القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية سجينة جبل العامري الفصل الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم ندا حسن جميع الفصول كامله

 

رواية سجينة جبل العامري الفصل الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر  بقلم ندا حسن جميع الفصول كامله 





رواية سجينة جبل العامري الفصل الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر  بقلم ندا حسن جميع الفصول كامله 


#سجينة_جبل_العامري

#الفصل_الحادي_عشر

ندا_حسن


تقدمت "تمارا" بخطوات مُترددة غير ثابتة على الأرضية عينيها مُثبتة على أعين "جبل" الخضراء المهزوزة، ملامحها تقول أشياء كثيرة أثناء سيرها تجاهه..


وقفت أمامه مباشرة وبينهم "زينة" وابنتها، تابعته بعينيها ثم أردفت بنبرة مليئة بالحنين:


-جـبـل..


نظرات عينيه تتابع تفاصيل ملامحها التي تغيرت كثيرًا، قُتلت البراءة بهما، قُتل الحب، ومعهم قُتلت لهفته إليها وعليها.. المتواجد الآن مشاعر مختلطة لا يستطيع تفسيرها ولكنه يعلم أنها بسبب قدومها المفاجئ أعادت إليه ذكريات راحلة منذ سنوات كتيرة..


وقامت بفتح جروح غائرة كانت قد التئمت وشعر بالإهانة والشفقة تجاه نفسه وهو يحاول أن يداوي هذه الجروح..


الآن بكل بساطة فقط لأجل رؤيتها من جديد تفتح جروحه هذه!..


اخفضت نظرها إلى الطفلة "وعد" دارت عيناها عليها بقوة وعلى ملامح وجهها ترددت الكلمة مرة أخرى في أذنها فرفعت بصرها إليه متسائلة بنبرة مرتعشة:


-أنت اتجوزت 


ضغط على فكه بشدة، أغمض عينه بعمق وبقوة ثم فتحهما مرة أخرى وحاول استعادة نفسه وهو يقول مؤكدًا:


-أيوه.. اتجوزت 


أكمل ناظرًا إليها بقوة، عيناه تنظر إلى عيناها مباشرة وكأنه يقول لها لا مكان للحب أو الضعف، لا لمكان لوجودكِ في قلبي ولا مكان لجروح غائرة منكِ:


-حمدالله على سلامتك.. دخلتي الجزيرة إزاي


أقتربت منه وهي تنظر إليه نظرة ذات مغزى تحاول أن تجعله يتذكر ما مضى بينهم بعد أن ابتلعت غصة كانت بحلقها بسبب اعترافه بأنه تزوج:


-نسيت طرقي؟ ولا نسيت إني بنت العامري وأدخل في أي وقت 


تحرك عيناها على وجهه وملامحه الجامدة والتغير الغير معقول بها، نظرة الحدة والقوة وثباته الذي أوضحه أمامها وكأن عودتها لا تُعنيه


تابعها هو الآخر بجدية شديدة وسخر منها وهو يرسل إليها معانى أخرى غير التي خرجت من بين شفتيه:


-منستش طرقك ولا أقدر أنساها وإلا مكنتيش خرجتي من الجزيرة.. أما بنت العامري فبنات العامري مكانهم هنا.. هنا وبس


نظرت إليه مطولًا ولم تستطع الرد فهي تدرك جيدًا أنه يحاول اهانتها، يحاول أن يزعجها ويسخر منها بحديثه ولكنها تعرفه جيدًا تحفظه عن ظهر قلب


هبطت "فرح" من أعلى الدرج تنظر إليها غير مصدقة أنها تراها أمامها وصاحت باستنكار وذهول وهي تقترب منها:


-ايه ده.. تمارا 


أقتربت منها تقف أمامها تضمها إليها تعانقها بقوة قائلة بحب وشغف:


-تمارا ازيك عامله ايه جيتي امتى وإزاي 


عانقتها الأخرى وبادلتها الحب والاشتياق فهما الاثنين كانوا أصدقاء طفولة إلى أن رحلت عنهم:


-ازيك يا فرح وحشتيني 


عادت للخلف تنظر إليها قائلة بحنين وأسى تحثها على أن فراقها كان ثقيل للغاية على حياتها:


-وأنتي كمان يا تمارا متعرفيش سيبتي فراغ عامل إزاي في حياتي والله 


ابتسمت إليها باتساع وهي تقول بقوة تبتعد بعيناها إليه:


-اديني رجعت 


استمعت إلى نبرة "فرح" التي تخرج بسعادة خالصة فأبتعدت عيناها تنظر إليها:


-على طول 


أومأت إليها برأسها وهي تجيبها بثقة وتأكيد:


-أيوه هقعد على طول.. مش هسيب الجزيرة أبدًا ولا قصر العامري 


مرة أخرى تنظر إليه وتسائلت بفضول شديد وقلبها يدق بعنف:


-اومال مراتك فين


أشارت إلى "إسراء" التي كانت تهبط الدرج، فهي الغريبة هنا، هل هي زوجته؟ أيعقل هذه الفتاة الصغيرة:


-دي مراتك؟ معقول


نظر إليها وابتسم بزاوية فمه، أقترب من "زينة" يضع يده عليها يحاوطها مقربًا إياها منه بقوة ثم نظر إلى الأخرى موكدًا بثقة وتأكيد وهو ينظر إليها بفخر يمحي ألمه ونظرة ضعفه التي سبق ورأتها:


-دي مراتي.. واللي نازلة دي تبقى أختها


شبهت عليها وتابعت تنظر إليها بتمعن فتذكرت أين رأتها ثم قالت باستغراب:


-دي مرات يونس.. أنا شوفت صورة ليها 


ضغط على ذراع الأخرى الذي يحاوطه بيده بعنف عندما ذكرت أنها زوجة شقيقه فعارضها قائلًا:


-الله يرحمه.. زينة جبل العامري مراتي


ترك "زينة" وهبط إلى "وعد" بجسده يحملها على ذراعه رافعًا إياها إليها قائلًا بفخر وحب:


-ووعد بنتي.. حبيبة بابا 


كانت الأخرى تقف تتابع ما يقوله باستغراب تام.. هل توفى "يونس" إلى هذه الدرجة كانت بعيدة عنهم..


نظر إلى "زينة" زوجته وتغيرت ملامح وجهه وهو ينظر إليها ثم هتف بهدوء ورفق حانٍ يمثله ببراعة وكأنهم معشوقين:


-دي تبقى تمارا بنت عمي يا حبيبتي.. كانت خرجت بره الجزيرة من سنين كتير بس شكلها ملقتش مأوى غير هنا فرجعت تاني 


تنظر إليه باستغراب تام، تغيرت نبرته مئة وثمانون درجة ونعتها بحبيبتي وهي تقف مذهولة لا تدرك ما الذي أصابه.. هل فقد الذاكرة.. أم أن هناك شيء بينهم يمحيه بوجودها..


وجدته يُشير إليها بعينيه فخرجت من تفكيرها تنظر إليها قائلة بابتسامة مصطنعة:


-تشرفنا 


استمعوا إلى صوت والدته "وجيدة" المُستنكر وهي تأتي عليهم من الداخل:


-تمارا!..


أقتربت منها تعانقها قائلة بود:


-ازيك يا مرات عمي 


ابتعدت إلى الخلف زوجة عمها وهي مازالت مستنكرة تنظر إليها باستغراب وخرج صوتها بتوتر:


-الحمدلله ازيك أنتي 


تنظر إلى جبل باستغراب تتسائل عن سبب قدومها، ترسل إليه بعينيها خوف مكبوت ورهبة عجيبة من مكوثها معهم بين "زينة" و "وعد" وابنها..


أجابتها بحرارة وهي تنظر إلى "جبل" تبعث إليه آخر كلمات جملتها:


-أنا الحمدلله كويسه.. انتوا وحشتوني أوي


أومأت إليها زوجة عمها ومازلت مترددة تشعر بالتوتر فقالت:


-وأنتي كمان بس.. 


بقيت تتابعها تحاول أن تفهم ما الذي تريد قوله فوجدتها صمتت تمامًا فحثتها هي على الحديث:


-بس ايه 


شدت نفسها، واستجمعت قوتها وعهدها المعروف فنظرت إليها بقوة وحزم وقالت تذكرها بما قالته سابقًا:


-ايه سبب الزيارة الغريبة دي.. خرجتي من زمان قولتي أن الجزيرة مش مكانك 


ابتسمت وهي تتودد إلى "جبل" إليه من الحين إلى الآخر:


-اكتشفت إني ماليش مكان غيرها يا مرات عمي 


استنكرت الأخرى بشدة وخرج صوتها باستغراب:


-فجأة كده 


قالت بهدوء تشرح لها ما شعرت به:


-لأ مش فجأة أنا اللي كنت بكدب نفسي.. بس خلاص أنا رجعت ومش خارجه منها تاني 


استدارت تنظر إليه قائلة:


-ولا ايه يا جبل 


تابع نظرتها نحوه، يفهمها جيدًا هل تعتقد أنها بمجرد عودتها سيعود هو الآخر إليها يرتمي باحضانها يطالبها بالمكوث معه وأن تظل في حياته.. يالا سخرية القدر يا "تمارا" فقد تبادلت الأدوار وأصبحت اللعبة أفضل بكثير 


قال بجدية شديدة ونبرة غليظة وهو يصر على الحديث بالألغاز ولكنها تفهمه جيدًا:


-الجزيرة مكان لكل العوامرية.. ومكان لكل واحد مالوش مكان..... زيك يا تمارا 


أقتربت مرة أخرى تقف أمامه بتحدي، لأنها تعتقد أنه لن يمسها بسوء كما في السابق يخاف عليها من الهواء المار جوارها فقالت بثقة:


-بس ده مكاني وليا فيه كتير أوي يا جبل 


أومأ إليها بابتسامة ساخرة يؤكد حديثها ويكمل عليه بتهديد واضح:


-محدش قال غير كده.. بس المرة دي حافظي عليه علشان المرة الجاية ملكيش رجعة 


وقفت أمامه بثقة أكبر وتحدي أكبر ونظرت إلى داخل عيناه المخيفة التي لطالما كانت ملجأ لها:


-هحافظ عليه وهرجع كل حاجه كانت ملكي فيه قبل ما أمشي


نظر إلى "وعد" مبتسمًا باتساع دون أن يعطيها أي اهتمام يجيبها:


-بيتهيألك إنك هتعملي كده 


ردت تنظر إليه بعمق تحاول التسلل إلى داخله لتفهم ما الذي يفكر به:


-بكرة تشوف.. لسه قلوبنا بتنبض يا جبل 


استدار ينظر إليها بقسوة خالصة، عنف ضاري ظهر داخل عينيه وعلى ملامح وجهه الذي تغيرت بعد كلماتها فقال بغلظة وخشونة:


-بالقسوة يا تمارا.. بتنبض بالقسوة 


نظرت إليه للحظات فلم تستطع التكملة داخل عينيه التي أصبحت غريبة للغاية، ليست عيناه التي تعرفها.. ليست هي


أقتربت تنظر إلى "وعد" قائلة بابتسامة خبيثة:


-ازيك يا حلوة.. 


أجابتها الصغيرة برقة وهدوء:


-الحمدلله يا طنط 


تعالت ضحكات "تمارا" تنظر إليها وإلى والدتها وقالت ساخرة:


-طنط.. لأ أنا مش طنط 


تحدثت والدته عندما وجدتها لا تريد النزوح عن هنا تقترب منها تحدثها على الذهاب إلى الأعلى:


-اطلعي يا تمارا.. وريها اوضة يا فرح تنام فيها 


تحدثت وهي تنظر إليه مرة أخرى تؤكد على أنها تعلم أين مقرها كما تعلم أين هو:


-أنا عارفه اوضتي كويس يا مرات عمي 


صدمها عندما ابتسمت باتساع وهو يرى ثقتها الزائدة وقال بخشونة:


-مبقتش موجودة


سألته باستغراب وقد خالف توقعها:


-يعني ايه 


قال بجدية وهو يبتعد إلى الداخل ومعه وعد ببرود تام:


-يعني اوضتك مبقتش موجودة استخدمتها في حاجه تانية مفيدة أكتر من أنها تكون اوضتك 


نظرت إليه وهو يبتعد تراه يحاول أن يثبت لها أن مكانها لم يعد موجود، اسمها وحبها وكل ما كان لها هنا رحل معها عندما تركته..


أقتربت من "زينة" تنظر إليها بعمق ونظرتها نحوها ماكرة:


-لسه محتاجة أتعرف عليكي يا.. زينة!


الأخرى تقريبًا فهمت كل ما حدث منذ قليل من كلمات جميعها ألغاز ونظرات متحدية وماكرة وأخرى واثقة فقالت لها بهدوء:


-آه زينة 


أومأت إليها برأسها وهي تتابع النظر إليها قائلة بخبث:


-هيبقى بينا حكايات كتير أوي الفترة الجاية.. دا أنتي مرات الغالي يا.. زينة 


لم تجيب عليها ولم تعيرها أي اهتمام ولكنها فهمت ما الذي يريده هو منها في هذه الفترة التي ستكون هي متواجدة بها هنا فنظرت إليها بثقة وأحبت هذه اللعبة قائلة بابتسامة:


-أكيد.. عن اذنك أشوف جبل 


نظرت إليها بقوة وكأنها تحدي، أشارت إلى شقيقتها أن تذهب معها تدلف إلى الداخل وتركتها تنظر في أثرها تتسائل هل كل هذا حقيقي!..


❈-❈-❈


جلس الجميع على سفرة الطعام لتناول العشاء ومن بينهم الزائرة الجديدة لقصر العامري "تمارا"، التي تركت القصر بكامل إرادتها وتخلت عن كل ما كان ملكها به وخارجه وتركت جزيرة العامري بأكملها محتجة على وجودها بها.. الآن تعود ورأسها به الكثير والكثير عن عودة كل ما كان لها.. 


نظرت إلى "إسراء" بعينين مُستغربة فضولية وسألتها وهي توزع بصرها على ملامحها الجميلة:


-بس أنتي شكلك مش مصرية 


رفعت "زينة" رأسها وتركت الطعام نظرت إليها وخرج صوتها المُسائل:


-اشمعنى يعني 


أبعدت عيناها من على "إسراء" ونظرت إلى "زينة" بهدوء تستوعب سؤالها ثم أجابت عليها بسخرية تحاول التقليل من جمالها:


-شكلها يدي على أجانب مش حساها أختك خالص


ابتسمت إليها بسماجة وهي تعلم أنها تريد فعل ذلك ولم تعطي لاجابتها اهتمام فأجابت "إسراء":


-أنا مامتي تركية 


أومأت إليها برأسها وهي تضع معلقة الطعام في فمها وتحدثت بعدما ابتلعت قائلة:


-مش قولتلك.. شكلك مش مصري شعر أصفر وعيون زرقا 


أكملت الأخرى بهدوء وجدية تصحح لها معلوماتها:


-في مصرين بشعر أصفر وعيون زرقا بردو عادي على فكرة 


ابتسمت إليها قائلة بمجاملة:


-مش حلوين زيك 


ردت إليها "إسراء" الابتسامة الخجلة للغاية قائلة برقة ورفق:


-شكرًا 


اغتاظت "فرح" من مدح "تمارا" الزائد في الماثلة أمامها وشعرت بالغيرة الشديدة البعيدة كل البعد عن "عاصم" الآن ولكنها تشعر أن هذه الفتاة تأخذ مكانها بالبطيء وتحظى باهتمام الجميع فقالت بغيظ:


-مش أوي كده يا تمارا أحسن تتغر جمالها عادي يعني زينا 


نظرت إليها "إسراء" باستغراب شديد فـ إلى الآن لا تدري ما سبب كرهها الشديد لها أو دعنا لا نقول كره يمكن أن يكون مجرد بغض لطريقتها التي تتعامل بها والتي تعتبرها مُزيفة! أبعدت نظرها عنها غير مهتمة بحديثها الذي حظى باهتمام "زينة"..


خرج صوت "وجيدة" تنظر إلى "تمارا" بجدية تسائلها:


-قوليلي يا تمارا.. أمك عامله ايه ومجتش معاكي ليه


تركت ملعقة الطعام على الطاولة وتعمقت بالنظر إلى عينيها، أنها تعلم تصرفات زوجة عمها جيدًا وتتوقع ما القادم منها:


-أمي قاعدة عند خالي رفضت ترجع معايا الجزيرة 


كل هذا كان تحت أنظار ومسامع "جبل" الذي جلس بهدوء شديد يتابع حديثهم وينظر إلى كل تعبير صغير يخرج من أي منهن..


سألها بسخرية بعدما أجابت على والدته:


-ولما هي رفضت.. رجعتي أنتي ليه 


ابتسمت وبمنتهى الثقة نظرت إليه قائلة:


-قولتلك يا جبل.. جاية على طول وهرجع كل حقوقي 


أنهت جملتها وهي تنظر إلى "زينة" نظرة ذات مغزى فلم تستطع الأخرى الصمود أمام نظرتها فتركت ملعقتها ونظرت إلى "جبل" وتفوهت تسائلة مستفهمة:


-حقوق! حقوق ايه اللي بتتكلم عليها 


نظر إليها مُبتسمًا بزاوية فمه يسخر منها وهو ينظر إليها بطرف عينه يحاول في كلماته أن يظهر للأخرى أنه يحب زوجته:


-متشغليش بالك بكلام تمارا يا حبيبتي.. أصلها كانت ساعات كتير بتهلوس 


اغتاظت منه بشدة ونظرت إليه بعمق، تحاول أن تدرك هل هذا هو نفسه؟ هل ستكون المهمة صعبة إلى هذه الدرجة؟ فهو لم يتغير به أي شيء حتى ملامح وجهه لم تزداد شيء إلا قسوة وعنف.. لم تختلف إلا في تهجمها وتغير روحها..


لم يتغير به شيء إلا جسده أصبح أقوى وأضخم من السابق، لا ترى أي تغيير سوى هذا وذاك فهل حقًا يوجد غيرهم داخله تغيير؟


ابتسم أكثر اتساعًا وهو يتابع قائلًا بقسوة وغلظة عكس ما يظهر على ملامح وجهه وهو يتذكر كل ما مضى:


-عارفه العيل الصغير لما يستغني عن حاجه والحاجه دي تروح لحد غيره فيحس بالغيرة ويبقى عايز يرجعها.. أهي تمارا كده فاكرة نفسها جاية تاخد كل اللي سابته ومشيت


تنظر إليه زينة بعدم فهم وكل ما يأتي بخاطرها يعبر عن أشياء تراه هو بهذه الصفات يرفضها.. ولكن من الواضح أنها تفهم ما يحدث جيدًا


أخرجتهم من الصمت الذي حل عليهم وهي تقول بغيظ تنظر إليه:


-سبق وقولتلك هرجع كل حاجه.. وأنت أكتر حد عارفني 


وضع ذراعه على ذراع المقعد الجالس عليه ورفع كف يده ويستند باصبعة الإبهام والسبابة على وجنته ناظرًا إليها بسخرية يقول بلا مبالاة:


-لأ مبقتش أعرفك السنين بتغير، ومتحاوليش تتعاملي معايا على إنك تعرفيني ولا مع أي حد هنا 


تحدثت وجيدة" لتخفف حدة ما يحدث وتخفي ذلك الحديث الذي يُمر من أسفل الطاولة:


-شبعتي يا وعد 


أومأت إليها الصغيرة برأسها قائلة بصوت خافت:


-آه يا تيته


وقفت على قدميها تبتعد عن الطاولة وأقتربت من الفتاة تأخذها للخارج:


-تعالي نغسل أيدينا سوا 


أومأت إليها وذهبت معها:


-ماشي 


أمسك جبل بيد زينة الموضوعة على الطاولة ونظر إليها بنظرة محبة مُشتاقة لا يدري إن كانت خرجت منه بعفوية أو كانت مصطنعة لأجل إحراق الأخرى:


-تعالي عايزك 


أومأت إليه على الرغم من استغرابها التام لما يحدث وما حل عليه ولكنها عاونته قائلة:


-ماشي 


نظرت إليه ابنة عمه، احترق قلبها وهي تتسائل هل ستدفع الثمن لأجل ذهابها من الجزيرة؟.. 


دفعت "تمارا" بيدها أحد أطباق الحساء الموضوعة على الطاولة جوار زينة لتقع على قدمها اليسرى بكل عنف تفرغ ما تحويه عليها وهو ساخن للغاية  


صرخت زينة بقوة ووقفت سريعًا تبعد المقعد للخلف تحترق قدمها والنيران تلتهب بها وتغيرت ملامح وجهها كثيرًا وهي تتألم


وقفت "تمارا" هي الأخرى معها تمثل الاهتمام والآسف لما فعلته عن عمد:


-أنا آسفة آسفة مأخدتش بالي والله 


لكنها كانت تشعر بالغيرة تنهش قلبها، تتألم لرؤيتهم هكذا وهذا الشيء من حقها وهي من تستطيع الحفاظ عليه والشعور به


تألمت زينة بقوة وقدمها تخرج منها النيران تحترق تشعر بفوران الدماء داخلها تتألم بصمت والدموع متحجرة بعينيها.. أقتربت منها "إسراء" سريعًا ولكن جبل قد جذبها إليه ينظر إليها بقلق بالغ يرده إليها عندما قلقت عليه ولكنه كان نابع من قلبه ونظر إليها بخوف شديد وهو يرى الدموع تقف على أعتاب عينيها بسبب الألم القابع داخل قدمها..


انخفض بجسده يحملها على ذراعيه ناظرًا إليها يأخذها إلى الأعلى في غرفتهم ليعتني بها..


قابلته والدته في طريقها إلى الداخل مرة أخرى تنظر إليه باستغراب تسائلة:


-أنت بتعمل ايه يا جبل 


خرجت خلفه شقيقتها فأجابت هي عليها لأنه لم يعطيها اهتمام:


-زينة وقعت على رجلها الشربة


هرولت خلفه والدته وهي تصرخ عليه:


-طب استنى يابني ادهنلها حاجه عليها 


أومأ برأسه وهو يصعد الدرج قائلًا بجدية:


-ماشي 


ثم تركهم وأبتعد بها إلى الأعلى يختفي عنهم في داخل غرفة نومهم ليرى ما الذي أصاب قدمها بسبب تلك الغبية الحقيرة التي عادت بعد أن خمدت نيرانه وانطوت صفحة الهوى الخاصة بها معلنة عن وجود وحش كاسر كان قابع داخل قلبه وكشف عن أنيابه وظهوره في غيابها وتخليها عنه..


أجلسها على الفراش ووقف مستقيمًا يتقدم إلى المرحاض وهو يقول بحزم:


-اقلعي البنطلون 


نظرت إليه ببلاهة وهو يبتعد عنها تتابع حركاته بعينين مُتسعة عليه وقدمها تحترق داخلها ألم مميت لا تحتمله..


عاد إليها وبيده كريم الذي سيضع لها منه ليخفف حدة ألمها ويعالج ما حدث.. نظر إليها وقال بقوة:


-مش قولت اقلعي 


وجدها ما زالت تنظر إليه بجدية واستغراب فتفوه ساخرًا وهو يجذبها من يدها لتقف:


-أكيد مش أول مرة تقلعي فيها قدامي


غمزها بعينه الخبيثة الخضراء صاحبة اللمعة المخيفة وهو يكمل بتهكم:


-كده ولا ايه 


تنظر إليه فقط ولم تتحدث يا له من حقير حيوان يعبث بها كلما سمحت له الفرصة ليفعل ذلك، شعرت بيده تفتح سحاب بنطالها الجينز فنظرت إلى الأسفل لتراه يبعده عن قدميها كادت أن تتحدث وتبتعد عنه ولكنها تألمت عندما سحبه على قدمها في موضع الالتهاب الذي سببه الحساء الساخن..


دفعها للخلف لتجلس مرة أخرى على الفراش وأزاح البنطال كليًا عنها لينظر إلى قدميها البيضاء الظاهرة أمامه، لمعت عيناه وابتلع لعابة بعدما شعر بغصة توقفت بحلقة.. رفع بصرة إليها ثم مرة أخرى إلى قدميها فدفعته في صدره عندما انخفض لمستواها صارخة به:


-ايه.. هات الكريم 


غمزها مرة أخرى بعينه وهو يقول بمكر:


-دي تفوتني بردو 


فتح العبوة وأخذ على إصبعيه منها ثم توجه بها إلى قدميها يضعه عليها برفق ولكنها شعرت بأن قدميها تحترق أكثر وأكثر فور أن وضعه عليها..


نظر إليها فوجدها تغلق عينيها بقوة تتمسك بشرشف الفراش من الناحيتين تشعر بالألم الذي ظهر على كافة ملامحها فخرج صوته وهو يعود إلى قدمها مرة أخرى:


-هيحرقك شوية.. بس هيعمل مفعول بسرعة 


فتحت عينيها السوداء ونظرت إليه فوجدته يرفع وجهه مرة أخرى إليها أومأت إليه بهدوء ورفق وتابعته وهو يحرك أصابعه على يدها بذلك الكريم برفق وحنان..


انتهى مما يفعله فذهب إلى المرحاض دون حديث ليغسل يده عاد مرة أخرى وجلس جوارها ثم قال بجدية:


-سيبيها شوية كده والكريم أهو ابقي حطي منه تاني 


أومأت إليه مردفة بصوت خافت:


-طيب


جلس جوارها صامتًا وبقيت هي كذلك تنظر أمامها إلى أن عبثت أفكار رأسها بها وودت أن تسأله أسئلة كثيرة وتحصل منه على إجابة ولكنها تعلم أنه دومًا لا يود إظهار الحقيقة إليها ولا يحب أن يجعلها ترتاح وتهدأ..


استدارت تنظر إليه للحظات وهي صامتة فشعر بأنها تود أن تقول شيئًا بقيٰ كما هو ينظر إلى الأمام وقال بثقة:


-عايزة تقولي ايه 


ابتلعت غصة مريرة وقفت بحلقها وتابعت النظر إليه وهو يبعد وجهه عنها:


-بنت عمك 


استدار ينظر إليها عندما تحدثت عنها، كان متوقع ذلك ولكنه لم يكن متأكد منه، سألها بهدوء:


-مالها 


سألته بغباء وهي لا تدري كيف تسأله بطريقة أفضل من ذلك ليجيب عليها بصدق ولا تكن أمامه فضولية تتدخل في حياته التي أعلنت رفضها لها:


-كنت بتبص ليها كده ليه


تابع النظر إلى سوداوية عينيها وسألها مضيقًا ما بين حاجبيه:


-كده إزاي مش فاهم قصدك


حركت كتفيها وهي تلوي شفتيها قائلة مرة أخرى محاولة الشرح له أكثر:


-كده.. شوية بحنين واشتياق وشوية تانين بقسوة وكره 


أبعد نظرة إلى أمامه مرة ثانية، فكر في حديثها الصحيح أنه عندما أبصرها شعر أنه مُشتاق يسعى لأي طريق يدله إليها ثم لحظات وأدرك أنه ذلك المطعون في قلبه منها فلا اشتياق ولا حنين ينبغي أن يخرج لها:


-أول ما شوفتها حسيت فعلًا إني مشتاق لها بقالها كتير أوي بعيدة.. كانت متربية معانا هنا بعد كده افتكرت كل حاجه وأدركت أن مش دي اللي الواحد يشتاقلها 


حركت رأسها وهي تسأله مرة أخرى بعمق أكثر عندما وجدته يتحدث:


-مثلت قدامها أننا كويسين ليه.. حبيبتي وبتاع 


ابتسم بزاوية فمه ساخرًا منها:


-فيها ايه لما أقول أنك حبيبتي.. مش مراتي!..


خرج صوتها المحتج تنظر إليه بقوة:


-جبل بلاش لف ودوران 


أومأ برأسه للأمام وهو يضع يده الاثنين ببعضهم البعض يتكأ للأمام بجسده وهو جوارها وقال بجدية وقد كانت هذه رغبته حقًا:


-ماشي.. أنا عايز كده، عايزها تعرف أن وأنتي كويسين أوي


صمتت لبرهة وهي تنظر إليه باستغراب، ثم أردفت بجدية تماثل جديته تدلي إليه بشيء غريب تغير به:


-أول مرة تبقى عايز تثبت لحد حاجه.. أو بمعنى أصح تبقى عامل لحد حساب ولتفكيره


استدار برأسه ينظر إليها وابتسم بتهكم يقول:


-بدأتي تعرفيني أهو


استمع إلى سؤالها الذي خرج من شفتيها باهتمام كبير وتابع نظرات عينيها المستفهمة التي تود الإجابة سريعًا وكأنها يهمها أمره:


-كان فيه بينكم حاجه؟ قلبك كان بيحب؟


أومأ إليها ولم يخفي عليها سرًا قائلًا:


-آه.. كان فيه بس حاليًا قلبي مابيعرفش يحب


تابع وهو يرى نظراتها الغريبة الذي لم يستطع أن يحدد منها أي الشعور ينتابها الآن وقال بغلظة وقسوة لا توحي بأنه يتحدث عن الحب أبدًا:


-لكن تأكدي لو جت الفرصة اللي يحب فيها مش همنعه سواء عافية أو لأ


وجدته يسترسل معها في الحديث فتجرأت أكثر:


-عايز تثبتلها ايه 


قال بمنتهى البساطة وكأنه يتحدث مع نفسه لا يدري ما العواقب لكل ما يفعله الآن:


-إني مش جبل اللي تعرفه نهائي ودي حقيقة أنا بقيت واحد تاني تمامًا وإني حياتي مستقرة معاكي 


هتفت بقوة وحزم وهي تسأله بسرعة:


-يعني أنت مكنتش كده! صح


نظر إليها وقد ندم لأنه غاص معها بالحديث وأدلى بأشياء ليس عليه التحدث عنها، كيف له أن يقول كل هذا الحديث دون حساب كيف له أن يتفوه بالكثير عنه وعن حياته معها بكل هذه السهولة 


وقف على قدميه بعد أن أبعد نظرة عنها وقال:


-أنا عندي شغل لازم أمشي.. ارتاحي


أردفت سريعًا وهي تراه يتوجه للخارج:


-أنت بتهرب 


كانت تود أن تعلم أكثر عنه.. تحدد إن أرادت تبقى لتعلم ما الذي يحدث أو تبقى لأجل ابنتها أو.. لأجله.. وهذه الفرصة الوحيدة التي يمكنها تجميع الخيوط منها..


استدار إليها ورد بغلظة وخشونة:


-أنا عمري ما هربت


تفوهت بما يشعر به قلبها وعقلها واتحاد كل ما بها، قالت له ما تراه منه وما تفهمه ومع ذلك وإلى الآن لم تفهمه هو.. خرجت كلماتها بشاجعة وهي تعبر عنه:


-خليك شجاع للآخر.. قولي أن ده مش أنت مستحيل يكون في شخص بالقسوة دي.. لأ لأ مش قسوة أنت متناقض.. أنت رحيم أوي وفي نفس الوقت بتقول أن قلبك مفيهوش رحمة.. قاسي أوي وفي نفس الوقت حنين 


وقف معتدلًا ينظر إليها باستغراب، لا يفهم جرعة الشجاعة التي تحلت بها لتتحدث معه بهذه الطريقة، ولكن من الواضح ستكون العلاقة أفضل في المرات القادمة.. سألها مستفهمًا:


-عايزة ايه 


وقفت على قدميها تدلي بأكثر مما قالته تعبر عن أنها وافقت على حكم السجن المؤبد معه أما الموت أو الموت:


-مش زي ما بتقول بقيت مراتك وأتحكم عليا بالسجن معاك خلاص.. أنا اتأقلمت وعايزة أقعد هنا فهمني بقى اللي بيحصل


أجابها ببساطة وهو يضع يده بجيب بنطاله يقف أمامها شامخًا واثقًا من نفسه:


-مش مسموح أفهمك حاجه ثم أنك عرفتي حاجات كتير أوي مش المفروض أصلًا تعرفيها 


رفعت أحد حاجبيها ووضعت يدها الاثنين أمام صدرها تقف متحدية له قائلة بسخرية:


-زي أنك كنت بتحب.. 


أكمل على حديثها قائلًا بقوة وقسوة وهو يخرج يده من جيبه يُشير بها إلى صدره في نهاية حديثه بقوة:


-كنت مراهق واللي قدامك دلوقتي راجل أمر من العمر 


أومأت إليه قائلة بصوت متهكم ساخر:


-أنت فعلا مُر.. بس التشبيه الأفضل غامض أكتر من مثلث برمودا ومتناقض أكتر من واحد مجنون 


نظر إليها بعمق يرى انزعاجها من هروبه بعد أن كان يتحدث بكل شيء عنه، لكنه ضحك لأول مرة من كل قلبه دون سخرية أو حزن، ضحك بصوتٍ مرتفع وهو ينظر إلى ملامحها وهي تشبهه بأشياء غريبة تراه يماثلها.. ولكنها محقة.. وذكية


توقف عن الضحك قائلّا بثقة:


-قولتلك لسه مشوفتيش جنان


تنهد بصوت مرتفع واعتدل في وقفته ينظر إليها بجدية وهدوء، تتحرك مشاعره تجاهها وهو لن يوقفها أبدًا سيعود شاب مرة أخرى وسيشعر بالحب وهذه المرة لن يتخلى عنه..


قال برفق وهدوء بعدما ترك تفكيره بالحب جانبًا:


-غزال.. لو في حاجه المفروض تعرفيها هتعرفيها في الوقت المناسب ومني أنا شخصيًا بلاش الفضول اللي وداكي في داهية ده 


تهكمت ساخرة تؤكد:


-مظنش في داهية أكتر من دي 


نفى حديثها بثقة وتأكيد لأنه يعلم أن هناك أكثر من حبسها على الجزيرة وهناك ما لا تستطيع تحمله دقيقة واحدة:


-لأ فيه يا زينة 


اخفضت يدها من على صدرها واستمرت في النظر إليه تشعر بغرابة حديثهم لأول مرة هكذ


#سجينة_جبل_العامري

#الفصل_الثاني_عشر

ندا_حسن


الشعور بالانكسار قد يكون أبشع شعور على الإطلاق، أن تكون شخص يشعر بأن هناك من يقف خلفك يشجعك على الاستمرار ويكن العون إليك.. والسند الذي تبغاه ثم فجأة تقف أمام ذئاب متوحشة في صحراء جرداء وحدك دون الحامي لك فتشعر أنك مجرد حتى من ملابسك.. فهذا انكسار!.. وهناك غيره أنواع متعددة..


حاولت رفع يدها الاثنين لتدفعه للخلف على الرغم من أنها تعلم أن المدية في جانبها ولكنها لا تطيق تلك الرائحة القريبة للغاية منها في أثناء محاولته لتقبيلها ولكنه شعر بها فوغزها بطرف المدية مهددًا إياها بقسوة وغلظة:


-اثبتي.. قولتلك الموضوع كله مش واخد وقت 


كانت دمعاتها تتهاوى على وجنتيها بغزارة تقف مربطة بجسد مُتشنج تستند إلى ظهر السور تحاول دفعه للخلف لتبتعد عنه وهي تقول بتعلثم:


-أنت عايز مني ايه 


عاد للخلف برأسه ومازال يقف أمامها مباشرة يحاوطها بيد والأخرى في جانبها بالمدية ينظر إليها قائلًا بخبث ومكر:


-واحدة قمر زيك كده هيتعاز منها ايه... غير كل خير 


انسابت دمعاتها أكثر وهي تنظر إليه بقهر تشعر بمدى قذارته ودنائه نظراته نحوها فقالت برجاء وهي تبكي:


-أبعد عني أنا معملتش فيك حاجه 


حرك رأسه يمينًا ويسارًا يرفض حديثها وهو يقترب من وجهها للغاية يتحدث أمام شفتيها قائلًا:


-لأ عملتي.. بس يمكن وأنتي مش واخده بالك 


سألته وهي تبتلع غصة حادة وقفت في جوفها وارتجاف جسدها مازال مُستمر ولكن تحاول أن تلهيه عن تقبيلها والإقتراب منها بهذه الطريقة:


-عملت ايه طيب 


غمزها بعينه الوقحة التي جردتها من ملابسها وهو ينظر إليها من الأعلى إلى الأسفل ووقف على شفتيها بعيناه:


-قربتي.. وحبيتي.. وعاندتي 


حركت رأسها هي الأخرى يمينًا ويسارًا بعدم فهم تخرج منها شهقات متتالية برعب وذعر شديد تشعر به كلما شاهدت نظرته نحوها:


-أنا.. أنا مش فاهمه 


ابتسم وهو يرفع يده التي على الحائط إليها يضعها فوق ذراعها يسير عليه برفق ورقة وهو يتحسسه قائلًا ببرود ومكر:


-لأ أنتي فاهمه كويس وأنتي اللي عملتي في نفسك كده.. مش أنتي اللي قربتي بردو ولا أنا جيت من نفسي 


شعرت أنه يتمادى وهو يُسير بيده عليها فدفعت يده وحاولت أن تستجمع نفسها وقالت من بين بكائها وشهقاتها المُستمرة بتعلثم وضعف شديد:


-أبعد عني والله ممكن اصرخ وألم القصر عليك 


ابتسم بسخرية وهو يعود بيده مرة أخرى إلى الحائط كي يحاصرها وأقترب برأسه منها أكثر وكأنه بوضع حميمي معها لكنه قال بثقة دون رحمة:


-اصرخي وأنا هدب المطوة دي هنا ونخلص بعدها ونقول واحد نط من على السور زي اللي حاول يقتل جبل كده 


اعتصرت عيناها وهي تبكي نادمة على كل شيء مر عليها هنا سواء كان فرح أو حزن جيد أو سيء وقالت وهي ترتعش:


-أبعد عني يا..


قاطعها سريعًا وابتسامته تتسع أكثر قائلًا اسمه:


-عاصم.. ولا نسيتي الاسم 


صرخت به بانفعال وهي على وشك الانهيار والوقوع إلى الهاوية:


-أنت مجنون.. حرام عليك أبعد أنا معملتش حاجه 


عاد للخلف وأخفى المدية بيده وهو يأخذها إلى جيبه سريعًا وقال بسخرية ضاحكًا:


-هبعد.. أنا بس كنت بهزر معاكي بس عارفه لما أبعد لو فتحتي بوقك لحد مش هسمي عليكي


أومأت إليه برأسها سريعًا عدة مرات بقوة وقالت من بين بكائها الذي حاولت السيطرة عليه:


-مش هتكلم أبعد بقى


عاد للخلف أكثر وأفسح لها المجال للعبور وقال مرة أخرى محذرًا إياها:


-أنا حذرتك.. أي حد 


تعود ثانية تومأ له برأسها بهستيرية وهي تنظر إلى ابتعاده عنها وأبصرته ينخفض إلى الأسفل يأتي إليها بهاتفها ثم أعطاه لها وهو ينظر إليها مُبتسمًا بسخرية وتهكم لم تعطي إليه الفرصة لفعل شيء أخر، أخذته منه ثم سريعًا دفعته بيدها وذهبت راكضة إلى الأمام تاركة تلك المنطقة المشؤومة وهي تبكي بقوة وصوت بكائها يرتفع كلما ابتعدت عنه فصاح بصوت عالٍ يحذرها:


-هــا


انخفض صوتها وهي تركض ورأها تضع يدها على فمها كي تكتم شهقاتها وصوت بكائها الذي خرج منها بفعل تلك الخضة والشعور بالخوف والذعر الذي مرت به معه..


أبتعد هو يعود إلى مكانه مرة أخرى وعلى وجهه ابتسامة خبيثة تظهر للأعمى وتوضح أنه شخص قذر..


بعدما أبتعد عن خلف القصر وذهب إلى الأمام تعالت ضحكات آخرى تأتي من الأعلى.. لم تكن سوى "فرح" التي كانت تقف في الشرفة أعلاهم تتمسك بالهاتف وتقوم بتسجيل كل ما حدث لحظة بلحظة.. كل فعل ومعه رد الفعل الخاص به ولكن من أي زاوية وكيف كان المشهد بالهاتف!.. فهذا هي فقط ما تعرفه..


ابتسمت بانتصار وتحركت تدلف للداخل وقلبها خالي من الغيرة تجاهها في فترة لحظية فقط لأن قلبها ينشغل الآن بالسعادة لأجل ما حدث منذ لحظات، ينشغل بفرحة الإنتصار لأنها ظهرت بالوقت المناسب لتسجل ما حدث بينهم ويكن ذلك السيف بين يدها لتتخلص منها وتبعدها عنه إلى الأبد..


كان مخطئ للغاية عندما وقف أمامها وتحداها.. إنها "فرح العامري" من فرع العامري وامتداد العائلة الكريمة والتي لم ترى كرم يومًا.. إنها من امتداد عائلةت تجارة السـ ـلاح وغيره..


ذهبت الأخرى باكية بقهر وحرقة ولكنها محت دمعاتها عندما دلفت القصر وصعدت إلى الأعلى دون أن يراها أحد، ولجت إلى الغرفة وأغلقت بابها خلفها عليها من الداخل ثم ألقت نفسها على الفراش وأخذت تبكي بقوة وصوت بكائها يعلو للغاية.. استمعت جدران الغرفة والأبواب إلى بكائها وشاهد الطلاء حزنها وكسرتها.. وكل ركن شهد على كل شهقة خوف ورهبة خرجت منها ومن أعماقها..


لقد شعرت بالذل والمهانة وهو يقترب منها بهذه الطريقة القذرة يقبل عنقها ويضع يده عليها يتحسسها كما يريد، شعرت بالانكسار والضعف وهي تقف مكتفة الأيدي خائفة من تطاولة عليها بتلك المدية التي كانت معه..


يا لها من لحظات بشعة قهرية مرت عليها وحطمت ما بها، لقد وقع قلبها على الأرض ولم تعد تدري أين هو فقد أشعرها بالخوف المميت وهو يقترب منها إلى هذا الحد ويقول كلمات لم تفهم منها شيء ولم تعرف السبب الذي جعله يفعل بها هكذا!..


شهقت بعنف وهي تبتلع غصة مريرة شعرت بها تعبر جوفها وارتجف جسدها أكثر وهي تفكر في أن هذه كانت البداية منه فقط فما الذي سيفعله أن رآها مرة أخرى وما الذي يريده منها ولما فعل ذلك ولما تركها..


أسئلة كثيرة تدور داخل رأسها تحاول أن ترى لها أي إجابة من أي إتجاه ولكن لا يوجد.. لا يوجد سوى الشعور بالخوف وعدم الأمان والرهبة..


إنها كانت هناك فقط لرؤيته ذلك الذي أرهب قلبها وجعلها تشعر بالحب تجاهه، كانت تتقدم للبحث عنه والنظر إلى وجهه والاستمتاع بقربه هو الوحيد فقط هنا الذي اكتسبته واكتسبت معرفته وقربه.. وحبه لها.. ولكنها لم تكن تتوقع أبدًا أن تقابل لحظة مصيرية فارقة في حياتها أما كانت تكتمل أو تنتهي كما بدأت مثلما حدث منذ لحظات..


توقفت عن البكاء واعتدلت على الفراش تنظر أمامها بعمق تضيق عينيها بتفكير.. لما فعل هذا في لحظات وتركها! كان يريد أن يرهبها فقط؟ أم هناك سبب آخر لا تستطيع الوصول إليه!..


❈-❈-❈


جلست ابنة عمها وصديقتها التي كانت مقربة إليها للغاية قبل أن ترحل وتترك الجزيرة.. بقيت أمامها على الفراش تجلس مُعتدلة تنظر إليها بعمق ثم سألتها بجدية مُستفسرة:


-قوليلي يا فرح.. جبل وزينة اتجوزوا إزاي


تركت "فرح" الهاتف من يدها واعتدلت هي الأخرى تنظر إليها بجدية وقالت بعدما زفرت الهواء من رئتيها:


-دي حكاية 


تعمقت الأخرى في النظر إليها والاستماع إلى حديثها بجدية تامة وقالت بحماس:


-احكيهالي بقى


غمزتها "فرح" بعيناها السوداء وهي تتابعها تحاول أن تفهم ما الذي تريد الوصول إليه بعد أن أتت إلى هنا مرة أخرى:


-جاية ترجعيه؟ قوليلي ولا هتخبي عني 


استنكرت جملتها ثم أبعدت وجهها وهي تتحدث بضيق:


-أنا اخبي عنك؟ بس خايفة تكوني زي أخوكي ومرات عمي اللي اتشقلب حالهم 


رفعت الأخرى أحد حاجبيها تأنبها على تركها لكل شيء خلف ظهرها فقط لأنها فكرت بنفسها بأنانية:


-ما أنتي اللي خايبة مشيتي وسيبتي كل ده يروح من ايدك ولما رجعتي لقتيه فعلًا راح


أومأت برأسها وهي توضح لها أنها أخطأت وتريد الصلاح ولكن ذهولها منه تحكم في نبرتها:


-واديني عايزة ارجعه واتعلمت من غلطي بس ازاي ده جبل كأنه واحد تاني.. ده كأنه محبنيش يوم 


فهمت شقيقته أنها تود أن تلقي باللوم عليه بعد أن تأكد خطأها قائلة بأنه لم يحبها من الأساس ولكنها عارضت حديثها وواجهتها بحقارتها:


-لأ حبك يا تمارا متضحكيش على نفسك علشان تبرري عملتك جبل حبك واتهز لما مشيتي وسيبتيه في الوقت اللي كان محتاجك فيه.. وبقى دلوقتي زي ما أنتي شايفه 


سألتها بقلة حيلة مستنكرة حديثه مع زوجته:


-طب أعمل ايه علشان يرجع وأبعد زينة دي عنه.. أنا مش فاهمه هو بيحبها ولا ايه بس بيعاملها كويس أوي ده بيقولها حبيبتي اللي عمره ما قلهالي طول عمره ناشف مالوش في الكلام ده


ضحكت على حديثها ثم نظرت إليها بقوة قائلة بسخرية:


-لأ يا حلوة ده بيغيظك ولا بيقول حبيبتي ولا غير حبيبتي أنتي أصلًا مش فاهمه اتجوزوا إزاي ولا حتى زينة جت هنا ليه 


زفرت الأخرى بضيق قائلة:


-ما تقولي الله 


بدأت تسرد لها ما حدث بهدوء:


-زينة جت هنا علشان عايزة ورثها من يونس أخويا.. لكن لما جت وقعت في المصيدة أمي عايزة وعد بنت يونس تفضل هنا ومتطلعش من الجزيرة فقالت لجبل يتجوزها..


أكملت تحت نظرات "تمارا" التي تبتسم وتزداد ابتسامتها اتساعًا وهي تستمع إليها:


-جبل رفض وقالها أنه هيحاول بأي طريقة تانية وأنتي عارفه طرقه كتير بس زينة حليت في عينه فجأة ووقفت قصاده في كل كلامه لحد ما طلبها للجواز.. رفضت بردو وحاولت تهرب واتنازلت عن كل حاجه في سبيل أنها تمشي لكن جبل مسمحلهاش


استردت وهي تعود بظهرها للخلف:


-عجبته أوي وقال مش هيحلها لحد ما اتجوزها زي ما أنتي شايفه بعد كده اللي بيحصل بينهم محدش يعرفه إن كان حقيقي ولا كدب 


سألتها باستغراب فكل ما قالته يبدو جيد للغاية بالنسبة إليها وما أوضحه إليها فهمت مقصده منه:


-اشمعنى 


تهكمت عليها "فرح" وهي تنظر إليها بسخافة:


-علشان مش قدامنا يا ناصحة بيحصل في اوضة النوم 


ابتسمت "تمارا" باتساع وهي تضرب بيدها على ركبتيها بفرحة كبيرة تسألها:


-بس المهم أنه ولا كان عايزها ولا هي طيقاه.. صح


أومأت إليها الأخرى مستغربة سعادتها:


-صح 


أكملت تسألها مرة أخرى بابتسامة أكثر اتساعًا من السابقة:


-وكانت عايزة تهرب وتسيبه 


مرة أخرى تأكد لها:


-آه 


أبعدت وجهها للناحية الأخرى وهي تحدث نفسها بصوت مرتفع يبدو عليه السعادة:


-كده اتحلت خالص وسهلة خالص


استغربتها ابنة عمها فعادت للأمام ثانيةً تنظر إليها مستفسرة عن حديثها الذي لم تفهمه:


-هي ايه دي اللي سهلة 


حركت وجهها إليها ونظرت داخل عينيها وهي تقول بسعادة خالصة وكأنها حصلت على حبل لغزه لتستطيع العودة إليه:


-إني أرجع جبل 


حركت "فرح" رأسها تسألها باستفهام مضيقة عينيها عليها بجدية شديدة:


-إزاي؟


رفعت حاجبيها وحركت إصبعها أمامها وهي تقول بقوة متأكدة من حديثها وبدأت الفكرة أن تلعب داخل رأسها:


-لأ دي بتاعتي خليها ليا أنا واقولهالك بعدين بس بقولك ايه أنتي في ضهري لو عوزت أي حاجه معايا ماشي 


أومأت إليها بثقة فهي حتى لو لم تساعدها لأجلها ستساعد نفسها فـ أيًا كان ما الذي ستفعله "تمارا" مع "زينة" فهو سيعود عليها بالنفع عندما ترحل من هنا وتأخذ شقيقتها معها..


-طبعًا معاكي هو أنا هحبها أكتر من بنت عمي 


ابتسمت لها بسعادة:


-فرح بصحيح 


ومن هنا بدأت اللعبة معها على حق، علمت كيف ولما تزوج من زوجة شقيقه.. لقد كانت تائهة بينهم ولكن الآن أصبحت تعلم أين المرسى وما الذي ستفعله معهم لتسترد ما كان لها.. ولتعد البلاد إلى حاكمها..


❈-❈-❈


كان عاصم يقف داخل غرفة الحراسة ما كاد إلا أن يخرج هاتفه لمحادثها إلا أنه وجده يصدر رنينا عاليًا.. أخرجه من جيبه ونظر إليه ليجد "طاهر" يحادثه..


أجاب عليه قائلًا باستغراب مضيقًا عينيه:


-بتكلمني ليه 


أجابه الآخر باستهزاء وتهكم وصل إليه من خلال نبرة صوته:


-هو عيب لما أكلمك ولا ايه


زفر الهواء من رئتيه بنفاذ صبر قبل أن تبدأ المحادثة بينهم حتى وصاح قائلًا:


-عايز ايه يا طاهر انجز 


تخللت نبرته السخرية وهو يقول مُجيبًا إياه:


-واحشني يا جدع قولت أمسي عليك 


سأله يبادله سخريته وهو يضغط على الهاتف بيده بقوة:


-ومسيت؟


بمنتهى البرود أجابه "طاهر":


-لأ لسه


صاح به بنفاذ صبر وهو يتحرك بالغرفة بعصبية:


-انجز 


تنهد بصوت مرتفع وقال له بجدية بعد أن اعتدلت نبرة صوته:


-مش ناوي تكمل المسيرة بتاعتك وتبقى أوفى راجل عرفه جبل 


سأله "عاصم" مضيقًا ما بين حاجبيه:


-اومال أنا ايه يا طاهر 


ضحك بصوتٍ مرتفع ضحكات متفرقة بسخرية مُستهزأ به ومتهكمًا عليه وأكمل حديثه بجدية ذات مغزى:


-اوفى راجل بس من ناحية تانية.. جالي أخبار كده إنك وقعت ومحدش سما عليك.. سما زرقا وشعر أصفر 


اعتدل "عاصم" وثبت في وقفته ولم يتحرك فمرت هي كالهفوة على عقله عندما استمع إلى حديثه ولكنه أردف:


-أنت قصدك ايه


لم يكذب عليه بل أفصح عن قصده بلا مبالاة:


-هيكون قصدي ايه غير الجمال التركي النادر


على صوت "عاصم" بغضب صارخًا باسمه:


-طاهر...


أخذ الآخر ما يريد فابتسم وهو يعود لتهدئته:


-اهدى بس على نفسك بالراحة دا أنا حتى كنت هباركلك.. متبقاش حمقي كده 


لم يعطي إليه الفرصة للتحدث أكثر من ذلك وصرخ مرة أخرى وصبره ينفذ حقًا:


-بقولك عايز ايه 


سأله بخبث ومكر:


-مش ناوي ترجع الملاعب.. علشان نوقف كل اللي بيتدربوا 


وقف شامخًا وأجابه بتأكيد وثقة:


-أنا موقفهم كده كده يا طاهر وأنت عارفني كويس 


ضغط "طاهر" على أسنانه بقوة وأردف بتهديد واضح بعد أن أدلى برفضه لحديثه:


-مش لوي دراع يا عاصم.. فاضلك عندي تكه واحدة


لم يعير حديثه أي اهتمام بل أكمل عليه ساخرًا:


-اعتبرها مش موجودة ووريني أخرك..


سأله بقوة وهو يتوعد له:


-أنت شايف كده؟ بايع يعني 


أومأ برأسه وأدلت بالكلمات شفتيه وارتفع صوته وهو يقول بغضب:


-آه بايع يا معلم ويلا في داهية 


استمع إلى صوته الذي يهدد إياه:


-طب متبقاش تزعل 


ضحك بسخرية يردها إليه ثم صاح بقوة يذكره بتاريخه معهم:


-أنت هتعملهم عليا إحنا عارفين من فينا اللي كل يوم والتاني زعلان.. غور بقى 


أغلق الهاتف بعصبية بعد أن عكر ذلك الحيوان صفوه وهو الذي كان في مزاج جيد للغاية، وعلى بُعد لحظة واحدة من الوصول إلى تلك الغريبة الغبية.. الطفلة المزاجية والتي تتحول كل ثانية.. الذي اخترق معها كل القواعد وتعدى الخطوط الحمراء وابتعد عن مساره الصحيح وأبحر داخل محيط ليس به مرسى وليس به مكان للنجاة.. لقد أغرق نفسه بنفسه وهو يركض من هنا إلى هناك خلف هواجس غريبة تخللت وسارت داخل عقله وأثبتت إليه أشياء لم يكن يعرف لها معنى ولم يكن يدري بوجودها.. 


نظر إلى الهاتف وأعاده مكانه مرة أخرى وهو يزفر بضيق فقد كان يود أن يتسلى قليلاً بذلك العبث الذي يفعله بها..


عاد إليه عقله مبتعدًا عن التفكير بها وللحظة تذكر حديث "طاهر" كيف علم عن أصولها التركية؟ كيف علم بمظهرها! خصلاتها الصفراء وعينيها الزرقاء ومن أخبره أنه وقع بحبها أو حتى الإعجاب بها!!.. الخائن بيس على الجزيرة بل هو من داخل القصر.. من حراس القصر!


اخرج الهاتف مرة أخرى وهو يقرر أن يفعل ما أراد بعد أن اخترق عقله كثير من الأفكار ولكن استوقفه ما أرسلته إليه "فرح" عبر تطبيق الواتساب.. فولج إليه ليرى ما الذي ارستله وليته لم يدلف..


نظرات عينيه الحمراء يخرج منها غضب بركان وحممه تتساقط وهي تنظر إلى الشاشة وترى ما كان يحدث خلف السور.. 


صقر طائر وقع جريح وهو الجارح.. كيف لها أن تفعل ذلك؟ كيف لها أن تسمح لنفسها..


وكيف يحدث هذا! غضبه لا يدري أهو منه نفسه أو منها أو من "فرح" تلك الغبية الحقيرة التي سيكون لها عقاب لم تشهده سابقًا ولكن صبرًا


لقد أوقعته وفعلت ما أرادت ولكنه لن يجعلها تفرح كثيرًا ولن يترك أي شخص اشترك بهذه الفعلة الدنيئة.. 


نظر أمامه بنظرات حادة غاضبة.. غضبها جامح ورفقها غير موجود.. والتفكير يعبث برأسه والحرب دائرة داخله..


❈-❈-❈


جلس "جبل" على الفراش ومعه بيده بعض الأوراق والملفات المهمة الذي أخرجها للتو من خزنته الخاصة بدأ في النظر إليها واحدة تلو الأخرى وهو يعمل ويعيد ترتيبهم مرة أخرى


تركت المقعد الذي كانت تجلس عليه وذهبت لتجلس جواره على الفراش ثم خرجت الكلمات من بين شفتيها دون حساب:


-مش ناوي تفتحلي قلبك؟


رفع بصره إليها باستغراب شديد وعيناه تتابعها ثم ابتسم فجأة وهو يقول ساخرًا:


-الكلمتين اللي اتكلمتهم معاكي ادوكي دفعة شجاعة علشان تقولي تفتحلي قلبك مرة واحدة


أومأت إليه برأسها وهي تعتدل لتكن مقابلة له وقالت الحقيقة بجدية:


-آه.. خلوني أفكر أكتر 


أعاد نظره إلى الأوراق بيده وسألها:


-في ايه بقى 


ببساطة شديدة تحدثت عنه:


-فيك


سألها مرة أخرى بجدية وهو يود حقًا أن يعلم ما الذي تفكر به:


-إزاي


أردفت بجدية وصدق فحقًا الحديث معه في المرة السابقة كان كالسهل الممتنع وتفكيرها المستمر دائمًا ابحر أكثر من السابق وأرهقها:


-يعني.. خلوني أشوفك بطريقة تانية وأحس أنك إنسان عادي زينا وممكن التعامل معاك يبقى أسهل لو فهمتك وفهمت حياتك كانت إزاي وليه بقت كده 


عاود يسألها ببرود ولا مبالاة:


-وأنتي كنتي شيفاني إزاي


عبثت ملامحها وضغطت على أسنانها وحروف كلماتها وهي تتحدث بغل:


-كنت شيفاك ديب من ديابة الغابة بتاعتكم


ضحك بقوة وعبث بالأوراق وهو يستشعر طريقتها وتخيل ملامحها بعد الاستماع لصوتها لأنه لم يحظى برؤيتها وهي تقول ذلك:


-للدرجة دي 


أومأت إليه وهي توضح له برفق:


-وأكتر كمان ولحد دلوقتي أنت لسه زي ما أنت أنا بس بحاول اتأقلم أكتر 


رفع بصره إليها ينظر إلى ملامحها ثم هتف مستغربًا:


-مش قولتي خلاص اتعودتي على سجنك معايا 


تابعته وهي تنظر إليه أيضًا ولكنها الآن في مرحلة لم تمر عليها من قبل معه إلا مرة واحدة، تتحدث معه برفق ولين وهو سهل بسيط للغاية فحاولت استدراجه وهي تقول:


-سجن.. ليه ميتحولش لتأقلم عادي وبالرضا 


سألها مضيقًا عينه عليها:


-وده ينفع؟


حركت كتفيها بهدوء تعاود هي نفس السؤال:


-ماينفعش ليه؟


ابتسم باتساع لأنه يدرك جيدًا أن هذه ليست المرأة التي تتحول هكذا بين ليلة وضحاها فقال يوضح لها مدى ذكائه الذي رأته سابقًا ولكن يبدو لا تعترف به:


-علشان اللي أعرفه إنك مش بالساهل تتغيري كده.. يمكن بتحاولي تستهبليني علشان احكيلك اللي أنتي عايزاه 


سبته داخلها لأنه يدرك جيدًا ما الذي تريد الوصول إليه ولكنها تصنعت ذلك بحرافية وهي تقول بمكر:


-بالعكس أنا بفكر بجد أنه ليه مقعدش هنا بالرضا بدل الغصب خصوصًا إنك محتاج كده الفترة دي


استغرب قائلًا: 


-وده ليه بقى 


أجابته بعقلانية لأنه أراد أن يظهر لابنة عمه أنه الأفضل على الإطلاق ومعه زوجته وابنته، لعبت على ذلك تعبث به:


-علشان تمارا مثلًا.. مش ممكن نحسن علاقتنا وتبان أنها حقيقية أكتر قدامها 


ابتسم أكثر وعاد بعينه بعيدًا عنها قائلًا بعدم اقتناع:


-مش داخل عليا كلامك ولا هيدخل يا غزال 


سألته بضيق:


-للدرجة دي؟


أجاب سؤالها بهدوء وجدية موضحًا لها أنه يفهمها جيدًا ويعلم أنها تريد العبث به ليس إلا:


-مش أنتي اللي تستسلمي بسهولة وحتى لو استسلمتي مش هيبقى بالطريقة الراغبة فيا دي


تحدثت وهي تتحرك على الفراش تبتعد للخلف تظهر ثقتها بنفسها أكثر وتظهر له أن حديثها حقيقي بعدما تراجعت وتحدثت بعدم اهتمام:


-مين قال إني رغباك.. أنا عايزة نعيش مع بعض وإحنا راضيين طالما خلاص اتحكم علينا بده وده في مصلحتك ومصلحتي


تفوه مستغربًا من حديثها:


-مصلحتي وعرفناها.. مصلحتك ليه بقى


عادت المسافة التي ابتعدتها مرة أخرى وقالت بجدية وصدق نابع من قلبها وعقلها الذي قتله التفكير:


-أولًا علشان بنتي.. ثانيًا علشان أنا تعبت منك وتعبت من تفكيري فيك أنت شخص كويس ولا لا ومحتاجه أفهم بجد وارتاح 


ترك ما بيده تمامًا واعتدل في جلسته عندما طرح عقله عليه هذا السؤال بعد حديثها الذي استشعر به الصدق فقال دون مقدمات:


-لو طلعت شخص كويس مش زي ما أنتي شايفه هتعملي ايه.. هتفضلي معايا ولا هاتمشي


نظرت إليه للحظة ثم عدلت عليه:


-أنت سألت السؤال غلط 


حرك رأسه يسألها وعيناه تتابع كل حركة تصدر عنها:


-وايه الصح 


نظرت إليه بعمق وبقوة ثم خرجت الكلمات من بين شفتيها تعدل سؤاله ليكون عقلاني أكثر:


-لو طلعت شخص كويس مش زي ما أنتي شايفه هتغيري نظرتك السابقة فيا وتنسي اللي عملته فيكي ولا لأ


ظل ينظر إليها دون حديث فأكملت هي قائلة:


-من هنا نقدر نسأل ولو هغير نظرتي وانسى تسأل بعدها هتتقبليني ولا لأ وبعدها هتقعدي ولا لأ


لا يدري لما أصبح ينظر إليها كل هذه المدة دون حديث وهي تتابع عيناه دون كلل أو ملل بل وقف الحديث على طرفي لسان كل منهما ولكنه في لحظة ما خرجت منه الكلمات بعفوية تامة:


-لو نسيتي وغيرتي رأيك فيا.. هتحبيني؟


كررت نفس الكلمة باستغراب تام وذهول أحاط عقلها بعد أن ارتجف جسدها من أثرها عليها:


-أحبك!


بقيت تنظر إليه دون إجابة وهي ترى عيناه وملامحه تترقبها وتنتظر منها إجابة.. أهو حقًا ينتظر منها أن تحبه؟ أهو يتخيل أن الأمر بهذه السهولة؟ أو هو تغيرت مشاعره تجاهها ليقول هذا الحديث مرة واحدة.. أهو مختل؟ لقد قفز مرة واحدة في العلاقة بينهم وهي لا تستطيع تحديد أي مرسى تقف عليه الآن معه؟ أنها فقط أرادت التحدث ليس أكثر


شاهد تعابير ملامحها التي تتغير كل لحظة والأخرى وكأنها تحدث نفسها قال:


-ايه صعب؟


حاولت الهرب من حديثه لتعود إلى ما أرادت وقالت بضيق وانزعاج:


-أنت بتغير الموضوع وبتهرب بردو 


نفى ما قالته وهو يوجه لها نفس الإتهام بالهرب:


-أنتي دلوقتي اللي بتهربي 


تابعته قائلة بامتعاض:


-بس أنا اللي سألت الأول


استاء من حديثها لأنه على علم تام بما تريد وفجأة أراد أن يبدل الأدوار وراقت له اللعبة:


-معلش مش في حضانة إحنا


وجدها تسأله بضيق شديد يظهر على ملامحها:


-أنت إزاي كده


لوى شفتيه قائلًا:


-كده ايه


خرجت الكلمات منها بنفعال بعد أن احتارت في وصفة.. بكل أريحية يجلس الآن ينظر إليها بعينيه الخضراء الصافية يخفي نظرته المخيفة عنها وكأن لم يكن هناك أي شيء سيء فعله معها:


-مبقتش فاهمه أي حاجه منك بجد.. عصبي ودبش، قاسي وعنيف، ولا حنين وطيب، عادل وحكيم لأ وبتتكلم معايا دلوقتي عادي كده من غير ما عينك تبصلي البصة اللي بتخوف دي 


ارتفعت ضحكاته التي لم تخرج مؤخرًا إلا معها هي بسبب تلك العفوية الغريبة التي تستدرجه إليها بكامل إرادته:


-أنا عيني بتخوف؟


أومأت إليه دون خوف مؤكدة:


-آه


صمت وهو ينظر إليها ومازال يضحك فابعدت الضحكات عنه وهي تقول بضعف وحزن ظهر عليها:


-جبل.. احكيلي 


تنهد بعمق وهو ينظر إلى ضعفها ويشعر بمدى المعاناة التي تمر بها خصوصًا أنها امراة حرة فضولية تريد أن تكون على علم بكل شيء، أردف بجدية شديدة:


-ماينفعش.. جبل اللي أنتي عرفتيه ماينفعش يتهز ولازم يفضل زي ما هو.. وكلمة مني يا غزال طالما أنتي عايزة نبقى كويسين هبقى كويس معاكي بس طول ما أنتي مش بتغلطي 


احتارت وهي تقترب منه تشير إليه بيدها على مدى الإرهاق التي تشعر به كلما فكرت به أو بشيء يخصه، تدلي إليه بعذابها في الأيام السابقة وسعادتها بأن الطريق فتح بينهم:


-لو اتكلمت معايا هتريحني.. أنت مش فاهم دماغي فيها ايه.. أنا ما صدقت بقى في كلام بينا لأن أنت الوحيد اللي ممكن يريحني.. طول الوقت دماغي كانت مش بتفصل تفكير وتسأل أسئلة مش لاقيه ليها إجابة


لمعت عينيها بغرابة وهي تحاول بكل الطرق أن تجعله يدلي إليها بكل شيء بحياته ويعترف بأسراره:


-طول الوقت مش فاهمه أنت ايه ولا عارفه أهرب منك إزاي لكن مرة في مرة حسيتك حد تاني ودي الفرصة اللي سرقتها علشان تتكلم.. أنا مستعدة انسى اللي حصل دلوقتي بس تريحني 


تفوه مستغربًا من طريقتها التي تحولت وكأنها مدمنة تريد الخلاص وهو بيده فقط:


-اريحك إزاي


وضعت يدها على يده تتمسك به قائلة وعينيها متعلقة به:


-قولي أنت فعلًا تاجر سـ ـلاح؟ 


وجدت الصمت عنوانه لم يدلي إليها بأي حديث فأكملت مرة أخرى تسأل:


-طب أنت قتـ ـلت فعلًا؟


الإجابة الصمت كالسابق فتابعت تضغط على يده تتأمل أن يجيبها:


-طب أنت راجل ظالم ومجرم؟ 


أبعدت يدها عنه وأصبحت تُشير بها وهي تتحدث بصدق موضحة له أنها لا تستطع العيش مع رجل مجرم مثله أما أن يتركها تذهب أو يعترف بالحقيقة:


-جاوبني.. أنا مقدرش أعيش معاك وأنا عارفه أنك كده مقدرش أعيش في نفس المكان حتى لو أنت بعيد عني.. جبل لو أنت فعلًا كده أرجوك خليني أمشي أنا مش هعوز منك أي حاجه وأقسملك إني مش هبلغ 


ابتسم بسخرية شديدة قائلًا:


-هو أنتي فاهمه إني خايف تبلغي؟ يبقى لسه معرفتنيش فعلًا 


أومأت إليه تؤكد ما قال ورأسها تكاد تنفجر من كثرة التفكير والحديث الذي لم يأتي بنتيجة معه:


-دي حقيقة أنا مش عرفاك.. دي تاني مرة نتكلم مع بعض بجد كل اللي شوفته منك أفعال كلها بتناقض بعضها بسببها دماغي بقت متلغبطة 


تنهد وهو ينظر إليها بعمق وقال بثقة وتأكيد:


-كل اللي أقدر اقولهولك ارتاحي يا زينة 


استغربت نطقة لاسمها بهذه الطريقة فرددته باستنكار:


-زينة!


ضرب على يده وهو يضحك ساخرًا قائلًا بتهكم:


-أنتي محسساني إني لما بقول زينة كده بقول اسم واحدة تانية.. هو مش ده اسمك بردو 


ابتسمت على حديثه وعيناها تلمع بطريقة غريبة، كنجم لامع بقوة بين ظلام السماء، قالت برفق وهدوء تنظر إليه:


-تصدق غزال أحلى


ظل ينظر إليها للحظات والأخرى يتابع نظراتها نحوه وحديثها معه كل هذا الوقت وليست المرة الأولى، لهذه الدرجة هي امرأة فريدة من نوعها كي تجعله يجلس هكذا ويتحدث معها ويضحك أيضًا..


-شايف لمعة غريبة في عينك.. يمكن هتحبيني!


كانت تنظر إلى عيناه مباشرة واخترقت الكلمة قلبها مرة أخرى غير الأولى، لكنها تحدثت تجيبه بقوة تنظر إلى داخل عيناه دون خوف تقول ما لم يستمع إليه سابقًا.. تذكره أنه من كسرها بكامل إرادته الحرة، وتعلمه بأن ما صدر منها ما كان إلا ضعف:


-بتتكلم عن الحب كأنه حاجه سهلة أوي بأيدينا.. حتى لو سهلة وتنفع معاك متنفعش أنا مستحيل انسى اللي عملته فيا.. كله كوم وكسرتك ليا كوم لأنك عملت كده وأنت عارف إنك بتكسرني وبتذلني ولو فاكر إني لما سبتلك نفسي كده خلاص فلا.. دي كانت لحظة ضعف مني وندمت عليها لأنها مكانتش المفروض تحصل 


تابع نظراته نحوها، يشعر بكل كلمة خرجت من داخل قلبها ليس فمها أو شفتيها تدلف إلى قلبه مع تلك الأسهم الذي تخرج من عينيها تلقي إياه بها بعنف..


-مبتردش ليه


قال وهو يبعد وجهه عنها:


-كفاية كلام 


سألته تحاول أن تنظر إليه وترى ملامحه بعد حديثها:


-ليه؟ علشان قولت الحقيقة ولا يمكن تكون وجعتك


وقف على قدميه بعد أن ارهقه الحديث معها فهو جميعه يحتاج إلى تحليلات يرفعها إلى نفسه ثم إن كانت تجوز أن يدلى بها تعبر من بين شفتيه وتخرج وهو لم يعتد على ذلك أبدًا.. أبتعد وهو يقول بنفاذ صبر:


-علشان كلامك كله بيحتاج تبريرات أنا مقدرش أقولها.. وكله استدراج ليا علشان أتكلم معاكي وافتحلك قلبي زي ما قولتي.. زينة أنا وأنتي اخرنا قعدة صافية زي دي أكلمك فيها كلمتين زي دول أكتر من كده لأ.. لأن دي أسرار وآه أنا تاجر سـ ـلاح وقـ ـاتل ومجرم 


كذبته وهي تقف تتقدم منه تقول بمنتهى الثقة ما الذي تشعر به تجاة رجل حكيم عادل لا يصلح أن يكون غير ذلك:


-مش حاسه بده.. تصرفاتك الأخيرة وكل الكلام اللي حوليا خلاني أعيد حساباتي وأفكاري فيك.. مافيش مجرم بيعمل كده.. أنت نفس الشخص اللي قالي أن قلبه مافيهوش رحمة...


أشارت إلى نفسها وهي تعترف بأنه رجل لا يوجد به إلا كل الخير:


-أنا زينة مختار بقولك أن قلبك مافيهوش غير رحمة وبس.. والقسوة دي معرفش سببها ولا جات منين بس أنا عندي فضول هيموتني علشان أعرف أصل الحكاية 


أشار إليها بيده مستنكرًا وعيناه تجوب وجهها بذهول:


-بردو الفضول ده.. أنتي مش بتحرمي أبدًا 


أكمل بقسوة تعود إلى موضعها الأصلي تخرج منه بصرامة وعنف وعيناه بدأت في التحول:


-حاولي متمشيش ورا فضولك علشان ممكن يوقعك في غلط أكبر مني ومنك.. وقتها هتنوري في الجبل ومش هسمي عليكي 


استدارت تعطيه ظهرها تزفر بضيق لأنه يعود معها إلى نقطة الصفر بعد أن أيقنت أنها إن استمرت معه هكذا سيكون كتاب مفتوح لها إن لم تخطئ:


-رجعنا للغرور والتكبر والكلام الزفت اللي زيك 


شعر بها وبما جال بخاطرها فعاد يقص عليها ما قاله يطمئنها بأنه لن يعود ذلك الشخص القاسي مرة أخرى:


-بعرفك بس.. متزعليش أوي كده أنا مش برجع في كلمتي قولتلك خلاص هنتعامل كويس 


عادت تنظر إليه وقالت بفضول قاتل:


-ماشي بس ايه الغلط اللي ممكن يكون أكبر منك 


ضغط على شفتيه بقوة بعدما انفعل بسبب فضولها الزائد عن حده فهي لا تترك الكلمة تمر مرور الكرام، قال بضيق:


-أنتي مش بتهمدي..


رن هاتفه على الفراش فتقدم يأخذه نظر إلى شاشته وعاد إليها قائلًا:


-معايا تلفون مهم 


ذهب إلى الشرفة بعد أن فتح الهاتف ودلف ليتحدث به وترك الأوراق على الفراش كما هي.. 


جلست هي مرة أخرى تنتظره تفكر في حديثهم المتناقض ونظراتهم الغريبة.. حديثه عن الحب بطريقة غريبة مبالغ فيها، هروبه منها وعدم إجابته على أي من أسئلتها بإجابة واضحة مريحة.. 


طريقة تواصلهم الذي اختلفت كثيرًا وهي التي لم تعد تفهم شيء أكثر من السابق حتى لم تفهم نفسها!.. ما الذي يحدث معهم!..


حركت رأسها بقوة وهي تشعر بالصداع يداهمها من كثرة الأفكار وحاولت طردهم إلى أن تنهي النقاش معه لتبدأ بالصداع وهي تفكر بعد انتهاء الحديث ليكن مرة واحدة..


نظرت إلى أوراقه الذي كان مهتم بها للغاية ثم عادت بنظرها إليه لتراه يقف في الشرفة يتحدث في الهاتف يعطي إليها ظهره..


انتهزت الفرصة عندما أدركت أنه مشغول عنها وهذه الأوراق شغلته أكثر أثناء الحديث فازاد فضولها نحوها وتقدمت منها وهي جالسة على الفراش تضغط على شفتيها بحدة وهي تتمسك ببعض منهم..


رفعت الأوراق أمام وجهها وأخذت تقرأ محتواها وهي تبدل من ورقة إلى الاخرى ثم وقفت بعينيها على حين غرة ودققت النظر وعينيها تتسع بصدمة وذهول..


ألقت ما بيدها وأخذت من بقية الأوراق على الفراش وعينيها تتسع أكثر وأكثر، لم تستطع أن تبتلع تلك الغصة التي وقفت بحلقها وهي تقرأ ما كتب على الأوراق وتلك التواقيع أسفله!!..


كل الأوراق تنص على الإجرام الكامل! كل الأوراق تقتل البشر، كل ما كتب ينص على قتل النفس والتحريض على ذلك.. حقائق وأسرار بشعة تنظر إليها بعنيها ولا تصدق ما تراه.. وكأن الآية انقلبت!.


رفعت وجهها عنهم مُحركة شفتيها ناطقة بارتجاف:


-إزاي.. معقول!؟


حقيقة أخرى تحل عليها من المساء بطريقة غير معقولة وكأن الله يبعث إليها الحقائق واحدة تلو الأخرى لتستطيع التفريق ومعرفة البشر وما يفعلون من حولها..


احتلت الصدمة كيانها وارتجف جسدها والشريط المار على عقلها لا يتوقف بكل ذكرى راحلة منذ البداية إلى الآن!..


رأته يدلف من الشرفة ينظر إليها والأوراق بيدها، تابع نظراته ببرود تام ووقف شامخًا أمامها يعود لعصره بعدما علم أن فضولها ساقها إلى تلك الأوراق وعلمت محتواها!..


لكنها كانت في حالة أخرى بعيدة كل البعد عن التفكير به.. بل كانت تفكر بحياتها الضائعة سابقًا والآن!..


❈-❈-❈


"يُتبع"


 

#سجينة_جبل_العامري

#الفصل_الثالث_عشر

ندا_حسن


"أثر الصدمات الآتية من أكثر الأشخاص قربًا وحبًا لا يكون إلا كرهًا وموتًا"


نظرات مُتألمة ومخدوعة في سنوات راحلة، ملامح لا تصدق الصدمة التي رأتها من باب الصدفة وأدركت مدى خطورتها على حياتها وحياة ابنتها، قلب في لحظة تهشم وأصبح فُتات ليس له أي قيمة، جسد يرتجف بعنف يظهر على حركاته اللا إرادية الذهول التام وأدرك حينما أبصر الحقيقة أن أرضه كانت محتلة لسنوات عديدة.. ولكنها أحتلت بالحب والحنان.. أحتلت بالعطاء الوافر وفي الخلفية كانت الجرائم لا تعد ولا تحصى.. لم تدرك ذلك إلا الآن من باب الصدفة!؟


ترقرقت الدموع بعينيها الحادة ورفعت الأوراق بيدها إلى الأعلى لينظر إليهم ثم صاحت بصوت مرتجف مُتردد:


-ايه ده؟


جذب منها الأوراق بعنف وخرج صوته بحدة:


-أنتي مش هتهمدي؟.. مين قالك تمدي ايدك على الورق ده 


صرخت بوجهه وهي تنهار وكل حصونها تقع مدمرة حولها من هول الصدمة فلا تستطيع تحملها:


-رد عليا بقولك.. رد عليا ايه ده 


أجابها بعجرفة وهو يقف أمامها شامخًا يعلم جيدًا ماذا رأت لتكن بهذه الحالة:


-ميخصكيش 


عارضته بقوة وحده وصوتها يعلو أمامه:


-لأ يخصني.. يخصني أكتر منك


تقدم منها يقف أمامها أكثر إقترابًا عندما رق قلبه ناحيتها ورأى رعشة جسدها الواضحة وملامحها التي تحولت إلى أوراق ذابلة:


-قولتلك يا زينة بدل المرة عشرة اتحكمي في فضولك وخليكي في حالك أنتي مش هتوصلي لأي حاجه إلا لو أنا اتكلمت وأنا مش هقولك حاجه لأن الحقيقة هي اللي قدامك بس أنتي مش مقتنعة 


صرخت بوجهه منفعلة وهي تشير بيدها الاثنين بهمجية شديدة:


-ما تولع.. ياخي ما تولع أنا دلوقتي بتكلم في الورق ده! يونس؟ يونس كان عارف كل حاجه أنت بتعملها كان شريكك؟


تعلقت عينيها به عندما وجدته صامت لا يُجيب، أطالت النظر إلى عينه الحادة فلم تدرك ما تقول وإلى ماذا تشير! وضعت يدها على صدرها تستعطفه وحالتها مذرية:


-رد عليا يا جبل.. أبو بنتي كان بيعمل كده معاك؟ كان عارف كل حاجه عنك؟


أومأ إليها برأسه بقوة وتأكيد وبعدما كان مظهرها يؤثر على قلبه الجاف القاسي تهللت أساريره وهو يراها فرصة مناسبة لإبعاد "يونس" عن قلبها للنهاية وأن يرق قلبها ناحيته هو:


-آه كان عارف 


صرخت بعنف وقسوة وصوتها الحاد يخترق أذنيه قائلة بانهيار:


-لأ.. لأ كدب... كدب 


كان أناني للغاية في هذه اللحظات عندما وقف بجمود يتحدث بقسوة لن تفيد أي شخص إلا هو:


-أنتي مجنونة ولا ايه، سألتي ورديت والورق قدامك يثبت وأنتي عارفه إني مش كداب 


تقف الدموع حبيسة على أعتاب جفنيها تأبا الهبوط بهذه السهولة أمامه ولكن الصدمة كبيرة للغاية على استيعاب عقلها وقلبها:


-لأ قول غير كده أرجوك.. قول غير كده إزاي يونس؟ لأ طبعا مستحيل 


حرك كتفيه وهو يستلذ بهذه النظرات الخارجة منها الغير مصدقة لما رأته وما قاله عن شقيقه ولكن في نفس الوقت تتغير هذه النظرات إلى الصدمة والذهول الذي يبغضه:


-طالما أنتي شايفه إنه لأ براحتك 


تقدمت منه للغاية وأمسكت بيده بقوة تجهش في البكاء في لحظة ضعف أقل ما يقال عنها أنها جعلت قلبها فتات ملقى على الأرض بإهمال من قِبل شخص تخلت عن بصرها لأجله! الدموع تنهمر من عينيها بغزارة كأنها كانت حبيسة لسنوات والآن تحررت..


خرجت الكلمات منها مُتعثرة تتليها شهقات مُتفرقة ونظراتها نحوه تطالب بأن يكذب كل شيء فليس من السهل عليها أن تتحمل هذا أيضًا:


-جبل علشان خاطري.. قولي الحقيقة كلها.. ماينفعش يونس يبقى كده ولا حتى يعرف بالكلام ده 


ضغطت على يده وهي تطالب منه مرة أخرى دامجه مع رجائها عن "يونس" أن يكون هو الآخر غير ذلك:


-قولي إن فيه حاجه غلط.. قولي إنك مش كده وكل ده كدب


نظر إليها لحظات وشعر لبرهة أنها تود أن يكون شخص آخر بكل جوارحها ولكن للأسف.. تحدث بجدية وهدوء، ينعم بثبات غير طبيعي أمامها:


-دي الحقيقة.. أنا كده جبل العامري مجرم وقاتل ويونس كان عارف كل حاجه عني وكان شريكي


دب خنجر داخل قلبها مُعتقد أنه مازال في موضعه بكل قسوة وأنانية:


-اومال أنتي مفكرة أن الفلوس اللي كان بيصرفها عليكم دي منين 


تركت يده وبقيت ترتعش أمامه، أردفت سريعًا توضح له وتنفي ما يريد التلميح له:


-من شغله.. كان شغال في شركة محترمة ومكناش أغنية بالعكس كنا زي أي حد 


تعالت ضحكاته وهو يُسير مبتعدًا عنها متقدمًا من خزانته ليضع الأوراق في مكانها وهو يقول ساخرًا منها:


-عيشتي خمس سنين أنتي وبنتك وأختك بفلوسه اللي سابها وزي أي حد؟ أنتي بتضحكي على نفسك


صرخت به وهي تنهار مرة أخرى وأخرى وبكائها لا يتوقف ويرتفع صوت شهقاتها في أذنيه لا تتحمل ما يقوله ولا تستطيع استقبال تلك الصدمة:


-ماينفعش والله العظيم ماينفعش.. يونس!.. لأ


طمست على وجهها وأزالت عبراتها وهي تحاول أن تتحلى بالثبات قائلة بروعة:


-يونس كان طيب وحنين.. راجل بجد ومحترم ومثقف.. كان عاقل إزاي كده أنا هتجنن 


استدار ينظر إليها ببرود ولا مبالاة وراق له ما يحدث كثيرًا بل وأحبه أيضًا ولو كان يعلم أن هذا سيساعده لجعلها ترى الأوراق منذ مدة ولكن كل شيء يأتي في موعدة:


-ممكن تكون الحقيقة صعبة عليكي.. بس في النهاية هي دي الحقيقة 


أشارت إلى نفسها وهي تتحرك في الغرفة تحدث نفسها باستنكار وانهيارها الداخلي أصعب بكثير مما يظهر عليها:


-كان بيبعدني عن الجبل وعنك علشان كده! كان بيحذرني منك وأنا مكنتش فاهمه حاجه طلع كان عارف 


وقفت تتابعه والكلمات تخرج منها بعفوية:


-كان عارف وكان شريكك.. طيب ليه كان بيحذرني منك ماهو كمان كان زيك 


تُشير إلى نفسها بدهشة وهي تهتف:


-أنا إزاي اتخدعت كده إزاي!.. 


نظرت إليه بأمل واقتربت منه لا تستطيع تقبل ما يحدث، لا تستطيع أن ترى زوجها الراحل بهذا الشكل والهيئة الذي عليها شقيقه.. قاتل، مجرم.. لا تستطيع فهو حقًا لم يكن هكذا:


-الورق ده أكيد مزور.. أكيد غلط أنت عملت كده علشان أشوف يونس زيك صح.. قول الحقيقة أنت اللي عامل كده 


وضع يده بجيب بنطاله كعادته الباردة وهو يتابعها دون ذرة رحمة أو شفقة لحالتها الجنونية المنهارة:


-أنا لو عملت كده هستفاد ايه مثلًا


أشارت إليه بقوة وصاحت بصوت مرتفع عالٍ تقول ما أراده حقًا ولكن لم يفعله فهو لم يأتي بخلده أن يفعل ذلك من الأساس:


-إني أكره يونس علشان أنت عارف إني لسه بحبه.. إني زي ما اتقبلته اتقبلك أنت كمان وأكمل معاك وأحبك زي ما كنت بتقول 


ابتسم ببرود قائلًا:


-أنا لو عايز أعمل كل ده مش هعمله بالطريقة الهبله دي.. عندي طرق تانية أحسن وأسرع كتير


وضعت يدها على ذراعه تستطعف كل عضو به وعينيها تذرف الدموع بغزارة ويدها الموضوعة عليه يشعر بارتجافها.. قالت بانكسار وهي تسير خلف أي شيء يكذب ما علمته:


-جبل فهمني.. بالله عليك ياخي تفهمني كل حاجه والله العظيم هعملك كل اللي أنت عايزة بس فهمني اللي بيحصل أنا مش قادرة استوعب 


كان ينظر إليها باستغراب، لقد أنهارت بسهولة، لم تفعل هكذا في أصعب لحظاتها.. لم تنهار هكذا عندما أقترب منها ولم تنهار هكذا عندما أخذها الجبل، لم تنهار بهذا الشكل في أي لحظة مرت عليها معه.. أيعقل إلى هذه الدرجة كانت تعشق شقيقه وتراه رجل غير أي رجل:


-أنا عمري ما شوفتك كده 


انسابت الدموع من عينيها بكثرة وضغطت على يده وهي تجيبه بتعلثم:


-دي صدمة عمري.. أنت قتلتني بجد


أكملت على حديثها تحت نظراته المستغربه إياها:


-أو هو اللي قتلني.. مبقتش عارفه مين فيكم الجاني والمذنب ومين الكويس البرئ 


أجابها بمنتهى السهولة ينظر إلى عينيها مباشرة بعينيه الخضراء المخيفة ثم قال:


-إحنا الاتنين مذنبين وأكتر.. بس في فرق بينا، الفرق إن يونس كان خواف وجبان كان مداري ده كله عنك بالحنية والحب وشوية الكلام الحلو بتاعه إنما أنا


ابتسم بخبث وحقارة ولذة المتعة تحلق في سمائه وهو يرى نظراتها نحوه التي تتحول كل لحظة والآخرى وعينيها لا تستطيع التحكم بتلك المياة المالحة الخارجة منها كأنها نهر جاري:


-أنا بقتل القتيل وأمشي في جنازته بس باختلاف أن كل الناس بتكون عارفه إني القاتل ومحدش بيقدر يرفع عينه فيا.. عارفه ليه؟ علشان أنا جبل العامري وأنتي أكتر واحدة عارفه صاحب الاسم ده ايه


تركت يده وابتعدت للخلف، لا تستطيع التحمل حقًا لا تستطيع..


الجميع يعلم كل شيء، يونس! يعلم وكان من شركاه، والدته، شقيقته، الخدم، الحرس، الجزيرة بأكملها والجميع يغلقون أفواههم بغراء!..


أين الشرطة؟ أين القانون، وأين هي ومع من وكيف ستستمر هنا وإلى متى! وما مصيرها 


فارت الدماء بعروقها وتضخمت رأسها من كثرة الأسئلة وهي تنظر إليه بحدة وغرابة تهابه بطريقة لا توصف ومنذ لحظات كانت تتحدث معه بمنتهى الأريحية والبساطة..


ربت على كتفها وهو ينظر إليها وإلى ملامحها ويعلم جيدًا ما الذي تفكر به:


-اقتلي فضولك.. قبل ما اقتله أنا


دفعت يده بعنف ليبتعد عنها ترفع يدها إلى وجهها تمحي دمعاتها تزيل وجود أثرها ثم صاحت بشراسة وقسوة وهي تعود من جديد قائلة:


-فضولي مش هيموت وضميري هيفضل صاحي مش هبقى زيكم.. عمري ما هبقى زيكم وأنا اللي بقولك يا جبل مش هطلع من الجزيرة دي إلا وأنا عارفه سرك وسرها.. وهكون أنا.. أنا زينة مختار اللي أنت ارغمتها على العيشة هنا هي السبب في خراب كل اللي بتعمله وأنا قولتلك الكلام ده أول ما وقفت قصادك وأنا لسه عند كلامي.. وهيتنفذ وبكرة تقول زينة قالت


ابتسم وأكمل على حديثها ساخرًا: 


-وريني شطارتك يا غزال


تهكم عليها أكثر وهو يقلل من قدرتها على فعل ذلك، سخر من كلماتها وهو يبتسم بتشفي قائلًا:


-متعرفيش أنتي الواحد نفسه يتغير إزاي ويبقى بني آدم زي ما بتقولي.. يلا عايز أشوف همتك 


تغيرت ملامحها وصمدت أمامه وهي تصيح قائلة:


-هوريك.. مافيش حاجه اخسرها أكتر من كده، الراجل الوحيد اللي حبيته جوزي وأماني وسندي يطلع هو كمان مجرم وتاجر سلاح وقاتل أرواح الناس و.....


جذبها ناحيته من خصلاتها ليبقى وجهها أمامه مباشرة.. تحدث أمام شفتيها ببطء وتروي وكأنه يبعثه إلى داخلها:


-الله يرحمه.. أنا بس اللي جوزك دلوقتي أنا بس يا زينة! 


دفعته بقبضة يدها في صدره ولكنه لم يهتز فصاحت بقسوة وعنف بعدما أدركت أنها وقعت ببراثن عائلة العامري عن حق:


-أنت وهو أوسخ من بعض ومكنش المفروض أعرف حد فيكم


قال رافعًا أحد حاجبيه للأعلى:


-قدرك ونصيبك.. ولسه الحلو مجاش 


عادت للخلف بعدما تركها قائلة بجدية وثقة:


-مظنش في حلو وأنا معاك 


ابتسم وهو يبتعد خارجًا من الغرفة شامتًا بها والسعادة ترفرف داخله بكل ما حدث منذ قليل.. كُسر أنفها بمعرفة حقيقة شقيقه الآن فقط لن تستطيع أن تقف أمامه وتتحدث عنه وتثرثر طيلة الوقت تشرح صفاته الذي لا مثيل لها.. أنهم الاثنين شخص واحد الآن.. هذا قاتل وهذا مثله


جلست على الفراش وانتحبت في البكاء مرة أخرى، قلبها يدق بعنف وكثرة وجسدها بالكامل يرتعش..


الدموع تنساب من عينيها بغزارة دون إرادة منها وعقلها يلقي عليها كل لحظة مرت عليها معه، كيف له أن يكون هكذا؟ كيف استطاع أن يكون ذلك الشخص الحنون الراقي.. العاقل المثقف كيف استطيع تمثيل الحب بهذه الطريقة وهو قاتل مجرم بشع..


أنهارت قلعتها وأنهار مخدعها.. وقعت حصونها وسالت الدماء في كل مكان وليس هناك ناجي واحد من هذه الملحمة.. ما بقيٰ منها حطام امرأة تحاول جمع شتات نفسها لأجل أشخاص حياتهم متعلقة بحياتها.. والله لو كان بيدها لعرضت حياتها للخطر ألف مرة وهي تحاول الهرب..


ولكن بعد ما عملته لن ترحل.. لن تترك الجزيرة ولن تترك جبل، لن تبتعد عن قصر العامري وجزيرة العامري ستبقى هنا إلى أن تعلم كل شيء.. 


تخاف أن يكون حديثه صحيح وليس هناك ما يُخفى عنها وتنصدم مرة أخرى بأنه حقًا قاتل مجرم.. ولكن هناك شعور داخلها يكذب كل هذا يقول أن هناك ما يُخفى عنها وعليها أن تعلمه لأنها أصبحت داخل المعركة تحارب بكل جوارها لتستطيع الصمود والبقاء أمام كل هذه الصدمات..


لن تترك جزيرة العامري لن تفعلها.. إلا إذا سمحت لها الفرصة بذلك دون المخاطرة بحياة من معاها، ستترك كل شيء حينها وتذهب دون عودة..


❈-❈-❈


ذهب "جلال" إلى منقطة الجبل بعدما تحدث معه "عاصم" طالبًا منه اللحاق به إلى هناك، حاول أن يسأله ما الأمر الذي استدعاه لأجله ولكنه لم يتفوه معه بشيء والآخر قد استغرب كثيرًا لأن من المفترض إن كان هناك مهمة أو شيء كهذا سيعرف ومعه بعض الحراس ولكنه على أي حال ذهب مسالمًا ليعرف ما الذي يريده "عاصم" منه..


لم يرى أحد عندما وصل إلى هناك فنادى بصوته عاليًا باسمه ليظهر من العدم في لمح البصر وملامح وجهه حادة جامدة وعيناه مُثبتة عليه بقوة.... وقسوة.


أقترب منه ببطء وهناك حالة برود تامه توحي بها ملامحه مخالطة للجمود والقوة البادية عليه بينما في الداخل حربًا ضارية وأصوات كثيرة كل منهم يطالب بفعل شيء مختلف عن الآخر به ليتعلم الدرس جيدًا من أول مرة دون العودة إلى المراجعة.. ليكن تلميذ مجتهد..


وقف أمامه ثابتًا و "جلال" ينظر إليه باستغراب وإلى حالته فسأله يُشير بيده مستفسرًا:


-في ايه؟ جبتني هنا ليه ياعم


أجابه "عاصم بمنتهى البرود والحدة معًا وهو ينظر له بحقد وكراهية:


-علشان نتحاسب 


لوى "جلال" شفتيه ساخرًا ناظرًا إليه بعمق وهو في قمة ارتياحه:


-نتحاسب؟ نتحاسب على ايه.. هو أنت عليك فلوس ليا لامؤاخذة


حرك "عاصم" شفتيه ورأسه بقوة معقبًا على حديثه معدلًا إياه:


-تؤ.. أنت اللي عليك 


سأله مرة أخرى وهو لم يفهم شيء مما يتفوه به ذلك المعتوه:


-عليا ايه 


-حق 


نطق كلمته بمنتهى البرود الذي يملكه ثم في لحظة تحول إلى ذئب من أحد الذئاب في غابتهم وتمثل به عندما لكمة بقوة وعنف في وجهه بحركة مباغتة، ترنح "جلال" إلى الخلف وخرج صوته بخشونة شديدة وقوة وهو يُشيح بيده بعصبية مفرطة:


-أنت اتجننت ولا ايه يَلاَ


انفعل للغاية بعدما لكمة "عاصم" ونظر إليه نظرة نارية والغل يملؤها فاقترب منه مرة أخرى وهو يلكمة ثانية بقوة أكبر من السابق وبحقد دفين وكره لا يستطيع السيطرة عليه بعدما أقترب من أغلى الأشياء على قلبه وليس أي اقتراب بل استحل كل ما بها له وأقترب إلى الحد الأعمق الذي لم يصل إليه هو بعد..


دفعه "جلال" للخلف ليبتعد عنه وهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه لأنه يداهمه في لحظة مفاجأة ويريد أن يعلم ما السبب الذي يجعله يفعل به ذلك..


ازدادت النيران المتأهبة نحوه لتشتعل في أي لحظة لتحرقه وتحرق كل ما يصدر عنه، صرخ بقوة وعنف وعروقه بارزة من كثرة الانفعال:


-أنت شكلك اتجننت فعلًا يا عاصم.. عايز ايه


صرخ الآخر مثله بقوة وصوته عاليًا يرتفع بعنف، تحركه مشاعر الغيرة المكبوتة داخله ولا يستطيع التعبير عنها:


-أنا اللي اتجننت ولا أنت يا ابن الكلب 


أشار إليه "جلال" بيده مهددًا إياه بنظرات نارية يتبادلونها معًا:


-ولاَ احترم نفسك قسمًا بالله ههينك أنا لحد دلوقتي مردتش عليك وعلى غباءك 


أشار بيده الاثنين على صدره وهو يقترب منه يحثه على القدوم نحوه وبدأ العراك:


-لو تقدر ترد وريني يا جلال 


غمزه بعينه وهو يرد عليه قائلًا واثقًا من نفسه:


-بلاش علشان هتزعل في الآخر.. وأنا مبحبش أزعل صحابي 


سخر منه "عاصم" بشدة واسترسل في الحديث المهين إليه وهو يعبر عن مدى صغر حجمه بالنسبة إليه:


-صحاب مين يلاَ.. أنت نسيت نفسك ولا ايه أنا مش صاحبك أنت مجرد حارس زيك زي أي حد واقف ماسك سلاح.. أنت ماشي تحت أمري


أشار إليه بيده بعدما أكبت الكلمات التي استمع إليها من قلبه وعقله وأشعرته بالغيرة الشديدة التي لو بدأت في التضخم أكثر من ذلك ستحرق الجزيرة بأكملها:


-لأ أنا زيي زيك يا عاصم وأنا وأنت عارفين إحنا ماشيين تحت أمر مين.. ولا أنت هتعمل فيها الكبير 


-أنا كبير غصب عنك 


قال جملته بثقة وكبر ثم دفعة للخلف بعنف أسقطه أرضًا فرفع بصره إليه وهو يجلس على الأرضية بارتياح قائلًا بخبث:


-أنت شكلك متهزق جامد من جبل 


ابتسم إليه وهو على دراية تامة بمدى خبثه وحقارته فقال بجدية:


-متحاولش تصطاد في الميه العكره


تفوه الآخر يكمل عليه بحديث ذات مغزى:


-متحاولش أنت تقف صلب.. أنا عارف إنك بتتهز 


تقدم نحوه وانحنى بجزعه عليه ليمسكه من تلابيب ملابسه يرفعه ليقف أمامه مرة أخرى ثم صرخ بوجهه بعنف وقوة:


-مالك ومالها يلاَ.. عايز منها ايه 


كان يدري أنه يتحدث عن "إسراء" وليس هناك أحد غيرها ليفعل كل ذلك لأجله، تلك الغبية التي قالت له ما حدث، افتعل الغباء قائًلا:


-هي مين دي 


حرك جسده بعنف بين يده بغضب عارم وعصبية مفرطة هما المتحكمان الرئيسيين به الآن:


-أنت هتستهبل.. أنت عارف كويس مين دي 


أكمل "جلال" على نفس النحو قائلّا ببرود:


-لأ مش عارف 


لكمة قوية أخذها بجانب شفتيه على حين غرة ككل مرة سابقة فعلها "عاصم" فاعتدل "جلال" ثم خرج عن سيطرة نفسه وأعاد اللكمة إلى صاحبها مرة أخرى ليدخل معه في حرب ضارية كل منهم يسدد للآخر اللكمات أينما تأتي..


نشب بينهم عراك قوي محتد وكل منهم يغل على الآخر بطريقة أو بأخرى وخرجت سيطرتهم عن نفسهم بكل سهولة فـ "عاصم" كان يضربه بكل جوارحه في أي مكان يقابله بيده وقدمه ونيران غيرته تشتعل داخله دون حتى أن تتهيأ إلى ذلك نشبت في لمح البصر وعيناه تتذكر ذلك المشهد القذر الذي اختلى بحبيبته به وأخذ ما لا يحل له ولو كان استنشاق بعض من أنفاسها..


والآخر كان يضربه للأسباب أخرى عديدة منها حقده عليه بعدما قلل منه منذ قليل وقال ما يعتلي صدره واقفًا للبوح به وها قد فعلها وهو يرى نفسه مالك الجزيرة أو ملك على عرشه..


أعطاه "عاصم" ضربه خلف الأخرى بقدمه اليمنى في معدته بعدما جعله ينحني للأسفل لتخرج الدماء من فمه وأنفه بغزارة بعد كم اللكمات الذي أخذها.. دفعه للخلف ليقع على الأرض ملقى على ظهره ثم مسح "عاصم" بظهر يده الدماء الذي تسيل من شفتيه وفمه عائدًا إلى الخلف يخرج سلاحه من بنطاله سابحًا الزناد موجهًا إياه عليه بنظرة مميتة..


ثم أخرج هاتفه هو الأخر وفتحه ليظهر أمامه الفيديو الذي أُرسل إليه من "فرح" ليرفعه أمام وجهه فنظر إليه بقوة وتوتر فلم يكن يدري أبدًا أنها قامت بتصويره وأيضًا أرسلته إلى "عاصم"!.. من غيرها سيفعل ذلك؟ وهو الذي توقع أن "إسراء" من قصت عليه ما حدث ولكنها حقًا ضعيفة هلوعه لن تستطيع فعلها بعدما هددها بصراحة 


خرج صوت عاصم بحدة:


-عرفت مين ولا لسه معرفتش 


تصنع عدم فهمه لحديثه وحاول ضبط نفسه وهو يقول ببرود:


-ما تقول إنك بتتكلم عنها أنا معرفش إنك تقصدها 


صرخ به "عاصم" وهو يدلي إليه بمدى كذبه يوضح أيضًا أنه يفهمه جيدًا:


-كداب يلاَ.. كداب وأنا هقصد مين غيرها 


ابتسم "جلال" بسخرية شديدة:


-شوف أنت


وقف "عاصم" صامدًا محاولًا التماسك على ذلك الحيوان الحقير وقال بخشونة:


-جلال أنا مش ملاوع.. ورب العزة هدفنك مكانك.. قربت للبت ليه 


أكمل الآخر ما بدأ به وهو يقول بكذب:


-هيكون ليه يعني.. حلوة وكتكوته وهي موافقة أنت اللي هترفض 


ضربه بقدمه في معدته بقوة وهو ملقي على الأرض أمامه وجن جنونه وهو يستمع إلى حديثه عنها:


-هي مين دي اللي موافقة يا كلب 


نطق اسمها ببرود وهو يشعل النيران داخله على الرغم من تألمه الذي يسير في أنحاء جسده بعد تبادل الضربات معه:


-إسراء 


قال عاصم وعروق جسده بالكامل بارزة من كثرة الانفعال:


-متجبش سيرتها على لسانك 


لعب على وتره الحساس وهو يشعره بأنه إلى الآن لم يتأذى وسأله بخبث ومكر:


-أنت محموق كده ليه 


لم يخفي الأخر عليه سرًا وهو من الأساس لم يكن سر فهو يعلم جيدًا أن هناك علاقة تنشب بينهم:


-أنت عارف كويس أنا محموق ليه 


أكمل وهو يُشير إليه ناظرًا إليه بجدية شديدة وخرج صوته بخشونة وقوة صارمة لا نقاش بعدها:


-أنا مش هحلف يا جلال بس دي قرصة ودن.. لو قربت منها ولو بنظرة أنا هقتلك وأنت عارف إني قدها 


تعالت ضحكات الآخر وهو يسخر منه:


-خوفت


-لازم تخاف 


ابتعد للخلف عنه ورفع سلاحه إليه موجهًا إياه ناحيته ثم بمنتهى البرود واللامبالاة خرجت منه طلقة نارية أصابته في يده اليسرى فصرخ عاليًا بقوة وعنف بعدما اخترقت الطلقة لحمه..


تجعدت ملامح وجهه وهو يتلوى على الأرض خلف الجبل من كثرة الألم ولم يكن متوقع أن يصل الحال بـ "عاصم" إلى أن يطلق عليه رصاصة نارية..


نظر إليه الآخر ببرود وهتف ساخرًا:


-قولتلك لازم تخاف


أكمل بعنف وقسوة لا نهائية وهو يعي ما الذي يتفوه به ويستطيع التنفيذ في أي لحظة كما فعلها الآن دون أن يرف له جفن:


-قسمّا بالله المرة الجاية ما هسمي عليك يا جلال 


ثم تركه وابتعد عائدًا مرة أخرى إلى القصر تاركًا إياه على الأرضية الرملية يتلوى متألمًا مُمسكا بيده لاعنًا الساعة التي فعل بها هكذا لتغدر به تلك الحقيرة وتقوم بتصويره وإرسال ما حدث إلى "عاصم" لن يكون هناك أحد غيرها فعل ذلك..


بينما الآخر شفي غليله ولو قليلًا بعدما فعله به فلا يحق لأي أحد غيره أن ينظر إليها مجرد نظره أو يعبر من جوارها مستنشقًا رائحتها.. اقترابه منها كان بمثابة اقترابه من الموت ولكنه كان رحيم معه هذه المرة.. ولكن المرة القادمة إن وقع أسفل يده سواء عن طريقها أو غير طريقها لن يرحمه.. يقسم أنه لن يرحمه..


بينما هي، لم يأتي دورها بعد!.. 


❈-❈-❈


دلف إلى القصر والنيران تشتعل داخله، تحرق كل ما به، تمزق روحه وما داخلها من مشاعر تجاهها وحب لا يخمد بسهولة.. فهو حصل عليه بعد معاناة وانتظار طويل، بعد أيام وليال لم يفكر فيها بأحد ولم يترك لمشاعره العنان لتحلق في سماء الحب والغرام إلا عندما رآها هي وابتغى قربها وحبها..


تعبث به غيرته العمياء ويقتله المشهد المتكرر داخله وهو يقترب منها بكل سهولة وحميمية وهي تقف أمامه دون أن تتحرك أو تبدي أي اعتراض وكأن ما كان يحدث يروق لها ويسعدها..


ولكن كيف! إنها بريئة، طفلة صغيرة لا تفهم فيما كان يحدث معها منه، ليست خبيرة في أي شيء أنه عندما يهتف بابسط الكلمات المغازلة لها تدوب وهي تستمع إليه..


تتغير تعابير وجهها وتتجه للاحتراق من كثرة خجلها، كيف لها أن تكون سعيدة ومرحبة باقترابه منها، أنه لا ينخدع بأحد، رجل أو امرأة لا ينخدع بأحد يستطيع أن يرى إن كان كاذب أو صادق يخدعه أو لأ وهي بريئة إلى درجة أنه لا يمكنه الشك بها أو بعفويتها ورقتها.. 


أخرج هاتفه من جيب بنطاله ووقف ينظر إلى شرفة غرفتها بأعين نارية غاضبة للغاية، قام بالاتصال بها أكثر من مرة وهي لا تجيب عليه، تدفقت الدماء بعروقه وانحبست أنفاسه من شدة الغضب.. ينظر إلى الهاتف مرة والشرفة ألف مرة.. ضوئها مشتعل، لم تنم بعد.. تحاول الهرب منه؟ تخاف أن يكون علم بشيء! لن يتركها.. لن يتركها إلا عندما تجيب عليه ويعلم منها كل ما حدث، سيحاسبها ولن يسمح لها أن تمنعه.. أنها تعلم ما يشعر به تجاهها حتى لو لم يعترف بعد.. أقل حق له أن يغير ويحترق من كثرة غيرته على من أحبها..


توقف رنين الهاتف بأذنه ليستمع إلى صوتها الهادئ الخافت فخرج صوته بانفعال:


-مبترديش ليه 


أجابته بنبرة خافتة تنهي حديثها بسؤال مثله لتنهي المكالمة سريعًا:


-رديت أهو في حاجه؟


تفوه بجدية تامة ونبرة صوته حازمة مقررة أن عليها الهبوط إلى أسفل ليراها:


-انزلي أنا عايز اتكلم معاكي 


امتنعت عن رؤيته قائلة بهدوء:


-معلش مش هعرف أنزل


صاح بقوة وارتفعت نبرة صوته صارخًا بها يأمرها بأن تفعل ما طلب وهو يكبح نفسه عن ترك مشاعره تنطلق عليها وتحرق ما يحيطها:


-بقولك انزلي عايزك 


استغربت نبرة صوته الذي يتحدث بها معها فضيقت ما بين حاجبيها وسألته مُستفسرة:


-أنت بتتكلم معايا كده ليه؟


زفر بضيق وامتعاض وحاول تهدئة نفسه يطمس على وجهه بيده ثم قال برفق:


-اسمعي الكلام وانزلي أنا عايز أتكلم معاكي في حاجه مهمة 


مرة أخرى تعارضه بعدما ارتفع صوتها قليلًا:


-وأنا بقولك مش هعرف أنزل


تنفس بقوة ثم زفر الهواء من رئتيه بغضب جامح ولم يستطع السيطرة على نفسه أكثر من ذلك فقال بخشونة يفجر قنبلته في أذنها:


-كنتي بتعملي ايه مع جلال ورا القصر 


أحاط الصمت خلوتهم، لا يستمع إلا لأصوات أنفاسه اللاهثة بفعل ارتفاع وانخفاض صدره بشدة وعنف، بينما هي قابلته بالسكوت أكثر من اللازم لم تتقابل معه حتى بصدى أنفاسها..


صرخ بقوة والدماء تفور بعروقه من شدة غيرته وما أحرقه وجعله يأن أكثر هو صمتها:


-ردي عليا كنتي بتعملي ايه 


قابلته بصوت خافت برئ، مهتز مبعثر كأوراق شجر مبعثرة على الأرضية تود لو أحد يجمع شتاتها:


-أنا معملتش حاجه


وقف في مكانه ولم يتحرك يضغط على الهاتف بيده بقوة يستشعر نبرة صوتها المتوترة ويقتله صوت شهقاتها التي تحاول مداراتها عنه: 


-أنتي بتعيطي؟


ارتفع صوت بكائها عندما علمت أنه أدرك ذلك، تركت لنفسها العنان لتخرج ما في قلبها مع أحد ولن يكن أحد أفضل منه:


-هو اللي قرب مني غصب عني... وهددني لو قولت لحد مش هيسكت 


لوح بيده في الهواء بعنف وشدة يكبت جموحه، يقيد جسده وأعضائه يتحدث من بين أسنانه ضاغطًا عليهم بقوة:


-وأنتي ليه وقفتي كنتي اصرخي ولا اعملي أي حاجه 


أجابته بضعف وقلة حيلة ونبرتها مرتجفة:


-هو كان معاه مطوة حطها في جنبي وهددني بيها.. أنا والله معملتش حاجه.. بالله عليك متقولش لحد يا عاصم علشان خاطري بلاش زينة وجبل يعرفوا 


سألها بشك بعد الاستماع إلى آخر حديثها:


-أنتي خايفة ليه؟


أجابته بتوجس ورهبة ظاهرة:


-أنا.. أنا مش خايفة بس مش عايزة مشاكل 


استنكر كلماتها بشدة وصاح قائلًا بغلظة يشير بيده في الهواء بهمجية دليل على مدى تعصبه الذي يحاول أن يكبته:


-يقرب منك كده بالطريقة دي وتقولي مشاكل.. أنتي مجنونه


ارتجفت نبرتها أكثر وازداد صوت بكائها وقلبها ينتفض أسفل يدها الموضوعة عليه خوفًا من أن تعلم شقيقتها أو زوجها:


-علشان خاطري بلاش.. كفاية اللي حصل أنا مش هنزل تحت تاني خالص.. 


قال سريعًا يقاطع حديثها:


-انزلي أنا محتاج نتكلم 


رفضت قائلة بجدية:


-أنا مش هنزل.. بكلمك أهو


كان يريد أن يراها يطمئن عليها، يستشعر مدى صدقها وكذبه، يرى براءتها ورقتها، يهدأ من روعه بالنظر إلى الملحمة القابعة داخل عينيها المختلطة بالسماء الزرقاء المتوسطة السحاب الأبيض..


علل بجدية شديدة ونبرته ملحة عليها أن تنزل إليه ليستطيع رؤيتها:


-مش واخد راحتي ومش فاهم حاجه.. عايز أفهم واشوفك 


رفضت مرة أخرى وهذه المرة كانت قاطعة عندما ارتفع صوتها متخليًا عن نبرته الخافتة..


-مش هقدر 


أدرك أنها خائفة من أن تتواجد هنا بالأسفل لأجل ذلك الحيوان الحقير فقال مهدأ إياها يطمئن قلبها:


-متخافيش أنا اخدتلك حقك منه.. مش هيقدر يرفع عينه فيكي تاني 


خرج صوتها بلهفة وخوف:


-عملت فيه ايه 


ضيق ما بين جاجبية وضاقت عيناه أيضًا وهو يسألها بعد الاستماع إلى نبرتها المتلهفة:


-أنتي خايفة عليه 


صمتت لبرهة ثم أجابته بالنفي قائلة بثقة وتأكيد:


-لأ طبعًا أنا بس.. أنا بس مش عايزة مشاكل قولتلك


ام تستمع إلى إجابة منه فقالت مرة أخرى تسأله باستفسار:


-عملت فيه ايه 


أجابها بخشونة وغلظة وهو يتذكر الشجار الذي نشب معه منتهيًا لأنه تلقى منه رصاصة نارية:


-ربيته وبعد كده لو شافك في مكان هيختفي منه 


سألته وهي تتنفس بعمق:


-للدرجة دي.. 


ابتسم بزاوية فمه يود لو يبوح لها بكل ما يكنه صدره عنها، لو يقول كم يحبها ويعشق البراءة الخالصة النابعة منها وكأنها هي من علمت البشر إياها، يقول إنه يلقي بنفسه في التهلكة لأجلها ولكنه اكتفى بقليل من الحديث قائلًا:


-وأكتر كمان.. قوليلي ايه اللي حصل وايه خلاه يعمل كده 


روت إليه ما حدث منذ البداية بهدوء بعدما هدأت قليلًا:


-أنا كنت بتمشى تحت وبكلمك، بس أنت مردتش وصلت ورا القصر فجأة لقيته بيشدني وحاوطني قدام السور.. اتكلم معايا كلام غريب 


ضيق عينيه وسألها بصوت رجولي حاد:


-كلام ايه 


لوت شفتيها بعدم معرفة هي الأخرى فلم تفهم ما الذي كان يقصده أو ما الذي يُشير إليه فقط استمعت إلى حديثه والقته عليه:


-كنت بقوله يبعد عني علشان معملتش فيه حاجه بس هو فضل يقول إني عملت وقربت وحبيت.. حتى لسه بقوله أبعد عني يا جلال قاطعني وقالي عاصم 


استردت تكمل بصوت مُتحير:


-أنا مفهمتش حاجه من اللي قالها.. ولا حتى فهمت ليه قرب مني كده وبعد، بس هو خوفني أوي وحسيت أنه بيخوفني من حاجه معينة بس أنا مفهمتش 


صمت قليلًا وانشغل عقله بحديثها يكرره مرة وأخرى ودقت فكرة غريبة على رأسه لا يدري أهي صحيحة أو مجرد هاجس!..


قال بهدوء وهو يبتسم بزاوية فمه:


-ده طبيعي


سألته باستغراب فلم تفهم ما الذي يقصده هو الآخر بعد كل حديثها هذا:


-هو ايه


قال بابتسامة عريضة ظهرت على شفتيه فجأة لتظهر أسنانه من خلفها:


-إنك مش فاهمه أنتي كده كده غبية


صاحت بقوة وصوتها يصرخ في أذنه بعدما تمادى بوقاحته معها:


-احترم نفسك أنا مش غبية 


عبث معها أكثر رافعًا أحد حاجبيه يشاكسها لتخرج مما هي به ولتعود لطبيعتها الخجلة الرقيقة فتلك الحزينة لا تليق بها أبدًا:


-خوافة طيب؟


صرخت باسمه بانفعال:


-عاصم 


صدحت ضحكاته وهو يستمع إلى صراخها ثم خفض صوته وقال بنبرة نادمة حزينة:


-أنا آسف


سألته باستغراب:


-على ايه 


وضح لها بصوت رجولي جاد، يتغلغل داخلها ويهدد كيانها بالانهيار والسقوط راكعًا إليه مطالبًا بالحب إن لم يكن يحب:


-لو كنت جنبك مكنش حصل كل ده أو حتى لو رديت عليكي أنا آسف سامحيني 


تفوهت بنبرة رقيقة للغاية، هادئة إلى أبعد حد وكأنها تلقي عليه تعويذة غرام تسحره لها تجذبه ناحيتها ليطالب بالبقاء معها إلى المنتهى وما بعده:


-أنت مالكش ذنب في حاجه 


رفض حديثها وهو يشعر أنها ملكه، له وحده امرأته وحبيبته هو الحامي والحارس لها.. هو الدرع الواقعي والوجه المتصدي لأي خطر يتجه ناحيتها:


-أنتي مسؤولة مني


صمتت قليلا وصوته يدلف إلى أعماق قلبها وبالأخص إن كان يتحدث بهذه الطريقة المغرية للغاية والمطالبة بالحب بل بكل الحب والغرام..


قالت اسمه بنبرة خافتة:


-عاصم 


مشاعر غريبة اجتاحته وهو يستمع إلى اسمه من بين شفتيها يخرج بهده الرقة والنعومة، تدفعه إلى الاعتراف بكل شيء يكنه لها فقال برقة هو الآخر يبادلها:


-قلبه


لبرهة ابتسمت واتسعت ابتسامتها وهما يلقيان التلميحات لبعضهما البعض وكل منهما يعلم ما في مكنون الآخر له.. قالت بجدية:


-مش عايزة حد يعرف حاجه عن اللي حصل.. لو سمحت 


أومأ برأسه قائلًا بجدية:


-حاضر


بدأ في محادثتها بعيدًا عن ما حدث بعدما خفف عنها بحديثه الساخر الممازح لها ولكنه كان من داخله يشعر بالالتهاب الحارق والمميت بسبب غضبه وغيرته، تتدفق الدماء بعروقه أكثر وأكثر وهو يتذكر ما فعله ذلك الحيوان وتكرر عليه أذنه صوت شهقاتها وبكائها الخافت..


لن يفكر كثيرًا فيما حدث، بل سيفكر في القادم، سيفكر بما سيخطط له ليكتشف تلك الفكرة التي طرأت على عقله.. صحيحة أم ليس لها وجود من الأساس..


ليترك حبيبته، ليترك حبه وغرامه جانبًا الآن وليتجه إلى الأعمق والأكثر خطورة..


❈-❈-❈


"بعد منتصف الليل في اليوم التالي"


واقفة في شرفة غرفتهم في الأعلى تنظر إلى أسفل تتابعه بعينيها وهو يتنقل بين الحرس يتحدث معهم بجدية وصرامة ظاهرة، وحركة الجميع متوترة وكأنهم ينتظرون حدث مهم ينبه عليهم بالالتزام بتعليماته وتنفيذ أوامره..


ظهر "جلال" ليقف أمامهم رافعًا ذراعه أمام صدره برباط طبي أثر ما فعله به "عاصم" في الأمس..


نظر إليه "جبل" مستنكرًا مظهره وسأله بجدية مضيقا عينيه على ملامحه:


-ايه اللي عمل فيك كده 


أبعد "جلال" بصره إلى "عاصم" يخترقه بنظرته الحاقدة الكارهه له، لم يكن يستطيع أن يقول ما حدث بينهم لأنه سيكون المتضرر إن لم يقتله جبل لأنه تعدى على أهل بيته ولكن هذا لا يعني أنه سيبتلع ما فعله به..


-رصاصه طايشه خرجت من سلاحي وأنا بنضفه


تفوه بجدية متابعًا إياه:


-مش تخلي بالك 


أومأ الآخر رأسه قائلًا بامتعاض:


-أهو اللي حصل 


رن هاتف "عاصم" فابتعد قليلًا عنهم يجيب عليه يتحدث بجدية، لحظات وعاد إليهم يشير إلى جبل قائلا بجدية:


-وصلوا يلا بينا 


قال موجهُا حديثه لجلال:


-خليك هنا 


أجابه معترضًا وهو يتحرك معهم:


-لأ هاجي معاكم متقلقش أنا تمام 


أومأ إليه جبل وهو يبتعد يسير إلى الخارج ومع "عاصم" و "جلال" الذين يتبادلون النظرات الحارقة لبعضهم البعض.. 


وخلفهم البعض من رجال حراسته المتواجدين في القصر..


نظرت إليهم باستغراب واعتدلت في وقفتها، إنه لا يترك القصر دون حراسته أبدًا.. لقد ترك عدد قليل للغاية هنا ربما أربعة أو خمسة متفرقين في أنحاء القصر يتخفون في الأشجار وهم ينتقلون داخله بسبب قلة عددهم..


مؤكد هناك شيء سيحدث ليفعل هذا.. شيء مهم للغاية!.. 


حركت عينيها يمينًا ويسارًا بتفكير.. عليها أن تكن من الحاضرين في قلب الحدث..


ولجت إلى الداخل وأخذت هاتفها من على الفراش ثم هبطت درجات السلم سريعًا لتذهب خلفه وترى إلى أين هو متجه ولكن يبدو أنها تعلم.. إلى أين سيذهب إلا إلى "جبل العامري"!..


خرجت من البوابة الداخلية للقصر وهي تنظر حولها، أبصرت حارس يقف على البوابة الخارجية مؤكد سيمنع خروجها وإن خرجت بموافقته فسيقوم بمحادثته ليبلغه أنها خرجت.. 


تنفست بعمق وسارت بهدوء ثم وقفت أمامه قائلة بصوت جاد تنظر إليه نظرات حادة:


-أنا سمعت صوت ورا القصر شوف في ايه 


أومأ إليها دون حديث ثم ذهب ليتأكد مما قالت له دون أن يُخون حديثها، انتهزت الفرصة بعد ابتعاده للداخل ولا أحد من الباقيين يراها.. فتحت البوابة ببطء فتحة صغيرة للغاية لتخرج جسدها منها ثم جذبتها خلفها سريعًا بهدوء كي لا يرتفع صوتها ويعلم أنها خرجت..


لم ترى طيفهم حتى في الطريق المظلم أمامها، استغربت اختفائهم بهذه السرعة فسارت راكضة متوجهة إلى "جبل العامري" لترى أن كان هو هناك أو لا ولا تترك هذه الفرصة الذهبية تضيع من يدها لتبدأ بالبحث عنه..


وصلت إلى هناك بعد دقائق قليلة للغاية وهي تركض وكان حدثها صحيح.. لم تستطع أن تتقدم من الجبل فقد كانوا يقفون أمامه.. أمام بوابته الحجرية الضخمة..


بقيت بعيدة عنهم لم تقترب، سارت تعاكس طريقهم لتقف خلف شجرة بعيدة ولكن تستطيع أن ترصدهم جيدًا من ورائها..


يخرجون كمية كبيرة من الصناديق من داخل الجبل، يقفون والسـ ـلاح بيدهم، ويقف رجلًا مقابلا لـ "جبل" زوجها لا تستطيع أن تبصره جيدًا بسبب جسد زوجها الذي يحجبه عنها..


أخرجت الهاتف من جيب بنطالها سريعًا وقامت بتشغيل الكاميرا تسجل كل ما يحدث، تستطيع أن تتحكم بالكاميرا أكثر لتقترب من أجسادهم ووجوههم وكأنها تقف بينهم، وضعت الكاميرا لدقائق على مخرج الجبل ترصد الرجال وهم يخرجون منه بالصناديق، تتحرك بالهاتف بيدها لتأتي بظهر جبل الغير واضح وذلك الرجل الذي يقابله ومعه "عاصم" وكثير من الرجال..


أقترب الرجل الذي كان يتحدث معه يفتح أحد الصناديق ليظهر جسده وجهه بالكامل في الكاميرا يخرج من الصندوق سلاح يرفعه للأعلى ينظر إليه مبتسمًا.. 


كالهفوة مرت بعينيها إلى جانبها للأمام وعادت مرة أخرى تتابع ما تفعله، ولكن عينيها اتسعت للغاية وصدمت لا تستطيع تفسير ما رأته!..


رجل آخر يقف على بعد كثير منها، يقترب من "جبل" ومن معه أكثر يتخفى خلف حجارة كبيرة للغاية تبتلع جسده ورائها، يقوم هو الآخر بتسجيل كل ما يحدث بينهم!..


من ذلك!؟


طُرح السؤال على عقلها أكثر من مرة في ثانية واحدة، سريعًا عدلت تفكيرها لتصب تركيزها على ما يحدث ثم أبعدت الكاميرا عليه هو الآخر لتحتفظ به معهم!..


ولكن يبقى السؤال من ذلك الشخص!؟


لمحت بطرف عينيها زوجها "جبل" الذي استدار للخلف ينظر بعينيه الخضراء المخيفة اللامعة في وسط ظلام الليل.. استدارت خلف الشجرة سريعًا تلهث بعنف وصدرها يعلو ويهبط خوفًا من أن يكون أبصرها!..


❈-❈-❈


"يُتبع"


#سجينة_جبل_العامري

#الفصل_الرابع_عشر

ندا_حسن


"ركضت بين دروب القسوة ولم أجد يومًا مأوى يحتويني بحب"


انقبض قلبها وأخذت وتيرة أنفاسها تتعالى أكثر وهي تقف خلف الشجرة تحاول مداراة نفسها عن أعينه تتمسك بالهاتف بين يديها الاثنين بقوة شديدة..


لحظات مرت والأخرى وهي تقف كما هي ثم استدارت بجسدها وقدمت رأسها من خلف الشجرة تنظر عليهم من بعيد فوجدتهم كما هما وعاد "جبل" ينظر إليهم يتابع ما يحدث معهم، يحملون الصناديق على السيارات المفتوحة يهمون بالرحيل..


بعدت بعينيها إلى ذلك الرجل الذي كان يقوم بتصويرهم لتجده كما هو يقف يكمل ما بدأ به يسجل كل ما يصدر عنهم.. 


قامت بحفظ كل ما سجلته الكاميرا وأخفت الهاتف داخل جيب بنطالها.. نظرت إليهم نظرة أخرى ثم ركضت سريعًا تعود إلى المكان الذي أتت منه..


أخذت طريق العودة إلى القصر كله ركضًا خوفًا من أن ينتهي مما يفعله ويعود هو الآخر ليراها في الخارج ويدري بما فعلته.. إنه حذرها أكثر من مرة لا تعتقد أنه سيصمت أمامها..


وقفت على بعد خطوات من القصر بعد أن وصلت إليه أخذت تلهث بعنف وصدرها يعلو ويهبط تحاول أن تُعيد انتظام أنفاسها وتهدأ كي تستطيع التفكير كيف ستعود إلى الداخل دون أن يعلم أنها خرجت ودون أن يراها أحد..


كان الهلع يُسيطر عليها، فحاولت السيطرة على نفسها بعدما أصبح الارتجاف في سائر جسدها، طردت كل الأفكار من عقلها، وحاولت أن تصب تركيزها في الشيء المهم الآن والأصعب.. 


وقفت لحظات تحاول أن تجد طريقة سريعة للولوج إلى الداخل قبل عودته.. في لحظة طرأت على عقلها فكرة فـ أخرجت هاتفها من جيب بنطالها وضغطت عليه عدة مرات ثم وضعته على أذنها تتحدث مع شقيقتها قائلة بجدية:


-إسراء.. أنا بره.. بره القصر كله انزلي تحت مافيش حرس كتير حاولي تعملي أي حاجه تبعد الحارس اللي عند البوابة وافتحيلي من غير ما حد يحس


ضيقت الأخرى حاجبيها وهي تفتح شرفة الغرفة لتنظر إلى الأسفل تجد أن حديثها صحيح لا يظهر أحد من الحرس من الأساس إلا هو.. سألتها باستغراب مُستفسرة:


-كنتي بتعملي ايه بره 


صاحت الأخرى منفعلة ثم أخفضت صوتها سريعًا:


-هو ده وقته انزلي بسرعة الأول


أومأت برأسها وهي تغلق الهاتف قائلة:


-طيب طيب 


بعد دقائق قليلة للغاية خرجت من البوابة الداخلية "وعد" تركض مبتعدة عن القصر متجهة إلى الحديقة و "إسراء" خلفها تهتف بصوت مرتفع تناديها للعودة:


-وعد ارجعي هنا بلاش تروحي بعيد 


لم تجيبها الصغيرة بل ركضت سريعًا تتجه إلى خلف القصر وهي تضحك بصخب حتى يظهر أن ما يحدث ما هو إلا مزاح..


حاولت "إسراء" أن تنادي عليها عدة مرات متتالية ولكنها لم تستجيب إلى أن اختفت خلف القصر..


تقدمت من ذلك الحارس قائلة له بهدوء محاولة الثبات:


-لو سمحت ممكن تجيبها.. ورا القصر ضلمة 


أومأ برأسه لها وأتجه سريعًا تاركًا إياها ليأتي بالصغيرة حبيبة رئيسه ومدللته.. 


وقفت إلى أن اختفى هو الآخر وعلمت أن "وعد" ستجعله يتأخر في العودة كما اتفقت معها لتقوم بفعل ذلك..


فتحت البوابة وأخرجت رأسها منها تبحث عن زينة فلم تجدها.. تقدمت قليلًا إلى الخارج وخرج صوتها وهي تهتف بصوتٍ خافت:


-زينة أنتي فين 


ظهرت الأخرى حيث أنها كانت بعيدة متخفية في الناحية الأخرى من السور حتى لا يراها أحد.. ركضت سريعًا وولجت إلى داخل القصر تُشير إليها أن تأتي خلفها..


أغلقت "إسراء" بوابة القصر الخارجة ونظرت إلى الداخل لتجد "زينة" قد دلفت إلى القصر واختفت.. صاحت إسراء بصوتٍ عالٍ وهي تتجه إلى مكان "وعد" مع التحفظ بعدم الاقتراب منه.. 


استمعت "وعد" إلى صوتها الصارخ باسمها ففهمت أن عليها العودة الآن.. تنحت عن رفضها القاطع للحارس في العودة وتقدمت صامتة تعود معه.. 


أخذتها "إسراء" إلى الداخل بعد أن تمت المهمة بنجاح..


صعدت معها إلى الأعلى مُتجهة إلى غرفة والدتها، دقت "إسراء" عليها الباب، ففتحت لها شقيقتها وأقتربت منها ابنتها تحتضن قدميها، هبطت "زينة" إلى مستواها وقامت بمبادلتها العناق تستنشق عبيرها الناعم الرقيق.. وطفولتها البريئة المذاعة للجميع..


بقيت لحظات تضمها إليها بكل حب وحنان وهي تفكر في مصيرها معها هنا في هذه الأرض.. على هذه الجزيرة بين "جبل العامري" وعائلته..


أصابتها الفجعة، وتمكن الخوف منها مرة أخرى، اقترابها من ابنتها والشعور بأنها لا تملك غيرها يصيبها برجفة غريبة تغطي سائر جسدها، تلعن ذلك اليوم الذي فكرت به بالقدوم إلى هنا.. 


تلعن كل شيء قادها إلى جزيرة العامري والوقوع مع ذلك الجبل، الوقوع مع من يرحم ولا يرحم، من يقتل ويداوي.. مع شخص لا تفهم لحياته ملامح ولا ترى لشخصيته هوية ولا تدري أهو ذلك نفسه الذي كان في الأمس واليوم! الذي كان في البداية وما قبل النهاية؟ 


عادت للخلف ووقفت أمامهم، ولجوا إلى الداخل فسألتها "إسراء" تنظر إليها بهدوء واستغراب:


-كنتي فين بره 


أجابتها كاذبة بفتور:


-كنت خرجت اتمشى والبوابة مفتوحة لما رجعت اتقفلت وخوفت جبل يعرف إني خرجت لوحدي علشان منبه عليا 


أومأت إليها برأسها متفهمة ما قالته تنظر إليها بجدية فقالت "زينة" بهدوء:


-أنا هدخل أخد دش روحوا انتوا 


أخذت "إسراء" "وعد" وخرجت من الغرفة فأغلقت "زينة" من خلفها الباب وهي تتقدم إلى الداخل تجلس على الفراش تنظر في الفراغ المحيط بها تحاول أن تمسك بطرف الخيط ربما من هنا.. فهي لم تعثر عليه سابقًا والمحاولة الآن مستحيلة ولكن يكفيها المحاولة..


هل هو حقًا ذلك الرجل تاجر الأسلحة! هل هو حقًا قاتل البشر وقابض أرواحهم!.. هل هو حقًا نفس الشخص الذي قال عن نفسه أنه لا يعرف للرحمة طريق ولم تدق بابه يومًا!


الإجابة المنطقية لكل هذه الأسئلة نعم! أنه هو ذلك الشخص المجرم.. أنه الجلاد والقاتل أنه القاضي المحتل الحاكم بالعدل.. الذي يسمع إلى الشكوى ويلبي الطلب.. أنه سارق الحرية وسجان الهروب، أنه الذي يحبس التفكير والأنفاس وهوايته ترويض العاصي.. أنه "جبل العامري"


ما الذي تنتظر أن تعرفه بعد! إلى الآن لم تدرك ذلك جيدًا؟ إلى الآن تفكر هل هو ذلك الشخص أو لا؟ ما الدليل الأكبر من كونه يقف يسلم الأسلحة بيده! يخرج كمية هائلة معبأة داخل الصناديق ستكون هي المدمرة لكل من وقع قتيلًا بطريقة غير مشروعة..


ما الذي تنتظره من شخص مثله؟ ولما يأخذ أكبر من حجمه داخل عقلها ولا تصدق أنه يفعل ذلك!..


رأته بنفسه ليس أحد غيره يقف بشموح وكأنه يدافع عن البلاد، رافعًا أنفه عاليًا واقفًا صلب شامخ! كيف له أن يكون هكذا وهو قاتل مجرم!


كيف له أن يكون واثقًا من نفسه إلى تلك الدرجة؟


إنها إلى الآن لا تصدق ما تراه أعينها قلبها يقول شيء غير كل ذلك، يُملي عليها أنه شخص آخر حنون محب غدرته الأيام وذاق فراق الأحباب.. قلبها يقول أنه اشتاق وقتلته لوعة الاشتياق.. يخبرها أنه ليس بقاتل وليس بمجرم بل عادل حاد..


لما؟ لما تراه بهذه الهيئة، لا تستطيع أن ترى أي هوية حقيقة له؟ كلما رأت ظلمه لها وغدره بها رأت عدله وحكمته مع غيرها، كلما تذكرت قسوته عليها وتجبره الذي أودي بقلبها إلى الحسرة والأسى تذكرت نظراته الغريبة نحوها الدالة على وجود ما يبتغي إياه لتكن من في سكن قلبه..


أليس كل هذا غريب؟ أليس تفكيرها هذا غريب؟ أليس عدم تصديقها بإجرامه بعد معاشرته هذا غريب!..


رأت كل ما هو قاسي وعنيف داخله رأت عنجهيته وغروره.. تكبره وحدته، ظلمه وكرهه، رأت عدم الرحمة في قلبه، صدقت كل هذا وحاولت الفرار منه بأي ثمن.. ولكن بعد أن عاشرته تكذب كل هذا.. تكذب الهالة الوهمية الذي يحيط نفسه بها وهي ليست شخص غبي إلى هذه الدرجة كي تنخدع إلى هذا الحد..


الآن ازداد إصرارها على معرفة ما يحويه قلبه، ما يخبئه عقله عنها وما يدفنه أسفل أرض الجزيرة..


ازداد إصرارها في معرفة ما المكنون بين الناس وما الخبايا في شخصيته.. وستعرف، ستعرف من هو وإن كلفها هذا موتها.. ستعرف أهو "جبل العامري" القاتل.. أو "جبل العامري" العادل 


شردت تتذكر ما حدث معها وهي في الجبل، ضيقت عينيها بشدة محاولة أن تصل إلى إجابة سؤال آخر.. من ذلك الرجل الذي كان يقف يقوم بتسجيل كل شيء كما كانت تفعل هي..


هل يعلم جبل بوجوده؟ هل كان شخص آخر يغدر به؟ أم ماذا؟


تلك الصدمات التي أتت واحدة تلو الأخرى أشعلت هواء العاصفة الهوجاء التي كانت خامدة داخلها، غيرت مشاعرها بين يوم وليلة وشعورها الذي كانت تدركه جيدًا أصبحت لا تعلم ما هو من الأساس وإلى أين يتجه.. جنون فضولها أوصلها إلى طريق أصبح مكشوف للغاية من ناحية ومخفي للغاية من ناحية أخرى.. وما توصلت إليه لم يكن إلا أنها خسرت حياتها السابقة وذكرياتها الراحلة وما لا تعلم عنه شيء هو مستقبلها المجهول كليًا..


أتت الضربة من شخصك الأقرب والأحب إلى قلبك، أتت من خليل روحك وملاذ فؤادك ورأيت الحقيقة الكاملة الذي كانت مخبأة عنك بهيئته المحبة الحنونة، لحظة واحدة أدركت بها أن لحظاته الحميمية والسعادة الخالصة التي مرت عليكما معًا ما كانت إلا احتلال.. وعند إدراك ذلك تشعر بأن قلبك إناء كثرت به المياة الموضوعة فوق النيران ففارت وتناثرت حوله مخلفة من وراءها دمار غير طبيعيًا.. هذا حال قلبك الذي خُدع بالحب والغرام..


كما كل مرة تفكير لا حدود له وأسئلة دون إجابة، ومازال الطريق مغلق، الخيط كله لم تعثر ليه..


رفعت وجهها عندما شعرت به يفتح باب الغرفة يهم بالدخول، نظرت إليه وهو يتقدم للداخل يغلق الباب ناظرًا إليها بلا مبالاة وهدوء رُسم على وجهه بحرافية..


جلس في مكانه على الفراش يعطي ظهره إليها يعبث بهاتفه لفترة ليست صغيرة، تركه على الكومود ثم وقف متجهًا إلى المرحاض فباغتته بسؤالها:


-أنت كنت فين يا جبل


سألته دون النظر إليه وبقيت على وضعها، فاستدار إليها يرمقها بنظرات ساخرة متحدثًا:


-بتسألي ليه!


حركت وجهها ناحيته بعد أن دق قلبها بعنف، توترت نظراتها نحوه وكانت ظاهرة بشدة، ابتعلت غصة وقفت بحلقها وقالت:


-حرام السؤال؟ 


ضيق عينيه عليها يراقب حركاتها المتوترة قائلًا ببساطة:


-غريب


سألته باستغراب غير مدركة أنه يتحدث عن سؤالها وقد اعتقدت أنه رآها ويراوغ في الحديث معها:


-ايه اللي غريب 


أجابها وهو يتقدم منها ليقف أمامها فرفعت رأسها لتنظر إليه حيث أنها كانت جالسة على الفراش:


-السؤال.. أول مرة تسأليني كنت فين 


انزاح القلق عن قلبها وارتخت أعصابها وهي تتحدث قائلة ببرود ونبرة عادية واثقة:


-اتعود بقى لما أسألك كل يوم.. 


مرة أخرى يسألها وعيناه متعلقة بعينيها السوداء:


-وده من ايه بقى 


ابتسمت ساخرة وهي ترفع وجهها إليه تسأله بتهكم:


-هو أنت متعرفش 


حرك رأسه نفيًا ورفع كف يده إلى وجهها يسير بإصبعه عليه بنعومة ورقة ونظرتها نحوها حميمية للغاية:


-لأ معرفش


فسرت له حديثها بوضوح تام وجدية ظاهرة محاولة الثبات إلى النهاية:


-مش أنا قررت إني هعيش حياتي معاك عادي.. زي أي اتنين 


ما قالته الآن كان نتيجة تفكير أتى على عقلها في أقل من ثانية، تنحت عن فكرة استدراجه والحديث معه ووضع حياتها معه مقابل اعترافه بكل شيء، ستتبع طريقة أخرى علها تأتي بفائدة..


ابتسم بزاوية فمه وهو على علم تام بأن حديثها ما هو إلا هراء هي لا تبتغيه من الأساس ولكنه بادلها:


-ده شيء كويس 


عادت تسأله مرة أخرى ناظرة إلى عينيه الخضراء:


-كنت فين بقى 


تحول البريق اللامع في عينيه إلى آخر مخيف معتادة عليه هي ولكن في كل مرة تراه ينتابها الذعر منه وكأنها المرة الأولى، هبط بجذعه العلوي إليها ليبقى وجهه مقابلًا لوجهها وقال بفحيح أمام شفتيها:


-كنت بسلم سلاح 


عاد للخلف برأسه قائلًا ناظرًا إليها بعمق بعدما صدمت من حديثه، فهي لم تكن تتوقع أن يعترف بهذه السهولة على الرغم من اعترافه الدائم أنه تاجر أسـ ـلحة..


سخر من نظراتها المصدومة نحوه وقال بتهكم مراوغًا:


-ايه مالك.. بقولك الحقيقة طالما هنعيش زي أي اتنين محبش أكدب على مراتي.. أحسن بعدين تفتكري إني بخونك ولا حاجه


بادلته نفس السخرية، وما سيرهق كلاهما أنهم يفهمون بعضهم جيدًا:


-لأ متقلقش مش هيجي على بالي حاجه زي كده ولو جت.. هكدبها


عاد يقترب منها مرة أخرى ليبقى أمام وجهها دون فاصل بينهم أنفه تمر على ملامحها مستنشقًا أنفاسها يقول بلوعة:


-اتمنى.. يلا بقى حضري نفسك 


استغربت ما قاله فعادت إلى الخلف لتنظر إليه متسائلة:


-احضر نفسي لايه 


ابتسم وظهرت أسنانه من خلف شفتيه وهو يقول واثقًا:


-مش قولتي هنعيش زي أي اتنين.. وعلشان نعيش هنبدأ من هنا 


أنهى حديثه مشيرًا إلى الفراش برأسه فنظرت إليه محركة رأسها ثم عادت ببصرها إلى الواثق من حديثه القابع أمامها.. ابتلعت ما وقف بحلقها وهي تنظر إليه متوترة ثم قالت برفض:


-أنا مقولتش كده.. أنا..


قاطع حديثها وهو يقترب منها يميل عليها بجسده حتى أنها مالت إلى الخلف فقبع فوقها مستندًا بذراعيه على الفراش ينظر إليها بعينين جائعة ولن تشعر بالارتواء إلا منها:


-دي مبتتقالش.. بتتحس


غطت السخرية نبرتها وملامح وجهها وهي تسأله:


-وأنت بتحس


أشار عليها بعينيه الخضراء غامزًا لها متفوهًا بحديث ذات مغزى:


-أسأل مجرب.. ومش هنلاقي مجرب غيرك 


دفعته للخلف بيدها فلم يتزحزح عن مكانه ناظرًا إليها بثقة تامة رافعًا أحد حاجبيه متحديًا إياها فلم تطل النظر إليه بنفس الحدة فيقوم بالعناد أكثر ويفعل ما يريد.. أخفت وجهها عنه وهي تبتعد به لتنظر في الفراغ فكبت جوعه داخله ورغبته الملحة للاقتراب منها وعاد للخلف يقف شامخًا مبتعدًا عنها..


نظر إليها وهو يتجه إلى الحمام يمازحها قائلا بثقة: 


-بمزاجي.. 


غمزها بعينه مرة أخرى وظهرت وقاحته معها:


-المرة الجاية مش هصبر 


تركها مبتعدًا ذاهبا إلى المرحاض ليحبس مشاعره الهوجاء التي أرادت الفرار منه وتحطيم كل الحواجز الموجودة بينهم ليستمتع بعبير قربها ولهفة الالتحام معها، ولكنه لم يسمح لها عائدًا بها مرة أخرى تاركًا إياها بجانب خيباته السابقة إلى أن يحين موعد خروجها بكل جوراحها، إلى أن يحين ظهور الحب معلنًا أنه سيكون عنوان كل شيء قادم عليه ليستطيع الاستمتاع أكثر من كونه ذلك الذي يرهبها..


بينما هي بقيت نائمة على الفراش مبعثرة المشاعر حائرة في عالمه، لم تجد شط تقف عليه ولم تستطع الوصول إلى كلمات تعبر عما بها فلا طريق عودة ولا طريق ذهاب تقف معه في درب ملئ بالجوى والقسوة الخالصة فباتت لا تدري ما مصيرها من الاثنين وهي كل يوم متقابله مع إحداهما إلى أن شتت عقلها وغاب قلبها عن الواقع تحتاج إلى كلمات صريحة صادقة ولن تفكر ثانية ستأخذها برحابة صدر وتغلق قلبها عليها..


❈-❈-❈


أتدري كيف يجتمع الأشرار سويًا؟ بنظرات الأعين، هل رأيت سابقًا عاشقًا يشعر بأنه ينجذب بطريقة سحرية إلى محبوبته من عينيها! وهو كذلك، اجتماع خبثاء النوايا ومفرقين الأحبة معًا يأتي عن طريق الأعين ينجذب كل منهما ناحية الآخر بطريقة مفعمة بالحقد والخبث وتبدأ من هنا العلاقة في البدء والتطور، ويزداد معها الحزن والذعر وآنات الألم وسهام الخيانة..


جذب "جلال" "فرح" من ذراعها بقوة ضاغطًا عليه بطريقة مؤلمة جعلتها تتأوه وهي تحاول جذب يدها منه قائلًا بانزعاج وغضب:


-بقى بتغفليني يابت.. بتصوريني وتبعتي لعاصم الفيديو


حاولت العودة للخلف في الظلام الدامس خلف القصر ومكان إلتقائهم السري في كل مرة، تجذب يدها منه بعنف وقوة وهي تقول بجدية ولا مبالاة:


-بقولك ايه أهدى كده علشان منزعلش من بعض.. أنا كان غرضي أقوله أنه بمزاجها 


ضغط أكثر على ذراعها ولم يجعلها تفلت منه وكأن قبضته عليها حديدية يصيح أمام وجهها وملامح وجهه متغيره للغاية متجهة إلى العنف والقسوة وخرج صوته خشنًا عنيفًا:


-مزاج مين يا روح أمك ماهو عارف أنها قطة مغمضة 


أكمل بحرقة وهو يرى نفسه غبي فعل ما أرادت منه دون أن يعترض فقط لأجلها ولكنها غدرت به والقته في أول طريقها:


-وده مكنش اتفاقنا يابت.. أنتي قولتلي أنها مزعلاكي اقرص عليها وأخوفها منه من بعيد لبعيد علشان تبعد.. مقولتيش إنك هتغدري وتصوري وتبعتي لعاصم 


حاولت أن تعود عما كانت ستفعله وتكبت حديثها المتهور داخلها فقالت محاولة إظهار الندم:


-اللي حصل حصل بقى كانت لحظة تهور 


نفض جسدها بعنف بذراع واحد والآخر معلق على الرباط الطبي أثر رصاصة "عاصم" التي اخترقت لحمه، يكمل قائلًا بثقة:


-لأ يا روح أمك مكانتش لحظة تهور أنتي كنتي عارفه كويس أوي هتعملي ايه بس أنا المغفل اللي سمعت كلامك وادي أخرتها 


دفعته بعنف وشدة وهي تعود للخلف مبتعدة عنه قائلة بوقاحة:


-أخدت رصاصة وايه يعني ما تسترجل 


جذبها من رأسها واضعًا يده خلف عنقها يجذبها ناحيته فوقع وشاحها عن خصلاتها قائلّا أمام وجهها بنبرة ذات مغزى:


-أنا راجل غصب عنك يا بت وأنتي عارفه كده كويس ولا لسه عايزة تجربي 


حاولت دفعة في صدره ولكنه لم يبتعد فقالت بنفاذ صبر وهي غير قادرة على مجاراته فقد فعلت ما أرادت وانتهى الأمر:


-بقولك ايه يا جلال أقف عوج واتكلم عدل


سألها بسخرية وقحة:


-وأنا كده بتكلم إزاي.. بقولك لسه عايزة تجربي لو مش مقتنعة إني راجل


نظرت إليه نظرات نارية مشتعلة قائلة بتساؤل وحرقة:


-ده أنت مصمم بقى تقفلها كده 


دفعها للخلف بعنف أكثر، ارتضم جسدها في سور القصر تنظر إليه بقوة متألمة من دفعته لها، باغتها بحديثه قبل أن تتفوه بحرف واحد:


-وأقفلها ليه مش مراتي.. لا قولت حاجه حرام ولا عيب 


خرج صوتها عاليًا نسبيًا ثم عندما أدركت ذلك اخفضته:


-أنت هتفضحنا ولا ايه.. ما تخرس بقى 


أقترب منها بعيون جائعة للشر والقسوة وما فعلته به ينهش ما بداخله يشعر أنه يود لو يقوم بقتلها الآن ودفنها أسفل ما تضع قدميها وهي تعلم جيدًا من هو:


-لسانك بدل ما اقطعهولك.. هو أنتي فكراني ساكتلك علشان سواد عيونك.. لمي نفسك معايا يا بت 


حركت شفتيها بسخرية تشعل نيران قلبه أكثر وهي تقول بشماته:


-أظهر وبان.. بقى كل ده علشان عاصم علم عليك 


تقدم يعود جاذبًا خصلاتها الظاهرة أمامه قائلًا بقسوة:


-علم على مين يا بت.. اظبطي بدل ما اظبطك 


دفعته ثانيةً تتحدث بجدية تنظر إليه بنفاذ صبر:


-اوعا كده وأعرف مصلحتك فين 


أجابها بقوة وعنف واثقًا من حديثه بعدما تدفقت الدماء بعروقه فكلما تذكر ما الذي كان من الممكن أن يحدث يشعر بفوران دمائه وغباءه الغير طبيعي كي يستمع إلى حديث واحدة مثل هذه:


-أكيد مش معاكي من بعد اللي عملتيه ده.. ماهو كان ممكن سي عاصم بتاعك يوري الفيديو لجبل والبت تعترف إني عملت فيها كده وأنها مكانتش موافقة ومن غير ما تعترف كانوا هيصدقوها وتقولي عليا يا رحمن يا رحيم..


قالت بلا مبالاة وبساطة:


-مكانتش هتوصل لكده 


هتف قائلًا بجدية مغتاظًا من برودها:


-أنتي عرفتي منين أنها مكانتش هتوصل لكده.. البت دي أكيد هي اللي وقفت عاصم علشان هي عملتها على روحها مني.. لكن لو عليه هو يولع فيا 


أكمل شامتًا بها يبادلها ما تفعله يشعرها أنها من دونه لا تساوي شيء:


-كنتي بقى وريني شطارتك وشوفي مين هيتجوزك 


وضعت يدها الاثنين في وسط خصرها تتمايل بهم قائلة بتهكم مقلله منه:


-كنت هطلعك من قبرك تتجوزني يا سي جلال بيه 


ابتسم بزاوية فمه فهي تحاول مدارة خوفها أمامه حتى لا يكون نقطة ضعف لها يتمسك هو بها تفوه ساخرًا:


-اتريقي اتريقي.. أنتي من غير سي جلال بيه هيتقال عليكي يا رحمن يا رحيم بردو متقلقيش 


نظرت للأمام نظرة شيطانية مفكرة فيما قد تفعله وأردفت قائلة:


-وقتها هيبقى عندي الحل 


أومأ برأسه إليها وهو ينظر إليها باشمئزاز متناسيًا نفسه وقال متأكدًا وهو يتابع نظراتها الغريبة:


-قادرة وتعملي أي حاجه


ابتسمت إليه بثقة عالية فأكمل وهو يكرمش ملامحه غير قادر على تكملة النظر إليها بعدما فعلته به فصاح بها قائلًا:


-أمشي غوري من وشي 


بقيت تنظر إليه وعلى شفتيها تلك الابتسامة رفعت وشاحها أعلى رأسها تغطي خصلاتها الظاهرة ثم وضعت يدها مرة أخرى في وسط خصرها تسير متغنجة وكأن لم يحدث شيء منذ قليل.. لم يصرخ عليها لم ينفعل لم يهتف بحديث مهين لأي امرأة غيرها وكأنه لم يذكرها بأنها لا تستطيع الزواج إلا منه لأن شقيقها حاكم الجزيرة إن علم أحد أن شقيقته فعلت ذلك كباقي الفتيات التي يحاسبهن هو على اخطائهن سيكون أضحوكة للجميع في أيامه القادمة جميعها ولن يستمع إليه أحد من بعدها.. هذا أن جعل "جبل" أحد يعلم فلو علم هو لنقرأ عليها سورة الفاتحة توديعًا ووداعًا.. ولنتذكرها بالخير دائمًا وأبدًا فمن بعدها ستكون في مكان آخر لا ينتمي لعالمهم بشيء..


بصق بقوة من فمه على الأرضية بعدما رحلت لاعنًا نفسه على التوريط في هذا الأمر..


توجهت إلى القصر لتعود إلى الداخل دون أن يراها أحدًا ولكنها عندما وجدت "عاصم" هنا بين الحرس غيرت رأيها وذهبت لتجلس على أحد المقاعد المقابلة له تنظر إليه وهو يتحدث مع أحد الحراس..


بقيت تتأمله وتنظر إليه بعيون محبة إلى درجة الأنانية، تابعت حركاته واللمعة تزداد داخل عينيها تظهر الشر الذي قبع داخلها.. عيون تطالب الحب منه ولكنه قابله بالرفض!..


شردت وهي تنظر إليه عائدة إلى ذكرى راحلة حدثت بينهم منذ سنوات..


"كانت استدعته إلى خلف القصر ذلك المكان الذي يحدث به أي شيء لا يريد أحد أن يعلم به، ولكن في ذلك الوقت لم يكن كالآن بل كان مضي بالأنوار مثله مثل القصر كله وبه كثير من الحراس في فترة كانت الاغتيالات بها كثيرة والجواسيس تملأ الجزيرة..


وقف أمامها قائلًا بجدية يسألها مستفسرًا عن سبب استدعائها له:


-نعم يا فرح عايزة ايه 


تغنجت وهي تتمايل أمامه بدلال وابتسامة هادئة فعلتها:


-مافيش ازيك الأول


ابتسم يبادلها الهدوء والبساطة وقال متأسفًا يسألها:


-معلش أنا آسف.. ازيك عامله ايه 


أجابته برقة وهدوء متسائلة عن أحواله:


-كويسه.. أنت عامل ايه 


أجابها ولم يعطي إليها الفرصة للحديث مرة أخرى باغتها متسائلًا عن سبب طلبها له هنا:


-تمام كويس.. ها في ايه 


تصنعت الحزن وهي تقول مغيرة تعابير وجهها وصوتها هادئ ولكنه عابس بسبب سرعته وإرادته في الرحيل عنها:


-مالك أنت مش عايز تقف معايا ولا ايه.. أنا حلوة على فكرة 


ابتسم بهدوء يسألها ثم يصحح لها حديثها يغازلها باحترام حتى لا تحزن من حديثه واستعجاله معللًا لها سبب ذلك:


-حد قال عليكي وحشه؟ أنتي ست البنات بس أنا عندي شغل 


تلهفت وهي تقترب منه خطوة متعلقة بعينيه ترتفع على أطراف أصابعها لتنظر إليه عن قرب:


-أنت شايفني ست البنات بجد؟


أكد ما قاله بجدية شديدة ولم يكن يقصد الغزل حقًا ولكنه لم يكن يريد أن تعبث ملامحها وتحزن بسببه وهي من قالت أنها ليست بشعة فكان من المفترض أن ينفي ذلك:


-أكيد يا فرح أنتي جميلة 


اتسعت ابتسامتها وظهرت من خلفها أسنانها البيضاء معتقدة أن مهمتها بهذه الطريقة ستكون أسهل بكثير:


-عاصم أنا.. أنا كنت عايزة أقولك حاجه مهمة أوي


أومأ إليها متعجلًا يسألها:


-تمام قولي مالك في ايه 


حاولت الحديث متعلثمة:


-أنا بجد.. حاسه..


لم تستطع أن تكمل وتخرج كل ما كان في جوفها فوقفت صامتة تنظر إلى الأرضية خجله مما تريد قوله 


أخذ الحديث منها بطريقة أخرى وصب تركيزه في عمله فسألها بقوة وتمعن:


-حاسه ايه؟. في حركة مش مظبوطة في القصر ولا ايه 


نفيت سريعًا مشيرة بيدها معقبة بانزعاج وضيق:


-لأ لأ قصر ايه بس


اقتضبت ملامحه بسبب تأخيرها وحديثها المتقطع أو الذي بدون فائدة فقال بحدة:


-اومال ايه بس يا فرح ما تتكلمي 


أخذت نفسٍ عميق وأخرجته ثم نظرت إليه تحاول دفع نفسها في الحديث قائلة له ما تشعر به في الأيام الماضية وقلبها يرفرف لأنها تعترف له بمكنونه:


-أنا.. أنا مش مركزة في حاجه.. طول الوقت بفكر وبالي مشغول.. قلبي وعقلي مشغولين بحاجه واحدة بس مش قادرة أبطل تفكير فيها


انزعج أكثر من اللازم وهو ينظر إلى تفاهاتها وهذا الهراء الذي تقوله له، وما دخله من الأساس؟ تحدث يسألها بجدية والضيق يظهر على ملامحه:


-أنتي جيباني هنا علشان تقولي الكلام ده؟ حاجه ايه يا فرح انجزي 


باغتته بقولها السريع المتلهف ونظرة عينيها نحوه حالمة طائرة فوق السحاب وكأنه استمع إلى ما قالته وأجاب بالموافقة:


-أنت


أشار إلى نفسه بعدم فهم ولم يربط الحديث ببعضه متسائلًا:


-أنا حاجه؟ أنا حاجه إزاي يعني 


أقتربت منه أكثر تبحر بعينيها داخل عيناه ترتفع على أطراف أصابعها لتقابله بذلك الطول الفارع:


-أنت اللي بفكر فيه يا عاصم.. بالي مشغول بيك دايمًا وقلبي لما بيشوفك بيدق أوي لحد ما بحس أنه هيقف بعد كده.. حتى عقلي 


تابعت تكمل حديثها الحاني ونبرتها الرقيقة تتردد في أذنه ينظر إليها باستغراب تام غير مصدق أنها تجرأت وقالت له هذا الحديث:


-عقلي مش مبطل تفكير فيك.. وخيالي كل شوية يسرح ويفتكرك.. بجد مش عارفه أعيش كده 


تصنع عدم الفهم على الرغم من أن أي حد يستطيع فهم المبتغى مما قالته ولكنه كي يبعث إليها رسالة أن هذا مرفوض تمامًا قال مبتسمًا:


-أنا عملت ايه لكل ده 


اعترفت بها صريحة وواضحة وشعورها نحوه بالحب يزداد ويكبر أكثر من اللازم.. تنظر إليه بهيمنه وافتتان:


-عاصم أنا بحبك.. بحبك أوي وبموت فيك كمان، مافيش واحد على الجزيرة كلها زيك مافيش أحسن منك ولا حتى يشبهلك 


قضبت ملامح وجهه بالانزعاج والضيق وأظهر إليها الجدية الخالصة قائلًا:


-فرح.. أنتي عارفه أنتي بتقولي ايه 


أقتربت منه تتمسك بيده تضغط عليها بقوة تحسه على التحرك نحوها والاعتراف بما داخله تبعث إليه نظرات شاعرية لو أحد غيره لانتهز الفرصة وسرقها:


-بقولك الحقيقة أنا بحبك وعايزاك 


عاد للخلف مبتعدًا عنها سريعًا باعدًا يدها التي أقتربت منه وصاح قائلًا بقسوة وغلظة شديدة وهو يُشير إليها لتذهب من أمامه:


-أنتي لسه صغيرة ومش فاهمه أنتي بتقولي ايه.. انسي الهبل ده واطلعي يلا


استغربت ما قاله وضيقت حاجبيها تعقب:


-صغيرة؟ صغيرة إزاي بقى كل ده صغيرة 


التفت حول نفسها وهي تقول تلك الكلمات تظهر إليه جسدها الأنثوي ومفاتها لتستطيع أن تغريه بها


ارتفع صوته بعدما اغضبته بشدة بسبب هذه الفعلة الجريئة والدنيئة للغاية:


-اطلعي يا فرح يلا 


أشارت إلى نفسها ترفض ما يأمرها به موضحة له مصرة على موقفها معه وتريد لو يبادلها ما تشعر به لتلتحم معه في عناق قاسي تشعر داخله بأنها ملكه:


-عاصم أنا مش صغيرة ولا حتى أنت صغير.. أنا عارفه أنا بقول ايه وبعمل ايه 


مرة أخرى بغضب وقسوة قال:


-لأ أنتي لسه صغيرة ومش فاهمه حاجه.. 


تغيرت ملامح وجهها إلى الانزعاج والضيق هي عندما وجدته لا يريد التنحي عما قاله بعد أن جعلته يرى فتنتها وحاولت الإقتراب منه لاغراءه:


-تلاته وعشرين سنة مش صغيرة 


أشار إليها بيده لتذهب من أمامه:


-اطلعي يا فرح يلا وتنسي كل اللي قولتيه ده


أقتربت منه ثانيةً محاولة التأثير عليه وهي تتحدث برقة:


-طب قولي.. أنت بتحبني ولا لأ


بمنتهى السهولة والقسوة، وبكل الإخلاص داخله، واللا مبالاة بمشاعرها قال:


-أكيد لأ.. أنتي أخت صاحبي مش أكتر، وأنتي بكرة تعقلي وتنسي كل ده 


نظرت إليه نظرات نارية محتقرة، واشتعل فتيل الغضب داخلها بسبب رفضه لها بتلك الطريقة المهينة القاسية تقول غير مصدقة:


-ايه؟


أجاب ببرود:


-اللي سمعتيه 


أبصرها بقوة وعنجهيته ظهرت في نظرته فبقيت بالنسبة إليها تكبر عليها ومن بعد هذه النظرة رحل وتركها تقف وحدها ولم يفكر لحظة فيما قد يمر بها أو تمر به.. تاركًا خلفه أنثى مطعونة بقسوة وغرور، ملقاة أسفل قدمه بعد أن قدمت نفسها إليه وهو من قام برفضها.."


خرجت من شرودها وهي مازالت تنظر إليه، إلى تكبره وعنجهيته، إلى ثقته من نفسه وغروره الواضح، إلى قوته وعنفوانه، تنظر إلى رجل لن يتكرر ولكنه رفضها.. وهي لن تنسى ذلك ولن تصمت عنه ولكن لكل شيء موعد..


❈-❈-❈


جلست "زينة" في حديقة القصر نهار اليوم التالي تنظر إلى ابنتها التي كانت تركض هي وشقيقتها يتمازحون سويًا.. 


شعرت بمن يجلس جوارها فـ أدارت رأسها لتبصر "تمارا" هي من أتت إليها.. ابتسمت لها بعملية وعادت تنظر إلى شقيقتها وابنتها غير مبالية بتلك التي أتت لها ولم تعيرها أدنى اهتمام..


ابتسمت "تمارا" بسخرية وهي تلاحظ عدم اهتمامها بها أو بالأحرى تجاهلها لها وكأنها لم تراها من الأساس..


استمعت "زينة" إلى صوت "تمارا" يخرج بسخرية واستهزاء:


-مش أنا عرفت يا زينة سبب جوازك من جبل 


استدارت معتدلة تنظر إليها باستغراب ثم سألتها قائلة:


-وايه هو السبب.. تصدقي إني لحد دلوقتي معرفش السبب 


حركت "تمارا" حاجبيها بطريقة تدل على عدم تصديقها قائلة بسخرية:


-ده بجد؟ 


أغاظتها "زينة" بقوة وهي تردف:


-أكيد مش مصدقة.. حقك بصراحة أصل الأسباب كانت كتيرة، منها أن جبل مقدرش يخليني اسيبه وأمشي


ألقت كلمات ذات مغزى بتهكم واستعلاء:


-وأنا بصراحة مش زي حد.. مقدرتش أبعد عنه


كتمت الأخرى غيظها منها ونظرت إليها بعمق ونظراتها مشتعلة بنيران الغيرة والحقد عليها ولكنها شددت على نفسها قائلة:


-غريبة.. أصلي عرفت إنك حاولتي تهربي


ابتسمت إليها وأكملت على حديثها بالكذب لتشعرها بالغيرة أكثر:


-آه حاولت بس الحمدلله إني معرفتش أهرب.. كنت هعيش ندمانه طول عمري.. إزاي اسيب جبل واسيبه لمين 


اتسعت ابتسامة "تمارا" وهي تدري أنها كاذبة فقالت بجدية شديدة:


-ما تيجي معايا دوغري يا زينة.. 


سألتها "زينة" باستغراب:


-أكتر من كده 


عقبت قائلة ما حدث وملامح وجهها تشير إلى أنها تعلم كل شيء قائلة من خلالهم لا مجال للكذب:


-أنا عرفت إنك كنتي عايزة ورثك مش أكتر بس مرات عمي وجبل عايزين وعد ومكنش فيه حل غير إنك تتجوزيه وأنتي كنتي رافضة واتجوزتي غصب


حركت كتفيها بدلال وقالت بنبرة هادئة ترفرف بعينيها السوداء:


-ده كلام حقيقي.. بس مافيش حاجه بتفضل على حالها يا تمارا.. كل حاجه وارد تتغير 


صمتت قليلًا وهي تراها مصرة على الكذب وإظهار أن كل ما بينها وبينه على ما يرام وأكثر من ذلك، متجهة إلى طريق الحب تأخذ مكانها بقلبه وحياته..


قالت بجدية وعمق دون سابق إنذار:


-ولو سمحتلك الفرصة تهربي.. وارد بردو كل حاجه تتغير من تاني 


بادلتها النظرات المستفهمة واعتدلت في جلستها تصب تركيزها عليها متسائلة:


-قصدك ايه 


ابتسمت عندما جذبت انتباهها إليها بهذه الطريقة وأدركت أن ما أرادته سيحدث لا محال فهي كاذبة كبيرة فقط عندما أتت على ذكر الهرب عمقت تركيزها نحوها وكأنها طوق النجاة..


قالت بنبرة جدية تحمل داخلها الثقة والتأكيد على كل حرف يخرج من بين شفتيها:


-أنا أقدر اهربك من الجزيرة من غير نقطة دم ولا طرفة عين.. أنا بس اللي ممكن أعمل كده عارفه كل مكان فيها وإزاي تخرجي بسلام من غير ما مخلوق يشوفك.. كفاية إني من عيلة العامري عندي حصانة 


وجدت "زينة" تنظر إليها دون حديث يعبر عما يجول بخاطرها فقالت مستفسرة:


-قولتي ايه؟


كانت هي في عالم آخر تفكر في تلك الفرصة الذهبية التي أتت إليها على طبق من ذهب، هذه هي الفرصة التي كانت في انتظارها.. الهروب والفرار من جزيرة العامري دون أن يمسها سوء هي وعائلتها.. كانت في انتظار أن يقوم أحد من قلب العائلة أو الجزيرة بعرض عليها هذه الفكرة لمساعدتها في النجاة بحياتها ومن معها..


لطالما كانت تتوق لخوض هذه التجربة والمرور بهذه اللحظة.. لا مجال للرفض أو التفكير.. 


هو الفرار وليس غيره.. لا محال


مررت بأبشع الطرق المؤذية، عبرت ممرات الخيانة، وجلست بين ازقه الحزن، ركضت بين دروب القسوة ولم أجد يومًا مأوى يحتويني بحب، تُربت جُدرانه على أكتافي بحنو، و لم أحصُل على كتف يمتص آلام روحي وعناء قلبي، مكثت وحيدة للياليٍ طويلة أُعاني من كثرة آنات الغدر المُصاحبة للقسوة والعنف، وأن سمحت الفرصة بالفرار من بلدة لم يشهد قلبي بين شوارعها سوى الأسى والتعاسة فلن يكُن هُناك قرار آخر ولن أدع الحكم لقلبٍ أو لعقل.. إما الفرار أو الفرار...


❈-❈-❈


"يُتبع"


 

#سجينة_جبل_العامري

#الفصل_الخامس_عشر

ندا_حسن 


"قاربت على لمس الحب، والشعور بلهفة العشق، مررت بلوعة الاشتياق فلا تعترض على مرارة الكبرياء ولا تحزن عزيزي من كسرة الأحباب"


بعد تفكير دام طويلًا ونظرات يتبادلونها الاثنين واحدة لا تبغي إلا تحقيق حلمها بذهاب غريمتها من الجزيرة بأكملها لتبقى هي الوحيدة معه فيعود عما يفعله ويترك كبريائه على أحد جوانب مذلة الحب..


أما الأخرى طال تفكيرها في كيفية الهروب ولما! ترك الجزيرة وجبل، ترك حقيقة زوجها وماضي عائلة ابنتها.. 


هل ستذهب ولن تنظر وراءها؟ ماذا عن الوعد الذي قطعته لجبل أنها هي المرأة التي ستكشف كل شيء وستهدم شموخه وقوته وتجعله يعود محملًا بالخيبات معترفًا بحريتها.. معترفًا بأنه لم يكن جديرًا بها ولم يستطع ترويضها..


خرج صوتها حاد واثق ومازال عقلها يعمل كـ آلة لا تتوقف عن الدوران تأتي بكل الأفكار وتحاول تجميع كل الخيوط:


-لأ يا تمارا.. أنا مش عايزة أهرب ولا عايزة اسيب الجزيرة


أكملت تنظر إليها بخبث ومكر تعلم كيف تكيدها وتجعلها تستشيط غضبًا وغيرة:


-أنا هنا في بيتي.. قصري مع بنتي وجوزي وعيلتي، وقولتلك إني لما هربت كنت لسه متجوزتش جبل لكن دلوقتي مقدرش أبعد عنه


جزت على أسنانها بعصبية وغيرة شديدة تنظر إليها بملامح حادة تود لو تتقدم منها تأتي بخصلاتها بين يديها وتلقيها خارج القصر، تحدثت بجدية:


-هديكي فرصة تفكري يا زينة وأنا بنفسي هخرجك من الجزيرة 


ابتسمت بسماجة وتقمصت دور الزوجة السعيدة التي لا تستطيع ترك زوجها لحظة واحدة وأجابتها بفتور غير مبالية بحديثها عن الهرب:


-وأنا مش محتاجه أفكر يا تمارا قولتلك الهرب مش لازمني أنا هنا في مكاني ومش هسيبه


ابتسمت "تمارا" ساخرة بشدة وهي تحرك أهدابها بطريقة متهكمة عليها وسألتها باستهزاء:


-يعني أنتي مش كدابة يا زينة 


جعلتها تشعر بالغيرة أكثر وهي تقول ببرود تام تذكرها بمن هي وما مكانتها هنا وكل كلمة تخرج منها ذات مغزى تصل إليها بتعالي:


-وأنا هكدب ليه؟ اسألي أي حد في الجزيرة قوليله مين هي زينة مختار هيقولك مرات كبير الجزيرة جبل العامري 


امتعض وجهها وشعرت بالسخط منها، اعتدلت في جلستها تنظر إليها بحدة وعنفوان قابل للخروج في أي لحظة وتفوهت محاولة إظهار السخرية والبرود:


-ليه بتحاولي تبيني أن أمورك معاه تمام مع أن عارفه أنكم مش طايقين بعض 


خرج صوت "زينة" الضاحك بصخب وارتفع عاليًا، تابعتها وهي تسألها عدة مرات وقد راقت لها اللعبة كثيرًا:


-مش ايه؟ أنا وجبل؟ معلش بس أصلًا أنا ليه ممكن أكون بعمل كده؟


أجابتها الأخرى بضيق تحاول كبته داخلها:


-علشان أنا هنا مثلًا 


لوت شفتيها باستهزاء وابتعدت عينيها إلى ابنتها وهي تبتسم بتشفي ثم عادت إليها مرة أخرى تكمل دون اهتمام مقلله منها دون أن تدين نفسها:


-وايه يعني أنتي هنا ولا مش هنا.. هل ده عامل فرق، تمارا حبيبتي الشخص لما بيدي لنفسه حجم أكبر من حجمه بيخسر كتير


استردت تكمل ما بدأته ترسل إليها من خلال كلماتها أنها على علم بما كان بينهم سابقًا حتى لا تظن أن هذا سيكون فرصة لها للتغلب عليها:


-أنتي مثلا كان ليكي مكان هنا لكن زمان.. قبل ما تسيبي جبل وتمشي حتى مكانك اللي كان في قلبه أنا أخدته فأنتي بالنسبة ليا وليه مش موجودة 


لا تستطيع مجابهة "زينة" تشعر بالنيران تكوي قلبها من شدة الغضب والعصبية تكاد تخرج دمائها من عروقها، فلم تستطع فعل شيء إلا الابتسام ببرود تنظر إليها قائلة بدلال:


-مش واضح.. لو أنتي شايفة كده يبقى مستغفلك


حاولت أن تزعزع ثقتها به وتظهر بأنها هي القوية ولكن "زينة" لم تترك لها الفرصة لفعل ذلك بل نفت حديثها بمنتهى البرود واللامبالاة:


-تؤ جبل مبيستغفلنيش ومش بيبص لواحده غيري وأنا عارفه ده كويس 


أكملت بغرور وعنجهية:


-ولو أنا مكنتش عايزاكي في القصر كنت خليتك تمشي بكلمة مني.. 


اعتدلت "تمارا" تنظر إليها بشراسة قائلة بصوت جاد يشبه الصراخ عليها:


-هو ده تهديد! 


تصنعت البراءة ناظرة إليها بهدوء ورفق قائلة بجدية تضغط على كل حرف يخرج من بين شفتيها:


-لأ خالص اهددك ليه.. أنا بس بحاول افهمك وأقولك تعقلي علشان جبل عنده حياة مع مراته وبنته


عارضتها الأخرى بقوة تنظر إليها بتحدي وتشفي:


-وعد مش بنته 


اتسعت ابتسامتها ترسل إليها أسهم مشتعلة بالنيران تنهش قلبها من حالة البرود الذي انتابتها وقالت بثقة وغرور:


-طيب ابقي قولي الكلمتين دول لجبل ونشوف هيقول هو ايه


رأته يأتي عليهم ينظر إليها بجدية يستغرب جلوسهم سويًا فقالت لها:


-أهو جه 


وقفت تقترب منه وهو يقدم عليهم وكأنها زوجة أصيلة وزوج مُحب حقًا يتبادلون النظرات ولكنه كان مستغربًا من ابتسامة مشعة مشرقة مرتسمة على محياها في استقباله..


وقف أمامهم فاقتربت منه زينة تحتضن خصره بيدها الاثنين تميل برأسها على صدره وقالت بدلال وحب مُصتنع:


-حبيبي


لحظة واحدة كانت تقرع بها الطبول داخل أذنيها وهي مستغربة من نفسها للغاية.. كيف خرجت منها هذه الكلمة كيف عبرت له أنها تحبه بقول "حبيبي" وحتى إن كان كل ما يحدث ماهو إلا تمثيل.. 


رفع يده يحيطها بها وقد فهم أنها تحاول كيد ابنة عمه فلم يجد شيء يفعله إلا أن يجاريها فيما تفعل.. فهذا يصب في مصلحته من الأساس


ارتعش جسد "تمارا" وهي تنظر إليهم بهذه الطريقة، يبدو أن ما قالته كان حقًا لا يوجد شيء يبقى على حاله..


لقد نسى "جبل" حبه الوحيد ونظر إلى زوجة أخيه وأحبها أيضًا، ينظر إليها بقوة وعيناه تقابل عينيها بجمود وكأن ما كان بينهم لم يكن.. يقول لها من خلال بريق عيناه أن وجودها لا يمثل فارقًا.. لا يحدد موقفًا، لا يسعد أو يحزن أحد أنها هنا كما لو لم تكن هنا.. 


عادت "زينة" للخلف مُبتسمة مُتصعنة كل هذا تنظر إليها بطرف عينيها، لم تكن بحاجه لاغاظتها أكثر فقد وصل إليها الغيظ والضيق ودلف إلى جسدها يجعله بالكامل في حالة غير طبيعية..


وضع جبل يده على رأس "زينة" يمررها على خصلاتها بحنان وما كان يصدر عنه هو كان حقيقي بالكامل وليس به ذرة من التمثيل، خرج صوته شغوفًا قائلًا:


-وحشتيني 


ابتسمت إليه باتساع ولكن الحقيقة أنها لم تكن تستطيع مجاراته هو.. لقد كانت تحاول أن تتعالى به على تلك ابنة عمه وفعلت ذلك وجعلتها تعلم أنها المرأة الوحيدة بقلبه وحياته وكل هذا كان بالكذب..


حقًا كل قوي هناك الأقوى منه.. لا تستطيع النظر إلى عيناه والاستماع إلى تلك الكلمات القاتلة وكأنها حقيقة..


نظرات عينيه المخيفة دائمًا في تلك اللحظات كانت شغوفه نحوها، تلتمع بحنان وغرابتها تحدثها بالحب تلقي سهام العفو والمغفرة، شفتيه الغليظة التي عذبتها دومًا بكلمات من القسوة والجمود تحركت قائلة كلمات الحب والغزل، يده التي أشتدت في صفعها كثيرًا من المرات تسير على خصلاتها برفق ونعومة وكأنها قطة صغيرة تحتاج لمن يحنو عليها..


تابعها ينظر إلى عينيها السوداء يخرج منها سؤال وخلفه سؤال، من أنت يا حضرة القاضي؟ من أنت أيها الجلاد؟ يشعر بتردد شفتيها بعدما زل لسانها وهتف بكلمة من كلمات الغرام التي لم تعتاد يومًا على قولها ويظن أنها لن تعتاد.. ولأول مرة على الإطلاق تقترب منه إلى هذا الحد بكل هذه الرغبة تضمه إليها!..


تبادل النظرات كان عنيف للغاية، حرب ضارية ولجوا بها سويًا وكل منهم يبحر داخل أعين الآخر في محاولة بائسة منه معرفة ما المخفي داخله وما السبيل للوصول إليه..


خرج من كل هذا وهو يُشير إليها أمامه قائلًا بصوت رجولي أجش أثرت عليه مشاعره:


-تعالي معايا عايزك 


ذهبت معه إلى الداخل وتركوا خلفهم قلب يشتعل، يحترق، نيران تأججت داخله فقتلت كل ما به، الغيرة تنهش داخلها، روحها تزهق بسبب نظراته نحوها وحديثه معها.. لم يهتف يومًا لها بكلمة من كلمات الغزل.. لم يفعلها يومًا.. إلى هذه الدرجة قامت بتغييره؟


لن تتركه، لن تصمت وتتركه يُسلب منها بهذه الطريقة المهينة.. إنه كان ملك لها هي من تركته ومن ستعيدة مرة أخرى.. لن تكون لغيره وهو لن يكن لغيرها..


ستنشب حربًا قريبًا ستخرج منها فائزة فرحة بجمع الغنائم..


ولج إلى الغرفة وهي خلفه أغلقت الباب ووقفت تنظر إليه محاولة الثبات تمحي ما فعلته بالأسفل منذ قليل تتعامل بهدوء وكأن لم يحدث شيء ولكنه لم يسمح لها بهذا بل بقي ينظر إليها بابتسامة خبيثة ماكرة يتابعها بزاوية عينيه..


يعلم أنها تريد أن تمحي ما حدث ولكنه انتهز الفرصة بسرعة ينظر إليها ضاحكًا، اغتاظت منه فاقتربت تُشيح بيدها بهمجية قائلة بانفعال:


-ايه.. ايه بتبصلي كده ليه 


استقام في وقفته ينظر إليها محاولًا كتم ضحكته التي تريد الفرار من بين شفتيه:


-ولا حاجه مالك 


أشارت إليه بيدها مضيقة عينيها السوداء عليه تدرك جيدًا إلى ماذا يريد أن يصل فقالت موضحة:


-بقولك ايه أنا فهماك كويس.. اللي عملته ده كان بسبب تمارا دي بنت مستفزة 


سألها مُبتسمًا مُعتقدًا أنها تبرر فعلتها ليس إلا:


-ليه؟ ايه الحاجه الكبيرة أوي اللي عملتها خلتك تتخلي عن كل حاجه وتقربي مني كده 


أشاحت بيدها وهي تبتعد للخلف تتحدث ببرود ولا مبالاة:


-كانت عايزاني أهرب ومصدقتش إني مش عايزة وإني مغصوبة فاضطريت أعمل كده علشان تصدق زي ما أنت عملتها قبل كده 


أقترب منها وتحولت ملامح وجهه للجدية التامة والحدة الخالصة يقف أمامها يسألها بقسوة وخشونة:


-كانت عايزة ايه؟


نظرت إليه ولم تدرك ما فعلته إلا بعدما باغتها بنظراته الغاضبة والشرسة الموجهه نحوها، لم يجد منها ردًا بل وقفت متوترة فصاح بعصبية:


-انطقي.. كانت عايزة ايه 


أردفت كاذبة كي تنهي الأمر قائلة بهدوء:


-استفزتني بالكلام إني حاولت أهرب قبل كده وإني ممكن أعملها


أقترب منها ليقف أمامها مباشرة عيناه منصبة على عيناها وملامحها ومن خلال توترها ونظراتها المشتتة نحوه علم أنها كاذبة فقال بقوة:


-أنتي كدابة.. قولي الحقيقة يا زينة وإلا مش هيحصل كويس


ضغطت على شفتيها بعنف وأبعدت عينيها للفراغ بعيدًا عنه قائلة بإيجاز:


-كانت عايزة تساعدني أهرب من الجزيرة 


ضغط عليها وهو يقوم بالإمساك بيدها عندما فهم أنها تريد الهرب منه ومن حديثه يهتف متسائلًا مضيقا عينيه عليها:


-قالتلك ايه بالحرف 


لم تجد مفر آخر بعيد عنه فقالت ما حدث بجدية:


-قالتلي أنها ممكن تساعدني يا جبل علشان أهرب من هنا وأبعد عنك من غير ما حد يعرف ولا حد يمنعني لأنها تقدر تعمل كده.. فأنا حاولت افهمها إني مش عايزة 


استردت تكمل مبررة ما فعلته:


-بس هي كانت فاهمه إني بكدب وأننا مش كويسين مع بعض أصلًا علشان كده لما أنت جيت عملت كده وقربت منك 


صمت للحظات وهو يتابع وجهها وملامحها المتغيرة كل لحظة والآخرى، ضغط على يدها وهو ينظر إليها بعمق متسائلًا:


-أنتي رفضتي؟


أومأت إليه برأسها قائلة بتأكيد:


-أيوه رفضت 


سألها مستغربًا محركًا رأسه بغرابة وذهول ولم يكن يتوقع أن ما قالته سابقًا ستفعله حتى وإن أتت إليها فرصة للهرب منه:


-ليه؟ 


جذبت يدها منه بإصرار قائلة بجدية وثقة ورأسها عاليًا تنظر إليه بقوة وتأكيد:


-مش عايزة أخرج من الجزيرة.. أنا وعدتك إني هفضل ووعدت نفسي إني مش هامشي غير لما أعرف كل حاجه بتحصل ووقتها هقرر ايه اللي هعمله


تابعها للحظات ثم سار مبتعدًا عنها متجهًا يفتح باب الغرفة قائلا بانفعال:


-هي اللي جابته لنفسها


علمت أنه سيتوجه إليها يحاسبها عما أرادت فعله ولم يروقها ذلك الأمر فبهذه الطريقة ستظهر أنها امرأة خبيثة حقودة:


-جبل رايح فين 


لم يستمع إلى حديثها ولم يُجيب عليها بل استمر في طريقه إلى الأسفل تخترق كلماتها المنفعلة أذنه:


-جبل ماينفعش كده أنت عايز تطلعني كدابة مش معقول اللي بتعمله 


لحقته وهو يهبط الدرج متقدمًا للأسفل تمسكت بيده بقوة تحاول إقناعه قائلة بصوتٍ جاد:


-أنا قولتلك اللي حصل وخلاص مش لازم تعمل مشكلة وتطلعني وحشه كده 


أبعد يدها عنه مقررًا عدم التنحي عما يريد فعله قائلًا بقسوة وعنف وهو يدفعها عنه:


-اخرجي من الموضوع ده يا زينة 


أتت والدته على صوتهم المرتفع خرجت تنظر إليه واقفة أسفل الدرج متسائلة باستفهام:


-في ايه يا جبل 


خرجت تمارا وفرح من الغرفة خلف والدته لينظروا إلى "جبل" و "زينة" أعلى الدرج بغرابة ولا يفهم أحد منهم ما الذي يحدث..


نظر إلى "تمارا" عندما خرجت من الغرفة بعنف وقسوة، يبعث إليها من خلال عيناه كم يكرهها ويبغض النظر إليها، أبتعد عن زوجته وهبط إليها ليقف أمامها مشتعلًا بالغضب يسألها:


-قوليلي ايه بقى اللي قولتيه لزينة 


تقدمت زينة سريعًا تجذبه من ذراعه قبل أن تجيب ابنة عمه قائلة بانفعال منزعجة من طريقته وما فعله:


-جبل خلاص محصلش حاجه لكل ده 


نفض ذراعه منها وأبصرها بحدة قائلًا بغلظة:


-قولتلك اخرجي من الموضوع ده.. أنا هعرف اتصرف كويس مع اللي زيها 


نظرت إليه "تمارا" بقوة وذهول وعينيها متسعة عليه من هول الصدمة، إلى هذه الدرجة أصبحت لا تعنيه في شيء.. إلى هذه الدرجة!.. كررت كلمته بصدمة:


-اللي زيها


أقتحم مكانها واندفع يتمسك بذراعها قابضًا عليه بقوة ألمتها وتحدث أمام وجهها بغضب وعنف، ونبرته لا تحمل إليها إلا القسوة والبغض:


-آه اللي زيك.. عايزة زينة تهرب ليه؟ مفكرة أنها زيك مش كده؟ عايزة تسهلي ليها طريق الخروج من الجزيرة وتكرري اللي حصل قبل كده.. عايزة يبقى أنتي بس اللي قدامي 


دفعها للخلف بقوة فتراجعت للوراء واستمعت إليه يقول باشمئزاز:


-تعرفي إن حتى لو زينة مشيت وسابت الجزيرة أنا مش هبصلك يا تمارا.. وجودك زي عدمه في حياة جبل العامري 


اغتاظت مما فعلته وكوتها نيران الغيرة مرة أخرى وأخرى فصاحت قائلة ثم وجهت حديثها لها بعنف:


-هي لحقت تقولك.. أنا كنت عايزة أساعدك يا مدام زينة معرفش إنك عصفورة سريعة كده


بررت "زينة" موقفها محاولة تجميل مظهرها الذي شوهه هو بفعلته تلك:


-أنا مكنش قصدي أقوله


صدح صوته عاليًا يصرخ عليها مناديًا باسمها لأنها تبرر لها ما حدث:


-زيـنـة


ضيق عينيه عليها، محى كل ما كان بينهم من حب وذكريات، أنفاس لاهثة وغرام واشتياق، تناسى كل شيء بمجرد تركها له.. إذا فالعودة لا تشكل فارقًا..


أردف بصوت حاد غليظ مهددًا إياها تهديد واضح وصريح وهو كفيل به ويستطيع تنفيذه الآن:


-ده أول وآخر تحذير ليكي يا تمارا.. الغلط الجاي أنا بنفسي هرميكي بره الجزيرة 


نظرات نارية خرجت من عيناه تجاهها غير مهتم بنظرات عينيها التي تبادلة بصدمة وخذلان تحاول أن تبعثه إليه ربما بعطف عليها ولكنه استمر على وضعه ثم استدار تاركًا إياها يرحل عنهم.. لاعنًا الساعة التي أتت بها هنا مرة أخرى..


تابعته زينة وهو يرحل فنظرت إليها لتجدها تبعث إليها جمرات من النار فقالت بجدية محاولة تبرير ما حدث:


-أنا مكنش قصدي أقوله.. وافهميها زي ما تفهمي بس بجد مقصدتش 


لم تستمر طويلًا هي الأخرى وتركتها وذهبت إلى الأعلى غير عابئة بنظراتها النارية نحوها المعبئة بالغيرة والحقد الواضحين للغاية.. على ملامحها وحديثها وتصرفاتها..


لم يتبقى سوى هي وشقيقته ووالدته التي تقدمت نحوها لتقف أمامها تنظر إليها بعيون قاسية عنيفه لن ترحمها أو تغفر لها..


خرجت الكلمات بقسوة من بين شفتيها:


-أنا قولتلك ايه أول ما جيتي يا تمارا؟ الظاهر أنك مفهمتيش كلامي كويس 


أكملت بوضوح تستمر في تهديدها كما فعل ولدها منذ لحظات:


-زي جبل ما قال.. أول وآخر غلطة والجايه بموته لو مش منه مني ولو مش مني منه.. حافظي على اللي باقيلك واكفي خيرك وشرك لنفسك..


استردت بجدية شديدة تؤكد مرة أخرى وملامح وجهها لا توحي بالخير أبدًا:


-زينة ووعد مش هيطلعوا من الجزيرة.. بقت مرات جبل خلاص وهي قاعدة هنا برضاها مش غصب


ألقت عليها نظرة أخيرة ثم تركتها ورحلت ولكنها أقسمت بداخلها إن بدر منها شيء آخر ولو كان كالهفوة لن ترحمها ولن تجعل غيرها يرحمها.. ستكون هي الجاني على نفسها..


بينما وقفت تمارا حائرة، تنظر إلى الجميع الذي تبدل حالهم من الحب إلى القسوة، واجتاحت ثنايا عقلها الصدمة التي أخذتها منه هو بالأخص وكأنه لم يحبها يومًا ولكن.. هل سيمر ما حدث!..


❈-❈-❈


سارت في شوارع الجزيرة بحماس، لهفتها تظهر على ملامحها ونظرتها الشغوفة التي تدور في كل إتجاه..


كانت ترتدي بنطال من الجينز الأزرق يعلوه قميص أبيض يشبه أقمصة الرجال تضعه داخل البنطال يحاوط خصرها حذاء نسائي رقيق..


التفت حول نفسها وهي تسير بين الناس في الجزيرة تنظر إلى بيوتهم وأماكن عملهم، تتابع الأطفال بشغف وحب كبير تنظر إلى النساء باستنكار عندما يبادلونها نظرات مستغربة من هيئتها الغريبة عليهم..


النساء ترتدي عباءة سوداء ووشاح على رأس كل منهن تغطي به خصلاتها وهي الوحيدة فقط التي سارت بينهم بخصلات شعرها صفراء اللون الحريرية..


نظرت إلى "عاصم" الذي كان يسير جوارها ينظر إلى فرحتها بحب ولهفة، خرج صوتها الرقيق وهي تعتدل في سيرها تنظر إليه بسعادة قائلة:


-أنا مبسوطة أوي إنك خرجتني


بادلها نظرة عاشق متلهف وابتسامة رائعة تظهر على محياة تجعلها تنكمش على نفسها خجلًا غير مصدقة أن كل هذا لها:


-وأنا مبسوط علشانك 


اتسعت ابتسامتها وهي تنظر أمامها على الأرضية تسير برقة وتحدثت بدلال وغنج:


-شكرًا يا عاصم 


أمسك بيدها يجذبها عندما وقفت أقدامهم أمام بيت كبير في الجزيرة يهتف بجدية: 


-تعالي 


سألته وهي تسير خلفه لا تعلم إلى أين يأخذها مضيقة عينيها عليه:


-على فين 


جذبها إلى باب البيت ووقف أمامه يخرج المفتاح من جيبه قائلًا بجدية:


-تعالي بس هوريكي حاجه 


وقفت تتابعه إلا أن فتحه وتقدم إلى الداخل يأخذها معه ينظر إليها بلهفة متشوقًا للقرب منها، باغته سؤالها المُستفسر:


-هو إحنا هنا فين! بيت مين ده 


تقدم إلى الداخل معها ليقف في ردهة المنزل الذي لا يظهر منه شيء سوى الدرج في منتصفه وأريكة كبيرة، أجابها ببساطة:


-بيتي 


تابعت بعينيها تنظر إلى حوائط البيت وما يظهر منه مرددة باستغراب:


-بيتك!


أومأ إليها برأسه مبتسمًا محركًا شفتيه مؤكدًا ما قاله:


-آه


تقدمت للأمام تسير مبتعدة لتخرج من المنزل بعد أن دق قلبها بعنف يقدم إليها إنذار معلنًا عن الخطر الذي يحيطها:


-طيب يلا نمشي 


ذهب خلفها مناديًا إياها قائلًا بلهفة:


-استني 


استدارت تنظر إليه، نظرة خيالية، جذبته إلى الوراء تعود به إلى لحظات لا يدركها إلا معها، سألته باستفهام:


-ايه 


أشار إليها بيده إلى الداخل يتحدث بجدية ونظرته نحوها هادئة:


-تعالي هوريكي البيت.. اتفرجي عليه..


رفضت مقاطعة إياه قائلة بحزم:


-لأ خلينا نمشي.. فرجني على الجزيرة 


أقترب منها ووقف أمامها ينظر داخل عينيها مباشرة يستقبل خوفها ورهبتها منه، يفهم شعورها ومحاولة هروبها السريعة، قال بصوت أجش يسألها:


-أنتي خايفة؟


ارتبكت وهي تستمع إلى سؤاله وتنظر إلى ملامحه الحادة، وكأنها تعرت أمامه وجردها من ملابسها وكل شيء يسترها عندما أدرك خوفها منه:


-وهخاف من ايه 


ابتسم بخبث وازداد مكره قائلًا:


-مني مثلًا 


فركت يدها الاثنين ببعضهم البعض وهي تعود للخلف خطوة مرة أخرى تبتعد عنه لتذهب من باب المنزل إلى الخارج قائلة بتعلثم وخوف:


-وأنا... أنا هخاف منك ليه 


أقترب منها وعبر من جوارها فاستدارت تنظر إليه سريعا بلهفة وتمكن منها الذعر وهي تراه يغلق الباب وعاد ينظر إليها بقوة:


-أنت قفلت الباب ليه.. افتحه 


تقدم ببطء شديد يسير في اتجاهها قائلًا ببرود ولا مبالاة يتابعها بعيناه الذي تحول بريقها:


-ولو مفتحتوش 


كلما تقدم منها كانت هي تبتعد للخلف تنظر إليه غير مصدقة ما يفعله معها، يرهبها أكثر من كونه يسعدها، صاحت بصوت عالي نسبيًا متوترة للغاية خائفة مما هو قادم عليها خاصة بعدما رأت ملامحه تتغير:


-عاصم.. بلاش هزار لو سمحت، أفتح الباب 


رفض حديثها بمنتهى السهولة واللا مبالاة ناظرًا إليها ببرود ونظرته نحوها جامدة وكأنه غير متأثر بأي شيء حوله:


-مش هفتحه 


ابتعدت قليلًا إلى الناحية اليمنى حتى تسير وتعبر من جواره ولكي يكن هناك مسافه بينهم، حاولت فعل ذلك ولكنه أقترب منها وهي تبتعد متقدمة إلى باب المنزل يتمسك بيدها بين قبضته بقوة واستماته فصرخت به بغضب:


-أنا عايزة أمشي


ضغط بكف يده على يدها أكثر وكل لحظة والآخرى يغير نظرة عينيه عليها فالأن رأته يتمثل أمامها في هيئة "جلال":


-اوعا أنت ماسكني كده ليه.. سيب أيدي


كشف عن أسنانه البيضاء وهو يبتسم باتساع يستهزأ بها قائلًا:


-ولو مسبتش هتعملي ايه 


نظرت إليه قليلًا وهي تحاول أن تجذب يدها منه دون حديث، تكونت العبرات داخل مقلتيها محاولة تحرير نفسها منه وصاحت بصوت مهزوز متعلثم خائفة منه:


-عاصم أنت اتجننت اوعا أنا عايزة أمشي


أقترب منها ليقف أمامها مباشرة، ترك يدها ورفع كف يده إلى وجنتها يسير عليها برفق ونعومة، مقتربًا بوجهه أمام وجهها يستند بجبينه إلى خاصتها، ثم خرج صوته الأجش قائلًا:


-أخر حد تخافي منه أنا.. أنا أقدر احميكي من نفسي قبل أي حد 


شعر بعلو صدرها وهبوطه، يستنشق أنفاسها اللاهثة بعنف وجنون وللحظة شعرت بأن النهاية المكتوبة حقيقيًا وقعت، هربت من براثن شخص لتقع مع آخر..


دفعته بعنف وقوة بكلتا يدها الاثنين وعادت للخلف تبتعد عنه تنهمر عبراتها بغزارة صارخة به بنبرة خائفة:


-أنت خوفتني 


رفع يده الاثنين أمام وجهه عندما وجدها بدأت في البكاء بهذه الطريقة الحادة قائلًا بأسف:


-أنا آسف مكنش قصدي.. أنا كنت بهزر معاكي مش أكتر


صرخت بوجهه ومع ذلك كانت نبرتها رقيقة هادئة:


-ده مش هزار 


حاول الإقتراب منها وهو يتحدث بأسف معتذرًا عما بدر منه ينظر إلى خوفها وارتعاش جسدها الظاهر أمامه:


-أنا آسف طيب سامحيني.. بجد آسف مش قصدي أعمل فيكي كده 


عادت تبتعد عنه وجسدها ينتفض، لعن نفسه وهذه الفكرة الغبية التي طرأت عقله دون سابق إنذار، لم يجد شيء يفعله وهي بهذه الحالة إلا أن يذهب معها إلى الخارج:


-يلا نمشي طيب.. 


أشار لها بيده محاولًا أن يجعلها تطمئن فهي تنظر إليه بشك وغرابة ترسل إليها بعينيها عبارات الحزن والخذلان منه:


-أهو خلاص أمشي مش هعمل حاجه ولا هتكلم أنا آسف


عادت مرة أخرى تبتعد عنه تنساب دموع عينيها بشدة تنظر إليه بعتاب خالص وتوابع ما يقابله منها لن يكن جيد أبدًا.. 


حاول التحدث نادمًا يوضح لها أنه لن يفعل لها أي شيء ولن يقوم باذيتها معترفًا بما كنه قلبه عن الجميع سواها:


-إسراء.. إسراء أنا مش ممكن اذيكي. أنا بحبك


اتسعت عينيها الدامعة ووقفت ثابتة تنظر إليه تحيط نفسها بيدها الاثنين غير متوقعة أن يلقي عليها قنبلة محملة باللهفة والحب..


أكمل وملامح وجهه تتجه إلى اللين يُشير إلى نفسه غير قادرًا على استيعاب ما حدث أو حتى شرح ما يريد قوله فلم يكن في حسبانه أن يعترف إليها:


-صدقيني أنا بحبك.. مهما اوصفلك حبي ليكي عامل إزاي مش هتفهمي ولا تصدقي حتى 


وجدها كما هي تنظر إليه بنفس الطريقة الخائفة، مستغربة مصدومة لا تفقه شيء فيما يحدث الآن فعاد يقسم يقول بلهفة وصوت أجش:


-قسمًا بالله بحبك وعمري في حياتي ما واحدة حركت مشاعري زيك ولا اهتميت بيها زيك ولا حسيت أنها مسؤولة مني.. أنتي بس اللي خطفتني من نفسي وحياتي 


ضيقت عينيها عليه ولم تعد تشعر بأي شيء، أي شعور ينتابها لا تدري، أهو صدمة؟ أو سعادة لأجل أنه اعترف بحبها، أو خوف لأجل ما فعله بها، استمرت على وضعها هذا فقال يتسائل مضيقًا عينيه عليها خائفًا من ردها:


-كلامي مضايقك؟ أنا بقول الحقيقة وعارف إنك حاسه بنفس الشعور من ناحيتي.. صح 


استرد مرة أخرى بخوف أكبر من السابق، عيناه تتحرك عليها بلهفة وشغف ولكن قلبه يدق بعنف لطول صمتها ونظراتها نحوه:


-اتكلمي عرفيني على الأقل ابقى فاهم أنتي عايزاني ولا لأ.. بلاش اتعشم 


أقترب منها خطوة والأخرى خلفها، وسألها بصوت خافت ضائع بين جدران غرامها:


-عايزاني زي ما أنا عايزك؟ بتحبيني؟


لحظة والأخرى وهو يقترب منها، ومازالت هي تحيط نفسها غير مستوعبة أي مما يحدث فوقف ضائع غير مبالي بأي شيء يستقبل رفضها له وكسرة قلبه، في لحظة يعاني شعور الألم بعدما فهم صمتها رفض وعدم تقبل لما عبر عنه واعترف به..


نظر إلى الأرضية بخيبة أمل ثم رفع رأسه ينظر إليها يُشير بيده إلى الخارج كي يذهب معها وما كاد إلا أن يتحدث وجدها تبعد ذراعيها عنها تومأ برأسها عدة مرات تعلمه باستقبالها اعترافه بكل سعادة وابتسامتها تتسع أكثر وأكثر تزيل عباراتها بأصابع يدها المرتجفة..


ابتسم بسعادة كبيرة، غمرته الفرحة واللهفة للاقتراب منها ونيل عناق حاد يكسر فيه أضلعها في محيط جسده.. أومأ برأسه بسعادة غامرة وهو يقول غير مصدق:


-أيوه!.. بجد؟


مرة أخرى أومأت له برأسها وتناثرت فراشات الحب بينهم وهو على بعد خطوات منها ينظر إليها بهيام وغرام عينيها يناديه إلى الأعمق من وقلبه يشتهي القرب وجسده يآن متالمًا ابتعادها تلك المسافة..


كبت جموح نفسه، واخرس نبضات قلبه ينظر إلى زرقة عينيها وبريق العشق داخلها، خجلها وما به من نهر تبحر داخله تغوص ولا تريد العودة أبدًا حتى وإن قارب على الغرق.. ملامح طفلة بريئة لا يريد الابتعاد عنها ولا تركها لغيره، لا يريد إلا أن تكون له ملكه ومعه هو فقط.. ينظر إليها وإلى كل ما بها معترفًا بأن الحب لا مثيل له وخاصة إن كان بالرضا والحلال، 


هبطت بنظرات عينيها إلى الأرضية بعدما بلغ الخجل ذروته، ملامحه الرجولية وصوته الأجش المعترف بحبه لها أغراها وجعل الغنج يتملكها، عيناه الحادة التي لانت فقط عندما رأى خوفها، جسده الصلب الذي يبتلعها أن وقفت أمامه لم يميل إلا عندما شعر بارتعاش جسدها.. 


أنه "عاصم"، وكيف للحب أن يكون هكذا معه، ضربات سريعة نبضات متكررة راكضة، خجل مميت، نظرات تلقي بأسهم الحب والغرام، جسد يشتهي القرب ولو بعد حين..


إنه الجوى، الذي انكوت بنيرانه معه، تعبر على جسر المشاعر المختلفة غير قادرة على تحديد أي منهم، أهو حب، لهفة، غرام، حنين، شغف، رعبة.. وما غير الهوى سيكون متعدد المشاعر!..


❈-❈-❈


رأته يخرج من المرحاض يجفف خصلات شعره بمنشفة صغيرة بيده، ينظر إلى الأرضية سيرًا في الغرفة، ولجت إليه حيث أنها كانت تقف في الشرفة تابعته بعينيها ورأت اللا مبالاة وهدوءه الذي يتحله دائمّا فقالت بجدية تقترب منه واضعة يدها الاثنين أمام صدرها:


-مكنش ليه داعي كل اللي عملته 


ألقى بالمنشفة على الأريكة ونظر إليها بحدة وانفعال، منذ الصباح تثرثر بنفس الحديث ولا يشغل تفكيرها إلا مظهرها أمامها كيف لها أن تقول ما حدث له بهذه السرعة! أليست زوجته هي!، ضغط على حروف كلماته بانفعال يماثلها:


-بالنسبالي أنا ليه ستين داعي.. اتجرأت وعرضت عليكي أنها تهربك، بعد كده هتعمل ايه؟ لازم تقف عند حدها يا إما ترجع مكان ما جت


رفعت حاجبيها تعمق نظرها وتفكيرها في انفعاله الزائد عن حده وأردفت ببرود متسائلة:


-هو أنت محموق كده ليه! أنا مش فاهمه 


عبثت ملامحه زافرًا الهواء من رئتيه بانزعاج شديد قائلًا بحدة يتقدم منها:


-محموق علشان كنت متوقع تهربي، لو كان اللي في دماغي صح وهي نجحت أنها تخرجك بره الجزيرة كان زماني بدور عليكي ومش لاقيكي 


بادرت بالكلمات وهي تبتسم بزاوية فمها تسخر منه مردفة:


-وأنا أهمك في ايه


اشاح إليها بيده بهمجية ينظر إليها باستغراب شديد وعيناه تطلق الشرر نحوها فيكفي ما تخفيه عنه:


-أنتي مراتي بلاش جنان 


لحظات من الصمت حلت عليهما معًا، شعرت بحرقة تخرج من بين شفتيه مع نطقه بتلك الكلمات البسيطة التي تدل على أنها ملكه هو، حمحمت واعتدلت في وقفتها قائلة برفق:


-بس أنا مش ههرب يا جبل متقلقش.. يوم ما أطلع من هنا هيبقى بمزاجك ومزاجي


ابتسم ساخرًا يشير إليها بيده باعثًا إليها اليأس من خلال نبرة صوته الساخرة ونظراته المتهكمة بسبب حديثها:


-يبقى كده مش هتخرجي من الجزيرة أبدًا


أبتعد من أمامها في الغرفة فعادت للخلف تتمسك بأحد أعمدة الفراش تنظر إليه وهو منشغل عنها يعطي إليها ظهره، تذكرت ما حدث في الجبل وهي أخفته عنه، طوال الوقت تفكر وتحاول الوصول إلى أي شيء تبحث بين العاملات في المنزل، تحاول أن تأخذ الحديث منهن عنوة ولكن لا فائدة، لا والدته تتحدث ولا شقيقته وليس هناك ما تستطيع الوصول إليه من خلال أي أحد وإن لم تقدم خطوة للأمام ستبقى حقًا عمرها كله هنا دون معرفة شيء ولن ترحل كما قال 


تنهدت بصوت مرتفع وتابعته قائلة بتردد وخوف من نتيجة ما تريد فعله:


-أنا عايزة اعترفلك بحاجة 


استقام في وقفته واستدار ناظرًا إليها بهدوء دون انفعال يتابعها منتظرًا أن تقول ما يريد أن يستمع إليه:


-حاجة ايه 


ابتلعت غصة وقفت بجوفها عرقلت الحديث على شفتيها، أبصرت عيناه الحادة بتوتر شديد والرهبة تقتلها:


-أنا خرجت وراك وأنت في الجبل


ظل يتابعها بأعين مفترسة، تفترس كل انش بوجهها تتابع حركاتها دون حديث ينظر إلى ارتجاف جسدها وخوفها الشديد منه، اخفضت عينيها عندما أطال هو النظر تبتعد عن محاصرته لها والتي لم تفهم منها ما الذي يشعر به.. الغضب مما فعلته أو الصدمة مازالت تلجمه.. أخرجت الهاتف من بنطالها وفتحته تقدم إليه التسجيل قائلة بصوت واثق محاولة الثبات أمامه:


-وصورت كل اللي حصل ووصلني أنك زي ما قولت بس أنا لسه رافضة ده معرفش ليه حتى 


جلست خلفها على الفراش، حائرة خائرة القوى، لا تدري لما لا تصدق ما هو عليه ولا تدري لما إلى الآن تلتمس العذر لوجودها


قالت تنظر إليه باستغراب والحيرة تنهش عقلها تشتته أكثر مما هو عليه:


-واللي أكد رفضي.. الراجل اللي كان بيصوركم، يا أما هو معاك يا إما هو ضدك 


أقترب منها وأخذ الهاتف من يدها منفعلًا بضراوة مما فعلته يصيح بصوت حاد خشن ناظرًا إليها بحدة:


-أنا عارف إنك خرجتي ورايا.. وكنت مستني إنك تيجي تقولي لكن مكنتش أعرف أنك صورتي اللي حصل 


لم تستطع الحديث أمام نظراته عليها التي اربكتها للغاية، دومًا كانت لا تخاف لا تهاب أحد ما دام ما تفعله لا يغضب أحد ولا يؤذيه ولكنه الوحيد الذي جعل قلبها يرتعش داخل قفصها الصدري وتخاف من تلك اللحظات الهمجية التي يمر بها..


اخترق صوته أذنها يسأل باحتدام وحنق:


-صورتي ليه؟


خرجت منها تنهيدة أكثر حيرة وارتباك، فهي إلى الآن لا تجد سبب واضح وصريح فعلت هذا من أجله، قالت بتشتت:


-معرفش، يمكن علشان يبقى دليل في ايدي يدينك رغم إنك مش ظاهر، أو يبقى سبيل الخروج لو حبيت بعد كده.. بجد معرفش بس لقيتني بعمل كده 


عبث بالهاتف بعد أن استمع حديثها قليلاً يتمسك به ثم أقترب يقف أمامها شامخًا يلقيه جوارها على الفراش قائلًا بحدة وشماته:


-واديني محتلك سبيل الخروج...


أكمل مبتسمًا بشر وسخرية بذات الوقت يقترب بيده منها يملس عليها برفق:


-علشان مافيش خروج يا غزال 


تعلقت بعينيه، تذكرت ذلك الرجل متعجبة لتقل دون إنذار:


-مشوفتش منك رد فعل على الراجل اللي كان بيصورك 


أبتعد يرسم الحيرة على وجهه واضعًا يده الاثنين بجيوب بنطاله يقف شامخًا كما عادته في تلك المواقف قائلًا بقسوة ظاهرة عليه:


-هعرفه.. متقلقيش 


أبتعد أكثر ليخرج من الغرفة فوقفت سريعًا وجذبته من ذراعه متعلقة به تحيط عينيه بنظراتها المتوسلة وملامحها الواهية ونبرة صوتها تخرج بخفوت وارهاق:


-جبل... مش عايز تقولي حاجه!


حرك عينيه عليها ينظر إلى كل ما بها ويصل إليه شعورها يدلف قلبه مباشرة شاعرًا بالشفقة نحوها، تسائل بخشونة:


-حاجه زي ايه 


لمست الشفقة في نظرته نحوها فحاولت أن تستعطفه أكثر وهي تحيد عليه متمسكه به أكثر قائلة بلين ورفق:


-حاجه تبرأك قدامي 


قهقه ضاحكًا بصوت مرتفع مفتعلًا جلجلة في الغرفة وهو ينظر إليها باستهزاء:


-ومين قالك إني عايز ابقى برئ قدامك


ضغطت على ذراعه بيدها بين قبضتها القوية ترفع عينيها إليه متفوه تتوسله:


-أنا عايزة 


شعر أنها تتمادى أكثر كل يوم، وفي كل جلسة وتجرأت أكثر عندما أصبح لين معها يتحدث برفق واريحية مبتعدًا عما كان يفعله معها سابقًا..


أراد أن يذكرها أنه هو مثلما كان لم يتغير به شيء، يخبرها أنه المتحكم الوحيد في كل ما يفعله إن كان لين أو قسوة:


-زينة.. جبل بتاع دلوقتي هو نفسه بتاع قبل كده، أنا بس اللي متهاون معاكي لكن كل ده بايدي أنا متفكريش إني ضعفت أو اتغيرت أنا هو جبل العامري اللي مشوفتيش أقذر منه


تركت يده وابتعدت للخلف نادمة على ما أقدمت عليه معه فهو كلما أرادت القرب لفهم وإدراك ما يحدث صدمها في حائط صلبه وقسوته، عقبت على حديثه بقلة حيلة:


-وأنا لسه زينة اللي وقفت قصادك في كل حاجه قولتها، بس بحاول ألاقي حاجه كويسه فيك.. هتقولي ليه هقولك معرفش بس يمكن علشان رضيت ابقى هنا وفي نفس الوقت مش عايزة ابقى مع مجرم 


ابتسم باستهزاء شديد مبتعدًا عنها متقدمًا من باب الغرفة قائلًا بخبث وحقارة:


-اللي فات كان نزاهة وبراءة.. اللي جاي كله إجرام 


فتح باب الغرفة تحت أعينها بحقارته وتلك النظرة الدنيئة، ما كاد إلا يخرج ولكنه وجد شقيقته "فرح" تقف أمام باب الغرفة قاربت على دقه لكي تناديه ولكنه سبقها وفتحه


سألها مضيقًا عينه عليها:


-مالك


أجابته بنظرة حزينة وصوت مرهق ضعيف:


-عايزة أتكلم معاك 


أشار إليها بالولوج إلى الداخل، دلفت تنظر إلى "زينة" نظرة عادية خالية من أي مشاعر، جلست على الأريكة فأغلق الباب وعاد مرة أخرى إلى الداخل ليجلس أمامها على المقعد متسائلًا بنبرة اعتيادية:


-اتكلمي 


رفعت بصرها إلى "زينة" مرة أخرى فشعرت أنها لا تبتغي وجودها لتستمع إلى الحديث الذي سيدور بينهم فتقدمت "زينة" تخرج من الغرفة قائلة:


-أنا هنزل تحت 


عرقلت طريقها "فرح" عندما اعترضت على حديثها قائلة:


-خليكي يا زينة 


صمتت كثيرًا بعدما عادت إلى الداخل تجلس على الفراش فوضع "جبل" مفصل يده على ذراع المقعد يستند بإصبعيه السبابة والإبهام على وجهه بحركته المعتادة دليل على الملل الذي يشعر به..


خرج صوته ببرود:


-مطولين إحنا 


ترقرقت الدموع بعيونها وهي تنظر إليه، هبطت بها إلى الأرضية تحرك أهدابها وارتجف جسدها خوفًا مما هي مقدمة عليه ثم قالت متعلثمة:


-أنا عملت مصيبة 


اعتدل في جلسته عندما شاهد حالتها التي تغيرت مئة وثمانون درجة ينظر إليها بتمعن شديد متسائلًا بقوة:


-عملتي ايه 


اجهشت في البكاء بعدما سألها فوقفت "زينة" تنظر إليها باستغراب لترفع "فرح" إحدى عينيها وهي تبقى قائلة دون سابق إنذار تلقي قنبلة موقوتة داخل مجلسهم:


-أنا حامل 


هب "جبل" واقفا تجتاح خلايا جسده بالكامل الصدمة والذهول ينظر إليها بغضب عارم وقسوة خالصة مميته قهرية على حالها..


وضعت "زينة" يدها على فمها تشهق بعنف غير مستوعبة تلك الصدمة وباغتتهم بسؤال عنيف:


-مين عمل كده!


بقيٰ هو على حاله ينظر إليها تفور الدماء بعروقه يشعر بتضخم رأسه وتأجج النيران داخله وما كاد إلا أن ينقض عليها بعدما تحولت عيناه إلى السواد الحالك بسبب كثرة الغضب والاشتعال الموقوت ولكنه توقف عندما تفوهت باكية..


-عاصم.. عاصم اللي عمل كده


صدمة لم تلجم ألسنة الجميع بل ألجمت عقولهم، وتفوقت على إدراكهم لأي حقيقة أخرى، معلنة عن شلل موقت لبدن كل من استمع اسم "عاصم" وفهم ما قصدته..


❈-❈-❈

تكملة الرواية من هناااااااا


تعليقات

التنقل السريع