رواية غرام الذئاب الفصل الحادي عشر 11بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
رواية غرام الذئاب الفصل الحادي عشر 11بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
#الفصل_الحادي_عشر
#غرام_الذئاب
#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب
#بقلم_ولاء_رفعت
كم من المظاهر تخفي تحتها حقائق موجعة؟... وكم من الكلمات تصير كالسهام التي لا تُمحى آثارها؟... تلك كانت ليلة خُطت فيها ذكريات، لن تُنسى أبداً.
انطلق الصوت مدوياً من مسجل السيارة، أغاني صاخبة تتناغم مع إيقاع الإطارات التي تزحف بعنف على الطريق السريع المؤدي إلى مدينة العلمين الجديدة.
تتحرك السيارة في انحرافات مفاجئة يميناً وشمالاً، فكانت بملامح متوترة، تمسك يديها بقوة في أطراف الكرسي الذي تجلس عليه، تصرخ وقد بدا الرعب يسيطر على نبرتها
"بطل جنان يا يونس، العربية هتتقلب بينا"
كان يضحك بحرارة، وجهه مشرق بحماس طفولي، صوته يتناغم مع هدوء داخلي غريب رغم الفوضى.
ألتفت إليها وعيناه تضجّان بالحياة، قائلاً بصوت لا يخلو من المرح
"اعذريني يا كوكي، مش مصدق نفسي أنا وإنتِ هنقضي أسبوع لوحدنا، نعيد أمجاد الهني مون"
نظرت إليه بوجه غاضب، أنفاسها متلاحقة، ثم قالت بنبرة عاتبة
"أنا بقى متضايقة، هايجيلي نفس إزاي أتفسح وأؤكل وأشرب من غير الولاد؟"
هدأ ضحكه قليلاً، وبدا الامتعاض يتسلل إلى ملامحه، ثم قال وهو ينقل نظره بين الطريق ووجهها
"أنا ممكن ألف وارجع على القصر أوديكي ليهم، وأنا اللي هسافر لوحدي"
نظرت إليه بدهشة، ثم رفعت حاجبيها بسخرية خفيفة
"لاء يا حبيبي، دعوة المؤتمر دي جاتلي أنا الأول قبل ما تجيلك، ولا أنت كنت عايز تسافر لوحدك عشان ما اتكرمش؟!"
ابتسم ابتسامة بريئة، أقرب إلى البلاهة، وقال وهو يحاول تلطيف الأجواء
"ما أنتي وأنا واحد يا حبيبة قلبي، نجاحك من نجاحي، وعيب عليكي لو كنتِ فاكراني بغير من نجاحك، وبعدين الأولاد زمانهم فرحانين وخديجة مدلعاهم"
تغيرت ملامحها فجأة إلى نعومة وعاطفة غامرة، مدت يديها وأمسكت بيده لتضعها بينهما، تحاوطها بإحكام وكأنها تعانق قلبه، ثم نظرت إليه بنظرة مليئة بالعشق وقالت بصوت منخفض
"بالعكس، إنت اللي على طول بتشجعني أكبر وأتطور من شغلي، ولولاك مكنش هيبقى عندي أكبر جاليري في مصر"
ساد صمت بينهما للحظات، لم يكن صمتاً عادياً، بل كان ممتلئاً بأحاديث غير مرئية، قلوبهما تتكلم لغة لا يدركها إلا من جمعهما الحب والمودة.
استقام يونس على عجلة القيادة، خفّف من السرعة قليلاً، ثم قال بصوت هادئ، وكأنها كلمات خُتمت في صدره منذ زمن
"وإنتِ لولاكِ، مكنش هيبقى عندي حياة"
خفّض صوت الأغاني المنبعثة من المذياع، وانحنى قليلاً نحوها وهمس بنبرة أقرب إلى الدفء منها إلى الجرأة
"كارين..."
رفعت رأسها إليه، عيناها يملؤها الوجد وقلبها يخفق كأنه يناجيه بصمت.
تمعّن في شفتيها بنظرة اشتهاء واضحة، ثم قال بجرأة أصبحت مألوفة لديها
"ما تجيبي بوسة؟"
قبل أن تتسنى لها فرصة الرد، اخترق سكونهما صوت زمور حاد لشاحنة نقل ضخمة تقترب بسرعة جنونية.
انتفض كلاهما، وصرخت كارين بفزع
"حاسب يا يونس!"
استجاب بسرعة، وانحرف بالسيارة عن مسارها، فصعدت فوق الرصيف المجاور محدثة ارتجاجًا عنيفًا وفرقعة مدوّية من أحد إطاراتها.
ضرب يونس كفه على عجلة القيادة بضيق، ثم قال بنبرة تحمل الغضب
"أنا كان قلبي حاسس العربية هاتعملها معانا"
نفخ بعصبية، فمدّت كارين يدها تربّت على كتفه بحنان، محاولة تهدئته
"معلش يا حبيبي، قدر الله وما شاء فعل، ده الحمد لله إحنا نفدنا بأعجوبة، النقل كانت خلاص هتفرمنا"
أطلق زفرة طويلة، وكأن الكلمات لم تخفف من وطأة توتره، وقال بامتنان مكتوم
"الحمد لله، كان فاضل تلاتة كيلو على الفندق"
ثم التفت إليها قائلاً
"هكلم أقرب مكتب خدمة صيانة ونستناهم"
هزت رأسها مترددة، وقالت وهي تشير بيدها خارج النافذة إلي المكان المحيط بهما
"أنت بتهزّر؟ ده مكان مفيهوش صريخ ابن يومين، هتلاقي فين خدمة صيانة؟ وكمان مفيش شبكة"
رفعت هاتفها أمام وجهه، نظر إلى شاشة هاتفه، فوجد بالفعل أن الإشارة مفقودة تمامًا.
عادت برأسها علي المسند الخلفي وأطلقت تنهيدة عميقة ثم قالت
"وبعدين؟، هانتصرف إزاي دلوقتي؟، أنا قولتلك ماتنساش تغير العجلة الاستبن، و كالعادة تكبير دماغك على طول بيحطنا في مواقف زي الزفت"
رفع حاجبه بامتعاض، ثم نظر إليها نظرة ضيقة تحمل الضيق والغضب
"ممكن تسكتي خالص؟"
عقدت ساعديها أمام صدرها ونفخت بغضب
"هاسكت خالص عشان ترتاح، بس ياريت تشوفلنا حل لأن الجو حر أوي ومفيش مكان ضل نقعد فيه"
ظل صامتًا للحظة، يفكر في الحلول الممكنة.
فاخبرها بنبرة تقطع حبل التوتر
"كده مفيش قدامنا غير حل واحد"
رفعت حاجبيها باهتمام، وعيناها تلمعان بالفضول
"حل إيه؟"
❈-❈-❈
في حديقة القصر الغنّاء، حيث امتزجت ألوان الزهور بعذوبة الهواء ونسماته، كانت خديجة تلعب مع الصغار.
عينيها محجوبتان بوشاح حريري رُبط خلف رأسها بإحكام، وابتسامتها الوضاءة ترتسم على شفتيها.
كانت تجري بينهم بخفةٍ كالفراشة، تتبع أصوات خطواتهم الصغيرة وضحكاتهم المتناثرة هنا وهناك، وهم يمرحون حولها في لعبة الغميضة.
قالت بصوت مرح، وقد مدت يديها في محاولة لإمساك أحدهم
"روحتوا فين؟، هاه، هامسكوا برضه، مفيش مجال للهروب النهارده"
في تلك اللحظة، انفتح باب البهو الزجاجي الكبير، وخرج منه آدم بخطوات هادئة وثقة واضحة.
لمح الصغار وجوده، فتوقفوا عن الركض، وابتسموا بحماس وكأنهم وجدوا قائدهم، لكنهم لم ينبسوا ببنت شفة حين أشار لهم بإصبعه أمام شفتيه علامة على الصمت.
علت شفتيه ابتسامة ماكرة وهو يراقب خديجة التي استمرت في تحركاتها العشوائية، غافلةً تمامًا عن وجوده بسبب الوشاح الذي يغطي عينيها.
اقترب منها بخفة دون أن يصدر أي صوت، بينما هي ما زالت تنادي بصوت مليء بالتحدي
"فينكم؟! أنا حاسة بيكم حواليا، متستخبوش مني، هامسككم...
وفي غفلةٍ منها، وجدت جسدها فجأة محمول في الهواء، فصرخت متفاجئة وهي تحاول التملص.
رفعت الوشاح عن عينيها في الحال لترى آدم يحملها بين ذراعيه بقوةٍ وابتسامة ساخرة تعلو وجهه.
كان ابنها وابناء عمه يقفون حولهم يضحكون من قلوبهم، مستمتعين بالمشهد الذي بدا كمسرحية فكاهية.
لكزته في كتفه بخفة وقالت بنبرة خافتة مغلفة بالخجل والغضب
"إنت بتعمل إيه؟! نزلني حالاً و اتلم، إحنا قدام العيال"
لكنّه تجاهل كلماتها وكأنه لم يسمع شيئًا، واستدار نحو الأطفال، ليصيح بنبرة مليئة بالمرح
"إيه رأيكم يا شباب؟ نحكم على خديجة بإيه النهارده؟"
رفعت جوليانا يدها بحماس وقالت
"تحكيلنا قصة جديدة"
ثم قاطعها أخيها الصغير وهو يرفع يده قائلاً بفخر
"لأ، خدها وارميها في البانيو وافتح عليها الدش، زي ما بابي بيعمل في مامي لما بنلعب كوتشينة وبيطلع معاها الشايب"
ساد لحظة من الصمت الممزوج بالدهشة قبل أن ينفجر الجميع بالضحك، بما فيهم خديجة التي لم تستطع أن تمنع نفسها من الابتسام.
بينما آدم، فقد كان يحاول جاهدًا كتم ضحكته، لكنه لم يفلح، وانطلق ضاحكًا بصوت عالٍ ثم قال بصوت خافت
"الله يخربيت جنانك يا يونس"
اقترب يوسف الصغير، بعينيه الصغيرتين اللتين تتوهجان فضولاً، رفع رأسه نحو والده قائلًا
"بابي، أنا عايز نونو يكون أخويا أو أختي، زي ولاد أعمامي و عمتو، كل واحد عنده أخت وأنا لاء"
شعرت خديجة بوقع كلماته البريئة في قلبها، ألتفتت نحوه وجلست بجواره، أخذت يده الصغيرة بين يديها برفق
"حبيبي يا يوسف، ولاد عمامك هم كمان إخواتك، وأنا وبابي بإذن الله هندعي ربنا يرزقنا بنونو قمر زيك كده"
نظر إليها صغيرها بعينيه اللامعتين، وسألها ببراءة كطفل يبحث عن أسرار الدنيا
"وإنتم هتجيبوا النونو منين؟"
قبل أن تجيب خديجة، اندفع رسلان الصغير بجرأته المعتادة، وبابتسامة طفولية تحمل شبهًا كبيرًا بوالده، قائلاً بثقة
"أنا سمعت بابي بيقول لمامي تعالي أقولك كلمة سر في بوقك ونجيب نونو جديد"
ضرب آدم كفًا على كف، وعلت ملامحه دهشة
"يخربيت عقلك الضارب يا يونس! هتبوّظ أخلاق ولادك"
لم تستطع خديجة منع ضحكتها التي كادت تفلت من شفتيها، لكنها سيطرت على نفسها بصعوبة، ولكزت آدم بخفة وهي تقول بصوت منخفض يشوبه الحزم
"اسكت إنت، ما تلفتش انتباه الولد"
ثم التفتت نحو رسلان، وابتسمت له بحنان وهي ترفع حاجبها كإشارة تحذير لطيفة
"حبيبي، تعال هنا"
أطاعها رسلان دون تردد، واقترب منها بخطوات خفيفة.
أشارت إليه ليجلس بجوارها، ثم رفعت رأسها ونادت
"چولي، خدي يوسف وروحوا المكتبة، و أنا هاجي لكم كمان شوية وأحكيلكم قصة جديدة"
فرحت الصغيرة و فعلت ما أمرتها به زوجة عمها.
وقفت خديجة أمام الصغير رسلان، بابتسامة وديعة تُخفي جدية رسالتها، همست له بنبرة هادئة مليئة بالحب والحرص
"حبيبي، ما ينفعش أي حاجة نسمعها أو نشوفها في بيتنا نروح نحكيها لحد، خصوصًا لو حاجة تخص بابا أو ماما، عارف ليه؟، لأن اللي بيعمل كده الناس بتبعد عنه، وربنا بيزعل منه، بس أنا عارفة إنك ولد مؤدب وزي القمر، وعمرك ما هاتعمل كده تاني، صح؟، وعد؟"
هزّ الصغير رأسه بثقة
"وعد، يا ديجا"
لم يكد ينهي كلمته حتى أتى آدم من خلفه ولكزه بخفة على مؤخرة رأسه، قائلاً بلهجة ساخرة
"اسمها طنط خديجة ياض"
نظرت خديجة إلى آدم بنظرة تحذيرية مختلطة بابتسامة، ثم انحنت نحو الصغير، وقالت بحنان
"ملكش دعوة يا عمو آدم، رسلان حبيبي بيدلعني، وأنا اللي قايلة له يناديني يا ديجا"
ربتت على كتف الصغير برفق وأضافت "يلا يا بطل، روح ليوسف و لچولي في المكتبة، وأنا جاية وراك"
تهلل وجه الصغير بالفرحة، وانطلق يركض بخفة نحو الداخل.
ما إن غاب الصغير عن الأنظار حتى التفتت خديجة إلى آدم، وضعت يدها على خاصرتها وسألته بابتسامة تحمل عتابًا خفيفًا
"سمعت ابنك نفسه في إيه؟"
رفع آدم حاجبيه متظاهرًا بعدم الفهم
"لاء، ما سمعتش"
لم تتراجع، بل رفعت حاجبها متحدية
"بطل تتهرب مني كل ما أجيبلك سيرة الخلفة"
تنهد بضيق وزفر قائلاً بلهجة لم تحتمل الصبر
"تاني يا خديجة؟ مش اتفقنا كفاية يوسف؟، وبعدين انتي مش المفروض تركزي في دراستك بدل ما تجيبي لنا مشاكل جديدة؟"
ضيّقت عينيها، ثم أخذت نفسًا عميقًا وهي تحاول أن تتمالك نفسها.
بدا على ملامحها الهدوء، لكنها كانت تغلي من الداخل، تستعين بالصبر كي لا تفقد أعصابها.
قالت بصوت متماسك، وإن كانت نبرته مشوبة بغضب مكتوم
"أولًا، أنا ما اتفقتش معاك على حاجة بخصوص الخلفة، أنا قولت هأجل الموضوع مؤقتًا، و أديك سمعتها بودانك، ابنك نفسه في أخ، والحمد لله مفيش أي مانع، أما بالنسبة لدراستي والمشاكل اللي جت من وراها، فيا حبيبي أي مكان في الدنيا فيه مشاكل، ولو كلنا بعدنا عن الحاجة اللي بنعملها عشان نتجنب المشاكل، مكنش حد اتعلم ولا اشتغل، وخلاص قفلنا على الموضوع ده، و باسم خد جزاءه"
رفع رأسه إليها بصمت، مترددًا قبل أن يتحدث.
كان يدرك جيدًا أن قراره لن يروق لها، لكنه اتخذه عن قناعة، ولم يكن على استعداد للتراجع.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال ببرود متعمد
"تمام، وأنا ما بحبش المشاكل، عشان كده سيادتك هاتكملي دراستك من البيت أونلاين، وهاتروحي بس على الامتحانات"
صاحت بحدة وهي ترفع حاجبيها في دهشة واضحة
"نعم؟!"
لم يهتز من اعتراضها، بل تابع ببروده المزعج
"زي ما سمعتي، أنا مش ضامن ممكن يحصل إيه تاني، وأنتِ ما شاء الله عليكِ، فاكرة نفسك مصلحة اجتماعية، وآخرتها هنلاقي نفسنا متورطين في حوارات كنا هانروح فيها أنا وإنتِ"
كتمت غضبها وهي تحاول أن تلجم لسانها، لكن ذلك كان أشبه بمحاولة تهدئة بركان على وشك الانفجار.
رأى صمتها فابتسم بسخرية مستفزة، ثم قال بتحدٍّ
"ساكتة ليه؟ مش المفروض لما جوزك يقولك على حاجة تقولي حاضر وتسمعي كلامه؟"
عند هذه النقطة نفذ صبرها، ولم تعد قادرة على الاحتمال.
انفجرت فجأة وقالت بصوت غاضب، وإن كانت نبرته تحمل استهزاءً مبطنًا
"ماشي يا آدم، مش هاروح الجامعة وهكمّل من البيت، بس مش لأنك إنت عايز كده، لأني عايزة أركز الأيام الجاية عشان ربنا يرزقني بأخ أو أخت ليوسف"
تركته واقفًا مكانه وهي تتحرك نحو الداخل بخطوات مسرعة، لكنه لم يدعها تغادر دون أن يلقي آخر كلماته المسمومة
"وده هتركزي فيه إزاي لوحدك؟ هتتكاثري ذاتيًا يعني؟!"
توقفت فجأة، ثم استدارت إليه بابتسامة صفراء تنذر بعاصفة، وقالت بنبرة هادئة لكنها لاذعة
"مش بمزاجك يا باشمهندس"
عقد حاجبيه بدهشة وقال متسائلًا
"يعني إيه؟"
ردت وهي تتراجع بخطواتها، مبتسمة بسخرية
"يعني الموضوع إجباري مش اختياري"
وقبل أن يتمكن من الرد، ألقت عليه وشاحها بحركة مفاجئة وركضت نحو الداخل.
وقف مكانه يحدق في أثرها بفم مفتوح غير مصدق لما سمعه، تمتم لنفسه بصوت خافت
"دي اتجننت دي ولا إيه؟!، هستنى إيه يعني من واحدة صاحبتها تبقى شيماء!"
❈-❈-❈
بعد السير لمسافة طويلة تحت وهج الشمس الحارقة، ووسط أجواء المناخ الجاف الذي أثقل خطواتهما، وصلا أخيرًا إلى الفندق.
كانت آثار التعب واضحة على ملامحهما، لكن بريق الأمل في الراحة والتخلص من عناء الرحلة لم يفارقهما.
تقدّم العمال بخطوات ثابتة، وتسلّموا حقائبهما بعد أن تأكّدوا من هويتهما. أظهرا بطاقات الدعوة الرسمية التي تخصّ المؤتمر الفني والثقافي المقام بمدينة العلمين الجديدة، ذلك الحدث الذي يجمع كبار الفنانين التشكيليين وأساتذة كليات الفنون الجميلة من مختلف المحافظات، بالإضافة إلى مشاركين من دول أوروبية.
توقّف يونس ليلتقط أنفاسه التي أثقلها الإرهاق، ثم تقدّم نحو موظفة الاستقبال وسألها بنبرة تفيض بالتعب
"لو سمحتي، الحجز بتاعنا باسم يونس عزيز البحيري وكارين رسلان العزازي"
ابتسمت الموظفة ابتسامة خفيفة تحمل في طياتها شيئًا من الحرج، ثم أجابتهما
"للأسف، الغرفة اللي حاجزينها فيها إصلاحات وصيانة، والعمال شغالين عليهم دلوقتي"
ارتفعت حرارة الحوار، وزفر يونس بامتعاض واضح وهو يعلّق
"هو ده اللي ناقصنا كمان، تعبنا ومشينا طريق طويل لما الواحد اتحمص من الشمس، وفي الآخر نلاقي الغرفة مش جاهزة"
بجانب يونس، نظرت كارين إليه بضيق، لكنها اختارت أن تعبّر عن رأيها بأسلوب أكثر حدة.
"إيه يا يونس؟ مش وقت هزارك ده خالص، شوف لنا حل، بدل ما نضطر ننام على الرصيف"
قاطعتهما الموظفة بسرعة، محاولة تهدئة الأجواء
"ما تقلقوش يا فندم، إحنا عاملين حسابنا، حجزنا لكم سويت بيطل على ڤيو البحر أكيد هيعجبكم"
على الفور، بدت السعادة تلوح على ملامح كارين بابتسامة عريضة وقالت بحماس
"ياريت، أنا أصلًا كان نفسي الرووم تطل على البحر"
مدّت الموظفة يدها بالمفتاح الإلكتروني، وقدّمته ليونس بابتسامة هادئة
"اتفضلوا، السويت جاهز، ونتمنى ليكم إقامة سعيدة"
تناول يونس المفتاح، واتجه بصحبة زوجته نحو المصعد.
حين وصلا إلى الغرفة، فتح يونس الباب بهدوء، وما إن دخلت كارين حتى ركضت إلى الداخل كطفلة صغيرة غمرها الحماس.
فتحت باب الشرفة الزجاجي بسرعة، ليملأ الغرفة نسيم عليل يحمل معه عبق البحر المالح.
وقفت هناك، وشعرها يتطاير مع الهواء النقي، وعيناها تستقران على مشهد الشاطئ الممتد بأمواجه الهادئة ورماله الذهبية، وكأنها أمام لوحة فنية مرسومة بعناية.
وقف يونس خلفها، يحيط خصرها بذراعيه كأنما يحميها من نسمة باردة تسللت على استحياء.
سألها بصوت رخيم يشوبه دفء الحنين
"فرحانة يا حبيبتي؟"
وضعت يديها على يديه وأرخت ظهرها على صدره، وكأنها وجدت في حضنه ملاذًا لا تطاله هموم الدنيا.
أجابته بابتسامة ناعمة ملؤها الرضا
"أنا مبسوطة أوي، بجد كنا محتاجين الإجازة دي جداً، صحيح هي ليها علاقة بالشغل، بس فعلاً كنا محتاجين نستجم شوية ونفصل عن الروتين وجو البيت ودراسة الأولاد"
انحنى برأسه وطبع قبلة على خدها بحب، ثم قال بنبرة هادئة تشي بامتنان عميق
"أنا اللي الفرحة مش سيعاني، واقف قدام منظر طبيعي خرافي، و معايا أجمل ست في العالم، هاكون عايز إيه تاني من الدنيا؟"
استدارت بين ذراعيه حتى أصبحت وجهاً لوجه معه.
نظرت إليه بعينين لامعتين، امتلأتا بعشق لم تنطفئ جذوته.
قالت وهي تحاول اختبار مشاعره بشيء من المزاح
"إنت فعلاً شايفني أجمل ست في العالم يا يونس؟ ولا دي مجرد مجاملة؟"
اتسعت ابتسامته التي ملأتها العذوبة والتيم، ورد بثقة تتسلل إلى القلب بلا استئذان
"أنتِ في عيوني أجمل ست في المجرة كلها، وعشان أثبتلك تعالي جوه وهتعرفي بنفسك"
وقبل أن تدرك ما يقصده، حملها بين ذراعيه بقوة، فتفاجأت وصرخت وهي تضحك كطفلة صغيرة
"يا مجنون نزلني!، أنا جسمي مدغدغ من المشي، مفيش أي طاقة"
ضحك من قلبه وهو يتقدم بها نحو الحمام، ثم قال بمرح وهو يومئ برأسه كأنه يطمئنها
"تعالي ناخد شاور وهجددلك طاقتك، هخليكي تنوري من كتر الطاقة"
مرت لحظات من الانسجام داخل أجواء تنبض بالحب والراحة.
وبعد أن خرجت من الحمام، كانت ترتدي معطف الإستحمام القطني، وتُجفف شعرها بمنشفة بيضاء ناعمة.
أما يونس، فكان يقف أمام المرآة، يُمشط شعره و يرتدي المعطف القطني أيضًا، يُغني بصوت مرح
"يا خارجة من باب الحمام، وكل خد عليه خوخة، خوخة، خوخة، خوخة"
توقفت أمام السرير تبحث عن شيء ما، فتوقف عن غنائه ونظر إليها عبر المرآة. سألها وعينيه تتابع ما تفعله
"بتدوري على إيه؟"
أجابت دون أن ترفع عينيها عن ما تبحث عنه
"على الفون بتاعي، عايزة أتصل بجوليانا أطمن عليها هي ورسلان"
اقترب منها بخطوات هادئة، لكنه كان يحمل في عينيه رغبة مضمرة.
جذبها نحوه برفق حتى التصقت به كلياً، وصوت أنفاسه المتسارعة يعلن عن شوقه الذي لا ينتهي.
همس بصوت منخفض، أشبه بنغمة مشحونة بالدفء
"أنا كلمتهم واطمنت عليهم وأنتِ كنتِ بتاخدي شاور، وبيقولوا لك بليز مامي، خلي بالك من بابي ودلعيه آخر دلع"
رفعت حاجبها بابتسامة خفيفة، مستندة على دفء حضوره، وردت بنبرة مازحة
"متأكد إنهم قالوا لك كده؟"
هز رأسه تأكيداً، وعيناه لا تفارق ملامحها التي تحمل كل مفردات الجمال
"آه طبعاً متأكد، يلا بقى دلعيني"
ضحكت وهي تسحب المنشفة من فوق خصلات شعرها المبللة وتلقي بها علي كرسي طاولة الزينة
"ممكن تسيبني أغير هدومي وأسرح شعري"
نظر إليها نظرة تفيض بالعشق، ورفع إحدى خصلاتها بين أصابعه وهو يستنشقها بعمق، وكأنه يستنشق الحياة ذاتها.
ابتسم قائلًا بمتعة تغمره
"أنا طول عمري بحب شعرك وهو مبلول، وريحته اللي زي ريحة الفراولة"
ابتسمت بخجل كلما تسمع إطراءً، وقد زادها خجلها جمالاً، فأخبرته
"دي ريحة البلسم"
ضمّها بين ذراعيه بقوة، حتى شعرت وكأنها جزء من كيانه، ثم أسند جبهته على جبهتها وهمس بصوت مشبع بالحنان
"إنتِ البلسم، وإنتِ الفراولة، وإنتِ كل أنواع الفاكهة"
صمت وأطلق تنهيدة من قلبه المشتعل بالعشق فناداها بهمس
"كوكي؟"
ردّت بدلال وكأن كلماتها أغلقت أبواب عقله عن أي شيء آخر
"وروحها، وعمرها كله"
همس لها بشوق لا يعرف حدوداً
"أريد حباً وحناناً، زيديني عشقاً وأماناً"
ضحكت بخفة، وهي تحاول كتم دقات قلبها التي علت
"جوزي حبيبي طلع مش فنان وبس، ده بقى أديب وبيقول شعر كمان"
ابتسم بمكر، واخبرها بجدية لكنه لا يخلو من المزاح
"أومّال إيه يا قلب قلبي، أنا بتاع كل الفنون والأدب، وقلة الأدب كمان، تعالي أوريكي"
حملها بين ذراعيه، وهي تضحك بلا توقف، وذهب بها إلى الفراش حيث اختلطت ضحكاتهما بدفء اللحظة، ليصنعا معاً لحظة من السعادة الخالصة، غير عابئين بما يدور في العالم حولهما.
و إذا بهذا المشهد الرومانسي تحول فجأة على شاشة حاسوب مضيئة، داخل غرفة شبه مظلمة، يملؤها سكون ثقيل كأنه صدى للحياة التي تمضي بلا ضجيج. تتخلل من بين ستائر الغرفة المغلقة خيوط خافتة من أشعة الشمس، ترسم ظلالاً باهتة على الجدران.
بجوار الحاسوب، استقرت مطفأة زجاجية تتكدس فيها بقايا لفافة تبغ محترقة، وكأنها شاهدة على ليالٍ طويلة من الوحدة والتأمل.
قطع السكون صوت اهتزاز هاتف موضوع على الطاولة، مدّ الرجل يده إلى الهاتف ببطء، وضغط على زر كتم الصوت للحاسوب قبل أن يلتقط الهاتف ويرد بصوت منخفض خالٍ من أي انفعال
"ألو؟"
جاءه صوت أنثوي ناعم من الطرف الآخر، وكأنها تحاول أن تكون حذرة في حديثها
"مهند بيه، فيه واحد بيسأل على حضرتك، بيقول إنه مندوب من شركة العربي للمقاولات"
تبدلت نبرته قليلاً، لكنه ظل محتفظاً ببروده
"قولي له أنا مسافر بره مصر"
"تمام يا فندم، هبلغه بكده، سوري على الإزعاج"
أنهى المكالمة بلا كلمة إضافية، وأعاد هاتفه إلى مكانه.
عاد بنظره إلى شاشة الحاسوب، لكن هذه المرة كانت عيناه تضيقان بتعبير لا تخطئه عين؛ غضب مشتعل، وكأن كل شيء فيه يتمرد بصمت.
برزت عظام فكه وهو يضغط على أسنانه، مدّ يده إلى كوب الخمر الموضوع أمامه، ثم تجرعه دفعة واحدة بعصبية.
دوى صوت الكوب وهو يرتطم بالأرض ويتحطم إلى قطع متناثرة.
❈-❈-❈
كانت أميرة تجلس على حافة القبر، منكبة على التراب، تلمسه بأصابعها المرتعشة كأنها تبحث عن الأمان بين ذراته.
دموعها تبلل وجنتيها، وتزيد من خشونة كلماتها التي خرجت متقطعة، مثقلة بالألم. قالت بصوت متحشرج
"محتاجة لك أوي يا ماما خيرية، مكنش ليا حد غيرك، كنتِ الأب والأم، والسند، ليه سيبتيني لوحدي؟ ليه؟!"
كانت كل كلمة تخرج منها كأنها تمزق قلبها، وعينيها لا تفارق نقش اسم "خيرية" على شاهد القبر.
كأنها تحاول أن تستعيد دفء الذكريات، لكنها لا تجد سوى صمت الموت.
و في مكان ليس ببعيد، كان محمود يقود سيارته بسرعة جنونية، يمسك هاتفه المحمول بيد، بينما يده الأخرى تتحكم بعجلة القيادة.
قال لأخيه، وهو بالكاد يكتم غضبه
"هاتجنن يا مأمون لافيت إسكندرية شارع شارع، وحارة حارة، عشان ألاقي بنت الـ... دي، مش لاقي لها أثر نهائي"
رد شقيقه بصوت حاد عبر الهاتف
"يعني إيه يا محمود؟ اتبخرت؟!"
"مش عارف والله، الواحد مش عارف يترحم على أمي ولا يقول إيه، لما تخلي حتة بت لا نعرف لها أصلها من فصلها تورث معانا، ولا كمان الوصية ما تتفتحش غير لما تكون هي موجودة!"
بينما كان محمود يتكلم، قاطعه صوت تنبيه مكالمة واردة علي الإنتظار، نظر سريعاً إلى الشاشة، قرأ اسم المتصل، وقال لأخيه
"عمك صبحي بتاع التُرب بيتصل عليا، عايز إيه ده كمان؟، سلام هكلمك بعدين"
ضغط على زر الإجابة
"خير يا عم صبحي؟، مش أخدت فلوسك؟ عايز إيه تاني؟"
جاء صوت الرجل العجوز من الطرف الآخر، متهدجاً لكنه حازم
"يا محمود بيه، فيه واحدة دخلت المدافن اللي تبعكم، قاعدة من أول ما الشمس طلعت لحد دلوقتي وبتعيط، وسمعتها بتنادي على الحاجة الله يرحمها، بتقول يا ماما خيرية"
ضغط محمود على فرامل السيارة فجأة، فصدر صوت صرير عالٍ جعل المارة ينظرون إليه باستغراب.
سأل صبحي بلهفة
"البت دي شكلها إيه؟ في أواخر العشرينات كدة؟ و بيضة زي لهطة القشطة؟"
رد صبحي بارتباك
"ما دققتش في وشها يا بيه، بس شوفتها مرة مع الحاجة الله يرحمها، أيام ما كانت بتيجي تقرأ الفاتحة للحاج الله يرحمه"
لم ينتظر مزيداً من التفاصيل
"طيب، بالله عليك ما تخليهاش تتحرك من عندك، أنا جاي دلوقتي حالاً، أصلها قريبتنا، وشكلها جت البيت وما لقتش حد، وهي كانت بتعز أمي أوي"
رد صبحي مطمئناً إياه
"حاضر يا بيه، هقولها تستناك"
صرخ الأخر بانفعال
"تقولها مين يا غبي!، ما تجيش جنبها خالص، أنا جاي في السكة"
أنهى المكالمة وأعاد تشغيل السيارة بسرعة كأن الشوارع تضيق عليه.
تمتم لنفسه، وهو يشد قبضته على المقود
"أخيراً لاقيتك، صبرك عليا لما أشوفك"
انطلقت السيارة كالسهم، يتردد صدى كلماته في داخله.
❈-❈-❈
ما إن خارت قواها من البكاء حتى استسلمت للتعب والإرهاق.
لقد تركت فيلا عائلة رحيم وهي لم تأكل لقمة واحدة منذ ذلك الحين.
هامت على وجهها في الطرقات بلا هدف، بحثت عن مأوى يحميها، لكن الأبواب كانت توصد في وجهها الواحد تلو الآخر. حتى انتهى بها الحال إلى سطح منزل السيدة "خيرية"، حيث اختبأت في غرفة صغيرة من الخشب القديم، تحتمي بجدرانها المهترئة من قسوة الليل وبرودته.
على بُعد خطوات من بوابة المقابر، أوقف محمود سيارته ونزل منها.
ألقى نظرة سريعة على المكان قبل أن يلمح عم صبحي حارس المقابر، ينتظره كعادته.
أخرج ورقة نقدية من محفظته ومدّها إليه قائلاً بصوت هادئ، وإن كان يخفي وراءه نوايا أخرى
"معلش يا عم صبحي، ممكن تجيبلي علبة سجاير؟ وخلي الباقي علشانك"
نظر صبحي إلى الورقة النقدية، اتسعت عيناه في دهشة ممزوجة بفرحة، وقال بحماسة
"حاضر يا باشا، عينيا ليك"
أسرع الرجل مبتعدًا عن المكان، غير مدرك أن الأخر أراد التخلص من وجوده لتنفيذ ما كان يدور في رأسه.
تسلل محمود داخل المقابر بهدوء، كانت عيناه تبحثان عنها.
حتى وقعتا عليها أخيرًا.
كانت أميرة جالسة على الأرض، وظهرها مستند إلى حافة قبر والدته.
عيناها تغرقان في ظلال الحزن واليأس، وحالتها يرثي لها.
تقدم نحوها بخطوات ثقيلة، يُخفي بيده مُدية صغيرة كان قد خبأها في جيب بنطاله.
اقترب حتى أصبح خلفها مباشرة، ثم بصوت خافت ولكنه يحمل تهديدًا صارخًا
"بهدوء كده يا حلوة، قومي معايا بدل ما أخليكي ترقدي جمب أمي"
رفعت رأسها ببطء، ألتفتت نحوه، و ما إن رأت ملامحه واستوعبت وجوده حتى شهقت بصوت مكتوم، وكانت على وشك أن تصرخ، لكنه لم يمهلها الفرصة.
وضع يده بقسوة على فمها وهمس
"أقسم بالله لو عملتي أي حركة، شايفة المطوة الحلوة دي؟ "
أشار إلى المدية التي تتلألأ تحت ضوء الشمس، ثم أكمل ببرود
"هشقك بيها نصين وأدفنك مكانك، خليكي شاطرة ويلا معايا على العربية"
أومأت برأسها برجاء، محاولة استجداء رحمته، إلا أن نظراته الباردة لم تُظهر أي شفقة على حالتها المزرية.
"مش هياكل معايا جو أمينة رزق اللي أنتي عايشالي فيه ده، يلا قدامي، أحسن لك"
نهضت ببطء، بينما كانت عيناها مغرورقتين بالدموع، وذراعيها ترتعشان من شدة الخوف.
قادها تحت تهديد السلاح نحو السيارة، متعجلاً تنفيذ خطته قبل أن يعود عامل المقبرة.
وبالفعل، عندما عاد الحارس بعد دقائق، وجد المكان خاليًا.
توقف قليلًا، ناظرًا إلى سيارة محمود التي تحركت مبتعدة، ثم نظر إلى علبة السجائر وباقي النقود بين يديه وقال بصوت خافت وكأنه يحدث نفسه
"حلال عليك السجاير والفلوس يا واد يا صبحي"
وابتسم ابتسامة عابرة، غير مدرك لما جرى خلف ظهره في تلك اللحظات!
❈-❈-❈
و في حي كفر عبده، كانت سيارة سوداء فارهة تتسلل بهدوء عبر بوابة الفيلا، حتى توقفت أمام الباب الكبير.
ترجل منها الطبيب الوسيم، تظهر ملامح الإرهاق واضحة على وجهه.
أسرع الحارس ليستقبله
"حمدالله على السلامة يا دكتور رحيم"
نظر إليه الأخر نظرة واهنة، وكأن التعب قد استنزف قواه، فاكتفى بإيماءة صغيرة دون أن ينبس ببنت شفة، ثم خطا بثقل إلى داخل الفيلا.
هناك، وجد والدته تنتظره في بهو المنزل، وقد ارتسم الغضب على ملامحها التي لم تستطع إخفاء حدة تعبيراتها.
"بقالك يومين سايب الفيلا وشغلك، وبتلف في شوارع ربنا عشان البت اللي جايباها من الشارع؟!"
كان رحيم يقف قبالتها، عيناه غارقتان في الإرهاق، ووجهه يحمل مزيجًا من الصمت والتعب.
لم يتفوه بكلمة، لم يكن يملك طاقة الدخول في أي جدال.
أدركت والدته ذلك، لكنه لم يشفع له عندها، إذ صاحت بعصبية وهي تتابع خطواته الثقيلة التي بدأت تتجه نحو الدرج
"براحتك يا رحيم! بس خُد بالك، البت دي لو رجعت هنا، أنا بنفسي هاخدها وأسلمها للبوليس، هم يشوفوا حكايـتها إيه، إحنا مش ناقصين مصايب في البيت ده، نخلص من بلوة بنت خالتك، تطلع لنا مصيبة جديدة مش عارفين أصلها ولا فصلها، يا أبو قلب رهيف زي أبوك الله يرحمه"
كانت كلماتها أشبه بطعنات متتالية، لكنه لم يلتفت، تركها تهدد وتنفث غضبها، وأكمل طريقه إلى الطابق العلوي، مثقلًا بحمل أثقل من أن يتحمله كتفاه المنهكتان.
وبينما كانت قدمه على وشك أن تطأ عتبة غرفته، وكأنه مغناطيس خفي قاده، وجد نفسه يتجه إلى الغرفة التي كانت أميرة تسكنها قبل رحيلها.
ضغط زر الإضاءة، لينير الغرفة التي بدت كأنها حكاية معلقة بين الحضور والغياب.
ألقى بجسده المرهق على الأريكة، وراح ينظر حوله.
كل زاوية في هذه الغرفة كانت تحمل أثرها، لمسة من روحها التي لا تزال تطوف في المكان رغم غيابها.
زفر بعمق، وأغمض عينيه، و في تلك اللحظة، ألتقطت عيناه حقيبة يد موضوعة على طاولة الزينة.
كانت حقيبتها، شعر بقلبه ينبض بسرعة غريبة، ووجد نفسه ينهض من مكانه، وكأن طاقة مجهولة تدفعه.
توجه بخطوات ثابتة إلى الطاولة، ومد يده ليمسك بالحقيبة.
فتحها ببطء، وبدأ يفتش بين أغراضها. كان كل شيء بداخلها يحمل رائحتها، أثرها.
فجأة، وقعت عيناه على بطاقة هويتها، حمل البطاقة بيد مرتجفة، وتوقف للحظات يتأمل العنوان المكتوب عليها.
هناك، في زاوية البطاقة، كان مكتوبًا عنوان منزل السيدة خيرية.
رفع رأسه ببطء، وقد اتسعت عيناه بدهشة، تلك الكلمات البسيطة كانت تحمل مفتاحًا جديدًا.
أخذ البطاقة ووضعها في جيبه، وقد اشتعل داخله الأمل من جديد.
"لازم أوصلها!"
قالها بصوت حاسم، وخرج من الغرفة، تاركًا وراءه كل التعب والضياع، عازمًا على المضي نحو وجهته الجديدة.
❈-❈-❈
وصل محمود أمام البيت، أوقف السيارة ونظر إليها بعينين جامدتين قبل أن يخرج.
نبرة صوته كانت هادئة لكنها تحمل تحذيرًا صارخًا:
"زي ما فهمتك وإحنا في الطريق، هيجوا إخواتي ومعاهم المحامي، تتفتح وصية أمي، تمضي على الأوراق اللي هيقولك عليها، وبعدها تمضي لي على التنازل، فاهمة يا قطة؟"
ردت بصوت مرتجف بالكاد يخرج من بين شفتيها
"فاهمة"
لم تمض دقائق حتى كانت تجلس على الكرسي، تشعر بالقلق والخوف.
عيناها تتجولان في المكان، تتأمله كأنها تودعه.
هذا البيت الذي عاشت فيه لحظات من الدفء والحنان أصبح الآن أكثر مكان تخشاه.
شعرت وكأن الجدران تهمس بالغدر، سألت بحذر، وهي تلتقط أنفاسها
"فين المحامي وإخواتك؟"
أشاح وجهه بعيدًا وكأنه منشغل بالهاتف، ثم رد بنبرة لا مبالية
"زمانهم جايين، ما تقلقيش"
توجه نحو الشرفة وهو يتحدث في الهاتف بصوت منخفض
"ألو يا مأمون، إنتم فين؟"
جاءه الرد من الطرف الآخر
"إحنا لسه ما اتحركناش من مكانا، المتر عنده حالة وفاة وأجل الموضوع لبكرة، البت لسه معاك؟"
"آه، ومش هاينفع أسيبها لتهرب"
"خد بالك منها، وأوعي شيطانك القذر يخليك تعمل فيها حاجة، إحنا ما صدقنا لاقيناها لحد ما ناخد حاجتنا، وبعد كده سيبها لحال سبيلها"
ضحك بسخرية خبيثة
"ما تقلقش يا أخويا، هحطها في عيني"
ألتفت نحوها بطرف عينه، فوجدها تنهض بحذر.
أنهى المكالمة سريعًا واقترب منها بخطوات ثابتة، أمسك بذراعها بقوة، بينما يده الأخرى ترفع مديته.
"رايحة فين؟"
بلعت ريقها وهي تحاول السيطرة على ارتجاف صوتها
"رايحة الحمام، ممكن تسيبني؟"
ابتسم ابتسامة خبيثة
"اتفضلي يا حلوة، قدامك خمس دقايق و ترجعي تترزعي على الكرسي"
نظرت إلى المدية بخوف واضح ثم قالت بصوت خافت:
"حاضر"
أسرعت إلى الحمام وأغلقت الباب خلفها، أخذت نفسًا عميقًا وحاولت تهدئة نبضها المتسارع.
نظرت إلى نافذة الحمام التي تطل على الشارع الخلفي، لم تتردد لحظة واحدة. فتحت الصنبور ليغطي صوت المياه على محاولتها فتح النافذة.
كانت النافذة صغيرة، لكنها لم تيأس. فتحتها بحذر دون أن تصدر صوتًا.
عندما نظرت للخارج، رأت أن المسافة بينها وبين الأرض ليست قليلة، لكنها اغمضت عينيها وتمتمت بدعاء سريع قبل أن تضع قدمها على الحافة.
فجأة، سمعت صوت طرقات عنيفة على الباب
"كل ده بتعملي إيه عندك؟"
لم ترد عليه، دفعت نفسها نحو النافذة، لكن صمته لم يدم طويلًا.
دفع الباب بجسده بعنف مرة بعد أخرى، حتى انفتح.
رأى ما كانت تحاول فعله، فصاح بغضب
"يا بنت الـ...، عايزة تهربي؟!"
في لحظة، حملها من خصرها وجذبها بعنف إلى الداخل.
أخذت تصرخ وتقاوم
"سيبني! سيبني يا حيوان"
رد عليها بتهكم ساخر
"إنتي اللي جبتيه لنفسك يا حلوة"
دفعها إلى داخل غرفة وأغلق الباب بقدمه ثم ألقي بها على السرير.
جلست وهي ترتجف، عيناها تملؤهما الرعب
"هتعمل إيه؟ أبعد عني، لاموتك!"
أخذت تبحث بعينيها عن أي شيء تدافع به عن نفسها.
حاولت النهوض لكنه أمسك قدمها بقوة وجذبها نحوه. صرخ وهو يقترب منها
"رايحة فين يا قشطة؟، ده أنا ماسك نفسي عنك بالعافية وقلت أستحمل لحد ما نخلص حوار الورث، لكن حظك خلي الموضوع يتأجل لبكرة، يعني أنا وإنتِ هنفضل لوحدنا، ليلتنا هتكون طويلة"
حاولت المقاومة بكل قوتها، كانت تصرخ وهو يكتم فمها بيده، و بيده الأخرى حاول رفع ثوبها، قائلاً بلهجة مستفزة
"بطلي حركة! خليكي هادية ومطيعة، ده ليلتنا هتبقى حلوة"
فجأة، أزاح يده عن فمها وهمّ بتقبيل شفتيها، لكنها كانت أسرع منه.
عضّته في خده بقوة حتى صرخ من الألم، دفعها بعيدًا وهو يسبّها بأقذر الألفاظ.
و كان في الخارج أمام المنزل، قد وصل رحيم للتو و وقف متأملاً لوحة الرقم المثبتة بجانب الباب.
كانت عيناه تجولان بين الأرقام المدونة على البطاقة في يده وبين تلك المعلقة على الجدار، وكأنه يتأكد من أنه في المكان الصحيح.
وبينما هو على وشك الاقتراب أكثر، تناهى إلى مسامعه صوت صراخ بعيد، بالكاد يصل إليه.
ألقى نظرة سريعة حوله، فكل شيء بدا هادئًا، لكن الصوت استمر، صارخًا، مستغيثًا.
وما إن عبر الفناء حتى تبدلت نبرة الصوت، صارت أوضح، أقرب.
هذا الصوت، لا يمكن أن يخطئه.
إنه صوتها، قلبه تسارع كأنه يدق بعنف في محاولة لتسريع خطاه.
وعندما اقترب من باب الشقة، بدا الصراخ أكثر ارتفاعًا، دفع الباب بقدمه عدة مرات، ولم يتوقف حتى انفتح على مصراعيه.
دخل يلهث من الانفعال، ينادي بصوت عالٍ
"أميرة؟، يا أميرة؟"
و من الداخل، جاء ردها المرتجف مليئًا بالفزع، وكأنها تستغيث بحياتها كلها
"ألحقوني"
اندفع نحو مصدر الصوت بلا تردد، حتى وجدها في غرفة داخلية.
المشهد أمامه أشعل كل غضبه.
كان محمود، ذلك الذئب الجبان فوقها يحاول الاعتداء عليها بلا رحمة.
انفجرت طاقة رحيم في جسده، ولم يدع عقله فرصة للتفكير.
جذبه بعنف من فوق أميرة وسدد له لكمة قوية في وجهه.
تأوه الأخير، لكنه سرعان ما انتفض واقفًا وكأنه يستعد للرد، لكن رحيم كان أسرع، ركله بقوة في معدته، ما جعله يترنح، ثم قبض على نحره بكل قوته ودفعه نحو الحائط.
توسلت أميرة بصوت مخنوق ومذعور
"سيبه يا رحيم، هاتودي نفسك في داهية عشانه، ده كلب ما يستاهلش"
تردد رحيم للحظة وهو يرى نظرات الرجاء في عينيها، لكنه كان بالكاد يستطيع كبح غضبه.
أرخى قبضته عن نحر محمود، لكنه لم يتركه دون أن يبصق على وجهه بازدراء.
"قذر!"
قالها بصوت مليء بالاحتقار، ثم دفعه ليسقط على الأرض يلهث ويكافح لالتقاط أنفاسه.
رفع محمود عينيه نحو رحيم، وصوته مبحوح من أثر الاختناق
"والله، والله لأوريك! انت وهي"
ألتفت رحيم نحو أميرة، يسألها وهو يلهث
"مين ده؟ وإزاي دخل هنا؟"
ردت بصوت مبحوح مشوب بالبكاء
"ده يبقى ابن ماما خيرية، الله يرحمها، شافني وهددني بالمطوه عشان أمشي معاه، قالي إنه لازم أكون موجودة لإعلان الوراثة، لكن طلع كداب، جابني هنا عشان يعمل اللي كان هايعمله زي قبل كده"
جن جنون رحيم عند سماع كلماتها، وألتفت بحدة نحو محمود الذي ما زال مرميًا على الأرض.
دون تفكير، سدد له ركلة قوية في وجهه جعلته يتلوى من الألم ويتأوه بشدة.
تقدمت أميرة بخوف، ممسكة بذراعه
"بالله عليك كفاية يا رحيم، أنت مش ناقص مصيبة تانية بسببي"
نظر إليها، وإذا به يرى في عينيها خليطًا من الذعر والخوف.
لم تكن تخشى محمود فقط، بل كان خوفها عليه، من أن تؤدي أفعاله الغاضبة إلى شيء أكبر.
هدأ قليلًا، أنزل يديه وهو يكتم غضبه، ثم نظر نحو محمود الذي ما زال متلوّيًا
وعاد بنظره نحو أميرة، ليجدها تجهش بالبكاء، اقترب منها وربت على كتفها بخفة، محاولًا تهدئتها
"خلاص، أنا هنا، محدش هيقدر يأذيكي تاني"
مرت ثوانٍ معدودة قبل أن تجد نفسها جالسة في سيارة رحيم، تنطلق بأقصى سرعة، بعيدًا عن تلك الحارة الضيقة المظلمة.
❈-❈-❈
وقفت أمام الموقد تُقلب بيديها المرتجفتين وعينيها المُرهقتين محتويات القدر، تُحضر طعاماً لابنها.
في الخلفية كانت الهمسات الخافتة من بعض الخدم تتسلل إلى أذنيها، تثير فضولها وتُشعل حنقها.
قالت إحداهن بنبرة خافتة لكنها مشحونة بالفضول
"هي إيه حكاية اللي اسمها دودا؟، دي تاني مرة شيري هانم تعزمها في نفس الأسبوع"
ردت الأخرى بتعجل، كأنها تحمل سراً كبيراً
"أنا سمعت امبارح شيري هانم وهي بتتكلم مع مدام انتصار، قالتلها تحضر الأوضة اللي جمب أوضة أحمد بيه، اللي فهمته إنها هتيجي تقعد هنا، بس هموت وأعرف هتقعد هنا بصفتها إيه؟!"
لم تُكمل الثانية عبارتها حتى أردفت الأولى بابتسامة خبيثة
"مش محتاجة ذكاء يا ناصحة، واضحة أوي، شكل شيري هانم هتجوزها له، يا عيني عليكي يا ست علا، هتلاقيها منين ولا منين"
لكزتها زميلتها في خصرها وهي تهمس بتحذير
"وطي صوتك، لتسمعك وتعمل لنا مشكلة"
لم تمض لحظات حتى ظهرت مديرة الخدم انتصار بوجه متجهم وملامح جامدة تعكس قسوة داخلية.
وقفت أمام علا وقالت بلهجة جافة
"مدام شيري بتقولك جهزي السفرة وما تنسيش الفروت سالاد بتاع مدموزيل داليا"
رفعت علا رأسها ببطء وحدقت في الأخرى بنظرة غاضبة، شعاع من النار كان يتقد في عينيها وهي ترد بحزم
"تمام، هآكل الولد وهاعمل اللي قولتي عليه"
لكن انتصار بعنجهيتها المعهودة، لم تدع الحوار ينتهي عند هذا الحد.
نظرت إلى العاملات اللواتي وقفن يتابعن الموقف وكأنهن يشاهدن مشهداً مسرحياً، ثم التفتت إلى علا وقالت ببرود
"الولد سيبيه للناني تأكله، وأنتي اتفضلي على شغلك"
شعرت علا بالضيق، لكنها لم تُخفِ غضبها وهي ترد بصوت لم يخلُ من تحد
"إنتي بتتكلمي معايا كده ليه؟"
أجابت انتصار بلهجة متعالية
"عشان أنا هنا مديرة كل اللي بيشتغلوا في الفيلا، واللي من ضمنهم أنتي"
ارتفع حاجبا علا في تعجب ساخر، ثم قالت بتحد واضح
"طيب روحي لشيريهان هانم اللي مشغلاكي، وقوليلها علا لما تأكل ابنها هتحضر السفرة والسم الهاري بتاع الآنسة داليا"
تصاعدت الضحكات المكتومة من العاملات الواقفات بجوار الموقد، لكنهن صمتن سريعاً حين التفتت إليهن انتصار بنظرة صارمة، كأنها تُهددهن بالعقاب. عادت بنظراتها إلى علا، التي كانت تتابعها بملامح غاضبة ممتزجة بالازدراء، وقالت بوعيد واضح
"تمام، هاروح أبلغها بكلامك واتحملي النتيجة"
ردت الأخرى بنبرة مقتضبة، مفعمة بالاشمئزاز
"براحتك"
ثم تركت انتصار المكان بخطوات متوترة، بينما بقيت علا أمام الموقد، تقبض الملعقة بيدٍ مشدودة وكأنها تُمسك بآخر خيط من صبرها.
❈-❈-❈
توقفت السيارة فجأة على شاطئ البحر، فكان البحر أمامها واسعًا، مياهه تلامس السماء في امتداد غير محدود.
نظر إليها نظرة سريعة قبل أن يصدر أمره ببرود
"انزلي"
نزلت من السيارة، وهو يتبعها عن كثب. وقفا على الشاطئ، حيث كانت الأمواج تتكسر على الصخور بينما هو يقف أمامها، غاضبًا للمرة الأولى. كانت تلك هي المرة الأولى التي ترى فيها ملامحه تحمل هذا القدر من الغضب.
سألها بصوتٍ قاسي، حاملاً في طياته عتابًا ثقيلًا
"هربتي ليه من الفيلا؟"
لم تجب، بل غاصت أفكارها في ذكريات مؤلمة، حينما صمَّت والدته أذنيها بكلمات لاذعة، ملأت قلبها بالحزن والمرارة، واتهمتها بأنها مجرد فتاة من الشارع! تجمعت الدموع في عينيها، قبل أن تقول بصوت يكاد ينكسر
"لأن مكنش ينفع أقعد في بيت حد لا أعرفه، ولا يعرفني، وما بحبش اتحط في محل اتهامات"
أدرك من ملامحها أنها قد سمعت حديث والدته، وفجأة وقبل أن ينبس بكلمة أخرى، قالت له
"دكتور رحيم، أنت راجل جدع وطيب ومحترم، وابن ناس، ومالكش ذنب أنك تتورط معايا ولا تعمل مشكلة مع والدتك عشاني"
حدق نحوها بحدة، نبرته تعكس قسوة لم تعهدها
"أنتي جبانة"
شعرت بكلماته وكأنها صاعقة ضربت أذنيها.
نظرت إليه في دهشة وامتزجت مشاعرها بالضيق، ثم اقترب منها أكثر، حتى أصبحت المسافة بينهما معدومة، وقال
"أيوه جبانة، ما بتعرفيش تواجهي، وكل ما بيحصلك مشكلة بتهربي، ممكن تقوليلي أخرة هروبك ده بيبقى إيه؟"
وقفت صامتة، لا تملك من الكلمات ما تدافع به عن نفسها. لكن رحيم أكمل حديثه بنبرة صارمة
"أخرتها زي اللي كان هايحصلك من شوية قبل ما أجي وأنقذك من إيد الكلب اللي كان...
قاطعته بغضبٍ غير متوقع، وانفجرت بالبكاء، وأدرَت ظهرها له حتى لا يرى دموعها.
كان شعور الأسف يعتصر قلبه لرؤية ضعفها بهذا الشكل، لكن كلماته كانت قد سببت ألمًا عميقًا لها.
قالت بصوتٍ مبحوح من بين دموعها، وهي تلتفت إليه
" أيوه أنا جبانة، ماليش حد، معرفش مين أنا، الكل بيتهمني إن واحدة...
كانت تمسح دموعها بيديها، وعينيها تغرقان في بحر من الألم.
أخرج من جيبه محرمة ورقية، وكاد يمسح بها دموعها، لكنه توقف، معتذرًا قائلاً
"أنا آسف"
لكنها جذبت المحرمة منه، وجففت دموعها بنفسها، قائلة بصوت ضعيف ولكن عميق
"ما تعتذرش يا دكتور، أنا اللي المفروض اعتذرلك، وعمري ما هنسي وقفتك معايا، وجميلك هايفضل في رقبتي"
نظرت إلى البحر من حولها، كانت نظراتها تتنقل بين المدى المفتوح والموج المتكسر.
وبشعور بالضيق العميق اخبرته
"مع السلامة يا دكتور"
همت بالرحيل، إلا أنه أوقفها بكلماتٍ كانت بمثابة صدمة لم تتوقعها.
قال لها بصوتٍ جاد، يبدو وكأنها جزء من حلم غير واقعي
"تتجوزيني؟"
❈-❈-❈
في غرفة الطعام، كانت قد انتهت من إعداد السفرة بعناية.
الأطباق موضوعة بإتقان، والملاعق تلمع تحت وهج الضوء، وكأن كل شيء في مكانه ينطق بالأناقة والاهتمام.
دخلت شيريهان وجهها عابس ونظراتها حادة تنبئ بعاصفة لا مفر منها.
جلست على الكرسي، تستند بظهرها بإظهار متعمد لعدم الارتياح.
كان واضحاً من نظراتها الحادة أن انتصار قد ملأت أذنيها بكل صغيرة وكبيرة، وأنها جاءت محملة برسالة تفيض بالسخرية والانتقام.
لم يمر وقت طويل حتى دخلت داليا بخطوات خفيفة ممزوجة بدلال سافر، وكأنها تعتلي مسرحاً تنتظر التصفيق.
جلست على الكرسي المقابل لـشيريهان، ثم قالت بلهجة تتصنع البراءة
"هاي شيري، معلش اتأخرنا عليكي، أصل الطريق كان زحمة قوي، وميدو حبيبي اضطر يمشي من طريق تاني بس طويل أوي وخدنا وقت"
علا التي كانت منشغلة بصب الماء من الدورق، أرهفت السمع بلا وعي وانسابت يدها لتسكب أكثر مما يتحمل الكوب. ارتطمت قطرات الماء بالصينية، مما دفع شيريهان لتصيح بحدة
"ما تاخدي بالك من شغلك بدل ما انتي رامية ودانك معانا، طبعاً ما دي عادة الخدامين، تلميع الأوكر"
توقفت علا لبرهة، رفعت عينيها ببطء ونظرت إلى شيريهان نظرة مشبعة بالاشمئزاز، كأنما تقول بلا كلمات إنها تتجاوز كل الحدود.
لكن تلك النظرة أشعلت الغضب في عيني شيريهان، التي وقفت بغتة واقتربت منها بخطوات متوترة، وقالت بسخرية
"إيه؟، كلامي جه على الجرح؟!"
تنهّدت علا وهي تحاول كبح أعصابها التي بدأت تفلت منها، ثم ردّت باقتضاب
"السفرة جهزت، عن إذنك"
أدارت ظهرها مستعدة للخروج من الموقف الذي يكاد يخنقها، ولكن صوت شيريهان أتى صارماً كالسيف
"اقفي عندك"
تجمدت قدما علا في مكانهما، وأدركت أن تلك المواجهة لن تنتهي هنا.
كانت تعلم أن حماتها، لن تضيع الفرصة لتمزيق كبريائها أمام الجميع.
وفي تلك اللحظة دخل أحمد بخطوات واثقة، فلفت وجوده انتباه الجميع.
نظر إلى علا ثم توقفت عيناه عندها لوهلة، وكأن بينهما لغة سرية لا يفهمها أحد.
و بالطبع لم تغفل والدته عن تبادل النظرات بين ابنها وزوجته، شعرت بالغليان يتصاعد في صدرها.
حركت رأسها نحوه وهي تسأل بابتسامة مصطنعة تكسوها نبرة متعمدة لإثارة الغيرة
"إيه الأخبار يا حبيبي؟ مش ناوي تفرحني إنت وداليا؟!"
لم تنتبه علا في البداية إلى ما قيل، أو بالأحرى تظاهرت بعدم الاكتراث، لكنها شعرت بسهم في قلبها حين أدركت القصد من الكلام.
حاولت الخروج سريعاً لتتجنب مزيداً من الألم، ولكنها توقفت فجأة كأن قدميها قد تجمدتا في الأرض.
السبب لم يكن صوت حماتها هذه المرة، بل كان الرد الذي أتى من أحمد نفسه.
قال بنبرة هادئة ولكن حاسمة، كأنه يقطع بحكم لا رجعة فيه
"بعد يومين إن شاء الله"
كلمات قليلة، لكنها كانت كفيلة بأن تجعل عالم بأسره ينهار بصمت، وكأن الحياة انسحبت فجأة من ملامح وجهها.
غادرت الغرفة بخطوات مثقلة بالألم، وهي تدرك أن العاصفة لم تهدأ بعد، بل على العكس، ستزداد شراسة في الأيام القادمة.
وإذا بالصغير يركض نحو والدته، يختنق بالبكاء، ويردد بنبرة مفجوعة
"ماما، ماما!"
ألتفتت إليه سريعًا، ودنت منه بحنان جارف، ضمته إلى صدرها بحماية أم ترى في صغيرها كل العالم.
نظرت إلى المربية بنظرات ممتزجة بالغضب والقلق، وكأن عينيها تسأل بلا كلمات
"حصل إيه؟"
تحاول المربية تبرير الموقف بصوت مضطرب
"كنا بنلعب، وفجأة لاقيناه بيعيط وبيقول عايز حضرتك"
ارتمي الصغير في حضن أمه كمن وجد الأمان الذي كان مفقودًا.
راحت تمسد على ظهره برفق، وقالت بصوت خفيض يفيض حنانًا
"مالك يا حبيبي؟ بتعيط ليه؟"
رفع الصغير رأسه، وعيناه تغرقان في دموع بريئة، وقال بصوت متقطع
"حمزة عايز يروح بيتنا، هنا وحش"
اقترب أحمد، الذي كان يراقب المشهد بصمت، وانحنى قليلًا ليراعي مستوى الصغير، ثم مسح على ظهره بلطف وقال "حمزة حبيبي، تعالَ هنا عندي"
لكن حمزة، في تمرد طفولي حاد، نفض جسده عنه، وتمسك أكثر بحضن والدته، وهو يرفع صوته
"أنا مش بحبك، أنت بتزعل ماما، ومش بحب نناه، بتزعل ماما"
ألتفت أحمد نحو علا، التي كانت تحملق فيه بنظرات تحمل عتابًا أشد من ألف كلمة.
حاولت علا تهدئة صغيرها، فابتسمت بحزن خفي
"مفيش حد يقدر يزعلني طول ما أنت موجود معايا يا حبيبي"
ثم أبعدت رأسه عن صدرها برفق، أحاطت وجهه بيديها كأنها تمسح عن وجنتيه غبار الألم
"ممكن نبطل عياط ونشوف أحلى ضحكة؟"
وكأن كلماتها عصا سحرية، توقف حمزة عن البكاء، وابتسم ببراءة ملأت الغرفة دفئًا.
فتحت ذراعيها على وسعهما، وارتمى بينهما كأنه يذوب في عناقها، وهي تغمض عينيها، كأنها تخبئه من هذا العالم القاسي.
وقف أحمد يراقب المشهد بصمت، وتسلل إلى قلبه شعور مختلط بالغبطة والغيرة، تمنى لو كان بإمكانه أن يحظى بجزء ولو ضئيل من ذلك الحب المتدفق، من ذلك الحنان الذي بدا وكأنه لا ينضب.
قطعت علا لحظات السكون بقولها
"يلا يا حمزة، حبيب ماما روح مع الناني وأنا جاية وراك"
أطاع الصغير أوامرها دون تردد، وغادر الغرفة، بينما بقيت هي تتابع أثره بعينيها حتى اختفى عن الأنظار، ثم التفتت نحو زوجها الذي كان ما يزال يحدق بها، وقالت بلهجة حازمة
"أظن سمعت بودانك وشوفت بعينيك الحالة اللي وصل لها ابني بسببك وبسبب الست والدتك، ياريت ومن غير جدال تطلقني، وكل واحد يروح لحاله"
لم يمهلها الوقت للرد، إذ انطلقت شيريهان بنبرة لا تخلو من الاستعلاء
"حفيدي مالوش مكان غير بيت أهل أبوه الله يرحمه، إنما إنتِ لو مش عاجبك عيشة الفلل والقصور، أو مش متعودة عليها، اتفضلي ارجعي للحارة اللي كنتِ عايشة فيها"
التفتت علا إليها، والشرر يتطاير من عينيها، وردت بحدة
"أنا موجهتش الكلام ليكي، ولولا إنك ست كبيرة في سن والدتي، كان هيبقى ليَّ رد تاني خالص على اللي بتعمليه معايا"
تدخل أحمد بلهجة صارمة، محذرًا إياها
"علا، احترمي نفسك وخدي بالك إنك بتتكلمي مع أمي"
انفجرت الأخرى غير قادرة على كبح جماح غضبها المكبوت
"مش لما تحترموا نفسكم أنتم الأول!، أنا من وقت ما جيت المكان الملعون ده وأنا بتذل وبتهان، وأنت شايف وسامع وبتكمل عليَّ، كان عندي حق لما ما صدقتش الأوهام ولا الكدب اللي كنت بتحاول تقنعني بيه، ومش هاستغرب أنت ليه عملت كده، لأنك ابن شيريهان هانم، ابن أمك....
وقبل أن تنهي عبارتها، باغتها بصفعة مدوية، تردد صداها بين جدران الغرفة، تاركة الجميع في صدمة مروعة!
يتبع..
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا