صبر:
-امسحيها فيا ياستي خلصنا
عادت تجلس مرة أخرى تنظر إلى "عاصم" متحدثة بغضب:
-جايلك يوم
أخرج لها لسانه كالاطفال وهو يبتسم بقوة ثم تحولت إلى ضحكات متعالية وهو يراها تنظر إليه بغضب وشر كبير والغيظ يأكلها..
بقيت العلاقة بينهم مرسومة بهذه الطريقة وكأنهم يتمثلون في حياة القط والفأر، لا تعبر كلمة من الآخر إلى الآخر إلا عندما تمر بكل مراحل السخرية والتهكم، الغضب والعصبية لتخرج الكلمات منهم كالسهام المتلاحقة في الرماية في حرب دامية.. وكم كانت جميلة مشاكسة تشعل الجو بالمرح والحماس..
مر الوقت بينهم على هذا الحال يجلس "جبل" مع أطفاله الثلاثة يشعر بالسعادة تغمر حياته تدفع الأبواب بكل قوة تقتحمها بهمجية شديدة لتعوضه عن كل مُر ذاقه تشعره بأنها أتمت رضاءها عنه وعن عائلته جميعها ليبقى هنا بينهم يمرح وكأنه طفل صغير بين أولاده..
تجلس جواره والدته تلاعب الأطفال سعادتها لا تقل عن سعادته بهم شاعرة بأن حياتها القادمة ستكون كاملة الاختلاف يعوضها ابنها بأطفاله عن فقدان العائلة، يتربع حبها لهم في قلبها بكامل الاختلاف ليتمثل أن أعز الولد ولد الولد حقًا..
تركوا "عاصم" و "زينة" يحاربون بعض بالكلمات كما هما يحاول هو الفوز باغاظتها وجعلها تصل إلى ذروة غضبها وهي تحاول أن تغضبه بقولها أنها ستأخذ منه شقيقتها التي أصبح يعشقها حد النخاع وتخطى عشقه له العشق بذاته فلم يجد لحالته وصف وتعبير ليتحدث به..
الآن تغيرت الحياة وتغيرت الدروب..
من أتت إلى جزيرة العامري لتأخذ مستحقاتها، وأظهرت قوتها وحريتها ورفعت شعائر تمردها على الجميع ونظرت إليه بعينان رافضة له ولكل ما يفعل، من سارت خلف الماضي وظلمه في الحاضر وخروجه عن القانون لتسليمه إلى الشرطة ينال حكم الإعدام شنقًا، الآن تربعت على عرشها وأصبحت الجزيرة بكل أملاكها أسفل أقدامها لتبقى سيدة القصر..
من أراد ترويضها وقتل حريتها والتربع على عرش قلبها بالقسوة والعنف لم يجد إلا الحب والغرام يجذبه نحوها لتروضه هي وتخترق أسراره وتجعله بين يديها كالطفل الصغير يبكي بأحضانها وتربت على أحزان قلبه تمحي قسوته وتبدلها بلين وضعف يجتاحه إن تمثل الأمر بها..
من كانت تخاف الإقتراب منه ببراءتها وخجلها الآن زوجته قولًا وفعلًا، الآن أحبته بكل جوارها لتتخلى عن الضعف والخجل تتقدم من الموت في أخطر اللحظات لأجل أن تكون المنقذ له ويبقى لها إلى المنتهى.. الآن تعيش بين يده أسعد اللحظات وتمر بأروع المشاعر ومختلفها لأول مرة على الإطلاق لينسيها خجلها وضعها ويظهر قوتها وقوة عشقها له
فارع الطول، سليط اللسان، من رفع السلاح عليها وارتوى من جمالها، من تخطى عنفه الأفق وتحاكى عنه البشر الآن قتيل حبها، سجين نظرات زرقة عينيها، تيم فيها عشقًا وتخطاه بمراحل لا توصف، متفرغ لرغباتها وتلبية كل ما تريده..
الآن سجينة جبل العامري أصبحت سيدة جزيرة جبل العامري، سيدة قلبه وقصره، سيدة مشاعره، ملكة عشقه ومملكة له تحتويه في كل لحظة ضعف وقوة، الآن محي الخروج عن القانون، القسوة والظلم، العنف والغلظة، الآن محي كل ما هو كريه لا يحتمل لتتبدل أجواء الجزيرة بالهواء النقي الذي ينعش الروح ترتفع بها شعائر الحب والغرام يسودها اللهفة والاشتياق تتغير مراسيل الندم بمراسيل الهوى..
يتغير ولو كان عاصي، راغب العشق والعاشقين الفائز بفرصة النجاة من الغرق في بحر المعاصي والصعود إلى سفينة الخشوع لمقابلة الهوى والاستكانة بين أحضان الغرام والتمتع بجنون ولهفة الاشتياق والشغف..
يتغير ولو كان عاصي، راغب الفوز في حروب أهلية يخرج منها مغتنمًا فرصة الفوز بغنائم شعورية كالجوى والغرام، راغب الفوز بلمسات حنونة لينة كفراشات أنطلقت حرة على ورود مزدهرة فعادت منها إليه تشعره بمدى رقتها وحنانها..
❈-❈-❈
"تمت بحمد الله"
كل خاتمة وانتوا طيبين وبخير وسعادة اتمنى من كل قلبي تكون الرواية عجبتكم وتربعت على قلوبكم، وبجد شكرًا لأي حد كان بيرشحها أو بيرشح أي رواية ليا في العموم أنا كنت بشوف كل ده، قولولي رأيكم فيها بقى بكل حيادية♥️♥️
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا