القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية لأنه موسى الفصل الثاني 2 بقلم ماهى أحمد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)

 رواية لأنه موسى الفصل الثاني 2 بقلم ماهى أحمد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)






رواية لأنه موسى الفصل الثاني 2 بقلم ماهى أحمد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)


الرَضَا قَبل التَجديِد 


في حضن العائله، تذوب كل المسافات، وتعود الروح طفله تلهو بين أحاديثهم وضحكاتهم هُناك فقط، تشعر أن العالم مهما ضاق، يتّسع بين دفء قلوبهم ، تجمعهم ليس وقتًا يمضي، بل وطن يُعيد إليك نفسك كلما ضعتها.


                            ❧❀❧


لم يكن مجرد باب الذكريات يُفتح ، بل كان كبوابه الجحيم بالنسبه لها وكأنها  المره الأولى بالنسبه لـ 

" نعيمه " التي تروي بها ما حدث ، مشاهد سريعه مرت في رأسها ورافقتها دمعتها ، يدها تُمسك بطرف ثوبها وكأنها تحاول أن تُثبّت نفسها ، عيناها غارقتان في بئرٍ من الحزن، لكنهما ما زالتا تحملان ظلالاً باهته من الذكريات أخذت نفسًا عميقًا، وكأنها تستجمع شجاعتها من قلب الألم، ثم بدأت بصوتٍ مبحوح يكاد يُسمع:


ـ الحكايه بدأت يوم رأس السنه الصبح ٣١ ديسمبر 

2023 ، مش فاكره الساعه الكام بالظبط بس كل اللي فكراه انه كان قبل الفجر 


كانت كل كلمه تخرج من فمها ثقيله، وكأنها تجرّ وراءها جبالًا من الألم وجهها كان لوحه من التعب، لكنه في ذات الوقت كان يحكي عن أمٍ لم تتخلّ يومًا عن حبها، حتى بعد أن أطفأ القدر شموع أبنائُها واحدًا تلو الآخر ، رأى هو  مقدار الألم في عيُنها فأوقفها عن تكملت حديثها بقول : 


ـ لو مش فاكره الوقت أوي مش مهم الوقت المهم 


بتر حديثه نظرة عيناها ، نظره بعثت بما داخلها من غيظ حين قاطعها، حثها على الهدوء طالباً منها أسفًا : 


ـ اسف ، كملي ياحجه نعيمه 


وما ان سمعته يهتف بأسمها طالعته بنظره جعلته يرتبك يبتعد بنظره عنها ثم هتفت بقهر مرارته في حلقها كالعلقم ولاحت بسمه على شفاهه غير متعمده تبحر في ذكرياتها حين  أشرقت الشمس بخيوطها الذهبيه لتدفيء الأرواح المتعبه  ، كانت " نعيمه " تقف  بمنتصف غرفة "نوح "تستطيع أن ترى الغرفه صغيره وبسيطه ، سريران متجاوران؛ أحدهما له والآخر لأخيه "ادم "  ، وبينهما مكتب خشبي يحمل حاسوباً قديمًا ، ودولاب متهالك يوجد بالزاويه أبوابه تميل الى الصرير عند فتحها  ، وأعلى الغرفه مروحة سقف تدور بتثاقل تصدر صوتاً خفيفاً يغني عن الصمت ، الجدران سوداء تتخللها رسومات خضراء متناثره ، وشباك صغير يسمح لأشعه خافته بالتسلل، تمنح المكان حياه رغم عتمته طالعت " نعيمه " السقف ثم ضربت بكف يدها على صدرها صارخه  : 


ـ يــالهـــوي ، ايه اللي انا شيفاه ده  ، ليه يابني  مشغل المروحه ومتغطي بالبطانيه واحنا في عز ديسمبر 


أخرج رأسه من تحت الغطاء يخبرها ساخراً بنبره ناعسه  : 


ـ عشان ابرد البطانيه ، اصلها سخنت من كتر ما بتغطيني 


ـ وحياة امك !! 


امتعض مما قالته سائلاً : 


ـ ايه وحياة أمك دي في ست كبيره عدت الخمسين تقول وحياة امك برضوا 


شهقت وهي ترد بنبره ساخره : 


ـ اومال اسمها ايه ياعنيا 


أخبرها يعيد الغطاء على وجهه مجدداً : 


ـ اسمها وحياة  الست والدتك هنفضل نعلم فيكم لحد أمتى بقى


وقفت هي تنظر إلى ابنها الذي يتكور تحت الغطاء يحتمي به من نداءاتها المتكرره هذا هو  " نوح " الأبن الثالث لها شاب في السابع والعشرون من عمره كتله من الطاقه تتحرك هنا وهناك كانت ملامحهُ تشبه والدهُ كثيراً ، شعر بني كثيف وعين واسعه تسلبك كالمسحور  مع لحيه ملساء ، وكعادته كعادة معظم الشباب المصريين  أنهى دراسته في إدارة الأعمال، ورغم تفوقه الدائم على دفعته، إلا أن معيدًا آخر أخذ مكانه ومنذ تلك اللحظه ، أدرك أن هذه البلد تسير بالوساطات والمعارف، وأن الأبواب تفتح فقط لمن يملك المال فقرر أن يصبح غنيًا بأي وسيله ، مهما كلفه الأمر وبالرغم مما حدث لهُ لكنه لم يتخلى عن ابتسامته الرائعه التي تزيد وسامته 


تكرر نداء "نعيمه" له دون جدوى فقررت  أن تُنهي هذا الصراع الصباحي المعتاد بحيله قديمه ، فأخذت الوساده وألقتها عليه بخفه لكنها أصابت الهدف بدقه : 


ـ يانوح اصحى الدنيا راحت وانا لسه بصحي فيك من قبل الفجر 


أخرج رأسه من تحت الغطاء مجدداً يخبرها بنبره ساخره :


ـ هو الفجر كان محتاجني في حاجه؟ سبيني نايم، الدنيا ماشيه من غيري


اقتربت منه تحاول أن تزيل الغطاء من فوق رأسه هاتفه تقلد نبرته فيما قاله  : 


ـ لا ، وحياة الست والدتك  ، النهارده بالذات الدنيا مش ماشيه من غيرك  ، ما تنساش إن فرن العيش مستنيك مين هيعجن ، ومين هيخبز الدور عليك


نزع الغطاء من على رأسه يعتدل في نومته :


ـ يا ساتر يارب ، فرن العيش يعني لو ما قمتش دلوقتي، العيش هيشتكيني لمجلس الأمن ، لو معملتش العيش النهارده الدنيا هتنهار، الصحافه هتكتب عن الكارثه


فلتت ضحكه منها ولكنها أضافت بصوت يحمل مزيجًا من الإصرار : 


ـ  اهل الحاره  هما اللي هيعلنوا المجاعه من غيرك ، وقوم بقى بدل والله 


قبضت على خفها بكف يدها ، تتخذه سلاح قوي كحال جميع الأمهات ولكنهُ وقف وأستقام راكضًا الى الحمام يخبرها وهو يهرول : 


ـ خلاص اهوه قومت ، قومت والله 


ابتسمت ترتدي خفها من جديد تطالع الفراش المجاور  لكنها وجدته خاوياً  شهقت بصدمه وهي تقول   : 


ـ يانهار ابيض الواد ادم فين ،  يا أدم 


آدم، أصغر أولادها في الثانيه والعشرون من عمره  جاء في لحظه لم تكن تتوقعها  لم ترغب في الحمل مرة أخرى، ولكن شاءت الأقدار أن يأتي

وُلد مصابًا بمرض نقص " الميلانين" في البشره والشعر والعينين، مما جعل هيئته ذو بشره وشعر  ورموش بيضاء، بالإضافة إلى معاناته من "اضطراب طيف التوحد "، وهو مرض يمنعه من التفاعل الاجتماعي ويجعله يتبع أنماطًا سلوكيه متكرره، مثل الامتناع عن لمس الآخرين أو استخدام حمام غير حمامه الخاص

رغم ذكائه الفائق، إلا أنه يقع بسهوله في فخ الاستغلال، ولا يستطيع التصرف بمفرده ..  في عامه الأخير من دراسته بكلية الحقوق، يعشق المحاماه ولديه القدره على حل أصعب القضايا، لكن الجميع يستغله وينسب حلوله لأنفسهم، وهو ما يكشف عن ضعف شخصيته


هرولت "نعيمه" خارج الغرفه تصيح بأسمه تتنقل بين الغرفه والأخرى تفتح الواحد تلو الاخر ، رفعت الستائر  كانت عينيها تنتقلان بذعر وقلبها يضج بالقلق ، بينما كانت تسير في الممر اصطدمت فجأه  بأبنها الاكبر طالعها بابتسامته الواسعه يحاول بها أخفاء همه المتراكم أنه " لقمان" أو كما يقال كابتن "لقمان" مهنته هي التدريس ولكنه لم يكتفِ بذلك بعد انتهاء يومه الدراسي، يعمل ككابتن في " الصاله الرياضيه  "  ليتمكن من تأمين مستقبله وتوفير ما يلزم للزواج ، عينان سوداء تشبهان عيون والدته ، بشرته السمراء وجسده الرياضي يجسدان روح الشباب والطموح في الأشهر القليله القادمه ، سيتزوج من الفتاه التي لطالما تمناها  بعد أن اجتهد ليحسن وضعه يعمل ليلًا ونهارًا، ويمنع نفسه عن الدروس الخصوصيه التي يعتبرها حرامًا، مُؤْمِنًا بأهمية كسب الرزق الحلال. 


نشف "لقمان"  رأسه بالمنشفه بعدما توضأ لأداء صلاة الفجر ابتسم ابتسامه هادئه تبعث عن حنيته التي يكمنها بداخله يلقي عليها الصباح بنبره هادئه :


ـ صباح الخير يا أمي 


ردت عليه بنبره مبطنه بالقلق:


ـ يسعد صباحك ياعين أمك 


هز رأسه سائلاً يتصنع عدم معرفه ما يقلقها :


ـ مالك يا أمي عينك رايحه جايه في الشقه ، بدوري على حاجه 


أخبرته بنبره مرتجفه وقلق واضح : 


ـ ادم ، الحق ادم يالقمان مش موجود في سريره


في تلك اللحظه خرج   " انس " من غُرفته   وترتيبه الرابع من بين ابنائها اتكىء على طرف الباب  ،  وجهه نصف نائم لكن شقاوته حاضره ، أقترب بهدوء وكزها بمرح  أسفل خصرها بأصبعه وهو يصدر صوتًا مازحاً بقول : 


ـ اوعى الفنكوش ، صباح الخير يانعناعه 


انُه "انس"  شاب في الخامسه والعشرين، قلبه معلق بالمطبخ أكثر من أي شيء آخر يخبز ويطبخ بأيديٍ محترفة، ويبتكر وصفات تأسر القلوب قبل الأذواق لديه صفحه على موقع " التيك توك "، يعرض فيها أشهى الأطباق، وكل وصفه يشاركها تحمل شغفًا حقيقيًا ، رغم ذلك لم يحقق الحظ ما حلم به  أن يصبح شيفًا معروفًا، أن يفتح مطعمًا يرتاده الناس من كل أنحاء العالم، لكن الحياه كانت تأخذ مسارًا آخر وبينما ينتظر تلك اللحظه التي ستتغير فيها كل الأشياء ، يعمل حاليًا رجل إطفاء، وسط المغامرات التي طالما حلم بها، يساعد الناس ويعيش لحظات مليئه بالتحدي والمخاطره ، وفي قلبه لا يزال يحتفظ بأمل كبير، كل يوم يقترب من تحقيق حلمه، يطبخ فيه بصبر، ويعيش مغامراته كما لو أن الحياه نفسها هي طبق يسعى لإتقانه.


رفعت  "نعيمه " حاجبيها بغيظ ناطقه : 


ـ صباح ايه وزفت ايه على دماغك أخوكم فين 


ابتسم " لقمان " وحاول تهدئتها : 


ـ اهدي يانعيمه شويه ماتقلقيش عليه هتلاقي جوه نايم في أوضتنا انا وأنس 


صحح  " أنس " لهُ حديثه يشير بأصبعه على نفسه : 


ـ قصدك في أوضــتـــي ، وحط تحت كلمة اوضتي دي عشروميت خط أنتَ خلاص كلها كام شهر وتتجوز انا سايبك تنام في الأوضه من كرم أخلاقي بس 


رفع "لقمان" المنشفه ينشف بها ماتبقى من الماء على وجهه وتحرك للأمام يفرش سجاده الصلاه قائلاً : 


ـ طب ياسيدي متشكرين ده كتير علينا والله 


مرت "نعيمه" بجانب "أنس" بخطوات سريعه التفت لها يخبرها بلا مبالاه : 


ـ اهوه نايم جوه ماتخافيش عليه اوي كده 


تابعت "نعيمه" سيرها دون أن تلتفت إليه، وكأنها تعرف أن أي رد عليه سيكون بلا جدوى دخلت الغرفه بسرعه ووقفت للحظه تتأمل" آدم "النائم بهدوء على السرير تنهدت بارتياح وكأنها أخيرًا وجدت السلام بعد معركه طويله ، ثم اقتربت وجلست بجانبه، تنظر إلى ملامحه الهادئه والبريئه مدت كف يدها تأمل أن تمرر اصابعها بين خصلات شعره الأبيض برفق، وهي تهمس:


ـ أدم .. ادم اصحى ياحبيبي ، يلا بقى كل ده نوم 


لم تتلقى رد ،  فرد عليها " أنس" وهو مازال مستنداً على الباب : 


ـ مش هيصحى، طول الليل قاعد يسهر على التليفون كأنه بيخطط لغزو القمر أنا لو منك


أشار برأسه نحو زجاجة ماء مثلجه موضوعه على الكومود بجانبها : 


شوية ميه ساقعه متلجه هتفوقه أسرع من كلامك الطيب ده


التفتت إليه "نعيمه"، وهي تحاول كتم ضحكتها قائله:


ـ إنت مش بني آدم ،  عايزني أصحي أخوك ولا أغرقه


رد أنس مبتسمًا بخبث:


ـ ما هو لما يفوق ويشوف البلل، هيقتنع إنه نام في البحر... وأنتِ عارفه هو بيحب البحر قد ايه ابقى انا كده غلطان ده انا حتى بعمل خير 


ردت ساخره على حديثه  : 


ـ لا ،  وانتَ في فعل الخير ماقولكش انتَ ونوح 


سمعت صوت "نوح "  يأتي من الخارج قائلاً : 


ـ وانا مالي انا يانعناعه هو اي حاجه لازم اسمي ييجي فيها 


هزت رأسها بيأس وأردفت بقول: 


ـ مافيش فايده فيكم 


أشارت برأسها لأنس قائلة بحزم:


ــ روح ادخل الحمام يلا واغسل وشك، يومنا النهارده طويل.


غادر "أنس" الغرفه دون أن يعترض، تاركًا خلفه هدوءًا مشوبًا بشيء من التوتر التفتت إلى آدم، الذي كان مستلقيًا على السرير، عينيه مغمضتين بتظاهرٍ مكشوف اقتربت منه بخطوات هادئه

وبصوتٍ هادئ، كأنها تخشى أن تزعج صمته:


ــ آدم... يا آدم، أنا عارفه إنك صاحي ياحبيبي  مش نايم قولي بقى، إيه اللي منومك هنا؟ انا عارفه أنك ما بتعرفش تنام غير على سريرك.


لم تتلقى رد الهواء بينهما ثقيل، كما لو أن الكلمات قد تجمدت في حلقه غيّرت نبرة صوتها إلى شيء أكثر حده، محاوله أن تخترق جدار صمته:


ــ قولي... نوح ضايقك امبارح؟ قولي، وأنا أخلّص عليه.


تحرك آدم أخيرًا اعتدل في سريره، لكنه لم ينظر إليها أومأ برأسه في حركه صغيره، كأن الإجابه أثقل من أن تُقال ابتسمت بحنان ومدت يدها لتربت على كتفه، لكن عندما اقتربت، انتفض مبتعدًا، وكأن لمسها لهُ بمثابة قذيفه انفجرت داخله


توقفت يدها في منتصف الطريق، ثم سحبتها بحزن دون أن تظهره ، كان واضحًا أن كل محاوله لتقريبه تزداد صعوبه ، كما لو أنه يبتعد كلما اقتربت سألته بصوتٍ خافت، متحاشيه كسر الصمت مره أخرى:


ــ طب قولي، عملك إيه؟


ظل صامتًا للحظه، ثم قال بصوت منخفض، كأن الكلمات صعبه على قلبه:


ــ الدنيا كانت ساقعه أوي امبارح، ونوح كان مشغل المروحه قولتله يطفيها، مرديش كنت بردان أوي فضلت طول الليل قاعد بره وزهقان... مش بعرف أنام غير على سريري


توقف قليلاً كما لو أن الكلمات ترفض أن تخرج ثم أكمل بصعوبه:


ــ أنس شافني صاحي، ماسألنيش حتى أنتَ صاحي ليه؟ بعدها لقمان شافني قاعد على الموبايل، ماسبنيش الا اما نمت وراح نام هو على الكنبه بره خلاني أنام في سريره بس أنا... أنا مش بعرف أنام جنب حد


نظر إلى الأرض، كأن الكلمات تخرج بصعوبه ثم أضاف:


ــ أنا زعلان... عشان خليت لقمان ينام على الكنبه الدنيا كانت برد عليه أوي بس ، بس أنا مش بعرف أعمل حاجه


ارتعشت يديه وهو يقبض عليهما، كأن البرد لا يزال يلاحقه، كما لو أن المعركه مع النوم كانت لا تزال مستمره بقيت هي تنظر إليه بصمت، مدركه أن الكلمات ليست ما يحتاج إليها، بل فقط مساحه ليشعر بالأمان، ليُفرغ ما بداخله دون أن يشعر بالذنب فنطقت تهون عليه سائله : 


ـ وليه  ماقولتش للقمان ان نوح مشغل المروحه كان دخل طفاها وكل واحد نام في سريره 


رد وهو ميقن ما سيحدث : 


ـ علشان لقمان مكانش هيسيب نوح وهيتخانق معاه زي كل مره عشاني ، وهما لما بيتخانقوا بيقعدوا بالأيام مش بيكلموا بعض وببقى انا السبب في خناقهم ده 


ابتسمت بتفهم تهز رأسها بالأجابه : 


ـ عين العقل ياحبيبي ، اللي عملته هو الصح بس الغلط بقى انك مجيتش صحتني وقولتلي ، كنت انا هتصرف معاه 


رد مسرعاً : 


ـ ما أنتِ أول ما بتمشي ياماما بيقعد يزعقلي عشان صحيتك هو أصلاً مش بيعمل حساب لحد غير موسى 


أكمل حديثه باهتمام سائلاً :


ـ هو موسى مابيكلمكيش


تنهدت " نعيمه " بسأم حين شردت في ذكرى مؤلمه تجمعها بينها وبين هذا الأبن الغائب  تسترجع مشهداً طواه الزمن : 


"ماتسبنيش يا ماما، ماتسبنيش، مش عايز أروح معاه، مش هقدر من غيرك ، أنا خايف "


قطع شرودها صوت "آدم"  الذي رمقها بنظره قلقه قائلاً:


ـ ماما، سكتي ليه؟


انتفضت كمن استيقظ فجأه  من حلم طويل، رفعت عينيها إليه وقالت بارتباك:


ـ إيه؟ كنت بتقول حاجه؟


ردّ بصوت خافت لكنه ممتلئ بالفضول:


ـ موسى ما اتصلش 


تغيّرت ملامحها قليلًا، خليط من القلق والانزعاج بدا جليًا على وجهها، وقالت بلهجه تحمل في طياتها شيئًا من الأمل المتردد:


ـ لاء، ما اتصلش... بس قلبي بيقولي إنه ممكن ييجي النهارده


هزت رأسها بابتسامه مصطنعه تحثه على النهوض : 


ـ يلا  ، يلا قوم اغسل وشك كده ،  عشان نفطر وتروح جامعتك وانا هاروح احضرلك حمامك حالاً وماتقلقش غيرت القفل بتاع الحمام والمفتاح معايا انا بس ،  عشان الواد نوح  ولا الواد  انس مايعرفوش  يستخدموه  ويضايقوك زي المره اللي فاتت 


هز رأسه مبتسمًا، راضيًا عن كلمات والدته، فهي تعلم جيدًا أن"  آدم " لا يستطيع استخدام حمام شخص آخر غير حمامه الخاص حتى إذا اضطر لدخول حمام غيره، كان يعقمه بالمنظفات ويظل طوال اليوم يعاني من صعوبه في دخوله مره أخرى، خوفًا من أثر وجود شخص آخر فيه


.                        .                            .           .


          .                             .                    . 


.                       .                            .             . 


في قلب الشتاء القاسي، حيث الرياح البارده ، كان بيت " ال موسى "  يحتفظ بدفء خاص، ينساب في أركانه ببطء وكأن الزمن نفسه قد قرر أن يبطئ خطاه هنا في الصاله الصغيره ، تحيط بها الجدران التي شهدت سنين طويله ، كان الأثاث القديم يُشعِرك براحه غريبه ، لا تأتي فقط من مدفأه قديمه ، بل من الأشياء التي تحمل كل قطعه منها حكايه ، كل زاويه تحتفظ ببقايا أيام مضت الأرائك التي تأثرت بلون الزمن، والستائر الثقيله التي تحجب بعض من برودة الخارج، كانت تروي قصصًا من الهدوء ، الأرضيه الخشبيه التي تئن تحت القدم، أضفت على المكان سكونًا يريح الأعصاب ورغم أن البرد يملأ الأفق، كانت الشمس تخترق النوافذ العتيقه ، تُرسل أشعتها الذهبيه لتملأ المكان بدفٍء عابر، وكأنها تداعب الذاكره وتعيد إليك شعورًا بالأمان ، في الزاويه كان هناك تلفاز قديم مزود بأزرار ميكانيكيه ، بينما كانت الشرفه الواسعه تفتح على الخارج ، تضفي على المكان بعض السكينه 


كان " لقمان "  يمسك بهاتفه المحمول مبتسمًا، محادثاً خطيبته عبر تطبيق الواتس اب ، حتى فوجىء بجلوس " نوح"  بجانبه، فانتفض لقمان وأسرع في إغلاق هاتفه نظر إليه "نوح" نظره غاضبه ، ثم قال بصوتٍ ساخر :


ـ ايه بتبعت لست الحسن والجمال التمام وبتعرفها انك صحيت 


أجابه "لقمان" أثناء قيامه : 


ـ وانتَ مالك شاغل نفسك ليه 


رفع عينيه فجأة، فوجد "أنس"  أمامه قائلاً : 


ـ ماله ازاي بقى مش أخوك الصغير ولازم نسمع كلام الاصغر مننا  


أشار للواقف امامه ناطقاً بأستنكار : 


ـ خايف عليا من ايه ؟ 


تحدث " نوح " مجدداً وقد اكتسب صوته الحده :


ـ يابني شيماء دي ماتنفعكش ، شيماء دي اقسم بالله اجيبهالك بكارت فكه من اكونت fake ( مزيف) 


انتبه يصحح كلماته : 


ـ لاء ، ومش fake كمان انا اقدر اجيبهالك من الأكونت بتاعي عادي 


ضرب " لقمان " على الطاوله جواره بحزم :


ـ ماتحترم نفسك بقى يانوح ، هو انا عشان ساكتلك 


بدا عليه الضيق فنطق "انس" بجديه   : 


ـ ايه اللي انتَ بتقوله ده يانوح ، ماتقولش على شيماء فلتر كده يا اخي  ، دي مهما كان هتبقى مرات اخوك 


ضربه "لقمان" ضربه خفيفه على كتفه وهو ينطق بتذمر : 


ـ ولا انتَ وهو أنا مش عايز امد ايدي على حد فيكم على الصبح واعرفه ان اللي بتتكلموا عليها دي هتبقى مراتي قريب واحترامها من احترامي انا شخصيًا واللي هيقل أدبه عليها هعمل 


بتر حديثهم دخول " الحاج نصار "رجل  تخطّى عتبة الستين بقليل، لكنه لا يزال يملك هيبةً تجبر الجميع على التقدير والاحترام وجهه مزيّن بخطوط السنين التي تحمل قصصاً لا تُحصى، وعيناه، وإن أرهقتهما الأيام، لا تزالان تلمعان بحكمة الأجداد ، يرتدي دائماً جلباباً صعيدياً نظيفاً ومهندماً، ويتكئ على عصا طويله من الخشب المتين، تُذكّر بعصي رجال الصعيد التي كانت رمزاً للقوة والوقار عصاه ليست مجرد وسيله للاتكاء، بل تحمل في تفاصيلها حكايات عن رجلٍ عاش مخلصاً لجذوره،  يمتلك فرنًا كبيرًا للخبز ، يُعد من أقدم الأفران في المنطقه ، حيث يُخرج الخبز بنكهة الماضي التي تفتقدها الأفران الحديثه رغم أن التطور زحف إلى كل زاويه ، إلا أنه ظل متمسكاً بأساليب القدماء في العمل فهو كما يقولون رجل "دقة قديمة"، يرى أن الأصاله تكمن في البساطه وفي الحفاظ على إرث الأجداد


خيّم الصمت على المكان عند لحظه دخوله ، وتلاقى الجميع بنظرات متوتره تحمل من الحيره بقدر ما تحمل من الخشيه جلس الحاج "نصار"  على الأريكه التي وُضعت خصيصاً له في صدر المجلس، وسند بكلتا يديه على عصاه الصعيديه المميزه ، تلك العصا التي لم تكن مجرد دعامه ، بل رمزاً لهيبته وسلطانه كان جلوسه وحده كفيلاً بأن يجعل القلوب ترتجف والأنفاس تضيق رفع عينيه، الحادتين كنصل سكين، ومرّر بصره على الوجوه جميعاً، ثم استقر بصره على" لقمان"أخبرهُ  بصوت عميق يحمل في طياته نبرة لوم وعتاب يسأل :


ـ سكت ليه يالقمان كمل ، هتعمل ايه مع اخواتك اللي من ضهرك وأنا لسه عايش


اقترب" لقمان "بخطوات ثابته ، وبسمه بسيطه تعلو وجهه البشوش ، ثم انحنى ليُقبّل كف الحاج "نصار"  بحنان واحترام قائلاً:


ـ ولا حاجه يا حاج، انت عارف نوح مش أكتر 


تحولت نظرات الحاج "نصار"  إلى "نوح "، نظره كانت كالسيف القاطع بمجرد أن تلقاها "نوح " ، شعر بجفاف حلقه،  فهم من تلك النظره أنها تحمل عدم رضا، فتقدم على الفور، وانحنى ليُقبّل كف والده ، محاولاً أن يسترضيه بكلمات سريعه:


ـ صباح الخير يا حاج 


لكنه تجاهل التحيه ، وسأله بنبره أكثر حده:


ـ إيه اللي يخلي لقمان يتنرفز على الصبح يا يحي ؟


ـ ياحج بلاش تناديني بيحي ده ،  اسمي نوح ، نوح صعبه في اي دي 


تجاهله"  نصار " ثم وجه عينيه صوب" أنس"  الذي كان يقف مرتبكاً على الجانب، وسأله بصوت ثابت:


ـ عملتوا إيه يخلي أخوكم الكبير يزعل بالشكل ده يا أنس


تملكت الحيره من" أنس " واقترب بخطوات متردده من كف والده ومال عليه هو الأخر يفعل كما فعل شقيقاه  يتحدث بصوت خافت، بالكاد يُسمع، وعينيه تجول بين إخوته بحثاً عن دعم:


ـ أبداً يا حاج، وأنا أقدر برضه؟ حتى اسأله 


صارحهما "نصار"   بعينين لم تقبلا العذر:


ـ ياريته كان بيتكلم ويقول على مصايبكم وأفعالكم، لكن ولا مره رضي يعريكم قدامي


دخلت نعيمه حامله صينية الطعام ، ووضعتها على " الطبليه" التي اعتاد الجميع الجلوس حولها كانت الصينيه عامره بأشهى ما يُميز الإفطار المصري: فول مهروس مُغطى بزيت حار، طعميه ساخنه تفوح منها رائحة القلي، جبنه قريش بيضاء نقيه، وقطع من الخضروات الطازجه ،  الجو كان يحمل عبق البساطه وألفة العائله


جلس " الحاج نصار" في منتصف " الطبليه "، مشيراً بعينيه لأولاده كي يقتربوا ويجلسوا معه نظر حوله، يبحث عن"  آدم " ، لكن غيابه أشعل في داخله ضيقاً كعادته قطّب جبينه وقال بصوت يحمل نبرة الغضب:


ـ أنا مش قولت ألف مرّه آدم يبقى موجود قبل ما الفطار يتحط


ارتبكت نعيمه ، وصرخت مناديةً:


ـ آدم! تعالى بسرعه ، الحاج مستنيك


خرج "آدم " من الحمام على عجل  ينشف وجهه بمنشفه صغيره يقترب بخطوات سريعه ، يأخذ مكانه بجوار " لقمان " أعطتهُ والدته الخبز فقال وهو يأخذهُ منها : 


ـ أنا اسف يابابا 


بدأ الجميع بتناول الإفطار الحاج "نصار " ، كعادته، كان يراقب كل شيء بعينيه الحادتين لاحظ" نوح" يأكل بلا شهيه ، فوجه إليه سؤالاً وهو يدس اللقمه في فمه:


ـ طبعاً أنتَ مش عجبك  اني اناديك بأسمك الحقيقي ولا كمان عجباك قعادنا على الطبليه ، يا أستاذ يحي ؟ ولا عجباك عيشتنا من الاساس 


رفع" نوح "رأسه ببطء، ومد يده يأخذ رغيفاً، ثم أجاب بهدوء:


وأنا قولت حاجة يا حج؟ أنا ما فتحتش بوقي 


لم يترك  "نصار " الأمر يمر، فرد بنبره ثابته تحمل شيئاً من العتاب:


ـ بوقك ما بيتفتحش، بس ملامحك بتقول اللي جواك


وضع"  نوح " الرغيف مكانه واعترض بنبره هادئه لكنها تحمل في طياتها تمرداً مكبوتاً:


ـ يا حج، فين المشكله لما تناديني بالأسم اللي امي اختارتهولي وسمتني بي انا بحب اسم نوح انت بقى اللي روحت كتبتني يحي وانا لسه مولود معنديش قدره على الاعتراض 


نطق والده رافضاً: 


ـ وماله يحي ، اسم من اسماء الانبياء 


ـ ياحج أذواق ، أذواق انا بحب نوح اكتر 


ـ طيب واسمك ياسي يحي وقولنا أذواق ، سمعت بعدها ان عيشتنا مش عجباك 


تنهد "نوح" يضيف ما لديه : 


ما هو برضه مش عيشه دي ،  ليه ناكل على الطبليه لما ممكن نقعد على سفره ونتلم عليها كلنا .. بص على الكنب، هو في حد لسه بيستعمل الكنب ده يا حج، الكنب ده دلوقتي بيترمي، في حاجة اسمها ركنه


ثم أشار بإصبعه نحو التلفاز العتيق وقال:


ـ وبص على التليفزيون بزراير ... موديل التمانينات  مع إننا دلوقتي في الألفينات كله دلوقتي بيستخدم الشاشات ليه ما بنعيش زي ما الناس عايشين


في تلك اللحظه ، ساد صمت ثقيل في الغرفه نظرات الحاج " نصار" البارده والواثقه، كانت كافيه لتُعيد "نوح" إلى واقعه، بينما انكمشت "نعيمه" في مكانها، تحاول أن تتفادى أي صدام جديد وقالت مازحه : 


ـ تليفزيون ايه وطبليه ايه اللي بتتكلم فيهم على الصبح دول دي كفايه لمتنا سوا يانوح


أشارت بعينيها تقطع رغيف العيش الى نصفين بيدها قائله : 


ـ خد ، خد افطر يلا علشان تتكل على الله تنزل تشوف العمال في الفرن زمانهم بدأوا من بدري وشويه والزباين هتبدأ تهل 


ابتسم " نصار " بسخريه، ناظرًا إلى ابنه الهارب بعينيه انزعج" لقمان "، وتوقفت" نعيمه" مترقبه لكن "نصار "خالف التوقعات، ورد بهدوء:


ـ يابني، الطبليه اللي مش عجباك دي عندي أغلى من مليون سفره، لأنها جمعتنا قريبين من بعض، رجل أخوك تلمس رجلك، وكتفك يسند على كتفي، واللقمه تلف بينا وإحنا بنضحك ونحكي مشكلتها إنها متواضعه في عينك، لكن قيمتها في الدفا والقرب اللي صنعتهم بينا  ، السفره ممكن تبقى أفخم، لكن لو بعدت بينا، قيمتها تروح الغنى مش في العفش الجديد، الغنى في القلب اللي يحس بالنعمه قبل ما يدور على اللي ناقصه لما تيجي أيامك وتجيب اللي نفسك فيه، هتعرف إن مش كل جديد أغلى، ولا كل قديم رخيص 


تحدث لقمان محاولًا تهدئة الموقف:


ـ سيبك منه يابابا ، نوح مايقصدش 


لكن آدم، الذي كان يمسك " القُلّة " بجواره، قال قبل أن يشرب:


ـ بس هو يقصد 


اعترض " أنس "  سريعًا:


ـ وأنتَ كنت دخلت جواه ياعم أدم 


لم يلتفت "ادم "  لاعتراضه، بل ركّز نظره على نوح، يراقب كل تفصيله في حركاته، ثم بدأ يشرح بهدوء:


ـ دلوقتي نوح متوتر  ، معنى كده ان كلام بابا معجبهوش 


تأمل عينيه وأضاف:


ـ حركه عينيه بتقول انه كاتم كلام جواه ولسه ماطلعهوش 


نظر إلى جلسته ولاحظ التغيير:


ـ كان قاعد على ركبه ، بس هو غير قعدته وربع رجليه عاوز يبين أنه ارتاح للكلام ، بس الحقيقه غير كده 


ثم لمح ارتعاشه سريعه في شفتيه، فأردف:


ـ شفايفه اترعشت مره واحده كان هيتكلم بس ماما منعته 


نظر " نوح "إلى آدم نظرة تحذير، لكن "نصار" ابتسم وقال بارتياح:


ـ اهوه ده الوحيد اللي لا يمكن يغيره الزمن راجل صادق بصحيح بيعرف يقرا اللي جوه قلوب البني ادمين 


لم يترك " أنس"  الفرصه تفوته، فمال نحو" آدم" مازحًا:


ـ يا سلام! طلعنا عايشين مع محلل نفسي وإحنا مش واخدين بالنا


ثم أشار بعينيه على والده يستردف : 


ـ طب ماتقولنا يا ادم بابا بيفكر يعزمنا النهارده على العشا بمناسبه ان الليله راس السنه 


ضحك "نصار" وهز رأسه قائلاً:


ـ عزومه مره واحده ،  لو فكرتوا في العزومه اوبقوا اعزموني معاكم 


تعالت الضحكات، وحتى "نوح" لم يستطع منع نفسه من الابتسام ، حول"  الطبليه " ، كانت ضحكاتهم تملأ المكان، تذوب في قلبه الدفء الأيدى تتشابك، والنظرات تروي قصص الحب والطمأنينه لم تكن" الطبليه" مجرد قطعة أثاث للحاج"  نصار "مثلما يعتقد "نوح" بل رمز للترابط، حيث كانت لحظات السعاده الحقيقيه تُبنى من أبسط الأشياء في تلك اللحظه، كان المكان كله يعني أكثر من أي شيء في الدنيا، مجرد لمه عائليه، أغلى من أي ثروه ولكن هذه الثروه لم تكتمل  بالنسبه لـ "نصار"  لأنه ينقصها واحد


.                          .                         .             .


.                 .                      .                  .


.        .                   .                      .              .


في أحد الشوارع المجاوره لبيت "لقمان" ، كان هناك منزل آخر يعرفه جيدًا، فهو بيت "شيماء" ، خطيبته التي أحبها بصدق استيقظت " شيماء"  من نومها، متثاقله ، وعينها تتنقل بين شاشة هاتفها التي أضاءت برسائل من" لقمان" كان قد أرسل لها أكثر من مئة رساله ، فطالعت الشاشه بملل، ثم ألقت الهاتف جانبًا


دلفت شقيقتها" هناء" متعجله وهي تجهز نفسها للذهاب إلى العمل نظرت إلى " شيماء" التي كانت ما تزال في الفراش  وقالت بلهجه غير متفهمه :


ـ صحي النوم ياكسل هانم كل ده نوم هتتأخري على شغلك


نهضت "شيماء" بتكاسل  وقالت بمراره :


ـ خلاص قومت ، مش عارفه شغل ايه ده اللي بنصحى عشانه بدري كده وفي الاخر مابناخدش غير ملاليم 


جذبت " هناء" حجابها واقفه أمام المرآة، ردت  بعطف:


ـ أحمدي ربنا في ناس بدور على  شغل ومستعدين ياخدوا اقل من اللي أنتِ بتاخديه 


قالت شيماء بحزن مكتوم:


ـ وفي ناس برضوا مش عارفه تودي فلوسها فين 


وفي تلك اللحظه ، بدأ هاتف"  شيماء" يرن برسائل متتاليه، ثم جاءها اتصال من " لقمان" كتمت الصوت، وأعادته إلى مكانه، قائله بتململ:


ـ هيكون مين غيره لقمان طبعاً 


سألتها " هناء " بقلق: 


ـ مش هتردي عليه ، هو مزعلك 


جلست " شيماء " على الفراش  تخبرها بغضب مكبوت:


ـ هو بيديني فرصه حتى انه يزعلني تخيلي ، ده الاتصال العاشر في ساعه واحده بس ورسايله عدت المية رساله لحد دلوقتي وكل ده عشان بس قولتله اني تعبانه شويه 


طالعتها شقيقتها بعدم تصديق :


ـ لقمان طيب وبيحبك وكفايه  انه بيخاف عليكي وبيراعيكي 


تنهدت "شيماء" تمد كف يدها بداخل الخزانه لتخرج منشفه نظيفه  وأجابت بنبره مليئه بالإحباط: 


ـ عارفه ليه البنات في الروايات بيحبوا البطل الشرير عن البطل الطيب في الروايات 


هزت رأسها بأنها لاتعلم فاسترسلت "شيماء" حديثها بقول : 


ـ عشان البطل الطيب هيضحي بيكي عشان خاطر العالم لكن البطل الشرير هيضحي بالعالم عشان خاطرك وده اللي انا عايزاه فهمتي 


أشارت برأسها نافيه فأكملت تشرح لها : 


يعني نفسي في مره يسيبني اتفلق من الزعل ، نفسي في مره ادور عليه ومالقهوش جنبي ، ياستي يشوفني حتى هعمل ايه لما يبعد عايزه احس اني معايا واحد اخاف اني اخسره مش كل اما اقوله حاجه يعملها ولو زعلت يبقى هيتجنن عشان يصالحني  ، عايزه يبقى في اكشن في علاقتنا شد وجذب مش كل مره ابقى متأكده انه عمره ما هيبعني 


ـ وطبعاً الشخص اللي في كل المواصفات دي  يبقى موسى 


قالتها " هناء " بغضب قد سكنها وهي تتفحص تقاسيم شقيقتها التي اتخذت من الأقتضاب وشاحاً : 


ـ مش شرط موسى بس  ، ان شالله حتى نوح انا موافقه بس ماتبقاش حياتي عاديه كده خاليه من اي ساسبنس ، اراهنك اني وانا بكلمك دلوقتي هتلاقي لقمان مخبط على الباب عشان مش قادر يشوفني زعلانه او حتى مخنوقه 


وقبل ان تكمل حديثها سمعوا صوت طرقات على الباب من الخارج وصوت والدتها الذي يقول : 


ـ يسعد صباحك يالقمان يابني اتفضل 


تبادلت " شيماء " و "هناء " النظرات ولاحت بسمه منتصره  بجانب شفاها وهي تخبرها بيقين : 


ـ مش قولتلك ، اطلعي بقى يافالحه قوليله اني نايمه وتعبانه ومش هاروح الشغل النهارده 


.                      .                        .                 . 


             .                        .                    .


.                         .                         .            .


في الصباح الباكر، عندما بدأت الحاره تستفيق ببطء، وتفتح عيونها على ضوء النهار الجديد، كانت الحياه تبدأ في التسلل بين الأزقه الضيقه الناس بدأوا ينزلون، كل منهم يحمل همومه اليوميه وتفاصيله الصغيره، بينما الشمس بدأت تطل برفق، تغسل الأرض بأشعتها الذهبيه التي أضافت دفءً خاصًا على الوجوه المرهقه صوت الراديو كان ينساب بين الجدران، يملأ الأجواء بآيات من القرآن الكريم، لتهدأ الروح في خضم الضجيج الصباحي، كأن الصوت يربت على القلب في زحام الحياه، ويسكن المكان الذي يعج بالحركه


الوضع كالتالي وقف "نوح"  أمام فرن الخبز، يجمع الأموال من الزبائن الذين يتوافدون عليه في هذا الوقت المبكر كانت فوضى الازدحام تملأ المكان كما هو الحال كل يوم، ومع كل صوت وصرخه يختلط فيهما الزحام والضجيج في وسط هذه الفوضى، رفع " نوح "صوته في  محاولةً لتهدئة الوضع، وهو يشعر بالاختناق من الضوضاء التي تملأ الأجواء، وقال:


ياجماعه بالراحه شويه ده عيش مش جايزه اوسكار هو ، كل واحد هياخد نصيبه مش هنحطه في بيتنا ، بس بلـــــيز اقفوا طابور مش عافيه هي


سمع نوح صوت صديقه وصاحب عمره " بشر"  يتخلل الزحام، وهو يناديه بصوت عالٍ:


ـ حبيب قلبي اللي بيقول بليز 


رفع"  نوح" رأسه، يبحث عن مصدر الصوت وسط الحشد المتراكم، عينيه تتنقلان بين الوجوه حتى وقع نظره على صديقه الذي رفع يده من بين الزحام ليشير إليه لم يتردد "نوح"  لحظه ، وعيناه اتسعتا كمن وجد مخلصًا وسط المعركه اليوميه فتح " نوح "الباب مسرعاً  ودخل بشر الذي اقترب منه مبتسمًا  يريد احتضانه، لكن "نوح " كان الأسرع، بمد يده وأعطاها له ليضع فيها بطايق العيش والماكينه  يخبره وعينه تنتقل على شاشه الهاتف الذي يرن :


ـ بشر  خليك هنا مكاني شويه ، دقيقه هرد على التليفون ده وجاي لك حالًا 


نظر له "بشر" بعينيه الضيقتين، يهز رأسه وقال بتعجب:


ـ طيب سلم عليا الأول حتى يا واطي


ربت "نوح "  على كتفه قائلاً:


ـ بعدين، بعدين


.                          .                       .            .


           .                            .                   .


في تلك اللحظات التي كانت فيها الحياة تُكتب بحروف من لهب، كان  "أنس " يقف في ساحة الحياه الكبيره ، حيث أنغامها تعزف على أوتار القلق والخوف كان يستعد مع زملائه في المطافي، يرتدون زيهم الرسمي بسرعه ، بينما يختلط صوت القلق بنبضات قلوبهم المتسارعه كل شيء كان يتحرك بسرعه، لكن الزمن كان يبدو وكأنه يركض خلفهم


هرولوا الى السياره المجهزه للحرائق الخاصه بالمطافي ، وانطلقت بهم في طريق لا يعرف التردد، يقود " أنس"  بأقصى سرعه، دون أن يلتفت إلى شيء سوى هدفه ، وهو  مكان الحريق قبل فوات الأوان عندما وصلوا إلى " حي الأربعين" ، كانت العيون تراقبهم من كل جانب الناس تجمعت أمام مبنى  قديم ، والنيران تلتهمه من الداخل، ألسنة اللهب تخرج من النوافذ، والمبنى يتنفس نارًا


وسط الزحام، كان الصوت الوحيد الذي يقطع الأجواء هو صرخات امرأه ، تقف أمام المدخل، عيناها مليئتان بالدموع كانت تلك السيده عاجزه عن الوصول إلى ابنها الصغير ، الذي تركته في المنزل  يشتعل بالنيران كان الطفل يقف قرب النافذه ، يُحدق في الخارج، وعيناه مليئه بالخوف، بينما كانت والدته تصرخ من الأسفل  وتناشده أن يتحرك بعيدًا عن النار والجميع كان يقف في الشرفات ، يراقبون الوضع، غير قادرين على فعل شيء كانت اللحظات كالساعات، وكل دقيقة تمر كانت أشبه بعمرٍ كامل ،  النيران تلتهم المبنى بلا رحمه ، ألسنتها تمتد في كل اتجاه، تُرسل ألسنتها باتجاه السماء، وكأنها تُعلن انتصارها على الحياه أصوات انفجارات متتابعه تُعكر الأجواء، وأزيز النار يملأ كل مكان، بينما كانت صرخات الطفل تتردد في كل زاويه من المبنى، تسارعت خطوات أنس وزملائه، وانطلقت خراطيم المياه من سيارات الإطفاء، تدفع الماء بشده نحو البناء، تحاول أن تخفف من وطأة الجحيم الذي يشتعل داخله كان قلب"  أنس "ينبض بسرعه ، والعقل يركض وراء الوقت ،  علم جيدًا أن الوقت لا يسمح بالانتظار، النار في ازدياد والطفل ما زال في الداخل، يتنفس الخوف في كل لحظه طالع رئيسه بعدما قرر : 


ـ أنا هطلع أجيبه، النار هتاكله قبل ما نطفيها 


قالها "أنس"، وهو يتحرك من مكانه لكن رئيسه، وقف بحزم، يعارضه:


ـ  إحنا لسه بنحاول نطفيها من بعيد، لو مافيش أمل هنرفع السلم وننقذه، بس على الأقل نحاول في البدايه 


اعترض " أنس"  فلم يعد يطيق الانتظار، كانت الصورة في ذهنه واضحه :


ـ  الطفل مش هيتحمل أكتر من كده والنار خلاص اكلت المكان 


اخبره رئيسه بحزم : 


ـ أنا عارف شغلي كويس يا أنس واللي بقوله يتنفذ 


لم ينصت ، صعد إلى السياره، يضغط على زر السلم ، فبدأ السلم يرتفع تدريجيًا نحو المكان الذي يُحتجز فيه الطفل : 


صعد الى السلم وكان قلب " أنس"  في صراع مع كل ثانية تمر، كانت النيران تزداد قوه، وأصوات الصراخ تتزايد، وعيني"  أنس" لم تبرح الطفل الذي كان يقف قرب النافذه، يصرخ طالبًا النجده، يمد يده إلى الفراغ الذي بينه وبين العالم


ـ مد إيدك ليا، ماتخافش، مش هسيبك 


قالها أنس بصوت ملؤه الهمسات، ليشجع الطفل على الوصول إليه ، كان الطفل مترددًا، يحسب المسافه بينه وبين " أنس " ، عينيه تتنقل بين يده وبين المسافه التي تفصل بينه وبين الأرض :


ـ يلا ياحبيبي، مافيش وقت


كرر"  أنس" كلماته بنبره حاسمه  مد يده أكثر، حتى شعر بأطرف اصابع الطفل وهو يلمس أصابعه، وقلبه يخفق بسرعه لم يشعر بها من قبل


ـ قرب كمان ، ماما مستنياك تحت


قالها أنس بأمل، وهو يمسك بيد الطفل بقوه، يقاوم خوفه، بينما كانت قلوب الناس تحت تراقب، وأعينهم تكاد تدمع من شدة التوتر.


وأخيرًا، وبعد محاولات مضنية، نجح"  أنس "في جذب الطفل إليه، وبالفعل، تم إنقاذه حمله بحذر، ونزل به  في لحظة فرح لا توصف، لتسارع الأم نحو طفلها، وتضمه إلى قلبها في لحظة من البكاء والضحك معًا الناس من حولهم بدأوا في التصفيق، والفرحة تغمرهم جميعًا


اقترب رئيس العمل منه، بخطواته الثقيله ، تحمل معه كل معاني الفخر والاعتزاز وضع يده على كتف  "أنس" في إيماءه تحمل أكثر من مجرد شكر، كانت محمله بمشاعر لم تُقَل بعد نظرة رئيسه كانت تعني أن اليوم قد اكتمل بنجاحه، وأن هناك شخصًا آخر قد أثبت أن التضحيه والشجاعه تترجم إلى أفعال لا كلمات ،  بادله "أنس" الابتسامه ينتظر منه كلمات الشكر على ما فعله وبالفعل حرك رئيسه شفاهه مع بسمه واسعه بقول : 


ـ مخصوم منك يومين يا انس 


محيت البسمه من على وجهه و زملاؤه نظروا إليه بعيون مليئه بالدهشه ، وبينما بدأ البعض يتهامس، لم يستطع آخرون إخفاء ضحكاتهم صك على اسنانه يزيل القبعه الخاصه من على رأسه وهو يقول بغضب : 


ـ طب وربنا ما انا غلطان 


.                          .                         .           .


               .                         .                 .


.                         .                       .                . 


كان " بشر " يراقب الوقت بفارغ الصبر داخل الفرن، حتى لاحظ أخيرًا قدوم "نوح" طالعه

"  بشر " بتذمر حين قال:


ـ كل ده تقولي دقيقة وجاي ،  احنا بقينا العصر ، والعمال مشيوا  والفرنه شطبت، أنا مش عارف إيه اللي جابني هنا بس ياربي 


ابتسم "نوح" وهو يعد النقود  في الدرج، وأغلق الفرن، رافضًا الرد، قائلاً بهيام:


ـ سيبني في حالي، يا بشر، أنا حاسس إن البت  دي هتقع المره دي، والصناره هتغمز


رفع"  بشر "حاجبيه بتساؤل قائلاً:


ـ ومين دي كمان؟ اسمها إيه المره دي؟ واتعرفت عليها فين؟ اكيد من على الانستجرام برضه


أجاب " نوح "داعماً حديثه :


ـ هو أنا هعرف ناس نضيفه منين غير من عليه؟ يا اهبل 


أضاف "بشر" واثقاً :


ـ وطبعاً مفهمها انك ابن الناس الريش ، وساكن في الزمالك وابوك صاحب الشركات 


دعم " نوح " حديثه بقول : 


ـ بالظبط كده ، وطبعاً لما تقع في حبي وتعرف اني فقير انا متأكد 


بتر "بشر"  حديثه متوقعًا ما سيحدث:


ـ أنا متأكد انها هتعمل زي اللي قبلها، وهتديك على قفاك وتسيبك ، يابني افهم  البيبول ( الناس )  اللى زي دول بيبول (الناس)  ريش مش بيتجوزوا غير  بيبول  ريش زيهم  


صحح "نوح " حديثه ساخراً :


ـ ريش؟ اسمها ريتش، يا جاهل ريتش يعني اغنيا 


لوى "بشر" فمه غير مهتماً بقول :


"وييڤر، يا عم، وييڤر."


أجاب "نوح "  بتذمر:


ـ  وكمان ويڤر انتَ واقف مع باكو بسكوت    ،  اسمها وات ايڤر ، ياعديم اللغه ،  اقولك .. أنتَ ماتتكلمش انجليزي تاني ولا تتكلم خالص اصلاً 


أشاح "بشر" بكف يده : 


يا عم، ماتمسكليش على الكلمه ، شايفني بكلم رئيس مراجيح مولد النبي ،  خد و رد ماتخليش الكلام يصد 


في حين كسا وجه " نوح " تعبير مستنكر توقفت سياره أمامه وبدا التعب على وجه من بداخلها 


وقفت السيارة أمام" نوح " ، وبدا على من بداخلها الإرهاق من طول السفر حدّق فيهم مليًّا، وكأنّ وجوههم مألوفه لديه، كأنه رآهم من قبل وبحركه بطيئه ، فُتح الباب الأمامي ، هبط منه شاب تبدو عليه آثار التعب، أخرج بعض النقود من جيبه، وأعطاها للسائق قائلاً:


— ياه... أخيرًا يا أمي رجعنا لبيتنا من تاني 


تحركت الأم من المقعد الخلفي، تترجل ببطء، وبجانبها فتاه  شابه تمسك بحافة عباءتها كأنها تحتمي بها وقعت عين" نوح" على الفتاه، فتسمرت نظراته، واتسعت عيناه في دهشه ، ثم همس بصوت بالكاد يُسمع:


— معقول... هي 


شعر" بشر"  الواقف جواره باضطرابه، فوكزّه في ذراعه وهو يسأله مستنكرًا:


— شي (هي ) مين فهمني


لم يتلقى الا الصمت  ظلّ "نوح"  يحدق في الفتاه بنظره تحمل بين طياتها ألف حكايه، قبل أن يرسم على شفتيه ابتسامه غامضه وهو  يقول:


— طب وربنا هي ،  أنس لو عرف، هيتنطط من الفرحه


قطّب " بشر" حاجبيه بعدم فهم:


— إنت هتأندرستاند مي ولا مش هتفهمني


لم يلتفت "نوح "  له واكتفى بإلقاء نظره أخيره نحو الفتاه، و استدار مبتعدًا باتجاه منزله قائلاً بصوت عالِ:


— هبقى أقولك بعدين... سلام


.                                 .                                 .


                      .                    .     

    .                             .                        .

                      .                    .

  


                                    .                                 .                                                                  .

    


 لم يكن  يصدق ما يسمعه، وقف "أنس" بمنتصف الغرفة وعيناه تلمعان بدهشه ، كأنه يحاول استيعاب الخبر الذي ألقاه عليه "نوح" كان في داخله مزيج غريب من الفرح والذهول وعدم التصديق ، فسأل بصوت يملؤه الحماس والدهشه:


ـ معقول  ! معقول سمر رجعت الحاره من تاني 


اقترب نوح منه وجلس على طرف السرير، يؤكد حديثه بثقه ، وكأنه يود إقناعه بما رأى:


ـ بقولك لسه شايفها هي وأخوها طه  نازلين من العربيه ، ومعاهم شنط سفر كبيره 

لاء ، وكمان سمعت الواد طه وهو بيقول اخيراً رجعنا الحاره تاني  أنا حتى ما سلمتش عليه، قولت أجي أقولك الأول لو مش مصدقني، بص عليهم من البلكونه ، هتلاقيهم واقفين تحت لسه بيطلعوا الشنط 


اندفع أنس مسرعًا نحو الشرفه ، وكأن قلبه يسابقه، يطلّ من الأعلى بعينين تمتلئان باللهفه  كان المشهد أمامه يؤكد كل ما قاله " نوح" والدته كانت تقف مع والدتها  في الأسفل، تتحدث معهم بحفاوه ، بينما كان طه يرفع الحقائب إلى أعلى الدرج، وملامح الإرهاق والتعب واضحه عليهما بدا كل شيء حقيقيًا أكثر مما تخيل


شعر "  أنس " بتوتر شديد، وكأن هذه اللحظه التي طال انتظارها جاءت فجأه ، دون أن يكون مستعدًا لها التفت إلى" نوح "، الذي كان لا يزال واقفًا بجواره، وقال بقلق واضح:


ـ الحق يا نوح ، باين على أمك هتطلعهم البيت عندنا 


نظر " نوح " إليه باستغراب، وكأنه لا يرى سببًا لهذا التوتر، ثم قال ببرود:


ـ طيب وإيه المشكله ،  ما يطلعوا، أكيد تعبانين من السفر، والشقه  بتاعتهم لسه عايزه تتنضف 


أعترض " أنس" على حديثه  لم يكن يرى الأمر بهذه البساطه ، صرخ بأنفعالٍ وهو يحاول شرح وجهة نظره:


ـ إنت بتقول إيه ،  لاء  طبعًا ،  أنا مش عايزها أول مرة تشوفني بعد عشر سنين تشوفني كده  عادي عايزها تشوفني وأنا في قمة اناقتي ، حالق دقني ومظبط نفسي تشوفني تضرب نفسها ١٠٠ جزمه انها قطعت معايا كلام طول السنين اللي فاتت دي تشوفني في مكان مميز ،  ما تتوقعش تشوفني فيه،  عايز اللحظه مابينا تكون استثنائيه حاجه كده تعلق في الذاكره 


فهم " نوح " مقصد شقيقه ، ابتسم ابتسامه خفيفه وقال ممازحًا:


ـ فهمتك... حاجة كده زي الأفلام الكوريه ، لما البطل والبطله بيتقابلوا بعد غياب 


ارتسمت ابتسامه باهته على شفتي" أنس " ، لكنه سرعان ما شعر بتوتره يعود أقوى وضع يده على معدته وقال بنبره مضطربه:


ـ يا نهار أبيض، بطني كركبت اعمل ايه 


وقبل أن يجيبهُ  "نوح "، ظهرت "نعيمه" على رأس السلم  وبجانبها" وداد "وابنتها " سمر" كانت والدته ترحب بهم بحراره ، بصوتها المليء بالشجن والعتاب:


ـ اتفضلي يا وداد، اتفضلي بقى كده برضوا عايزه تقفي في الشارع لحد ما طه يطلع الشنط وبيت اختك موجود 


كان"  أنس " يشعر بأنفاسه تتسارع، قلبه يخفق بعنف وهو يحدق في أعين شقيقه ، وكأنه يرجوه أن يتصرف، أن يفعل أي شيء لينقذه من هذه الورطه لم يحتج "نوح" إلى إشاره أخرى، جذبه من مرفقه بسرعه إلى داخل غرفته وأغلق الباب خلفه لكن التوتر كان قد بلغ" بأنس" حدًّا لم يعد يحتمله، شعر بمعدته تنقبض، واندفع نحو الحمام دون تفكير أغلق الباب خلفه لكنه في ارتباكه لم يحكم إغلاق القفل


في تلك الأثناء، استأذنت سمر " نعيمه " للدخول إلى الحمام وغسل يديها ووجهها من تعب السفر، فابتسمت لها بحراره وقالت:


ـ ادخلي يا حبيبتي، مافيش حد جوه، العيال كلهم بره أكيد لسه فاكرة مكانه ، مش كده 


أومأت " سمر" برأسها وابتسمت، متيقنه من كلام "نعيمه "، ثم تقدمت نحو الباب ودخلت بثقه  لكنها بمجرد أن خطت إلى الداخل تجمدت في مكانها


هناك، أمامها مباشرةٍ، كان"  أنس" يجلس مصدومًا، يحدق بها بذهول، وكأنه غير قادر على استيعاب ما يحدث لم يستطع الحراك ، تحولت ملامحه في لحظه إلى خليط من الصدمه والحرج، عيناه اتسعتا، ونبضه تسارع بشكل مؤلم بدون تفكير، سحب المنشفه الموضوعه بجواره ووضعها على قدميه بسرعه ، ثم نظر إليها بعينين مذعورتين، وتمتم بصوت مبحوح بالكاد خرج منه:


ـ إزيك يا سمر 


أطلقت "سمر" صرخة حاده ، تراجعت بسرعه  وأغلقت الباب بعنف، ثم اندفعت تهبط على الدرج  تهرول  كان قلبها يخفق بجنون، ووجهها يشتعل خجلًا وذهولاً ، هرعت " نعيمه"  ووالدتها "وداد" إليها بقلق، تتساءلان عما حدث ، وما إن وصلوا إلى الحمام حتى وجدوا  أنس لا يزال جالسًا في مكانه، وجهه محمرٌّ من الخجل، وعيناه زائغتان لم يستطع النطق بحرف، فقط رفع يده المرتجفه قليلًا ولوّح بها قائلًا بصوت مضطرب:


ـ إزيك يا طنط


ضربت "نعيمه " بكف يدها على صدرها بذهول : 


ـ يخـــيــبــك 


.                       .                      .                .


           .                       .                    .


.                       .                   .                      .


كان صوت ضحكات "نوح" تملأ أرجاء المنزل ، لم يستطع التوقف عن الضحك بعدما حدث، وكأنه لا يصدق ما جرى كان يضحك من أعماقه بينما جلس "أنس" على فراشه محتضنًا وسادته بغيظ،  يلقيها  على" نوح" وهو يقول بامتعاض:


ـ ماكفايه بقي يانوح أنت بتضحك على أمي من الصبح ، حاسب على مشاعري يا أخي 


حاول" نوح" أن يرد بين نوبات ضحكه المتقطعه :


ـ المشكله أنك كنت عايز أول لقاء بينكم يكون مميز ويبقى معلق  في الذاكره ...اهوه ربنا نولهالك ومحرمكش من حاجه ..  اهوه ده اللقاء اللي  هيفضل معلق معاها عمرها كله 


ازدادت ضحكاته ارتفاعًا، ولم يستطع السيطره  على نفسه، بينما كان"  أنس" يزداد غضبًا نهض واقفًا وقال بحنق:


ـ تصدق أني غلطان إني قاعد معاك، أنا سايب لك الاوضه كلها  وماشي


كاد "أنس" أن  يخرج عندما دخل آدم إلى الغرفه، ممسكًا بهديه بين يديه وكأنه يحاول إخفاءها لاحظ أنس ذلك، فسأله مستغربًا:


ـ إيه الهديه اللي معاك دي يا آدم؟


ضمّ  " آدم " الهديه إليه أكثر، وأجاب بصوت خافت:


ـ النهارده عيد ميلاد نعيمه 


ضرب "أنس" جبينه بكف يده ضربه خفيفه وقال متفاجئًا:


ـ أوبــــا ،  أنا نسيت خالص  أن النهارده عيد ميلاد نعناعه 


التفت إلى "نوح "يسأله متوقعًا نسيانه أيضًا:


ـ وأنت، كنت فاكر يا نوح؟


هزّ نوح رأسه نافيًا، ورد ساخرًا:


ـ أنامش فاكرك انتَ شخصيًا 


ابتسم " أنس "بمكر، وسحب الهديه من بين يدي آدم، وسط اعتراضه و قال "أنس"  بإصرار:


ـ بص، ولا واحد فينا افتكر يجيب هديه ، فلازم كلنا نكون سواسيه ، ماينفعش تطلع أنت المميز فينا


صمت لحظه ، ثم عدّل جملته:


ـ ولا بلاش كلمة "المميز" دي عشان كرهتها ،  ماينفعش تبقى "الفنكوش" اللي فينا وتديها الهديه لوحدك، عشان ما تزعلش مننا كلنا


تجهم وجه" آدم "  وحاول استعادة هديته:


ـ بس أنا جبتها عشان اقولها كل سنه وأنتِ طيبه


في تلك اللحظه ، ألقى " أنس"  بالهديه نحو" نوح"  فالتقطها  سريعًا ،  اقترب "آدم " منه ليأخذها، لكن " نوح" حاول تهدئته قائلاً:


ـ يا عبيط! مش هنعدي اليوم كده،" لا تقلق "

أمك هتقضي اليوم عند الست وداد جارتنا، وأنا هخلي أنس يعمل لنا تورته ، وهنعلق الزينه ونضف البيت  ونعملها مفاجأه  لكن الأهم، ماتديهاش هديتها  النهارده خليها بعدين، عشان ما تزعلش مننا


فكر آدم قليلًا، ثم اقتنع أخيرًا بكلامهم، بينما دون 

 " أنس " كل ما يحتاجه في ورقه لعمل كعكه عيد الميلاد  ، وتبقى " نوح " ليساعده  أستعداداً لحفله المساء 

.

.

.

.

.

.


هبّت نسمات الليل البارده، فوقف " آدم" ناحيه الشباك يراقب الطريق في صمت، عينيه تتابعان أي حركه قادمه لا يريد أن تلمحه " نعيمه" إن وصلت ، فالمفاجأه يجب أن تبقى سرًا حتى اللحظه الأخيره وفي الداخل، كان"  لقمان" منشغلًا بتعليق الزينه ، يرفع الأشرطه الملونه بحرص وكأنه يحيك فرحًا خفيًا بين الجدران


بينما في المطبخ، كان "نوح " يقف متحمسًا بجوار أنس، يراقب كل حركة بحماس وهو يناوله المكونات اعتدل في وقفته، وضع يديه على خصره، ثم قال بفخر شديد:


ـ بص انا جبتلك كل حاجه انت قولتلي عليها وريني بقى بتعمل التورته ازاي عايز اتعلم 


نظر إليه أنس يطلب منه كامل تركيزه: 


ـ بص ياسيدي مافيش اسهل من انك تعمل تورتايه المهم المكونات اول حاجه هنجيب اير فراير 


طالعه  " أنس " باستغراب، يضيّق مابين حاجبيه وهو يحاول استيعاب الكلمات التي سمعها للتو لم يكن الأمر منطقيًا بالنسبة له، 

كرر "أنس " طلبه بدهشه ، غير مصدق ما يحدث:


ــ إيه ده؟ هو مفيش "إير فراير" في البيت؟


تنهّد نوح بضيق، وقد بدا عليه الملل من هذا النقاش العبثي، ثم قال بسخريه وهو يحدّق في أنس:


ــ اير فراير ، ايه يابو اير فراير ده أبوك لما حن علينا وجاب لنا تليفزيون ألوان، جريت عريان في الشارع يومين  من الفرحه ، تقولي "إير فراير


 زفر "انس"  بضيق وهو يردّد كلماته بإصرار، محاولًا إيصال فكرته بأي شكل:


ــ بجد، بجد، البيت من غير "إير فراير" زي بالظبط كأن البيت مافيهوش "إير فراير


نظر إليه نوح نظره يائسه، ثم رفع السكين في وجهه محاولًا إنهاء هذا النقاش العقيم، وقال بنبره مليئة بالضجر:


ــ وحياة أمك، ماتنجز يا أنس، مش ناقصه خفّة دمك على المسا


لم يتأثر أنس بتهديده، بل أبعد السكين عن يده بهدوء، ثم واصل تحضير الكيك بحماس، وكأنه يقدّم برنامج طهي محترف بدأ يشرح طريقته بأسلوب مسرحي، وهو يجمع المكونات واحدًا تلو الآخر:


ــ بص يا سيدي، هنجيب كبايه لبن جاموسه ساقعانه ، وبيضتين من فرخه واحده، وهنحط عليهم سكر تموين أسمر، كباية كامله بس من ام ودن دقيق و هنضرب كله كله  في الخلاط، وبعد كده هنضيف عليهم نص كباية زيت موتوسيكلات عشان الخلطه تكمل 


توقف للحظة ليحرّك الخليط، ثم تابع بنبرة واثقة:


ــ قلب، قلب يا معلم! بعدين هنضيفهم على دقيق أبيض بالسوس ...


أنهى وصفته بابتسامة راضيه ، وكأنه قدّم تحفة فنية نادره، ثم أضاف بجديه مبالغ فيها:


ــ تبقى مظبوطه اوي مع كوبايه  من أم ودن زيت عربيات بتبقى هشه اكتر من زيت الموتوسيكلات صب المكونات جميعها في قالب من الالمونيا يفتح الفرن قائلاً : 


ـ ونسيبها بقى في الفرن من ساعتين لخمس ايام وهتبقى ظبطت على الأخر 


صعدت"  نعيمه" الدرج  ببطء، وما إن اقتربت من باب المنزل حتى تسللت إلى أنفها رائحة الكعكه الساخنه، فامتلأ قلبها بدفء غامض فتحت الباب لتجد الزينه تتدلى في كل زاويه، تتراقص تحت ضوء المصابيح، كأن المكان يحتفل وحده رفعت حاجبيها بدهشه وقبل أن تنطق كان" لقمان"  قد اقترب منها، ووجهه يشع بالسعاده.


تساءلت بلهفه، وهي تنظر إليه بريبه:


ــ أوعوا تكونوا بتحتفلوا برأس السنه... حرام يا ولاد


لم يمهلها " لقمان" لحظه للشك أكثر، بل اقترب منها، وطبع قبله دافئه على وجنتها وهو يقول بحب:


ــ كل سنه وأنتِ طيبن، يا نعناعه... النهارده عيد ميلادك.


تسمرت في مكانها للحظه، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامه دهشه لم تكن تتذكر هذا اليوم، لكنه لم ينسَ وقبل أن تستوعب الموقف تمامًا، اقترب " آدم "منها، أومأ برأسه احترامًا، وقال بصوته الهادئ:


ــ كل سنة وانتِ بخير يا أمي.


شعرت بحرارة دموعها تملأ عينيها، لكنها ابتلعتها، حتى لا تفسد تلك اللحظه الجميله فجأه ، انطلق " " نوح وآدم "من الغرفه المجاوره، يضعان أقنعه ملونه في وجهيهما، وبأيديهما أبواق الحفلات، يطلقان أصواتًا مرحه تعالت ضحكاتهم، وانضم إليهم"  لقمان"، يلتفون حولها، يغنون بحماس، يصفقون بسعاده غامره أما" آدم"  فوقف على مسافة، يشاركهم الغناء والتصفيق، وملامحه يكسوها دفء نادر.


وسط هذه اللحظات المضيئه، وبينما كانت تضحك بصدق، شعرت بشيء ناقص، بفراغ لا يملؤه أحد. تلاشت الأصوات تدريجيًا من حولها، وتغير المشهد أمام عينيها ، وكأنها  لم تعد بين أبنائها، شردت بذاكرتها حين كانت في وسط صحراء  سيناء الشاسعه، الرياح تعصف بالرمال، تحجب الرؤيه  ، وهناك وسط العاصفه، يقف "موسى" ، كان في الثالثة عشرة من عمره، ينظر إليها بعينين تحملان أعباء أكبر من سنّه يخبرها بصوت ثابت، كأنما يلقي قدَره أمامها، قال:


ــ روحي مع عم نصار يما... أبوي ما راح يخليني بحالي، طول ما أنا معِك ما راح يرحم إخواتي. روحي معاهم، وأنا بجِي لك من وقت للتاني 


تجمدت في مكانها، قلبها يعتصره الألم، كأن الزمن عاد بها إلى تلك اللحظة المشؤومه لكنها لم تلبث أن عادت إلى الواقع على صوت ضحكات أبنائها، تحيط بها السعاده من كل جانب... ورغم ذلك، ظل ذلك الفراغ القابع في صدرها يوجعها بصمت 

استفاقت نعيمه على صوت" أنس"  وهو يصرخ بحماسه، محاولاً إضفاء جو من البهجه في المكان:


ــ أنا بقى عاملك حتة تورتة، إنما إيه... هتاكلي صوابعك وراها!


كانت كلمات"  أنس" تملأ الأجواء بنوع من المرح، لكن المفاجأة جاءت حين دخل وهو يحمل الكعكه بيديه بحذر، وكأنها كنز ثمين، ليفاجأ الجميع وقد تعثرت قدمه بالسجاده ، وحين حاول توازن نفسه، سقطت الكعكه ، فارتطم وجهها بالأرض وسقطت على السجاده 

كان هناك صمت مطبق في المكان، وكأن الوقت قد توقف وقف الجميع في أماكنهم، ينظرون إلى ما حدث بعينين مليئتين بالدهشه، وكل واحد منهم يحمل في قلبه مزيجاً من الحيره والقلق.


لحظات ثقيله، حتى قطعت "نعيمه" هذا الصمت الرهيب، وهي تضرب كف يديها على صدرها بحزن عميق، وكأن قلبها قد تمزق في تلك اللحظه قائله:


ــ حسرتي عليكم يا عيالي، وعلى السجادة! تعالى يا حج نصار، شوف عيالك!


وقف الجميع في صمت عميق، بينما اقتربت نعيمة من الكعكة المقلوبة على السجادة، وعينيها تلمعان بحزن وأسى، وكأن ما حدث أكبر من مجرد كعكة سقطت. كانت لحظة مؤلمة، ثقيلة، كأنها تحمل في طياتها أكثر من مجرد سقوط تورتة، كأنها تحمل ذكرى ما غاب عنها.


تجمدت في مكانها، وكأن العالم كله قد اختفى من حولها لم تدرِ ماذا تقول، فكل شيء بدا في تلك اللحظه غير مكتمل، شعرت بأنفاس شخص يقترب منها من الخلف ، شعرت بهِ ، كان هو

ولدها "موسى "  يقترب بهدوء، يدرك جيدًا أن الكلمات قد تكون عاجزه أمام ما تشعر بِه همس في أذنها بصوت منخفض وحانٍ، وكأن همسات قلبه كانت تحمل معها الراحه والطمأنينه، أخرج شعله من جيبه بحركه سريعه، وأشعل الشمعه برفق، ثم وضعها على الكعكه المقلوبه رفع رأسه نحوها وقال بصوت هادئ، لكنه مليء بالدفء:


 ــ مش معنى ان التورته وقعت يبقى الفرحه تروح ، الفرحه بعيد ميلادك جوه قلوبنا يانعناعتنا 


فوجئ الجميع بوجوده، فغمرتهم فرحة كبيرة لم يصدقوا أنها حقيقة. عيونهم امتلأت بالدموع، دموع الفرح التي لم يستطيعوا إخفاءها. نظرت نعيمة إليه وهي في حاله من عدم التصديق  وكأن قلبها قد شعر منذ وقت طويل أنها ستراه اليوم، وها هو قد عاد بالفعل


اقترب منه الجميع، وأخذوه في أحضانهم بحراره، وكأن الزمن قد عاد بهم إلى لحظات أُلفت فيها القلوب العائله التي كانت قد تفرقت لفترة طويله، اجتمعت العائله  من جديد بعد غياب دام سته أشهر كانت الفرحه مكتمله أخيرًا، فلا شيء يمكن أن يكملها إلا بعودته إليهم 


نظر "نصار " إليه بعيون تغمرها مشاعر الشوق والحب، وعندما التقت عيناه بعينيه، شعر وكأن الزمن توقف للحظه كان اليوم بالنسبه له أكثر من مجرد لقاء، كان بمثابة عوده للحياه، لحظه لا تتكرر انطلق " موسى"  نحوه بخطوات سريعه، وكأن قلبه يقوده قبل قدميه، وعندما اقترب منه، انحنى ليقبل يده  لكن" نصار"  لم يمنحه الفرصه ليكمل حركته، بل أمسكه برفق وأخذ يده، ثم سحبه إلى صدره، ضمه إليه كما لو كان يعيد إحياء لحظه فقدها طويلاً كان حضنه هو كل ما يحتاجه، وكأن الكلمات عاجزه عن التعبير عن عمق الحنين الذي كان يسكن قلبه


.            .

        .


                    .

                                         .

                                                                   .


استفاقت نعيمه على صوت القارئ وهو يقرأ آيات الله، وصوت خطوات الناس وهم يدخلون إلى المدافن لزيارة الموتى لم تكن تدرك كيف مر الوقت، وكأن الفجر قد جاء دون أن تشعر، والشروق قد ملأ المكان من حولها بينما كانت غارقه في أفكارها كان القارئ يقرأ بجانبها، لكن "عمر" لم يكن مهتمًا وقف أمامها وسألها سؤالًا كان يدور في ذهنه :


ــ اللاه ، هو موسى مايبقاش أخوهم شقيقهم؟


هزت نعيمه رأسها بالنفي، وعينيها مليئه بالدموع، لكن فضول "عمر" دفعه أن يسألها المزيد:


ــ أمال موسى يبقى ابن مين؟ وليه كان مبيتكلمش زيّنا وإحنا صغار؟ وليه سبتيه في سينا؟


ابتسمت نعيمه وسط دموعها على أسئلته الكثيره، ثم قالت بصوت هادئ:


ــ يـــاه، موسى ده حكايته حكايه لو فضلت أحكي فيها، هنقضي الليله دي كمان  هنا  والشمس طلعت علينا المواصلات دلوقتي بقت موجوده ، تقدر تطلع على الشارع وتوقف تاكسي


سألها مسرعاً :


ــ طب وبقيه الحكايه ، الفضول قاتلني، عايز أعرف ليه حصل كده،  أسره سعيده زيكم، بيت مليان بالضحك والدفا، إيه اللي يخلي ده كله ينتهي بخمس شباب زي الورد يكونوا في مدفن واحد والتواريخ المكتوبه على مقابرهم بتقول إنهم ماتوا في ليله واحده


ابتسمت نعيمه ابتسامه مكسوره وهي تخبره:


ــ فضولك فعلاً قاتلك، بس أنا مش هقدر أكمل أنا لازم أروح


قالها دون تردد:


ــ يبقى هجيلك مطرح ما أخدتك عشان تكملي لي بقيت الحكايه


قامت نعيمه، وقفت واستقامت ، بينما ظل هو واقفًا وراءها، اخبرته وهي تتقدم الى الامام  دون أن تنظر إلى الوراء:


ــ عارفة إنك هتلاقيني، ومش هتسكت إلا لما تعرف آخرها وآخرة ولادي إيه


.                               .                               .


وصلت نعيمة أخيرًا إلى منزلها ، وكان التعب ظاهرًا على وجهها وجسدها  أغلقَت الباب خلفها، بأحكام  وحين احكمت غلقه ، جاء الحج "نصار"   بخطوات متلهفه قائلاً :


ــ هو ، هو نفس الشاب اللي بيراقبك كل مره ؟


ابتسمت نعيمه ابتسامه مكَر، ورفعت حاجبها قائله:


ــ اه ، بس المره دي كان هيدوسني وانا عملت فيها اني وقعت واتخبطت فعلا وركبت معاه العربيه  


حاول "نصار"  أن يدفعها للكشف عما في نفسها، فقال لها:


ــ حلو اوي المهم ، قوليلي، خلتيه يقتنع إن العيال ماتوا مش عايشين؟ أوعي يا نعيمه، أوعي يعرف إنهم لسه بخير وما ماتوش، وإنهم لسه هربانين خلينا ماشيين على الخطه اللي راسمها موسى بالظبط لازم يقتنع ان العيال ميتين 


وضعت نعيمه المفتاح على الطاوله بجانبها، ثم جلست على الكرسي وأردفت :


ــ وانت فاكرني عبيطه ولا إيه؟ ماتقلقش يا نصار أنا هفضل أجيبه وأودّيه، وأقوله اللي عايز يعرفه، هثير فضوله وأحكيله حكايتهم بالتفصيل لحد ما العيال يعرفوا يهربوا خالص ويطلعوا بره البلد ويعيشوا في أمان.


جلس "نصار"  على المقعد المجاور ، يلتقط أنفاسه  بعمق و قال:


ــ أنتِ متأكدة إن هو؟


أجابته وهي متأكدة من كلامها:


ــ أكيد، واللي أكد لي أكتر إنه هو، إنه غلط وقال اسمي من غير ما أقوله له.


ربت نصار على كف يدها وقال:


ــ عفارم عليكِ يا نعيمه 

تكملة الرواية من هناااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا








تعليقات

التنقل السريع