رواية الحصان والبيدق(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا") الفصل التاسع والعاشر بقلم ناهد خالد
رواية الحصان والبيدق(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا") الفصل التاسع والعاشر بقلم ناهد خالد
الفصل التاسع والعاشر"فتيات بائسات ج١"
الحصان والبيدق
بكِ أحيا 2
ناهد خالد
" البؤس له مظاهر كثيرة وحالات أكثر.. وكلاً منا يرى نفسه بائسًا بشكل مختلف ومن وجهة نظره.. اختلفت المظاهر والأسباب لكن النتائج واحدة، ألا وهي أن البائس يستطعم مرارة البؤس في كل لحظة في يومه.. وفي كل خطوة وقرار في حياته، وكل مشهد في حياته يكن بطعم البؤس"
بداية من الآن، ولعدة فصول متتالية سيكن عنواننا الثابت" فتيات بائسات" لنتناول بعض مشاهد البؤس لبطلات رواياتنا... وفي نهاية هذه الفصول وليس في نهاية بؤسهم.. سيقع اختياركم على بطلة واحدة، ستكن جديرة بلقب" الأكثر بؤسًا"....
بعد مرور اسبوع...
والسبعة ايام كانت كفيلة أن تُحقق اماني البعض، وأن تُقرب منال البعض الآخر....
بسوهاج...
اليوم هو يوم عُرسها...
عُرس مع إيقاف التنفيذ، فأي عُرس هذا لا تمتلك فيهِ العروس تحقيق ابسط طقوسه.. فالفستان الأبيض الذي تتمناه أي فتاة وتحلم بأن ترتديه في يوم كهذا، ليس لها حق في ارتداءه.. بعد أن أعرب زوجها المصون عن رغبته في ارتدائها أي لون آخر يندرج تحت قائمة الالوان ذات اللون الغامق، وباختيار والدتها قُرر أن ترتدي فستان بسيط من اللون البُني الداكن، ليس بهِ تفاصيل تُذكر، سوى انه يضيق من منطقة الصدر لينزل باتساع لنهايته.. وحجاب من نفس اللون تتخلله بعض النقوش الوردية الحمراء البسيطة، كان الأمر اشبه بكونها ذاهبة لحضور حفل زفاف جارتها مثلاً! أو أقل صلة!
تجنبت رؤيته الايام السالفة، ليس غضبًا منها فهي اضعف من أن تنقم عليهِ او تتخذ موقف ضده، ولكن لشعورها بالاختناق من كل شيء حولها، شعورها وكأنها بهيمة تُساق لطريق هي لا ترغب السير بهِ، أو تُجبر على الحركة وهي لا تقدر، رأت مشهدًا من نافذة غرفتها اشعرها وكأنه ينطبق عليها تمامًا.. رأت فلاحًا يجر بهيمته بحبل لُف حول رقبتها كما هو المعتاد، يجذبها بقوة غير آبهًا بحركتها التي يبدو أنها تعاني من مرض ما بقدمها، فلقد كانت متورمة بشكل مُفزع، وظهر تأثر البهيمة بها في حركتها المتعرجة، تخيلت وقتها لو ترك الفلاح الفرصة للبهيمة أن تأخذ حريتها.. بالطبع لكان أول شيء فعلته هو الجلوس ونيل الراحة التي تحتاجها.. ولكن هي مغلوبة على أمرها..
مثلها تمامًا! فهي لو اعطوها بعض الحرية لحددت ميعاد آخر للزفاف، ولقررت استكمال دراستها، ولعاشت حياتها بشكل ابهج! بحرية اكبر.. باستمتاع أكثر... ينقصها الكثير مما يتمتع بهِ من هم في سنها.
ولكن حين تنظر للأمر من جانب آخر.. ترى من هم في سنها واتعس منها.. فلن تذهب بمثالها لبعيد، ستقرنه بمن اهو اقرب اليها.. خديجة.. ابنة خالها، حين خطرت ببالها شعرت انها اتعس منها بكثير.. توفى والديها وهي مازالت في العشرين.. بدءً من والدتها التي تركتها باكرًا، تاركة حِمل رعاية شقيقها ووالدها وامور المنزل فوق عاتقها ولم تكن قد تخطت الثالثة عشر بعد، ووالدها الذي ترك لها كل المسؤوليه حين توفى وهي في عمر السابعة عشر، لتصبح هي الأم والأب لشقيقها ولنفسها، سنوات عاشتها في مرضها النفسي الذي يعلم الله وحده الي أي مدى ارهقها وانهك قواها.. وسنوات اخرى عاشتها تتنقل من بلدة لاخرى، وتعرف اشخاص لتفارقهم في النهاية، وتلك الفترة التي لم تصل اليهم اخبارها بعد وفاة ابيها.. لا احد يعلم كيف قضتها هي وشقيقها، وكيف تحملت اعباء المعيشة، وحين رزقها الله بزوجٍ رآه الجميع انه العوض لها عن شقائها، تكتشف انها خُدعت شر خداع، واقترن اسمها بمن بغضته دومًا وكان سببًا في وفاة شقيقتها... لتتخبط مرة أخرى في دوامة الحياة التي لم ترحمها يومًا..
_ اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته.
تلك الجملة التي رددتها بعد أن وصلت بتفكيرها لما سبق، ومن حينها وهي راضية.. او مستسلمة! لكنها غير مستعدة للتعامل مع احد.. فاكتفت بالانفراد في غرفتها، تتجنب الحديث مع والدتها بالأخص، فهي لا تجني من حديثها معها سوى "حرقة الدم" كما تهمس بها دومًا بعد كل حديث يجمعهما.
وعلى ذِكر والدتها ها هي تقتحم خلوتها وهي تصيح بنزق:
_ ما تيلا يا عروسة، ولا ناسية ان اللية دخلتك.
التفت لها بعد أن اغلقت النافذة وخرجت من شرودها، تجيبها بسخرية واضحة:
_ يلا على ايه! هسوي ايه يا حسرة، ده يدوب هييجي ياخدني من دار لدار.
عقبت بنفس السخرية:
_ اومال انتِ رايدة ايه يا حزينة! مش كفاية انه كتر خيره الراجل جابلك فستان وخلاكِ تروحي تنجي العفش وتفرشي الاوضة على زوجك "زوقك" كمان، رايده ايه تاني عشان ترضي وتبطلي فراغة عين.
فغر فاهها وهي تنظر لها غير مصدقة ما تسمعه، هل أصبح له الفضل في القليل الذي فعله! وماذا عن حقوقها المهدورة والتي هي أكثر بكثير من تلك التفاهات التي نالتها! هزت رأسها مستنكرة وهي تجيبها:
_ فراغة عين! بجى عشان بتكلم في حجي تبجى عيني فارغة!.. لا، لا ياما مش فراغة عين، ده انا متنازلة عن حجوج كتير جوي عشان المركب تمشي، يكش يكون الفستان والعفش الي نجيته هو ده الي ليا! طب والفرح والزفة، والفستان الي بحج وحجيجي الي بتلبسه اي بت في يوم فرحها، انا لا هعمل زفة ولا هلبس فستان كيف الخلج ولا عملت حنة ولا نزلت اشتريت جهازي زي باجي البنات، وحتى العفش الي اختارته يا حسرة، عفش اوضة.. اوضة في دار كاملة مليش اعدل فيها كرسي.. وتجوليلي فراغة عين! ده انا حتى عريسي يجيلي اسبوع مشفتوش ولا بيسأل عليا حتى بالتلفون..
وضعت كفها في خصرها وتمايلت في وقفتها وهي تحدقها بجمود مرددة:
_ مهوش جاعد على جد الحديت وياكِ، جوزك الله يعينه على حاله بعد ما مسك كل حاجة بعد موت خالك، عنده هم ما يتلم، نجوم نعذره ولا ندجج وياه في كلام فارغ.. يحدتك ليه، مانتوا من الليلة هتكون سوا وفي وش بعض ليل نهار.. ولا حكايات البنات واكلة عجلك ورايده تعملي كيفهم!
جعدت ملامحها بضيق وهي تشيح لها بلامبالاة:
_ بجولك ايه ياما.. جفلي على الحديت، الحديت ممنوش عازة.. جولي ريداني اسوي ايه واسويه.
اعتدلت في وقفتها وابتسمت لها باصفرار مرددة:
_ اهو اكده الحديت.. ربنا يكملك بعجلك، يلا جومي عشان تجهزي وتلبسي فستانك.. ابراهيم كلمني وجالي انه نص ساعة وجاي.
سألتها بسخرية خفية:
_ وهو كان فين؟
_ كان بيشرف على عشا الرجاله..
قطبت مابين حاجبيها بعدم فهم تسألها:
_ عشا ايه؟
ابتسمت باتساع وهي تتحدث كأنها تخبرها بأمر سيسعدها!
- فكرك يعني يوم فرحكوا هيعدي اكده عادي! طب ده دابح خمس عجول بحالهم وجامع اهل البلد كلهم جدام بيت خالك وبيعشيهم.. لاجل مالناس كلها تعرف ان الليلة فرحكوا.
ابتسمت بالكاد وهي تعقب:
_ كتر خيره.
_ يلا همي بجى.. لزمن ييجي يلاجيكِ جاهزة ومستنياه.
وقامت بتكاسل اشبه بقيام مريض بعد عام كامل من ملازمته الفراش.. ما يحركنا هو الحماس، والطاقة، وهي تفتقد الاثنان.. وثالثهما الشغف! وسبحان من يبدل حال بحال، فهي نفسها من كانت تنام وتستيقظ على حلم رؤيته او الحديث معه.. من لم تحلم يومًا بأن ينظر لها بنظرة عادية بدلاً من نظراته الساخرة والماقته التي لطالما حدقها بها، اليوم تتزوج منه.. تنتقل للعيش في كنفه.. ولا تملك شغف لفعل هذا! تشعر وكأنها زهدته! فجأة! وتخشى أن يتزايد هذا الشعور بالوقت.. فتزايده سيجعل حياتها بائسه وهي تعلم، رغم ان حبه لم يقل مثقال ذرة في قلبها، ولكن الان فقط بدت تعي ان الحب وحده لا يكفي.. فالحب مقرون باشياء اخرى... كثيرة.
__________
_ مساء الخير ياباشا.
قالها "طارق" بتوتر طفيف، وهو يستقبل "مراد" الذي خرج من الشركة للتو، يستقل سيارته للعودة للمنزل، ليحدقه الآخر بنظرة من جانب عيناه وهو يستقل مقعده في السيارة كانت كفيلة لجعل الأول يشعر بتوتر أكثر، فيبدو أن الأمر ليس على ما يرام بالدرجة التي ظنها..
اغلق باب السيارة خلفه، واستقل هو الآخر مقعده في الامام جوار السائق، وطال الصمت طوال طريق العودة، حتى وصلوا لمنزله الجديد، فترجل "طارق" سريعًا يقوم بمهمته وفتح له باب السيارة متنحيًا جانبًا باحترام.. ترجل "مراد" بهيبته المعتادة وظهره المفرود بحدة تليق بهِ، ووقف محله دون أن يتحرك، ينظر ل"طارق" بجانب عيناه قبل أن تنطق شفتاه القاسيتان:
_ تجبلي اوراقها كلها بكره، وقولها تتعامل عادي اليومين دول لحد ما ابلغك.
رفع نظره متفاجئًا من حديثه، ولمعت عيناه بالأمل وهو يسأله بلهفة:
_ يعني ياباشا وافقت تساعدنا؟
حرك رقبته بكِبر وهو يغمغم:
_ مش عشانكوا.. عشان متستاهلوش.. بس عشان الطفل الي جاي، ملوش ذنب في كل الي هيحصل لو متدخلتش.
ابتسم ابتسامة واسعة بعدم تصديق، واخيرًا رأى مخرجًا لِمَ هو فيه! يعلم أن "مراد" مادام سيساعده سينتهي كل شيء كما يرغب.. بسلام.
_ باشا انا مش عارف اشكرك ازاي والله، انا كنت واثق ان حضرتك مش هتتخلى عني.
جعد انفه المستقيمة باشمئزاز وهو يقول:
_ ايه تتخلى عني دي! هو انتَ مراتي! اظبط يا طارق وبلاش هلفتة كلام، متخلنيش ارجع في كلامي.
رفع كفيهِ باستسلام ومازال ثغره يبتسم بسعادة:
_ اسف ياباشا، هسكت اهو.
تحرك من أمامه وعقله يعيد مشهد الأمس...
بعد أن عاد من الخارج وقد انتهى هو وخديجة من شراء ما يلزمها وما يفيض عن حاجتها ايضًا، كان على اتصال ب "طارق" الذي ما إن وصل للمنزل رآه ينتظره أمام بابه..
توقف بسيارته وهي بجواره تلتقط انفاسها بعد ثلاث ساعات من الشراء.. رغم ان جميع ما اشترته كان من مكان واحد، ولكن ما ارهقها انه اراد رؤية كل قطعة عليها قبل أن يوافق على شرائها، فجعلها ترتدي جميع الملابس التي اشترتها ليقيمها وكأنها بعرض ازياء! وكم كان الأمر محرجًا لها.. لكنه لم يهتم وبالأخير كانت جميع المشتريات مطابقة لِمَ اراد.
_ اتمنى تكوني انبسطي.
انتبهت لجملته التي قالها للتو، لتنظر له بجانب عيناها وهي تجيبه:
_ لا المهم تكون أنتَ انبسط.
التواء طفيف ظهر في جانب فمه يشبه الابتسام، وهو يسألها:
_ هو انا مخرجك عشان انبسط انا؟
_ قول لنفسك.
داعب مقدمة انفه بسبابته وهو يردف:
_ واضح ان الأمور ممشيتش زي ماخطتلها.
تنهدت بهدوء قبل أن تعقب:
_ مش فكرة كده، بس يعني أنتَ اشتريت كل حاجة على مزاجك تقريبًا.
سألها بجدية:
_ كان في حاجة نفسك تشتريها ومجبتيهاش؟
نفت برأسها موضحة:
_ مقولتش كده، بس أنتَ كل حاجة علقت عليها، وكل حاجة اختارها لازم اقيسها الأول... فالموضوع مُرهق.
_ مش لازم نتأكد ان اللبس مناسب! مش يمكن يكون ضيق شوية ولا مش مظبوط عليكِ.
عقبت بعدم اقتناع:
_ ماده لو هشتري طقمين ولا تلاته، لكن.. أنتَ تقريبًا شاريلي فوق العشرين طقم.. ومش عارفة ليه كل ده؟ مانا عندي هدومي مش محتاجة لكل ده!
حاول انتقاء كلماته بعناية وهو يجيبها بحذر:
- خديجة.. لبسك مش مظبوط عليكِ، ومن اول ما اتخطبنا اصلاً وأنا كنت دايمًا بلفت نظرك لده، وكنت من وقت للتاني باصر اجبلك فستان ولا طقم هدية عشان شايف ان فيه كتير عندك مش مناسب، فاعتقد مبقاش في داعي دلوقتي لأي حاجة منهم.
هي تعلم.. ثيابها لم تعد تناسبها البتة، وهذا ليس بجديد، فهي لا تناسبها منذُ مدة، فجسدها قد تغير، نضجت اكثر، وامتلئت بعض المناطق والتي لم تكن على هذا النحو من قبل، وثيابها لم تتغير، فبالتالي باتت ضيقة.. قصيرة قليلاً.. ناهيك عن رثاء بعضها، وشحوب البعض الآخر.. لذا لم تفهم معنى حديثه خطئ بل بالعكس.. فهمت المعنى المقصود من حديثه تمامًا.
هزت رأسها واكتفت بالصمت، لتتوقف عيناها على الواقف بجوار درج الفيلا الخارجي، قطبت ما بين حاجبيها بعدم فهم وهي تسأل:
_ هو مش ده استاذ طارق؟ ايه الي جابه هنا؟
ولم تنتظر ردًا بل ترجلت من السيارة وتبعها "مراد" في صمت، اقترب "طارق" منهما وهو يردد بتحية:
_ مساء الخير..
_ مساء النور.
اجابا بها، لتسبق هي في الحديث متسائلة بفضول لا تستطع كبحه:
_ استاذ طارق هو حضرتك بتعمل ايه هنا؟ وعرفت مكان البيت ازاي؟
تنحنح "طارق" بخفة بعد أن أدرك انها لم تعلم الحقيقة كاملة... او بالأصح لم تعلم تفاصيلها.. ليهتف وهو ينظر ل"مراد" :
_ انا جاي لمراد باشا يا خديجة هانم.
قطبت حاحبيها مرة أخرى باستغراب جلي، ورمشت باهدابها غير مستوعبة صفته للتو، فضلاً عن الارتباك الذي انتابها لدعوها ب" الهانم!"
_ هانم ايه وباشا مين! انا مش فاهمه حاجه!
تبادلا النظرات بينهما لثواني قبل أن يتطوع" مراد" بالحديث وهو يقول مُعرفًا بالأخير:
- طارق حربي.. دراعي اليمين، واكتر حد بعتمد عليه في شغلي.
_ دراعك اليمين!
رددتها مستنكره، وهي تنظر لهما بعدم تصديق، ثم قالت:
_ يعني ايه؟ كل الي حوليا كان كدبه! مفيش مطعم! مفيش مدير!
تولى "طارق" توضيح الأمر وهو يقول:
_ المطعم مِلك الباشا، انا يدوب كنت بأدي دوري.
رمقه "مراد" بنظرة غاضبة جعلته يبتلع باقي حديثه ويشيح بنظره بعيدًا، رآها تنظر له بنظرة لائمة قبل ان تنسحب متجهه للداخل....
_ كان لازم تنسحب من لسانك وتجود!
حاول التبرير وهو يقول:
_ باشا والله....
_ اخرص بقى، استناني في الجنينة على ماصلح الي هببته.
قالها بنزق قبل أن يتبعها للداخل محاولاً اصلاح ما يمكن اصلاحه.. فللتو اصبحت الأمور في طريقها للسير على ما يرام!
_ خديجة استني.
توقفت قبل أن تخطو قدماها باب غرفتها، والتفت له تطالعه بحدة وإنفة، كأنها تخبره بالصمت انها لا تريد الحديث معه.
وقف امامها يقول بهدوء بعد ان التقط انفاسه من صعود الدرج ركضًا:
_ حاسس انك زعلتي وشكلك اتغير!
حركت رأسها ساخرة وهي تقول:
_ حاسس! لا ابدًا هزعل ليه يعني.
قلب شفتيهِ بحركة رتيبة وهو يقول:
_ تمام.. مش حاسس.. اكيد زعلتي، بس ليه يعني! اصل انتِ عرفتي الحقيقة!
اخبرته بنزق:
_ عرفت الحقيقة اه، لكن ماشاء الله كل مدى بكتشف حقيقة جديدة، يعني مكنتش اعرف اني مغفلة وكل الي حوليا كانوا بيشتغلوني.
اوضح لها الأمر:
_ على فكرة محدش كان فاهم حاجه غيري... طارق اشترى المطعم بناءً على رغبتي، وقولتله هتعمل كذا وكذا.. عمل من غير ما يسأل، ومكانش فاهم بعمل كل ده ليه اصلاً...
_وطبعًا الناس الي اشتغلوا معانا كانوا تبعك!
نفى برأسه موضحًا:
_ لا خالص.. كانوا ناس عادية لا يعرفونا ولا نعرفهم.
_ ورنا!؟
رفع منكبيهِ بلامبالاة:
_ ولا نعرفها.
_ عمومًا انا تعبانة وعاوزه ادخل ارتاح شوية.
انهت حديثها والتفت متجهة لداخل الغرفة، لتتوقف حين امسك برسغها وهو يقول:
_ ومين قالك ان دي اوضتك!؟
توقفت ملتفة له، وطالعته بجهل، ليكمل:
_ يعني قررتي ان دي اوضتك بناءً على ايه؟
قلبت شفتيها بلامبالاة:
_ اهي الي جت في وشي، مش هتفرق يعني.
جذبها من رسغها الممسك بهِ لتسير خلفه، وهو يتحرك بها في ممر الغرف الطويل لحد ما، بينما يقول:
_ لا يا حبيبتي هتفرق كتير اوي.... اومال انا عامل اوضتنا لمين؟ عشان اقعد فيها لوحدي!
تسمرت قدميها على باب الغرفة التي توقف امامها، وحاولت جذب رسغها منه وهي تقول:
_ استنى بس.. اصل...اصل مش هينفع.
كبح ضحكته بصعوبة بالغة وهو يرى ذعرها وكأنه يقنع طفل بأن يجرب لعبة مرعبة فبدى خائفًا من الفكرة.. جاحظ العينين ومصفر الوجه كما هي الآن!
_ استنى ايه! في ايه يا حبيبي هو انا واخدك المعتقل!
نفت برأسها وهي تقول بتوتر:
_ لا.. مش قصدي بس.. مش حاسة اني هبقى مرتاحة.
ضحك بخفة وهو يسألها باستنكار:
_ مش مرتاحة! هو أنتِ نسيتِ اننا متجوزين!؟
_ لا بس... حابه اخد وقتي.
اقترب منها الخطوة الفاصلة وعيناه تنضح بمشاعره الفياضة نحوها، وقال بتفهم لحالتها:
_ مش مطلوب منك اي حاجة غير إنك تكوني معايا في نفس الاوضة.. خدي وقتك الي عوزاه زي ما تحبي.. بس جوه، متحلميش اني اسيبك تنامي في اوضة وانا في اوضة! أنتِ متعرفيش انا مستني اللحظة دي من امتى.
وكأنها امسكت بهِ بالجرم المشهود، فاشارت له بسبابتها وهي تردد:
_ شوفت.. شوفت كلامك يقلق ازاي.
ارتدت رأسه للوراء ضاحكًا بصخب فلم يستطع منع ضحكته هذه المرة، وهي تشير اليهِ هكذا كالقطة المذعورة..
هل لها أن تخبره كم أن ضحكته رائعة! بل ساحرة.. لا أنها اجمل ضحكة قد سمعتها على الإطلاق.. ويالجماله وهو مبتسم بشدة هكذا.. حتى ظهرت تلك الحفرة البيضاوية المسماة دراجًا ب "الغمازة" على جانب خده الأيمن، والتي لم تراها سوى مرتان فقط طوال فترة خطوبتهما.. وها هي تراها للمرة الثالثة.
انتبه لتحديقها بهِ ويبدو عليها الشرود، فاكتفى بالابتسام ولم يقاطع شرودها، لأنه لم يرد أن يفعل، فتركها تروح وتغدى بملامحه كما تشاء، حتى استفاقت هي بعدما شعرت ان الصمت قد طال فجأة، لتحرك رأسها بحرج وهي تتململ في وقفتها، وقالت بارتباك:
_ هدخل انا بقى... ايه ده احنا مجبناش الشنط!؟
قالتها فجأة بعدما تذكرت أمر الحقائب التي مازالت في السيارة.. ليخبرها بهدوء متجاهلاً حرجها عمدًا:
_ انا هجبهملك، ادخلي خدي شاور على ما اشوف طارق وارجعلك.
كلماته العادية تربكها! أي تلميح بحقيقة قربه منها يشعرها بالتوتر الزائد.. حركت رأسها بصمت ودلفت للغرفة تلتقط انفاسها الهاربة في حضوره.
في حديقة المنزل...
_ اخلص يا طارق بقالك خمس دقايق بتلف وتدور وانا خُلقي ضيق ومش فاضيلك.
هدر بها "مراد" بحدة بعدما نفذ صبره القصير من مراوغة "طارق" في الحديث، ليبتلع الأخير ريقه بتوتر اكبر وهو يقول:
_ يا باشا مانا بقول لحضرتك اني يعني اتجوزت.
هز رأسه يقول بنفاذ صبر:
_ ماشي وقولتلك مبروك.. فين المشكلة!؟ عاوز مساعدة؟
اومئ متلهفًا وهو يجيبه:
_ ايوه، محتاج مساعدتك.
_ تمام قولي محتاج ايه؟ عاوز فلوس؟
نفى برأسه والتزم الصمت، لينهض "مراد" فجأة وهو يشيح بيده في وجه الذي نهض امامه:
_ لا مانتَ مش هتعملي زي النس*** اسألك وتهز راسك.. ما تخلص ياجدع أنتَ بدل ما اطلع واسيبك.
ابتلع اهانته مضطرًا، ويدعو أن تكن هي كل ما في الأمر فهو اكثر ما يخشاه ما سيحدث تاليًا...
_ باشا انا اتجوزت هاجر.. الي شغالة مع... مع دياب.
جذبه من ياقة قميصه بقوة وقد نفرت عروق رقبته وذراعيهِ وهو يصرخ بهِ..
_ نعم يا روح امك!!!!!
ردد من بين قبضته:
_ باشا اسمعني بس..
هزه بين قبضته وهو يهدر:
_ اسمع ايه يالا! ملقتش غير ال**** ده والي شغالين عنده؟
_ ياباشا والله ما بكيفي.. وسيادتك سيد من يعرف الحب وعمايله، غير اني كنت اعرفها من قبل ما تشتغل عنده لما كانت شغاله مع المنظمه بتخلص حاجات ليهم قبل ما دياب يطلب تكون من رجالته.
ضغط على اسنانه يسحقها بغضب:
_ أنتَ عارف انا بكره الواد ده قد ايه!
حاول التحرر من قبضته وهو يومأ:
_ ايوه عارف.. بس غصب عني والله، لاقتني حبيتها واتجوزتها.. ومش عارف ابعد عنها ولا انهي علاقتي بيها.
لفظه من قبضته بقوة ارتدى على أثرها للوراء محاولاً حفظ توازنه، وهو يلتقط انفاسه ببعض الهدوء..
_ واتنيلت قولتلي دلوقتي ليه؟ ايه كشفوكوا؟ بس لو كشفوكوا مكنتش زمانك واقف قدامي اصلاً.
_ لا، محدش عرف حاجة لسه، بس.. اصلها حامل.
رفع "مراد" حاجبه الأيسر متفاجئًا وساخرًا بالوقت ذاته وأردف بضحكة زائفة:
_ لا وقررتوا تبنوا أسرة وتستقروا كمان! طموحكوا حلو اوي.. عاجبني.
اوضح تفاصيل الأمر وهو يقول:
_ والله ياباشا ماكان في نيتنا.. ومكناش
ناويين نخلف دلوقتي خالص، بس حصل غصب عنا وفجأة، وده خلانا ارتبكنا ومبقتش عارف المفروض اتصرف ازاي.. وهي لازم تبطل شغل عند دياب عشان خطر عليها وعلى اللي في بطنها.
حدقه بجانب عيناه ازدراءً وانهى الحديث قائلاً:
_ مش عملت فيها راجل واتجوزتها وأنتَ عارف المخاطر، لا وحملت كمان.. كمل بقى راجل للآخر واحمي مراتك وابنك بمعرفتك.
_ باشا.. ياباشا اسمعني بس..
قالها "طارق" بصوتٍ عالٍ محاولاً ايقاف "مراد" بعدما اخذ خطواته للداخل غير عابئًا بهِ..
ضرب الارض بقدمه غاضبًا وشد خصلات شعره بكفه بعصبية بعدما شعر بأن ورطته قد زادت للتو..
~عودة~
دلف للفيلا يمرر نظره على الارجاء باحثًا عن قاطنيها لكنه لم يجد أحد.. ولكن جذبه صوت يأتي من أحد الزوايا.. فاتبع الصوت حتى وصل للمطبخ فوجد الصوت منبعث منه بالفعل والذي لم يكن سوى صوت زوجته..
وجدها تجلس على مقعد مرتفع أمام طاولة وُضعت في منتصف المطبخ واسع المساحة، وبيدها سكين وبعض حبات البطاطس تقوم بتقطيعها بوتيرة سريعة، متوترة، وتتحدث!
تتحدث لأحد، بعصبية، ويبدو هذا جليًا على نبرة صوتها الغاضبة وحركت يدها السريعة وهي تقطع البطاطس..
وقف عند مدخل المطبخ، ينظر لها بحاجبين مقطبين بعدم فهم، ولكنه أثر الصمت حتى يفهم حديثها.. وهل هو موجه لأحد أم تتحدث مع ذاتها بصوتٍ عالٍ فقط.
وهي كانت تسمع صوت "سارة" تحدثها في أذنها بإلحاح.. استمر الحديث بينهما طويلاً هذه المرة على غير المعتاد، فهي تتحدث معها منذُ خمس دقائق تقريبًا..
- وهفضل اعمل مش شفياكِ لحد ما تبعدي عني بقى.
- مبقتش حاسه بذنب ناحيتك خلاص، ومعرفش ليه لسه بتظهري.. هو قالي لو اعترفت اني مش مذنبة في حقك هتختفي.
_ علاقتي بيه شيء ميخصكيش.. ومش هسمحلك تتدخلي فيه.
زادت عصبيتها وارتفع صوتها اكثر وهي تهدر بجملتها الأخيرة، وأخذت تتنفس بعدها بسرعة كأنها تكبح غضبها بالكاد... وأخذت تهز قدمها بسرعة مقلقة.. ووجها أصبح عبارة عن كتلة دماء حمراء..
مع وتيرة تقطيعها لقطعة البطاطس المسكينة الواقعة تحت يدها، اخذت تردد بطريقة غريبة ورأسها تتحرك للجانب هذا وذاك:
_ هعيش حياتي، مش هسمحلك تدمري باقي عمري، أنا مش مذنبة، انا مليش ذنب في موتك، أنتِ ملكيش وجود اصلاً.. مش هسمعك.. مش هرد عليكِ.. مش..
قطعت حديثها صارخة بوجع وقد نالت السكين من إصبعها بدلاً من قطعة البطاطس المسكينة! تحت نظرات الصدمة والاندهاش والخوف من الواقف بالقرب منها...
~~~~~~~~ انتهى الفصل ~~~~~~~
الفصل العاشر
الحصان والبيدق
بكِ أحيا 2
ناهد خالد
بعد مرور اسبوع...
والسبعة ايام كانت كفيلة أن تُحقق اماني البعض، وأن تُقرب منال البعض الآخر....
بسوهاج...
اليوم هو يوم عُرسها...
عُرس مع إيقاف التنفيذ، فأي عُرس هذا لا تمتلك فيهِ العروس تحقيق ابسط طقوسه.. فالفستان الأبيض الذي تتمناه أي فتاة وتحلم بأن ترتديه في يوم كهذا، ليس لها حق في ارتداءه.. بعد أن أعرب زوجها المصون عن رغبته في ارتدائها أي لون آخر يندرج تحت قائمة الالوان ذات اللون الغامق، وباختيار والدتها قُرر أن ترتدي فستان بسيط من اللون البُني الداكن، ليس بهِ تفاصيل تُذكر، سوى انه يضيق من منطقة الصدر لينزل باتساع لنهايته.. وحجاب من نفس اللون تتخلله بعض النقوش الوردية الحمراء البسيطة، كان الأمر اشبه بكونها ذاهبة لحضور حفل زفاف جارتها مثلاً! أو أقل صلة!
تجنبت رؤيته الايام السالفة، ليس غضبًا منها فهي اضعف من أن تنقم عليهِ او تتخذ موقف ضده، ولكن لشعورها بالاختناق من كل شيء حولها، شعورها وكأنها بهيمة تُساق لطريق هي لا ترغب السير بهِ، أو تُجبر على الحركة وهي لا تقدر، رأت مشهدًا من نافذة غرفتها اشعرها وكأنه ينطبق عليها تمامًا.. رأت فلاحًا يجر بهيمته بحبل لُف حول رقبتها كما هو المعتاد، يجذبها بقوة غير آبهًا بحركتها التي يبدو أنها تعاني من مرض ما بقدمها، فلقد كانت متورمة بشكل مُفزع، وظهر تأثر البهيمة بها في حركتها المتعرجة، تخيلت وقتها لو ترك الفلاح الفرصة للبهيمة أن تأخذ حريتها.. بالطبع لكان أول شيء فعلته هو الجلوس ونيل الراحة التي تحتاجها.. ولكن هي مغلوبة على أمرها..
مثلها تمامًا! فهي لو اعطوها بعض الحرية لحددت ميعاد آخر للزفاف، ولقررت استكمال دراستها، ولعاشت حياتها بشكل ابهج! بحرية اكبر.. باستمتاع أكثر... ينقصها الكثير مما يتمتع بهِ من هم في سنها.
ولكن حين تنظر للأمر من جانب آخر.. ترى من هم في سنها واتعس منها.. فلن تذهب بمثالها لبعيد، ستقرنه بمن اهو اقرب اليها.. خديجة.. ابنة خالها، حين خطرت ببالها شعرت انها اتعس منها بكثير.. توفى والديها وهي مازالت في العشرين.. بدءً من والدتها التي تركتها باكرًا، تاركة حِمل رعاية شقيقها ووالدها وامور المنزل فوق عاتقها ولم تكن قد تخطت الثالثة عشر بعد، ووالدها الذي ترك لها كل المسؤوليه حين توفى وهي في عمر السابعة عشر، لتصبح هي الأم والأب لشقيقها ولنفسها، سنوات عاشتها في مرضها النفسي الذي يعلم الله وحده الي أي مدى ارهقها وانهك قواها.. وسنوات اخرى عاشتها تتنقل من بلدة لاخرى، وتعرف اشخاص لتفارقهم في النهاية، وتلك الفترة التي لم تصل اليهم اخبارها بعد وفاة ابيها.. لا احد يعلم كيف قضتها هي وشقيقها، وكيف تحملت اعباء المعيشة، وحين رزقها الله بزوجٍ رآه الجميع انه العوض لها عن شقائها، تكتشف انها خُدعت شر خداع، واقترن اسمها بمن بغضته دومًا وكان سببًا في وفاة شقيقتها... لتتخبط مرة أخرى في دوامة الحياة التي لم ترحمها يومًا..
_ اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته.
تلك الجملة التي رددتها بعد أن وصلت بتفكيرها لما سبق، ومن حينها وهي راضية.. او مستسلمة! لكنها غير مستعدة للتعامل مع احد.. فاكتفت بالانفراد في غرفتها، تتجنب الحديث مع والدتها بالأخص، فهي لا تجني من حديثها معها سوى "حرقة الدم" كما تهمس بها دومًا بعد كل حديث يجمعهما.
وعلى ذِكر والدتها ها هي تقتحم خلوتها وهي تصيح بنزق:
_ ما تيلا يا عروسة، ولا ناسية ان اللية دخلتك.
التفت لها بعد أن اغلقت النافذة وخرجت من شرودها، تجيبها بسخرية واضحة:
_ يلا على ايه! هسوي ايه يا حسرة، ده يدوب هييجي ياخدني من دار لدار.
عقبت بنفس السخرية:
_ اومال انتِ رايدة ايه يا حزينة! مش كفاية انه كتر خيره الراجل جابلك فستان وخلاكِ تروحي تنجي العفش وتفرشي الاوضة على زوجك "زوقك" كمان، رايده ايه تاني عشان ترضي وتبطلي فراغة عين.
فغر فاهها وهي تنظر لها غير مصدقة ما تسمعه، هل أصبح له الفضل في القليل الذي فعله! وماذا عن حقوقها المهدورة والتي هي أكثر بكثير من تلك التفاهات التي نالتها! هزت رأسها مستنكرة وهي تجيبها:
_ فراغة عين! بجى عشان بتكلم في حجي تبجى عيني فارغة!.. لا، لا ياما مش فراغة عين، ده انا متنازلة عن حجوج كتير جوي عشان المركب تمشي، يكش يكون الفستان والعفش الي نجيته هو ده الي ليا! طب والفرح والزفة، والفستان الي بحج وحجيجي الي بتلبسه اي بت في يوم فرحها، انا لا هعمل زفة ولا هلبس فستان كيف الخلج ولا عملت حنة ولا نزلت اشتريت جهازي زي باجي البنات، وحتى العفش الي اختارته يا حسرة، عفش اوضة.. اوضة في دار كاملة مليش اعدل فيها كرسي.. وتجوليلي فراغة عين! ده انا حتى عريسي يجيلي اسبوع مشفتوش ولا بيسأل عليا حتى بالتلفون..
وضعت كفها في خصرها وتمايلت في وقفتها وهي تحدقها بجمود مرددة:
_ مهوش جاعد على جد الحديت وياكِ، جوزك الله يعينه على حاله بعد ما مسك كل حاجة بعد موت خالك، عنده هم ما يتلم، نجوم نعذره ولا ندجج وياه في كلام فارغ.. يحدتك ليه، مانتوا من الليلة هتكون سوا وفي وش بعض ليل نهار.. ولا حكايات البنات واكلة عجلك ورايده تعملي كيفهم!
جعدت ملامحها بضيق وهي تشيح لها بلامبالاة:
_ بجولك ايه ياما.. جفلي على الحديت، الحديت ممنوش عازة.. جولي ريداني اسوي ايه واسويه.
اعتدلت في وقفتها وابتسمت لها باصفرار مرددة:
_ اهو اكده الحديت.. ربنا يكملك بعجلك، يلا جومي عشان تجهزي وتلبسي فستانك.. ابراهيم كلمني وجالي انه نص ساعة وجاي.
سألتها بسخرية خفية:
_ وهو كان فين؟
_ كان بيشرف على عشا الرجاله..
قطبت مابين حاجبيها بعدم فهم تسألها:
_ عشا ايه؟
ابتسمت باتساع وهي تتحدث كأنها تخبرها بأمر سيسعدها!
- فكرك يعني يوم فرحكوا هيعدي اكده عادي! طب ده دابح خمس عجول بحالهم وجامع اهل البلد كلهم جدام بيت خالك وبيعشيهم.. لاجل مالناس كلها تعرف ان الليلة فرحكوا.
ابتسمت بالكاد وهي تعقب:
_ كتر خيره.
_ يلا همي بجى.. لزمن ييجي يلاجيكِ جاهزة ومستنياه.
وقامت بتكاسل اشبه بقيام مريض بعد عام كامل من ملازمته الفراش.. ما يحركنا هو الحماس، والطاقة، وهي تفتقد الاثنان.. وثالثهما الشغف! وسبحان من يبدل حال بحال، فهي نفسها من كانت تنام وتستيقظ على حلم رؤيته او الحديث معه.. من لم تحلم يومًا بأن ينظر لها بنظرة عادية بدلاً من نظراته الساخرة والماقته التي لطالما حدقها بها، اليوم تتزوج منه.. تنتقل للعيش في كنفه.. ولا تملك شغف لفعل هذا! تشعر وكأنها زهدته! فجأة! وتخشى أن يتزايد هذا الشعور بالوقت.. فتزايده سيجعل حياتها بائسه وهي تعلم، رغم ان حبه لم يقل مثقال ذرة في قلبها، ولكن الان فقط بدت تعي ان الحب وحده لا يكفي.. فالحب مقرون باشياء اخرى... كثيرة.
__________
_ مساء الخير ياباشا.
قالها "طارق" بتوتر طفيف، وهو يستقبل "مراد" الذي خرج من الشركة للتو، يستقل سيارته للعودة للمنزل، ليحدقه الآخر بنظرة من جانب عيناه وهو يستقل مقعده في السيارة كانت كفيلة لجعل الأول يشعر بتوتر أكثر، فيبدو أن الأمر ليس على ما يرام بالدرجة التي ظنها..
اغلق باب السيارة خلفه، واستقل هو الآخر مقعده في الامام جوار السائق، وطال الصمت طوال طريق العودة، حتى وصلوا لمنزله الجديد، فترجل "طارق" سريعًا يقوم بمهمته وفتح له باب السيارة متنحيًا جانبًا باحترام.. ترجل "مراد" بهيبته المعتادة وظهره المفرود بحدة تليق بهِ، ووقف محله دون أن يتحرك، ينظر ل"طارق" بجانب عيناه قبل أن تنطق شفتاه القاسيتان:
_ تجبلي اوراقها كلها بكره، وقولها تتعامل عادي اليومين دول لحد ما ابلغك.
رفع نظره متفاجئًا من حديثه، ولمعت عيناه بالأمل وهو يسأله بلهفة:
_ يعني ياباشا وافقت تساعدنا؟
حرك رقبته بكِبر وهو يغمغم:
_ مش عشانكوا.. عشان متستاهلوش.. بس عشان الطفل الي جاي، ملوش ذنب في كل الي هيحصل لو متدخلتش.
ابتسم ابتسامة واسعة بعدم تصديق، واخيرًا رأى مخرجًا لِمَ هو فيه! يعلم أن "مراد" مادام سيساعده سينتهي كل شيء كما يرغب.. بسلام.
_ باشا انا مش عارف اشكرك ازاي والله، انا كنت واثق ان حضرتك مش هتتخلى عني.
جعد انفه المستقيمة باشمئزاز وهو يقول:
_ ايه تتخلى عني دي! هو انتَ مراتي! اظبط يا طارق وبلاش هلفتة كلام، متخلنيش ارجع في كلامي.
رفع كفيهِ باستسلام ومازال ثغره يبتسم بسعادة:
_ اسف ياباشا، هسكت اهو.
تحرك من أمامه وعقله يعيد مشهد الأمس...
بعد أن عاد من الخارج وقد انتهى هو وخديجة من شراء ما يلزمها وما يفيض عن حاجتها ايضًا، كان على اتصال ب "طارق" الذي ما إن وصل للمنزل رآه ينتظره أمام بابه..
توقف بسيارته وهي بجواره تلتقط انفاسها بعد ثلاث ساعات من الشراء.. رغم ان جميع ما اشترته كان من مكان واحد، ولكن ما ارهقها انه اراد رؤية كل قطعة عليها قبل أن يوافق على شرائها، فجعلها ترتدي جميع الملابس التي اشترتها ليقيمها وكأنها بعرض ازياء! وكم كان الأمر محرجًا لها.. لكنه لم يهتم وبالأخير كانت جميع المشتريات مطابقة لِمَ اراد.
_ اتمنى تكوني انبسطي.
انتبهت لجملته التي قالها للتو، لتنظر له بجانب عيناها وهي تجيبه:
_ لا المهم تكون أنتَ انبسط.
التواء طفيف ظهر في جانب فمه يشبه الابتسام، وهو يسألها:
_ هو انا مخرجك عشان انبسط انا؟
_ قول لنفسك.
داعب مقدمة انفه بسبابته وهو يردف:
_ واضح ان الأمور ممشيتش زي ماخطتلها.
تنهدت بهدوء قبل أن تعقب:
_ مش فكرة كده، بس يعني أنتَ اشتريت كل حاجة على مزاجك تقريبًا.
سألها بجدية:
_ كان في حاجة نفسك تشتريها ومجبتيهاش؟
نفت برأسها موضحة:
_ مقولتش كده، بس أنتَ كل حاجة علقت عليها، وكل حاجة اختارها لازم اقيسها الأول... فالموضوع مُرهق.
_ مش لازم نتأكد ان اللبس مناسب! مش يمكن يكون ضيق شوية ولا مش مظبوط عليكِ.
عقبت بعدم اقتناع:
_ ماده لو هشتري طقمين ولا تلاته، لكن.. أنتَ تقريبًا شاريلي فوق العشرين طقم.. ومش عارفة ليه كل ده؟ مانا عندي هدومي مش محتاجة لكل ده!
حاول انتقاء كلماته بعناية وهو يجيبها بحذر:
- خديجة.. لبسك مش مظبوط عليكِ، ومن اول ما اتخطبنا اصلاً وأنا كنت دايمًا بلفت نظرك لده، وكنت من وقت للتاني باصر اجبلك فستان ولا طقم هدية عشان شايف ان فيه كتير عندك مش مناسب، فاعتقد مبقاش في داعي دلوقتي لأي حاجة منهم.
هي تعلم.. ثيابها لم تعد تناسبها البتة، وهذا ليس بجديد، فهي لا تناسبها منذُ مدة، فجسدها قد تغير، نضجت اكثر، وامتلئت بعض المناطق والتي لم تكن على هذا النحو من قبل، وثيابها لم تتغير، فبالتالي باتت ضيقة.. قصيرة قليلاً.. ناهيك عن رثاء بعضها، وشحوب البعض الآخر.. لذا لم تفهم معنى حديثه خطئ بل بالعكس.. فهمت المعنى المقصود من حديثه تمامًا.
هزت رأسها واكتفت بالصمت، لتتوقف عيناها على الواقف بجوار درج الفيلا الخارجي، قطبت ما بين حاجبيها بعدم فهم وهي تسأل:
_ هو مش ده استاذ طارق؟ ايه الي جابه هنا؟
ولم تنتظر ردًا بل ترجلت من السيارة وتبعها "مراد" في صمت، اقترب "طارق" منهما وهو يردد بتحية:
_ مساء الخير..
_ مساء النور.
اجابا بها، لتسبق هي في الحديث متسائلة بفضول لا تستطع كبحه:
_ استاذ طارق هو حضرتك بتعمل ايه هنا؟ وعرفت مكان البيت ازاي؟
تنحنح "طارق" بخفة بعد أن أدرك انها لم تعلم الحقيقة كاملة... او بالأصح لم تعلم تفاصيلها.. ليهتف وهو ينظر ل"مراد" :
_ انا جاي لمراد باشا يا خديجة هانم.
قطبت حاحبيها مرة أخرى باستغراب جلي، ورمشت باهدابها غير مستوعبة صفته للتو، فضلاً عن الارتباك الذي انتابها لدعوها ب" الهانم!"
_ هانم ايه وباشا مين! انا مش فاهمه حاجه!
تبادلا النظرات بينهما لثواني قبل أن يتطوع" مراد" بالحديث وهو يقول مُعرفًا بالأخير:
- طارق حربي.. دراعي اليمين، واكتر حد بعتمد عليه في شغلي.
_ دراعك اليمين!
رددتها مستنكره، وهي تنظر لهما بعدم تصديق، ثم قالت:
_ يعني ايه؟ كل الي حوليا كان كدبه! مفيش مطعم! مفيش مدير!
تولى "طارق" توضيح الأمر وهو يقول:
_ المطعم مِلك الباشا، انا يدوب كنت بأدي دوري.
رمقه "مراد" بنظرة غاضبة جعلته يبتلع باقي حديثه ويشيح بنظره بعيدًا، رآها تنظر له بنظرة لائمة قبل ان تنسحب متجهه للداخل....
_ كان لازم تنسحب من لسانك وتجود!
حاول التبرير وهو يقول:
_ باشا والله....
_ اخرص بقى، استناني في الجنينة على ماصلح الي هببته.
قالها بنزق قبل أن يتبعها للداخل محاولاً اصلاح ما يمكن اصلاحه.. فللتو اصبحت الأمور في طريقها للسير على ما يرام!
_ خديجة استني.
توقفت قبل أن تخطو قدماها باب غرفتها، والتفت له تطالعه بحدة وإنفة، كأنها تخبره بالصمت انها لا تريد الحديث معه.
وقف امامها يقول بهدوء بعد ان التقط انفاسه من صعود الدرج ركضًا:
_ حاسس انك زعلتي وشكلك اتغير!
حركت رأسها ساخرة وهي تقول:
_ حاسس! لا ابدًا هزعل ليه يعني.
قلب شفتيهِ بحركة رتيبة وهو يقول:
_ تمام.. مش حاسس.. اكيد زعلتي، بس ليه يعني! اصل انتِ عرفتي الحقيقة!
اخبرته بنزق:
_ عرفت الحقيقة اه، لكن ماشاء الله كل مدى بكتشف حقيقة جديدة، يعني مكنتش اعرف اني مغفلة وكل الي حوليا كانوا بيشتغلوني.
اوضح لها الأمر:
_ على فكرة محدش كان فاهم حاجه غيري... طارق اشترى المطعم بناءً على رغبتي، وقولتله هتعمل كذا وكذا.. عمل من غير ما يسأل، ومكانش فاهم بعمل كل ده ليه اصلاً...
_وطبعًا الناس الي اشتغلوا معانا كانوا تبعك!
نفى برأسه موضحًا:
_ لا خالص.. كانوا ناس عادية لا يعرفونا ولا نعرفهم.
_ ورنا!؟
رفع منكبيهِ بلامبالاة:
_ ولا نعرفها.
_ عمومًا انا تعبانة وعاوزه ادخل ارتاح شوية.
انهت حديثها والتفت متجهة لداخل الغرفة، لتتوقف حين امسك برسغها وهو يقول:
_ ومين قالك ان دي اوضتك!؟
توقفت ملتفة له، وطالعته بجهل، ليكمل:
_ يعني قررتي ان دي اوضتك بناءً على ايه؟
قلبت شفتيها بلامبالاة:
_ اهي الي جت في وشي، مش هتفرق يعني.
جذبها من رسغها الممسك بهِ لتسير خلفه، وهو يتحرك بها في ممر الغرف الطويل لحد ما، بينما يقول:
_ لا يا حبيبتي هتفرق كتير اوي.... اومال انا عامل اوضتنا لمين؟ عشان اقعد فيها لوحدي!
تسمرت قدميها على باب الغرفة التي توقف امامها، وحاولت جذب رسغها منه وهي تقول:
_ استنى بس.. اصل...اصل مش هينفع.
كبح ضحكته بصعوبة بالغة وهو يرى ذعرها وكأنه يقنع طفل بأن يجرب لعبة مرعبة فبدى خائفًا من الفكرة.. جاحظ العينين ومصفر الوجه كما هي الآن!
_ استنى ايه! في ايه يا حبيبي هو انا واخدك المعتقل!
نفت برأسها وهي تقول بتوتر:
_ لا.. مش قصدي بس.. مش حاسة اني هبقى مرتاحة.
ضحك بخفة وهو يسألها باستنكار:
_ مش مرتاحة! هو أنتِ نسيتِ اننا متجوزين!؟
_ لا بس... حابه اخد وقتي.
اقترب منها الخطوة الفاصلة وعيناه تنضح بمشاعره الفياضة نحوها، وقال بتفهم لحالتها:
_ مش مطلوب منك اي حاجة غير إنك تكوني معايا في نفس الاوضة.. خدي وقتك الي عوزاه زي ما تحبي.. بس جوه، متحلميش اني اسيبك تنامي في اوضة وانا في اوضة! أنتِ متعرفيش انا مستني اللحظة دي من امتى.
وكأنها امسكت بهِ بالجرم المشهود، فاشارت له بسبابتها وهي تردد:
_ شوفت.. شوفت كلامك يقلق ازاي.
ارتدت رأسه للوراء ضاحكًا بصخب فلم يستطع منع ضحكته هذه المرة، وهي تشير اليهِ هكذا كالقطة المذعورة..
هل لها أن تخبره كم أن ضحكته رائعة! بل ساحرة.. لا أنها اجمل ضحكة قد سمعتها على الإطلاق.. ويالجماله وهو مبتسم بشدة هكذا.. حتى ظهرت تلك الحفرة البيضاوية المسماة دراجًا ب "الغمازة" على جانب خده الأيمن، والتي لم تراها سوى مرتان فقط طوال فترة خطوبتهما.. وها هي تراها للمرة الثالثة.
انتبه لتحديقها بهِ ويبدو عليها الشرود، فاكتفى بالابتسام ولم يقاطع شرودها، لأنه لم يرد أن يفعل، فتركها تروح وتغدى بملامحه كما تشاء، حتى استفاقت هي بعدما شعرت ان الصمت قد طال فجأة، لتحرك رأسها بحرج وهي تتململ في وقفتها، وقالت بارتباك:
_ هدخل انا بقى... ايه ده احنا مجبناش الشنط!؟
قالتها فجأة بعدما تذكرت أمر الحقائب التي مازالت في السيارة.. ليخبرها بهدوء متجاهلاً حرجها عمدًا:
_ انا هجبهملك، ادخلي خدي شاور على ما اشوف طارق وارجعلك.
كلماته العادية تربكها! أي تلميح بحقيقة قربه منها يشعرها بالتوتر الزائد.. حركت رأسها بصمت ودلفت للغرفة تلتقط انفاسها الهاربة في حضوره.
في حديقة المنزل...
_ اخلص يا طارق بقالك خمس دقايق بتلف وتدور وانا خُلقي ضيق ومش فاضيلك.
هدر بها "مراد" بحدة بعدما نفذ صبره القصير من مراوغة "طارق" في الحديث، ليبتلع الأخير ريقه بتوتر اكبر وهو يقول:
_ يا باشا مانا بقول لحضرتك اني يعني اتجوزت.
هز رأسه يقول بنفاذ صبر:
_ ماشي وقولتلك مبروك.. فين المشكلة!؟ عاوز مساعدة؟
اومئ متلهفًا وهو يجيبه:
_ ايوه، محتاج مساعدتك.
_ تمام قولي محتاج ايه؟ عاوز فلوس؟
نفى برأسه والتزم الصمت، لينهض "مراد" فجأة وهو يشيح بيده في وجه الذي نهض امامه:
_ لا مانتَ مش هتعملي زي النس*** اسألك وتهز راسك.. ما تخلص ياجدع أنتَ بدل ما اطلع واسيبك.
ابتلع اهانته مضطرًا، ويدعو أن تكن هي كل ما في الأمر فهو اكثر ما يخشاه ما سيحدث تاليًا...
_ باشا انا اتجوزت هاجر.. الي شغالة مع... مع دياب.
جذبه من ياقة قميصه بقوة وقد نفرت عروق رقبته وذراعيهِ وهو يصرخ بهِ..
_ نعم يا روح امك!!!!!
~~~~~~~~ انتهى الفصل ~~~~~~~
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول1 من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني2 من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا