رواية الحصان والبيدق(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا") الفصل الرابع والخامس والسادس بقلم ناهد خالد
رواية الحصان والبيدق(الجزء الثاني من رواية" بكِ أحيا") الفصل الرابع والخامس والسادس بقلم ناهد خالد
الفصل الرابع "بداية الإجبار"
الحصان والبيدق
الجزء الثاني من بكِ أحيـا
"ذُقت مرارة الاجبار، وسرتُ في طريقٍ مُظلمٍ، التهى عقلي في تلك المرارة ولم يفكر في الاهتداء للطريق، والسير بحِنكة.. فلقيت ما لاقيت.. وادركت بعدها أنه حين تجبرك الحياة على فعل ما لا ترضيه لا تلهي بالك بالتفكير في مدى الظلم الواقع عليك، بل فكِر في كيفية النجاة.."
" نــــساء الرواية"
ترجل الجميع من السيارة بعد أن القى بقنبلته المدوية، عدا هي، فباهر أصر أن يكمل طريقه لمنزله دون ايصال مراد له، ومصطفى قرر تركهما يتحدثا سويًا وسبق شقيقته لأعلى.. أما هي فربما جمدتها الصدمة، وربما لديها ما تقوله! لا يعرف، لذا بقى ساكنًا حتى لم يكلف نفسه عبء الالتفات اليها، ينتظرها أن تبدأ..
والترجيح الأصوب كان أن حديثه جمدها من الصدمة، لم تستوعب أنه يخطط للمُضي قدمًا رغم رفضها المُعلن، ربما لم يأخذ عقلها الوقت الكافي بعد ليستوعب مجمل الأحداث، فكلها اتت تِباعًا، لو سنحت لها الفرصة بالاستيعاب لكانت بلا شك طريحة الفراش الآن، فمن يصدق أنها تجلس بنفس السيارة مع شبح أحلامها! بل وكانت تتحدث معه في الساعات الماضية! "مُراد" الذي كان مجرد ذِكر اسمه كفيل بارهابها ودفعها لحالة نفسية منحدرة، بالطبع هي لم تقدر حجم الكارثة بعد!
والآن بعد أن ايقنت بواقعية كل ما حدث، بعد أن رأته يدفعها قسرًا لطريق مُظلم معه، استوعبت الأمر، وأول رد فعل ظهر من جسدها هو التجمد، والارتعاش الداخلي، فبداخلها ينتفض وهي تنظر لجانب أخر، لكن فكرة انه بالامام.. معها.. تكاد تزهق روحها، تخفت انفاسها وتأبى الخروج، شحب وجهها بشكل مخيف، وكل هذا والجالس بالأمام لم يلاحظ!
وحين طال الصمت، سأم الوضع فقرر البدء هو، فليفتح لها الطريق لاخراج ما في جبعتها لا بئس، وبالفعل اجلى حنجرته قبل أن يغمغم بنبرته الخشِنة:
_هنفضل ساكتين كتير؟ أنا عارف إنك معترضه، وعارف إنك مش طايقاني كمان، بس احنا محتاجين فرصة يا خديجة، ولازم ناخدها، لأن اللي بنا يستحق.. الي جوايا ليكِ يست...
التف لها نصف التفاته وهو يقول جملته الأخيرة، ليتجمد هو الآخر على مظهرها، ما بها؟ لِمَ تبدو كالموتى هكذا؟ ضرب القلق حجرات قلبه، واشتعلت عيناه بالذعر وهو يهمس بخوف حقيقي:
_ خديجة! مالك؟ أنتِ كويسة؟
ولم تجيب، ليس رغبة منها، بل لأنها بالأساس لا تسمعه، فقد قررت أن تهرب من واقعها بأضغاث احلامها، قررت أن تنفصل عن الواقع وتسبح في بئر مظلم من ذكريات ماضيها، والتي جلبت لها ذكرى قديمة تجمعها بشقيقتها الراحلة..
يناير عام ٢٠٠٨...
كانت تستعد للنوم حين جاورتها شقيقتها "سارة" متأفأفه بحنق جلي، فاثار انتباه الصغيرة، التي سألتها بجهل:
_ مالك يا سارة؟
حدقت بها "سارة" بأعين تموج بالغيظ الدفين الموجه لهذه المسكينة، وقالت بنبرة ضائقة:
_ أنتِ لسه بتلعبي مع مراد ليه؟ مش قولتلك متلعبيش معاه تاني؟
تجعدت ملامحها حزنًا واردفت تبرر بشفتين مزمومتين:
_ اصل هو معملش حاجه وحشة، بعدين أنا بحب العب معاه، كمان لو ملعبتش معاه هيزعل.
عقبت بغضب:
_ما يزعل، يعني خايفة على زعله ومش خايفه على زعل اختك؟
سألتها بحيرة:
- انا مش عارفه أنتِ زعلانة منه ليه؟ وليه بتقوليلي ملعبش معاه؟
زفرت بملل وهي تخبرها:
_ قولتلك مية مرة هو مش كويس، وانا خايفة عليكِ منه.
والحت "خديجة" في الاستفسار أكثر وهي تقول:
_يعني ايه مش كويس؟ بعدين أنا بشوفك بتلعبي معاه وأنتِ الي بتروحي تكلميه، ليه بقى أنا لأ؟ وهو لو مش كويس بتكلميه ليه؟
تفاقم غضبها ويئست من ايصال مرادها للصغيرة وجعلها تنصاع لرغبتها، فرمتها بنظرة قاتمة، غاضبة، وهي تقول قبل أن توليها ظهرها لتنام:
_ براحتك، بس بكرة بقى تحصلك مصيبة بسببه وبسبب مشيك وراه، ده لو قالك تولعي فينا هتعمليها، غبية.. بتسمعي كل كلمة يقولهالك، براحتك انا نصحتك عشان أنتِ اختي برضو، وخايفة عليكِ.
"خديجة" لم تلقي لها بالاً وقتها، ببساطة لأنها اعتادت على سماع ما هو اكثر من هذا من شقيقتها، وكانت تنسبه الى أن شقيقتها لا تحب وجود مراد حولهما، وقربه منها، ربما لانها تراه يأخذ مكانًا هو حقها في حياة الأخرى، ولكن كانت تعود لتسأل ذاتها، أن كان الأمر هكذا، اذًا لِمَ تسعى دومًا للتقرب منه؟ الحديث معه واللعب؟ لِمَ لا تفعل هذا معها هي؟ أليست هي بالأحق؟!
عـــــودة..
ويبدو أن "سارة" كانت على صواب، فقد زج بها في مصيبة لم تستطع الخروج منها من يومها، ليتها استمعت لها وابتعدت عنه، لِمَ عانت كل ما عانته للآن.
ترجل من سيارته حين زاد قلقه عليها وعلى صمتها وشحوبها هذا، والتف سريعًا ليفتح الباب المجاور لها، فتحه وطلَ برأسه عليها وهو يسألها بنبرة لهوفة:
_ خديجة؟ ردي عليَّ أنتِ كويسة؟
شهقت بقوة وهي تفيق من شرودها على صوته القريب جدًا منها، القريب حد الخطر! فنظرت له بأعين زائغة غير مدركة متى أصبح وجهه مقابل
لوجهها بهذا الشكل، انتفضت بجسدها تبتعد للجانب الآخر قدر استطاعتها وقد لمعت عيناها بخوف غير مبرر بالنسبة له، وهي تهتف بارتعاش:
_أنتَ عاوز ايه؟ أنتَ مقرب كده ليه؟
ضيق ما بين حاجبيهِ غاضبًا وهو لا يصدق مدى خوفها، ربما توقعه منها في أول الأمر، لكن بعد مرور ساعات من التعامل الذي كان أفضل من توقعاته بكثير ظن أن الأمر اهون مما توقعه، لكنها الآن تثبت العكس وكأنها لم تكن قد استوعبت حقيقته بعد، او لم يكن قد أخذ عقلها رد الفعل المناسبة!
_ هكون عاوز ايه؟ أنا بقالي كتير بنادي عليكِ مبترديش شكلك قلقني.
لم تجيبه ولم تعطيه أي اهتمام فقط ترجلت من السيارة من الجهة الأخرى، واسرعت في خطواتها تجاه باب المنزل ولكنه كان أسرع، فأمسك بذراعها في مدخل المنزل وهو يديرها له بنزق مرددًا:
_ ده بجد؟ أنتِ بتهربي زي العيال؟
ارتعشت تحت قبضته وخيم الرعب على ملامحها أكثر وهي تحاول انتزاع ذراعها منه مرددة بارتعاش:
_ ابعد، سبني انا عاوزه اطلع.
وتحت محاولتها للفرار ظهر اصراره وتعنته وهو يخبرها بقوة:
_ مش هسيبك، لازم تفهمي الاول، لازم نصلح علاقتنا ببعض.. خديجة في احلامك بس ممكن تحلمي إني ابعد عنك أو اطلقك، احنا عمرنا ما هنبعد، عشان كده لازم نصلح الأمور بينا.
صرخت بهِ ولم تهتم لأي شيء آخر وهي تتملص من قبضته:
_ ابعد قولتلك، انا مش عاوزه ابقى كويسة مع حد.. ابعد ارجوك أنا مش طايقة اشوفك.
_لييه؟ ليه كل ده؟ قولتلك مية مرة مقصدتش أأذيها، هفضل ابرر لامتى وأنتِ امتى هتفهمي؟ كفاية يا خديجة بقى كفـــــاية..
صرخ بها بسأم واضح، فلم يعد لديه ما يشرحه لها، وتبريراته لتلك الحادثة انتهت، وهي تصر على أفكارها ولم تتزحزح عن موقفها تجاهه، جحظت عيناه المظلمة مع صرخته الأخيرة، وتلون وجهه بحمرة الانفعال والغضب.
فزاد رعبها، ولم تعد قدميها تحملها، لم تستطع التحمل اكثر، فكل ما لاقته اليوم اكثر من قوة تحملها، زاغت عيناها بغير هدى، وارتخت اعصابها واعلنت الاستسلام.
فسقطت أمام عيناه التي جحظت أكثر ولكن بخوف هذه المرة، واسرع يحتضنها بذراعيهِ قبل أن تلامس الأرضية الصلبة، ردد اسمها اكثر من مرة ولكن لم تستجيب، فحملها بين ذراعيهِ متجهًا لسيارته، ووضعها في المقعد الأمامي برفق محيطًا اياها بحزام الأمان، وقبل أن يستقل مكانه ضرب السيارة بقبضته يسب بعنف فقد نسى شقيقها الماكث بالأعلى، أغلق الباب وركض بخطوات سريعة للمنزل صاعدًا درجاته بسرعة، حتى وصل لباب شقتها فدقه على عجالة، حتى فتح "مصطفى" الباب وعلى وجهه التعجب من قوة الدق، لم يمنحه فرصة للحديث فقط اخبره:
_ تعالى معايا.
والرغبة في اصطحابه كانت آمانًا له إن فاقت "خديجة" في أي وقت فهو يعلم جيدًا أنها ستطمئن بوجود شقيقها..
❈-❈-❈
_ حرام عليكِ ياما، أنتِ هتعملي معايا اكده ليه؟ مش بتك أنا اياك!
هتفت بها "فريال" بسأم ونفاذ صبر، فها هي منذُ ساعتان تجلس نفس الجلسة تحاول استمالة والدتها لتقف في صفها ضد ابراهيم لتكمل تعليمها، لكنها لا تُستمال، كالصخر الجامد لا تلين، تستمع لها بملامحها الجامدة دون رد فعل، حتى صرخت بها أخيرًا:
_ رُدي ياما متسكتيش اكده! رُدي الله يكرمك أنا اعصابي ممتحملاش.
تخلت عن جمودها وقد نفذ صبرها هي الأخرى وأردفت بضيق واضح:
_ وه! ماخلصنا بجى،بكفياكِ لت وعجن، حديتك لا هيجدم ولا هيأخر، ابراهيم جوزك واللي هيجوله هيمشي، لاهو بحديتي ولا بحديت غيري، فريحي نفسك يابنت بطني.
تهاوت دموعها أكثر وأكثر وهي تسألها بنبرة وجع:
_ أنتِ متوكده إني بنت بطنك؟ مابينش ياما.
رفعت حاجبها ساخرة وسألتها بفظاظة:
_ واثبتلك كيف يا حلوة، بأني اجف جدام جوزك واعارضه، وياريت هعارضه في الغلط لا ده انا هعارضه في الصوح، وجتها ابجى امك!
_ صوح! فين الصوح الي هتتحدتي عنه؟ مشيفاهوش ياما، كيف عاوزني اهمل علامي بعد سنتين، كيف يا عالم عاوزين تضيعوا سنتين من عمري اكده؟
قالتها بقهر حقيقي، وهي تشيح بذراعيها معبرة عن يأسها وقلة حيلتها، وانتفضت واقفة حين سمعت "سُرية" تقول بينما تحدقها بتحدي:
_ شكلك اتوحشك ضربي، وماله مانتي من زمان محدش جابك من شعرك.
وقبل أن تذهب من أمامها هاربة لغرفتها حدقتها بنظرة أخيرة.. نظرة خيبة، ويأس، ويزينها سؤال لِمَ؟ سؤال لن تجد اجابته.. وتكملته هو لِمَ لا تعاملها
والدتها كأم تعامل ابنتها؟ لِمَ تشعر بأن والدتها تكمن لها كرهًا حقيقيًا غير مبررًا؟
والنظرة لم تؤثر بمقدار انشٍ واحدٍ بهذا الحجر الجامد، بل بالعكس رددت بخفوت بعدما ذهبت "فريال" من أمامها:
_ ياريتني خلصت منك كيف ما سويت في الي جبلك، كان زمان راسي ارتاحت.. جال خلفة بنات جال، مبيجلبوش غير الهم والغم.
كسابقتها!!؟
❈-❈-❈
اقتربت منه ببطء تحيط عنقه بذراعيها وهي تهمس له بدلال:
_ وحشتني.
لم تلين معالم وجهه، ولم يتخلى عن جموده، حتى أنه لم يكلف نفسه عناء احاطتها بذراعيهِ هو الآخر.
تنهدت بهدوء وهي تخبره بضيق مصطنع:
_ مش معقول قساوة قلبك يا طارق، بقى بقولك وحشتني وأنتَ ولا اتهزيت حتى! مستكتر تقولي أنتِ كمان؟
ابتسم ابتسامة سمِجة وهو يخبرها بغير رضا:
_ وأنتِ كمان، كويس كده؟
قالها وازال زراعيها من حوله ليتجه لأحد الكراسي وجلس فوقها بهدوء ووجوم.
زفرت بضيق بدأ يتسلل لها وهي تراه صلد الرأس هكذا، هي تعرفه، وتعرف أنه صعب الخصام، وحين يأخذ موقفًا يحتاج لوقت ومجهود كي يُصالح..
لذا اتجهت له بابتسامة صادقة قبل أن تجلس فوق قدميهِ عنوة وزادت ابتسامتها وهي تراه يشيح بوجهه للجانب رافضًا أي محاولة منها، وما يشفع له عندها أنها تعلم جيدًا أن رفضه ظاهري، وإلا لِمَ ألحت عليهِ لتراضيه..
_ طروقتي، طقطوقة..
التفت لها يحدقها باشمئزاز مرددًا بضيق:
_ طقطوقة!
احاطت وجهه بكفها وهي تقرب رأسها له هامسة بابتسامة:
_ ممكن اعرف ليه الزعل ده كله؟
قرر انهاء الصمت ومواجهتها فعقب بغضب وعقله يستعيد تلك الدقائق السخيفة:
_ يعني مش عارفة! محتاجة تسألي؟ معتقدش ان شغلك معاه بيحتاجك تقربي كده.
رفعت حاجبيها بدهشة وهي تجيبه:
_ طارق متكبرش الحكاية، كل ده عشان مال عليَّ يهمسلي بحاجة؟
انتفض واقفًا فسبقته واقفة بطبيعة الحال، وأردف بضيق بالغ:
_ ده بجد؟! ده انا مكنتش شايفك منه، عاوز يهمسلك بحاجة يميل عليكِ الميلة دي؟ ده كان كأنه حاضنك!
عذرت غضبه وهي تتخيل كيف رأى الوضع من بعيد، لذا أخبرته بهدوء:
_ ده الي يبان من بعيد، لكن اقسملك يا طارق انه كان في space "فراغ" بيني وبينه، هو اه مش كبير بس مش زي مانت متخيل والله، اكيد مش هسمحله يقرب بالشكل ده، يمكن عشان هو بس اطول واعرض مني فلما وقف قدامي ومال شوية طلع الوضع بالشكل ده، ارجوك متكبرش الموضوع بقى.
زفرة قوية صدرت منه قبل أن يبتعد وهو يهدر بها:
_ أنا تعبت.. تعـبت ومبقتش متحمل الوضع ده.
اقتربت منه ووضعت كفها فوق كتفه تهدئة وهي تهتف برفق:
_ هانت يا طارق، هانت.. باقي شهرين بس وبعدها كل حاجة هتنتهي.
التف لها وهو يهتف بسخرية:
_ ولو غلطنا غلط واحد، احنا الي هننتهي.
قطبت ما بين حاجبيها بضيق وهي تسأله:
_ في ايه يا طارق؟ أنتَ عمرك ما كنت متشائم كده، ده أنتَ الي كل مرة كنت بيأس او بمل فيها كنت بتهون عليَّ وتطمني!
غامت عيناه بسحابة تعب حقيقي وهو يردف:
_ تعبت، مش من حقي اتعب؟ أنتِ عارفه بقالي كام سنة في الدوامة دي؟ وعارفة بقالنا قد ايه مخبيين علاقتنا بسبب الحوار ده.
مدت ذراعيها تمسك كفيهِ بتشجيع وهي تجيبه:
_ عارفه، بس بعد الصبر نصر.. ايه مش كنت دايمًا تقولي الجملة دي!
اومئ برأسه بارهاق حتى من الحديث، ليجدها تقترب اكثر وهي تغمز له بعيناها اليسرى تحاول اخراجه من حالة اليأس التي تلبسته وهي تقول بدلال:
_ بعدين قولتلك وحشتني، هو أنا موحشتكش بجد ولا ايه يا طقطوقة؟!
حرك رأسه يائسًا منها وهو يخبرها بصدق:
_ وحشتيني يا عيون طقطوقة..!
❈-❈-❈
وصل بها لمستشفى خاصة يعرفها، ترجل سريعًا والتف لجهتها حاملاً اياها بلطف وكأنها قطعة زجاج يخشى كسرها، ودلف بها للمستشفى، ليطلب من الممرض الذي قابله أن يسرع بجلب طبيب، ودلف بها لغرفة الطوارئ الذي يعلم مكانها، وضعها فوق الفراش ووقف جوارها محتفظًا بكفها في يده، يمسكه بقوة وكأنها ستهرب، هذا ما يبدو، لكن الحقيقة أنه يستمد الثبات منها، فقلبه ينتفض خوفًا عليها..
أتى الطبيب وهو لم يتحرك من موضعه، ليهتف الأول بهدوء:
_ لو سمحت تتفضل بعيد شوية عشان اكشف.
نظر له بجمود وهو يردف بنبرة وقحة:
_ هو انا مضيق المكان؟ ماتكشف!
من نظرته ورده ادرك ان الواقف امامه ربما وش إجرام! وهو رأى الكثير من الشخصيات المماثلة والتي يفضل تجنبها، لذا اكتفي برميه بنظرة ضائقة قبل أن يبدأ في الكشف، والأخير يقف كمن يقف على الجمر، رافضًا التلامس الطفيف الذي يحدث بين الطبيب وبينها، لكنه يكبح لجامه فقط كي يطمئن عليها، ثواني وانتهى الطبيب من الكشف، ليطلب من الممرضة أن تأتي بمحلول ملحي وحقنة ما.
_ خير؟
أردف بها "مراد" باقتضاب واضح، لينظر له الطبيب بضيق من طريقته الفظة، لكنه اجاب بعملية:
_ غيبوبة سكر.
رمش باهدابه غير مستوعبًا ما سمعه، ليسأله بملامح متأرجحه بين الخوف وعدم الاستيعاب:
_ ايه؟
وهنا صدح صوت "مصطفى" يسأل هو الآخر بخوف:
_ سكر ايه؟ هي معندهاش سكر!
تعجب الطبيب من جهلهم بالأمر، ليهتف:
_ انتوا متعرفوش! لا عندها مرض السكري، وواضح انه بقاله فترة معاها.
صدمة، لن ينكر انه صُدم بهذه المعلومة، فعامان كاملان قريبًا منها ولم يعلم باصابتها بمرض كهذا! خفتت انفاسه وهو يشعر بقرب فقد سيطرته على ذاته، لكن بضغطه واحده على كفها امدته بالسيطرة دون أن تعلم، فهدأ ذاته وسأل الطبيب بجمود واضح:
_ انا عاوز افهم اكتر.
لم يفهم جملته فسأله هو الآخر:
_ تفهم عن ايه؟
اجابه باقتضاب:
_ عن المرض.. ليه جالها والمفروض اتعامل معاه ازاي؟
ضيق الطبيب عيناه باستغراب يسأله:
_ تتعامل؟ هو حضرتك الي هتتعامل مع المرض! المفروض المريض هو الي يفهم ويعرف خطورة المرض وازاي يتعامل معاه.
اغمض عيناه بنفاذ صبر، ولازمها زفرة قوية منه، ثم فتحهما وهو يقول:
_ هي مش مهتمة بصحتها، فقررت اهتم انا، فيه مشكله؟
تنحنح الطبيب بحرج وهو يسأله:
_ حضرتك تقربلها ايه؟
اجابه بحنق:
_ جوزها، وياريت التحقيق يكون خلص، عشان صبري نفذ.
جاءت الممرضة بما طلبه الطبيب فأسرع يعطيها حقنة الأنسولين ويدعم جسدها الذي يبدو انه لم يتغذى منذ وقت بالمحلول، وهو يجيبه:
_ حضرتك سبب المرض بيكون متعدد، ياسبب وراثي، او بسبب حمل وده بيكون مؤقت، او بسبب اضطرابات في وظائف الجسم، وممكن بسبب الحالة النفسية السيئة المستمرة لفترة طويلة او الاكتئاب و..
_كلمني اكتر عن السبب الأخير..
_ ده بيكون مرض من النوع الثاني، بيكون بسبب الحزن الشديد لفترة طويلة او مشاكل نفسية، بتسبب لغبطة في الجسم فممكن وقتها يصاب بالسكري، وعمومًا لازم تاخد بالها من صحتها اكتر، تنظم اكلها وتبعد عن النشويات والسكريات، ومتبذلش مجهود جامد، وكمان تلاحظ مستوى السكر باستمرار، لما تحس بأي بوادر لان مستوى السكر واطي او عالي لازم تاخد حقنة الانسولين قبل ما يحصلها إغماء، ويفضل تبعد عن الزعل والعصبية اهم حاجة، لانها بتلعب في مستوى السكر بسرعة فيسبب اغماء وميلحقش المريض ياخد الانسولين.
طفق الحزن على ملامحه وهو يسأله بنبرة مهزومة خفية:
_ تعرف ازاي ان في مشكلة في مستوى السكر؟
_ هتحس باعراض زي الدوخة او الهبوط الشديد، او العرق الغزير، او الصداع الشديد الي بيصاحبه شعورها بالتقيئ، وممكن كمان تشتري جهاز قياس السكر، وده هيفيدها كتير اوي.
_ ايه الجهاز ده؟
_ ده جهاز في منه انواع كتير بيبقى له سلكين وبلزق بيتلزق في البطن والجهاز نفسه، جهاز لوحي عادي قد كف الايد بيتحط في جيب المريض وبيقيس مستوى السكر باستمرار وفي حالة الارتفاع او الهبوط بيدي انزار.
_ ايه افضل نوع له؟
_ هقولك على نوع كويس جدًا لسه منزلش مصر تقدر تطلبه من المانيا، واسهل في الاستخدام، هو مجرد لاصق بيتحط على الدراع او في اي مكان والجهاز منفصل مش متصل بيه، بس غالي شوية، يعني ممكن يوصل ل....
قاطعه وهو يخبره بحزم:
_ ميهمنيش السعر، اطلبلي الجهاز ده فورًا، واطلب ييجي في اسرع وقت حتى لو هيكلف مصاريف مضاعفه.
اومئ برأسه موافقًا وانسحب من امامه تاركًا اياه معها و"مصطفى" يقف بالقرب من الباب، عيناه ممتلئتان بالدموع، وهو ينظر لشقيقته بخوف حقيقي يشعر بهِ لأول مرة، يخشى أن تتركه يومًا كما فعل الجميع، فلم يعد لديه غيرها، ربما يتشاجران كثيرًا، لكنه يقسم انه يحبها أكثر مما تتخيل، وكيف لا وهي والدته التي اعتنت بهِ، ووالده الذي سعى ليحقق له مطالبه ويمنحه حياة مستقرة، وشقيقته التي تخشى عليهِ وتحاول دومًا أن تدفعه ليكن في حال أفضل، وصديقته التي تتفهمه حين يحكي لها عن مشاكله وازماته، هي كل شيء له، فكيف لا يفعل!
_ متخافش يا مصطفى، هتكون كويسة.
نظر له وقد سقطت دموعه تعبر عن عجزه، ليهتف بخوف:
_ هي مقالتش قبل كده، انا خايف تسيبني.
اخبره بقوة ناهرًا اياه عن التفكير بهذا الشكل:
_ متقولش كده، مش هسمح يحصلها حاجه وحشة، كن متأكد انها هتكون بخير.
حرك "مصطفى" رأسه بلا معنى وعيناه مسلطة عليها، كما فعل "مراد" الآن، حين نظر لها وقد نجح في كبح دموعه وحبسها في مقلتيهِ، وردد بسخرية لذاته "مصرة تعذبيني يا خديجة، حتى من غير ما تقصدي"!
_________________
صباح اليوم التالي...
نزلت درجات السلم الداخلي للفيلا بسرعة رهيبة كادت تسبب سقوطها عدة مرات، لكنها لم تهتم، فكل ما يهمها أن تلحق ذلك المجنون الذي يجالس صغيرها في حديقة الفيلا، كما طلب! فقد طلب منها في صباح اليوم ان يجالس صغيره بحرية دون وجودها، والآن ومن شرفة غرفتها رأته من بعيد يكاد يرتكب كارثة، اسرعت في ركضها لتصل للصغير تلتقطه من فوق قدمه بعنف وتعانقه بقوة لهوفة، جعلته يغضب وهو ينظر لها بسأم، ولم يمنع نفسه من التعقيب على فعلتها وهو يقول بسخرية:
_ ايه ناقص ايد ولا رجل!؟
نظرت له بشرار منبعث من عينيها وهتفت بغضب:
_ أنتَ كمان بتتريق! أنتَ كنت هتعمل مصيبة دلوقتي، عُمر عنده حساسيه من الشيكولاته الي حضرتك رايح تاكلهاله من غير ما تسألني.
اختفت سخريته وقطب حاجبيهِ بقلق متسائلاً:
_ حساسية؟
_ ايوه حساسية، جسمه كل بيورم لو كل شيكولاته، فهمت ليه جيت جري وصرختلك من فوق.
زفر انفاسه بضيق معقبًا:
_ ياريت تبقي تبلغيني بكل التفاصيل الي تخصه عشان منتحطش في موقف زي ده تاني.
رفع صوته مناديًا على المربية الخاصة التي جلبها خصيصًا للاعتناء بهِ في صباح اليوم رغم رفض "رنا"
_ماري.
أتت الشمطاء المسماة بماري، لتنظر لها "رنا" بضيق وحنق، لِمَ عليها أن تكن جميلة ومقسمة بهذا الشكل، أي مربية هذه! أنها تشبه ممثلات هوليود بدون منازع.
أخذت الطفل من بين ذراعيها تحت ملامحها الرافضة، وما إن ذهبت حتى قالت مبدية رفضها:
_ انا مش محتاجه مربية لابني، ده من كتر مشاغلي يعني! مانا فاضية ومش ورايا حاجة.
ابتسم ابتسامة غير مفهومة وهو يسألها:
_ مين قالك إنك فاضية!؟
قطبت ما بين حاجبيها باستغراب:
_ يعني ايه؟
ابتسم لها وهو يقترب حتى اصبح على بُعد عدة خطوات قد يجتازها في خطوة واحده من قدميهِ الواسعتان، فزاغت عيناها رغمًا عنها وهي تشعر بهيمنته عليها، لطالما أسرتها طلته وهيمنته هذه قديمًا، والآن وبعد غياب وعودة زادت فيهم طلته وأصبحت تأسر أكثر، بدى الأمر مربكًا، فقد أصبح أكثر ضخامة وهيبة، وهي تضعف أمام هذه الهيبة... لكن ليس الآن.. ليس الآن..
رددتها اكثر من مرة وهي تشيح بنظرها عنه، ولكنه لم يغفل ابدًا عن نظراتها له، ولأنه اراد ان تأخذ حريتها في التعامل معه لم يعقب، بل قال بهدوء:
_ انا عملتلك اتيلية لفساتين الافراح والسهرة.. مش أنتِ كان دايمًا نفسك تعمليه؟
جحظت عيناها وهي ترفع رأسها له على الفور، وتجمدت ملامحها من الصدمة، بينما لسانها يسأل:
_ بس.. بس انتَ رفضت وقتها.
اومئ برأسه وهو يخبرها بصدق:
_ خوفت حاجه تشغلك عني، ومكنتش عاوز الناس تشوفك.. مكنتش عاوزك تكوني فاضية لحد غيري، بس حاليًا، أنتِ اوردي انشغلتِ بسي عُمر، وانا كمان انشغلت اكتر ومبقتش موجود اغلب بالنهار وبرجع بليل متأخر، فأيه المانع تشغلي نفسك وتحققي حلم حياتك.. افتكر إنك قولتيلي على الاتيليه ده من اول ما اتجوزنا وقولتي كمان انه حلمك من زمان.
نظرت له في حيرة، بين السعادة والجمود، فها هو حلم حياتها يتحقق ولكن.. والأزمة في ولكن! فهل تقبل أن يتحقق حلمها بماله الذي تعلم مصدره جيدًا، او هل تقبل أن يتحقق حلمها وهي تعلم يقينًا أنه يفعل هذا فقط ليجلبها لصفه مره أخرى ويكسب جانبها، نظرت له بنظرات حائرة ولكنها حسمت قرارها أخيرًا وهي تقول بينما عيناها لا تفارق عيناه...
~يتبع~
الفصل الخامس ج٢ "سر من الماضي"
الحصان والبيدق
بكِ أحيا 2
ناهد خالد
"بعض الخبايا تظل سرًا لسنوات حتى يأتي الوقت الذي تُكشف فيهِ، وبعضها يظل سرًا أمد العمر، كالاسرار تمامًا فبعضها يُكشف وبعضها يُدفن مع صاحبه"
_ نتفق على ايه؟ مفيش اتفاق ممكن يجمعنا.
قالتها بعدائية واضحة، ليرفع حاجبيهِ مع زفرة قوية منه، يبدو أن الطريق سيكون اطول مما توقعه معها، ولكن هو نفسه اطول، تحدث بنبرة هادئة قدر المستطاع:
_ حبيبتي تعرفي ان...
صرخت بهِ وهي تنهره على ما تلفظ بهِ:
_ متقولش حبيبتي دي، انا...
قاطعها وهو يقول باستفزاز:
_ ماشي يا عمري، المهم خلينا في موضوعنا، تعرفي ان مصطفى بنفسه الي طلب مني نييجي هنا النهاردة، يعني الحقيقة الموضوع كان في بالي بس هو سبقني وطلب مني ده، وأنتِ شوفتِ اهو سبقنا لجوه، فياترى هترجعي البيت لوحدك؟
_ انا استحالة اسيب اخويا معاك.
كان يتوقع ردها، كان متأكد من عدم تركها لشقيقها لذا كان هو ورقته الرابحة، حدقته بنظرات غاضبة وتطاير منها شرارات الغيظ قبل أن تضرب بقبضتها الباب وهي تهتف:
_ افتح الزفت ده.
ضغط على زِر فتح الباب وهو يخبرها بابتسامة ساحرة:
_ حسني ملافظك يا ضي، عيب كده.
قطبت ما بين حاجبيها بتعجب وهي تسمع هذا الاسم منه، ولم تستطع كبح فضولها وهي تسأله:
_ ده ايه ده كمان؟
غمز لها بعينيهِ اليسرى وهو يخبرها:
_ هتفهمي بعدين، يلا انزلي خليني افرجك على البيت.
ضغط على اسنانها وهي تردف بغيظ:
_ ده انا الي هفرج الناس عليك لو مبطلتش استفزاز.
ضحك بخفوت وهو يردف قبل أن يترجل من السيارة:
_ اول مره اكتشف ان لسانك طويل.
ترجلت هي الأخرى واستدارت حول السيارة لتقول ما إن وصلت له:
_ عشان زين مكانش يستاهل اوريه طولة اللسان دي، لكن انت حتى طولة الأيد تستاهلها.
_ ده من كرم اخلاقك.
أردف بها وسبقها للداخل تطأ قدماه فوق البساط الاخضر الممتد بمسافة كبيرة قبل أن يصل لدرجات قليلة تصل بهِ لباب الفيلا الأبيض.
كانت تتفحص معالم المكان وهي تسير خلفه، مساحة خضراء لا بأس بها، مريحة للعين والنفس، والفيلا بأكملها طُليت باللون الأبيض "لونها المفضل في المنازل" تشعر أنه يبعث سلامًا من نوع خاص، بدى كالقصر رغم صِغر حجمه، صعدت الدرجات القليلة وتخطت بابها لتنبهر بالتصميم الداخلي، كل شيء راقي بشكل لا يوصف، بعيد عن أي بهرجة او مظاهر مستفزة للترف، مجرد ردهة صغيرة على الحائط الأيمن بها ثلاث طاولات متجاورات بعد الباب وفوقهم فازات بها ورود جميلة، والحائط المقابل مرأة بطول الشخص، وعلى الحائط الأيمن أيضًا فتحة مدخل توقعت انه للمطبخ ربما، والردهة تنتهي لردهة أخرى أكبر، واسعة وبها صالون فخم، وشاشة عرض ضخمة، وبمنتصفها درج عالي يصل للأعلى، بينما تحاط بزجاج يعكس الرؤية للخارج، ومنه استطاعت رؤية "مصطفى" وهو يقف على حافة المسبح الكبير، والذي يحاط بخضرة وكراسي طويلة وشمسية وبجواره حوض ملئ بالزهور، وقفت في منتصف الردهة تنظر للذي التف لها وهو يخبرها بينما يشير خلفها:
_ الطرقة الي دخلتِ منها على يمينك المطبخ وحمام واوضتين للخدم، ودول اصلاً مش هيكون ليكِ اي علاقة بيهم بس حبيت اعرفك، والخدم ليهم باب على الجنينة على طول مش هيطلعوا من الباب ده، ولا هتشوفيهم في الفيلا غير لو طلبتيهم، وده الpool زي مانتِ شايفة وله باب خاص من الصالة، والباب ده..
اشار على باب آخر لم تكن منتبهها له يقبع على يمينها..
_ هيخرجك على طريق فيه كل المولات والمعارض والنوادي الموجوده في الكمبوند، اي حاجة هتلاقيها هناك، تعالي نشوف فوق.
_ ناديلي مصطفى.
أردفت بها وهي تهز ساقها بعصبية واضحة، وبدى أنها لم تهتم بأيًا مما قاله، رضخ لرغبتها ونادى على شقيقها الذي أتى فورًا وهو يهتف بسعادة وابتسامة واسعة لم تراها على وجهه من قبل:
_ خديجة شوفتِ الفيلا حلوه ازاي، دي فيها كل حاجة، وال pool يجنن، ولا الورد الي بره ريحته تحفة ومالية المكان، تعالي شوفيه مش أنتِ بتحبي الورد.
تلجمت في الحديث وهي ترى حماسة شقيقها وسعادته، حاولت أن تتحدث اكثر من مرة لكنها اخفقت وهي ترى الفرحة تشع من عينيهِ، والجمها اكثر حين اكمل:
_ بقولك ايه احنا اصلاً مش محتاجين نروح الشقة ولا نجيب منها حاجة، احنا ممكن نجيب بس الورق المهم والحاجات دي، لكن حتى اللبس مش محتاجينه، ابيه مراد قالي انه هياخدنا بليل وننزل المولات هنا نجيب كل اللبس الي عاوزينه... خديجة ده فيه هنا بلاستشين.. وفيه نادي كمان هقدر العب فيه كرة السلة الي كنت هموت واتعلمها.
كيف لها أن تحطم آماله؟ كيف لها أن تحرمه من السعادة بعد أن حُرم منها طوال عمره؟ مصطفى لم يعش طفولته ولا صباه، دومًا أراد اشياء لم يحصل على القليل منها حتى، دومًا كان لديهِ طموحات كان موقنًا أنها مستحيلة النيل، حتى ابسط حقوقه في الطعام أو الملبس لم يحصل عليهِ كما أراد، وترددت في أذنيها القليل من شكواه سابقًا حين كان يفيض بهِ الكيل..
" نفسي اكل ايه؟ ده على اساس اني لو قولتلك عاوز اكل لحمة هتعرفي تجبيها! دي مبنشوفهاش غير كل عيد، احنا اخر الشهر يا خديجة ومعروف اننا في الوقت ده مبناكلش غير الجبنه فبتسأليني في ايه!"
" ايوه يعني اروح العب كورة مع صحابي بالشبشب! ولا اخد الكوتشي الجديد عشان ينقطع وميبقاش عندي غير الشبشب برضو! "
" عشان من حقي اعيش زي صحابي، ده انا حتى الكتب بيطلع عيني على ما بجيبها، وبتمرمط اني اروح لده وده انقل منه الواجب على ما تعرفي تجبيلي الكتب"
" مش هينفع اروح اتمرن كرة سلة في النادي الي جنبنا، هم طالبين في الشهر ١٥٠ج اشتراك، هتدفعيهم ازاي ده أنتِ بتجيبي معظم طلباتنا بالقسط، والاكل بتدبري فلوسه بالعافية"
" خديجة انا مش بلومك والله، بس انا نفسي اعيش حياة احسن من دي، لكن أنتِ كتر الف خيرك بتعملي كل الي تقدري عليه، بس الحياة صعبة يا خديجة خصوصًا لما تكون الي متحملة المسؤولية بنت صغيرة زيك وانا مش عارف اساعدك"
_ خديجة مبترديش ليه؟
هتف بها" مصطفى " لتستفيق من شرودها، وابتسمت له بالكاد بينما قد اخذت قرارها، ستضحي.. ستضحي للمرة التي لا تعلم عددها من اجل شقيقها، أمانة والدها لها، فوجهت نظرها ل" مراد " تقول بجمود:
_ هطلع اتفرج فوق..
واستدارت صاعدة الدرجات بخطوات كارهة، وما ان غابت عن انظارهما حتى شقت البسمة وجه "مراد" الذي تنهد براحة لم يظن انه سيدركها، ثم نظر ل "مصطفى" ورفع ذراعه يحيطه بهِ بحميمية بينما يثني على فعلته:
_ جدع عملت المطلوب منك واحسن كمان.
_ عجبتك؟ انا عملت زي ما قولتلي بالضبط وبينتلها قد ايه فرحان ومتمسك بحياتنا الجديدة.
انزل ذراعه من عليهِ واخرج محفظته ملتقطًا بعض العملات الورقية بينما يقول:
_ عجبتني جدًا، وادي مكافئتك زي ما وعدتك.
التقطهم منهُ، وقال بجدية وصدق:
_ ابيه أنتَ اكيد عارف اني لو مش متأكد إنك هتحافظ على اختي وبتحبها عمري ما كنت هوافق اتفق معاك ولا اقف في صفك، انا كل ده ميسواش حاجه قصاد سعادة اختى، بس انا كنت شايف قد ايه كانت تعبانة وشقيانه في حياتنا القديمة، وعاوز اوفرلها هي حياة احسن قبل ما اوفرها لنفسي، عاوزها تكون مرتاحة وتعيش حياتها احسن من الأول لانها عانت كتير اوي.
ربط "مراد" على كتفه وهو يخبره:
_ اوعدك انك عمرك ما هتندم انك وقفت في صفي وشوفتني الخيار الصح لاختك، اختك هتكون معززة، مكرمة معايا، وبكره تشوف سعادتها بعينك، بس الموضوع محتاج شوية وقت لحد ما تتقبل الحياة دي..
اومئ متفهمًا، وحاول تغيير الجو الكئيب، ليبدأ في عد المال وهو يسأله بمرح:
_ قولتلي دول كام؟
ابتسم "مراد" ابتسامة صغيرة وهو يخبره:
_ ١٠٠٠ جنية يا خفيف، مش كان اتفاقنا!
اومئ مؤكدًا وقال:
_ اصل انا اكبر مبلغ مسكته في حياتي ٤٠٠ج وكانوا بتوع الدروس، فتلاقيني مرتبك.
_ المهم، انا لازم اروح مشوار ضروري، مش هوصيك، عينك على خديجة عشان انا مضمنهاش لحد باب الفيلا ده.
وضع "مصطفى" كفه على رقابته وهو يردد ببسالة:
_ رقابتي، اتكل أنتَ على الله وهتيجي تلاقيها قتلاني بعون الله.
هز "مراد" رأسه يائسًا قبل أن يخطو للخارج مرة أخرى، فلديهِ أمر بالغ الأهمية يجب عليهِ اتمامه..
وبالداخل..
بالأعلى، سارت في ممر طويل متعرج حتى وصلت لآخر غرفة بهِ وقد مرت على سبعة غرف قبلها، قررت الدلوف لها بما أنها لن تعود كل هذه المسافة مرة أخرى، وما إن حاولت فتحها لم تُفتح، فزفرت بضيق على حظها التعيس قبل أن تقرر فتح الغرفة التي تسبقها، ونجحت بفتحها.. دلفت لتجدها غرفة جميلة وهادئة بشكل اراحها، فقررت البقاء فيها ولم تجد فضولاً لتفحص باقي الغرف، فاغلقت الباب وحرصت ان تغلقه بالمفتاح خلفها، وتحركت في الغرفة التي لم تحتوي سوى على فراش وثير وسراحة ومرآة طويلة وخزانة من الزجاج متوسطة الحجم، وأريكة بُنية، وطاولتان أحدهما صغيرة قرب الفراش والآخرى متوسطة أمام الاريكة، وباب مغلق اردكت انه للحمام الملحق..
خلعت نعليها وصعدت فوق الفراش لتنام ببطء فوقه كأنها تختبر تحمله لجسدها، وما إن أراحت رأسها حتى اغلقت عيناها... وبعد ثواني كانت دموعها الغزيرة تنسدل على جانبي وجهها وصدرها يعلو ويهبط بتنفس سريع.. وشهقاتها بدأت في العلو رغمًا عنها...
____________
وصل لمنزله الآخر.. منزل والده على الأحرى..
دلف للداخل باحثًا عن والدته، لكنه اصطدم بمن لم يرد الاصطدام بهِ الآن.. والده الذي كان يخرج من مكتبه في طريقه للخروج من الفيلا..
توقفا الاثنان ونظراتهما لبعضهما تنم عن عاصفة ستندلع، والتي بدأها "مراد" وهو يقول:
_ ارتاحت؟ هديت لما عرفتها، ولا ده كان من قهرك انك ملحقتش تبوظ جوازتي!؟
بدى وجه "حسن" باردًا وهو يجيبه:
_ كنت فاكر اني هسكت بعد ما روحت اتجوزتها من ورانا؟
_والي عملته ريحك يعني؟
_ مش هيريحني غير لما ترجعها للمكان الي جت منه.
ابتسم بقسوة لا تظهر عليهِ كثيرًا ألا حينما يتعلق الأمر بشيء لا يقبل فيهِ التفاوض، وقال بابتسامة ساخرة ملتوية:
_ حسن بيه، احتمالية انك تدخل الجنة هي نفسها احتمالية انك تعرف تبعدها عني.
وبالطبع دخوله للجنة احتمالية صفرية بحتة! فأي جنة سيشم ريحها وهو لم يترك محرم الا وفعله! ولا ينوي التوبة حتى، هز رأسه بلامبالاة بحديث الأول وقال:
_ هنشوف يا مراد بيه.
تحرك "مراد" خطوتان وقال بعدها بخطورة متوحشة:
_ بس نصيحة متحاولش.. عشان الي هيفكر يقربلها مش هبقى عليه، وأنتَ عارفني محدش عزيز عليَّ... غيرها.
اردف بكلمته الأخيرة مصححًا، ليستشيط "حسن" غضبًا والتزم الصمت، فلن يجدي الحديث نفعًا ولكن لنرى من سينتصر في الأخير.
رأى والدته تدلف بكرسيها من الحديقة الخلفية، ليخبرها على الفور:
_ يلا يا ماما عشان هنمشي.
_على فين؟
سألته "ليلى" بجهل، ليجيبها وهو ينظر لوالده بثبات:
_ لبيتي.. هتعيشي معايا ومع.. مراتي.
_ نعم ياروح امك!
أردف بها "حسن" بعد أن خطى الخطوة الفاصلة بينهما جاذبـًا "مراد" من ياقة قميصه بعنف، وقد تحولت ملامحه للشراسة كأنه سيفتك بهِ أمام ملامح الأخير الباردة.
_ سيبه يا حسن.
هتفت بها "ليلى" بذعر وهي ترى تناطح الاثنان كأسدان يتقاتلان على فريسة للفوز بها.
____________
واثناء اغماض عيناها لاحت بذاكرتها ذكرى قديمة... تعود لها بعد وفاة شقيقتها..
_ نعم؟
_ قوليلي يا خديجة أنتِ مبقتيش تقعدي مع مراد زي الأول ليه؟
توترت وفركت كفيها الصغيرتان بتردد، وكذبت وهي تجيب:
_ م... مفيش.
_ قولي يا خديجة متخافيش.
هزت رأسها ثابتة على موقفها بالنفي، ليخبرها المتحدث:
_ اقولك انا؟ عشان هو الي قتل سارة مش كدة؟
شهقت بصدمة وجحظت عيناها وهي تضع كفها فوق فمها بذهول، ولم تنطق، ليكمل المتحدث..
_ يبقى صح، عمومًا انا مقدر خوفك، خايفة ليقتلك في يوم زي اختك صح؟
لم تجيب لفترة، ليصرخ بها بغضب:
_ ردي!
هزت رأسها سريعًا بخوف موافقة على حديثه، ليبتسم بمكر مرددًا:
_ ده وارد يحصل فعلاً..
واتسعت ابتسامته حين رأى ذعرها يزداد، واكمل متلاعبًا بها:
_ اصل الي يقتل مره يقتل الف، وخصوصًا ان مراد مبيشوفش وقت غضبه، واديكِ شوفتي النتيجة، عشان كده انا حابب اساعدك وانقذك.
تلهفت للحل وللمساعده التي كانت ترجوها طوال الليالي الماضية، فانتبهت له واحسنت الانصات لحديثه وهو يقول:
_ لازم تمشي من هنا، كلمي ابوكِ وامشوا من هنا في اقرب وقت، قوليله انك خايفة من المكان ومش قادره تفضلي فيه، واطلبي منه ترجعوا بلدكوا، ومتسبيهوش غير لما يوافق، حتى لو اضطريتي تمثلي انك تعبانه وبتشوفي كوابيس كل يوم عشان يمشي، المهم تهربي يا خديجة سامعة؟
سألته بتردد وتوتر في آنٍ واحدٍ:
_ طب ومراد لو عرف...
_ مراد مش هيعرف.. مش لازم يعرف حاجة، هتتعاملي معاه عادي جدًا وهتمشي من غير ما يعرف، وإلا مش هيسيبك وهتخسري فرصتك في إنك تهربي وتنجدي بنفسك، ها قولتي ايه؟
صمتت لثواني تفكر، قبل ان تدرك انه الحل الوحيد والاصوب لها، فهزت رأسها موافقة وهي تقول:
_ حاضر...
عادت من ذاكرتها لتهمس وكأنها مازالت في الماضي:
_ حاضر..... حاضر يا حسن بيه.
وها قد كُشف "سر من الماضي"...!!!
~يتــــبع~
الفصل السادس "نحو الهلاك"
الحصان والبيدق
بكِ أحيا 2
ناهد خالد
"خطواتك التي تخطوها نحو الهلاك لربما تكن بعلمك وربما تكن على غفلة منكَ"
نعم ياروح امك!
أردف بها "حسن" بعد أن خطى الخطوة الفاصلة بينهما جاذبـًا "مراد" من ياقة قميصه بعنف، وقد تحولت ملامحه للشراسة كأنه سيفتك بهِ أمام ملامح الأخير الباردة.
_ سيبه يا حسن.
هتفت بها "ليلى" بذعر وهي ترى تناطح الاثنان كأسدان يتقاتلان على فريسة للفوز بها.
ازاح يده القابضة على ياقته ببرود وهو يهتف:
_ استني يا ماما، اما نشوف حسن بيه ناوي يعمل ايه.
كشر عن انيابه وهو يجيبه بحدة:
_ حسن بيه ده قادر يكسر رقبتك لو فاكر انك كبرت عليَّ وهتعمل حاجه غصب عني.
ارتفع جانب شفتيهِ ساخرًا وهو يردف:
_ متأكد! اصل شكلك ناسي حاجات كتير تخليني اعمل الي انا عاوزه حتى لو أنتَ مش موافق.
رفع حاجبه باستنكار وقال:
_ ده بجد؟ ليه يا روح امك ماسك عليَّ زِلة؟
اقترب حتى أصبح لا يفصل بينهما مسافة، ومال على أذنه يهمس له بعدة كلمات جعلت التوتر يضرب وجهه وهو يستمع لحديثه، وما ان ابتعد الآخر ورأى ملامحه حتى ابتسم بمكر وشماته، وهو يبتعد عنه متجهًا ل "ليلى" يخبرها:
_ جهزتي حاجتك؟
_ ٥ دقايق وهتكون جاهزه، اصل متوقعتش اني امشي بالسرعة دي.
ابتسم لها برفق وهو يخبرها:
_ ليه! من امتى طلبتي مني حاجة واتأخرت عليكي!
ابتسمت هي الأخرى وعيناها لامعة بالدموع:
_ عمرك ما عملتها يابني، هخليهم يحضروا حاجتي بسرعة.
اومئ برأسه وهي تنسحب من امامه متجهه لباب المصعد الكهربائي الذي صُنع خصيصًا لها ليقلها للطابق العلوي، اما هو فعاد ببصره ل "حسن" الذي لم ينطق بعدها، وضحك له باستفزاز مرددًا:
_ بتتحمق أنتَ بسرعة يابو علي! طب مش تراجع حساباتك الأول!؟
ضغط على أسنانه بغيظ وهو يردف:
_ أنتَ فاكر لو حاولت تعمل حاجه بالي تعرفه ده هم هيسبوك؟ أنتَ عارف كويس ان وقتها هتتصفى بمجرد ما اتحبس أنا.
ضحك بخفوت ساخرًا وهو يعقب:
_ اقدر اعملها من غير ماحد يعرف أن انا الي وراها، وأنتَ عارف كده، والا مكنتش اتهتيت بتهديدي.
_ تهديد مين يالا أنتَ صدقت نفسك!؟ انا سكت بس عشان شوفت رغبة ليلى انها تمشي.
هز رأسه وهو يرفع شفتيهِ بسخرية:
_ اومال! مشيها كده عشان نفسيتك متتأثرش.
_ يابن ال...
قاطعه وهو يرفع كفه موقفًا اياه:
_ ها يابن ايه!
كبح غضبه وهو يكمل بابتسامة صفراء:
_ يابن وهدان..
ساد الصمت قليلاً اسفل تململ "مراد" في وقفته، وأخرج سيجاره من سجائرة يشعلها بقداحته الذهبية الأنيقة التي تتخذ قمتها رأس حصان، انتبه لحديث "حسن" الذي قال فجأة:
_ اوعى تكون فاكر يا مراد اني بضايق من تصرفاتك دي، بالعكس...
نظر له بحاجب مرفوع ساخرًا وهو يردد كلمته الأخيرة:
_ بالعكس!
أكد حديثه وهو يخبره:
_ اه بالعكس، على فكرة انا ببقى مبسوط بتصرفاتك دي، وبلطجتك، وقلة ادبك، وانك مبتقدرش حد.. واعتقد ده ظهر من زمان لما وقفت قدامي وزقتني عشان امك، وقتها أي أب غيري كان رزعك جوز قلام فوقك، بس انا معملتش كده بالعكس يومها قولتلك انك دلوقتي بس ابني.. فبلاش تفكر ان وقوفك قدامي وتفوقك عليَّ بيضايقني بالعكس.. ده بييجي على هوايا.. واوي كمان.
رفع حاجبيهِ مندهشًا وزفر زفرة طويلة يائسة قبل أن يكمل سيجارته وكأنه لم يسمع شيء.
_____________
في سوهاج...
كانت تنتظره في بمنزله منذ ساعتان مضوا، أتت خصيصًا للحديث معه، مرة أخرى، لعلّها تستطيع اقناعه، لكنها اوهمت والدتها انها أتت للاطمئنان على زوجة عمها "رباح"، التي تجلس بجوارها الآن، تنظر لها بشفقة واضحة، وعجز، فقد حاولت أن تثني ولدها عن قراره لكنها لم تستطع ولم يقتنع بحديثها.
_ بلاش يا بتي، بلاش حديت وياه لا هيجدم ولا يأخر، انا حدته كتير ومسمعش مني، وراكب راسه.
طفرت الدموع من عينيها الذابلة وهي تهتف بمرار:
_ بس اكده حرام، ميرضيش ربنا، كيف يعني اتحرم من حاچة بحبها وريداها، كيف اتچبر ابعد عن حاچة تخصني وغيري بيتحكم فيها!
ضربت "رباح" فخذيها بكفيها وهي تردد:
_ هنعمل ايه، دماغه صلدة كيف الحجر الصوان، ومجوياه امك، الله في سماه هي الي خربتت دماغ الواد ده ووصلته للي هو فيه.
ضحكت بمرار ساخرة:
_ أمي! دي اكتر واحده واجفة في صفه ضدي.. ومن زمان مش دلوجت، ولولا خالي الله يرحمه مكنتش كملت علام، مخبراش ليه بتكره البنات اكده، وكأني مش بتها، عمري ما حسيتها حنينة عليَّ.
_ جلبها جاسي من يومها يابتي، طالعة لمين مخبراش، ده جدتك كانت تتحط على الجرح تطيب، لكن نجول ايه، ادي الله وادي حكمته.
انتبها لفتح باب المنزل ودلوف "ابراهيم" من خلفه الذي ابتسم ساخرًا مرحبًا بتودد زائف:
_ وانا اجول الدار منورة ليه! اتاري ست فريال اهنه.
ولم تدرك هي سخريته، ولكن أدركتها والدته على الفور، فنظرت له معاتبة لكنه لم ينظر لها حتى، واجابت "فريال" بعد ان مسحت دموعها:
_ منور بناسه يا ابن خالي، انا جيت رايده اتحدت معاك لو عندك وجت.
هز رأسه بترحيب زائف:
_ اكيد فاضي، ولو مفاضيش افضي حالي، هيكون في ايه اهم من حديتك.
نهضت "رباح" وهي تقول بحدة ناظره له:
- هروح اصلي المغرب، وادعي ربنا يهدي العاصي.
ليهتف ببرود لها:
_ وادعيلي معاكِ ياما.
وكأنه لم يكن العاصي الذي قصدته!
نظرت له ولم تعقب وانسحبت من أمامهما بعدم رضى.
_ خير؟
قالها بعد أن جلس أمامها متمطعًا بجسده بارهاق، لتبدأ هي في الحديث بتوتر من رد فعله:
_ انا بس رايده نتفاهم في موضوع الجامعة، يعني لو كان المشكلة في روحتي لمصر ممكن احاول ارتبها.
رفع حاجبه ساخرًا وهو يسألها:
_ ازاي بجى؟
_ يعني ممكن اروح هناك في شهرين الامتحانات بس اجعدهم مع خديجة، وباجي السنة هبجى اروح في اليوم الي عندي فيه حاجة مهمة وارجع في نفس اليوم، يعني ممكن يومين في الاسبوع ولا حاجة، جولت ايه؟
رفع عينيهِ لأعلى بملل:
_ ده على اساس ان المشكلة في مرواحك مصر؟
اعتدل مستندًا على فخذيهِ بكوعيهِ فأصبح قريب منها:
_ الحكاية مش اكده واصل، كل الحكاية ان العلام من اصله ملوش عازة، فليه الشحطتة وجلة الراحة.
ادمعت عيناها وهي تخبره بنبرة حزينة:
_ لأني ريداه يا ابراهيم، رايده اكمل علامي حتى لو هجعد بشهادتي، على الاقل ولادي يفتخروا ان امهم دكتورة.
لوى فمه بسخرية قاسية وهو يردد بأعين تطق بها الشرار كأنها سبته للتو:
_ وابوهم معاه دبلوم مش اكده؟ ده الي جاصده تجوليه، على الاقل يفتخروا بحد فينا.
نفت برأسها سريعًا تخبره بصدق:
_ يتجطع لساني ان جولتها، ومجصدش الي فهمته والله، انا بس بجول...
قاطعها ناهضًا يقول بانهاء للجدال:
_ وانا جولت لا، ولو مريداش تجعدي بالثانوية، خلاص جدمي في معهد جريب من اهنه وخدي شهادته ومتخوتيش دماغي.
نهضت تواجه وهي تسأله باستنكار:
_ اجدم في معهد خدمة اجتماعية ولا معهد تجاري بعد ما اطلع من الطب؟ والله حرام الي بتجوله ده.
_ ده الي عندي.
انهى حديثه وذهب من امامها، لتجلس فوق الكرسي مرة اخرى وقد سالت دموعها بغزارة فوق وجنتيها وهي تدرك ان حديث "رباح" كان صحيحًا.. لا فائدة من الحديث.
_____________
_ مينفعش كده يا حبيبي لازم تاكل حاجة.
قالتها "جاسمين" وهي جالسة بجوار "باهر" منذ اكثر من نصف ساعة تحاول معه أن يتناول بعض اللقيمات، ازاح كفها بهدوء وهو يردف بنبرة حزينة:
_ مليش نفس.
_يا باهر الحزن ملوش علاقة بالاكل والشرب، ولو اضرابك ده هيرجع اللي فات مكنش حد غِلب.
نظر لها بجانب عيناه وهو يخبرها بحزن حقيقي وعيناه الباهتة تحكي الكثير:
_ مش اضراب، بس لما الحزن بيتمكن من الإنسان بيخنقه، كأن واحد ماسكه من رقبته، لا عارف ياكل ولا يشرب، حتى النفس خارج بصعوبة.
مسدت بكفها على ظهره وهي تخبره بمواساة:
_ ربنا يرحمه يا حبيبي، ادعيله.
خانته دموعه وانسدلت فوق وجنتيهِ وهو يردف بتأثر بالغ:
_ عارفه كام سنه بينا خلاف بسبب عمتي، من وقت ما خديجة جت القاهرة، كنت بتكلم معاه عادي جدا مش زي اب وابنه، مش زي الأول، وجعني انه موقفش في وشها يومها وقالها ده ابني وانا واثق انه ميعملش الي بتقولي عليه، سكت.. سكت وجه بعد كده يقولي سكت عشان اتفاجأت بالي حصل لكن انا مكنتش مصدقها.. طب يفيد بايه؟ انا كنت عاوزه يقف جنبي وقتها مش بعدين، مقدرتش اتخطى انس خرجت من البلد وقتها وانا قلبي والع بالي قالته عني والمشكله الي ملهاش لازمه الي عملتها وخلت عمي وعياله يسيبوا البلد ويمشوا، وعملت قطيعة بين عمي وبين ابويا، حاول معايا كتير ارجع اقعد في البلد زي الاول بس مقدرتش.
حاولت تهوين الأمر عليه لتردف:
_ أنتَ حكتلي قبل كده عن الموضوع ده، وانا شايفه ان كان من حقك تزعل، لانك كنت متعشم ان والدك هو الوحيد الي طبيعي يقف في صفك وينصفك، فزعلك منه كان على قد المحبة والعشم، بعدين أنتَ مخاصمتوش ولا حاجه، يعني احمد ربنا انكوا كنتوا بتتكلموا وبتتواصلوا مع بعض، فهو اكيد مش زعلان منك.
_ تفتكري؟
سألها بأعين دامعة كالغريق الذي يتعلق بأي أمل في النجاة، لتبتسم له وهي تخبره بتأكيد:
_ اكيد طبعًا، والدليل على كده انه كان دايمًا يقولك ارجع البلد لو كان زعلان منك مكانش طلب منك ده، وبعدين عمرك حسيت وهو بيكلمك انه زعلان ولا شايل منك؟
نفى برأسه، لتكمل براحة:
_ شوفت، يبقى متشيلش نفسك فوق طاقتك.
تنهيدة عميقة صدرت منه تلاها قوله:
_ ليه الموت بيخطف منا الناس فجأة؟ تفتكري لو كنا على علم بانهم هيروحوا الوضع كان يبقى احسن؟
ضحكت ساخرة وهي تخبره بحزن:
_ اومال لو مكنتش شايف معايا الي بيحصلي، مفيش اسوء من انك تعرف بموت حد ومتقدرش تعمله حاجه، ما بالك لو اقرب الناس ليك، ربنا رحيم بينا يا باهر وكل حاجه في الدنيا دي ليها حكمة لو فكرنا فيها كويس هنوصلها ونحمد ربنا عليها.. الفراق بيوجع اه، بس العجز بيوجع اكتر.
حديثها هدأ من نفسه قليلاً، بعث لروحه بعض الراحة، جعل عقله يهدأ من افكاره المتضاربة، ارجع رأسه للخلف يسترح على ظهر الاريكة، ويغمض عيناه يستنجي بعض الصفاء..
نظرت له بشفقة تعلم ما يمر بهِ جيدًا، ومن واجبها ان تظل بجانبه الآن، ولكن هذا لا يمنع انها لم تصفى له، لم تنسى حديثه السابق لها وقسوته فيهِ، بقلبها غصة لا تزال متعلقة بهِ منذ سمعها لحديثه يومها وما قاله، وشعورها انها عبء ثقيل عليه، رغم انها تقدر تعبه و مجهوده معها ووقف لجوارها، ولكن لن يمحى هذا شعورها بالحزن منه.
__________
انتبه لرنين هاتفه للمرة الثالثة دون انقطاع، فاستفاق من غفوته التي لجأ لها بعد سهره طوال الليل في عمله، التقطه يفتح عيناه نصف فتحه ليرى من المتصل، فوجدها هي، اجابها بصوت خامل:
_ ايوه يا حبيبتي.
_ طارق الحقني.
انتفض جالسًا حين اتاه صوتها الباكي وجملتها المستنجدة، فهتف وهو ينتفض من فوق الفراش يركض لخزانته يخرج اول ثياب تقابله:
_ في ايه يا هاجر؟ ايه الي حصل؟ حد عرف حاجة!
وبنفس نبرتها اجابته:
_ لا، بس.. مصيبة يا طارق.. مصيبة.
هتف بعصبية وهو يلتقط الثياب بين يده يشيح بها بعصبية:
_ ما تنطقي يا هاجر سيبتِ اعصابي، في ايه؟؟
_ انا... انا حامل.
تجمد محله وسقطت الثياب من يده وهو يردد بصدمة غير مستوعبًا ما قالته:
_ ايه؟
زادت في بكائها وهي تكرر جملتها بصوتٍ عالٍ وعصبية:
_ بقولك حامل.. حامل.
انتابته موجة من العصبية هو الآخر، ليصرخ بها وهو يضرب الفراش بقدمة:
_ حامل ازاي يعني؟ أنتِ بتستهبلي! مش المفروض متنيلة عاملة احتيطاتك!
اجابته بصوت متهدج:
_ اتنيل! يعني ايه ازاي؟ اهو الي حصل، واه كنت متنيلة بس اعمل ايه يعني! بعدين أنتَ بتزعقلي ليه؟ ومتكلمنيش كده.
_ اومال اكلمك ازاي! المفروض اقولك ايه يعني؟ ازغرط وافرح بيه ولا اقولك بسيطة روحي نزليه!
صرخت بهِ هي الأخرى وهي تخبره بغضب:
_ متقولش.. ومتتكلمش معايا اصلاً.
انهت جملتها واغلقت الخط دون ان تعطيه فرصة لأي رد منه، القى بالهاتف فوق الفراش بغضب وهو يطوف ارجاء الغرفة بعصبية مشبعة بالحيرة والتخبط.
_________
وصلا امام بيته الجديد، ليوقف سيارته ويلتفت لوالدته وقد قرر ان يوضح لها كيفية تعاملها مع زوجته، كي لا تزيد الوضع سوءً، فبدأ في الحديث وهو يقول:
_ ماما، عاوز بس افهمك كام حاجة قبل ما ندخل جوه.
نظرت له بصمت تحثه على الحديث، ليسألها اولاً:
_ قوليلي الأول أنتِ صدقتيني؟ صدقتِ إني مكنتش قاصد اي حاجة من الي حصلت زمان؟
ابتسمت بمرارة وهي تخبره باستسلام:
_ للأسف يا مراد، الأم حتى لو شاكه في كلام ابنها، بتقنع نفسها بيه وبتصدقه عشان تريح قلبها، ومتدوقش مرار ان تعبها فيه راح على الأرض.
صمتت قليلاً ترتب حديثها، ثم اكملت وهي تضع كفها على كفه المسنود بجوارها:
_ بس انا مصدقاك، مش عشان اريح بالي لا، عشان متأكدة ان تعبي فيك مراحش على الأرض، ومقدرة انك كنت عيل واكيد مقصدتش تقتلها.
ابتسامة صغيرة زينت ثغره وهو يبدأ في الحديث:
_ طيب بصي يا ست الكل، البت الي جوه دي دماغها انشف من الحجر الصوان، ولابس في دماغها اني السبب في موت اختها ومحملاني الذنب، بقالها سنتين مدوخاني وراها وقلبت قرد عشان بس اوصلها واضمنها في ايدي الاول، عشان كده عرفتها عليَّ اني شخص تاني وخفيت هويتي، بس من وقت ما عرفت وهي مش طيقاني طبعًا، وطبيعي هي هتتعامل معاكي، بصراحة معرفش هتتعامل ازاي بس الاكيد مش هسمحلها تعاملك بطريقة متعجبنيش..
قاطعته وهي تعقب بهدوء:
_ اعذرها يا مراد، الي هي فيه مش سهل، عارف البت دي يمكن لو كانت الحادثة حصلت وهي كبيرة شوية مكانتش سببتلها الأزمة دي، ويمكن كانت اتفهمت الموضوع شوية، لكن عشان حصل في وقت كانت صغيرة اوي فيه، فهي لحد دلوقتي شايفه الموضوع بعين البنت الصغيرة الي يدوب مكملتش تسع سنين.
اومئ برأسه متفهمًا حديثها، وقد اقتنع بهِ تمامًا، ومن البداية هو يقدر وضعها، وربما هذا ما يزيد من صبره:
_ معاكِ حق، طب بصي بقى، انا معرفش ان كانت ممكن تحكيلك عن حادثة اختها ولا لا، بس عاوزك لو حكتلك...
قاطعته وهي تقول:
_ هعمل نفسي معرفش حاجه.
_ لا طبعًا غلط، بالعكس هي لازم تعرف انك عارفه، وتقنعيها بوجهة نظرك، لو قولتيلها معرفش حاجه هتشوف ان الموضوع كارثة عشان كده خبيت عليكِ، لكن لما تلاقيكِ عارفه هتفهم ان الحكاية مش ذنب ارتكبته بداريه، دي حاجة حصلت في حياتي عادي وحكيتهالك.. فهمتي قصدي؟
اومأت متفهمة وهي تقول:
_ فهمت اه.
رفع حاجبه بحماس وهو يخبرها:
_ حلو، ندخل بقى على باقي التفاصيل....
____________
_ اتجوز؟ أنت متأكد؟
استمع لرد الطرف الآخر، ليبتسم بخبث وهو يقول:
_ اخيرًا، اخيرًا جه تحت ايدي، بقالي سنتين مش عارف اخد حقي منه وجه الوقت الي بقاله فيه حاجه امسكه منها، اسمع عاوزك تجبلي كل تفصيلة عن البت دي، وتعرفلي كل الي بيحصل في يومها، نوع الفطار الي بتفطره عاوز اعرفه فاهم؟
اغلق الهاتف وهو يتنهد بابتسامة ساخرة:
_ بقى مراد وهدان يتجوز! لا وواحده عادية كده، يبقى الحكاية فيها إن، واكيد هتفدني.
صمت قليلاً ينظر امامه بشرود قبل أن يقول:
_ والله وجه الوقت الي اخد حقي فيه، سنتين مش عارف اضربك في الشغل زي ما عملت معايا، ومكانش ليك نقطة امسكك منها، بس ادينا وصلنا للنقطة دي.. محتاج بقى اصبر واسوي الموضوع على نار هادية، عشان يوم ما اضرب ميبقاش عارف الضربة جياله منين.
_ شعر بنقرات فوق باب مكتبه المغلق، ليقطب بين حاجبيهِ باستغراب متجهًا للباب وفتحه، ليرفع حاجبيهِ بذهول وهو يبصر "عُمر" يقف امام الباب وبيده قلم يخط بهِ فوقه بعشوائية، والذي توقف ما إن فُتح الباب، ليرفع "دياب" حاجبه وهو ينظر للباب الذي اصبح بهِ خطوط سوداء اللون واضحة، ونظر للصغير يسأله:
_ بتعمل ايه يا عُمر؟
اجابه ببرائة وملامح تجمع بها كل اللطف:
_ برسم.
_ بترسم ايه يا حبيبي؟ ملقتش غير الباب وترسم عليه؟ بعدين مانا جايبلك اسكتشات رسم كتير فوق مبترسمش فيها ليه؟
حرك منكبيهِ بجهل:
_ كده.
هز "دياب" رأسه يائسًا، وهو يعقب:
_ هي مرازية يعني! طب ايه رأيك نلعب كوره في الجنينة.
قلب شفتيهِ بتفكير قبل أن يخبره:
_ ماشي.. بس بشرط.
_ قول يا باشا.
_ عاوز ايس كريم.
_بس كده، بعد ما نلعب هخليهم يجبولك، يلا اجري هات الكورة..
ركض الصغير ذو الأربع سنوات ليجلب الكورة حتى يلعب مع والده، وخرج "دياب" يسبقه للحديقة ليجدها جالسة هناك في البرجولة الموضوعة على جانب الحديقة، وقف أمام الباب الذي خرج منه ينظر له وهي شاردة، ناظرة في اتجاه آخر، يعلم جيدًا الصراع الناشب بداخلها الآن، ف المهلة التي أعطاها لها ستنتهي بعد يومين، واليوم الثالث يجب أن تخبره بقرارها والذي ينتظره على أحر من الجمر.
جاء الصغير من الداخل وهو يصيح بسعادة وحماس:
_ يلا يابابا اقف جون ..
قالها وهو يلقي الكرة في وسط المسطح الأخضر ويركض ناحيتها متخطيًا "دياب" الذي صاح باستنكار ووصل صوته لها بعد ان انتبهت على صياح صغيرها:
_ جون؟ بقى دي اخرتها!
اتجه له يبدأن في اللعب والصغير تعلو ضحكاته لتصدح في الارجاء بسعادة وهو يركض هنا وهناك تارة خلف ابيه الذي يستحوذ على الكرة وتارة يتركها له ليركض هو خلفه مراعيًا خطواته المتعثرة.
تابعتهم بنظراتها واعينها الدامعة، وقد زادت حيرتها، لن تنكر ابنها يلقى حظ وفير من السعادة والرفاهية هنا، ستحرمه من اشياء كثيرة إن قررت البعد بهِ، وستُحرم منهِ إن قررت البعد هي بدونه، فقط لو تستطيع ان ترجع دياب عن الطريق الذي سار فيهِ لكانت هناك فرصة كبيرة في النجاة بأسرتهما الصغيرة، تنهدت بحيرة وعقلها لا يتوقف عن التفكير في فرصته الأخيرة لها، منذ أن أخبرها ولم تتوقف عن التفكير في حل وسط، لكنها تعجز عن ايجاده، وفي خضم تفكيرها تذكرت شخص ليته موجود الان لكانت اخذت رأيه، ليتها تستطيع الايصال له...
_ خديجة!
______________
دلفا للمنزل يدفع كرسي والدته امامه ليجد "مصطفى" يجلس امام التلفاز والذي هب واقفًا يصيح:
_ أنتَ فين يا أبيه، انا زهقت من القاعدة لوحدي ومش عارف حاجة في البيت ده حتى التلاجة مش عارف افتحها.. انتوا قافلينها بالقفل ولا ايه؟ هي بتتسرق!
ضحكت "ليلى" على طريقته في الحديث وأردفت متسائلة:
_ ده اخوها الصغير؟
_ ايوه هو.
_ كان صغير اوي لما مشي، بس نسيت اسمه.
_ مصطفى.
اومأت متذكرة وهي تنظر له مبتسمة:
_ ازيك يا مصطفى؟
اجابها بارتباك:.
_ الحمد لله، ازيك أنتِ يا حَجة؟
ضحكت بصوت مسموع، وابتسم" مراد" ابتسامة صغيرة، بينما قالت هي:
_ مش ممكن.. حَجة! لا انا مش كبيرة للدرجادي، تقدر تقولي يا طنط هتكون احسن.
ابتسم بحرج وقد شعر بسخريتهما منه:
_ اه.. معلش مقصدش.
_لا عادي ولا يهمك.
قالتها بلطف بعدما شعرت بحرجه، ليسأله "مراد" وعيناه تجوب في الارجاء:
_ قاعد لوحدك ليه؟ اومال خديجة فين؟
_ فوق، من وقت ما طلعت وأنتَ هنا منزلتش.
_ وأنتَ مطلعتش لها ليه؟
رفع ذراعيهِ باستسلام:
_ لا، مطلعش عشان هي مش طايقة نفسها دلوقتي، ففي الحالات دي تجنبها احسن او اسلم.
هز "مراد" رأسه وهو يخبر والدته:
_ هطلع اشوفها ونازلك.
_ ماشي يا حبيبي.
اتجه ناحية الدرج ليتوقف على نداء "مصطفى" له:
_ خير يا مصطفى.
_ انا كنت عاوز اسألك لآخر مرة.
_اسأل!
بدى التوتر على وجهه وهو يسأله:
_أنتَ بتحبها بجد يا أبيه مراد؟
تنهد بملل وهو يجيبه باجابة مختصرة لكنها تعني الكثير:
_ كأنك بتسألني أنتَ بتتنفس!
اراحته الإجابة قليلاً، لكنه أصر على توصيل المعلومة له وهو يقول:
_ انا لو في يوم حسيت اني اذيتها لما وقفت في صفك هيبقى الموت اهونلي، مش عاوز ييجي يوم تعايرها فيه بفرق المستوى، الي انا شايفه زي الفرق بين السما والأرض، او تكون الحكاية مجرد وقت وتبدأ تزهق منها بعد شوية وترميها، انا مش عاوز اختي تعاني تاني، هي عانت بما فيه الكفاية.. الكلام سهل.. لكن الفعل هو الي بيفرق.
ابتسم له وهو يربط على كتفه واردف:
_ يبقى سيب الفعل يبين الي الكلام ماقنعكش بيه.
التف صاعدًا درجات السلم، لينتبه "مصطفى" لصوت ليلى" تقول:
_ تحب اوريك التلاجة بتفتح ازاي؟
التف لها يبتسم بحماس:
_ اه وحياة ولادك يا طنط لاحسن عصافير بطني ماتت.
ضحكت وهي تهز رأسها وتقول:
_ ماشي، يلا قدامي على المطبخ، قالتها وهي تدير كرسيها وتستعد لدلوف المطبخ معه..
______________
فتح باب الغرف واحدة تلو الأخرى حتى وجدها أخيرًا، نائمة فوق الفراش على جانبها ومغمضة عيناها بسلام، ولكن ما إن تحرك خطوة واحده حتى استفاقت ونهضت على الفور واقفة أمامه تنظر لعيناه بتحدي وهي تردف باصرار:
_ مش هتجبرني ابقى معاك، مفيش حاجة بالعافية، اقصر الشر وسبني امشي انا واخويا.
رفع كفيهِ باستسلام مردفًا:
_ اعتقد أنتِ شوفتي ان اخوكي قاعد بكيفه، واعتقد برضو انك سكتي لما شوفتي قد ايه هو فرحان بحياته الجديدة.
وضعت كفها في خصرها وهي تهتف بحدة:
_ كانت لحظة عمى، زي ما قولت اتاخدت من فرحة اخويا ومحبتش اكسر بخاطره، بس لما فكرت لاقيت اني هدمر حياتي وحياته عشان شوية مظاهر كدابه، اخويا لا عمره داق العز ولا عاش فيه، والفرحة الي شافها دلوقتي سهل ينساها لما نمشي من هنا، لكن مش هستنى لحد ما يدوق طعم العز واجي احرمه منه، عشان كده بقولك سبنا نمشي يابن الناس وطلقني بالذوق.
عقب ساخرًا:
_ طب اسمعي يابنت الناس، لا هتمشي ولا هطلق، واحسنلك تتأقلمي على الوضع ده، وعشيلك يومين أنتِ واخوكِ ولا متبتة في المرمطة والبهدلة والشقا!
انزلت كفها وهي تقول بضيق:
_ ملكش فيه، اه انا متبتة في الفقر ومستموته، انتَ مالك! بعدين ايش تعمل الفلوس في عيشة فاشلة من اولها، هتعملي ايه الفلوس وانا عايشه مع حد مش طيقاه ولا طايقه افضل على ذمته دقيقة كمان! غنى ايه وزفت ايه، ده انا عيشتي مع الشحات هتكون احسن من عيشتي معاك حتى لو هقعد في عشة.
استفزه حديثها فكور قبضته يبتلعه بصعوبة كي لا يسوء الوضع بينهما، وسألها بنبرة هادئة:
_ عاوزه ايه يا خديجة وتلمي الدور؟
نظرت له باشمئزاز واجابت:
_ مش عاوزه منك حاجه، ابعد عني بس وانا هرتاح.
اخبرها باصرار:
- المستحيل اقربلك من الي بتطلبيه.
هاجت، وصرخت بهِ بأعين جاحظه من الغضب:
_ وانا مستحيل اكمل مع الي قتل اختي ولو على موتي..
_اعملك ايه تاني عشان ترضي؟ انا عملت كل حاجة ممكن تتعمل واتحملت حاجات كتير في العادي مكانش ممكن اتحملها ولا اعملها عشان حد، مطلوب مني ايه تاني اعمله ومعملتوش؟
صرخ بها بعدما ضاق ذِرعه، صرخ بها قلبه قبل أن ينطقها لسانه، والألم لونَ حدقتيهِ بوضوح، حتى معالمه الصلبة باتت هشة وقد قاربت على الانهيار، وردها لم يتوقعه حين نظرت لعيناه بجمود وأردفت بنبرة باردة كالصقيع، هادئة كالنسيم:
_ مطلبتش منك تعمل اولاني، انا رفضي ليك عمره ما هيتغير حتى لو عملت ايه، هفضل مش قابلاك في حياتي.. إلا بقى لو رجعت اختي تاني الي أنتَ قتلتها.. ازاي عاوزني أآمنلك وأنتَ قاتل، اطمن على نفسي معاك ازاي؟ قتلت اختي لمجرد انها وقعتني! على كده لو اتخانقنا في يوم ونرفزتك ولا غلط فيك هتقتلني؟ احمد ربنا اني مبلغتش عنك وقتها لولايا كان زمانك في السجن طول عمرك.
والعقل غاب بعد سماع حديثها، وتحكمت بهِ شياطينه، ليلقي كل حديث للقلب وراء ظهره وهو يقترب منها الخطوتان الفاصلتان حتى أنها لم تلحق أن تأخذ رد فعل وتبتعد، فقط جحظت عيناها وهي تراه يقبض على ذقنها يعتصره بين كفه العريض القاسي، ولكن لم يؤلمها قدر ما فزعتها نظراته التي تراها لأول مرة، بكل هذا الغضب والشر الكامن داخلها، وردد هامسًا بهمس كالفحيح:
_ ولولايا كان زمانك هتقضي الباقي من عمرك في السجن، لو كانت مشكلتك معايا إني قت*لت، فانتِ كمان عملتيها، وإن كنتِ زمان سكتي واتسترتي معايا على الجر*يمة، فانا رديتلك الي عملتيه، ولا أنتِ بقيتِ بتنسي بسرعة ونسيتِ الراجل الي قت*لتيه! ولولايا كان زمانك مقبوض عليكِ ومكانش الجن الأزرق هيعرف يخرجك منها، بقينا متعادلين يا خديجة.. بقينا متعادلين!!
ماذا!! هل افشى عن سر كارثي للتو!
جحظت عيناها وشحب لونها وهي تسأله بفاه فاغر:
_ ايه! قتلته؟ أنا قتلته فعلاً!
والآن ادرك خطأه، تركها وارتد للخلف وهو يسب نفسه بهمس، عامان واكثر حافظ فيهم بكل الطرق على هذا السر ولم يجعلها تشك في حقيقة قتل ذلك الوحش،عامان حرص فيهما على ألا يصلها أي خبر عن اختفاءه الغريب، كي لا تسوء حالتها النفسية مرة أخرى..
اقتربت منه تجذبه من ياقة قميصه تتعلق بها وهي تصرخ بهِ وقد صعدت الدماء لرأسها:
_ رُد علـــيَّ! أنتَ قولتلي انه سافر، قولتلي انهم بيقولوا ساب الحارة وهج عشان نصب على واحد في فلوس ومرجعش فلوسه.. والحارة كلها كانت عارفة ده وبتتكلم فيه.. أنتَ كنت بتكدب؟ يعني.. يعني انا مكنتش بتخيل وهو اتهجم عليَّ بجد وقتلته؟ يعني انتَ جيت يومها فعلاً وخفيت جثته!! رُد... ابوس ايدك رُد وقول انك بتكدب وان كل ده محصلش، قول انه هرب زي ما قولتلي.. قولي إني مقتلتوش.. ابوس ايدك قولي اني مقتلتوش...
هي ليست على حافة الانهيار.. لقد سقطت من فوق الحافة بالفعل!!
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول1 من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني2 من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا