القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية الحصان والبيدق(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا") الفصل الأول والثاني بقلم ناهد خالد

 رواية الحصان والبيدق(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا") الفصل الأول والثاني بقلم ناهد خالد 



رواية الحصان والبيدق(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا") الفصل الأول والثاني بقلم ناهد خالد 



المقدمة✨

"الحصان والبيدق"

(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا")


لعبة الشطرنج، هي لعبة عُرفت من قديم الأزل حتى أنها ترجع لعهد الفراعنة، وهي من أكثر الألعاب التي تعتمد على الذكاء، لكي تفز ليس عليكِ سوى أن تتحلى بالكثير من الذكاء،  لتحسب جيدًا كل حركة تقرر فيها تحريك أحد قطعك..


في لعبة الشطرنج هناك الكثير من القطع التي تستعين بها لكي تفوز، وأضعفها هو البيدق أو "الجندي"، وهو أول قطعة يُضحى بها في سبيل انقاذ باقي القطع، وأول قطعة تُقصى من ساحة اللعبة، فالبيدق ما هو إلا كبش فداء لباقي القطع... لذا فهو مُضحى بهِ لا محالة كي تستمر لعبتك..


وعن "الحصان" فهو أكثر أهمية من البيدق بكثير، ولهُ الغلبة، هو أحد القطع القوية التي يتمسك بها اللاعب كي لا يخسرها في بداية لعبه، لأن خسارتها يشكل خطرًا، ولربما يضحي اللاعب بالبيادق جميعها في سبيل نجدة حصان واحد... والحصان هو القطعة الوحيدة التي يمكنها القفز لتتجاوز القطع الأخرى..هل أدركت مدى أهميته؟ 


والآن هل عرفت من هو "البيدق" ومن هو "الحصان"..


إذًا ترى ما علاقتهما بقصتنا؟


العلاقة وطيدة أكثر مما قد يصل إليهِ خيالك..

سنرويها بين سطور قصتنا وستدرك الاجابة بمفردك..

سترى البيدق المُضحى بهِ والأضعف، وسترى الحصان المُضحى من أجلهِ والأقوى..


ومع كل سطر من سطور قصتنا فلتضع سؤال واحد بذهنك، هل من الممكن أن يكن للبيدق الأفضلية ذات مرة ويعلن انتصاره على الحصان؟ أم أن الأمر لا يخضع لقوانين اللعبة...!؟


#الحصان_البيدق

#بكِ_أحيـا2

#ناهد_خالد




#الحصان والبيدق 

تمهــيد  (انتهاء اللعبة.. وبِدء الحرب)


"انتهت لعبة التخفي، والآن دُقت الطبول مُعلنة بدء الحرب، حرب غير عادلة، فالطرفان لا يتساويان لا قوةً ولا ذكاءً ولا مكرًا، ولكن الحرب لا تهتم بتكافؤ الطرفين، هي فقط تبدأ.. لتجلب خلفها الخراب، غير آبهة بالضحايا"


سقطت.. تهاوت جالسة أرضًا وبيدها ذلك المظروف الذي قلب حياتها رأسًا على عقب، لمدة لم تعلمها، ربما ربع ساعة، أو نصف، أو ثلاثة أرباع.. او ساعة كاملة! 

لم تشعر بالوقت، فمن يشعر بهِ هو من ينتظر حدوث شيء، أو ينتظر شخصًا، أو لا يفعل أي شيء فيجلس فقط بملل يراقب عقارب الساعة، وهي ليست أيًا من هؤلاء، بل بالعكس بها الكثير مما يشغلها عن الالتفات للوقت، رأسها يدور كدوران الطاحونة، لا تعرف بما تفكر تحديدًا من كثرة تخاطر الأفكار على عقلها، من زحمة ما تفكر بهِ تاهت ونست الموضوع الرئيسي، اغمضت عيناها بتعب وهي تشعر بصداع شديد يكاد يفتك برأسها، انحنت واسندت رأسها على الأرض، تدور الغرفة بها كدوران الكوكب حول محوره، ابتسامة ساخرة لحد الألم زينت ثغرها وهي تردد بخفوت:


_مراد... مراد.. 


_______________


دلف لمنزله والسعادة تتراقص في مقلتيهِ، يكاد يطير من فوق الأرض من شدة سعادته، اليوم اصبحت له، اصبحت ملكه، اصبحت حرم "مراد وهدان" كما حلمَ دومًا، من اليوم فصاعد لن تبتعد عنه بأي قوة كانت، من اليوم صارت له رغمًا عن أنف الجميع. 


اليوم تحقق حلم طفولته وصباه.. فمن أسعد منه إذًا!؟ 


ولأن السعادة دومًا لا تكتمل وجدها أمامه، "ليلى" والدته التي تنظر له الآن بنظرة لم يعهدها قط، تنظر له باتهام، انكسار، ذهول، ونظرة أخرى خشاها، نظرة وكأنها تجهل هويته! كأنها لا تعرفه... 


نظرات استطاع تفسيرها بوضوح فهي بالأخير في عين والدته! وهو خير من يعلمها ويعرف مغزى نظراتها دون أن تبوح بشيء.. 


وهذا ما جعله يقف أمامها قلقًا ولأول مرة، لم يتحدث فقط انحنى ليكن في مستواها وهو يحاول أن يبتسم قليلاً كي يبدأ في الحديث، لكن الوقت لم يسعفه.. 

فهي لم تتحدث ولم تترك له المجال للحديث، فقط صدح صوت ضربة عنيفة كانت لكفها الذي طبع على وجنته اليسرى بلا مقدمات.. 


دموع محتقنة في عيناها، وذهول تنضح بهِ نظراته، ولمحة عابرة من الانكسار مرت بسحابة عيناه وهو ينظر لها بصمت قاتل... صمت وراءه يقين بأنها عرفت شيء لم يكن عليها معرفته...


___________


صراخ، وعويل، بكاء عالٍ، ولطيم من النساء، وتجمهر من أهل البلدة حول بيت واحد.. ألا وهو بيت "عائلة الدالي" وبالأخص بيت "منصور الدالي"، ركض من هذا وذاك، وبالأخير خروج طبيب بثيابه المعروفة وهو حاني رأسه بآسف ويأس، وبالجوار يقف اثنان أحدهما ضرب كفًا بالآخر وهو يردد بآسى:


_ لا حول ولا قوة الا بالله، الله يرحمك ياحاج منصور. 


والآخر علقَ:


_ كان راجل طيب والله. 


____________


_ أنتٌ مين؟ ابني فين؟؟؟ 


خفتت انفاسه وهو يبتلع ريقه بصعوبة بينما لسانه يسألها:


_ في ايه يا ماما؟ أنتِ ليه بتقولي كده!؟ أنا.. 


دفعة خفيفة من يدها لصدره ارتد على أثرها خطوة واحدة للخلف، لكنه تماسك، وهو يعود جالسًا على ركبتيهِ أمامها، صامدًا قدر المستطاع.. 


_ أنتَ ازاي قدرت تكدب عليَّ كل ده، ازاي قدرت تخدعني بالسهولة دي! هو سؤال واحد وتجاوب عليه يا مراد، ولو كدبت هعرف. 


بلل شفتيهِ بتردد، يعلم أن السؤال لن يعجبه، والاجابة لن تكن سهلة، هل يسمح لها بالسؤال في حين أن شرط الإجابة هو الصدق!؟ 


صرخت بهِ ثانيًة تحثه على الانصياع لرغبتها وهي تردد:


_ رُد! 


هز رأسه بايجاب مجبر، دون حديث، فتهاوت دموعها وهي تسأله بعجز وبداخلها يدعو الله أن تكون الإجابة عكس ما تتوقع:


_ أنتَ قتلت سارة زمان؟ وده السبب في هروب خديجة؟ قتلتها يا مراد؟ رد عليَّ. 


اغمض عيناه بعجز مستشعرًا انهيار قلعته التي ظل يبنيها لسنوات... 


وبنفس اللحظة صدح صوت هاتفه يعلن عن وصول مكالمة من رقم مميز، والذي بالطبع رقمها! وهربًا من والدته لبعض الثواني التي تتيح له الفرصة لمواجهتها لاحقًا.. 


فتح المكالمة متوقعًا أنها تطمئن لوصوله للمنزل، اجلى حنجرته وهو يجيب:


_ ايه يا خديجة؟


وبصوت جامد، بهِ بحة واضحة كانت تهتف:


_ ارجعلي عوزاك... يا مراد. 


والآن انهارت قلعته بحق...



الفصل الأول _ الحصان والبيدق_ بكِ أحيا ج٢

"رأسًا على عقب"

بين ليلة وضحاها يمكن أن تنقلب حياتك رأسًا على عقب، فكن مستعدًا! "


"انتهت لعبة التخفي، والآن دُقت الطبول مُعلنة بدء الحرب، حرب غير عادلة، فالطرفان لا يتساويان لا قوةً ولا ذكاءً ولا مكرًا، ولكن الحرب لا تهتم بتكافؤ الطرفين، هي فقط تبدأ.. لتجلب خلفها الخراب، غير آبهة بالضحايا"


سقطت.. تهاوت جالسة أرضًا وبيدها ذلك المظروف الذي قلب حياتها رأسًا على عقب، لمدة لم تعلمها، ربما ربع ساعة، أو نصف، أو ثلاثة أرباع.. او ساعة كاملة! 

لم تشعر بالوقت، فمن يشعر بهِ هو من ينتظر حدوث شيء، أو ينتظر شخصًا، أو لا يفعل أي شيء فيجلس فقط بملل يراقب عقارب الساعة، وهي ليست أيًا من هؤلاء، بل بالعكس بها الكثير مما يشغلها عن الالتفات للوقت، رأسها يدور كدوران الطاحونة، لا تعرف بما تفكر تحديدًا من كثرة تخاطر الأفكار على عقلها، من زحمة ما تفكر بهِ تاهت ونست الموضوع الرئيسي، اغمضت عيناها بتعب وهي تشعر بصداع شديد يكاد يفتك برأسها، انحنت واسندت رأسها على الأرض، تدور الغرفة بها كدوران الكوكب حول محوره، ابتسامة ساخرة لحد الألم زينت ثغرها وهي تردد بخفوت:


_مراد... مراد.. 


_ خديجة، فينك يا بنتي؟ 


هتفت بها "فريال" التي دلفت الغرفة للتو، لتتوقف مصدومة وهي تبصر "خديجة" الملقاة أرضًا بهذا الوضع، اقتربت منها بسرعة مُستفيقة من صدمتها وقد ظنت انها قد اغشى عليها، لكنها وجدت عيناها مفتحتان فاطمئنت قليلاً وهي تهزها برفق مردفة:


_ فزعتيني يا خديجة الله يسامحك، أنتِ نايمة اكده ليه؟ جومي الأرض ساجعة عليكِ. 


لم تتلقى رد من تلك المتسطحة أرضًا وعيناها لم تتحرك من مكانها، ليبدأ القلق بالتسلل لقلبها من حالتها الغريبة، فهتفت متسائلة بقلق وهي تهزها:


_ وه فيكِ ايه يابت خالي؟ أنتِ زينة ولا مالك؟ خديجة ردي! 


رفعت صوتها في كلمتها الأخيرة، لتستفيق "خديجة" أخيرًا من شرودها الجبري، وتحركت مقلتيها بحركة عشوائية وكأنها تستوعب شيء ما! استقامت جالسة وهي تنظر ل"فريال" بصمت لثواني، تحت نظرات الأخرى المترقبة والجاهلة لِمَ يحدث، ثواني فقط، ووجدت "خديجة" تُصاب بحالة هستيرية غير طبيعية بدأتها تهمهم بكلمات غير مفهومة ثم أخذت دموعها تتهاوى وبعدها صارت تقطع الظرف الذي بيدها بغل واضح وكأنها تخرج غضبها بهِ، حالة لم تراها "فريال" بها من قبل، فاضطربت وتملكها الخوف والقلق وهي تحاول تهدئتها حتى نجحت بعد فترة ليست بقليلة، وكانت فرصتها حين شعرت بهدوء "خديجة" لتسألها فورًا بتأثر:

_ مالك بس ايه الي جرالك؟ مانتي كنتِ زينة والفرحة ممساعيكيش، ايه الي جلب حالك اكده يا خديجة؟ جوليلي يا حبيبتي، ريحي بالي. 


نظرت لها خديجة بمقلتيها التي تلونا بلون احمر قاني، ووجهها الذي شحب فجأة وكأنه لم يكن كالبدر منذُ ساعة فقط! وخرجت نبرتها مبحوحة وهي تقول بكسرة واضحة:


_ فرحتي اتكسرت يا فريال، سعادتي اتحولت لجحيم مش مصدقة إني عيشاه. 


بلغ القلق اقصاه لدى "فريال" التي قالت بملامح تملأها الحيرة والقلق:


_ يا ستار يارب، ليه ايه الي جرا، اتحدتي طوالي وجعتي جلبي! 


بابتسامة ساخرة من حالها ومن قدرها، وبلامبالاة سيطرت على نبرتها:


_ عارفه زين... جوزي.. طلع مش زين، طلع مراد، فكراه يا فريال؟ فاكره مراد الي حكيتلك عنه زمان اول ما بقينا صحاب وقولتلك انه كان اقرب واحد ليا وانا صغيرة، وكان ابن الناس الي ابويا كان شغال عندهم. 


اختفى القلق، وذهبت الحيرة، وأصبحت ملامحها فقط "مذهولة" لا تصدق ما تسمعه، وعبرت عن هذا حين قالت بعدم استيعاب للأمر:


_ بتجولي ايه؟ كيف يعني؟ وعرفتِ كيف؟ ولما عرفتِ مرفضتيش الجوازة ليه... بس أنتِ كنتِ مبسوطة وجت كتب الكتاب! 


رددت الأخيرة بحيرة من الأمر، لتوضح لها "خديجة" وهي تنهض واقفة وجلست فوق الفراش بعجز:


_ معرفتش غير من الظرف الي جالي واستلمتيه، ياريتني فتحته قبل ما اخرج، ياريتني فتحته قبل ما اتجوزه، ياريت مصطفى سابني افتحه..الله يسامحك يا مصطفى، الله يسامحك ياخويا رمتني في العذاب من غير ماتقصد.. 


صرخت بالأخيرة بقهر وهي تضرب ركبتيها بكفيها بعنف، فأسرعت "فريال" تمنعها وهي تهتف بقوة:


_ اهدي، اهدي يا خديجة وبكفياكِ نواح، خلاص الي حوصل حوصل، بس مينفعش تكملي معاه، احنا نكلم باهر ويبعت يجيبه ونواجهه ونخليه يطلجك. 


هزت رأسها مستنكرة، ساخرة وهي تخبرها:


_ ياريتها بالسهولة دي يا فريال، للاسف مش سهلة كده خالص، تفتكري عمل كل ده، وكدب وألف قصص وهمية عنه وعن حياته، ومرمط نفسه في شغل جرسون في مطعم، عشان في الآخر يطلقني! 


قطبت "فريال" حاجبيها بعدم فهم:


_ هو ايه الي يجبره يعمل كل ده يا خديجة؟ ليه مدراكيش بالحجيجة من الاول؟ انا خابرة أن زمان حصل بينكوا حاجات بعدتكوا عن بعض وانه أذاكي كيف ما جولتيلي بس مجولتليش أذاكي كيف ومحباش اعرف مادام مريداش تجولي، لكن أذيته دي هو خابرها زين؟ عشان اكده كدب عليكِ لأنه خابر انه لو جه وعرفك بنفسه هترفضيه؟ 


هزت رأسها إيجابًا وهي تتحدث وقد شردت عيناها بعيدًا:


_ عارف، عارف إني مش هقبل ادخله حياتي تاني، عارف اني مش هسمحله يقرب مني حتى، عشان كده لعبها صح، كدب، وخدعني، وللأسف وقعت في الفخ بسهولة وقدر يخدعني، كنت كتير بشك فيه والله، اوقات كنت بشوف مراد فيه، في لحظة عصبيته بالذات، بس ولا مرة اتأكدت، انا مش عارفة اعمل ايه، أنا تايهه.. و... وخايفة، خايفة اوي يا فريال. 


قالت آخر كلماتها بارتعاش نابع من خوفها الكامن بداخلها، تعلم أنها ستلاقي الجحيم بانواعه في الفترة المقبلة، تعلم أنه لم يفعل كل هذا ليتركه في الأخير يذهب سدى، هو خطط لكل شيء لكي يصل لغايته والتي تجهلها الآن، نعم تجهلها.. فهي لا تعرف لِمَ أصر كل هذا الإصرار للوصول إليها؟ هل هو حب؟ أي حب هذا! إن كان قد أحبها من الأساس، فلقد كان حب في الطفولة، ليس حب عنتر لعبلة، ولا حب قيس لليلى، ولا حب روميو وجوليت الأسطوري! ببساطة لأن هذه قصة واقعية ليس اسطورة ما، أو حتى أصبح الحب كما كان في قديم الزمان، ولأنها لا تعيش في الخيال ولا تعيش في أحد تلك العصور، فهي لا تتوقع أن يكن حبه هو الدافع لكل ما فعله، أيعقل أن يكون الأمر مجرد انتقام؟ انتقام منها عما فعلته في الماضي وهروبها منه؟ ولكن وإن كان هكذا حقًا، فهل يعقل أنه مازال يحمل الضغينة تجاه ما فعلته؟ هل أضاع وقته الثمين وقلل من شأنه لأجل هدف انتقامي تافه لشيء حدث منذ سنوات!؟... وبالأخير توصلت إلي أنها لا تعلم الغاية التي وراء الهدف.. 


_ اهدي أنتِ بترتعشي، انا الحجيجة مخبراش هو ليه عمل اكده، ولا هدفه ايه، بس للأمانه انا كل الي شوفته منه ليكِ حب وخوف واهتمام، ده كان بيتطلعلك بنظرات وكأنه بيتطلع لجوهرة ولا كنز، أنا شوفتها بعيني والعين مبتكدبش، اسمعيه يا خديجة، واجهيه واسمعيه يمكن تلاجي جواب لأسئلتك، ولو ملجتيش ولا ماقتنعتيش بحديته وجتها ندخل باهر ويتصرف. 


وخلف "فريال" ظهرت "سارة" وهي تقول:


_ ايوه يا خديجة كلميه، كلمي المحروس وخليه ييجي، اما نشوف اخرتها معاه... ومعاكِ. 


اذدردت ريقها بتوتر وهي ترى "سارة" أمامها، عادت لتزورها بعد سبعة أشهر غياب! هل عادت هلاوسها مرة أخرى على ذِكر سيرة مراد!؟ 


انتباها الغضب، وتأججت نيران الحقد والتمرد بداخلها، لتنهض باحثة عن هاتفها حتى وجدته، فطلبت نمرته وهي تهز قدمها بلا توقف، وملامحها تتلون بالغضب وعيناها التي غامت سحابتها ببداية شر سيكن سببًا في الخراب، وما إن أتاها الرد حتى قالت بنبرة جامدة قبل أن تنهي المكالمة:


_ ارجعلي، عوزاك. 


_ خديجة اهدي ورتبي هتواجهيه ازاي او هتجوليله ايه، عشان متتهوريش وتخربي الدنيا. 


هذا ما هتفت بهِ "فريال" وهي تحذر "خديجة" من التهور، والتي ارتعش جسدها في هذه اللحظة وهي تدرك أنه سيقف أمامها، ستقف أمام "مراد"، ستواجه ماضيها، ستقف أمام كابوسها الذي لازمها طوال حياتها ولم يتركها حتى الآن، رفعت رأسها تلتقط انفاسها بعمق وهي تعد نفسها لهذه المواجهة... فهي مواجهة حتمية لا فرار منها. 

______ناهد خالد _________


دلف لمنزله والسعادة تتراقص في مقلتيهِ، يكاد يطير من فوق الأرض من شدة سعادته، اليوم اصبحت له، اصبحت ملكه، اصبحت حرم "مراد وهدان" كما حلمَ دومًا، من اليوم فصاعد لن تبتعد عنه بأي قوة كانت، من اليوم صارت له رغمًا عن أنف الجميع. 


اليوم تحقق حلم طفولته وصباه.. فمن أسعد منه إذًا!؟ 


ولأن السعادة دومًا لا تكتمل وجدها أمامه، "ليلى" والدته التي تنظر له الآن بنظرة لم يعهدها قط، تنظر له باتهام، انكسار، ذهول، ونظرة أخرى خشاها، نظرة وكأنها تجهل هويته! كأنها لا تعرفه... 


نظرات استطاع تفسيرها بوضوح فهي بالأخير في عين والدته! وهو خير من يعلمها ويعرف مغزى نظراتها دون أن تبوح بشيء.. 


وهذا ما جعله يقف أمامها قلقًا ولأول مرة، لم يتحدث فقط انحنى ليكن في مستواها وهو يحاول أن يبتسم قليلاً كي يبدأ في الحديث، لكن الوقت لم يسعفه.. 

فهي لم تتحدث ولم تترك له المجال للحديث، فقط صدح صوت ضربة عنيفة كانت لكفها الذي طبع على وجنته اليسرى بلا مقدمات.. 


دموع محتقنة في عيناها، وذهول تنضح بهِ نظراته، ولمحة عابرة من الانكسار مرت بسحابة عيناه وهو ينظر لها بصمت قاتل... صمت وراءه يقين بأنها عرفت شيء لم يكن عليها معرفته...


___________


بسوهاج... 


صراخ، وعويل، بكاء عالٍ، ولطيم من النساء، وتجمهر من أهل البلدة حول بيت واحد.. ألا وهو بيت "آل الدالي" وبالأخص بيت "منصور الدالي"، ركض من هذا وذاك، وبالأخير خروج طبيب بثيابه المعروفة وهو حاني رأسه بآسف ويأس، وبالجوار يقف اثنان أحدهما ضرب كفًا بالآخر وهو يردد بآسى:


_ لا حول ولا قوة الا بالله، الله يرحمك ياحاج منصور. 


والآخر علقَ:


_ كان راجل طيب والله. 


وبالداخل... 


أخذت تضرب وجنتيها بكفيها وصراخها يصدح عاليًا، فيكسر سكون الليل ويسمعه أهل البلدة بأكملها. 

ومن بين ولولتها ونحيبها كانت تردف ببعض الجمل التي تثير التأثر في نفس السامعين:


_ فوتني لمين ياخوي، فوتني لحالي يا منصور، ده انا مليش غيرك ياخوي، لسه بدري يا منصور... عيالك لسه محتاجينك ياخوي... 


_ بكفياكِ ياعمتي... بكفياكِ نواح عاد. 


هدر بها "ابراهيم" وهو يخرج من أحد الغرف والتي وُضع بها "منصور" لحين انتهاء اجراءات الدفن. 


نظرت له من بين دموعها وهي تقول:


_ كلم اخوك يا إبراهيم، خليه ييجي يلحج ابوه يشوفه ويملي عينه منه جبل ما يروح لمسواه الأخير. 


اغمض عيناه بتعب وتنهد بقوة مردفًا بعدها:


_ هكلمه يا عمتي، وهندفن الصبح على مايلحج ييجي. 


انهى حديثه وهو يخرج هاتفه ويجري مكالمة هاتفية ب "باهر".. 


____________


نظراته المنكسرة بعد صفعتها له أصابت قلبها بغصة مريرة، لكنها مرغمة أن تظهر العكس، فهتفت بجمود:


_ أنتٌ مين؟ ابني فين؟؟؟ 


خفتت انفاسه وهو يبتلع ريقه بصعوبة بينما لسانه يسألها:


_ في ايه يا ماما؟ أنتِ ليه بتقولي كده!؟ أنا.. 


دفعة خفيفة من يدها لصدره ارتد على أثرها خطوة واحدة للخلف، لكنه تماسك، وهو يعود جالسًا على ركبتيهِ أمامها، صامدًا قدر المستطاع.. 


_ أنتَ ازاي قدرت تكدب عليَّ كل ده، ازاي قدرت تخدعني بالسهولة دي! هو سؤال واحد وتجاوب عليه يا مراد، ولو كدبت هعرف. 


بلل شفتيهِ بتردد، يعلم أن السؤال لن يعجبه، والاجابة لن تكن سهلة، هل يسمح لها بالسؤال في حين أن شرط الإجابة هو الصدق!؟ 


صرخت بهِ ثانيًة تحثه على الانصياع لرغبتها وهي تردد:


_ رُد! 


هز رأسه بايجاب مجبر، دون حديث، فتهاوت دموعها وهي تسأله بعجز وبداخلها يدعو الله أن تكون الإجابة عكس ما تتوقع:


_ أنتَ قتلت سارة زمان؟ وده السبب في هروب خديجة؟ قتلتها يا مراد؟ رد عليَّ. 


اغمض عيناه بعجز مستشعرًا انهيار قلعته التي ظل يبنيها لسنوات... 


وبنفس اللحظة صدح صوت هاتفه يعلن عن وصول مكالمة من رقم مميز، والذي بالطبع رقمها! وهربًا من والدته لبعض الثواني التي تتيح له الفرصة لمواجهتها لاحقًا.. 


فتح المكالمة متوقعًا أنها تطمئن لوصوله للمنزل، اجلى حنجرته وهو يجيب:


_ ايه يا خديجة؟


وبصوت جامد، بهِ بحة واضحة كانت تهتف:


_ ارجعلي عوزاك... يا مراد. 


والآن انهارت قلعته بحق... فها قد علمت "خديجة" الحقيقة التي ظلَ لأكثر من عامين يحجبها عنها، يفعل كل شيء في سبيل عدم معرفتها بها، أهذا يوم معرفة الحقائق!؟ والآن وقف حائرًا بين والدته وزوجته، أيبقى ليواجه والدته ويوضح لها موقفه؟ أم يذهب ليخوض الحرب الأخرى تاركًا حرب دائرة هُنا؟ ولكن لن يستطيع ترك والدته بحالتها هذه لحين عودته التي يعلم بأنها ستطول، لذا عاد لوالدته وهو يقف أمامها مرددًا بقوته المعهودة كأن شيئًا لم يحدث :


_ ناوية تسمعيني واوضحلك كل حاجة ولا أصدرتِ حكمك وقفلتِ ودانك على الي سمعتيه خلاص!؟ 


وكأي أم تتمنى أن تكن مخطئة، تتمنى ألا يكون الأمر كما عرفته ليهدأ قلبها، ولا تشعر بأن عمرها ضاع سدى، فأومأت برأسها تعطيه الأذن للحديث،و بداخلها يدعو ألا تندم على هذه الفرصة. 


سردَ لها كل تفصيلة حدثت في مقتل "سارة"، أصبحت الآن تعلم كل شيء حتى ذهاب خديجة بلا عودة، وأكمل:


_ أنا كنت عيل، مكنتش اعرف اني كده بموتها، كنت فاكر اني هخوفها شوية وخلاص لكن مش هتموت، اتصدمت لما لقيتها وقعت ومفيش نفس، وعقلي هداني اني لازم اتصرف قبل ماحد يكتشف اني السبب. 


باحداث القصة التي حكاها لا يقع عليه لوم، فهو بالأخير كما يقول مجرد طفل لم يفقه حينها خطورة فعلته، لكن خطر بعقلها سؤال القته فورًا بقلق:


_ وازاي طفل زيك ييجي في باله وقتها أنه يداري على جريمته كده؟ 


وبهدوء وحِنكة يُحسد عليها أجاب:


_ عشان كنت بشوف افلام كتير اكشن وجريمة فعقلي اكتسب منها الأفكار، اكيد كل الي عملته مجاش من دماغي. 


هدأت.. رغم كونه لم ينكر قتله للفتاة، لكنه لم يقصد قتلها أبدًا وهذا يكفيها، أخذت نفسًا عميقًا وهو يتابعها باطمئنان تسلل إليهِ فيبدو أنه اقنعها بنجاح، نظرت له باتهام مرة أخرى وهي تقول بتهكم صريح:


_ صح كنت هنسى، مبروك يا عريس، مش كنت تقولي حتى ده انا كنت افرحلك. 


قطب حاجبيهِ مستفهمًا وقد شعر بشيء يتمنى أن يخطأ:


_ مين الي قالك؟ 


هدرت بهِ بضيق وغضب:


_ ده الي يهمك؟ مين الي قالي، عرفت زي ماعرفت، بتتجوز من ورايا يا مراد، ومنيمني وعمال تقولي لسه بحاول اكسبها ولسه بحاول اتنيل، ليه؟ تتجوز من ورايا ليه؟ هو انا ابوك! ده ابوك الي كان معارض وجودها في حياتك عرف بجوازك قبلي! لكن انا الي مكنتش معارضة جوازك معرفتش، ليه؟ 


إذًا "حسن" صار على عِلم؟ لن يحتاج لتفكير ليعلم هوية من أخبر والدته بزواجه، ومن أخبر زوجته بحقيقته.. يبدو أن والده شنَ الحرب مبكرًا! 


_ مقولتش لأن أموري مش مستقرة معاها خالص، أنا وخديجة بعد الي حصل في موضوع سارة الدنيا اتعقدت بينا، انا لسه قايلك انها هربت من هنا بسببي وبسبب خوفها مني، عشان كده لما رجعت اشوفها مكنش ينفع تعرف حقيقتي، لو كانت عرفت اني مراد عمرها ما كانت هتبص في وشي حتى، كانت هتسد كل الطرق الي ممكن توصل بينا، عشان كده محبتش اقولها، واضطريت اكدب واعرفها بهوية غير هويتي، كنت هقولك ازاي بقى؟ اكيد كنتِ هتطلبي تكوني موجودة، كنتِ هتكوني موجودة يعني كان لازم افهمك الحكاية عشان متغلطيش وتعرف إني مراد، وعشان اعرفك اني عامل عليها الحوار ده كنتِ هتستغربي ليه اعمل كل ده، وليه مقولهاش اني مراد صديق طفولتها، وده كان هيجبرني اعرفك بكل الي عرفتيه دلوقتي. 


سألته بعتاب واضح:


_ وليه يا مراد متعرفنيش؟ ليه اصلاً خبيت كل الي حصل في قلبك طول السنين دي؟ ازاي لما ده حصل مجرتش عليَّ وحكيتلي؟ قدرت تخبي عليَّ ازاي؟ 


زفر أنفاسه بقوة وهو يهز رأسه يائسًا:


_ مكانش سهل ابدًا، مكانش ينفع اجي اقولك أنا قتلت سارة، حتى لو من غير قصد، افهميني يا ماما الموضوع كان أكبر مني، مقدرتش اواجهك بيه، وده الي خلاني اكدب واحور، لكن عمومًا خديجة عرفت كل حاجة خلاص. 


قطبت حاجبيها بعدم فهم وهي تسأله:


_ عرفت انك مراد؟ اومال هي كانت فاكرة ايه؟ 


- أنا عرفت نفسي لخديجي بأن اسمي زين، شغال معاها في المطعم واهلي كلهم متوفيين، وطول فترة خطوبتنا كانت فاكرة كده، لحد النهاردة بس.. اكتشفت كل حاجة وعرفت حقيقتي. 


_ يعني مكتبتوش الكتاب؟ 


_ لا كتبنا. 


اصابتها الحيرة وهي تسأله:


_ هي عرفت قبل كتب الكتاب؟ 


اجابها بهدوء:


_ لا بعده. 


اتسعت عيناها بحذر وهي تسأله:


_ أنتَ قصدك انك كتب كتابها وهي فاهمة إنك زين؟ 


اومأ برأسه ايجابًا، لتشهق بصدمة ومن ثم قالت بذعر:


_ أنتَ ازاي تعمل كده؟ كده جوازك منها باطل، أنتَ متجوزها بهوية مزيفة. 


اخبرها بجهل:


_ لا مش باطل، أنا كاتب في القسيمة اسمي الحقيقي. 


_ بس هي موافقة على انك زين مش على شخصيتك الحقيقة، يعني مينفعش، كتب كتابك ده باطل ولا كأنك اتجوزتها اصلاً، لازم ترجع تكتبه من تاني بعد ماعرفت حقيقتك. 


لم يلقي لحديثها بالاً وردد بلامبالاة:


_ تمام، انا همشي بقى عشان في حوار كده هخلصه وارجع. 


امسكت بذراعه ترجوه بعينيها ونبرتها المنكسرة:


_ وحياتي عندك ما تكسرني بيك في يوم، متخليش ييجي اليوم الي احس فيه اني ضيعت عمري على الفاضي وفشلت في تربيتك زي مانا عاوزه. 


انحنى لمستواها وقبل رأسها وهو يخبرها بابتسامة صغيرة:


_ عمره ما هييجي اليوم ده، متقلقيش. 


وثقته كانت نابعة من عدم وصول أي خبر عن حياته المظلمة لها، وليست نابعة من استقامته وحُسن تربيته واخلاقة العالية...! 


_____________


كان قد وصل شقته للتو بعدما مرَ على المستشفى التي يعمل بها ليُنجز عملاً ما، شقته التي يسودها الظلام عدا انارة بسيطة تأتي من غرفته، والصمت سيد المكان، جلس فوق الفراش واحنى رأسه بحزن وهم، لن ينكر انه شعر بحدته المبالغة مع "جاسمين" وانه قسى عليها بعض الشيء، لكن الله يشهد أنه تعبَ، الله يشهد أنه لم يعد يحتمل ما تفعله بهِ، لكل انسان منا طاقة، وحين تنفذ يكن الأمر خارج عن سيطرتنا، زفر انفاسه بقوة مهمومًا، يشعر بضيق جم في صدره، انتبه لرنين هاتفه فالتقطه ليجد المتصل "ابراهيم" عجبًا! لم يفعلها من قبل ولو مرة، ما المصيبة التي حدثت ليطلبه! دق قلبه بالقلق وهو يفتح المكالمة و بدون مقدمات قال:


_ خير يا ابرهيم ايه الي حصل؟ 


وجاءه الخبر الذي قسمَ قلبه لنصفين، واحنى ظهره رغم شبابه، خبر فقدان السند، والده.. الذي ذهب فجأة بلا مقدمات. 


___________


وصلَ أخيرًا لشقتها، رغم عدم طول المسافة إلا أنه شعر وكأنه سافر من مصر للصين مثلاً، وهكذا حال الإنسان حين يتعجل شيئًا او لا يستطيع الانتظار لأمر ما، وهو كان يود أن يراها بأسرع وقت، لأنه لا يعلم حالتها الان، لا يعلم هل هي منهارة؟هل هي في صدمة؟ لا يعلم... فأراد أن يصل بأقصى سرعة ليطمئن.. 


ورسم سيناريوهات كثيرة برأسه، ولم يحدث أيًا منها، فتعجب حين فتحت له "فريال" الباب وأبصرها جالسة فوق الكرسي المتهالك الموجود بالصالة، بملامح هادئة، جامدة، لم يجد ما توقعه من ثورة، ورفض لوجوده، وصراخ، وغيره.. فقط تنتظره! 


هل هذا من المفترض أن يُطمئنه؟ أم يثير رعبه؟ 


أبصر "فريال" وقد دلفت للغرفة مغلقة الباب خلفها بلا حديث، يبدو أنهما على اتفاق سابق، وقف على بُعد مناسب منها، والصمت ساد، والعيون تحدثت لدقائق قليلة... 

ظهر في عينيهِ القلق، والاضطراب، والرجاء الخفي، والحب، والوله بها، والقوة ... وعجبًا أن تتتابع كل هذه المشاعر على عينيهِ وتظهر بكل هذا الصدق. 


وظهر في عينيها الجمود، العتاب، والحسرة، والندم، ووميض من الخوف الذي يسكن في الخلفية، ولا عجب في ظهور كل هذه المشاعر في عينيها.. لأنها غير متناقضة. 


_ خديجة اسمعيني الأول لو سمحتِ. 


قالها بعدما قرر كسر الصمت المقيت، لتنهض واقفة أمامه بوجهها الشاحب المنافي تمامًا لملامحها قبل أن يذهب، والكحل الذي سال حول عينيها ملطخًا مكانهما، ومقلتيها قانيتان الحمرة، وقالت بنبرة مبحوحة ونظراتها تقتله:


_ زمان سبتلك البلد كلها وهربت، بس معرفتش اهرب منك، كنت بشوفك كل يوم، وانا نايمة بحلم بيك بتنتقم مني على هروبي منك، وأنا صاحية بتخيل انك ممكن تلاقيني والاقيك قدامي في أي لحظة، وفي الحالتين كنت بموت من الخوف والقلق، وبعد كل ده صعب عليك تسبني في حالي؟ عملت كل الي عملته وكدبت عليَّ سنتين كاملين وظهرتلي بشخصية تانية عشان ايه؟ ايه هدفك؟ ليه مسبتنيش في حالي وسبتني احاول اعيش وانسى الي حصل زمان؟ ازاي قدرت تتجوزني بالكدب والخداع؟


صمتت ليأتي دوره في الحديث، وقد شعر بثقل الأمر أكثر بعد أن أخبرته بكونه كان كابوسها في النوم واليقظة، يبدو أن هناك الكثير من الخفايا التي سيُصدم بها لاحقًا! فيما يخص كونه السيء في روايتها.. 


وبكل صدق كان يجيبها:


_ عشان بحبك، عشان مقدرتش اعيش من غيرك.. الطفل الي سبتيه وهو عنده ١٣ سنة وفكرتي انه هينساكِ مع الوقت ويقدر يعيش من غيرك بعد ما كنتِ أهم حاجة في حياته، للأسف منسيش، ومعاش من بعدك، أو عاش.. بس عاش عشان يلاقيكِ، عمل كل حاجة عشان يقف قدامك في يوم وقلبه يرجع يطمن بوجودك، أنا فضلت ١٠ سنين ادور عليكي لحد ما لقيتك،  كدبت عليكِ ووهمتك إني شخص تاني عشان كنت عارف إنك مش هتقبلي بوجودي في حياتك، أي حاجة عملتها مكانتش نيتي فيها شر ابدًا، أنتِ لو تعرفي حبي ليكِ هتقدري ومش هتحتاجي تبرير لأي موقف صدر مني. 


لوت فمها ساخرة، وهي تقبض على كفها الذي يرتعش بقوة، كلما جاء بعقلها ان الواقف أمامها هو "مراد" وليس "زين"، مراد وحشها المخيف، وزين حبيبها وأمانها، ضغطت على نواجزها وهي تخبره:


_ عمومًا.. كلامك مش هيفرق معايا، هي خلصت، مفيش حاجه بينا هتكمل. 


كان يتوقع بالطبع! لذا هتف بهدوء حذِر:


_ وجوازنا؟ 


بنبرة ساخرة رغم مرارة العلقم التي بحلقها قالت:


_ جوازنا! جواز ايه وأنتَ مطلعتش زين، أنا اتجوزت زين، شخصية وهمية مش موجودة، يعني ولا كأني اتجوزت. 


ابتسم ثغره بمكر وهو يخبرها بقنبلته المدوية:


_ بس القسيمة مفيهاش اسم زين الوهمي، القسيمة كل بياناتها صحيحة، خديجة محمود الدالي... و مراد حسن منصور وهدان.. يبقى في جواز ولا!؟ 


وكأنها سقطت من الدور السابع عشر، فكانت السقطة اشبه بسقطتها على الكرسي خلفها، وهي تردد بفاه فاغر وانفاس ذاهبة:


_ يخربيت أبوك..!!! 


#يتبع


الفصل الثاني "فقيد غالي"

الحصان والبيدق

بكِ أحيا 2

"الموت دومًا يفاجئنا، يأتي بلا سابق انذار ليخطف من بيننا شخصًا ظننا أنه باقٍ لبعض الوقت بعد، وللعجب اغلب الوقت لا يختار سوى الطيبين، الذين مازلنا نحتاج إليهم، فنقف عاجزين أمام قدر الله، ينفطر قلبنا حزنًا، وتجف عينانا من البكاء، وننكوي بنيران الفراق، يلهمنا الله نعمة النسيان، ولكن تزورنا الذكريات من وقت لآخر لتأخذ منا ما تأخذ.. "


انتهت مراسم الدفن، ووقف أمام قبر والده بملامح جامدة، عيناه تحكي الكثير لكنه صامت، شريط ذكرياته مع والده يمر أمامهما ليرى كل موقف جمعه بهِ يومًا، وأكثر ما يحزنه أنه مؤخرًا لم يكن بأحسن حال معه، كانت خلافتهما كثيرة، منذُ واقعة حكايته هو وخديجة ولم تعد علاقته بوالده كسابق عهدها، ويكفي أنه لم يكن يراه سوى مرة واحده كل ستة أشهر تقريبًا، ليأخذه الموت فجأة قبل أن يراه منذُ أخر مرة والتي كانت من سبعة أشهر، ولسخرية القدر انه بالأمس كان يفكر أن يقوم بزيارة سريعة بنهاية الأسبوع، زيارة عُجلت بخبر غير سار بالمرة، انتبه لكف "إبراهيم" الذي وُضع فوق كتفه ليلتف له، فسمعه يقول:


_  هِم بينا يا باهر، ملهاش عازة الوجفة دي. 


قطب ما بين حاجبيهِ وهو ينظر له بتفحص وأردف متسائلاً:


_ چرا ايه يا ابراهيم، كأن الميت مش بوك! 


قطب "ابراهيم" ما بين حاجبيهِ هو الآخر ولكن بضيق وأجابه:


_ وه! مش بوي كيف يعني؟ 


احتدت ملامح "باهر" وهو يقول:


_ يعني مشوفتش حزنك، ولا حتى فكرت توجف جدام جبره "قبره" تجراله الفاتحه ولا تدعيله! 


رفع جانب شفته العليا ساخرًا وقال:


_ الحزن في الجلب يا وِلد ابوي، مش لازمن الناس كلها تشوف حزني عشان اكون حزين، وان كان على جراية الفاتحة، جرتها في سري..


انهى جملته والتف راحلاً، وقد قرر تركه فليقف هو ينعي والده كما يحب. 


التفت "باهر" ونظر لقبر والده بنظرات حزينة قائلاً:


_ واضح إن قسوة قلبه مش بس على الحريم زي ما كنت دايمًا تقولي، قسوة قلبه طبع فيه حتى على أقرب الناس له. 


ظل واقفًا لبعض الوقت ينعي والده احيانًا، ويدعو له احيانًا أخرى، وبين هذا وذاك تفيض عيناه بدمع الحزن، ويصرخ قلبه شوقًا للغائب من الآن. 


___________


في بيت "منصور وهدان" 


اجتمع النساء بساحة المنزل، ومن بينهن العمة وابنتها وابنة شقيقها التي لم تدلف لهذه البلد منذُ سنوات، لكنها اضطرت ان تفعلها حين أتاها خبر وفاة عمها، أتت مع ابنة عمتها لاحقين بباهر الذي شق طريقه قبل وصول الخبر إليهما، رفعت عيناها تتابع افعال عمتها بصمت التي لم تكف عن النواح، لم يخيل عليها كل ما تفعله، تشعر أنها تصطنع الحزن وبداخلها الله وحده هو العليم بهِ، لكنها تعلم جيدًا أن عمتها لا تحزن على أحد، ولا تهتم لأحد، فإن كانت ابنتها نفسها لا تفرق معها سيشكل آخر الفارق! اشاحت بنظرها جانبًا لتجد نظرات "فريال" المتورمة عيناها من البكاء تتابعها، فسألتها باستغراب:

_بتبصيلي كده ليه؟ 


وبصوت مبحوح كانت تجيبها بخفوت:

_ مش ناوية تكلميها، أنتِ حتى مفكرتيش تعزيها. 


قلبت عيناها بعدم رضا واجابت:

_اعزيها في مين؟ هو الي مات مش خالي برضو! 


هزت "فريال" رأسها بحزن جم:

_مش واضح يا خديجة، شكلك مش فكراله حاجه حلوة عملها معاكِ، كأنك قاعدة في عزا حد غريب! 


وبجفاء كانت تجيب:

_ لا فاكرة، وربنا يعلم اني زعلانه عليه، بس اعتقد برضو عشر سنين بُعد كفيلة تغير في العلاقة، بس ده ميمنعش اني بجد زعلانه عليه، بس يمكن همي ووكستي مخلياني مش حاسه بحاجة اصلاً. 


رددتها بسخرية وهي تعود بنظرها للأمام مرة أخرى، فاشفقت عليها "فريال" التي وضعت كفها على كتف الأخرى تواسيها وهي تقول:

_ هو جه معانا ليه؟ 


تنهدت بخنقة وهي تجيبها:

_ على أساس إنك محضرتيش الخناقة الي حصلت. 


صمتت "فريال" وهي تتذكر كم تجادلت معه لكي لا يأتي معهما، ولكن كل محاولاتها باءت بالفشل وهو يعلن انتصاره رغمًا عنها. 


أما "خديجة" فنظرت أمامها بشرود وهي تتذكر آخر جدالهما والذي لم تحصد منه نتيجة.. 

********

بعدما تلقت صدمة صحة اوراق الزواج، ظلت لثواني صامتة بصدمة لم تستطع تجاوزها إلا بعد بعض الوقت، وحين بدأت تستوعب الصدمة كان أول ما قالته:


_ بس كده جواز باطل، أنتَ اتجوزتني باسم غير الي أنا وافقت عليه، مش مهم يكون الورق سليم، أنا وأنتَ عارفين انك لعبت عليَّ واتجوزتني بالخداع. 


اقترب خطوتان ليصبح أقرب منها وأردف بابتسامة متكاسلة:

_ بالضبط، أنا وأنتِ عارفين.. 


اتسعت عيناها بذهول وهي تسأله:

_ قصدك ايه؟ قصدك إنك هتمشي الموضوع عشان ميعرفوش غيرنا! 


اومأ بصمت، لتهز رأسها عدة مرات نافية بعدم تصديق وهي تخبره:

_وربنا؟ ربنا الي شايفنا وعارف انه جواز باطل! 


قطب ما بين حاجبيهِ بعدم اهتمام لحديثها وهو يسألها بهدوء بارد:

_ وايه الحل؟ 


نهضت واقفة في مواجهته وقالت بملامح صارمة ونبرة لا تقبل التراجع:

_ عاوزه اطلق، احنا استحالة نكمل مع بعض، الي اتبنى على كدبة عمره ما هيستمر.


رفع حاجبيهِ ضاحكًا بسخرية وهو يقول:

_ اطلقك؟ واضح ان الحقيقة أثرت على دماغك، ببساطة أنا معملتش كل ده عشان في الآخر اطلقك! إنك تلمسي السحاب بإيدك أقربلك من الطلاق...


ارتفع صوتها ونفرت عروق وجهها وهي تصرخ بهِ بغضب تملك كل ذرة بها:

_أنا مستحيل افضل على ذمتك، ولو أنتَ مش خايف من ربنا بجوازنا الباطل ده، أنا خايفة منه ولو عملت ايه مش هكمل في حكاية خايبة زي دي، وصحيح أنتَ هتخاف من ربنا ازاي وأنتَ قتال قتلة. 


الصوت العالي يثير غضبه ويستفزه لدرجة بالطبع هي لا تعرفها، لذا هدأ من انفعالاته بالكاد وهو يبتسم باقتضاب قائلاً بنبرة ساخرة سرعًا ما تحولت للجدية واختفت ابتسامته:

_قتال قتلة! ده عشان جريمة حصلت زمان وانا لسه عيل ١٣ سنة! بتحاسبيني على ايه أنتِ؟ لا بجد بتحاسبيني ازاي على حاجه انا مكنتش قاصدها؟ هو لما اتنين عيال يلعبوا مع بعض وواحد يزق التاني يفتحله دماغه، بيحاسبوا العيل اه عشان يعرف ان ده غلط لكن بيفضلوا يفكروه بذنبه العمر كله؟ محدش بيحاسب طفل يا خديجة. 


ادمعت عيناها بشدة وهي تهمس باختناق:

_بس دي ماتت! دماغها متفتحتش وبس! 


جمدت معالم وجهه وهو يقول:

_ سيان، اكيد الذنب اكبر، بس في الحالتين طفل، مكنتش اعرف ان حبسها هيأذيها اصلاً، انا عملت ده عشانك! عشان كنت خايف عليكِ ومبتحملش حد ييجي جنبك! أنتِ ليه مش قادره تفهمي ده؟ أنا اي حاجة عملتها عشانك ولولا خوفي عليكِ عمري ما كانت جيت جنب سارة اصلاً! 


اصدرت صوت ساخر من حنجرتها وهي تهز قدمها اليمنى بعصبية بالغة بينما تردد:

_يعني انا السبب في الي حصل لاختي في الآخر! انا مقولتلكش روح أأذيها! مقولتلكش تعملها حاجة اصلاً، أنتَ الي يومها فضلت تقولي مينفعش تسيبي حقك ولما حاولت اخرجها أنتَ الي منعتني.. 


_عشااانك..!! 


صرخ بها بعدما ضاق ذرعه من عدم محاولتها لتقبل الحقيقة حتى، وصوته كان اعلى من صوتها بكثير حتى أنها انتفضت في وقفتها من صرخته المفاجئة، وخرج على أثرها "مصطفى" الذي فضل الصمت منذُ البداية وعدم التدخل ولكن يبدو أن الأمر سيخرج عن السيطرة، وكذلك "فريال" التي خشت أن يتطور الأمر أكثر فاسرعت في الخروج للصالة هي الأخرى.. 


والاثنان صمتا وهما يران اللذان خرجا للتو، و"خديجة" التي شحب وجهها وهي تدرك الآن أن سرها قد كُشف وعلم شقيقها وابنة عمتها بهِ، وكان همها الأكبر هو شقيقها لذا نظرت له بقلق وهي تزدرد ريقها بصعوبة، بينما لملامحه الغير مقروءه، وما إن حاولت التحدث حتى وجدته يقاطعها وهو يباشر بالحديث متسائلاً:

_ أنا محتاج افهم تفسير للي سمعته، اي الحكاية؟ هو ازاي قتل اختنا؟ 


بهتت ملامحها أكثر وانعقد لسانها عن الرد، ليتولى هو ضفة الحديث وهو يقول بهدوء تام:

_ أنا هحكيلك يا مصطفى. 


وسرد كل شيء على مسامع الواقفين، وأثناء سرده كان يُعاد كل مشهد أمام أعين "خديجة" مرة أخرى، ففي منتصف حديثه وضعت كفيها فوق أذنيها رافضة سماع المزيد، حتى شعرت بهِ قد انتهى، فأزالت كفيها وحل الصمت لدقائق لا يقطعها سوى صوت الأنفاس، حتى هتف "مصطفى" أخيرًا:

_ قضاء ربنا. 


ابتسامة ماكرة ونظرة منتصرة زينت عيني صاحبنا، ونظرات مندهشة غير مصدقة كانت تنبعث من عيني صاحبتنا التي نطقت بدهشة:

_ايه؟ يعني ايه؟ 


بدى "مصطفى" أكبر من عمره بكثير الآن وهو يتحدث بهذه العقلانية والجدية:

_ يعني اكيد الموضوع مش سهل، واكيد هو مذنب، بس هتحاسبي مين يا خديجة، هتحاسبي حد كان بيتصرف بعقلية طفل وقتها؟ اكيد مش هتحاسبيه بالشكل ده طول العمر كأنك بتحاسبي واحد كبير! 


ضحكت باستنكار شديد وهي تستمع لحديثه بينما نظرت بعدها ل "فريال" كأنها تحثها على قول رأيها هي الأخرى، فقالت:

_ سارة ربنا يرحمها، بس يا خديجة لو كانت الشرطة عرفت مين مرتكب الجريمة وعرفت التفاصيل بالضبط بالأدلة، مكانش هيتحبس، لأنه اولاً طفل، ثانيًا قتل غير عمد، القانون بيعاقب الأطفال فوق سن ال١٥ سنة، والاقل من كده لما بيرتكب جريمة عن قصد، ياما بيسلموه لمدرب تأهيل أو مؤسسة اصلاح، او في مستشفى لو لقوا عنده مشكلة نفسية، يعني في أي حال مبيتعاقبش زيه زي الكبير، وقتها هو اكيد مكانش فاهم حاجة في القانون ياما كان سلم نفسه لأنه اكيد كان هيخرج، بس في نفس الوقت مين كان شاهد على الي حصل فعلاً عشان يتبرأ والحكومة تصدق انه قتل خطأ، مفيش حد غيرك، ويا عالم كانوا هياخدوا بشهادتك ولا هيعتبروكِ شريكة له وتحتاجوا الي يشهد ليكوا انتوا الاتنين، وكده كده في الآخر كنتِ هتخرجي عشان ٨ سنين مستحيل تتحبسي، وهو كان اخره هيودوه مؤسسة اصلاح سلوك. 


_أنتِ بتبرريله ايه؟ انتوا مالكوا؟ ازاي بتفكروا كده؟ 

صرخت بهم بعدم تصديق لموقفهما تجاه الأمر، لتجيبها "فريال" :

_على فكرة أنا لسه عند رأيي فيه، وكونه كدب عليكِ وزور هويته كفيل يخليه يطلقك مقولتش حاجة، بس أنا بتكلم في الأمر التاني وبقول الي العقل يقوله. 


_ماكنتِ كملتِ جميلك للآخر! 

رددها بصوت غير مسموع وهو ينظر ل"فريال" بضجر، وانتبه لصوت "خديجة" وهي تقول باصرار:

_ سمعت! أنتَ ياسيدي برئ وأنا ظلماك، بس أنا مش هكمل معاك، فطلقني بالذوق احسنلك. 


رفع حاجبه الأيسر يسألها بتحدى خفي:

_ بالذوق؟ ولو مكانش بالذوق هيكون بأيه يا خديجة هانم؟! 


وقبل أن تجيبه ارتفع رنين هاتف "فريال" الذي بيدها، عقدت حاجبيها باستغراب حين ابصرت رقم "باهر" ألم يذهب منذُ ساعات قليلة! 


أجابته بقلق، لتصرخ بعد ثواني وهي تردد:

_ أنتَ بتقول ايه؟ مات ازاي؟ 


لم تستمع بعدها سوى لصوت اغلاق المكالمة، لتنسدل دموعها فورًا، فدب الذعر في قلب "خديجة" التي اقتربت تسألها بخوف:

_ مين الي مات؟.... رُدي! 


صرخت بها بعد أن ظلت "فريال" تبكي فقط دون اجابة، فقالت من بين بكائها:

_ع... عمك.. خالي مات.. يا خديجة. 


رددتها من بين شهقاتها وركضت للغرفة لتغير ثيابها، وقفت لبعض الوقت لا تستوعب الخبر الذي سقط فوق رأسها، لم تتوقع أن يكون هو المتوفي! حركت رأسها بعجز وهي تردد:

_ لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، إنا لله و إنا إليه راجعون. 


_ خديجة هنعمل ايه؟ 

خرج صوت "مصطفى" الذي بالكاد يتذكر عمه ذلك، ولكن يريد أن يعرف هل ستطأ قدماهم أرض تلك البلدة مرة أخرى بعد كل هذا الغياب! 


_هنروح يا مصطفى، لازم نكون جنب باهر. 

رددتها "خديجة" بحزن، ودلفت خلف "فريال" دون أن تُلقي بالاً للواقف، متوقعة أنها ستخرج لن تجده. 


لكن خاب توقعها حين خرجت هي و"فريال" بعد قليل، لتجده يجلس على أحد الكراسي براحة بالغة، اقتربت قليلاً حتى وقفت على بُعد مناسب تسأله بضيق:

_ أنتَ لسه هنا ليه؟ هو مفيش دم! مش سمعت ان عندنا حالة وفاة وماشيين!؟


نهض بتكاسل بعد أن أغلق هاتفه الذي كان يتصفحه وقال:

_ اه سمعت، عشان كده ممشتش، مانا هوصلكوا، بعدين لازم اكون جنب باهر، مش قريب مراتي! أنا ميفوتنيش الواجب خدي بالك. 


_ياريته يفوتك ياخويا، اسمع يا جدع أنتَ لو فاكر إنك هتيجي معانا تبقى بتحلم، سامع؟ 

رددتها بعصبية وهي تشير له بسبابتها، ليقلب عيناه بملل مرددًا:

_ مهو للأسف مش هتروحوا لوحدكوا. 


صرخت بهِ وهي تشيح بيدها بعصبيه:

_ أنتَ ملكش حُكم عليَّ. 


_ أنا جوزك. 


_أنتَ صدقت نفسك! أنا وأنتَ عارفين الي فيها، فمتعش الدور ده احسنلك. 


_أنتِ كل شوية تقوليلي احسنلك، أنتِ بتهدديني ولا حاجة؟ بعدين مفيش خروج من غيري، مش عوزاني معاكوا تمام، بس مفيش سفر لحتة. 

رددها بجدية بحتة وهو ينظر لها بعينيه الملونتين التي غامت بالرمادية الداكنة. 


_بس بقى، مش وقته يا خديجة على فكرة! 

رددها "مصطفى" وهو يقترب من شقيقته، ومال عليها يهمس لها:

_ افتكري اننا رايحين للعقربة عمتك، واحنا منضمنش غدرها، وجوده معانا هيكون امان لينا. 


ابتعد عنها ليراها تكبح غضبها وتلتزم الصمت، فقال ل"مراد" :

_ أنا بقول يلا يا أبيه،عشان منتأخرش، كده الراجل هيتحاسب قبل ما نوصل. 


_أنتَ يا زفت! 

صرخت بها "خديجة" حين سمعته مازال يناديه بنفس الاحترام، ليعقد "مصطفى" حاجبيهِ بضيق مصطنع مرددًا:

_ ما يلا يا مراد بقى! 


ذهبا أمامها وخرجا من الباب يسبقان لاسفل، لتهتف هي:

_ روحي وراهم يا فريال هجيب حاجه وجاية. 


دلفت لغرفتها وفتحت درفة الخزانة الخاصة بها وأسفل بعض الملابس ادخلت كفها ليخرج وهو يحمل بعض شرائط الأدوية، أخذت من اثنان منهم وابتلعتهما بالماء، واغمضت عيناها بقوة تحاول الهدوء، تشعر أن اعصابها على وشك التلف. 


_ قدر يكسبهم في صفه؟ وياترى هيقنعك أنتِ كمان بحججه الخايبة دي امتى؟ 


_ بس بقى! اسكتي، انا مش متحمله اسمع حاجة، اسكتي يا سارة، وارحميني حرام عليكِ. 

صرخت بها وهي تحادث "سارة" التي تراها هي فقط، والأخرى تبتسم باستفزاز، لتهرول خارجة من الغرفة، ومنها لباب الشقة كأنها تهرب من شبح يطاردها. 

***********


عادت من شرودها وهي تشعر بأعين مسلطة عليها، نظرت حولها لترى "سرية" تنظر لها بنظرات مليئة بالغل والحقد، ابتسمت في وجهها ببرود وهي تطالعها بسخرية كأنها تخبرها أنها لا تهتم لأمرها. 


____________


مساءً وبعد ذهاب جميع من جاء لواجب العزاء، اجتمع جميع افراد العائلة في بهو منزل "منصور" وهم الآتي ذِكرهم بترتيب الجلوس على الكراسي المتراصة في البهو، "سرية" و"فريال" و"مصطفى" و"مراد" و"باهر" وأخيراً "خديجة".. 


خرجت "سرية" من صمتها وهي تسأل باستنكار واضح:

_ واتجوزتي ميتا يا معدولة؟ وكيف من غير عِلم عمك، كبيرك، ولا أنتِ ملكيش كبير ووشك مكشوف. 


نظرت لها "خديجة" وهي تقول بحدة:

_ كبير كان باهر، ابن عمي، واتجوزت بعلمه وموافقته، غير كده.. اه أنا مليش كبير. 


_ أما عيلة جليلة الحيا بصحيح، مهوش جديد عليكِ جلة الحيا، مأنتِ معروفة بيها من زمان. 


_عمتي، مش وجته ولا ايه؟ 

رددها "باهر" وهو يُمسد رأسه بتعب حقيقي، ولكنها لم تصمت وهي تُكمل مسائلة:

_ وجبتيه منين؟ باين عليه جيمة وسيما، ايه الي يخليه يبصلك إلا لو كنتِ ماشية على حل شعرك. 


وقبل أن تأخذ "خديجة" التي فار دمها غضبًا وادمعت عيناها من قسوة الحديث رد فعل، وقبل أن يفعل اي شخص آخر، كان يخرج عن صمته بعد أن غمرها بنظراته المتفحصة كل هذه المدة وعلم حقيقة المرأة الجالسة أمامه:

_ لا الحقيقة أنا مكنتش اطول اتجوز واحده زي خديجة، زي ما قولتي تمام، ليَّ قيمة وسيما، ومن طبقة اجتماعية عالية اوي، فكل الي فيها والي قابلتهم في حياتي ميستاهلوش يرتبطوا باسمي، لكن خديجة هي الوحيدة الي شوفتها تستاهل بصرف النظر عن الطبقات والكلام الفارغ ده، بعدين معذورة يا حاجة اصلك متعرفيش أنا لفيت حواليها قد ايه عشان توافق، طلعت عيني. 


اردف بالأخيرة وهو ينظر ل"خديجة" مبتسمًا، ثم عاد بنظره للأخرى وهو يكمل:

_ بعدين نستيني اقولك شدي حيلك، هو الي مات مش أخوكِ وكده؟ اكيد الحزن مأثر عليكِ. 


أحمر وجه "سُرية" غضبًا، واتسعت عيناها من تبجح الجالس أمامها وهي تدرك معنى جملته الأخيرة، ولكنها أدركت أنها لن تأخذ معه مجرى حديث يصبو لصالحها، فالتزمت الصمت ولأول مرة تفعل..


لا تنكر أنها ارتاحت بداخلها من حديثه لعمتها البغضاء، ولولا معرفتها بحقيقته لكانت شكرته الآن ولا مانع من عناق يوثق شكرها لاحقًا، لكن الوضع يختلف.. لذا لم تلقي له بالاً، وهو لم ينتظر. 


_أمي لساتها ناعسة ياعمتي؟ 


تسائل بها "ابراهيم" فور دلوفه للتو من الباب، لتجيبه:

_ ايوه، كل ما تجوم تصرخ باسم بوك وتنعس تاني، ربنا معاها يا ولدي. 


نهضت "فريال" واقفة واتجهت له حتى أصبحت أمامه فقالت بنبرة حزينة:

_ البقاء لله يا إبراهيم، معرفتش اشوفك من وجت ما جيت عشان اعزيك، ربنا يصبرك ويرحم خالي برحمته. 


نظر لها بجفاءه المعتاد الذي لم يتغير رغم مرور عامان على آخر مرة رأته فهي كانت قد امتنعت عن الزيارات للبلدة حتى لا تقع في خلاف مع والدتها:

_ ونعم بالله، تشكري. 


فقط، واتجه للكرسي الفارغ بجوار عمته وجلس فوقه بلا اهتمام بها، وحين شعرت بحرج موقفها عادت لكرسيها بصمت حزين. 


_ باهر،ادعيله بالرحمة وادعي ربنا يصبرك، وقوم ريح شوية شكلك مرهق اوي.


تحدثت بها "خديجة" بصوت لم يسمعه سوى "باهر" و "مراد" الجالس في المنتصف بينهما ينظر لها بسخرية غير واضحة، استمع لرد "باهر" :

_ يارب، شوية وهقوم، مستني بس ماما رباح تفوق اواسيها بكلمتين. 


_ اومال جاسمين فين؟ مجبتهاش معاك ليه؟ 


تنهد بتعب وهو يجيبها:

_ في شوية خلافات. 


رفعت حاجبيها باندهاش فلم تسمع عن خلاف دار بينهما من قبل، وسألته:

_ هي سايبه البيت؟ 


اومأ برأسه دون حديث، لتهتف بعدم رضا:

_ ليه كده يا باهر؟ مكنتش توصل الأمور بينكوا للدرجادي. 


_ ياعاقلة. 


رددها "مراد" ساخرًا بصوت وصل لها، لتحدقه بنظرات حارقة، بينما ابتسم هو ببرود. 

_ هي الي كبرت الموضوع ومشيت، انا مقولتلهاش تمشي، بعدين مش وقته يا خديجة، فيَّ الي مكفيني. 


_ صحيح، مش وقته يا خديجة. 

رددها "مراد" بعقلانية زائفة، لتزفر بضيق من تدخله وهي تعاود النظر للأمام ملتزمة الصمت، حتى هتف هو يهمس لها:

_ هنمشي ولا ايه؟ 


_اه، أنا اكيد مش هبات هنا. 

قالتها وهي تنظر لعمتها بضيق، فسمعته يقول:

_ طيب يلا، الساعة ١٢. 


نهضت قائلة:

_ هنمشي احنا يا باهر، وأن شاء الله نجيلك بكره. 


نهض هو الآخر يقول:

_ لا يا خديجة متجيش، مفيش داعي، انا اصلاً بكره بليل هرجع القاهرة. 


_بس.. 


_ خلاص يا خديجة، قولتلك متجيش بلاش شحطته. 


_ وأنتِ متجعديش ليه تقضي ايام عزا عمك، ولا هو مش عمك؟ 

قالتها "سُرية" بضيق واضح، ليهتف "باهر" بنفاذ صبر:

_ ملهاش داعي القاعدة، ارجعوا انتوا يا زين، وشكرًا على واجبك تعبناك معانا. 


أردف "مراد" بهدوء:

_ لا تعب ولا حاجة، ده واجب. 


_ يلا؟ 


قالتها "خديجة" وهي تشير ل "فريال" ومصطفى" وقفت" فريال" بحيرة وهي تشعر بعدم استحباب ذهابها الآن، فلا يجب ترك زوجها في يوم وفاة والده هكذا، والراحل خالها، ولكن تذكرت امتحان هام لديها غدًا في جامعتها فقالت بأسف:

_ معلش يا اماه أنتِ وابراهيم، لازم ارجع معاهم، عندي بكره امتحان مهم، لولا كده مكنتش اتحركت من اهنه واصل لحد اخر السبوع كمان، حتى كان بودي اشوف مرات خالي واعزيها. 


_وأنتِ مين جالك إنك هترجعي؟ 


خرج السؤال من "ابراهيم" الذي ينظر لها بنظرة مبهمة، لم تفسرها، لكنها خشتها، حركت رأسها بعدم فهم تسأله:

_ يعني ايه مفهماش؟ 


_ يعني مفيش سفر للقاهرة تاني، مكان اهنة في بيت جوزك. 


قطبت حاجبيها بعدم استيعاب وبقلب وجل سألته:

_ وعلامي وكليتي يا ابراهيم؟ 


_ بكفايا علام اكده، مهصبرش أنا ٣ سنين لحد ما الدكتورة تتخرج، مهياكلش معايا دور جواز مع وقف التنفيذ الي عايشينه ده. 


شهقت بذعر وهي تردد بعدم تصديق:

_ أنتَ هتحرمني من علامي!؟ 


اجابها ببرود تام:

_ الله ينور عليكِ، افهميها كيف ما تفهميها، المهم إن أخر الشهر هتيجي بيتي اهنة وأنتِ عروستي، بس مهنعملش فرح لاجل موت ابوي. 


هزت رأسها نافية بعدم استيعاب وهي تشعر بتحطم صخرة أحلامها لقسوة الواقع المتمثل في "زوجها".. 

#يتبع

تكملة الرواية من هنااااااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول1 من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني2 من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع