القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية فى حي الزمالك الفصل الواحد والاربعون والثانى والاربعون والثالث والأربعون والرابع والاربعون والخامس والاربعون بقلم ايمان عادل كامله

 رواية فى حي الزمالك الفصل الواحد والاربعون والثانى والاربعون والثالث والأربعون والرابع والاربعون والخامس والاربعون بقلم ايمان عادل كامله





رواية فى حي الزمالك الفصل الواحد والاربعون والثانى والاربعون والثالث والأربعون والرابع والاربعون والخامس والاربعون بقلم ايمان عادل كامله





الفصل الواحد والأربعون: قَرَارٌ لاَ رَجْعَةَ فِيهِ🦋✨🤎


"ميرال.." تمتم نوح بصدمة وبنبرة صوت مُرتجفة بينما مازالت يده تتحسس موضع ضربة أفنان، اقتربت ميرال وكانت الإبتسامة تُزيين وجهها لكن سرعان ما أختفت فور وقوفها أمامهم مباشرًة وهي تستفسر عن الآتي:


"هو.. هو في حاجة ولا أيه؟ مالك يا نوح ماسك خدك ليه؟" نظر نحوها نوح بفاه فارغ لبضع ثوانٍ وهو يحاول أن يعرف منذ متى وهي تقف بالقرب منهم ويا ترى ما مدى ارتفاع نبرة صوتهم فيما دار بينه وبين أفنان من حديث..


"أنتِ.. أنتِ واقفة هنا.. من أمتى؟" كان يسأل نوح بتقطع وتلعثم شديد منحته ميرال ابتسامة غير مفهومة تنم عن الحيرة ثم تُجيب على سؤاله بإجابة جعلته يهدأ نسبيًا:


"لسه جاية، في أيه بقى؟"


"مفيش.. تعالي نشوف.. نشوف الحاجات اللي اخترناها نشوف هنوصل لسعر كام مع الراجل."


حاول نوح تغير الموضوع وهو يتحاشى النظر نحو أفنان، كان يظن بغباؤه أن أفنان ستجعل ما حدث قبل قليل يمر مرور الكرام لكنه أدرك أنه مخطئ تمامًا حينما أردفت أفنان بحزم شديد:


"ميرال ممكن تنادي بابا، عايزاه في حاجة ضروري."


"هتقوليله أيه؟ أحنا محتاجينه جوا عشان العفش."


سأل نوح بتلعثم وبنظرات مرتعبة لم تراها أفنان من قبل لكنها لم تهتم فحنقها وغضبها لم يجعلها تصب تركيزها على أي شيء غير إخبار والدها بما حدث قبل قليل، طالعته بإزدراء قبل أن تقول بنبرة لا تخلو من الإنفعال:


"عايزة اقول كلمتين لأبويا! هتدخل كمان بيني وبين أبويا؟! حاجة عجيبة جدًا بجد!"


"في أيه يا أفنان؟!" سألت ميرال بعدم استيعاب وقبل أن تُجيبها أفنان سبقها نوح وهو يقول:


"خلاص يا ميرال سيبيها، ممكن حضرتك تسمحيلنا نحجز بس وبعدين عمو هيخرجلك."


"صدقني مفيش داعي يا نوح." تمتمت أفنان مع ابتسامة جانبية ساخرة، امتعض وجه ميرال قليلًا وهي تسألهم بحيرة:


"مفيش داعي لأيه؟ أنتوا مالكوا بتتكلموا بألغاز كده ليه؟"


"مفيش يا ميمي، تعالي ندخل سيبي أفنان عشان شكلها مش مضبوطة دلوقتي."


"هاجي معاكوا."


تمتمت أفنان بإصرار وهي تتجه نحو الداخل ليبتلع نوح الغصة التي في حلقه متسببه في تحرك ما يسمى بتفاحة آدم،  وبمجرد اقترابهم من باب المعرض وجدت أفنان والدها يهرول نحو الخارج مسرعًا وقد ارتسمت علامات الهلع والرعب على وجهه، هرولت أفنان نحوه وهي تحاول أن تستفسر عن ما حدث.


"جدتك تعبت جامد بيقولوا غيبوبة سكر!"


"يا ساتر يارب، يلا يا عمو عالعربية بسرعة.. هي في أني مستشفى؟" سأل نوح بقلق لم تعرف أفنان هل سببه ما قاله والدها أم بسبب ما كانت تنوي هي قوله.


"هقولك العنوان لما نركب يلا بسرعة."


"طب يا بابا متعرفش تفاصيل حصل أيه؟"


"مش عارف حاجة.. ربنا يستر.."


"متقلقش يا حبيبي إن شاء الله هتبقى كويسة."


كان نوح يقود بقلق متقمصًا دور البطل المغوار الشجاع، في الواقع لم يكن لتوتره أي علاقة بمرض جدة أفنان بل كان القلق ينهش روحه نهشًا لأنه واثق تمامًا أن أمره سيُفتضح هذه المرة وأن أفنان ستخبر الجميع بما حدث وأنه سيخسر كل شيء لا محاله، فحتى وإن لم يصدقها أحد فسيندلع شجار كبير بينها وبين ميرال وعلى آثره سيتفرق شمل الأسرة وستتخلل الضغينة قلب الأختين.


ياله من أحمق ثرثار لو استطاع فقط حبس كلماته داخل جوفه لما حدث ما سيحدث، زفر بضيق وهو يُطالع أفنان في المرآة، كان يظن أنها سوف تتحاشى النظر نحوه لكنها كانت ترمقه بنظرات حادة واثقة فهي تعلم أنها على حق تمامًا، وأثناء سير نوح بالسيارة توقفت آخرى أمامهم فجاءة وكاد نوح أن يصطدم بها ليجد نفسه يخرج رأسه من الشرفة ويسب السائق الذي أمامه بدون وعي.


"خلاص يا نوح يا ابني اهدى وركز في الطريق قدامك عايزين نوصل بخير."


"اه لو سمحت كفاية تيتا في المستشفى مش هنبقى كلنا." علقت أفنان متعمدة إثارة غيظه أكثر وأكثر.


بعدة مدة ليست بطويلة توقفت السيارة أمام المستشفى ليترجل الجميع منها متجهين نحو الداخل وفي أثناء ذلك قامت أفنان بإبطاء خطواتها قليلًا كي تواكب سير نوح والذي اقتربت منه قليلًا وهي تُردف بتحدٍ شديد:


"أوعى تفتكر إن الموضوع عدى يا نوح، أنتَ بس حظك حلو إن تيتا تعبت.. اعتبره تأجيل حكم بالإعدام لكن مش إعفاء."


كان نوح يرتشف المياه من زجاجته لكنه سعل على الفور حينما سمع ما قالته، منحته ابتسامة جانبية ساخرة قبل أن تتقدم لتواكب خطواتها خطوات شقيقتها والتي كانت هادئة وساكنة بشكلًا مبالغ فيه، وضعت أفنان ذراعها حول رقبة شقيقته لتُحيطها بلطف وهي تسألها:


"مالك؟ أكيد زعلانة عشان ملحقتش تجيبي العفش، متقلقيش كل حاجة بميعاد والنهاردة مكنش الميعاد."


"أنا بس.. زعلانة عشان تيتا وكده.."


"إن شاء الله هتقوم بالسلامة متقلقيش، تلاقيها بس لغبطت في الأكل ونسيت تاخد الأدوية بتاعتها."


في مساء ذلك اليوم وبعد أن تأكدوا من سلامة جدتها عاد الجميع إلى المنزل بعد  أن قام نوح بإيصالهم، لم يضطر أحد للبقاء مع جدة أفنان لأن عمتها قد تكفلت بالأمر، كانت أفنان تراسل رحيم بينما تتناول بعض المقرمشات أما ميرال فجلست على سريرها تتأمل السماء من الشرفة في سكون تام.


"ميرال هو حصل حاجة ولا أيه؟ سكوتك النهاردة مش طبيعي."


"حاسة أني مرهقة شوية."


"من الشغل طبعًا ربنا يعينك."


"ياريته عالإرهاق الجسدي يا أفنان كان هيبقى للموضوع حل.. برشامة مسكنة والموضوع يخلص، لكن الإرهاق النفسي بناخدله أيه؟"


كانت تتحدث ميرال بشرود وهي تتحاشى النظر إلى عيون أفنان التي اقتربت لتجلس إلى جانبها، جذبتها أفنان في عناقٍ دافئ لتنهمر دموع ميرال على الفور..

ساد الصمت لبرهة فلم تجد أفنان ما تقوله لكن بداخلها كانت تتوعد لنوح لما تسبب به من جراح في قلب شقيقتها.


مر يومان على ما حدث، كانت أفنان كلما حاولت التحدث إلى والدها وجدته منشغلًا بأمر جدتها، لم تتحدث بالطبع إلى والدتها فهي تعلم أنها لن تُصدقها على أي حال والوضع سيزداد اضطرابًا..


"أنا نازلة مع نوح عشان ندفع عربون العفش." أردفت ميرال بعد أن بدلت ثيابها، رمقتها أفنان بصدمة وهي ترمش عدة مرات متتالية قبل أن تُعلق بتلعثم قائلة:


"متأكدة؟ قصدي يعني متأكدة إن الحاجة عجباكي؟ لو مش مقتنعة أوي ممكن نأجل.." كانت أفنان تحاول إيجاد حجة مُقنعة لمنعها من فعل ذلك لكن لم يبدو على ميرال الإقتناع بتاتًا كما لم يبدو عليها الحماس تجاه الخطوة التي على وشك أن تُقدم عليها.


"مفيش وقت.. مينفعش أجل تاني يا أفنان، أنتِ عارفة خلاص فاضل كام شهر عالفرح.. أحنا اختارنا الأجهزة وناقص بابا يشوف مع نوح هنقسطها ازاي وأدينا هنجيب العفش أهو."


"طيب، خدي بالك من نفسك.. هو بابا فين؟"


"عند تيتا." أجابت ميرال وهي تتجه نحو باب المنزل لتتنهد أفنان بضيق.


كان نوح ينتظر ميرال أمام المعرض في الميعاد المتفق عليه، كان ينظر في ساعة يده حينما جاءت ميرال، تسير نحوه بخطوات بطيئة ونظرات عيناها لا تخلو من التردد وكأنها على وشك فعل كارثة ما.


"أيه يا ميمي ده؟ تأخير ٣ دقائق، بعد كده هدفعك غرامة."


حاول نوح ممازحتها لتبتسم هي له بهدوء قبل أن تتجه نحو الداخل، أخذت جولة أخيرة مع نوح في المعرض قبل أن يستقر كلاهما على الأثاث نفسه الذي وقع عليه الإختيار برفقة عائلتها، توقفت ميرال عن السير فجاءة ووقفت تنظر إلى نوح داخل عيناه وهي تسأله بتعابير خاوية:


"نوح هو أنتَ بتحب الغوامق؟"


"مش أوي يعني، قصدك عشان لون الأنترية يعني؟ ده عشان الفواتح بتتبهدل أنتِ أكيد عارفة."


"هو ده السبب بس يعني؟"


"اه، كمان الألوان لايقة مع لون الدهان وكده.." أجاب لتومئ هي في صمت، منحها ابتسامة صغيرة ومن ثم أمسك بحقيبة يده السوداء الصغيرة وهو يخرج حزمة من المال ويقوم بالتأكد من المبلغ الذي بحوزته.


"نوح.." همست بصوتٍ متجف ليرفع عيناها مانحًا إياها نظرة خاطفة قبل أن يُردف بنبرة مُبتذلة:


"قلب نوح."


"أنا مش هشتري." وقعت الكلمة كالصاعقة على أذن نوح، صدرت ضحكة صغيرة منه بغير استيعاب دنًا منه أن ميرال تمزح لكن حينما رفع عيناه ليواجه خاصتها أدرك أنها جادة.. جادة كما لم تكن من قبل، ابتلع الغصة التي في حلقه وهو يسألها مستنكرًا:


"أيه؟ بتقولي أيه؟ مش عاجبك الحاجة ولا أيه؟ لو كده نشوف حاجة تانية."


"لا عجباني بس مش هشتري.."


"ميرال أنتِ مُدركة أنتِ بتقولي أيه؟ مش وقت دلع ده! أحنا هنتجوز كمان كام شهر يعني لازم نجيب الحاجة بسرعة."


"أنا مش هجيب الحاجة ومش هتجوز يا نوح، أنا حبيتك يا نوح.. حبيتك من كل قلبي، بس أنا مش هقدر استحمل يوم كمان بالوضع اللي أنا فيه ده.. مش هقدر استحمل أنك تبقى في حضني وقلبك وعقلك مع حد تاني، مش هقدر استحمل إهانات وزعيق وتهزيق على كل تصرف بعمله بقصد أو من غير قصد، أنا أسفة.."


نبست ميرال بهدوء تام عكس العاصفة التي اعتصرت قلبها من الداخل بينما تخلع خاتم الزواج من يدها المُرتجفة.. وينخلع معه قلبها، تُمسك بكف نوح وتضع بداخله الخاتم ومن ثم ترحل..


ترحل تاركة إياه يقف بثغرٍ فارغ، بقلب يشعر بالتحطم الحقيقي لأول مرة.. شعور غريب يراوده، ثِقل على قلبه لم يشعر به من قبل.. ضحكة غير مفهومة صدرت منه تبعها صمتٍ طويل، حرقة في عيناه.. هل حقًا يبكي؟! نوح ذو الطبع البارد يبكي؟ ومن أجل من؟ ميرال؟! أم أنه يبكي رثاءًا على حياته التي تزداد سوءًا في كل مرة يحاول إصلاحها..


لم يستطع أن يتبعها، أبت قدمه الحراك وهو يعلم جيدًا أنه لا يملك أي حق في التبرير أو محاولة إصلاح الأمر، وهل تُصلح الأمور بهذه البساطة؟ هو لم يكسر كوبًا ولم يُفسد مُركب كيميائي بل حطم قلب فتاة أحبته بصدق وحول حياة الفتاة التي أحبها إلى جحيم... لكن أكثر ما كان يشغل باله هو ما حدث لتنقلب أحوالها بهذا الشكل؟ أم ربما.. ربما سمعته وهو يتحدث إلى أفنان؟! مؤكد أنه لن يعرف الإجابة على هذا السؤال..


كان المشترون في المعرض والبائعين يُطالعون نوح بشفقة ويتهامسون فيما بينهم، بالطبع يشفقون عليه فمن يرى المشهد من بعيد سيرى الفتاة الجاحدة ذات القلب القاسي التي تترك زوجها المستقبلي أمام الجميع وأين؟ في المكان الذي من المفترض بهم أن يشتروا ما يحتاجونه من أجل عُشهم الصغير، لكن نوح استاء لتلك الفكرة فهو يريد أن يصرخ في وجه الجميع أن ميرال لم تكن سوى ملاك وهو فقط لم يستطع معرفة قيمتها والآن على ما يبدو أنه خسر كل شيء..


كانت ميرال تسير بتيه في الشوارع، لا تدري أين هي ولا تدري ما وجهتها.. لا ترى أمامها سوى طريقٍ طويل مُبهم مُشوش بفعل الدموع التي انهمرت بقوة من عيناها، تشعر بنيران تحرق قلبها، يديها ترتجف وأناملها باردة بالرغم من حرارة الطقس.. تسير لمدة لا بأس بها وهي تشعر بخدر تام في جسدها فلا تشعر بأي تعب كادت تُكمل على هذا النحو حتى جاءها اتصال من شقيقتها الوحيدة.


"أيه يا ميرال اشتريتوا الحاجة؟"


"لا."صدرت الكلمة بنبرة أقرب للحشرجة لكن أفنان لم تنتبه بسبب الضوضاء التي أحاطت بها لذا سألت شقيقتها بصوتٍ عالٍ لا يخلو من الضيق:


"ليه؟ علي صوتك شوية الدنيا دوشة مش سمعاكي."


"هو أنتِ فين؟" لم تكرر ميرال ما قالته بل سألت أفنان عن موقعها وهي تدعو بداخلها أن تكون أفنان في مكان قريب فميرال تشعر بالوحشة ووحده العناق خاصة أفنان هو ما يستطيع منحها شعور بالطمأنينة والدفء..


"كنت زهقانة في البيت لوحدي قولت انزل اجيب لبس للجهاز، بقولك أيه لو خلصتي ما تخلي نوح يوصلك عندي."


"ابعتيلي اللوكيشن طيب." نفذت أفنان ما طلبته ميرال وانتهت المكالمة على هذا النحو، قامت ميرال بطلب سيارة أجرى وتوجهت نحو الموقع الجغرافي الذي أرسلته أفنان.


"ما لسه بدري، بقالي نص ساعة واقفة في الشمس مستنية ساعدتك.."


تذمرت أفنان فور رؤيتها لوجه شقيقتها، لم تلاحظ أفنان أثر البكاء على وجه شقيقتها لإرتدائها نظارة شمسية، اقتربت ميرال قليلًا من أفنان وهي تخلص النظارة بواسطة يدها اليًمنى وقبل أن تستوعب أفنان عدم وجود خاتم الخطبة في يد ميرال فتحت الأخيرة فمها لتُردف بثبات تام:


"أنا سيبت نوح."


"عملتي أيه؟!!" سألت أفنان بعدم استيعاب، مخها يأبى ترجمة ما تقوله ميرال لتسألها مجددًا بعدم تصديق:


"ميرال أنتي مستوعبة أنتِ بتقولي أيه؟ أنتِ فاضل كام شهر على فرحك.. أحنا جهزنا معظم الحاجة تقريبًا.."


بالطبع لم تكن أفنان تحاول إقناع ميرال بالعودة إلى نوح إطلاقًا لكن ذلك لم يمنع كون الأمر صادم بالنسبة إليها، فميرال التي تعشق الهواء الذي يستنشقه نوح قد قررت بكامل إرادتها وكامل قواها العقلية أن تنهي علاقتها بنوح وأن تُنهي فصل الخطبة البائس من تاريخ حياتها..


ساد الصمت لبرهة قبل أن تأخذ ميرال نفسًا عميق وهي تحاول مسح دموعها التي انهمرت وكي لا تمنعها الغصة التي في حلقها من التحدث، نظرت إلى داخل عين أفنان ثم أردفت الآتي:


"نوح بيحبك يا أفنان.. مهما حاولت أشغله عنك ومهما حاولت أعمل نفسي عبيطة هو بيحبك! فاضل أقل من  ٦ شهور على فرحنا ولسه بيتلغبط في اسمي وبيندهلي بإسمك! بيختار الألوان اللي بتحبيها وبيستخدم نفس ألفاظك في وصف الحاجة، بيسرح فيكي كل مرة بتتقابلوا! ده حتى وأحنا بنجيب الشبكة يا أفنان كان بيسألك عن رأيك وكأنك أنتِ اللي هتلبسيها.. أنا كنت غبية لما أفتكرت أنه هيحبني.. هو عنده حق أنه يحبك، أنتي أحلى مني وشخصيتك أحسن.. شخصيتك؟ على الأقل أنتي عندك شخصية لكن أنا.."


كانت تتحدث ميرال بإنهيار شديد، نبرتها تنم عن صدق شعورها، الآلم يفوح منها والكلمات الصادرة من فمها كانت بمثابة خنجر يطعن قلبها وقلب أفنان في الوقت ذاته.


"ششش! بس يا ميرال اسكتي.. متكمليش!" صاحت أفنان  وهي تضم شقيقتها بين ذراعيها في عناقٍ قوي بينما تُجبر ميرال السكوت بإغلاق فمها بواسطة كتفها.


"أنتي أجمل واحدة في الدنيا يا ميرال، وأنتي مش عديمة الشخصية وأوعي تقولي كلامي زي ده تاني! هو اللي غبي ومعرفش يقدر قيمة الحاجة اللي معاه وأنا وربنا لأجبلك حقك منه يا حبيبتي."


أردفت أفنان من بين دموعها وهي تشعر بقلبها يحترق من أجل شقيقتها، لم تُجيب ميرال على ما قالته أفنان بل اكتفت بإخراج بعد الشهقات دلالة على بكائها ولكن بدون أي سابق انذار هدأ صوت بكائها لم تستوعب أفنات ما حدث حتى شعرت بثقل شديد في جسد ميرال، لقد فقدت ميرال الوعي.


شهقت أفنان بقوة وهي تحاول حمل جسد ميرال.. لكنها فشلت لكن لحسن الحظ انتبهت لها فتاة تعمل في محل بقالة هرولت نحوها لتساعدها على حمل جسد ميرال ووضعها على أحدى الكراسي، حاولت أفنان أن تضرب وجه شقيقتها بخفة لكن الأمر لم يجدي نفعًا ومن هول الموقف لم تستطع  أفنان التفكير في أي حلًا آخر سوى الإمساك بالهاتف ومهاتفة أول رقم هاتف ظهر أمامها.


"رحيم.. ألو.. رحيم ألحقني." صرخت أفنان بمجرد أن أجاب  هو من الجانب الآخر، لم تنتظر سماع صوته وتفوهت بجملتها المثيرة للفزع تلك وكانت تنتظر أن يأتيها صوت رحيم من الجانب الآخر لكن لم يكن هو من أجاب.


"أيوا يا أفنان أنا أنس.. رحيم بيسوق مش عارف يرد في حاجة ولا أيه؟"


"أنس ألحقني ميرال أغم عليها في الشارع.. مش عارفة اعمل ايه.."


"أنتوا فين طيب قوليلي بالضبط؟"


"هبعتلك اللوكيشن."


أنهت أفنان المكالمة وانتظرت مدة قصيرة حتى توقفت سيارة رحيم أمامهم وفي ذلك الوقت كانت ميرال على وشك استرداد وعيها.


"أيه يا أفنان حصل أيه؟" سأل رحيم بجدية وقلق مُناديًا  أفنان بإسمها كاملًا وليس بلقبها المُعتاد، استغرقت بضع ثوانٍ قبل أن تُعلق دون الإجابة على سؤاله:


"مش وقته، هحكيلك لما نطمن عليها."


أدخلت أفنان ميرال إلى داخل السيارة بمساعدة الفتاة، شكرتها أفنان ودلفت إلى داخل السيارة سريعًا ومعها رحيم و وبمجرد أن فعل كليهما تحرك أنس بالسيارة مُسرعًا وهو يُردف مُتذمرًا من حظه السيء:


"يادي الوكسة هو مفيش مرة أوصلك أنتِ وميرال غير وهي فطسانة كده؟ بتعملي أيه في البت؟"


"بطل رغي وبص قدامك لا نترمي كلنا في المستشفى."


"بت أنتِ كلميني حلو، أنا ممكن اسيب الدريكسيون وأمسك في خناقك عادي ولا يهمني."


علق أنس بإزدراء على حديثها وهو يترك عجلة القيادة ويلتفت ليتحدث إليها، لتتسع أعين رحيم وهو يُمسك عجلة القيادة بدلًا منه بينما يوبخه بجدية قائلًا:


"أنس! مش وقته الهبل اللي بتعملوه ده، وسوق عدل بدل ما نموت كلنا."


"معنديش مشكلة عن نفسي."


بعد مدة ليست بطويلة توقف أنس أمام أحدي المستشفيات الخاصة والتي يعمل بها بضع من أصدقائه هو ورحيم، طمئنهم الطبيب وأخبرهم أنه فقدان في الوعي نتيجة انخفاض ضغط الدم والنباع عن إرهاق شديد وعدم تناولها الطعام لمدة طويلة، سبت أفنان نفسها في داخلها.. كيف لها ألا تنتبه أن ميرال كانت بالكاد تأكل في اليومين الماضيين؟!


"هو أيه اللي حصل لكل ده؟" سأل رحيم بقلق وقبل أن تُجيبه أفنان سبقها أنس وكان توقعه صحيحًا بالفعل.


"أكيد بسبب سبع البورمبة بتاعها."


"ميرال فسخت خطوبتها على نوح من ساعتين.."


"هو مش المفروض They were getting married this year 'كانوا سيتزوجون في هذا العام'؟!"


"اه.. مفهمتش منها تفاصيل الموقف بالضبط.. هي قالتلي ووقعت مني، أنا قلقانة عليها أوي يا رحيم.. على أد ما أنا عايزاها تفوق عشان اطمن عليها على أد ما أنا خايفة من اللي هنقوله لبعض وحاسه قلبي واجعني أوي عليها من الكسرة اللي هي فيها.."


"هو ممكن لما تفوق اقعد معاها في الكافتيريا بتاعت المستشفى نتكلم قبل ما أي حد تاني يكلمها في أي حاجة؟"


طلب أنس طلبه الغريب مُخرجًا أفنان من نوبة التأثر والحزن لتنظر نحوه بحنق وهي ترفع أحدى حاجبيها بإعتراض واضح بينما تسأل مُستنكرة:


"وأنت هتقولها أيه بقى يا عم المصلح الإجتماعي أنت؟"


"خليكي في حالك، وكلمي باباكي قوليله أنها تعبت شوية وأنكوا معانا عشان ميقلقش."


"حاضر لما نشوف آخرتها معاك." نفذت أفنان ما طلبته، وبعد  بضع دقائق أخبرتهم الممرضة أن ميرال قد استيقظت وأنهم بإمكانهم الإطمئنان عليها.


"طيب ممكن بعد إذنك تاخديها وتنزليها الكافتيريا، لو هي تقدر تتحرك يعني."


"حاضر."


بعد خمسة دقائق كانت ميرال تجلس بحيرة على أحدى الكراسي بحديقة المستشفى، لا تتذكر ما حدث ولكنها توقعت بالفعل ولكن لا تدري أين أفنان؟ ومن تنتظر الآن؟ لقد أخبرتها الممرضة أن تنتظر هنا.


"مساء الفل." صدرت هذه الجملة من أنس لتنتفض ميرال وهي تلتفت حولها بحثًا عن مصدر الصوت، منحها ابتسامة صغيرة وهو يذهب للجلوس أمامها.


"أنس؟ أنتَ أيه اللي جابك هنا؟"


"أيه ده أيه الإحراج ده؟ أنا اللي انقذتك يا ستي، أغم عليكي مع أفنان وطبعًا عشان أنا شجاع جدًا ومغوار أفنان استعانت بيا عشان اجي ألحقك."


أعلن أنس بنبرة درامية مُتقمصًا دور البطل الشجاع لتبتسم ميرال ابتسامة صغيرة وهي تسأله:


"بيك ولا برحيم؟"


"متدخلنيش في تفاصيل دلوقتي، المهم مش هتحكيلي حصل أيه؟"


"بإختصار كده أنا كنت مخطوبة لنوح، ابن خالتي.. أنت أكيد عارفه.. كنت بحبه من زمان كان حلم حياتي من وأنا طفلة.. لما اتقدملي مكنتش مصدقة نفسي وكنت طايرة من الفرحة، مكنتش واخدة بالي أنه عمل كده غصب.. غصب على نفسه وخطبني مع أنه بيحب أفنان.."


كانت تسرد ميرال ما حدث بشرود، تتحاشى النظر إلى عيون أنس فهي متوقعة ردة فعله.. إما سيطالعها بشفقة أو بإزدراء بسبب حماقتها الواضحة.


"كملي أنا سامعك."


تمتم أنس بإهتمام حقيقي وبنبرة لم تحمل في طياتها أيًا مما توقعته ميرال، لتأخذ ميرال نفس عميق ثم تتابع حديثها مُفرغة كل ما في جعبتها.. ساد الصمت لبرهة بعد أن فرغت من حديثها قبل أن يُقاطعها أنس وهو يسألها بسخرية:


"دي ستوكهولم سيندروم دي يا بنتي ولا ايه؟"


"دي شتمية؟" سألته ميرال بجدية.


"Stockholm Syndrome"


أعاد تكرار المصطلح بلغة إنجليزية صحيحة لتنظر نحوه ميرال بالبلاهة ذاتها ليقهقه قبل أن يُتابع مُفسرًا:


"لا ده مرض نفسي.." عبس وجه ميرال وهي تعبث في يديها تتحسس موضع خاتم الخطبة لتتذكر على الفور أنه لم يعد هناك وجود للخاتم، حمحم أنس بضيق وهو يحك مؤخرة عنقه قبل أن يسألها بقليل من الذنب:


"أيه ده قلبتي وشك ليه؟ أنا مش قصدي حاجة.. استني هشرحلك المصطلح ده جيه منين.. بصي يا ستي كان يا مكان كان في مكان زمان اسمه ستوكهولم 'منطقة في السويد' كان في بنات هناك بيشتغلوا في بنك، اتعرضوا للخطف من حرامية عملوا سطوا على البنك.. والبنات دول حبوا اللي خطفوهم ومن هنا جت فكرة إنك تحبي الشخص التوكسيك اللي بيأذيكي، دي طبعا حالة مرضية لكن للأسف الناس صورتها على أنها حاجة رومانسية فظهر أمثالك بقى."


كان أنس يشرح المصطلح وفي الوقت ذاته كان يعصر قلب ميرال عصرًا حينما ازداد إدراكها لمدى حماقتها وأنها بالفعل كانت ترى الأمور من منظور قاصر للغاية..


منظور خاطئ تمامًا، منظور قد صوره المجتمع، الأفلام الهابطة والروايات الفاسدة على أنه الحب، الحب والكرامة لا يجتمعان.. يالها من سخافة.. فما معنى الحب دون كرامة؟ كيف للإنسان أن يُحب أحدٍ آخر قبل أن يُحب نفسه؟ كيف للإنسان أن يحافظ على كرامة ومشاعر شخصٍ آخر إن لم يحافظ على كرامة نفسه أولًا؟


رمشت ميرال عدة مرات متتالية وهي تخرج من شرودها، ومن ثم تُطالع أنس بإبتسامة ساخرة وهي تهمس:


"ربنا يكرم أصلك."


"أنتِ زعلتي ولا أيه؟ أنا مش قصدي ازعلك.."


"لا مزعلتش ولا حاجة، وحتى لو زعلانة مش هيبقى منك هيبقى من نفسي.. أنا اللي وصلت نفسي للمرحلة دي."


"بقولك أيه يا ميرال أنا عازمك عند ال Psychiatrist 'الطبيب/ة النفسية' بتاعتي."


"يااه عزومة ولا أروع بصراحة، وبعدين لا يا عم أنا عارفة أن الدكاترة النفسيين كشفهم غالي أوي."


"هي دي حقيقة، بس أنا عازمك."


"لا معلش مش هينفع."


"طب بصي أنا هدفعلك وأنتِ قسطي المبلغ على عشر سنين، كل سنة جنية ونص مثلًا.."


"اتفقنا.. طب أيه أنت مش هتحكيلي زعلان ليه؟"


سألت ميرال بتلقائية تامة ليحاول أنس اخفاء ضحكته ويحاول التحدث بجدية لا تتماشى مع حديثه الساخرة مُردفًا:


"زعلان؟ بصي يا ستي أبويا كان مدمن، أمي كانت في مصحة للأمراض النفسية والعقلية وأختي كانت في غيبوبة بسبب أبويا، بس فزعلان شوية."


قهقهت ميرال على حديثه ظنًا منها أنه يمزح لكنها وجدت تعابير وجهه جادة تمامًا فيما عدا ابتسامة منكسرة ظهرت على جانبه فمه، اعتدلت في جلستها وهي تسأله بجدية:


"هو أنت بتتكلم جد؟"


"اه.. للأسف يعني." نبس أنس ببعض الحرج وهو يُعدل من  جلسته دلالة على عدم شعوره بالراحة، ضحكة ساخرة صدرت من ميرال قبل أن تتفوه مُستنكرة:


"وأنا اللي كنت فاكرة إن مشكلتي هي أكبر مشكلة في الدنيا.."


"هي فعلًا أكبر مشكلة في الدنيا.. دنيتك أنتِ، مش معنى إن في ناس تانية بتعاني أو أنك بطريقة ما شايفاهم بيعانوا أكتر منك أنك تتفهي من مشكلتك، يعني أنا لو في وضع شبه بتاعك وسيبت البنت اللي بحبها لو بحبها بجد يعني هبقى منهار وفي نوبة اكتئاب."


"أنا بصراحة مش قادرة اتخيل نفسي مكانك.. حاسه قلبي مش هيستحمل الفكرة أصلًا.."


"بعد فترة بتتأقلمي مع الوضع مهما كان سيء.. بعد الشر عنك طبعًا ربنا ما يحطك في وضع زي ده."


"طيب وليه متحاولش تغير الوضع ده؟ أنا عارفة إن طبعًا الكلام  من برا سهل.. أنس هو اللي أنت حكيته ده بجد؟"


كانت ميرال تتحدث بجدية تامة ولكنها عاودت السؤال بحيرة عما إن كان حديثه صادقًا أم لا، ضحكة رجولية عالية صدرت من أنس سمحت بظهور أسنانه البيضاء اللامعة وإن كانت ميرال في غير وضع وفي غير زمان لو قعت في حب ابتسامته تلك بدون جهد يذكر، بعد أن انتهى أنس من نوبة الضحك خاصته فرك عيناه قبل أن يُحمحم ويُردف بجدية:


"هاتي مصحف أحلفلك عليه لو مش مصدقاني."


"لا خلاص مصدقاك مصدقاك.. أيه ده أفنان ورحيم ومعاهم بابا.."


"اه ما أنا اللي قولتلهم يجيبوه."


"بابا ميعرفش حاجة صح؟ هقولهم أيه عن الدبلة اللي مش في إيدي؟"


"عادي أفنان شالتها في شنطتها لما أغم عليكي عشان خافت لحد يسرقها والناس بتساعدك."


"صح برافو عليك."


"أيه يا ميرال يا بنتي أنتِ كويسة؟"


"اه يا بابا متقلقش أنا بس مكنتش واكلة كويس." كذبت ميرال بنبرة مرهقة لكن من شدة قلق والدها لم ينتبه لكونها غير صادقة، زفر بضيق ومن ثم انتبه لشيء هام ليسألها الآتي:


"وفين نوح؟ ازاي يسيبك في الوضع ده؟"


"ما هو أصل.. هو ميعرفش.. أحنا كنا مع بعض وجاله شغل فجاءة ووصلني لأفنان و.. ومشي وكده."


"طيب يا بنتي، أنا هروح الحسابات وأجي ونروح البيت ترتاحي." أعلن والدها لتومئ له ميرال بصمت، يستقيم أنس من مقعده ويتبع والدها ورحيم ولكن قبل أن يذهب يُلقي نظرة أخيرة نحوها وهو يهمس بصوتٍ منخفض:


"أنا هقوم أشوفهم بقى.. متنسيش العزومة ها." ابتسم ميرال ابتسامة صغيرة وهي تومئ برأسها ب 'نعم' ليبتسم أنس وهو يغمز لها بإحدى عينيه.


"عزومة أيه؟ أنا مش فاهمة حاجة.."


"هبقى اشرحلك بعدين.."


"ميرال ممكن تقوليلي أيه اللي خلاكي تاخدي القرار ده فجاءة.. ليه بعد ما استحملتي المدة دي قررتي تنهي كل حاجة؟ أنا مبسوطة وفخورة بيكي طبعًا بس عندي فضول."


"أنا سمعتكوا وأنتوا بتتكلموا.. من الصدمة معرفتش أدي رد فعل.. فضلت تلات أيام مش بنام، مش عارفة أفكر.. مش عارفة أخد قرار..


كانت ميرال تُفسر ما حدث بحزن شديد، كانت أفنان تستمع إليها في ذهول واستياء قبل أن تسألها الآتي:


"ليه مقولتليش؟"


"كرامتي وجعتني أوي يا أفنان، فرق كبير أوي لما الحاجة تبقى محسوسة وبين لما تتقال بشكل صريح.. أنا تايهة ومتلخبطة ومش عارفة أعمل أيه.. "أنا مش عارفة هقول لبابا ازاي.. والفلوس اللي دفعها في الجهاز والحاجة اللي اتجابت عالفاضي.. ولا ماما.. علاقتها بخالتو.."


"هتقوليلهم أيه يعني أيه؟ هتقوليلهم كل شيء قسمة ونصيب، والحاجة اللي اتجابت هنشيلها عندنا لحد أما يجي ابن الحلال اللي يستاهلك بجد وماما وخالتو اكيد هيتصالحوا يعني وبعدين أنتِ مش هتكملي في علاقة فاشلة عشان ماما وخالتو ميزعلوش."


"ياريت الموضوع كان بالسهولة اللي بتتكلمي بيها دي.. أنتِ عارفة ده حتى مفكرش يتصل بيا ولا حتى جري ورايا وحاول يلحقني.. سابني أمشي كأني ولا حاجة.."


"بني آدم برأس.. ولا بلاش أشيل ذنب واحد زي ده، بصي يا ميرال يا حبيبتي كل حاجة بتبقى صعبة في أولها.. ومع الوقت بنتخطى اللي حصل أو بنتعافى نسبيًا عالأقل، وبعدين ازاي تبقي زعلانة كده وماما عاملالنا صنية مكرونة بشاميل عالغداء؟"


قهقهت ميرال على سخافة شقيقتها لتستقيم أفنان وتضمها في عناقًا دافئ تنهمر بسببه دموع ميرال مجددًا لكن أفنان لا تطلب منها التوقف عن البكاء، بل تدعها تُفرغ كل ما في جعبتها من حزن وطاقة سلبية، بعد ساعتين كانت ميرال تجلس برفقة أفنان ووالديها على طاولة الطعام، وُضع الطعام أمامهم وساد الصمت..


لم يأكل أحد ولم يتحدث أحد وقد كان الوضع مُريب بدرجة غير مفهومة بالرغم من عدم معرفة والديهم بما حدث إلا أن والدهم كان يعرف أن هناك خطبًا ما يتعلق بميرال، إن ابنته الكُبرى منطفئة.. زال بريق عيناها وغلف السواد أسفل عيناها بسرعة غير معقولة، كيف لم يلاحظ ذلك في الأيام الماضية؟! شعر بالخزي تجاه نفسه لكن ماذا عساه يفعل؟ لقد كان منشغلًا بمرض والدته، العمل، المتجر واخيرًا تجهيزات زواج ميرال.


"ما هو يا تتكلموا يا تاكلوا مش معقول كده." أردفت رانيا والدتهم؛ بفراغ صبر.. حمحمت ميرال وقد فتحت ثغرها لكن الكلمات قد غادرتها، منحت أفنان نبرة تطلب المساعدة لتتحدث أفنان بدلًا منها.


"ميرال سابت نوح."


"مش وقت هزارك البايخ ده يا أفنان! ولا.. أنتِ بتتكلمي جد؟ دبلتك فين يا ميرال؟" كانت والدة أفنان تظن أنها مجرد مُزحة سخيفة من أفنان لكن هدوء أفنان غير المعتاد قد أثبت عكس ذلك، لم يقبل عقل رانيا ما سمعته من ابنتها ولكن جاء صوت زوجها حازمًا وهو يُردف:


"اهدي شوية يا رانيا وخلينا نفهم!"


"نفهم أيه يا أحمد؟ الناس هتقول علينا أيه؟ وأختي هقولها أيه؟!"


"رانيا أنا قولت اهدي من فضلك! خلينا نسمع منهم الأول.. بنتي أهم من أي حد ومن أي حاجة.. أختك سابت خطيبها ليه يا أفنان؟"


"عشان نوح بيحبني أنا يا بابا، كان طول الوقت بيلمح وحاولت أقولكوا أكتر من مرة وحذرت ميرال أكتر من مرة ومحدش سمع مني.. كنت بطلع أخت شريرة ووحشة، لحد ما البيه قرر أنه يصارحني ويقولي وش وبكل بجاحة أنه بيحبني وميرال سمعته، لا وأيه قالي في يوم كلكوا كنتوا فيه معايا ومعملش احترام ولا اعتبار لأي حد!"


بصقت أفنان كلماتها وهي تشعر بغصة في حلقها بينما تجمعت الدموع في عيناها هي ايضًا، لقد كان الموقف غاية في الصعوبة والآلم بالنسبة إليها كما الأمر بالنسبة لميرال.. ساد الصمت لبرهة قبل أن تُتابع أفنان حديثها وهي تُخبرهم عن كل شيء وكل ما فعله نحوح وتسبب فيه من آلم الفترات الماضية.


بعد الإنتهاء من حديثها وبعد مناقشات عديدة وجدال، اتخذت رانيا قرار بأن تبقي علاقتها بشقيقتها كما هي بعيدة تمامًا عن ما حدث بين ابنتها وابن شقيقتها، أعادت والدة أفنان 'الشبكة' إلى شقيقتها وطلبت من ألا يتحدث نوح إلا ابنتيها مجددًا بل وألا يتحدث إليها هي شخصيًا، وذلك الوغد الجبان لم يقوى على المواجهة ولم يقوى على الإعتذار..


كانت ميرال تحاول التعافي من أسوء فترات حياتها وإن كان وجود نوح إلى جانبها يسبب لها آلمًا يفوق آلم بعاده لكن ذلك لم يمنع صعوبة إقناع نفسها بأن كل شيء قد انتهى وأن العُش الذي أخذت تبنيه بمساعدته الشهور الماضية قد هُدم قبل حتى أن تخطو قدمها داخله، ولم تستطع كبح نفسها من السؤال الذي لطالما سأله معظمنا في مثل هذه الأوقات:


'لماذا أنا؟ ولماذا على كل شيء أقع في أحبه أن يرحل عني بهذه القسوة؟ لماذا جاء من الإساس إن لم يكن مقدر له البقاء؟ لم على كل أحلامنا أن تندثر بهذه الطاقة ولم مقدر على الدوام ليسقف توقعاتنا أن يتحطم فوق رؤوسنا في كل مرة؟'


لكنها لم تجد قط جوابًا واحدٍ يُرضيها.. ومرت الأيام ببطء شديد لم يكن يساعدها على تجاوزها سوى دعم عائلتها وإنشغالها بالعمل ورسالة أو اثنتين يُرسلها ذلك المعتوه اللطيف المُدعو: أنس فريد، بعد أن أرسل إليها طلب صداقة على أحدى مواقع التواصل الإجتماعي.


ثلاثة أسابيع مرت منذ ما حدث، كانت أفنان منشغلة كثيرًا بشقيقتها ورحيم منشغلًا بعمله لذا لم تُقابله غير مرة واحدة في منزلها وكانت جلسة عائلية لطيفة وفي الزيارة التي تليها جاء رحيم ومعه الخيرات كالمعتاد لكن كان هناك شيء مختلف حوله، استطاعت أفنان أن تستشعر ذلك بسهولة.. متوتر ربما عقله منشغل بأمر ما.. يود أن يخبرهم شيئًا يجول في خاطره؟


"هو بصراحة.. أنا كنت عايز أكلم حضرتك في حاجة.."


"اتفضل يا ابني، أنا سامعك."


"أنا أسف طبعًا يا Uncle لو الظرف مش مناسب بس كنت عايز اطلب من حضرتك طلب." تمتم رحيم في حرج قاصدًا  مرض والدة والد أفنان المتكرر وكذلك ما حدث مع ميرال منذ ثلاثة أسابيع فقط..


"تحت أمرك يا رحيم يا ابني."


"أنا عايز نكتب الكتاب.. أنا وأفنان يعني." تفوه رحيم ببعض التردد لتتسع أعين أفنان وهي تستقيم من مقعدها بفزع بينما تسأله مستنكرة:


"أيه؟ عايز نعمل أيه؟ أنتَ يا ابني أنتَ مش المفروض.."


"ششش اسكتي شوية ممكن؟ ها يا Uncle حضرتك رأيك أيه؟" أردف رحيم متجاهلًا ردة فعلها المبالغ فيها والتي قد توقعها مسبقًا وما كان يهمه أكثر الآن هو رد والدها.


"والله يا ابني اللي أنتوا تشوفوه، أنا عن نفسي يعني بقلق لما كتب الكتاب بيبقى قبل الفرح بمدة كبيرة عشان لو لقدر الله يعني.."


كان والد أفنان وبالرغم من حبه الشديد لرحيم إلا أنه كان يشعر بالقلق من انفصال رحيم عن أفنان بعد عقد قرانهم، ففي تلك الحالة ستصبح مُطلقة من قبل أن تطأ قدمها عش الزوجية.


"متقلقش إن شاء الله مفيش حاجة زي كده هتحصل، عمتًا لو حضرتك قلقان أحنا ممكن نقدم ميعاد الفرح لو أفنان معندهاش مانع، أنا بس عايز اعمل كده عشان لما ننزل نجيب حاجات للشقة لو خرجنا حضرتك متقباش قلقان ومنبقاش بنعمل حاجة غلط برضوا.."


قام رحيم بشرح وجهة نظره والتي كانت صحيحة تمامًا، أخذ والد أفنان يُفكر لثوانٍ قبل أن يسأل أفنان عن رأيها:


"أنتِ أيه رأيك في الكلام ده يا أفنان؟"


"والله يعني يا بابا لو حضرتك موافق ورحيم موافق فأنا هضطر أني.. أرفض طبعًا أيه التهريج ده؟"


"ده بجد؟"


"بجد أيه أنتَ كمان؟ أنا عندي استعداد نكتب دلوقتي."  أردفت أفنان بنبرة شبة جادة لينظر نحوها رحيم بحيرة لثوانٍ قبل أن تنفجر هي على ردة فعله ثم تُضيف:


"أنا معنديش مشكلة يعني بس الفرح يفضل في ميعاده، أنتوا عارفين أن دي آخر سنة ليا في الكلية وعايزاها تخلص على خير ومش عايزة حاجة تشغلني."


"ممكن نخلي كتب الكتاب بعد شهر أو شهرين من دلوقتي ونجهز البيت براحتنا ونتجوز بعد امتحاناتك على طول."


"طب ما هو كده برضوا مش هبقى فاضية لتجهيزات البيت."


"يا أفي أنتِ اختاري أي حاجة تعجبك وهما هيجيبوها ويعملوها زي ما أنتِ عايزه يعني مش هتتعبي في حاجة، هاتيجي كل أسبوعين مثلًا تشوفي اللي اتعمل في البيت والحاجة اللي اتحطت وترجعي تذاكري عادي."


فسر رحيم ما يدور في خاطرة لتمنحه أفنان ابتسامة صغيرة لكنها لم تُعلق على ما قاله بل نظرت إلى والدها أولًا نظرة ذات مغزى محاولة الإستفهام عن رأيه، يسود الصمت لثوانٍ بينما يحك والدها ذقنه بإبهامة مُفكرًا قبل أن ينظر نحو والدة أفنان ليسألها عن رأيها:


"أيه رأيك يا حجة؟"


"أنا عن نفسي مش ممانعة طالما هما مبسوطين وأنت راضي."


"خلاص يبقى لو والدك ووالدتك مش ممانعين يبقى على بركة الله."


انتفضت أفنان من مقعدها وهي تتطلق زغرودة عالية تهرول على اثرها شقيقتها نحوهم.


"خير يا جماعة أفنان بتتخطب تاني ولا أيه؟"


"لا هتجوز!" فسرت أفنان لتُطالعها ميرال بعدم استيعاب، تقهقه أفنان على رد فعلها ومن ثم تُخبرها بإختصار بما حدث.


بعد بضع دقائق استأذن رحيم ليجلس مع أفنان في الشرفة على مسافة ليست بعيدة عنهم لكي يثرثروا قليلًا.


"أنا عايزة اعرف بس فكرة كتب الكتاب دي جتلك مين."


"يعني أيه جتلي منين؟ ما أحنا أكيد هنكتب الكتاب يا أفي." تمتم رحيم دون أن يفهم قصدها لتضحك ساخرة من سذاجته قبل أن تقوم بإيضاح مقصدها قائلة:


"أيه يا رحيم الذكاء ده ما أكيد يعني، قصدي أننا نكتب بدري."


"بصراحة أنس نبهني لحاجة وده شيء غريب جدًا يعني بس هو قالي إن مينفعش أفضل داخل خارج عليكوا هنا في البيت وأنا خطيبك بس وعشان نتقابل برا لازم نستأذن uncle أحمد وبيجي يوصلك وبيبقى في إحراج للكل وتعب فلما نكتب الكتاب هنبقى بننزل لوحدنا عادي."


"يااه الواد أنس ده ساعات ربنا بيفتحها عليه كده وبيقول حكم، هو ده بقى اللي أقنعك؟"


سألته أفنان ليومئ رحيم وهو يضحك قبل أن يحمحم بحرج لتستنتج أفنان أنه يُريد أن يُضيف شيئًا على ما قالته، صمت رحيم لبرهة قبل أن يقول بخجل واضح:


"بصراحة؟ He told me that i will be able to hold you your hand and I always wanted to do that 'لقد أخبرني أنه سيكون بإمكانني الإمساك بيدكِ، ولطالما أردتُ فعل ذلك'."


"يالهوي أنتَ سُكر بجد." همست أفنان وهي تضحك مُشاركة رحيم الخجل ذاته وبداخلها تدعو أن تمر الأيام سريعًا حتى يحين موعد اليوم المنتظر واللحظة المنتظرة حينما تُصبح زوجته رسميًا..


أعلم رحيم والديه بما قرر فعله، كانت والدته معترضة بالفعل فهي مازال عندها بعض الأمل في إنهاء تلك العلاقة الفاشلة من وجهة نظرها لكن ذلك لم يكن خيار بالنسبة لرحيم.. لكن والدته أخبرته بأنه لا راجعة فيما ينوي فعله ففي حالة أي خلاف سيحصل كلاهما على لقب مُطلق ومُطلقة.


بعد مرور أسبوعين بدأ رحيم وأفنان في اختيار المسجد الذي سيتم فيه عقد القران، ترتيبات جلسة التصوير التي سيقومون بها بعد عقد القران، ثوب أفنان والذي أصر رحيم أن يتم تفصيلة خصيصًا من أجلها، أما أنس فكان منشغلًا مع أروى والتي رفضت أن تتحدث إليه وقد حبست نفسها في حجرتها بعد أن علمت بوفاة والدها منذ أكثر من شهرين وإخفاء أنس الأمر عنها..


"يا أروى افتحي بقى مش هقعد كل يوم اتحايل عليكي.. يا أروى من فضلك بقى بقالي يومين بنام جنب باب أوضتك وبرضوا مصعبتش عليكي.. طيب طمنيني أنتِ بتاكلي ولا لا؟ عندك أكل في التلاجة بتاعتك على فكرة ومايه.."


لم تُجيب أروى على أخيها الذي يجلس على أرضية الرواق وهو ينتحب، لقد حاول كبح دموعه كثيرًا لكن انتهى به الأمر يبكي كطفلًا صغير فقد والدته، لم يجد أمامه حلًا سوى مهاتفة رحيم وميا لكي يأتوا لمساعدته على إقناع أروى بالخروج من قوقعتها والتحدث إليه..


"أروى أنا رحيم.. معايا ميا ومامي.. ممكن تفتحي من فضلك؟ بصي طيب.. أنا هخلي أنس يمشي من هنا واطلعي أتكلمي معانا." كانت أروى تستمع إلى ما يقوله رحيم، اقتربت بالكرسي خاصتها لتنظر من خلال ثقب الباب وبمجرد أن تأكدت من رحيل أنس قامت بفتح الباب سامحة لميا ورحيم بالدخول إلى حجرتها.


"تعالي نقعد في ال Balcony 'الشرفة' نتكلم."


لم تُعلق أروى وأكتفت بالإيماء قبل أن تُحرك الكُرسي خاصتها جهة الشرفة في منتصف الطابق، بدأ رحيم في الثرثرة محاولًا إقناعها بمسامحة أنس.. فركت أروى عيناها المنتفخة من البكاء بتملل وهي تستمع إلى حديث رحيم بعدم إقتناع قبل أن تُردف:


"رحيم أنت عايزني اسامحه ازاي بعد ما خبى عليا كل ده؟!"


"كان خايف عليكي يا أروى! مش خايف بس.. مرعوب! أنس ما صدق إن ربنا كرمك وفوقتي وبقيتي تتكلمي وتتحركي.. ازاي كنتِ متوقعة منه أنه يضحي بكل الحاجات دي ويخاطر ويقولك خبر زي ده؟"


"أنا بس.. كان نفسي أشوفه لآخر مرة يا رحيم.. أنا عارفة إن هو دمرني، عايشني طفولة قاسية لسه تأثيرها مستمر عليا لحد النهاردة.. خلاني متعقدة من الرجالة كلهم ورفضت ارتبط طول السنين اللي فاتت وآخر حاجة كان هيموتني أنا وأنس بس.. كنت عايزة أشوفه يمكن كان قلبي يتحرك ناحيته ولو لمرة واحدة ، حتى أحس بشفقة ناحيته.. لكن دلوقتي أنا هفضل طول حياتي بكرهه."


" مش هقدر ألومك على أي حاجة يا أروى، لكن صدقيني أنتِ وأنس ملكوش غير بعض وهو.. يعني أنا مش المفروض أقول كده.. بس بعد الحادثة بتاعتك أنس اتحول لشخص تاني.. He became miserable, he did a lot of bad stuff.. But at the end of the day he didn't cause harm to anyone but himself 'أصبح تعيس، لقد فعل الكثير من الأشياء السيئة، لكن في نهاية المطاف هو لم يؤذي أحدٍ غير نفسه..'."


كانت أروى غاية في الحساسية في تلك اللحظة، وكلمات رحيم تلك زادت حالتها سوءًا فلقد شعرت بالذنب تجاه أخيها الأصغر ربنا تحاملت عليه بشكلًا زائد لكن في الوقت ذاته كان الأمر برمته غاية في الصعوبة كي يستوعبه عقلها..


"ده أنا كنت في رحمة ومعرفش.. سيبت أنس يواجه كل ده لوحده وكنت أنا في عالم موازي أساسًا.."


"مكنش عندك اختيار ده قدر، يمكن ده الأحسن.. أنتِ كنتِ دايمًا بتواجهي uncle فريد لكن أنس لا لحد أما جيه اليوم اللي مكنش عنده حل تاني غير المواجهة."


"هو أنس فين؟" سألت أروى بشرود وكأنها لم تسمع ما قاله رحيم قبل ثواني، ألتفت رحيم حوله بحثًا عن ميا لكنه لم يجدها.. ألقى نظرة مجددًا ليجد ميا تتحدث في الهاتف في حديقة المنزل.


"مش عارف.. ميا.. Can you tell Anas to come upstairs please 'هل يمكنكِ أن تُخبري أنس أن يصعد إلى الطابق العلوي من فضلك'؟"


   ".'Anas is gone' لقد رحل أنس"


صاحت ميا من حديقة المنزل ليستقيم رحيم من مقعده بضيق بينما اضطربت معالم أروى وقد بدأ الشعور بالذنب يسيطر عليها كُليًا..


"متقلقيش، شوية وهيرجع." تمتم رحيم محاولًا طمئنة المسكينة بينما في داخله يدعو ألا يكون ذلك الأحمق قد عزم على اكتراث خطأ ما كالعودة إلى الشرب مثلًا أو القيادة بجنون والأسوء مقابلة إحكى أولئك الفتيات المُريبات!


على الجانب الآخر كان أنس يقود سيارته بجنون وبكل تأكيد قد قُيدت عدة مخالفات نتيجة تجاوزه للسرعة المسموح بها، قام بإيقاف السيارة أمام 'الفيلا' المنشودة ومن دلف إلى الداخل مُقتحمًا باب العيادة وهو يصيح في وجه الطبيبة بأعين مُحمرة ويد مُرتجفة:


"أنا محتاج أتكلم معاكي دلوقتي حالًا!"


_____________________________________


(تذكره: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلي نفسي طرفة عين.)

الفصل الثاني والأربعون: مَذَاق الْحَلَال ✨🦋🤎


"أنا محتاج أتكلم معاكي دلوقتي حالًا!"


"يا أستاذ مينفعش كده بعد إذنك اتفضل الدكتورة معاها حالة."


"سيبيه أحنا خلصنا خلاص، اتفضل استريح يا أنس ودقيقة وهكون معاك." اومئ لها أنس وذهب ليجلس على الأريكة البيضاء الموضوعة في أحد الأركان بينما كانت تتحدث هي مع الجالسة أمامها ولكن أنس لم يستمع إلى حديثهم فلم يدري إن كانت مريضة أم مندوبة من أحدى شركات الأدوية.


"أنس.. تعالى هنا اتفضل." أخرجته من شروده وهي تُشير إليه بأن يجلس أمامها.


"أنا أسف على قلة الذوق بتاعتي.. دلوقتي والمرة اللي فاتت لما مشيت فجاءة، أنا بس كنت متضايق من نفسي عشان حكيت وأنا كنت واخد عهد على نفسي أني محكيش لحد حاجة.. بس أنا رجعت اتحطيت في ضغط تاني وفي أحداث كتير بتحصل في حياتي وحاسس أني نفسيًا مش مستعد لكل ده.."


تحدث أنس بحرج شديد ولكنه حديثة كان صادق، كانت تنظر نحوه بملامح مرتخية وهدوء شديد قبل أن تُردف بنبرة مُتفهمة:


"سمعاك يا أنس اتفضل، ابدأ من النقطة اللي تحب تتكلم عنها أو حاسس أنها عملالك ضغط."


"علاقتي أنا وأختي متوترة.. عرفت إن فريد أتوفى من أكتر من شهرين وأني خبيت عليها، كانت حابسه نفسها في أوضتها ومش عايزة تكلمني.. قبلت تخرج تكلم رحيم وميا اللي حكتلك عنهم قبل كده ومقبلتش تكلمني.. و.. البنت، اللي.. أنا محكتش عنها صح؟"


كان حديث أنس مُبعثر دلالة على التشوش والزحام داخل عقله، ابتسم الطبيبة رغمًا عنها خاصة حينما ذكر 'الفتاة'، ابتسم هو الآخر وهو يُعيد خصلات شعره الطويلة نحو الخلف قبل أن يحمحم وهو يعتدل في جلسته ثم يُردف:


"دي بنت.. قابلتها صدفة أكتر من مرة، كل مرة كان القدر بيجمعنا بطريقة غريبة.. أنا بطبيعتي مش شخص رومانسي ومليش في النحنحة زي رحيم بس في حاجة في البنت دي مخلياني بتصرف تصرفات مش عقلانية تمامًا، المهم أنها كانت مخطوبة وده كان واقف عقبة في الطريق بس دلوقتي هي سابت خطيبها وبقالنا أسبوعين تقريبًا بنتكلم Chatting 'دردشة'.. أنا عارف أن ده غلط بس أنا مبسوط.."


"كويس أنك مدرك أن ده مش صح، البنت مشاعرها مضطربة جدًا دلوقتي بكل تأكيد ومحتاجة دعم كبير، وجودك جنبها في فترة زي دي ممكن يخلق عندها وهم أنها بتحبك أو على الأقل عندها مشاعر ناحيتك."


تفوهت الطبيبة بالكلام ذاته الذي تفوهت به أروى في محاولة لنصح أنس لكنه لم يقتنع، أمتعض وجه أنس على الفور وهو يُعقب على حديث الطبيبة مستنكرًا:


"وهم؟"


"طبعًا يا أنس وهم، هي مش مؤهلة إطلاقًا في فترة زي دي أنها تدخل في علاقة جديدة.. وأنتَ؛ شايف أنك مؤهل أنك تدخل في علاقة؟"


"في دي عندك حق.. ده السبب اللي خلاني أجي هنا من الأول.. أنا حاسس أني محتاج للحب، الأمان، الإهتمام بس لازم في المقابل أكون أنا كمان قادر أوفر للطرف التاني نفس الحاجات دي وأكتر.. مش عايز أكون أناني أو  toxic 'سام/سيء'."


"طيب عايز تقول حاجة تاني ولا أكتفيت؟" كانت في تلك اللحظة تستخدم الطبيبة طريقة أشبه بالطعم الذي يُلقيه الصائد للأسماك، هي تُريد أن تحث أنس على الحديث والإنفتاح على ذكرياته وماضيه أكثر دون أن تطلب ذلك بشكل مباشر وقد نجحت بالفعل حيث قرر هو أن يقطع الصمت الذي طغى عالمكان بعد سؤاله وهو يُردف:


"لما كنت صغير..."


أخذ أنس يروي بعد ذكرياته الحزينة المشوبة بقليل من الفرح وقد كان الجزء الإيجابي يقتصر على وجود أروى، رحيم وميا لكن أي شيء غير ذلك كان يُعتبر جحيم بالنسبة إليه.


وعلى الرغم من أنه لم يكن يتعرض للتنمر في المدرسة ولم يكن فاشلًا من الناحية التعليمية بل كان متفوقًا على أقرانه إلا أنه كان يكره الذهاب إلى المدرسة فمهما فعل لم يرَ أحدٍ قط أنه شخص جيد كفاية.. وبعد المزيد من الحديث والكثير من العبرات المنهمرة انتهت الجلسة وقد وعد أنس الطبيبة بزيارة قادمة، كان على وشك الرحيل لكنه توقف ليسألها سؤالًا كان يشغل باله كثيرًا:


"هو أنا هحتاج أخد أدوية؟"


"المرة الجاية هنحدد." أومئ لها أنس بلطف وقام بشكرها قبل أن يرحل عائدًا للمنزل ولكن قبل أن يفعل مر على أحدى متاجر الحلوى الفاخرة وابتاع كل الأنواع التي تعشقها شقيقته غير مُباليًا بالفاتورة الضخمة.


"أنا جيت!!" صاح أنس قاطعًا الهدوء المُريب المخيم عالمكان لينتفض جميعهم، لم يهتم أنس كثيرًا وذهب نحو أروى والتي عانقته عناق قوي وهي تضربه في كتفه بخفة من شدة قلقها عليه.


"قلقت عليك أنت كنت فين؟"


"كنت بجيبلك دول، ها هتصالحيني بقى ولا أيه؟" ضحكة  كبيرة صدرت من أروى ليقترب ود منها ويُقبل جبينها وهو يمنحها الحلوى.


"خلاص هصالحك بس بشرط."


"شروطك أوامر.. هو أنا عندي كام أروى يعني؟"


"عايزين نزور مامي." همست أروى وهي تُضيق عيناها بقلق من ردة فعل أنس، اقترب رحيم من أنس فهو لا يضمن ردة فعل صديقه الأحمق.. ساد الصمت لبرهة قبل أن يزفر أنس بضيق ومن ثثم يسأل ساخرًا:


"مامي مين؟ أمنا؟ لا ثواني.. أنتِ قصدك عالست اللي رمتنا لفريد وسابته يطلع عقده النفسية علينا؟ ودي هنزورها ليه إن شاء الله؟"


"أنس اتكلم بأدب من فضلك، لو أنتَ مش عايز تزورها أنا هزورها."


"لا يا أروى، على جثتي الكلام ده.. مش هسمحلك ومش هسمح لأي حد يدخل الست دي حياتنا تاني أنتِ سامعة؟ وأنتَ يا ررحيم لو فكرت تخليها تشوفها من ورايا اعتبر إن ملكش صاحب."


صاح أنس مُستنكرًا علي شقيقته، كانت نبرتة حادة للدرجة التي جعلت أروى ترمش عدة مرات متتالية.. ترك أنس الحلوى التي ابتاعها من أجلها وكل أغراضه ما عدا هاتفه واتجه نحو الطابق العلوي.


كانت علامات الحزن ظاهرة على وجه أروى.. زم رحيم شفتيه قبل أن يجلس على الأريكة بالقرب من كرسي أروى ليُخبرها الآتي:


"معلش يا أروى متزعليش.. أنس برضوا ليه عذره.. أنا عارف إن أنتوا الإتنين عيشتوا في بيت واحد وإن أنتوا الإتنين Traumatized 'مصدوم/تعرض لصدمة' لكن أنس عانى جدًا في الفترة اللي كنتِ فيها في Coma 'غيبوبة'."


"أنا عارفة.. أنا مش زعلانة منه، أنا زعلانة من الوضع اللي أحنا فيه.. كان نفسي نكون أسرة طبيعية.."


"للأسف يا أروى دي مش حاجة أحنا بنقدر نختارها.." أومئت أروى بحزن مؤيدة كلام رحيم وهي تتنهد بحزن وبداخلها تُفكر بأن أمامها مشوارٍ طويل كي تُعيد أنس إلى شخصيته القديمة، السعيدة المتسامحة.. المرحة.. لكن لا بأس فهي ستحاول مرارٍا حتى تنجح.


بعد مرور أسبوعين آخرين كانت أفنان بدأت تُجهز بشكلًا فعلي لليوم، ذهبت لمصممة الأزياء التي وكلها رحيم بتخصيص فستانًا من أجل أفنان وواحدٍ من أجل ميرال وإن كان أنس قد اتفق مع رحيم بشكلٍ سري فيما بينهم أن يتكفل هو بثمن ثوب ميرال.


"ميرال أنتِ سمعاني؟ هتختاري أيه في الآخر؟ حاسه النبيتي هيبقى حلو أوي عليكي."


"ها؟ اه سمعاكِ.. النبيتي طبعًا.." أجابت ميرال بشرودٍ تام وهي غير مُدركة عما تتحدث أفنان من الأساس، رمقتها الأخيرة بشك وهي تُضيق عيناها بينما تسألها بفضول:


"هو أنتِ بتعملي أيه؟"


"مفيش أنس كان بياخد رأي في بدلته وكنت باخد رأيه في لون الفستان." تمتمت ميرال لتتقوس شفتي أفنان لبرهة قبل أن تُردف بحنق طفولي:


"يعني أنا بقالي أسبوعين دايخة معاكي على لون وقماشة للفستان وفي الآخر رايحة تسألي الواد التنح ده؟! عليه العوض."


"يا بنتي أيه ده مش كده طبعًا، ده هو بس عدى قدامه صورة فستان يعني فقال يقترح عليا."


بررت ميرال وهي تضحك ضحكة مشوبة بالتوتر والخجل ربما؟ أخذت أفنان نفسًا عميق قبل أن تجلس أمام ميرال وهي تُردف بجدية:


"تمام.. مش شايفة أنك المفروض تخفي كلام مع أنس شوية؟"


"عندك حق.. هو بس أنتِ عارفة عشان تجهيزات كتب الكتاب.. وهو بينط مع رحيم في كل حتة بنروحها كلنا.."


مجددًا حاولت ميرال التبرير والتملص من المحادثة التي تُجريها أفنان لكن الأخيرة لم تكن ساذجة لذا قررت أن تُفصح عن ما تريد قوله بشكلٍ مباشر:


"ميرال حبيبتي، أوعي توقعي في نفس الغلط مرتين.. مينفعش نتعافى من علاقة بعلاقة تانية."


"أنتِ قصدك على مين؟ أنس.. لا يا بنتي أحنا صحاب مش أكتر.. أو أقل كمان من كده." بتلعثم شديد مقترن بضحكات مُتفرقة تنم عن التوتر قالت ميرال، رمقتها أفنان وهي تُضيق عينيها بعدم اقتناع قبل أن تُردف:


"ماشي يا ميرال، أنا قولت إن من واجبي كأخت أني انصحك وأنتِ وشوقك بقى." أومئت ميرال بعبوس وهي تُغلق الهاتف وتضعه جانبًا.


"ميرال بقولك أيه معلش دوري عالسلسلة الدهب بتاعتي كده في درج التسريحة، السلسلة اللي ماما كانت جايبهالي هدية في ثانوي."


"حاضر." تمتمت ميرال بهدوء وشرعت تُنفذ طلب شقيقتها.


وبينما كانت تبحث وجدت عن طريق المصادفة ذلك السلسال الفضي الذي ابتاعه نوح من أجلها وقد وُضع إلى جانبه صورة تجمعهم حينما كانوا في السابعة من عمرهم تقريبًا وقد خبئت ميرال تلك الصورة في السابق لا تدرِ كيف وقعت أمامها الآن، شعرت برجفة تحتل كيانها وآلم شديد في صدرها وكأنها طُعنت بألف خنجر.. بأنامل مُرتعشة أمسكت بالسلسال تتحسسه، رائحة نوح لم تُفارقه بعد..


"ها لاقيتيها؟"


"بتكلميني؟ لا لسه.." نبست ميرال بتلعثم لتعقد أفنان حاجبيها وتقترب منها لترى ما الخطب، فهي تستطيع تميز نبرة ميرال الحزينة والمتوترة بسهولة كبيرة.


"بقولك أيه رحيم كان عايز يعزمني أنا وأنتِ عالغداء.. وكمان هيجيب أروى وميا.. وأنس طبعًا، بيقول عايزنا كلنا نتعرف على بعض وكده، أيه رأيك؟"


"مش حاسة أني قادرة أقابل حد.."


"خلاص اتفقنا هخليه يقابلني ونعدي عليكي ناخدك بعد الشغل."


تمتمت أفنان غير مبالية بما تقوله ميرال لتقلب الآخرى عيناها وهي تعلم أنه لا مفر، طالما أن أفنان قد وضعت خطة فلا مجال لتغيرها.. وبالفعل تمت المقابلة ومر اليوم بسلام وإن كانت ميرال حاولت تجاهل أنس قدر الإمكان لكي لا يسئ أحد الجالسين فهمها، وقد مر اليوم بخير.


ومجددًا.. مرت الأيام بسرعة لا تصدق حتى وجدت أفنان نفسها داخل حجرة في أحد الفنادق والتي صمم رحيم خصيصًا أن يتم حجزها من أجلها، تجلس على الكرسي ذو اللون الذهبي الفاخر وأمامها عشرات من مستحضرات التجميل بينما تقوم خبيرة التجميل بوضع مساحيق التجميل من أجلها ومساعدتها في ارتداء الوشاح خاصتها.


بعد أن انتهت أفنان من التجهيزات وقفت ترمق نفسها في المرآة الطويلة والتي تعكس مظهرها كاملًا، ثوب باللون الأبيض المنطفئ 'Off white'، كان يُشبه خاصة الأميرات.. كان مصنوعًا من قماش أبيض غير مطرز مكسو من الأعلى بقماش 'الشيفون' ومزين بقطع صغيرة من 'اللولي' موضوع على قطعة من الستان في منصف الجزء العلوي من الفستان، كانت مساحيق التجميل بالكاد ظاهرة فأفنان لم تُحبذ الألوان الثقيلة وبالنسبة لرحيم فلم يكن ليمانع أن تكون على هيئتها الطبيعية تمامًا.


"ميرال أيه رأيك؟" سألت أفنان بتوتر وهي تتبادل النظرات مع ميرال من خلال انعكاس كليهما في المرآة تقترب منها ميرال وتضمها من الخلف وهي تهمس بنبرة اختلطت بالبكاء:


"زي القمر يا روح قلبي، أجمل عروسة شافتها عيني."


"يا جماعة حد يبعد ميرال دي هتخليني اعيط." أردفت أفنان بمزاح موجهة حديثها إلى ميا، أروى ووالدتها ليقهقه الجميع ومن تلتفت أفنان لتأخذ شقيقتها في عناقٍ لطيف.


"ميرال ممكن تشوفي لو رحيم وأنس جهزوا عشان منتأخرش وكده، عايزين نلحق الشمس عشان ال Photosession 'جلسة التصوير'."


أومئت ميرال بتوتر خاصة حينما ذكرت أفنان اسم أنس في وجود شقيقته، حاولت ميرال تلطيف الأجواء والتخلص من الحرج وهي تطلب من أروى أن تهاتف أنس وتخبرهم بأنهم مستعدين للذهاب.


مرت عشرة دقائق قبل أن يطرق أحدهم باب الجناح، يتوتر الجميع ظنًا منهم أنه رحيم لكنه كان والد أفنان.


"بسم الله ما شاء الله، قمر يا أفنان ربنا يحميكي يا حبيبتي.. أحلى عروسة في الدنيا." تمتم والد أفنان وهو يتأمل مظهر ابنته، يُكفكف دموعه بمنديل ورقي قبل أن تهرول هي نحوه لتضمه في عناقًا دافئ.


"مع إنك لسه هتقعدي معايا شوية بس برضوا عقلي وقلبي مش متقبلين فكرة أنك كبرتي وخلاص هتبعدي عن حضني، العمر جري بيا أوي"


"يا حبيبي ربنا يديلك الصحة وطول العمر ويخليك لينا، أنت هتفضل الأصل وأول راجل في حياتي وأول حب في حياتي يا بابا."


كان المشهد مؤثر للغاية، اغرورقت عين الجميع بالدموع وبشكل خاص أروى التي شعرت بغصة في حلقها فهي لن تسمع كلمات حُلوة كتلك من والدها ولن يُقبل رأسها بهذا الحنان وبالطبع لن تحصل على عناقٍ دافئ كهذا.. والسبب في ذلك لا يرجع فقط لكون والدها لم يعد على قيد الحياة فلو كان كذلك ما كان الوضع ليتغير لأن شخصًا كفريد لا يستحق لقب أب من الأساس، حمحمت أروى وهي تحاول أن تمنع دموعها من الإنهمار بينما تُردف بنبرة مرحة:


"مش كفاية عياط بقى ولا أيه؟ مش نشوف العرسان فين.. قصدي العريس..رحيم." تعمدت أروى قول ذلك وهي تغمز بإحدى عينيها نحو ميرال لتضحك الآخرى بتوتر وخجل.. تمر دقيقة واحدة ثم يسمعوا طرقات على الباب مجددًا.


تتوتر أفنان على الفور وينظر نحوها والدها بينما يُطمئنها قائلًا:


"هروح افتح الباب."


ذهب والدها بخطوات بطيئة مُزيدًا الحماس في الأجواء، ينفتح الباب ببطء ليظهر من خلفه رحيم بقامته المهيبة وخصلات شعره المُصففة بعناية، بدلة مهندمة أبرزت جسده الممشوق، كانت البذلة الرسمية خاصته سوداء تمامًا كلون لحيته..


زينت ابتسامة واسعة ثغرة لا تخلو من التوتر والإشتياق في الوقت ذاته، تلمع عيناه بقوة فور رؤيته لأفنان ويشعر بأن قلبه على وشك أن يُغادر صدره من فرط الحماس..


يقترب منها رغبة في التخلص من تلك المسافات التي تفصل بينهم ومن شدة شوقة كان على وشك أن يضمها لولا أن هرول أنس سريعًا يضع ذراعه حاجزًا أمام رحيم الذي كان أشبه بالمسحور، صُبغ وجه كلًا من أفنان ورحيم باللون الأحمر بينما رمق أنس رحيم بطرف عيناه قبل يتمتم ساخرًا:


"ثواني بس يا برنس بتعمل أيه؟! استنى أما تكتبوا الأول، مستعجل على أيه؟"


"صح.. أنا أسف.. بس أفي.. قصدي لما شوفتك يعني.." تلعثم رحيم بشدة وهو يضحك بخجل بعد أن رفض عقله تكوين جملة ذات معنى، منح أفنان باقة الزهور لتأخذها منه بيد مُرتجفة وهي تبتسم كاشفة عن أسنانها البيضاء تمامًا كحبات اللؤلؤ، بعيدًا عن ذلك الناب الذي قرر أن ينحني على السن المجاور له والذي لطالما كرهت أفنان شكله ولكن بالنسبة لرحيم كانت علامة مميزة في مظهر أفنان.


أما عن أفنان فكانت تُطالع رحيم بُحب حقيقي، قدرٍ من الحب لم تكن تعلم يومًا بوجوده.. لقد كانت تظن أن الحب خُدعة، مشاعر ساذجة لا وجود لها على أرض الواقع بل هي من صنع كُتاب الروايات وصانعي الأفلام ولكنها اليوم وفي تلك اللحظة تحديدًا أدركت صدق كلام الذين سبقوها في الغوص في بحار الحب والولع.. فهي الآن على وشك أن تمنح كل شيء تملكه ويخصها من أجل أن تبقى بجانب ذلك الشاب الذي اختاره قلبها..


بعد بضع دقائق توجه الجميع إلى السيارات كي يذهبوا إلى المسجد الذي سيتم فيه عقد القران، من شدة السعادة لم تُدرك أفنان ما يحدث من حولها حتى وجدت نفسها تجلس علي ذلك الكُرسي المُزين بالقماش الذهبي اللامع وإلى جانبها تصميمات لطيفة من الزهور والجميع يجلس أمامها وكل عالمها إلى جانبها.. رحيم، يجلس إلى جانبها بينما يقوم بالتوقيع على عقد الزواج..


لقد وضع رقمًا خرافي كمؤخر صداق، صُعق الجميع من الرقم الموضوع في العقد والذي لم يكن يعلمه والد أفنان من الأساس! نظرت أفنان نحو رحيم بدهشة لكنه منحها نظرة بمعنى 'لا تهتمي' انتهت جميع الإجراءات حتى جاءت اللحظة الحاسمة، اللحظة الألطف من مراسم عقد القران وهي الدعاء للزوجين..


"بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير." أردف  'المأذون' ليردد الجميع خلفه ثلاثة مرات ومن تنطلق أصوات الزغاريد المغلفة بدموع السعادة من أفنان وأسرتها.


استقامت أفنان من مقعدها ورحيم فعل المثل في الوقت ذاته قبل أن يفتح ذراعيه بكل اشتياق وحنان لتهرول أفنان وتضمه في عناق قوي، لحظة وقف عندها الزمن وتلاشت كل الموجودات ولم يبقى أحدٍ غيرها وغيره.. تشبثت به بقوة وكأنه أكثر الأشياء ثباتًا في هذا العالم، يتنفس عطرها وتستمد قوتها من رجفة يديه، تنهمر دموع كلًا منهما فرحًا بتحقيق الحلم.. لم يكن رحيم يدري يومًا أن للحلال مذاقًا خاصًا كهذا.. مذاقًا حلوًا كهذا.. مذاقًا لا يوجد مثيل له.


اقترب والد أفنان ليفصل العناق بغيرة أبًا يرى صغيرته تبتعد عن أحضانه، ألتفتت أفنان نحوه لتضم والدها في عناقًا لطيف تفصله أفنان بعد مدة وتُقبل يد والدها ومن ثم رأسه وتنتقل بعدها إلى والدتها ويليها شقيقتها ومن ثم تتبادل أفنان العناق وتتلقى المباركة من العديد من الأشخاص لا تذكرهم هي، بل بالأحرى لم تكن تشعر بما يدور حولها فالسعادة قد سيطرت على كامل عقلها فأصبحت لا ترى شيء سوى رحيم.. وبعض الفراشات المتطايرة من حولهم ونسمات الهواء العليلة التي تؤنسنا في أيام الصيف الحارة..


"أنا مش قادر أصدق.. Finally you are mine 'أخيرًا، أنتِ لي'، أنا عمري ما كنت سعيد كده في حياتي."


"أنا بحبك أوي يا رحيم أوي بجد!" أردفت أفنان بكل شجاعة، فلا شيء خاطئ في الصراخ بمدى حبها لرحيم الآن فهي أصبحت زوجته وبشكلًا رسمي، اقترب منها رحيم ليُقبل جبينها بلطف ثم يضمها إلى صدره مجددًا بينما يتلقى التهنئة من الجميع.


"خف نحنحة شوية يا عم ممس."


"لا إله إلا الله، ده جوزي يا أنس رسمي ها جوزي، يعني يعمل اللي هو عايزه اطلع أنت منها."


"وهو حد وجهلك كلام يا بت أنتِ؟ ما تلم مراتك يا عم رحيم!"


"لا ميغوركش الجزمة اللي بتلمع والفستان اللي بعشروميت ألف جنية أنا اساسًا تربية حواري!"


"بس أنتوا الإتنين! وبعدين أيه يا أنس ما أنا كتبت الكتاب أهو اعمل أيه أكتر من كده؟"


"تراعي مشاعري إني سينجل بائس، لحد أما ربنا يكرمني وأكمل نص ديني." تفوه أنس ممازحًا وحينما نطق جملته الأخيرة تلك وجه نظره نحو ميرال وهو يغمز بإحدى عينيه.


عند النظر نظرة واسعة حول المكان، كان الكل سعيدًا بغض النظر عن نظرات الحقد التي رمقت بها سميرة ابنة أخيها وزوجها؛ الغيظ يحرقها لأن ابنة شقيقها استطاعت أن تجعل شابًا كهذا يقع في حبها ويتزوجها بينما ابنتها والتي أكثر جمالًا من وجهة نظرها ومالًا لم تستطع أن تفعل المثل، لكن ريماس كانت مشاعرها عكس والدتها تمامًا فهي شعرت بالفرحة من أجل أفنان بعيدًا عن الغيرة الأنثوية لكنها كانت في المجمل سعيدة.


وفي تلك اللحظات كان نوح واقفًا عند المدخل، على مسافة بعيدة من الجميع وقف يُراقب أفنان، نظراتها لرحيم، السعادة الحقيقة المُرتسمة على وجهها.. عناقها الأول لرحيم وهو يُلثم جبهتها بقبلة رقية، الحب الظاهر من خلال عيناها ورجفة يدها.. ومن ثم تقع عيناه على ميرال التي بدت بحالًا أفضل من دونه بالرغم من التعاسة التي بدت داخل عيناها لكنه يعلم جيدًا أنه بالرغم من الآلم أن ما فعلته كان صحيحًا، بتركه وحيدًا ذليلًا فهو لم يستحق قط واحدة منهم.. يكره نوح الإعتراف بذلك لكنها الحقيقة، لقد خسر كلتيهما بغبائة..


لمح أنس يقترب من ميرال ويمنحها واحدة من الشيكولاتة التي يتم توزيعها، يثرثر بكلمة أو اثنتين فتقهقه هي بقوة حتى تُغلق عيناها، يضم نوح قبضته بإستياء وينوي الذهاب للشجار لكنه سرعان ما يتذكر أنه لم تعد خاصته بعد الآن، يشعر بغصة في حلقه وآلم في رأسه.. وشعور بالتيه يحتل كيانه.


"نوح؟ مش أنتَ نوح اللي كان خطيب ميرال؟"


أخرج نوح من شرودة صوت فتاة لا يعرفها لكنه يذكر أنه رأها من قبل، انتفض نوح تلقائيًا ونظر نحوه نظرة خاطفة لم يلمح فيها سوى خصلات شعرها المصففة بعناية وثوبها اللطيف، توتر على الفور من كونها تعرفت عليه فهو لا يريد أن يعرف أحد بوجوده هنا.. أجابها سريعًا مُردفًا:


"اه أنا... عن إذنك..." هرب نوح على الفور قبل أن يكتشف أحد وجوده بينما وقفت هي تراقبه في حيرة، فلما فزع لتلك الدرجة؟ فحتى وإن كانت ميرال قد انفصلت عنه فهو سيبقى فردًا من أفراد عائلتها شأت أم أبت، هكذا كانت تُفكر الفتاة.


بالعودة إلى أفنان ورحيم اقتربت والدة رحيم بسخطٍ واضح وابتسامة لا تخلو من الغرور وهي تهنئ أفنان، بالطبع انتقلت لأفنان مشاعر سلبية وهي ترى تعابير وجه والدة زوجها.


"خلاص بقيتي أفنان البكري رسمي، مبروك عرفتي تسيطري عليه وتنفذي اللي في دماغك."


"أنا أفنان أحمد، وهفضل طول عمري أفنان أحمد أنا مش من عائلة البكري يا طنط." لم تتفوه والدة رحيم بكلمة آخرى بل نظرت إلى أفنان من الأعلى للأسفل ومن ثم ابتعدت عنها وذهبت بحثًا عن زوجها.


"حبيبي في حاجة؟"


"لا مفيش طنط كانت بتباركلي."


"مامي؟ ربنا يستر.. زعلتك طيب؟"


"متشغلش بالك.. تعالى نتصور مع العائلة عشان نلحق ال Photosession 'جلسة التصوير'."


"حاضر."


تمتم رحيم وذهب كلاهما لإلتقاط بعض الصور وأثناء فعلهم ذلك  اقترب من أفنان ورحيم أحدى أقارب والدها وابنها والتي لم تستطع أفنان قط أن تفهم قرابة تلك المرأة منهم لكنها كانت تراها أحيانًا في المناسبات الكبرى كتلك المناسبة على سبيل المثال، بعد أن هنئت أفنان اقترب ابنها والذي كان يبدو في الثلاثين من عمره تقريبًا أو ربما أكبر قليلٍا من ذلك، مد يده ليصافح أفنان مباركًا لها لكن رحيم مد يده بدلًا منها وهو يضغط على يد ذلك الشاب بإمتعاض واضح حتى برزت عظام فكه، حاولت أفنان كتم ضحكاتها وكاد الموقف أن يمر بسلام لولا أن قرر ذلك الشاب المدعو تامر أن يزيد الطين بلة وهو يُردف:


"ما شاء الله كبرتي وبقيتِ عروسة قمر يا أفنان، اللي يشوفك دلوقتي ميشوفكيش وأنتِ..."


"لا لا معلش ثانية واحدة؟ بقيت عروسة أيه؟ أنت سامع بتقول أيه ولا الحر آثر عليك ولا أيه ده؟"


"خلاص يا رحيم معلش مش قصده.."


"مالك يا عريس ما تروق دي زي أختي الصغيرة يعني.." أردف ممازحًا رحيم بطريقة سمجة ليضم رحيم قبضة يده بقوة بينما يحاول الحفاظ على هدوء أعصابة بقدر الإمكان بينما يقول:


"قدامك 3 ثواني تمشي من قدامي بدل ما أخلي وشك والأسفلت حاجة واحدة."


كانت نبرة رحيم ونظراته مُرعبة إلى حدٍ كبير ليبتعد ذلك الشاب من أمامهم على الفور، رمقه رحيم وهو يرحل قبل أن يُطالع أفنان بغيرة واضحة وهو يسألها بنفاذ صبر مُردفًا:


"مين ده أصلًا وبيقول عليكي قمر بصفته مين؟ وكنتِ ناوية تمدي ايدك تسلمي عليه؟ والله؟ ده أنا كنت بقف جنبك على بعد 10 متر!"


"خلاص بقى يا رحيم معلش حقك عليا، وبعدين ده تامر ده آخر مرة شوفته وأنا في ثانوية عامة باين."


"ايوا أيه يعني؟ هو ثانوي ده كنتِ طفلة يعني ما أنت كنتِ كبيرة!"


"خلاص بقى هنقضي كتب الكتاب بنتخانق عشان واحد معرفش يقربلنا أيه اساسًا؟!" علقت أفنان مستنكرة بنبرة لا تخلو من السخرية وهي تقهقه على وجه رحيم الذي ما يزال عابسًا، جذبته أفنان من ذراعه وتوجهت نحو أنس وميرال.


بمجرد أن انتهى الإحتفال ذهب هو وأفنان لجلسة التصوير وللمرة الأول استطاع رحيم أن يضم أفنان أثناء إلتقاط الصور، يُقبل جبينها ويُلثم يدها بقبلات رقيقة كذلك.. كانت الصور غاية في اللطف، شاركهم أنس وميرال في صورة أو اثنتين حيث كانت تقف ميرال إلى جانب أفنان وأنس إلى جانب رحيم.


"ممكن أتصور معاكوا؟" سألت أروى بلطف ليومئ الجميع وهم يشجعوها على القدوم، بالطبع لم تستطع أروى النهوض بمفردها لذا هرول نحوها أنس وميرال ليساعدوها على النهوض.. يحاوط أنس خصر شقيقته بلطف ولكن بقوة كافية في الوقت ذاته لكي لا تسقط بينما أمسكت ميرال بذراعها برقة.


شهرًا مر على زواج رحيم وأفنان وها هي أفنان عادت إلى الجامعة لكي تُنهي عامها الأخير في كلية الصيدلة، أما عن ميرال فوجدت فرصة عمل في مكانًا أفضل وبراتب أعلى، مازالت ميرال تتحدث إلا أنس ولكن في حضور رحيم وأفنان وأما بالنسبة للمراسلات فلقد أخبرت أباها بأن أنس يراسلها فهي لم ترد تكرار ما حدث مع أفنان سابقًا.


وفي صباح أحد الأيام كان أنس جالسًا برفقة رحيم بينما يتناولون طعام الإفطار، كان الأنس يثرثر حول ميرال كما اعتاد أن يفعل الأسابيع الماضية لكنه في كل مرة لم يكن يتحدث براحة تامة وكان يُخفي معظم التفاصيل لكن هذه المرة إفرغ ما في جعبته وكان ذلك نتيجة تحدث ميرال عن نوح مجددًا وعن قدر الحب التي كانت تكنه من أجلهومما أصاب غيظ أنس وجعله لا يعي ماذا يقول.


"أنا بجد مش قادر أصدق ازاي نوح ده انسان حقير كده.. لا وبجح مش بس دمر ثقة ميرال بنفسها وحسسها أنها قليلة ومتتحبش مهما عاملت لا ده رايح البجح يقول لأفنان أنه بي..."


"لا لا ثواني.. رايح يقول لأفنان أنه ب.. أيه؟" سأل رحيم بإرتياب، ليبتلع أنس ما في فمه بصعوبة قبل أن يسأله:


"هي أفنان نسيت تحكيلك ولا أيه؟"


"هو في حاجة كان المفروض تحكيهالي؟"


"معرفش أنا.. أنا مليش دعوة يا عم مدخلنيش في تفاصيل.."


"اخلص يا أنس!!"


"نوح قال لأفنان أنه بيحبها." سمع رحيم تلك الجملة وكان بإمكان أن أنس يرى الشرار يتطاير من عيناه.


بخطوات سريعة غادر رحيم المكان متجهًا إلى أفنان في الجامعة... كان من السهل أن يعبر إلى الداخل ولكنه استغرق بعض الوقت في البحث عنها واخيرًا وجدًا تجلس على أحدى المقاعد برفقة اثنتين من زملائها الفتيات وفتى واحد.


"صباح الخير، أفنان تعالي من فضلك محتاجين نتكلم ضروري.." تمتم رحيم بنبرة رسمية وبمجرد أن رأته أفنان ابتسمت ابتسامة واسعة وهي تُرحب بيه قائلة:


"رحيم؟ أيه المفاجأة الحلوة دي؟"


"يلا يا أفنان من فضلك بسرعة." أختفت ابتسامة أفنان على الفور حينما تخللت جملته تلك أذنها، شعرت بإنقباضة في قلبها.. رحيم لا يبدو بخير وهي لا تعرف السبب..


استأذن رحيم من أصدقائها وسحبها برفق بعيدًا عنهم متجهًا نحو سيارته، قاد رحيم إلى خارج الجامعة متجهًا إلى أقرب مقهى.. ساد الصمت في المكان حتى توقف رحيم إلى جانب المقهى لكن قبل أن يغادر كلاهما السيارة سألته أفنان الآتي:


"في أيه أنا مش فاهمة حاجة؟" لم يُجيبها رحيم بل أجاب على سؤالها بآخر بنبرة جادة مُردفًا:


"نوح قالك انه بيحبك؟" هربت الدماء من وجه افنان بينما  كان رحيم على العكس تماما فلقد كان وجهه محتقنا بالدماء من شدة الغضب.


"انت مين اللي قالك.. مين اللي قال.."


"ردي عليا! نوح قالك أنه بيحبك؟" كانت هذه المرة الأولى تقريبًا التي يعلو فيها صوت رحيم، انتفضت أفنان قليلًا قبل أن تبتلع الغصة التي في حلقها ثم تطلب منه بهدوء الآتي:


"ممكن متعليش صوتك يا رحيم؟ الموضوع أصلًا مش مستاهل كل ده."


اتسعت أعين رحيم فور سماعه لجملة أفنان، رمقها بحدة بطرف عيناه وهو يسأل مستنكرًا قولها:


"مش مستاهل؟ واحد بيقول لمراتي انه بيحبها ده موضوع مش مستاهل!"


"مكنتش لسه مراتك! وأنا ضربته وهزقته وعملت اللازم وعلاقتنا اتقطعت بيهم."


"اتقطعت؟ الواطي كان موجود في كتب الكتاب بتاعنا أنتِ بتقولي ايه؟! وبعدين مكنتيش مراتي بس كنتِ خطيبتي ولا هو عادي يقولك أنه بيحبك وأنتِ مخطوبة!"


"رحيم من فضلك ده مش أسلوب حوار! وبعدين أنا مقولتش أنه عادي أنا قولتلك هزقته أنت اللي مش عايز تقتنع.. وبعدين نوح مين اللي كان في كتب الكتاب؟ نوح مجاش أصلًا!"


"حوار؟ أنا مش فاهم برود الأعصاب اللي أنتِ فيه ده؟ ولا يا أفنان نوح جيه ومشي أنا شوفته ومردتش أعلق بحاجة عشان خاطر ميرال كفاية اللي هي فيه."


كان هذا رد رحيم على الجزء الأول من حديث أفنان والذي جعله استياءه يزداد حيث أنها لم تصدقه حينما أخبرها بأن نوح كان هناك أثناء مراسم عقد القران، ساد الصمت لبرهة قبل أن يُتابع رحيم بنبرة أكثر غضبًا قائلًا:


"وبعدين أنا بقى عايز افهم هو المفروض أنتِ تغيري وتتعصبي وتفقدي أعصابك وتقلي أدبك عليا لما تشوفي بنت معايا وأنا مش من حقي أدي أي رد فعل لما أعرف إن واحد بيقولك أنه بيحبك؟ ده اللي هو ازاي يعني؟ مع العلم أني عمري ما غلطت فيكي يا أفنان!"


بصق رحيم كلماته بعصبية شديدة دون أن يُدرك ماذا يقول، لم يشعر رحيم بهذا القدر من الإستياء والغضب من قبل... هو لم يعرف قط الشعور الحقيقي للغيرة، ربما كان يغير في علاقاته السابقة لكن الأمر مُختلفًا الآن فهي ليست مُجرد فتاة يكن لها المشاعر بل هي زوجتة وحب حياته!


"أنا قليلة الأدب يا رحيم؟" سألت أفنان ليزفر هو بضيق  شاعرًا بالذنب تجاه ما قاله لكنه لم ينبس ببنت شفه، تجمعت الدموع في عين أفنان دون إرادة منها وهي تفتح باب السيارة وتغادرها، يلحق بها رحيم على الفور وهو يردف:


"اركبي العربية يا أأفنان العربية من فضلك."


"مش عايزة، هاخد تاكسي."


"أفنان بقولك اركبي لو سمحتِ، بلاش فضايح من فضلك." تمتم رحيم بصوتٍ منخفض طالبًا منها العودة إلى السيارة بأدب مراعيًا وجودهم في الشارع، 

توجهت أفنان إلى السيارة بإستياء شديد.


تدلف إلى الداخل وتقوم بصفع الباب بقوة متعمدة إثارة غيظ رحيم، رمقها بحدة وهو يعيد خصلات شعره المبعثرة نحو الخلف ثم يقود السيارة متجهًا إلى منزل والديها.


"مساء الخير يا عمو."


"مساء الخير يا رحيم يا ابني، مالكوا في أيه؟"


"أنا وأفنان شدينا مع بعض شوية.."


أجاب رحيم بأدب وبإختصار شديد فهو لا يريد أن يتدخل أي شخص بينه وبين أفنان، عقد والد أفنان حاجبيه قبل أن يسأل بإستياء:


"يا ستار يارب أنتوا لحقتوا يا ولاد؟ شكلكوا اتحسدتوا."


"ولا حسد ولا حاجة رحيم هو اللي بيحب يكبر المواضيع ويعمل حوار من مفيش."


"أفنان! عيب كده اتكلمي مع جوزك بأدب!" كانت المرة الأولى التي تتعرض فيها أفنان للتوبيخ أمام أحد، ولم يكن أي أحد بل كان رحيم! شعرت أفنان بوجهها يشتعل من الحمرة، تشعر بالدموع تتجمع في عيناها.. لم تكن لتبكي من أجل ما حدث مع رحيم لكن التعرض للنهر من والدها؟ هذا سببًا كافيًا لقضاء الليلة في البكاء.


"خلاص يا عمو مفيش حاجة، أنا كده اطمنت إن أفنان معاكوا وهروح.."


"كتر خيرك يا ابني، معلش خدها على أد عقلها ما أنت أكيد عارف هي بتتطلع وتنزل على مفيش وكمان متقلقش أنا هشد ودنها عشان مينفعش تتكلم بالإسلوب ده."


"متزعلهاش يا Uncle من فضلك.. حتى لو هتتكلم معاها متزعلهاش، أنا عارف إن أفنان مش قصدها بس حضرتك عارف يعني مفيش اتنين مش بيحصل بينهم خلاف، أنا هستأذن بقى عشان الشغل."


"عليك نور يا ابني.. إذنك معاك يا حبيبي اتفضل."


غادر رحيم المنزل بهدوء ليتنهد والد أفنان بضيق، لم يمر غير مدة قصيرة منذ عقد القران وقد حدث الكثير من الجدال بين أفنان ورحيم، استقام والد أفنان من مقعده وتوجه إلى حجرتها إلا أنه وكما توقع وجدها نائمة.. وسيلة التعبير عن الحزن خاصتها.


عاد رحيم إلى منزله بعد أن فرغ من القيام ببعض الأعمال الضرورية، كان الضيق واضحًا على وجهه، بمجرد أن دلف إلى داخل المنزل وجد والدته في استقباله.. اقترب رحيم بهدوء وألقى التحية على والدته لكنها لم ترد التحية بل اقتربت منه وهي تضع وجه رحيم بين يديها بلطف بينما تسأله بقلق حقيقي:


"مالك يا رحيم؟ You look so sad 'تبدو حزينًا للغاية'."


"مفيش يا مامي أنا كويس.. كنت بوصل أفنان البيت وكان ورايا شغل كتير.. I am just exhausted don't worry 'أنا مرهق فقط لا تقلقِ'."


حاول رحيم أن يُخفي الأمر لكن لم يكن من الصعب على والدته أن تكتشف أو تتوقع السبب الحقيقي لحزن وضيق ابنها الوحيد، ابتعدت نحو الخلف خطوتين وهي تسأله بحنق بينما تعقد ذراعيها أمام صدرها:


"طبعًا الهانم زعلتك صح؟ I told you hundred times she is not the right girl for you 'لقد أخبرتك مئات المرات أنها ليست الفتاة المناسبة لك/ من أجلك'."


"مامي هو حضرتك شايفة إن وضعي يسمح أني اسمع كلام زي ده دلوقتي؟"


"ما هو عشان كده، لازم نتكلم عشان أنتَ مش مبسوط معاها.. علاقة فاشلة!"


"عشان خلاف واحد حكمتي على علاقتنا بالفشل؟ مامي بعد إذنك أنا بجد مُرهق جدًا ومش شايف قدامي ومعنديش أي طاقة للجدال، عن إذنك."


أردف رحيم بإستياء شديد ومن استأذن والدته بأدب متجهًا إلى غرفته عله يحظى ببعض الهدوء والسكينة ولو أن هدوء المكان لن يؤثر كثيرًا على الضجيج والصخب في رأسه.. لا يعلم كيف أصبحت علاقته بأفنان تسير على هذا النحو.


بعد مرور يومان استيقظت أفنان والتي كانت تنوي أن تبعث برسالة إلى رحيم لتحاول إصلاح ما حدث وبينما كانت تبحث عن محادثة رحيم على تطبيق 'واتس أب' ولكن قبل أن تفعل جاءها إشعار بأن رحيم قد نشر حالة على تطبيق شهير للصور، قامت أفنان بفتح الحالة بفضول شديد لتجد صورة لرحيم برفقة فتاة لا تعرفها ولكن من ملامحها يبدو أنها مصرية، مصرية من الطبقة المخملية تمامًا كرحيم.


كان على ما يبدو من مظهر المكان حولهم أنهم يجلسون في مقهى ما، وفي الجزء السفلي من الصورة كُتبت العبارة الآتية:


"حديث لطيف مع صديقي المُقرب 'Nice talk with my bestiee'."


شاهدت أفنان بأعين تستشيط غضبًا الحالة التي قام رحيم بإعادة نشرها والتي أشارت إليه فيها تلك الفتاة التي تُدعي ريم، والتي تأكدت أفنان أنها حقًا لا تعرفها ولم تراها من قبل، حتى أنها لم تكن حاضرة احتفال عقد القران.


قامت أفنان بالرد على تلك الحالة برسالة مقتضبة تطلب من رحيم أن يمر ليأخذها من الجامعة ليتناولوا الغداء سويًا في أي مطعم قريب من الجامعة، بمجرد أن قرأ رحيم الرسالة أدرك بأنه هناك شجار على وشك أن ينشب بينهم، فا بالطبع أفنان لن تجعل أمر تلك الصورة يمر بسلام بالرغم من أنه لا يرى أي شيء خاطئ في الأمر.


بعد ساعة ونصف تقريبًا كانت أفنان تجلس داخل المقهى مع رحيم وبعد جدل استمر لعشرة دقائق كررت أفنان سؤالها مستنكرة:


"ايوا يعني مين دي عشان تحكيلها."


"قولتلك صاحبتي، أحنا صحاب يا أفي صحاب! كانت معايا في الجامعة برا بس هي مصرية عادي.. كنا قريبين من بعض قابلتها صدفة وقعدنا أتكلمنا شوية فين المشكلة؟"


كان رحيم يتحدث بهدوء أقرب إلى البرود مما جعل شعور أفنان بالغيرة والغضب يزداد أضعافًا مضاعفة.


"هو أنت مش بتصاحب غير بنات بس؟ مبتعرفش تتعامل مع رجالة يعني؟"


تفوهت أفنان بحنق دون أن تعي ماذا تقول، حينما أدركت أن جملتها الأخيرة تحمل بعض الإهانة قضمت على شفتيها وكادت أن تنبس بشيء ما لكن رحيم سبقها وهو يُردف بضيق حقيقي:


"بعيدًا عن العك اللي أنتِ بتقوليه، أفنان أنتِ لازم تقدري إن تربيتي وحياتي وكل حاجة غيرك وأنا بجد بحاول اتغير واعمل كل حاجة كويسة عشان أسعدك بس أنتِ مش شايفة ده ومفيش حاجة بترضيكِ."


"طالما بتعمل الحاجة بس عشان ترضيني يبقى عمرك ما هتتغير! لازم يبقى التغير نابع من جواك وتبقى مُدرك إن عندك مشكلة وعيوب ومحتاجة تتغير أو إنك بتعمل حاجة حرام أو غلط مثلًا ومحتاج تعدلها عشانك مش عشاني."


"وأنتِ مش شايفة إن في حاجات محتاجة تعدليها برضوا؟ ولا المفروض إن أنا بس اللي اتغير؟ أنا بس اللي احاول عشان العلاقة تنجح؟!"


"رحيم هو أنت شايف إن احنا هنقدر نكمل مع بعض؟"


كان قلب افنان ينفطر وهي تنطق بتلك الكلمات، لكن ذلك لا يقارن بما حدث في داخلها حينما ذم رحيم شفتيه وصمت دون أن يصرخ بنعم يمكننا، ساد الصمت لبرهة ولم ينبس احد ببنت شفة ولكن قررت أفنان أن تتشجع وتأخذ الخطوة الأولى بأن تحاول خلع خاتم الزواج من يدها لكن يد رحيم الحنونة تقترب منها وهي تمنعها بلطف من فعل ذلك وهو يهمس بصوته الرخيم:


"أفنان i think we need a break 'أعتقد بأننا بحاجة إلى هدنة/راحة'."


أومئت موافقة على ما قاله وهي تنهض من الكرسي خاصتها ببطء وهي تشعر بثقل على كاهلها وكأن العالم كله يجثو فوقها، ساد الصمت طوال الطريق بينما كان رحيم يقود إلى منزل أفنان، عادت أفنان إلى المنزل في هدوء تام.. لم تنبس بحرفًا واحد بل اتجهت إلى حجرتها وبدلت ثيابها وغاصت في نومٍ عميق دون أن تذرف دمعة واحدة، وكانت هذه طريقة أفنان في التعبير عن الحزن منذ أن كانت صغيرة.. صمت تام على عكس الصخب المُعتاد والخلود للنوم دون أن تبكي.


في صباح اليوم التالي، انقضت ميرال على سرير أفنان النائمة بسلام وهي تصيح بجانب أذنها قائلة:


"أفنان ألحقي!!" تنتفض أفنان بهلع حقيقي وهي تسأل بنبرة ناعسة وعقل نصف نائم:


"أيه في أيه؟ حد يصحي حد كده؟"


"ألحقي رحيم.. رحيم عمل حادثة!" صرخت ميرال برعب  حقيقي لتفتح أفنان عيناها على مصرعيها وهي تستقيم من سريرها بينما تترنح بقوة، تسأل ميرال بتلعثم وهي تشعر بقلبها على وشك التوقف قائلة:


"أيه؟ أنتِ بتقولي أيه؟ عرفتي منين؟"


"أنس.. أنس منزل إن رحيم عمل حادثة.."


___________________________________


(تذكره: الحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.❤)


.


الفصل الثالث والأربعون: نِقَاشٌ عَقْلَانِيٌّ 🦋✨🤎


"أنس منزل ستوري."


"يعني هما في المستشفى ولا البيت ولا في أيه فهميني؟"  سألت أفنان برعب حقيقي وهي تبحث عن شيء لترتديه بينما أجابتها ميرال ببعض الهدوء:


"أنس كلم بابا وقاله إن الحالة مش خطيرة أوي وأنه رجع البيت بس في نفس الوقت تعبان جدًا."


"يعني مش خطيرة ولا تعبان جدًا؟ يالهوي عليا! طب اطلبي عربية بسرعة.. هتلاقي location 'الموقع الجغرافي' متسجل عندك عالأبلكيشن."


"حاضر ألبسي أنتِ بس."


في خلال عشرة دقائق كانت أفنان قد بدلت ثيابها وفي انتظار السيارة، داخل السيارة أمسكت أفنان بهاتفها وهي تتفحص الحالة التي نشرها أنس والتي بالفعل كانت تحوي صورة ليد رحيم وقد وُضع فيها أحدى المغذيات التي تصل عن طريق الأوردة 'كنولا'


ذهب ثلاثتهم إلى منزل رحيم، كانت والد رحيم، ميا، وأنس في استقبالهم عند وصولهم إلى المنزل، بمجرد رؤية أنس لأفنان صاح في وجهها بنبرة درامية قائلًا:


"اطلعي شوفي الواد واللي حصله بسببك! حسبي الله ونعم الوكيل فيكي يا شيخة!"


"أنس! معلش يا أفنان متزعليش منه، اتفضلوا أوضة رحيم فوق." وبخه والد رحيم، تجاهلت أفنان ما يقوله وانتظرت أن يُرشدها أحدهم هي ووالدها إلى حجرة رحيم بينما تركت ميرال في الطابق السفلي.


"رحيم! رحيم حصلك أيه؟"


سألت أفنان بفزع فور رؤيتها لجسد رحيم الممدد على سريره المكسو باللون الأسود، جسده كان مُغطى بالكامل فيما عدا يده التي وُضع عليها 'الكانولا'، كان وجهه شاحب للغاية والإرهاق باديًا عليه بوضوح، بمجرد أن صاحت أفنان بقلق فتح رحيم عيناه ببطء شديد وبفزع فور رؤيتها تبكي ليسألها بقلق:


"أفي؟ مالك يا حبيبي في ايه؟"


"رحيم أنت كويس؟ قولي أيه اللي حصل؟" سألته أفنان  وهي تضمه بلهفة ليضمها هو في المقابل دون أن يفهم ما الخطب، يوجه نظره نحو أنس ووالد أفنان بحيرة لكنه لم يفهم ايضًا.


"اهدي بس.. أنا مش فاهم حاجة؟"


"أنتَ اللي مش فاهم؟ أنا اللي جاية عايزه افهم عملت الحادثة ازاي؟"


سألت أفنان وهي تفحص رحيم بدقة بحثًا عن أي إصابة بينما طالعها هو بحيرة شديدة قبل أن يسألها بعدم فهم مُردفًا:


"حادثة أيه؟ أنا معملتش حادثة.. أنا عندي تسمم.. مين اللي قالك حادثة؟"


"تسمم؟ تسمم أيه؟" سألت أفنان بحيرة ليتبادل رحيم  النظرات مع أنس ويسود الصمت لبرهة..


بالعودة إلى الوراء ليلة واحدة.. بعد أن غادر رحيم منزل أفنان غاضبًا بعد ما حدث، هاتفه أنس وعلم بأن هناك شجارًا دار بين أفنان ورحيم لذا قرر أن يأخذ رحيم لتناول العشاء في الخارج لعل ذلك يساعده في تحسين نفسيته السيئة.


"أنس بقالنا ساعة بنلف بالعربية، فين ال restaurant 'المطعم' اللي بتقول عليه ده؟"


سأل رحيم بنفاذ صبر فهو يقود بحثًا عن ذلك المكان المزعوم منذ نصف ساعة، استغرق أنس دقيقة وهو ينظر حوله في كل مكان من خلال الشرفة بينما يقول:


"ثواني بس.. هو كان واقف هنا."


"واقف هنا ازاي يعني؟ هو ال restaurant 'المطعم' ده في مركب بتتحرك في النيل ولا أيه؟"


سأل رحيم بحيرة لكونهم بالقرب من أحد الأماكن المُطلة على نهر النيل، تأفف رحيم بحنق لتأخر أنس في الإجابة عن سؤاله وكاد أن يسب أنس لكن الأخير قاطعة وهو يُردف بحماس:


"بس هنا أهو."


"هنا أيه؟ أنتَ بتهزر أكيد صح؟"


"بهزر أيه يا راجل بس، أحنا دلوقتي هننزل ناكل بقى من العربية دي وبعدها هتنسى أفنان واللي جابوا أفنان والصنف كله عمتًا، احتمال تنسى أنتَ مين."


"لا طبعًا مستحيل أكل من الأكل ده! ده الراجل مش لابس جلوفز يا أنس!"

أعترض رحيم على اقتراح أنس ونبرته لا تخلو من التقزز، اتسعت أعين أنس وهو يضع يده أعلى فم رحيم بينما يُردف الآتي ساخرًا:


"بص اسكت جلوفز أيه؟ هيفتكرك بتشتمه يسطا! بس يا عم عزت عايزين أيه خمستاشر كبده وعشرين سدق بس في السريع الله يكرمك."


"أنس هو مصدر اللحمة دي أيه؟" سأل رحيم بإشمئزاز  لتضطرب معالم أنس ويسود الصمت لبرهة قبل أن يُجيبه أنس بنبرة ساخرة:


"بص هو في قطط وكلاب حوالين المكان فربنا يستر بقى."


"أنس أنا حاسس أني مش كويس..."


بالعودة إلى الحاضر انتهى رحيم من سرد ما حدث لأفنان، فبمجرد تناول رحيم لقضمة أو اثنتين من الطعام شعر بآلم شديد في معدته ونتيجة لذلك قام أنس بإخذه إلى المستشفى وهناك قاموا بإجراء 'غسيل معدة' من أجله ومن ثم أخذه أنس إلى المنزل كي يحصل على قسطًا من الراحة وقد أمر الطبيب بأن يقوم رحيم 'بتعليق محاليل' لتعويض ما فقده، رمقت أفنان أنس بحدة وغيظ شديد.


"يعني يا بني آدم أنتَ مش كفاية إنك جبتله تسمم، كمان بتكدب وكنت هتوقع قلبي!"


وبخت أفنان أنس والتي كادت أن تُعنفه من شدة الغيظ لولا يد رحيم التي امتدت لتُمسك بها، حاول أنس تبرير موقفه ولكن كالمعتاد زاد الطين بلة حينما قال:


"ما أنا ملقتش حل تاني عشان تتكلموا وأنا السبب في الزعل بينكوا أصلًا.."


"ليه أنتَ عملت أيه؟" سألت أفنان لينظر رحيم نحو أنس بنظرة تعني 'لا تُخبرها' لكن أنس لم يفهم مقصد رحيم وقام بإخبار أفنان على أي حال ليقوم رحيم بصفع جبهته.


"ما هو بصراحة أنا اللي فتنت وقولت موضوع نوح ده." اتسعت أعين أفنان وكادت أن تنقض على أنس بشراسة أكثر من المرة السابقة ليفر الأخير هاربًا لولا أن أمسك بها رحيم.


"خلاص يا أفي معلش المسامح كريم."


"ثواني بس خد هنا.. هو حد كان يعرف الحوار اللي أنتَ عملته ده؟ وبعدين ازاي تنزل ستوري زي دي ما أكيد كله شافها وقلق؟!" سألت أفنان ليُضيق أنس عيناه قبل أن يُعلق  على ما قالته ساخرًا:

"ذكية أوي اسم الله عليكي، طبعًا كلهم كانوا عارفين الخطة بابا رحيم، باباكي وميرال وكله اتفق معايا.. وبالنسبة للستوري كنت عامل إن أنتِ وميرال بس اللي تشوفوها يا أم جهل."


"سيبني يا رحيم.. سيبني أقوم أفشفش دماغه! يا أخي حسبي الله ونعم الوكيل فيك والله عاللي عامله فينا ده! إلا عمرك ما عملت حاجة عدلة في حياتك!"


رفع أنس يده نحو أفنان وهو 'يشوح لها' بمعنى 'يا شيخة روحي'، أشار رحيم بيده لأنس بأن يغرب عن وجهها ومن ثم عاود النظر نحو أفنان وهو يطلب منها الآتي بهدوء:


"سيبك منه يا أفي وتعالي نقعد تحت عايز أتكلم معاكي شوية."


"نتكلم تحت أيه بس؟! أنتَ قادر تنزل اصلًا؟"


"اه متشغليش بالك."


أردف رحيم وهو يطلب من والده مساعدته في خلع 'الكانيولا' من يده، في خلال بضع دقائق كانت أفنان تجلس أمام رحيم ويفصل بينهم طاولة صغيرة في الحديقة الخلفية للمنزل وبالقرب من حمام السباحة.


"عايز تتكلم في أيه؟ في الخلاف اللي حصل آخر مرة والكلام اللي أنا قولته صح؟" سألته أفنان بإحراج ليرمقها رحيم بحنان قبل أن يُردف بنبرة جادة لا تخلو من اللطف:


"مش عايز أتكلم عن حاجة معينة، أنا بس شايف أننا المفروض نقعد زي الناس المتحضرة والكبيرة وكل واحد يقول اللي بيزعله من التاني.. نحاول نحل المشاكل ولو مفيش حل.. لازم نخلق حلول ونحاول ده لو كنا حقيقي بنحب بعض."


"معنديش مانع.. ولو أني حاسه إن الكلام في المواضيع دي بيبقى صعب لأنها مواضيع حساسة شوية ولكن لو أنتَ شايف إن ده الحل تمام."

"تحبي مين فينا اللي يبدأ؟"


"أنتَ." تمتمت بإندفاع دون ذرة تفكير لتنمو ابتسامة صغيرة على ثغر رحيم، يعتدل في جلسته ممُسكًا معدته بآلم قبل أن يُردف الآتي:


"كنت عارف.. أولًا لازم تكوني عارفة أني بحبك.. بحبك فوق ما تتصوري ولكن الحب مش كافي لإستمرار العلاقة عشان كده عايز اقول حاجة.. أفي أنتِ أوقات كتير بتكوني اندفاعية، مش طول الوقت بتبقى حاجة وحشة ولكن أوقات الموضوع بيفلت منك.. مش بتبقى مدركة بتقولي أيه ولمين، طريقتك مع أختك غير صاحبتك غير مامتك وباباكي وغيري.. وغير زمايلك أو حد ماشي في الشارع."


"عندك حق.."


"أنا ممكن اتقبل كونك شخصية عصبية وأننا نحاول نخليكي أهدى شوية لكن الغلط وإنك ممكن بدون قصد تقلي أدبك عالطرف التاني أو أنك تعاملي حد بقلة ذوق؛ دي تصرفات مش مقبولة إطلاقًا يا أفي.."


حاول رحيم أن يتحدث بكل صراحة وفي الوقت ذاته كان يحاول قدر الإمكان تجنب جرح مشاعر الجالسة أمامه، لم تُعلق أفنان على ما قاله بل نظرت إلى الأرضية وهي تعبث بأصابعها، تنهد رحيم من تصرفها الطفولي قبل أن يُتابع مُردفًا:


"تاني حاجة هو إنك معترضة على معظم تصرفاتي واللي أنتِ كنتِ عارفة معظمها من قبل ما نرتبط بالمناسبة، أنا عندي استعداد أقلل تعامل مع البنات وأحط حدود بس لازم تكوني مدركة إن الموضوع مش بالسهولة دي! ممكن أحجم علاقتي بمعظم البنات بس ميا بنت خالتي  And she is my best friend 'وهي صديقتي المفضلة' وكمان أروى."


"ايوا يا رحيم بس.."


"سيبيني أكمل يا أفي! أنا قولتلك هحاول أحجم علاقتي معاهم وأصلًا بمجرد ما نتجوز أنا هنشغل بالبيت وشغلي وعلاقتي بيهم هتقل تدريجيًا، وبالنسبة لصحابي القدام هحاول أتجنبهم.. تمام كده؟"


حاول رحيم جاهدًا أن يُرضي أفنان وفي الوقت ذاته ألا يكون نذلًا مع أصدقائه، أن يُغير نمط حياته وسلوكياته في التعامل مع من حوله ليس بالأمر الصعب لكنه على أتم الإستعداد أن يحاول بكل طاقته من أجل أفنان ولكن في المقابل يُريد أن تفعل هي المثل من أجله كي يكون الأمر عادلًا ومريحًا بالنسبة إلى الطرفين.


"تمام.. طيب ممكن أقول حاجة بقى؟ أحنا آخر مرة اتخانقنا عشان خبيت عليك موضوع نوح صح؟ مع أنك طول الوقت بتخبي عليا.. مش منطق أنك تخبي عشان مقتنع إن ده للصالح العام وأنا لما اعمل كده تعترض ولا أيه؟ مع أني برضوا خبيت عليك عشان الموضوع ميكبرش وأديك لما عرفت كبرته وزعلت مني."


"مضبوط عندك حق بس موضوع نوح حساس ومختلف وأنتِ عارفة ده كويس."


"موضوع نوح حساس وموضوع رفض مامتك ليا مش حساس؟" زم رحيم شفتية وهو يُفكر، هي محقة ولا يملك رد  مناسب لما تقوله، ساد الصمت لبرهة بينما يحك رحيم أسفل ذقنه قبل أن يتُمتم:


"ماشي تمام، أيه تاني؟"


"أنت مش صريح يا رحيم هي دي أكبر مشكلة بالنسبالي، بتخبي.. بتلف وتدور.. مش بتعرفني حاجة وأنا عايزاك تشاركني وده مش تفضل منك، أحنا خلاص أتجوزنا يعني لازم تشاركني في كل حاجة حتى لو مش كل حاجة عالأقل ٩٠% من حياتك ولا أنت شايف أيه؟"

صارحت أفنان رحيم بما يُغضبها منه منذ أن عرفته تقريبًا، وكان ما قالته هو مربط الفرس لنصف المشاجرات التي حدثت بينهم، عدم صراحة رحيم.. والتي لم تكن بالصفة التي يمكن تغيرها أو تعديلها بسهولة وكان الدليل على ذلك هو رد رحيم تعقيبًا على حديثها مُردفًا:


"أفنان أنا اتربيت عالخصوصية بدرجة مبالغ فيها، اتربيت إن في حاجات مش بنتناقش فيها وفي مواضيع مش بنفتحها أصلًا، أنا طول عمري طفل وحيد ومليش أخوات.. صحابي القريبين عددهم قليل، مش متعود أشارك حد كل حاجة ولا أحكي كل حاجة.. ده حتى أنس مش كل حاجة يعرفها وإن كان هو أكتر واحد في الدنيا يعرف حاجات عني."


"طيب ما هو ده مينفعش دلوقتي، اه طبعًا كل واحد ليه خصوصية وفي حاجات لازم الإنسان يحتفظ بيها لنفسه لكن ده لما تكون تخصك لوحدك مش تخصني معاك يا رحيم!"


"تمام أنا هحاول اشتغل عالموضوع ده، وأنتِ حاولي تشتغلي على ردودك وألفاظك يا أفي، أنا مش هقبل اسمع منك كلام يحمل أي نوع من الإهانة.. أنا كرامتي رقم واحد عندي ومش معنى إن عديت الموقف اللي فات إن أنا هسمح بحاجة زي دي تاني."


"أنا أسفة.. أنا عارفة إن ردي كان سيء أوي أنا بس كنت غيرانة.."


"ده مش مبرر، زي ما الغيرة مكنتش مبرر أني انفعل عليكي بالطريقة اللي حصلت دي."


"أنا عارفة عشان كده بعتذر.. عارف حتى بابا اتكلم معايا وغلطني وفرحت جدًا لما عرفت أنك مردتش تحكي حاجة ليه عن اللي حصل بينا."

"ده الطبيعي يا أفي وده النظام اللي ناوي نكمل بيه حياتنا إن شاء الله، اللي يحصل بينا يفضل بينا.. حفاظًا على الحب والخصوصية بتاعتنا، وأنا كمان أسف عشان زعلتك."


"طب أحنا كده خلاص اتصالحنا يعني؟" سألت أفنان بحماس وسعادة حقيقة سرعان ما أختفت حينما سمعت رد رحيم والذي كان كالتالي:


"هو أحنا كنا متخاصمين أصلًا؟ ده خلاف أحنا أكبر من كده، بس أنا لسه عند نفس الرأي.. أحنا محتاجين نقعد يومين تلاتة منتكلمش، نحاول نصفي ذهننا ونفكر في الكلام اللي اتقال النهاردة."


"حاضر.. بس.. ماهو أنتَ هتوحشني يا رحيم!" تمتمت أفنان بعد أن قوست شفتيها لتصدر ضحكة قوية من رحيم ومن ثم يضع يده على معدته بآلم ثم يُردف:


"وأنتِ كمان يا أفي، من غير ما تزعلي أنا مش بضحك عليكي أنا بضحك عال reaction 'رد فعل' حاسس أني بكلم بنت أختي بجد."


"بقولك أيه أنا همشي، وأنس ده همسكه أعجنه عالحركة اللي عملها هو وميرال!"


"أنا هتكفل بالموضوع ده don't worry 'لا تقلقِ'." أردف  رحيم وهو يضحك بعفوية لتنظر نحوه أفنان وهي ترفع أحدى حاجبيها بينما تسأله:


"يعني اطمن أنك هتهزقه؟"


"بلا أدنى شك."


"أدنى شك؟ أنتَ كنت بايت في المستشفى ولا في الكُتاب ولا فين؟" سخرت منه أفنان ليضرب رحيم كفيه ببعضهما وهو يتحدث مستنكرًا:


"هو أنا أتكلم عربي مش مفهوم مش عاجب، اتكلم English 'إنجليزي' مش عاجب، أتكلم لغة عربية مش عاجب.. تحبي أتكلم معاكي بإيه؟ En français 'بالفرنسية'."

"بتروش عليا عشان مثقف؟ على فكرة أنا كنت واخدة الفرنساوي لغة تانية في ثانوية عامة لا وقفلته كمان."


"أنا تعبت والله.. بجد، بقولك أيه يا أفي قومي روحي." تمتم رحيم وهو يضحك، تبتسم أفنان في المقابل وهي تسأل داخلها كيف لضحكة رحيم أن تُشعرها بهذا الدفء، كيف لضحكته تلك أن تُضيء العالم من حولها، تجعل الفراشات تُحلق وتنقل لها عدوى الضحك والإبتسام.


بعد رحيل أفنان وتوديع رحيم لها ولوالدها وشقيقتها، جاء أنس ليجلس أمام رحيم بينما يتناول من الفاكهة التي ابتاعها والد رحيم من أجله نظرًا لما أصاب معدته.


"بس أيه رأيك في الحركة الهندي اللي عملتها دي؟ خليتلك أفنان تيجي في ثواني.. أبقى أشكرني بعدين بقى."


تمتم أنس بثقة زائدة وهو يضحك ليرمقه رحيم بطرف عيناه قبل أن يُمسك بالطاولة مهددًا أنس الذي هرول مبتعدًا عنه، ليُمسك رحيم بزجاجة بلاستيكية ويقذفها على رأس أنس.


فور عودة أفنان إلى المنزل كانت السعادة تغمرها والطمأنينة كذلك، دلفت إلى حجرتها هي وميرال وهي تُردف بسعادة وحماس:


"أنا مبسوطة أوي بكلامي مع رحيم النهاردة.. بغض النظر إننا متصالحناش فعليًا وإن هو لسه شايف إننا محتاجين ناخد فترة هدنة كده من علاقتنا وبغض النظر برضوا عن المقلب السخيف اللي عملتيه مع أنس بس الحمدلله برضوا عرفنا نتكلم ونتفاهم."


"أممم حلو." تمتمت ميرال بلا مبالاة، لتعقد أفنان حاجبيها بإستياء وهي تُعلق ساخرة:


"حلو؟ هو أنا بدوقك أكله، أنا بحكيلك حاجة وبتناقش معاكي."


"ايوا يعني مستنية أقول أيه يا أفنان؟" سألت ميرال بنفاذ صبر لتنتبه أفنان لحدة نبرة ميرال والتي لم تعتاد عليها من شقيقتها لتحاول أفنان الإستفسار عن مشكلتها مُردفة:

"أيه ده في أيه؟ ميرال أنتِ كويسة؟"


"ياااه يا أفنان خدتي بالك أني مش كويسة أخيرًا؟"


"أنتِ بتتكلمي كده ليه؟ بتهزري ولا بتتكلمي جد؟"


"لا بتكلم جد، هو أنتِ مش ملاحظة إن محدش مدي أي أهمية للي حصل بيني وبين نوح؟ محدش واخد باله أنا مجروحة ازاي؟ كله انشغل في كتب الكتاب بتاعك وخناقاتك الهايفة مع رحيم ومحدش خد باله مني!"


صُعقت أفنان من كلمات ميرال القاسية وإن كانت مُحقة لكن أفنان لم تتوقع قط أن تجري محادثة كتلك بينها وبين شقيقتها، شعور بالخزي أصاب أفنان وقررت أن تعتذر على الفور لعل ذلك يشفع لها عند ميرال، صدرت الكلمات من أفنان مُبعثرة.. حاولت تكوين جملة مفيدة لكنها فشلت في ذلك..


"أنا.. أنا أسفة أنا مش عارفة.." ضحكت ميرال ساخرة من جملة أفنان قبل أن تقاطعها بحدة وبنبرة أشبه بالصراخ قائلة:


"أسفة على أيه ولا أيه يا أفنان؟ الغلط مش غلطك لوحدك.. ماما نفسها مهتمة بمشاعر نوح أكتر مني! بابا مركز معاكي ومع جوازتك أكتر.. وأنتِ مشغولة مع رحيم وأنا فين طيب يا أفنان؟ محدش خد باله أني مثلت أني تخطيت الموضوع ودوست على قلبي عشان أعرف أفرحلك؟ عشان أبقى أخت كويسة ومثالية.. بس أنا مش مثالية يا أفنان، أنا انسانة عادية ومن حقي أزعل بس أنتوا سلبتوا مني الحق ده!"


اختلط الدمع بحديث ميرال وشاركتها شقيقتها البكاء، حاولت أفنان أن تقترب من شقيقتها كي تضمها لكن ميرال ابتعدت عنها على الفور لتحاول أفنان الإقتراب مجددًا وهي تهمس:


"أنا بجد أسفة أوي يا ميرال، حقك عليا والله أنا انسانة أنانية أنتِ عندك حق.. متزعليش مني.."


لم تُعلق ميرال على ما قالته أفنان بل تجاهلت حديثها تمامًا، ابتعدت عن أفنان وذهبت لإحضار منديلًا ورقيًا من أعلى الكمود بينما تُردف بجمود عكس نبرتها السابقة قائلة:


"أنا هروح لدكتورة نفسية يا أفنان، الدكتورة اللي أنس بيتابع معاها.. بس مش هروح معاه طبعًا كل واحد ليه ميعاد هو بس هيعرفها أني رايحة، وحتى أنس مش عايزة اتكلم معاه كلامي معاه غلط.."


"اعملي اللي يريحك واللي تشوفيه صح يا حبيبتي."


"من النهاردة هعمل كده، متشغليش بالك.. بس صحيح يا أفنان.. أخواتك وعائلتك ممكن يستحملوا حاجات في شخصيتك وعيوب الغريب ميقدرش يستحملها.. وبعيدًا عن إن رحيم رسميًا بقى جوزك بس اجتماعيًا وشخصيًا هو لسه غريب."


بصقت ميرال كلماتها وحينما سمعت أفنان الجملة الأخيرة شعرت وكأن أحدهم قام بسكب حاوية مياه باردة فوق رأسها، رحيم لن يتحملها؟ رحيم ما يزال غريبًا عنها؟ لأول مرة تشعر أفنان بسوء شخصيتها إلى هذا الحد.. حرصها الزائد وخوفها الدائم من أن تُجرح مشاعرها حولها إلى مسخ لا يهتم بمشاعر غيره.. هي الآن تفعل الشيء ذاته الذي كرهت نوح من أجله.. رحيم لن يتحمل ذلك طويلًا، ميرال لن تفعل، ولا أصدقائها وحتى والديها قد يصيبهم التعب والكلل منها.. ما الحل إذًا كي لا يحدث ذلك؟! هكذا كانت تتسأل بتعابير وجه هادئة على عكس العاصفة التي بداخلها.


في صباح اليوم التالي استيقظت أفنان  قرب الساعة الحادية عشرة للذهاب إلى الجامعة ولم تجد ميرال في سريرها، غادرت حجرتها لتجد المنزل فارغ لا وجود لا أحد.. كان طعام الفطور موضوعًا على الطاولة وبجانبه ورقة صغيرة كُتب فيها الآتي:


"صباح الخير يا أفنان، أنا روحت اقعد مع خالتك شوية، أبوكي في الشغل وهيخلص ويروح لجدتك، ميرال هتخلص شغل ورايحة مشوار."


قرأت أفنان الورقة بتملل وكادت أن تجلس لتناول الفطور ثم شعرت بأن لا شهية لها لتناول الفطور وحيدة لذا قامت بإعداد شطيرة أو اثنتين لتتناولهم في الجامعة، بدلت ثيابها وكانت على وشك إرسال رسالة لرحيم لتخبره بما تنوي فعله في يومها لكن سرعان ما تذكرت أمر البُعد المؤقت لتزفر بضيق وتغادر المنزل على الفور.


كان اليوم بطيئًا مملًا، حديثها مع ميرال من ليلة أمس مازال يشغل بالها.. العديد من التجارب في الجامعة والوقوف في المعمل لساعات طويلة، يوم يمر بدون سماع صوت رحيم ولا عناق والدها الدافئ ومزاح والدتها في الصباح، لا يمكن لليوم أن يُصبح أسوء من ذلك أليس كذلك؟


"مساء الخير يا دكاترة، أنا هكمل السكشن معاكوا بدل دكتورة أسماء.. أظن كلكوا عارفين أنا مين فا مش هنضيع وقت في التعارف، كل واحد يقف قدام الرقم بتاعه عشان نبدأ شغل."


أطلقت أفنان سبة بصوتٍ منخفض، ألم يجدوا شخصًا آخر ليقوم بتدريسهم غير نوح! ذلك الوغد الذي ساهم بنسبة كبيرة في تدمير حياتها ونفسيتها!


تنهدت أفنان بقلة حيلة وهي تدعو بداخلها ألا يجعل منها أضحوكة أمام الجميع كما كان يفعل في السابق لكن على عكس توقعاتها هو لم ينبس بحرفٍ واحد معها، لم يقوم بتوجيه أي كلمة لها بل ولم يرفع عيناه لتقابل خاصتها، انتهت أفنان من دوامها في الجامعة وعادت أدراجها إلى المنزل.


أما عن ميرال فبمجرد انتهاء دوامها في العمل استقلت سيارة متجهة إلى عنوان الطبيبة الذي منحها إياه أنس سابقًا قبل أن تتوقف عن التحدث إليه، وفي طريقها إلى هناك وجدت رسالة من أنس محتواها الآتي:


"أنا مش عارف مش عايزة تكلميني ليه.. عمومًا هتلاقي حجز بإسمك عند الدكتورة والفلوس مدفوعة ولما تخلصي هتلاقي عربية تحت العيادة ده رقمها *** هتوصلك لحد البيت." ابتسامة صغيرة نمت على وجهها وهي تقرأ الرسالة  لكنها لم تُجب عليها.


بعد مدة ليست بطويلة توقفت السيارة أمام 'الفيلا' المقصودة، دلفت ميرال إلى داخل المكان وهي تشعر بتوتر شديد لا تدري سببه لكن ربما لأنها لم تقوم بزيارة طبيب نفسي من قبل وربما لكون زيارة الطبيب النفسي ليس بالأمر المنتشر في مجتمعنا، والذي لا يعترف بالمرض النفسي بل يُطلق على المصابين بأمراض نفسيية لقب 'مجانين/مجازيب'.


"مساء الخير.. كان في حجز بإسم ميرال أحمد."


"اه يا فندم، استريحي خمس دقائق وهدخلك للدكتورة."


"تقدري تتفضلي." أومئت ميرال للفتاة وشكرتها ومن ثم توجهت إلى الداخل، كانت تتأمل المكان بعيناها سريعًا لم تستطع ملاحظة الكثير سوى أن المكان غاية في الفخامة وأن ألوان الأثاث الحوائط مُريحة للعين والنفس.


"مساء الخير.."


"مساء النور اتفضلي يا.. أستاذة ميرال مش كده؟"


"مضبوط.."


"اتفضلي استريحي.. ها تحبي نبدأ منين؟" تحدثت الطبيب بلطفها المعتاد، منحتها ميرال ابتسامة صغيرة وهي تسألها بتوتر:


"لازم وأنا صغيرة وكده؟ مش عارفة أنا أول مرة أجي لدكتورة نفسية.. ده أصلًا كان اقتراح أنس، هو، أنس يعتبر أخو جوز أختي يعني وأنا كنت بمر بأزمة عاطفية كده وهو اقترح أني أجي هنا.. لولاه مكنتش عمري هفكر أجي.."


شعرت الطبيب بميل ميرال للتحدث عن الأحداث الحديثة نسبيًا في حياتها، لذا قررت أن تسألها عن علاقتها بأنس وشعورها تجاهه ولكن بطريقة غير مباشرة.


"يعني علاقتك بأنس محدودة؟ مش صحاب أو كده؟"


"لا مش بالضبط.. أحنا اتقابلنا كام مرة بحكم ترتيبات جواز أختي ودردشنا كام مرة بس أنا مرتحتش للموضوع.. كمان أفنان أختي بتقولي إني مش مستعدة ادخل في علاقة وإن انجذابي لأنس هو مجرد وهم لأني خارجة من علاقة فاشلة.. بس أنا أصلًا مش منجذبة لأنس هما فاهمين غلط.."


"كويس جدًا إنك مدركة إنك مش مستعدة للدخول في علاقة حب دلوقتي، طيب حابة تتكلمي عن التجربة دي؟"  كانت تسأل الطبيبة ميرال بينما تقوم بتدوين بعض الملاحظات في الدفتر الصغير الموضوع أمامها.


"هي عادي خطوبة.. اتخطبت لأبن خالتي ومتربين مع بعض وأنا بحبه من زمان.. كنا قربنا نتجوز بس حصل خلاف.. أصله طلع بيحب أختي، عايز يتجوزني عشان يفضل قريب منها.."


"طب وده غير نظرتك نحو أختك؟ ولا خلاكي مدركة إن ملهاش ذنب؟"


"أنا عارفة إن ملهاش ذنب.. بس حسيت بالغيرة مش هنكر.."


"والغيرة دي عشان موضوع خطيبك بس ولا طول عمرك حاسة بالغيرة تجاه أفنان؟"


"لا، طول عمري عادي وشايفة إن كله بيعاملني زي أفنان.. الفرق بس إن أفنان دمها خفيف وبتهزر وبتتكلم لكن أنا طبعي هادي فكانت بتاكل الجو يعني.. وعمري ما كنت بتضايق بس الفترة الأخيرة.."


"طيب وده كان بيزعلك؟ إنها بتلفت الأنظار؟"


"أوقات.. بس أنا عمتًا مش بركز في الحاجات دي لحد أما حد نبهني.."


"مين الحد ده؟"


"خطيبي.. قصدي خطيبي سابقًا، نوح كان دايمًا يقولي هو ليه عمو أحمد مهتم بأفنان أكتر منك؟ ليه شكله مبسوط عشانها أكتر ما هو مبسوط عشانك؟ ليه أفنان بتكلم رحيم أكتر ما أحنا بنتكلم؟ أكيد هيعملوا فرح أحلى من بتاعنا.. كلام من النوع ده.."


"وأنتِ شايفة إن كلامه حقيقي؟"


"مش قادرة أحدد إن كان كلامه حقيقي وأنا مكنتش شايفة ولا هو اللي وهمني بكده.. بابا أقرب لأفنان مني، وأنا أقرب لماما منها يمكن عشان تشابه الطباع والتفكير بيني أنا وماما.. بس نوح شككني في نفسي وفيهم.."


" طب وأنتِ اتكلمتي مع أفنان في اللي مضايقك؟"


"اه.. امبارح قولتلها إنها مش بتهتم بمشاعري.. مش بيفرق معاهم زعلي، هي اتضايقت أوي وأنا حسيت بالذنب.."


"مشكلتك يا ميرال إن دايمًا عندك شعور بالذنب وبالدونية كمان، شايفة إن من حق الناس تزعلك عادي، شايفة إنك تستحقي أقل من غيرك.. حتى لما خطيبك اتقدملك كنتِ منبهرة ومش متخيلة إنه ممكن يقبل أنه يتجوزك مع إن ده مش حقيقي، أنتِ تستحقي شخص أحسن منه.. بس الأهم من الشخص ده ومن أي حد تاني هو إنك تعرفي قيمة نفسك.. أنتِ انسانة جميلة وناجحة في شغلك ومتربية كويس لازم تعرفي قيمة نفسك وتحبيها ولما تعملي كده كل الناس هتحب وهتعرف قيمتك في المقابل."


كان حديث الطبيبة صادق تمامًا، كل ما ينقص ميرال هو بعض الثقة واحترام الذات، أن تقتنع أن لها حقوق كما تُنفذ هي واجباتها بل وتُقدمها على طبق من ذهب للجميع، ابتسمت ميرال وهي تشكر الطبيبة على حديثها اللطيفة وتعدها بزيارة آخرى عن قريب، رحلت ميرال من العيادة وهي تشعر بتحسن بنسبة لا بأس بها ولكن بالرغم من الحديث الذي دار بينها وبين الطبيبة إلا أنه الشعور بالذنب قظ خالجها فلقد كانت قاسية للغاية مع أفنان ليلة أمس.. كان بإمكانها أن تقوم بإيصال الفكرة ذاتها ولكن بكلمات أكثر رقة ربما..


أثناء عودة ميرال إلى المنزل قررت أن تبتاع بضع كيلوهات من الفاكهة التي تحبها هي وأفنان على سبيل إصلاح ما حدث بالأمس، في طريقها نحو باب المنزل استوقفها صوت أحدهم يُنادي بإسمها قائلًا:


"ميرال.. ميرال.. عاملة أيه؟"


توقفت ميرال كصنم حينما أدركت من يكون صاحب الصوت، ألتفتت ببطء نحو مصدر الصوت لترتسم ملامح الدهشة والإمتعاض في الوقت ذاته بينما تسأل بإستنكار:


"نوح؟ أنتَ أيه اللي جابك هنا؟ قصدي يعني مطلعتش ليه تطمن على خالتك وجوزها أيه اللي موقفك في الشارع؟"


"أنا كنت.. يعني كنت عايز اتكلم معاكي شوية.. وأصلًا خالتو مش فوق.. خالتو عندنا في البيت."


"نتكلم في أيه؟ مبقاش في حاجة نتكلم فيها، وبعدين أما أنتَ عارف إن مفيش حد فوق جاي ليه؟"


"أنا بس كنت عايز أعتذرلك عن اللي حصل مش أكتر.. صدقيني.." تمتم نوح بإحراج شديد وهو يحك مؤخرة عنقه بيده لتُطلق ميرال ضحكة ساخرة عالية قبل أن تعلو وجهها نظرات الإزدراء وهي تُردف:


"تعتذرلي؟ يااه يا نوح أنتَ لسه فاكر؟ وبعدين تعتذرلي على أيه ولا أيه؟ هو أنت دوست على رجلي ولا طرفت عيني؟ أنت كنت بتضحك عليا مفهمني أنك بتحبني وأنت جنبي عشان بتحب أختي! بتختار كل حاجة على ذوقها وبتتلغبط في اسمي وبتقولي يا أفنان، ده غير طبعًا الزعيق والتريقة وقلة القيمة.."


"أنا عارف إني انسان سيء جدًا.. سيء كلمة قليلة، بس أنا يا ميرال بجد مفتقد وجودك أوي.. لما بعدتي عني أدركت إن عمر ما حد اهتم بيا ولا حبني زيك."


"قول كده يا نوح، مش أنا اللي وحشاك، أنت وحشاك إحساس إنك محبوب ومقبول عشان ترضي غرورك مش وحشك ميرال نفسها.. امشي يا نوح امشي بعد إذنك ومتضيعش حبة الود وصلة الرحم اللي بينا من فضلك."


"حاضر.. همشي..طيب قبل أما امشي هسألك سؤال وتجاوبيني من فضلك."


"اتفضل يا نوح."


"هو في حاجة بينك وبين اللي اسمه أنس ده؟" سأل نوح بنبرة تفوح منها الغيرة ربما، عقدت ميرال ذراعيها أمام صدرها وهي تسأله مستنكرة:


"أفندم؟ أنت مالك أصلًا؟"


"ما هو مش معقول برضوا تكوني لسه سايباني معداش غير كام شهر وتحبي واحد تاني!"


"دي حاجة متخصكش يا نوح! ارتبط بأنس ارتبط بغيرة أنا حرة، ولا أنتَ فاكر أني هبكي على الأطلال بقى ومش هتجوز من بعدك؟"


"أنا أسف.. أنا ماشي.. سلام." أردف نوح بإنكسار وهو يرحل مبتعدًا عن ناظري ميرال، تنهدت ميرال تنهيدة طويلة قبل أن تدلف إلى مدخل البيت.


في مساء اليوم التالي وبينما يتناول رحيم الطعام برفقة والديه بهدوء سأله والده التالي:


"رحيم أخبار بيتك أنتَ وأفنان أيه؟"


سأل والد رحيم أثناء تناولهم الطعام ليبتلع رحيم ما يأكله ومن ثم يجيب قائلًا:


"الحمدلله يا بابي، شغالين بس ببطء شوية لأن أفي عندها امتحانات الفترة دي.. تخلص ونشوف باقي الحاجة اللي ناقصة."


"وهي الكليات العلمية امتحاناتها بتخلص، عالعموم مش مشكلة أنتوا لسه معاكوا وقت يعني."


"لو مستعجلين أوي ممكن تقعدوا معانا هنا." صدرت هذه  الجملة من والدة رحيم ليسعل رحيم بقوة، ومن ثم يحمحم بينما يُردف:


"معاكوا؟ نقعد مع مين يا مامي لا طبعًا!"


"ليه؟ القصر مش من مقام أفنان هانم ولا أيه؟" سألت والدة رحيم ساخرة قبل أن يحمحم رحيم ثم يُعلق على حديث والدته موضحًا وجهة نظره بأدب قدر الإمكان:


"لا طبعًا يا مامي حضرتك عارفة إن ده مش قصدي، أنا قصدي إني عايز privacy 'خصوصية' ليا أنا ومراتي.. مش معقول أبقى عايز استقل وأكون أسرة لنفسي.. أقوم رايح اعيش مع أهلي.. مش منطق يعني."


"وده رأيك أنتَ لوحدك ولا رأيها هي كمان؟"


"أنا وأفي رأينا واحد في حاجة زي كده، الموضوع ملوش علاقة بحضرتك أنتِ وبابي.. لو كانت أفنان طلبت حاجة مشابهة كنت هرفض برضوا." أجاب رحيم على سؤال والدته، كانت والدته تستمع إلى رده بهدوء حتى نبس بجملته الأخيرة لتضع الملعقة بعنف على الطاولة وهي تُردف مستنكرة:


"طبيعي ترفض! أومال هتروح تعيش معاهم في الحارة يعني؟"


"لا حضرتك فهمتيني غلط، أنا قصدي إننا نبقى ساكنين قريب من أهلها حتى لو في قصر، عشان كده أنا حبيت بيت التجمع.. استقلال وهدوء وفي نفس الوقت لو في أي حاجة بالعربية نكون عندكوا أو عند أسرتها."


"أنتَ موافقه عالكلام ده يا حامد؟" سألت والدة أفنان في محاولة منها لجعل زوجها في صفها لكن محاولتها لم تنجح لأنه وكالمعتاد كان في صف رحيم، فوالد رحيم لن يوافق على أي شيء يُزعج رحيم ولن يرفض أي شيء قد يسعده طالما أن الأمر ليس فيه أي ضرر.


"ايڤ حبيبتي سيبي الولد على راحته، رحيم كبر ومن حقه يستقل.. وبعدين اشمعنا في الجواز عايزاه يقعد معاكي مع إنك كنتِ مشجعة استقلاله جدًا لما كان في  England 'انجلترا'."


"الوضع اتغير وهنا غير هناك، وبعدين أنا من حقي اتطمن على ابني وأكون واثقة إنها قادرة تسعده."


"مامي لو أفنان مش هتعرف تسعدني ولا أنا هعرف أسعدها مكنتش هفكر للحظة أني ارتبط بيها."


"وبعدين يا ايڤ عايزاهم يقعدوا معانا ازاي وأنتِ شخصيًا مكنتيش بتتحملي نقعد في بيت العائلة مع عائلتي أكتر من تلات أيام."


"على فكرة يا حامد محدش مخلي الولد Stubborn 'عنيد' كده غيرك!"


"مش جايب العند من حد غريب يا مامي صدقيني." أردف  رحيم ممازحًا وهو يحاول كتم ضحكاته كي لا يُثير غضب والدته أكثر.


بعد مرور بضع أيام استيقظ رحيم من نومه وقد شعر بتحسن كبير قرر أن يذهب لمقابلة أفنان أو بالأحرى أن يُفاجئها.


أما عن أفنان فبمجرد انتهاء دوامها في الجامعة جلست تُثرثر قليلًا مع زملائها قبل أن تغادر.


"بقولكوا أيه أنا هروح بقى عشان مصدعة ورجلي ورمت من الوقفة طول اليوم."


"ماشي يا ست أفنان كل مرة نقول هنخرج بعد الكلية بتهربي مننا، خطيبك مستنيكي ولا أيه؟"


"يا ستي مش بهرب ولا حاجة وبعدين قولتلك مية مرة أنا مش مخطوبة أنا مكتوب كتابي."


"خلاص ياستي هتدخلي الدبلة في عيني، وبقولك أيه خدي بالك وأنتِ ماشية لأن حالات الخطف كترت والتحرش كمان."


"حاضر متقلقيش.. ربنا يستر ويحفظنا جميعًا." أردفت أفنان قبل أن تلوح للجميع وتودعهم ثم تتجه نحو الخارج متجاهلة نوح القادم عكس اتجاهها، كان ينوي إلقاء التحية لكن حينما أشاحت بنظرها بعيدًا عنه تراجع عن فكرته تلك وهو يسب نفسه داخليًا.


"بقولك يا آنسة.. مش القمر في صيدلة؟ ممكن تقسيلي الضغط؟"


همس رحيم بنبرة لعوب بالقرب من أفنان والتي كادت أن تلتفت وتضربه بصندوق الأدوات الثقيلة خاصتها لكن رحيم انتبه لحركتها وابتعد سريعًا وهو يصيح بفزع مُردفًا:


"أفي!!! ده أنا! منك لله يا أنس أنتَ واقتراحاتك اللي زي الزفت دي.." أخذ رحيم يسب اقتراح أنس بأن يفاجئ أفنان بتلك الطريقة وأن يقوم بمغازلتها بتلك الطريقة المُبتذلة!


"أنتَ مش هتبطل الحركات دي بقى؟ ولو كنت شوهت وشك الحلو ده دلوقتي كنت هتبقى مبسوط؟" سألته أفنان بحنق وهي تضربه بخفة في كتفه ليُمسك يدها بلطف ويُقبلها قبل أن يسألها بذات النبرة اللعوب:


"وشي حلو؟ بجد؟"


"يا رحيم مش وقته... استغفر الله العظيم يارب، سيب ايدي يا عم احنا في الشارع."


"اه صح، بس أيه ده أنا جوزك على فكرة؟"


"لا ما هو الناس اللي في الشارع متعرفش، وبعدين أيه جوزي يعني؟ أحنا لسه معملناش فرح."


"طب بمناسبة الفرح بقى.. بقولك أيه، اتفضلي."


أردف رحيم بلطف وهو يُخرج دعوة زفاف من جيب بذلته الرسمية، تُمسك أفنان ببطاقة الدعوة الفاخرة ذات التصميم المميز وهي تسأل رحيم بسخرية:


"دعوة فرحنا دي ولا أيه؟"


"أنتِ عبيطة يا أفي؟! دعوة فرحنا ازاي يعني؟ لا ياستي أحنا معزومين على فرح وأنا بصراحة متحمس أوي أني اروح معاكي مع إني في العادة يعني مش بحب أوي جو الأفراح."


"بغض النظر عن كلمة عبيطة، بس أنا مبسوطة أوي أننا هنروح، تقريبًا من الأسباب القليلة جدًا اللي كان نفسي ارتبط عشانها هو أننا نروح مناسبات مع بعض وكده."


"أديني حققتلك أمنيتك أهو، أي أؤامر تانية؟" سألها رحيم بمزاح وهو يقوم بفتح باب السيارة من أجلها، تدلف إلى الداخل بينما تُتمتم بنبرة لطيفة:


"ميؤمرش عليك ظالم يا حبيبي، بس هو فرح مين مقولتليش؟"


"ها؟ لازم؟" سأل رحيم بتوتر لتتحول أفنان إلى 'دراكولا' بلا مقدمات وهي تسأله بحدة:


"ولا! أحنا مش اتفقنا منخبيش على بعض حاجة تاني؟"


"أيه ده أنا اتفقت؟ مش فاكر.."


"والله؟"


"خلاص خلاص.. طيب هتسمعي اللي هقوله في هدوء ولا هتفرجي علينا الناس؟"


"أنا يا حبيبي بفرج علينا الناس؟ عيب والله.. قول قول ميهمكش حاجة."


"دي بنت من عائلة كبيرة أوي، مامتها تبقى صاحبة مامي وكانت مامي عايزاني اتجوزها.. المهم يعني أنها دلوقتي هتتجوز مهندس أعرفه ابن رجل أعمال برضوا."


"ودي اسمها أيه الآنسة دي إن شاء الله؟"


"مش فاكر بصي في ال invitation 'الدعوة'، أنا كل اللي فاكرة إن مامتها اسمها بثينة."


"بثينة؟ اسم قديم بس فخم تحسهم طالعين من قصر فعلًا، المهم أنا مش عارفة هلبس أيه في الفرح.. يا خبر أبيض ده بعد بكرة هلحق اضبط طقم أمتى؟"


"ودي تفوتني برضوا يا أفي بذمتك؟ أنا كلمت باباكي واستأذنت منه أننا نتغدى مع بعض ونروح نشوف  dress 'فستان' ليكي و Suit 'بذلة' ليا، أيه رأيك بقى؟"


"بجد؟ يالهوي أنا بحبك أوي بجد ربنا يخليك ليا!"


أردفت أفنان بحماس شديد وهي تصفق بكلتا يديها كالأطفال، لم يُعلق رحيم بل فضل أن يصمت ويتأمل كتلة الجمال واللطافة الجالسة إلى جانبه داخل السيارة، كيف لها أن تكون بهذا السحر؟ كيف لها أن تجعل السعادة تغمر قلبه لتلك الدرجة؟ كيف لإبتسامتها الحُلوة تلك أن تجعل الفراشات تُحلق والأزهار تتفتح والعصافير تُغرد؟ كيف لها أن تجعله يغوص في بحار العشق إلى تلك الدرجة.. على ما يبدو أن أفنان حقًا تُشكل خطرًا كبيرًا على قلب رحيم..


______________________________


(تذكره: اللهم اجعل وفاتي في صلاتي بين سجدة وتسبيح وركوع واجعل آخر كلامي في حياتي قول الشهادة في خشوع.)


الفصل الرابع والأربعون: صَفْعَة 🦋✨🤎


"وه! هو ده الأتيلية؟" أردفت أفنان بإنبهار لتصدر ضحكة  صغيرة من رحيم على ردة فعلها قبل أن يُجيبها قائلًا:


"اه هو، هنشوف فيه فستان ليكي وليهم branch 'فرع' رجالي هنشوف فيه suit 'بذلة' ليا."


"أنتَ بجد بتخليني أروح أماكن عمري ما كنت هروحها ولا هعرف أنها موجودة... تجربة أي حاجة معاك مختلفة بكل المقاييس عن أي حد تاني، حتى المعاكسة الحقيرة اللي كانت من شوية دي."


تمتمت أفنان بنظرة حالمة وهي تبتسم بلطف ليضحك رحيم وهو يُعيد خصلات شعره نحو الخلف بينما يُعلق على حديثها قائلًا:


"يااه أنتِ لسه فاكرة؟ المهم أنا مديهم خبر أننا جايين وهما جهزوا أكتر من dress 'فستان' من ال  collection 'المجموعة' الجديد عشانك، ونفس ال size 'مقاس' بتاعك كمان."


"وهما عرفوا مقاسي منين؟" سألت أفنان بمزيج من الجدية  والسخرية وهي تستخدم عبارة من أحد الأفلام الكوميدية الشهيرة، يقلب رحيم عيناه بتملل وهو يُردف ساخرًا:


"أيه يا أفي الذكاء ده؟ أنا اللي قولتلهم أكيد."


"وأنتَ عرفت مقاسي منين إن شاء الله؟" سألت أفنان وهي تُضيق عيناها بشك بينما تعقد ذراعيها أمام صدرها، ليصفع رحيم جبهته بيده بينما يهمس:


"صبرني يارب... استغفر الله العظيم."


"بتقول حاجة يا رحيم؟"


"بستغفر ربنا يا حبيبتي بستغفر ربنا!" تمتم رحيم بنفاذ صبر وهو يُعيد خصلات شعره نحو الخلف قبل أن يُضيف:


"أفي حبيبي ركزي شوية، فستان الخطوبة أنا جبته معاكي وعرفت ال Size 'مقاس' بتاعك من الفساتين اللي جربتيها وقولت بدل ما نقعد ندور هنا على style و size نحاول نكسب وقت ونختصر."


"طب ما كنا اختصرنا كل ده ولبست أي حاجة من عندي وخلاص."


"مينفعش، مفيش حاجة عندك هتبقى مناسبة للمكان." أجاب رحيم ببساطة شديدة لتعقد أفنان حاجبيها بإمتعاض وهي تقول بحنق بينما تضع يديها على خصرها:


"قصدك أني مبعرفش ألبس؟ ولا لبسي مش قد المقام؟"


"ليه؟ ليه بجد؟" سألها رحيم بإستياء شديد وهو يُخفي وجهه بكلتا يديه لترمقه بحيرة وهي تسأله:


"ليه أيه؟"


"ليه ال system 'نظام' بتاع دماغك بيترجم كل حاجة بطريقة سلبية ووحشة؟ أنتِ فعلًا معندكيش حاجة مناسبة، أنتِ مش عارفة شكل المكان أو ال style اللي الناس هتلبسه... واللي أحنا الإتنين المفروض نلبس زيه عشان نبقى زي الناس الموجودين..."


قام رحيم بتفسير وجهة نظره لأفنان والتي اسأت فهمها كالمعتاد، لم تُعلق أفنان على ما قاله رحيم ليمتعض وجهه لثوانٍ قبل أن يقترب من أفنان قليلًا وهو يسحب يدها الصغيرة بين كفيه وينظر إلى داخل عيناها قبل أن يُردف بهدوء:


"يا أفي أنا كل اللي عاوزه أنك تبقي أحلى من كل الموجودين وإن محدش يعلق على لبسك ويضايقك أو إن حد يحسسك إنك أقل منه."


"مش ملاحظ أنك سطحي شوية يا رحيم؟ حتى لو شكلي بقى شبهم أكيد لما هفتح بوقي هيبان أني مش شبه الناس اللي هنبقى وسطهم... الناس اللي شبهك وشبه عائلتك."


"ماشي يا أفي أنا نظرتي سطحية أنا موافق، بس الفئة اللي إحنا هنبقى وسطهم بيهتموا بالمظهر وده اللي بيفرق معاهم وأنا مش عايز حد يسمعك كلمة تضايقك ونضطر نعمل مشكلة!"


"أنا مش مقتنعة باللي أنتَ بتقوله ومش شايفة غير إنك محرج مني ومن لبسي وسط الناس دي."


أردفت أفنان بإندفاع لكن حاولت قدر الإمكان ضبط نبرة صوتها كي لا تبدو حادة كثيرًا وكي لا يعلو صوتها على رحيم، تنهد هو بتعب فور سماع ما قالته قبل أن يُعلق على ما قالته بهدوء تام قائلًا:


"أفي أنا بجد مُرهق وأحنا راجعيين من فترة راحة أصلًا من الخناقات ومش حابب نتخانق تاني... لو أنتِ مصممة تلبسي حاجة من عندك ليكي كامل الحرية بس لو سمعتي تعليق معجبكيش أو حد بصلك بصة مش حلوة مترجعيش تزعلي."


"وأنتَ وقتها مش هتدافع عني؟" سألت أفنان بدهشة وغيظ ليقلب رحيم عيناه بتملل قبل أن يُجيبها قائلًا:


"هدافع عنك أكيد، بس أنتِ اللي هتبقي اتسببتي في ده لنفسك."


"أنا برضوا مش قادرة افهم وجهة النظر في اللي بتقوله!"


"وجهة النظر يا أفي إننا رايحين فرح لناس من Category 'فئة/طبقة' معينة وطبيعي الإنسان بيلبس حاجة مناسبة للمكان اللي هو فيه، فرح للطبقة المخملية فلازم نلبس حاجة قيمة، فرح في منطقة شعبية... هنلبس حاجة حلوة بس مش بنفس القيمة أو ال Style... رايحة job interview 'مقابلة عمل' هتلبسي حاجة حلوة ولكن Formal 'رسمية' ، بس... هو ده الموضوع بكل بساطة."


قام رحيم بتفسير الأمر كاملًا بهدوء شديد ولطف كالمعتاد وكانت وجهة نظره مُقنعة إلى حدٍ كبير وكان يظن أن أفنان ستتفهم وجهة نظره وسينتهي الجدال عند هذا الحد لكن ذلك لم يحدث حيث زاد حديثه الطين بلة... لم تقتنع أفنان بحديثه ورمقته لبضع ثوانٍ قبل أن تسأله بإستنكار:


"يعني أنا بالوضع ده المفروض طول حياتي معاك هبقى مضطرة ألبس على مزاجك وأفضل أحط في مكياج وألبس حاجات معينة عشان يعجب؟ دي مش هتبقى عيشة دي يا رحيم!"


"أنا مقولتش كده، أنا بقول دي مناسبة معينة يا أفي وبعد ما تخلص اعملي اللي أنتِ عايزاه!"


"خلاص اختارلي أنتَ فستان وجزمة وطرحة وأنا هختارلك البدلة."


"تمام مش هتفرق لأني كده كده لازم ابقى Matching 'مطابق/متماثل' معاكي."


"الله! بجد؟"


"طبعًا، مش أنتِ حرم رحيم البكري لازم كل الناس تعرف ويبقى ظاهر علينا."


"واو هتعرفني بقى عالطبقة المخملية وبعدين بقى واحدة تحبك وتحاول تخطفك مني وتروح موقعة خمرة عالفستان بتاعي عشان اروح الحمام اغسل الفستان وهي تستفرد بيك."


قامت بالثرثرة عن السيناريو الدرامي خاصتها ليُطالعها رحيم بسخرية قبل أن يُعلق ممازحًا:


"مطبقة أنتِ على مسلسل تركي صح؟"


"هندي."


"لا حول ولا قوة إلا بالله.. طيب يا أفي ممكن ندخل عشان الشمس وبشرتنا هتتأذي."


"يااه هنبقى sun kissed 'اكتسب لون بسبب أشعة الشمس'." لم يُعلق رحيم على ما قالته بل أخذ يُحرك رأسه يمينًا ويسارًا وهو يبستم بسخرية.


بمجرد أن صعد درجات السُلم انتبه لأفنان التي تسير بخطوات بطيئة ولا تواكب خطواته السريعة، انتظر صعودها السُلم ليضع ذراعه على كتفها برفق وهو يقوم بفتح الباب سامحًا بها بالدخول أولًا، نسمات الهواء الباردة من مُكيف الهواء تضرب وجهها فتُصيبها بالإنتعاش بالإضافة إلى رجفة صغيرة.


كان المكان ذو طراز راقٍ وهادئ، ثلاثة أرائك متقابلة ولكن تفصلهم مسافة كبيرة و 'استندات' كبيرة تحمل عشرات الفساتين من مختلف الألوان والتصاميم وفي أحد أركان المكان هناك غرف تبديل الملابس مع إضاءة قوية بالقرب من المرايا المتعددة لكي تسمح للشخص الواقف أمامها من رؤية إنعكاسه بوضوح ورؤية جيدة.


"مساء الخير يا دكتور رحيم."


"مساء النور، أفنان.. مراتي."


"أهلًا وسهلًا يا هانم، الحاجات اللي حضرتك طلبتها كلها جاهزة هوفر لحضرتك بنت أو اتنين حالًا يكونوا assistants 'مساعدين' لأفنان هانم يساعدوها في القياس."


"رحيم أنا اتخنقت ما تختار حاجة وتخلصني كلهم حلويين أوي أصلًا أنتَ بس اللي واخد دكتوراه في التحنيك وكل فستان تقولي مش حلو!"


"عشان أنا عايز حاجة معينة، وعايز كمان لون يبقى مناسب عشان هلبس cravat 'ربطة عنق' نفس اللون وبعدين ثواني بس يعني أيه الكلمة اللي قولتيها دي؟"


"يارب صبرني... مش وقت مراجعة قاموسي اللغوي دلوقتي، والله بدل الدوشة دي كنت نزلت جبت فستان من العتبة ولا الوكالة ولا حتى جبت قماش من الأزهر وفصلته عند طنط أم ابراهيم."


"أفي... أفي please 'من فضلك' متفتحيش بوقك لحد أما نخلص، قال ننزل مش عارف فين... بتقولي أيه أنتِ؟"


"بقى يا جاهل مش عارف الوكالة والعتبة؟ طبعًا ما أمثالك بيضحك عليهم تدفع الشيء الفلاني من المحلات البراند والحاجة ممكن تتجاب بنص التمن أصلًا يلا ما علينا."


بعد مرور نصف ساعة آخرى وجد رحيم ضالته أخيرًا، ثوب باللون الأحمر الداكن أو ما يُسمى 'نبيتي'.

كان اللون مناسبًا تمامًا للون بشرة أفنان وقد أكسبها نضارة تفتقرها بشرتها خاصة عند ارتداء الألوان الباهتة حيث تظهر بشرتها باهتة كذلك، ابتسمت أفنان براحة عندما رأت تلك اللمعة المميزة في عين رحيم وقد استنتجت أن هذا هو التصميم الذي كان يبحث عنه منذ البداية.


كان الثوب فاخرًا بحق وقد استخدمت المصممة خامات باهظة الثمن، بدت أفنان مُختلفة تمامًا عن أي مرة ارتدت فيها فستانًا من قبل، كان الثوب فضفاض إلى درجة كبيرة وكان طويلًا بحيث يُغطي ساقيها والأرضية من بعدها.


"ها يا أفي هنشتري ده تمام؟"


"اه... حلو أوي مش كده؟"


"أي حاجة هتبقى حلوة عليكي." أردف رحيم بنبرة لطيفة وهو يضع يده على خصر أفنان بلطف لترتجف الأخيرة وتبتعد عنه لتذهب لإحضار حقيبتها بينما تهمس بغيظ:


"يا كداب... يا كداب ده أنت خلتني أقيس كل حاجة هنا."


"أفي حبيبي خدي مفتاح العربية في حد هيخرجلك ال dress تحطيه واستنيني في العربية مش هتأخر." طلب منها رحيم بلطف وقد لمحت أفنان المحفظة الخاصة به في يده لذا أستوعبت أنه لا يُريد منها أن تعرف ثمن الثوب، أومئت له أفنان وهي تأخذ المفاتيح منه وتتجه نحو السيارة.


"اتأخرت عليكي؟"


"لا، كنت عايزة أقولك حاجة.. بص أنا مش هسألك أنتَ دفعت كام في الفستان عشان ملهاش لازمة نتخانق... بس يا رحيم من فضلك مش كل مناسبة هتخليني اشتري حاجة غالية كده، أنا مش بيفرق معايا الماديات وأنتَ عارف ده فملهاش لازمة تقعد تبعزق في فلوسك كده."


باحت أفنان بما يجول في صدرها منذ فترة وبالرغم من أنها قامت بتنبيه رحيم إلى تلك المسألة من قبل إلا أنه تجاهل ما قالته حتى بعد نقاش دام لمدة طويلة وكانت تنتظر منه أن يبدأ في الجدال ليؤلم رأسها ورأسه هو شخصيًا لكن ما حدث عكس ما توقعت تمامًا فلقد نظر نحوها رحيم بهدوء شديد بينما أردف جملة مُختصرة تمامًا بلطف قائلًا:


"حاضر يا أفي."


"بس كده؟"


"اه، مش أنتِ طلبتي مني حاجة؟ أنا بقولك حاضر هسمع كلامك، ملهاش لازمة نقعد نتناقش ساعة  في الموضوع يعني." قام رحيم بالإجابة على سؤالها وتوضيح وجهة نظره بإيجاز لتضحك أفنان بينما تُردف بمزاح:


"يا أخي ربنا يكتر من أمثالك والله."


"تعالي نتغدى الأول وبعدين نشوف ال suit بتاعتي."


"هتأكلني فين؟"


"عايزة تاكلي فين؟ بس أوعي تقولي كبده!"


"لا لا مش للدرجة دي، كنت هقول كشري بس خلاص اختار  أنتَ."


مر الوقت سريعًا بعد تناولهما وجبة الغداء، لم تستغرق أفنان الكثير من الوقت في اختيار بذلة من أجل رحيم، فبذلة سوداء برابطة عنق باللون الأحمر الداكن كانت جيدة كفاية بالنسبة لها.


"بصي أحنا تعبنا أوي النهاردة فمش هنقدر نلف أكتر من كده، هبعتلك عالبيت Heels 'حذاء ذو كعب عالي' على مقاسك وكمان شنطة صغيرة مش عارف بيبقى اسمها أيه والفستان مش محتاج accessories أظن كفاية الخاتم والدبلة."


"أنا مبهورة بجد، ازاي مجهز كل حاجة كده؟ بتعمل حساب الحاجة قبل ما تخطر على بالي حتى."


"حب بقى وحركات، وبالنسبة لل Makeup هبعتلك حد برضوا."


"عقبال أما أتعبلك في فرحك يا رحيم يا ابني."


"ابنك؟!! وبعدين ما هو فرحي هو فرحك ما هنتعب أحنا الإتنين في الترتيبات!"

"لا تقتل المتعة يا مسلم! بهزر يا عم! بقولك أيه روحني عشان أنت خنتقتني بصراحة." أردفت أفنان بمزاح ليقهقه رحيم وهو يقوم بتشغيل السيارة قبل أن ينطلق نحو منزلها.


"بصي أعتذرلي لباباكي أنا مش هينفع أطلع معاكي النهاردة عشان ورايا شغل لازم يخلص."


"هتروح الشركة بليل كده؟"


"هروح الشركة وهعدي عالمصنع كمان، السهرة هطول شوية النهاردة وأنس هيبقى معايا على فكرة لو عايزة تراقبيني ولا حاجة."


"لا متقلقش أنا واثقة فيك، كده كده أنس فتان لو عملت حاجة هيقولي." قلب رحيم عيناه بتملل لتضحك على تعبيراته قبل أن تقوم بتوديعه والدخول إلى المنزل.


"مساء الخير... أيه ده؟ ريماس عندنا؟!" سألت أفنان بدهشة بينما كادت أن تتعثر أثناء دخولها بسبب حملها للحقيبة الضخمة التي تحوي الثوب خاصتها.


"مفاجأة مش كده؟ كنت جايه اطمن على خالو عشان وحشني." تمتمت ريماس بلطف وهي تُمسك بمعصم خالها  لترمقهم أفنان بغيظ قبل أن تُردف بسخرية:


"متشوفيش وحش ياختي، منورة... هغير بسرعة وأجيلكوا، أنتي قاعدة شوية صح؟" استأذنت أفنان فهي لا تُريد من ريماس أن ترى ما تحمله أفنان فتذهب لإخبار والدتها، وأثناء توجه أفنان إلى الحجرة سمعت رد ريماس والذي كان كالتالي:


"يعني ساعة كده ولا حاجة."


"تمام مش هتأخر." دلفت أفنان إلى الحجرة لتجد ميرال جالسة على السرير بينما تقوم بتزيين أظافرها بطلاء الأظافر، وضعت أفنان أغراضها على السرير قبل أن تسألها ميرال بفضول:


"أيه ده؟ جثة دي ولا أيه؟"


"اه، جثة أنس يا ظريفة."


"بعد الشر يا شيخة أيه ده؟! ده فستان سوارية صح؟"


"اه أنا ورحيم معزومين على فرح فهو قال يجبلي فستان يعني ويجيب لنفسه بدلة."


"طب ما تفرجيني، ولا استني لما المونيكير ينشف عشان أعرف اتفرج براحتي."


"استني لما ريماس تروح طيب حفاظًا على خصوصيتي يعني، وبعدين هو أنتِ أيه اللي مقعدك هنا لوحدك؟"


"ما أنتِ عارفة ماما وبابا بيتخنقوا من ريحة المونيكير وبعدين ريماس كانت عايزة بابا في موضوع فقولت اسيبهم على راحتهم يعني."


"لا والله؟ موضوع أيه إن شاء الله؟ أنا هخرج أشوفهم." قالت أفنان بحنق وغيظ وهي تتجه نحو الخارج وكان الحوار كالتالي:


"أنا يا خالو عايزاك تفهم ماما أني رافضة تمامًا ومش ناوية أكرر التجربة دي ابدًا، أنا كفاية عليا الدراسة وحضرتك عارف إن الطب مشواره طويل ومش عايزة حاجة تعطلني."


"أنا معاكي في الكلام ده، بس مفيش مشكلة لو قعدتي مع الولد يمكن ترتاحيله."


"لا يا خالو مش عايزة..."


"ايوا جدعة، أصلًا أنا ضد الجواز والإرتباط في سن صغير." صاحت أفنان مُفصحة عن رأيها الذي لم يطلب أحد سماعه، ارتسمت معالم الدهشة على وجه ريماس وهي تُضيق عيناها بينما تسأل أفنان بسخرية:


"ضد أيه يا حبيبتي؟ بالنسبة إنك اتجوزتي وأحنا من سن بعض عادي؟"


"لا ما هو... أنا قبل ما أقابل رحيم كنت ضد الموضوع ده وحواري أنا ورحيم ليه ظروف خاصة وفعلًا أنا أجلت الجواز لحد لما أخلص بعيدًا عن كتب الكتاب يعني."


"بغض النظر عن اللي أنتِ بتقوليه ده بس أنا فعلًا مشواري في الطب طويل لسه امتياز وماچيستير ودكتوراه... مش حابه حاجة تعطلني خاصة إنها جوازة تبع ماما وبابا تاني يعني غالبًا الموضوع هيفشل قبل ما يبدأ."


"لا في دي معاكي حق بصراحة."


أكدت ريماس على ما قالته أفنان وهذه المرة الأولى تقريبًا التي تشاركها فيها الرأي ذاته، طالعهم والد أفنان بحنان قبل أن يُعلق وهو يمازح أفنان متعمدًا إثارة غيظها قائلًا:


"ما بس بقى يا بوتجاز أنتِ أديني فرصة أكلم بنت عمتك."


"يااه يا بابا... للدرجة دي وجودي تقيل على حضرتك؟" سألت أفنان بنبرة درامية وهي تضع يدها فوق موضع قلبها ليرمقها والدها لبرهة وهو يضحك قبل أن يُجيبها قائلًا:


"اه، قومي اعمليلنا كوبيتين شاي بقى لو سمحتي."


"ياااه يا بابا هي دي بقت كل علاقتك بيا؟ كوبيتين شاي؟ مكنش العشم يا حجوج والله."


"لا لا مفيش داعي للشاي يا خالو أنا لازم أروح عشان ماما متقلقش عليا... مبسوطة أني شوفتك يا أفنان."


"وأنا كمان، أبقي كرري الزيارة." ودعت أفنان ريماس وبعد رحيلها ذهبت لتجلس على الأريكة المقابلة للكرسي الذي يجلس عليه والدها، ابتسم والدها بلطف حينما لاحظ عبوس وجهها فهو يدري تمامًا سبب ذلك العبوس... ابنته الصغرى تشعر بالغيرة لتحدثه مع ريماس ومزاحه معها لذا قرر أن يُصلح الأمر قائلًا:


"أيه يا حبيبة بابا مش هتحكيلي عملتي أيه مع رحيم النهاردة؟ وجبتي أيه؟ شوفت معاكي حاجة فرجيني بقى."


"ثواني وأكون جبت الحاجة." أردفت أفنان بحماس وهي تهرول نحو الغرفة لتُحضر الثوب الجديد خاصتها والحذاء وسط قهقه والدها على ردة فعلها تلك.


في صباح يوم الزفاف، استيقظت أفنان باكرًا لتستعد ليومها الطويل لتجد ميرال تقف أمام المرأة بينما تقوم بإرتداء وشاح رأسها.


"أنتِ رايحة فين؟"


"عندي شغل وهخلص وهروح للدكتورة عندي جلسة النهاردة."


"هتروحي مع أنس برضوا؟"


"لا أنا مالي بأنس يا أفنان؟! هو بيحجزلي والعيادة بتكلمني تأكد عليا الميعاد بس، وبعدين قولتلك أنا مش بتكلم معاه خلاص."


أجابت ميرال بطريقة هجومية وبنبرة حادة نسبيًا لتعقد أفنان حاجبيها قبل أن تقول:


"ماشي ياستي تمام أنا مقولتش حاجة، خدي بالك بس من نفسك، بس ثواني أيه ده؟! يعني مش هتشوفيني لما ألبس الفستان الجديد وأخلص الميك أب وكده؟"


"أبقي ابعتيلي صور وبعدين لو خلصتوا الفرح بدري أبقي كلميني لو كنت لسه مروحتش عدوا عليا بالعربية نروح سوا."


"خلاص اتفقنا، خدي بالك من نفسك." أردفت أفنان بلطف وهي تستقيم من مقعدها وتذهب لمعانقة شقيقتها.


بعد بضع دقائق رحلت ميرال لتبدأ أفنان في التجهيزات ومن ثم انتظار خبيرة التجميل التي قام رحيم بإرسالها من أجلها كي تأتي لمساعدتها في لف الوشاح ووضع مساحيق التجميل.


في المساء وتحديدًا في الساعة السادسة، دلفت ميرال إلى داخل العيادة ليُصيبها التوتر مجددًا لكن حالتها كانت أفضل من المرة الأولى، اقتربت من المساعدة لتتأكد من وجود اسمها في قائمة الحالات التي ستُقابلهم الطبيبة اليوم، وقفت بالقرب من المكتب بذهن شارد قليلًا فلم تنتبه إلى الواقف إلى جانبها إلا حينما قال:


"أيه ده ميرال أيه الصدفة الحلوة دي؟"


"صدفة؟"


"اه يا محاسن الصدف أحنا الإتنين عندنا جلسة النهاردة مع الدكتورة!"


"صدفة؟ أنتَ بتستهبل ومرتب المواعيد صح؟"


"بستهبل؟ عيب يا أستاذة ميرال والله! هو أنا بلعب معاكي في الشارع ولا أيه؟ وأيه بتستهبل دي كمان؟ ده لفظ يطلع من بنت مؤدبة كده؟ أكيد من كتر القاعدة مع أفنان!"


تجهم وجه ميرال وقوست شفتيها بعبوس وقليلًا من الصدمة، أخذت تعبث في أصابع يدها المتشابكة بينما يحاول أنس جاهدًا أن يكتم ضحكاته قبل أن يُردف بينما يحك مؤخرة عنقه:


"بصراحة بستهبل اه.. كنت عايز أشوفك حتى لو مش هنتكلم."


"على فكرة أنت رخم والله العظيم!"


"أستاذة ميرال الدكتورة في انتظارك."


"تمام حاضر." أردفت ميرال بلطف وهو توجه نظرها نحو  المساعدة قبل أن ترمق أنس بنظرات حادة وإن بدت لطيفة بالنسبة لأنس ليقهقه هو بينما يُعلق بحزن مُصطنع:


"طب مش هتقوليلي مع السلامة طيب؟"


"بقولك أيه.. متمشيش استناني."


"هستناكي." تمتم أنس مع ابتسامة كبيرة بلهاء ارتسمت على وجهه وبمجرد أن غابت على انظاره قام أنس بتغطيه وجهه بكلتا يديه وهو مازال يضحك من السعادة، كيف لجملة بسيطة منها أن تجعله يفقد عقله إلى تلك الدرجة؟


دلفت ميرال إلى الداخل لتُرحب بها الطبيبة بإبتسامة لطيفة وبعد ذلك تجلس ميرال أمامها على الكرسي، لم تدرِ ميرال كيف تبدأ الحديث واستطاعت الطبيبة فهم ذلك بسهولة من لغة جسدها مثل عبثها في أصابعها حركة قدمها المتتابعة، ثغرها الفارغ وكأنها فقدت الكلمات كلها.


"أنا ملاحظة إن باين عليكي إنك أحسن من المرة اللي فاتت، يمكن لسه متوترة شوية وقلقانة بس في تحسن ولا أيه رأيك؟"


"فعلًا، حتى أني كنت مبسوطة أني جاية لحضرتك وكان في دماغي كلام كتير بس لما دخلت... حسيت أني نسيت، وكلام أنس ومقابلته لغبطة دماغي أكتر."


أجابت ميرال بعدم راحة وهي تضحك ضحكات متوترة بينما تعبث بأصابعها، كانت تستمع إليها الطبيبة بتعابير وجه هادئة حتى سمعت الجملة الأخيرة لتسأل ميرال بدهشة:


"هو أنس برا؟"


"اه، بيقول عنده جلسة... بس أنا مش مصدقه بصراحة حاسه أنه عامل كده قاصد."


"لا لا هو عنده جلسة النهاردة فعلًا، بس هو جاي بدري شوية عن ميعاده... المهم قوليلي أيه اللي حصل من وقت الجلسة الأولى؟"


"مفيش جديد... أنا وأفنان شبه اتصالحنا، متكلمناش في الموضوع بشكل مباشر... حضرتك عارفة علاقة الأخوات مش بتبقى رسمية في الحاجات اللي زي دي؛ يعني جبتلها الفاكهة اللي بتحبها وهي روقت مع ماما الشقة بدالي كده يعني."


"طب وأنتِ شعورك أيه؟ حاسة إنك خلاص مش متضايقة ولا حاسه بغيرة ولا بتحاولي تتأقلمي مع الوضع وخلاص؟"


"أنا عايشة طول عمر بتأقلم على أي حاجة... لدرجة أني فقدت القدرة على اتخاذ القرارات أصلًا لأن كل حاجة الدنيا والظروف بتفرضها عليا، يمكن أول قرار أخدته بمزاجي وبعد تفكير طويل هو انفصالي عن نوح..."


"جميل، يمكن أول قرار أخدتيه كان صعب جدًا وقاسي بس كان اختيار مضبوط تمامًا، بالمناسبة أنتِ بطلتي تتعاملي معاه تمامًا صح؟"


"اه، يعني معملتش بلوك أو كده بس بطلنا نتكلم، ومبقتش أشوف أي حاجة بينزلها، بطلت أزور خالتو بقيت بس بكلمها في التليفون وكانت كل حاجة تمام لحد ما... لحد أما اتقابلنا صدفة..."


"صدفة؟" سألت الطبيبة بإهتمام وهي تراقب لغة جسد ميرال عند تحدثها عن نوح.


"مش صدفة أوي.. هو جيه تحت البيت بيقول كان عايز يقابل ماما وبابا ويسلم عليهم... حاول يتكلم معايا بس أنا قفلت معاه في الكلام وطلعت."


"طيب وحسيتي بإيه وقتها؟"


"حسيت أني مخضوضة... اتخدت كده ومكنتش عارفة اعمل أيه، كان نفسي الأرض تنشق وتبلعني وكنت حاسة أني هضعف عشان بجد أنا مفتقده وجوده... حتى لو كان وجوده كان مُزيف بس قررت أني أواجه وأدوس على قلبي وروحت هزقته وطلبت من أنه يمشي."


"أنا مبسوطة منك جدًا يا ميرال وفخورة بيكي كمان."


"بجد؟ حضرتك فخورة بيا؟ يعني أنا اتصرفت صح؟" سألت ميرال بحماس طفولي واضح، لم يكن من الصعب على الطبيبة أن تجد الطريقة المناسبة وأن تختار الكلمات المناسبة لتحفيذ ميرال ومساعدتها على التحسن...


ببساطة ميرال تفتقر إلى الدعم، الإهتمام والحب... إن استطاعت الطبيبة أن توفر تلك المشاعر لبعض الوقت ستتحسن حالة ميرال ولكن الأكثر أهمية من ذلك هو أن تساعدها على تقبل ذاتها، أن تُحب نفسها وأن ترضى بكامل عيوبها قبل مميزاتها ثم تحاول العمل على إصلاحها، يجب أن تساعدها على إدراك أنها ليست بحاجة دائمة إلى دعم خارجي بل يكفي أن تدعم نفسها بنفسها.


"بصراحة عشان مكدبش أنا حسيت بالذنب شوية، أنا على طول بحس بالذنب تجاه أي حد وأي حاجة بقولها حتى لو اللي بقوله هو الحق... بس أنا خفت أوي أضعف وأرجع تاني لنقطة الصفر فكان الحل الوحيد أني أتكلم معاه بحزم وأدوس على جرحي..."


أكملت ميرال الإفصاح عما يجول في خاطرها وقد أخبرت الطبيبة بكل ما تشعر به وبعد نقاش استمر لساعة تقريبًا طمئنت الطبيبة ميرال بأنها ليست بحاجة إلى أدوية بكل تأكيد بل يكفي القدوم على فترات من أجل الجلسات بالإضافة إلى بعض النصائح التي أخبرتها بها الطبيبة وبعض الممارسات الصغيرة التي ستساعدها على تصفية ذهنها والتخلص من الطاقة السلبية والغضب.


غادرت حجرة الطبيبة لتجد أنس جالسًا في الخارج يرتدي سماعة الأذن خاصتها وكان شاردًا وكأنه يُفكر تفكيرًا عميق، شعرت ميرال بالفضول نحو ما يجول في خاطره في ذلك الوقت وتمنت لو بإمكانها مساعدته على حل مشكلته ولكن وضع أنس غاية في التعقيد لسوء الحظ... أقتربت ميرال قليلًا لتقف أمامه وهي تلوح بذراعه ليخرج من شروده ويرمش مرتين قبل أن ينزع سماعات أذنه اللاسلكية وهو يُردف:


"كويس متأخرتيش أوي."


"متأخرتش؟ أنا تقريبًا قعدت ساعة ونص أو أكتر... أنتَ مش مدرك للوقت ولا أيه؟"


"لا... مُدرك بس يعني سرحت شوية مع الأغاني، المهم كنتي عايزاني في أيه؟"


"بص يا سيدي دي أول دفعة من أقساط فلوس الدكتورة."


"هتدفعيلي أول جنية ونص ولا أيه؟" سأل أنس ممازحًا وهو يضحك لتُبتسم ابتسامة صغيرة وهي تُخرج ظرفًا صغير من حقيبة يدها ذو لون وردي لطيف وقد دون عليه الآتي:


'أول قسط بتاريخ ../../.. إلى أنس بيه'


قهقه أنس بشدة فور قراءته لما كُتب قبل أن يقوم بفتح الظرف بهدوء ليجد مئتان جنيهًا على ورقتين كل واحد بمئة، عقد حاجبية لثوانٍ قبل أن يُردف:


"حتة بمتين جنيه مرة واحدة؟"


"حتة؟ لا حتتين."


"طب بصي تجنبًا للخناق ووجع الدماغ أنا هاخد مية والشهر الجاي هاخد المية التانية."


"لا ما هو بالوضع ده هيبقى قسط لمدى الحياة بقى."


"هنبقى نكتبهم في القايمة متشغليش بالك."


"أيه؟"


"أيه؟"


"أنتَ! بتقول أيه؟"


"بقولك فلوس الكشف مش غالية أوي زي ما أنتِ فاكرة فأنا هاخد دي بس والظرف وخلي التانية معاكي يلا سلام."


قام أنس بتعديل ما قاله على الفور وهو يبتسم ابتسامة جانبية قبل أن يأخذ الظرف وورقة واحدة ويترك الثانية بجانب ميرال ثم يستقيم من مقعده على الفور ويدلف إلى حجرة الطبيبة تاركًا ميرال بثغرٍ فارغ من الحيرة وعدم الإستيعاب.


اقترب أنس من باب الحجرة وهو يطرق على الباب بطريقة أقرب للقرع على الطبول قبل أن يفتح الباب ويدلف إلى الداخل ليجد الطبيبة قد استقامت من مقعدها بحيرة ولكن بمجرد رؤيته تنهدت قبل أن تقول:


"كان لازم أتوقع إن ده أنتَ."


"أنا قولت بدل ما العيادة كئيبة أعمل جو وبتاع."


قال أنس ساخرًا وهو يُغلق الباب من خلفه ثم يقترب ليجلس من الكرسي الذي أمام المكتب خاصتها، جلست الطبيبة وهي تسأله لائمة:


"هو ده يا أنس اللي اتفقنا عليه؟"


"أيه ده أحنا اتفقنا على حاجة؟ مش فاكر... اه قصدك موضوع ميرال؟"


راوغ أنس في حديثه لتُضيق الطبيبة عيناها لبرهة قبل أن تقوم بإرخاء تعبيرات وجهها وهي تسأله بنبرة جادة:


"مش أنتَ اتفقت معايا إنك هتبعد عنها خالص لحد ما أنتوا الإتنين تكونوا مستقرين نفسيين وبعدها تشوف إذا كنت فعلًا منجذب ليها ولا ده مجرد وهم في دماغك ودماغها."


"لا ثواني.. هي قالتلك إنها منجذبة ليا؟" سأل أنس بعد أن انتفض من موضعه لتبتسم الطبيبة ابتسامة صغيرة بينما تقوم بشبك أصابع يديها أمامها بينما تُردف بمراوغة:


"أنا مجبتش سيرتها أصلًا أنا بقول أنتَ منجذب ليها."


بتلعبي بالجمل والألفاظ؟ أما أنتوا يا دكاترة عليكوا حاجات."


"مش كفاية هزار ونبدأ الجلسلة ولا أيه؟"


"يلا..."


بالإنتقال إلى رحيم وأفنان، كان رحيم قد حضر أمام منزل أفنان في الموعد المتفق عليه، كان يجلس داخل السيارة في انتظارها ولحسن الحظ لم تتأخر أفنان على غير العادة ودلفت إلى السيارة في الموعد المتفق عليه، بمجرد أن رأها رحيم لمعت عيناه بشدة وهو يقول بإنبهار واضح:


"أنا... مش عارف أقول أيه! أفي You look gorgeous 'تبدين فائقة الجمال'."


"يووه متكسفنيش يا سي رحيم." تمتمت أفنان بنبرة مُصطنعة وهي تضحك بينما تضرب كتف رحيم بخفة لينظر نحوها بإزدراء لدقيقة قبل أن يُردف بنبرته اللطيفة الهادئة المُعتادة:


"بعيدًا عن اللي بتقوليه، بس بجد يا أفي كل مرة بشوفك فيها بتبقي أحلى من المرة اللي قبلها وحقيقي مش عارف أما أنتِ قمر كده دلوقتي أومال بال  Wedding dress 'فستان الزفاف' شكلك هيبقى عامل ازاي؟"


"هسيبك لخيالك بقى، طبعًا أنتَ زعلان عشان مقولتش أنك شكلك حلو... يا أخي حسبي الله ونعم الوكيل! أنت زي القمر في كل حالاتك مش محتاجة كلام يعني." تمتمت أفنان بجدية لقهقه رحيم بصوتٍ عالٍ بينما يهمس مُردفًا:


"مش طبيعية والله!"


"يلا نتحرك بقى عشان منتأخرش عالفرح." أومئ رحيم وقام بتدوير السيارة ومن ثم انطلق إفى وجهته.


بعد ساعة توقفت السيارة أمام المكان المنشود، قصر فخم ولكنه لا يُشبه خاصة والدي رحيم فهذا القصر كان يبدو عتيقًا قليلًا في حين أن قصر والدي رحيم قد تم تعديله ليُصبح ذو تصميم مُعاصر وحديث، ازداد معدلات نبضات قلب أفنان بمجرد أن تجولت عيناها في المكان ولمحت الحضور المتوجهون نحو الداخل.


"يلا يا حبيبي؟"


"يلا..."


أمسك رحيم بيد أفنان برفق وهو يُربت عليها مرتين قبل أن يُقبل يدها بحنان ثم يقوم بشبك أصابعها بأصابعه، يُصبغ وجهها باللون الأحمر وارتجفت أناملها ليبتسم رحيم تلقائيًا قبل أن يُردف:


"متقلقيش يا أفي، كل حاجة هتبقى كويسة... أنتِ أحلى واحدة في المكان وأشيك واحدة في المكان كله، خليكي واثقة من نفسك."


أومئت له أفنان وهي تبتسم ابتسامة صغيرة، فلقد قرأ أفكارها فلقد شعرت بالتوتر والقلق بمجرد أن شاهدت القصر من الخارج فماذا سيحدث لها إن دلفت إلى الداخل؟ تخشى أن تتعرض للسخرية، تخشى أن تلفت فتاة غيرها نظر رحيم، تخشى أن تسمع كلماتٍ قاسية عن كونها لا تليق به... لم تكن أفنان قليلة الثقة بالنفس عادةً بل كانت دومًا تشعر بأنها الأفضل لكن في هذا الموضع وهذا المكان تشعر بالعكس تمامًا.


"هي مامتك جوا؟"


"اه، هي وبابي من جوا من ساعة تقريبًا... كمان ميا موجودة."


"الله الله! وست ناتالي كمان؟" سألت أفنان بحنق وهي ترفع أحدى حاجبيها ليضحك رحيم قبل أن يُجيبها مُردفًا:


"لا طبعًا يا حبيبي، ناتالي أيه اللي هيجبها هنا؟ هي تعرفهم منين أصلًا؟"


"طب واشمعنا ميا؟"


"يا أفي ركزي معايا شوية... ميا من العائلة، قريبتي أنا قولتلك قبل كده."


"ماشي خلاص."


"بصي لو حد عرض عليكي أي Drink 'مشروب' أشكريهم وارفضي بأدب، وأنا هبقى اجبلك حاجة تشربيها تمام؟"


"ليه؟"


"عشان في الغالب أي مشروب هيتقدم هيبقى فيه Alcohol 'كحول' وأكيد أحنا مش بنشرب يعني فهجبلك أنا أي  Soft drink 'مشروب غازي'."


"يخربيت النجاسة من أولها..."


"بنسوار يا هانم." تمتم رحيم فور رؤيته للسيدة بثينة وهو  ينحني ليُقبل يدها بلطف ثم يُصافح يد زوجها ونجلها، قبل أن يُشير إلى أفنان وهو يُردف:


"أفنان، مراتي." صافحت أفنان يد السيدة بُثينة بلطف وهي  تحاول أن تُخفي التوتر، ابتسمت الآخرى ولكن ابتسامة متكلفة قليلًا وهي تقول:


"فرد جديد انضم لعائلة البكري، مبروك... عرفت تختار."


"ميرسي لذوق حضرتك."


"نورتي يا مدام أفنان." وكاد ابنها الشاب أن يقترب من أفنان  ليُقبل يدها لولا أن تحركت يد رحيم سريعًا وهو يُشير له بأن يتوقف قبل أن يُفسر بأدب وهو يحاول أن يُخفي غيرته قائلًا:


"عذرًا 'Sorry' مراتي مش بتسلم على حد غريب." بدت نبرة رحيم حادة قليلًا ليحمحم الشاب بإحراج وهو يقول بنبرة هادئة:


"تمام، مفيش مشكلة... اتفضلوا."


توجه رحيم وأفنان نحو الداخل، كانت أفنان تتابع المكان بإنبهار شديد حاولة جاهدة أن تُخفيه، كان المكان أشبه بقصور الأميرات من أفلام الكرتون والحضور كانوا يُشبهون كثيرًا الممثلين والممثلات، نوعية من البشر لم تتعامل أفنان معهم من قبل ومن سذاجتها في السابق في فترة التدريب كانت تظن أن الطلاب برفقتها من طينة آخرى إذًا ماذا عن هؤلاء؟!


"تعالي نسلم على مامي وبابي."


"يلا." في طريقهم إلى والدي رحيم قابل رحيم العديد من أصدقاء والده ليُلقي عليهم التحية بأدب ورسمية بينما كانت تكتفي أفنان بالإبتسام بلطف.


"أهلًا حبيبي، ازيك يا أفنان عاملة أيه؟"


"الحمدلله بخير، حضرتك عامل أيه وحضرتك يا طنط؟"


سألتهم أفنان بأدب ولطف ولكن كان صوتها مرتفع قليلًا بسبب الموسيقى التي تُعيق عملية السمع، بمجرد أن تفوهت أفنان بكلماتها تلك أتسعت أعين والدة رحيم ومن ثم اقتربت قليلًا من أفنان وهي توبخها بنبرة حادة ولكن بصوت منخفض مُردفة:


"طنط؟ أيه طنط دي؟! وبعدين وطي صوتك وأنتِ بتتكلمي مش عايزين فضايح مش كفاية إن باين أوي إنك مش شبهنا، من فضلك متحرجيش ابني وسط الناس."


عبس وجه أفنان على الفور وصُبغ وجهها بالحمرة لشعورها بالإحراج الشديد مما قالته والدة رحيم، في تلك اللحظة تحولت معالم وجه رحيم من الهدوء إلى الإستياء الشديد وهو يُعلق على حديثه والدته قائلًا بحنق:


"مامي لو حقيقي مش عايزة فضايح يبقى متتكلميش مع مراتي بالإسلوب ده، أفنان تعمل اللي هي عايزاه وتتكلم بالإسلوب اللي يعجبها وأنا فخور بيها وعمري ما هتحرج منها ابدًا."


"رحيم! I missed you so much buddy 'اشتقتُ لكَ كثيرًا يا صاحبي'." أردفت ميا بحماس شديد والتي ظهرت من اللامكان لتقطع حديثها الجدي وهي تفتح كلتا ذراعيها على استعداد لإحتضان رحيم، هرولت أفنان سريعًا لتحتضنها هي بدلًا من رحيم.


"أيه يا ميا يا حبيبتي رايحة فين يا ماما؟ وأنتِ كمان وحشتيني أنا ورحيم جوزي، ها جوزي أنا... جدًا بجد."


قهقه رحيم بشدة على ما قالته أفنان، كانت أفنان على وشك أن تُضيف شيئًا ما لكن حينما تخللت أذنها صوت ضحكات رحيم ورأت ملامح وجهه اللطيفة فقدت كل كلماتها وأخذت تتأمله في هدوء، بادلها النظرات اللطيفة لبضع ثوانٍ قبل أن يوجه نظره نحو ميا وهو يسألها:


"ازيك يا ميا عاملة أيه؟"


"ممكن أرد عادي يا أفنان ولا أيه؟"


"اه عادي طالما في مسافة بينكوا وأنا واقفة يبقى رد عادي."


"أيه ده؟ هي دي بقى العروسة اللي كانوا عايزينك تتجوزها؟!"


"مالها؟ مش حلوة؟"


"مش حلوة أيه يا راجل دي صاروخ! أنا لو مكانك كنت اتجوزتها أحنا هنهزر!" تحدثت أفنان بنبرة مزيج بين الجدية والسخرية وهي تقهقه لينظر نحوها رحيم بريبة وهو يسألها مستنكرًا:


"أنتِ بتقولي أيه؟ أيه الرعب ده؟" تجاهلت أفنان ما قاله وتابعت تأمل العروس بينما تُثرثر في أذن رحيم بنبرة أقرب إلى الهمس قائلة:


"بس مش فستانها مفتوح شوية وقصير شوية برضوا... مفتوح كتير بصراحة، مفيش حد لابس حاجة حشمة غيري ده حتى ست ميا لابسة 5 سنتي قماش بس."


"عشان أنتِ غير أي حد هنا يا حبيبي."


"رحيم أفنان Stop whispering to each others 'توقفوا عن الهمس لبعضكم البعض' وبعدين أنتوا مش هترقصوا ولا أيه؟ كل ال Couples 'الأزواج' بيرقصوا مع بعض."


"مش بعرف أرقص ومتحاولش تعلمني دلوقتي عشان أحنا مش في فيلم عربي قديم، ههرس رجلك بالكعب وهيبقى شكلنا متخلف."


قهقه رحيم على ما قالته قبل أن يُردف:


"خلاص يا أفي على راحتك، بس على فكرة أحنا هناخد Dancing classes 'دروس رقص' قبل فرحنا إن شاء الله."


"طب خلاص رحيم، Come and dance with me 'تعال وارقص معي'."


تمتمت ميا بحزن مصطنع وهي تضع يدها أعلى ذراع رحيم لتقترب منها أفنان وهي تُزيح يدها عن رحيم ببعض العنف بينما تُطالعها بنظرات حادة وابتسامة مُصطنعة دبت الرعب في قلبها بينما تسألها مُردفة:


"يعمل أيه يا حبيبتي؟"


"خلاص خلاص أنا أسفة... I was just joking 'لقد كنت أمزح فقط'." قالت ميا وهي تضع يدها أمام وجهها وكأنها تُعلن استسلامها لترمقها أفنان بطرف عيناها وهي تبتسم ابتسانة جانبية قبل أن تقول:


"خلاص سامحتك، بقولك يا رحيم ما تيجي نتصور صورتين كده." طلبت أفنان من رحيم ليومئ لها ويذهب كلاهما لإلتقاط بعض الصور معًا وقد تبعتهم ميا لتقوم هي بإلتقاط الصور من أجلهم.


على الجانب الآخر وداخل 'ڤيلا' تبعد عن مكان حفل الزفاف بمسافة كافية كان يجلس أنس على أحر من جمر داخل منزله في انتظار شقيقته والتي عاد من الخارج ليُفاجئ بأنها غادرت المنزل وحدها ودون أن تُخبره، لم تكن وحيدة تمامًا ولكنها بدون أنس وبدون حراسة فقط برفقة سائق السيارة...


كان أنس يتحرك ذهابًا وإيابًا بحركات متتابعة دون توقف، عقله لا يكاد ينفك عن وضع سيناريوهات جميعها تفوق بعضها سوءًا ورعبًا... شقيقته شعرت بالتعب الشديد وتم نقلها إلى المستشفى وحالتها خطرة فلم يستطع أحد إخباره، ذهبت للشراء شيء وحدها وتعرضت للتحرش أو المضايقة وذهبت إلى قسم الشرطة، ذهبت للتمشية وقام أحدهم بإختطافها... ولربما قرر أحد رجال الأعمال المنافسين للراحل والدهم أن ينتقم وقد قرر إيذاء أروى...


لكن كل تلك الفرضيات اندثرت بمجرد رؤية أنس لشقيقته التي دلفت إلى الداخل بهدوء وبصحة جيدة، لم تكن بحاجة إلى استخدام المفتاح لفتح الباب لأن أنس تركه مفتوحًا بالفعل.


"أروى روحتي فين؟ من الصبح قلقان عليكي ومش بتردي كمان عالتليفون."


صاح أنس بإستياء شديد ناجم عن القلق الذي شعر به منذ أن استيقظ، ضم شقيقته بقوة وهو يحمد الله بداخله أنها بخير، فصلت أروى العناق برفق وهي تُردف بينما تضحك:


"في أيه يا أنس؟ كنت في مشوار عادي.. أنا مش صغيرة يعني أنا أختك الكبيرة."


"مشوار أيه؟ أيه ده؟" كان يسأل أنس بهدوء قبل أن يُلاحظ  شيء غريب ليسألها مجددًا، اضطربت معالم أروى بينما ابتسمت ابتسامة مزيفة وهي تُجيب على سؤاله بسؤال:


"هو أيه؟"


"ال Scarf 'وشاح' ده جبتيه منين؟"


"يعني أيه منين؟ من الدولاب عادي." أردفت أروى بنبرة بلهاء مصطنعة، ازداد الغضب على وجه أنس وهو يأخذ نفس عميق قبل أن يُعيد جملتها بنبرة ساخرة ثم يُضيف:


"من الدولاب عادي؟ والله؟ وال perfume 'عطر' اللي أنتِ حطاها دي عادي برضوا؟"


"أيه يا أنس المشكلة؟ ده perfume 'عطر' حريمي!" أجابته بنبرة حادة قليلًا ليأخذ أنس نفسًا عميق ثم يضرب قبضة يده بالطاولة وهو يصيح بحنق:


"عارف إنها حريمي، وممكن أقولك اسم ال brand ولون الإزازاة لو تحبي... بصي يا أروى أنا هحاول متعصبش وهحاول أقنع نفسي إني فاهم غلط عشان معملش مشكلة دلوقتي."


"لا يا أنس أنتَ فاهم صح، أنا كنت عند مامي."


"برضوا يا أروى؟ برضوا بتتصرفي من دماغك وبتروحي عند الست دي؟ أنتِ أيه مش عملالي أي اعتبار خالص؟ مش فارق معاكي زعلي ولا عصبيتي؟ كل اللي فارق معاكي إنك تعملي اللي في دماغك وبس! أنا تعبت يا أروى تعبت!"


صاح أنس بغضب حقيقي ومن ثم اتجه نحو الطاولة التي تتوسط المكان ليقوم بإلقاء ما عليها بعصبية شديدة لترتجف أروى بسبب نبرة صوته المُرتفعة وتحركاته العصبية المتتابعة والتي لم تعتد أروى أن تصدر من أنس قط بل كان والدهم من يقوم بمثل هذه التصرفات.... قررت أروى أن تحاول جعل أنس يتوقف عند حده وهي تصيح في المقابل مُردفة:


"أنس! متعليش صوتك عليا أنا أختك الكبيرة! أنا مغلطتش فحاجة أنا بزور أمي... وحشة أو حلوة هي هتفضل مامتنا ومفيش حاجة في الدنيا هتقدر تغير حقيقة إننا أولادها!"


"أمنا؟ الست المجنونة دي أمك أنتِ لوحدك يا أروى مش أمي، ناقص تقوليلي تعالى نعمل كولدير مياه على روح الخمورجي أبونا!"


بصق أنس كلماته بحنق شديد وهو يُشيح بيديه أمام أروى التي أفلتت أحدى العكازين من يدها ورفعت ذراعها في الهواء ليهوي كفها على وجه أنس... يسود الصمت للحظات وكأن الزمن توقف وقد تجمدت كل الموجودات... صُعقت أروى من ردة فعلها التلقائية التي لم تقصدها بينما انهمرت دمعة من أحدى عيني أنس قبل أن يهرول نحو الباب بحنق وصدمة...


حاولت أروى الإمساك بذراعه لكنه أفلت منها وقبل أن يصل إلى باب المنزل سقط أرضًا مُغشيًا عليه بينما اتخذت قطرات الدماء الدافئة طريقها نحو فمه...

_______________________________


(تذكره: اللهم اجبر المكسور منّا، وارحم الميت فينا، واشفِ مريضنا، ويسّر العسير من أيامنا، وناولنا بركة ما يقربنا لجناتك، وباعد بيننا وبين خطايانا كما باعدت بين المشرق والمغرب، يا من يقول للشيء كُن فيكون، قل لأمانينا كوني يا أرحم الراحمين.)



الفصل الخامس والأربعون: تَهْدِيد ✨🤎🦋


"أفي تعالي نخرج نقف برا شوية، I need some fresh air 'أحتاج إلى بعض الهواء النقي'."


"تعالى أنا كمان اتخنقت." أردفت أفنان بلطف وهي تُمسك  بيد رحيم ثم ذهب ليستأذن من والديه ويتجهوا نحو الخارج، زفر رحيم بضيق فور وقوفهم في الحديقة لتقترب منه أفنان وهي تسأله:


"مالك يا رحيم؟ شكلك مش مبسوط... أفتكرتك هتبقى فرحان باليوم يعني ومنسجم مع الجو."


"بصراحة يا أفي I am tired of pretending 'لقد تعبت من التظاهر' لازم جوا أتعامل بلطف طول الوقت وأتكلم برسمية واختار كلماتي بعناية وحرص."


تحدث رحيم بصدق وهو بضيق، وضعت أفنان يدها الآخرى على ذراع رحيم بلطف وهي تُردف:


"أنا لاحظت كده برضوا، بس مستواك الإجتماعي والبيزنس بتاع باباك مخليك مجبر عالوضع ده، بس معايا أنا ومع أهلي مش محتاج أنك تبقى شخص غير نفسك ومش محتاج تتكلم برسمية ولا طريقة معينة."


"أنا عارف، دي أحلى حاجة في علاقتنا... أفي أنا عايز اعتذرلك عن الكلام اللي مامي قالته جوا ومبسوط جدًا منك أنك سيطرتي على نفسك عشان الموضوع ميكبرش وصدقيني سواء كنتِ رديتي أو لا أنا كنت هجيبلك حقك."


قال رحيم بلطف شديد وهو يبتسم لتبتسم له أفنان في المقابل وقد شعرت بقيمة ما فعلته حينما أشاد رحيم بتصرفها، أخذت نفسٍ عميق قبل أن تُردف:


"ولا يهمك يا رحيم أنت ملكش ذنب أصلًا، عمومًا مهما كان كلامها وحش أو جارح أنا مش هرد عليها وهحترم إنها مامتك بالرغم من كل شيء وبرضوا ست كبيرة أد أمي يعني."


"حبيبي فخور بيكي بجد، أشطر بنت في الدنيا بتحاول تتحكم في ال Anger issues 'مشاكل الغضب/مشكلة التحكم في الغضب'."


"حبيبي بس... رحيم هو أنتَ شايف اننا هنعرف نكمل حياتنا بالوضع ده؟"


انساب السؤال من فم أفنان دون تفكير ليتنهد رحيم تنهيده طويلة وهو يُغمض عيناه بإستياء لبرهة قبل أن يُجيب على سؤالها بسؤالًا آخر قائلًا:


"فين الوضع ده؟ أو أيه الوضع مش فاهم؟"


"يعني الإختلاف اللي بيننا... أنا مش شبه الناس اللي جوا دول واللي أنت متعود عليهم أو بمعنى تاني أدق اللي أنتَ منهم حتى لو أنتَ حاسس بخنقة من اللي حصل جوا بس ده اللي أنت اتربيت عليه."


"قولتلك ولا أنا شبهم يا أفنان ده أنا كنت لسه بشتكيلك منهم، وبعدين أنا مش فاهم أنتِ ليه عايزة مع أول موقف تستسلمي؟ ليه لسه عايشة في وهم الطبقية اللي في دماغك ده؟"


"مش وهم يا رحيم، صدقني مش وهم!"


"لا وهم، أنتِ عايزة تقنعي نفسك وخلاص إن علاقتنا مصيرها هو الفشل لإختلاف المستوى المادي مع أني في المقابل بروح حفلات زي دي، بروح مطاعم وفنادق مش أي حد يعرف يدخلها بس في نفس الوقت عادي اتعزم عالعشاء في بيت بسيط في منطقة بسيطة، بيت دافي وأكله معمول بحب، عادي أتعامل مع مديرين شركات عالمية وأجانب وعادي أتعامل مع ناس بسيطة وطلاب وناس لسه بتبدأ حياتها، ده حتى يا أفي عربية الكبده اللي السندوتش فيها بتلاتة جنيه تقريبًا أكلت منها تقوليلي هنعرف نكمل ولا لا؟"


"ما هو أنت لو عارف تتأقلم أنا مش عارفة!"


"أنا مطلبتش منك تتأقلمي على حاجة أصلًا ولا أنتِ حاولتي! أفي هو أنتِ من ساعة ما عرفتيني أو من ساعة ما ارتبطنا شوفتيني كام مرة روحت حفلة زي دي؟"


"تقريبًا مرة واحدة من كام شهر."


"طيب أهو يعني مش فاضي أنا أروح مناسبات زي دي كل شوية هيبقى الموضوع على فترات، زي ما أنا هروح معاكي مناسبات عائلية لطيفة كده على فترات."


"يااه متخيلاك جاي تقضي معانا العيد ونازل تصلي بالجلابية... وأنت طويل كده هتبقى شبه مسرحية العيال كبرت."


"على فكرة دمك مش خفيف... أيه ده ثواني... أروى بتتصل."


"في حاجة ولا أيه؟" سألت أفنان بفضول بينما اضطربت معالم وجه رحيم فليس من عادة أروى أن تهاتفه هي تكتفي بمراسلته فقط حينما تُريد إخباره بشيء دون معرفة أنس، نظر رحيم نحو أفنان لبرهة وهو يُردف:


"مش عارف... هرد أشوف في أيه."


أجاب رحيم على الهاتف ولم تستطع أفنان سماع ما يُقال من الجانب الآخر كل ما سمعته هو صوت بكاء أروى ونحيبها وتوتر معالم رحيم الذي قال ببعض الإنفعال كي يُجبر الأخيرة على الهدوء وإيقاف نوبة الهلع تلك:


"خلاص يا أروى بطلي عياط! أهدي شوية أنا جايلك حالًا نزلي دماغه براحه لتحت كده عقبال ما أجيلك."


أغلق رحيم المكالمة وهو يجذب ذراع أفنان بلطف بينما يقوم بفتح باب السيارة من أجلها ومن ثم يذهب للجلوس في مقعده وينطلق بأقصى سرعة نحو منزل أنس والذي لم يبعد كثيرًا عن موقعهم، لم يتفوه رحيم بحرفٍ واحد طوال الطريق ولم تسأله أفنان عن أي شيء فلقد استنتجت ما حدث ولم تُرد أن تُثرثر وتُزيد من توتره وضغطه النفسي.


"أفنان معلش انزلي معايا عشان لو احتجتك تسندي أروى ولا حاجة."


"حاضر، بس هو أنتَ هتعرف تشيل أنس لوحدك؟"


"اه متقلقيش."


غادر كلاهما السيارة مهرولين نحو الداخل وكما توقع رحيم، أروى تجلس على الأرضية تبكي بإنهيار وهي ممسكة برأس أنس بين أحضانها وهو تحاول أن تقوم يإيقاف نذيف أنفه.


"هو هيبقى كويس متقلقيش."


"بس هو أول مرة يحصل معاه كده... وكمان He is bleeding 'إنه ينزف' بسببي أنا ضربته بالقلم..."


تمتمت أروى من بين دموعها لكن رحيم لم يُعلق على جملتها وقام بفحص أنس سريعًا قبل أن يحاول حمله، أما عن أفنان فنظرت نحو أروى بحزن ولكنها حاولت أن تُخفف عنها قليلًا قائلة:


"لا مش أول مرة تحصله... بس متقلقيش هو هيبقى كويس إن شاء الله... قومي معايا."


حاولت أفنان مساعدة أروى على النهوض كونها مازالت لا تتحرك بكامل قوتها فهي لم تتعافى تمامًا من آثار الحادث، تركهم رحيم لبرهة وهرول نحو أحد الحراس في الخارج طالبًا منه مساعدته في حمل أنس ووضعه في السيارة.


بعد نصف ساعة تقريبًا كان أربعتهم داخل المستشفى، أنس تم حجزه في حجرة وقد تم تعليق أحد المحاليل من أجله بينما جلس ثلاثتهم في منطقة الإنتظار.


"أنتَ ازاي يا رحيم متقوليش إن أنس حصل معاه كده قبل كده؟!" سألت أروى بإستياء شديد ليتنهد رحيم قبل أن يُجيبها  قائلًا:


"مكنش في داعي يا أروى صدقيني، أنتِ وقتها أصلًا مكنتيش في حالة تسمح أني أحكيلك حاجة زي كده."


"يعني هو دلوقتي مريض ضغط ومش بياخد أدويته صح؟ يعني الدم مش من القلم؟"


"لا، ده عرض من أعراض الضغط العالي جدًا، بصي هو المفروض كان يستمر على الأدوية فترة وأنتِ عارفة أخوكي أكيد معملش كده وأدي نتيجة العند بتاعه، بس متقلقيش أنس هيبقى كويس إن شاء الله."


"أيوا متقلقيش يا حبيبتي أنس ده عامل زي القطط بسبع أرواح!" علقت أفنان بسخرية وهي تحاول طمئنة أروى لكن جملتها لم تكن مفهومة بالنسبة لأروى ورحيم ليُطالعها كلاهما بعدم فهم، قلبت أفنان عيناها بتملل وهي تهمس:


"مفيش فايدة في العيال التوتو دي بجد."


"أفنان ميرال بتتصل على تليفوني." تمتم رحيم بهدوء لتأخذ أفنان الهاتف من يده وتُجيب على شقيقتها وكانت المحادثة كالتالي:


'أيه يا بنتي بقالي ساعة بتصل عليكي ومش بتردي عليا... أنتوا فين؟'


'أتنشن بيه تعب وروحنا بيه المستشفى.'


'أيه؟ مش فاهمة... ثواني قصدك أنس؟ هو كان معاكوا في الفرح أصلًا؟ أيه اللي حصل؟'


'ثواني ثواني أبلعي ريقك كده، لا مكنش معانا هو تعب في البيت مع أروى وأحنا خدناه عالمستشفى.'


'طب ممكن تبعتيلي العنوان؟'


'حاضر ياختي.'


أنهت أفنان المكالمة بعد إرسال الموقع لميرال وذهبت لتقوم بإعلامهم أن ميرال قادمة، أخبرتها أروى بأنه لا يوجد داعي لذلك لكن أفنان أخبرتها أن ميرال في طريقها إليهم بالفعل.


"أيه يا جماعة أيه اللي حصل؟ أنس فين؟"


"بس بس أهدي شوية في أيه؟"


"حصله زي المرة اللي فاتت ولا أيه؟"


"لا Wait 'انتظروا' كده هو كلكوا عارفيين حوار أنه تعب قبل كده وأنا لا؟"


"هو حرفيًا تعب في بيتنا، كان معزوم عندنا هو ورحيم وعمو أبو رحيم... وأخوكي ياختي كان رايح الحمام وفطس في الطريق."


تمتمت أفنان وهي تسرد ما حدث بالإضافة إلى عباراتها الساخرة المعتادة، عقدت أروى حاجبيها بحيرة قبل أن تسأل ميرال بعدم فهم:


"هي بتقول أيه؟"


"سيبك منها، وأنتِ يا أفنان كفاية رغي مش شايفانا قاعدين على أعصابنا."


"وأنتِ قاعدة على أعصابك ليه أنتِ مالك أصلًا؟"


سألت أفنان بخبث لتضطرب معالم ميرال وتكاد تُجيب ولكن لا تجد الكلمات المناسبة وقبل أن تنبس بحرفٍ واحد وجدت الممرضة تقترب منهم لتخبرهم بأن أنس قد استيقظ ويمكنهم رؤيته.


بمجرد أن أخبرتهم الممرضة تبادل رحيم، ميرال وأروى النظرات فكلاهما يسأل الآخر بعيناه من سيذهب لرؤية أنس أولًا، لكن رحيم كان قد اتخذ القرار بالفعل... هو سيدلف إلى حجرة أنس أولًا.


"أنا هدخل ٱشوف أنس ومش هتأخر." أومئ الجميع بينما جلست أروى على الكرسي تبكي بقلة حيلة، فشعور الذنب لا يُفارقها.


دلف رحيم إلى غرفة أنس بعد أن قام بالطرق على الباب بأدب أولًا، بمجرد أن خطى أول خطوة نحو الداخل وجد أنس الممدد على الفراش وقد اتصلت 'الكانيولا' بأوردة يده، عيناه شاردتان بينما يتأمل سقف الغرفة ولكن حينما اقترب رحيم أكثر أدرك أنه ليس فقط شاردًا بل يبكي كذلك.


"أنس... أنتَ كويس؟" لم يتلقى رحيم ردًا على ما قاله لذا اقترب من أنس على الفور وهو يضمه إلى صدره في عناقٍ قوي.


"أنا أسف حقك عليا أنا... أنا غلطان أنا أنشغلت عنك الفترة اللي فاتت أنا أسف..."


"أنا... تعبان... تعبان أوي يا رحيم..." تمتم أنس بصعوبة محاولًا جمع كلماته بينما أخذت دموعه تنهمر أكثر فأكثر.


"طيب بص أنا هعملك أي حاجة أنتَ عايزها بس اهدأ please 'من فضلك'."


أردف رحيم بنبرته الحنونة المعتادة وهو يضم صديقه الوحيد وأخيه الصغير، كانت تصدر الشهقات من أنس بين الحين والآخر حتى سكن قليلًا ليفصل رحيم العناق ثم يسأله:


"احكيلي بقى أيه اللي حصل؟ اتخانقت مع أروى؟"


"يعني هي محكتش ليك أنت والقطة بتاعتك؟"


"يادي النيلة عالقطط والكلاب وحديقة الحيوان اللي أنتَ عايش فيها دي! لا محكتش هي بتعيط من ساعة ما جينا كل اللي اعرفه يعني أنه She slapped you 'لقد صفعتك' وبعدين your nose started bleeding 'بدأ أنفك ينزف'."


"أروى كانت عند مرات فريد، أنا لما روحت البيت هي مكنتش هناك وكنت قاعد هموت من القلق عليها... رجعت الهانم بعد شوية وهي حاطه على رقبتها ال Scarf 'الوشاح' بتاع ما... بتاع مرات فريد، وريحة البيرفيوم بتاعها في هدوم أروى."


"طبعًا أنتَ اتخانقت معاها عشان كانت بتزور مامتها وطبعًا كنت منفعل جدًا وغلطت فيها أو في مامتك فأروى أتعصبت وضربتك مش كده؟"


"طب ما هي حكتلك أهو أومال بتخليني أحرق بنزين وأحكيلك من الأول ليه يا سمج؟"


"يا بني محكتش حاجة! أنا اللي حطيت Scenario 'نص سينيمائي' للي حصل، أنا أعرفك بقالي أكتر من 20 سنة يا أنس فطبيعي أكون متوقع رد فعلك في موقف زي ده."


تمتم رحيم بثقة شديدة وهو يُعيد خصلات شعره نحو الخلف قبل أن يذهب لجذب الكرسي ويجلس بجانب أنس، لم يُعلق أنس على ما قاله رحيم وعاد للشرود لكن قرر رحيم أن يُخبره بشيء يُعيد إليه حماسه وجزء من سعادته.


"على فكرة في حد برا مستني يطمن عليك وهيموت من القلق."


"حد؟ أوعى تقول! مونيكا؟!" استفسر أنس بحماس وهو يغمز  بإحدى عينيه ليرمقه رحيم بإشمئزاز وهو يضرب كتفه بخفة قبل أن يقول بإستنكار شديد:


"مونيكا مين يا حيوان؟! لا حد أنضف وأجمل من كده بكتير، حد أنتَ مهتم بيه بجد مش بتلعب."


"الدادة بتاعتك ولا مين؟"


"يا أنس هو أنت مهتم ومعجب بالدادة بتاعتي؟ أنت مجنون يا ابني ما تركز!"


وبخه رحيم مجددًا ليعقد أنس حاجبيه وهو يحاول أن يُفكر في هوية الشخص قبل أن يتمتم بحماس:


"استنى... أكيد لا! أكيد مش..."


"ميرال."


"ميرال برا؟ عايزة تشوفني؟ قلقانة يعني؟" سأل أنس بلهفة وهو يعتدل في جلسته وينزع المحاليل من يده متسببًا في حدوث نزيف بسيط في يده، أمسك رحيم بيده محاولًا منعه لكن لم يستطع.


"أيه يا أنس اللي بتعمله ده؟! أنتَ مجنون!"


"هي مش هينفع تدخل عندي هنا الأوضة ومش هترضى تدخل هنا أصلًا، فأنا بقى هخرج اطمنها بنفسي."


أردف أنس وهو يستقيم من جلسته ويقوم بهندمة ثيابه وتعديل خصلات شعره قبل أن يتكأ على رحيم ويذهب نحو الخارج لشعوره بعدم إتزان أثناء سيره.


"أنس!!!" نبست ميرال بقلق فور رؤيتها لأنس لتستقيم من مقعدها على الفور وتذهب في اتجاهه.


"أنتَ كويس؟ أيه اللي قومك وأيه الدم ده؟" سألته ميرال بتشوش ليرمقه أنس بنظرات مُريبة لثوانٍ قبل أن يُردف بنبرة درامية مُبتذلة:


"الشوق، الشوق هو اللي قومني." ضحكت ميرال بخجل وهي تُخفي ثغرها بيدها بينما رمق رحيم أنس بإزدراء وهو يسأله الآتي بإستنكار:


"وبتقول عني أنا مسهوك؟ أيه يا ابني القرف ده؟"


"خليك في حالك أنتَ يا رحيم، يا وعدي عالضحكة يا وعدي."


علق أنس على حديث رحيم بينما لم يُبعد عيناه عن ميرال التي أشاحت بنظرها بعيًدا عنه، في تلك الأثناء كانت أفنان عائدة من دورة المياه برفقة أروى وبمجرد أن رأت أنس الواقف إلى جانب رحيم أمام ميرال وهي تقول الآتي بصوت مرتفع نسبيًا:


"أيه ده؟ أنتَ فوقت يا عم الملزق؟ حمدلله عالسلامة بوظت علينا السهرة كالمعتاد منك لله."


"مين اللي جاب البت دي هنا؟ وبعدين أيه الشياكة دي؟ تصدقي مكنتش هعرفك لولا إنك فتحتي بوقك لو كنتِ اتخرستي كده مكنتش هعرفك."


"بس متهبلش في الكلام عشان دي مراتي وممكن اضربك عشانها عادي."


"يااه يا رحيم! أنا عمري ما تخيلت إن الجواز يغيرك كده وكل ده وأنتوا كاتبين الكتاب بس أومال بعد الفرح هتعمل فينا أيه؟ يلا بكرة نقعد جنب الحيطة ونسمع الزيطة!"


"لا يمكن تكون بني آدم طبيعي والله! عامل زي خالتي اللتاتة!"


"أنس... I truly apologize for what i did 'أنا حقًا أعتذر على ما فعلته'." همست أروى وهي تقترب من أنس بخطوات بطيئة لتقوم بتحويل مسار الحديث من السخرية والمزاح إلى الجدية.


ساد الصمت لبرهة قبل أن يجذب أنس شقيقته في عناق لطيف بينما يُداعب خصلات شعرها الناعمة قبل أن يقول:


"أنا كمان أسف، أنا أتكلمت معاكي بقلة آدب متزعليش مني... أنا بس خايف عليكي."


"أنا عارفة أنتَ ليك كل الحق، أنا بس كنت عايزه أشوفها... أنتَ مش متخيل هي فرحت ازاي وهتفرح ازاي لو قبلت أنك تشوفها... صدقني يا أنس..."


كادت أروى أن تُتابع حديثها الغامض بالنسبة لميرال وأفنان وكادت أن تُكمل محاولاتها في إقناعه لولا تدخل رحيم ليوقفها بلطف وأدب قائلًا:


"أروى... أروى please 'من فضلك' الكلام ده مش وقته خالص ولا مكانه، هنشوف الموضوع ده بعدين تمام؟"


أومئت أروى في هدوء وساد الصمت لبعض الوقت وفي تلك الأثناء كان الفضول ينهش ميرال نهشًا لتعرف من يقصدون بحديثهم المُبهم؟ لقد نسيت تمامًا أمر والدته ولم يخطر على بالها قط أن الحديث يخصها بل ظنت أنهم يتحدثون عن فتاة كانت حبيبة أنس في السابق ربما...


"طيب أفي أنتِ أكيد محتاجة تروحي أنتِ وميرال، هوصلهم يا أنس بسرعة وأرجعلك تاني."


"لا أنا مش هبات هنا... هشتري محاليل أو أي أدوية الدكتور كتبها وهروح... وصلنا كلنا مع بعض بقى بعد إذنك."


أعلن أنس بنبرة مستاءة فهو يكره المكوث في المستشفى أكثر من أي شخص آخر، فرائحة الطرقات، رؤية الفراش الأبيض، اطمئنان الطبيب والممرضة كل بضع ساعات أمور تُصيبه بالإشمئزاز والضيق وتذكره بذلك الحادث البغيض والذي اضطر بسببه أن يمكث في المستشفى لمدة طويلة نسبيًا.


"تمام اللي يريحك، خليك هنا هروح أشوف الدكتور وأقفل الحساب وأجيلكوا تاني."


"تمام." تمتم أنس بهدوء قبل أن يوجه نظره نحو ميرال الجالسة إلى جواره مع ترك مسافة كبيرة بينهم، تأمل وجهها لثوانٍ قبل أن ينبس بنبرة  جادة هادئة غير مُعتادة مُردفًا:


"أنا أسف عشان اتخضيتي..." قال جملته لترمقه أفنان بنظرات نارية مُرعبة ليحمحم أنس برعب ثم يقول بتعديل جملته على الفور قائلًا:


"أحم... قصدي أسف عشان اتخضيتوا كلكوا يعني، هي أختك هتتحول علينا ولا أيه؟"


"غالبًا اه." أردفت ميرال وهي تضحك لترمق أفنان أنس بإزدراء قبل أن توجه حديثها لأروى قائلة:


"ما تيجي تقعدي جنب أخوكي يا أروى... لا الناحية دي مش الناحية التانية." طلبت أفنان من أروى الجلوس إلى جانب أنس من جهة ميرال بحيث تمنع رؤيتهم لبعضهم البعض.


"يااه على قطع الأرزاق! أعوذ بالله بجد!"


"يا مصبر الوحش عالجحش..." همست أفنان بصوتٍ منخفض ومن بعد جملتها تلك ساد الصمت في ما عدا همس بسيط بين أروى وأنس، بعد مدة قصيرة عاد رحيم وهو يُشير إليهم بأن يحضروا إليه في نهاية الممر كي يذهبوا يغادروا جميعًا المكان.


"دفعت كام؟"


"بس يا أنس بطل هبل، من أمتى في بينا كده؟"


"لا يا عم لا تخصمهم من المرتب ولا حاجة."


"وهو أنتَ محتاج المرتب أصلًا؟" سأله رحيم بسخرية  ليضحك أنس ثم يُردف:


"لا، بس الحق حق برضوا، صحيح بقولك أيه هي العربية هتكفينا؟"


"اه ما أنا اللي هسوق وأنتَ جنبي قدام والبنات كلهم ورا مع بعض." أومئ أنس وتوجه الجميع نحو السيارة، ساد الصمت طوال الطريق فيما عدا بعض الجمل الهزلية من أنس وربما سب قائد السيارة المجاورة لهم مرة أو اثنتين.


كان أنس يختلس النظرات نحو ميرال التي أخرجت ذراعها خارج الشرفة بطفولية مستقبلة نسمات الهواء الباردة ليبتسم أنس من فعلتها تلك.


"حمدلله عالسلامة وصلنا، الأجرة ورا يا أساتذة." تمتم أنس ساخرًا فور توقف السيارة أمام منزل أفنان لترمقهم بإزدراء قبل أن تُردف بسخافة:


"أنس دمك تقيل على فكرة متهزرش تاني، رحيم أبقى طمني عليك لما توصل ماشي؟"


"حاضر متقلقيش."


"حمدلله على سلامتك يا أنس، شكرًا على التوصيله يا رحيم."


همست ميرال بصوتٍ خجول بالكاد مسموع قبل أن تغادر السيارة، غادر رحيم السيارة كذلك وانتظر في الخارج حتى صعود أفنان إلى المنزل وتلويحها له من الشرفة، لوح لها في المقابل ثم دلف إلى داخل السيارة مجددًا.


"لا حركة لطيفة أبقى فكرني أعملها لما ارتبط إن شاء الله." علق أنس بسخرية وهي ينظر نحو أروى التي غالبها النعاس وغفت في المقعد الخلفي.


"مش هتلحق تنسى، أنتَ أصلًا شكلك واقع فمش هتاخد وقت طويل."


"أنا واقع طبعًا بس دكتور مسك قالتلي إني لازم استنى شوية وهي كمان محتاجة تتعافى من اللي حصل معاها."


"شكل الدكتورة دي بتفهم، ياريت تحاول تتكلم معاها عن مشكلتك مع مامتك وباباك."


"بحاول بس... الكلام في الموضوع ده بيوجعني أوي وبيخليني مخنوق وكأن مفيش أكسجين في المكان كله... بس هحاول المرة دي اتكلم عن الموضوع ده أكتر شوية كمان."


"على فكرة يا أنس بعيدًا عن أي هزار أو رخامة بس أنا حقيقي فخور بيك وفخور بإنك بتحارب عشان تكون انسان أحسن، وعشان بتحاول تصلح علاقتك بربنا وبأختك وبتحاول تركز في شغلك."


"لولا وقفتك جنبي يا صاحبي عمري ما كنت هعرف أعمل حاجة من دي لوحدي." أردف أنس بنبرة جادة وهو يضع يده على كتف رحيم لترتسم ابتسامة لطيفة على ثغر الأخير قبل أن يعاود القيادة.


بعد مرور يومان وفي تمام الساعة الرابعة والنصف غادرت ميرال مقر عملها، كانت تسير بكسل لشعورها بالإرهاق من العمل ولأنها لم تحظى بنومٍ جيد ليلة أمس، كانت تسير بخطواتها الهادئة والتي تسبب في إيقافها صوت أحدهم مناديًا اسمها...


"ميرال..."


"أنتَ تاني؟ أيه يا نوح هتفضل تنطلي في كل حتة ولا أيه؟ أنا مش عايزة فضايح في مكان شغلي."


"خلاص وجودي معاكي بقى فضايح؟ أنا جاي بس أتكلم معاكي فين الفضايح دي؟" سأل نوح بإستنكار وحزن في الوقت ذاته، ساد الصمت لثانية قبل أن تُجيبه ميرال بنبرة شبه درامية قائلة:


"وأنتَ تيجي تتكلم معايا بصفتك مين أصلًا يا نوح؟ بقولك أيه أنا لسه مخلصه شغل وتعبانة ومش شايفه قدامي لو سمحت أمشي من هنا."


"يا ميرال أنا لسه بحبك صدقيني... اللي حصل ده كان غلطة وأنا بجد ندمان ومفتقد وجودك جنبي جدًا... أنا مستعد أصلح غلطي وأعتذرلك قدام الناس كلها بس ترجعيلي..."


"أنا قولتهالك قبل كده يا نوح... أنت اللي زيك ميعرفش يعني أيه حب أصلًا ولو مبطلتش تبعتلي في مسدجات وتظهر قدامي كده صدقني رد فعلي مش هيعجبك."


"يا ميرال طيب أديني فرصة واحدة أخيرة وأوعدك مش هزعلك أبدًا."


"طيب يا نوح أنا هقولهالك بطريقة تفهمها... لو أنتَ آخر راجل على الأرض يا نوح مش هتجوزك ولا هرجعلك أنتَ سامع؟"


بصقت ميرال كلماتها بكل برود وقسوة ليشعر نوح بصدمة وكأن أحدهم قام بسكب ماء مثلج على رأسه، لا يُصدق التحول الكبير الذي طرأ على شخصية ميرال في خلال بضعة أسابيع... هي لم تكن كذلك ولم تكن تتحدث بهذه النبرة...


"ماشي يا ميرال اللي يريحك... أهم حاجة تبقي مرتاحة مش مهم أي حاجة تانية، عن إذنك..."


لم تُعلق ميرال على ما قاله فقط أكتفت بالإلتفات للجهة الآخرى والذهاب بعيدًا عنه، كانت تحاول جاهدة ألا تنهار، ألا تبكي أثناء سيرها في الشارع، ألا تُظهر ضعفها... كانت تسير بملامح باردة بينما في داخلها يشتعل، تشعر بأنها بحاجة إلى التحدث لأحدهم وذلك الشخص ربما يكون أنس ولكنها لن تفعل لأنها بالفعل قد اتخذت قرارًا في السابق بألا تتحدث إليه إلا في أضيق الحدود وحينما تكون مضطرة... في النهاية لم تجد شخصًا أنسب من شقيقتها ونصفها الآخر أفنان.


"ألو... أيوا يا أفنان أنا خلصت شغل أنتِ لسه في الكلية ولا روحتي؟ طب كويس أوي شوفيلنا بقى كافية نتقابل فيه ولا أي حتة ناكل فيها."


أنهت ميرال المكالمة بعد الإتفاق مع أفنان على المطعم المناسب لكي يتناولوا وجبة الغداء سويًا، بعد ساعة تقريبًا كانت ميرال تجلس داخل المطعم في انتظار أفنان.


"معلش يا بنتي اتأخرت عليكي لما كلمتيني كنت خلصت بس المعيد فضل مقعدنا شوية لحد أما ناخد الغياب."


"نوح؟"


"لا، مجبتش سيرة نوح أصلًا! ده معيد تاني، وحتى لو نوح مالك اتخضيتي كده ليه؟"


"أصل... بصراحة في حاجة كده حصلت مقولتلكيش عليها..." همست ميرال بإضطراب وهي تشبك أصابع يدها سويًا لترمقها أفنان بشك وقلق وهي تسألها بتوجس:


"حاجة ليها علاقة بنوح؟ ضايقك ولا أيه؟"


"حاول يكلمني أكتر من مرة... مرة قابلته تحت البيت عندنا والنهاردة جالي عند الشغل ده غير المسدجات اللي كان بيبعتها الفترة اللي فاتت وكنت بمسحها عشان متأثرش أو أحن..."


"الكلام ده حصل أمتى؟ ده أنا الواد ده هخلي اللي ما يشتري يتفرج عليه من اللي هعمله فيه!"


"أهدي يا أفنان لو سمحتِ، الموضوع مش مستاهل كل العصبية دي... أهو عشان كده مكنتش راضية أقولك..."


"مش مستاهل أيه يا ميرال بس ارحميني! البني آدم ده مش بس جرح مشاعرك ده كان هيدمر علاقتي أنا وأنتِ ببعض! كان بيكدب وبيألف مواقف وبيعمل مشاكل بيني أنا وماما وبيني أنا ورحيم! والبيه كان طول الوقت بيقل منك ومحسسك أنه بيعطف عليكي وإنه كويس إنه قبل بيكِ وأنتِ في الآخر تقوليلي مش مستاهل!"


انفعلت أفنان بدون قصد لكن فكرة أن يجرح نوح مشاعر ميرال ويحاول أن يُفسد حياتها مجددًا أمر جعل الغضب يشتعل داخل قلب أفنان، قوست ميرال شفتيها قبل أن تقول بحزن شديد:


"أنا بس مش عايزة مشاكل يا أفنان... يعني ليه الأمور مش بتتاخد ببساطة؟ ليه كل حاجة معقدة ومحتاجة تفكير وجدال ليه الإنسان مش بيقتنع باللي حصل ويسلم أمره لربنا كده ويحاول يكمل حياته بهدوء؟"


"عشان أحنا في العالم الواقعي مش في المدينة الفاضلة، الناس بترفض تتقبل الوضع اللي اتفرض عليها حتى لو هما كانوا السبب فيه من البداية... نوح مش قادر يتقبل فكرة أنه اترفض مني واتساب منك بعدها."


عقبت أفنان على ما قالته بميرال قبل أن تفصل حديثها بإرتشاف كوب المياه الذي أمامها وأخذ نفس عميق ثم تابعت حديثها قائلة:

"نوح فاكر إن كل الناس تحت أمره وكل الناس رهن إشارة منه، هو أتربى على كده زي ما كتير من أمهات بتربي ابنها على إنه ميعبوش حاجة والبنات هتترمى تحت رجليه وهو ميساوش تلاتة قرش أصلًا وحتى لو يسوى فمفيش أي بني آدم الناس كلها هتحبه أو تتقبله بس نوح بقى مش عايز يقتنع بالفكرة دي."


"عندك حق... أنا مشكلتي دلوقتي مش في كل ده، مشكلتي إني كل لما بحس أني اتحسنت وبدأت أنشغل في حاجة تانية غيره بيظهر قدامي فجاءة ويهد كل حاجة أنا بنيتها... عارفة يا أفنان أنا مكنتش مدركة كم الآذى اللي بيسببهولي نوح غير لما بعدت عنه وبقيت شايفة الصورة من برا زيك ولاقيت إن كان عندك حق طول الفترة اللي فاتت أنا بس اللي كنت مُغيبة وساذجة."


"مفيش داعي للكلام ده دلوقتي وبدل ما تلومي نفسك عاللي فات خليكي فخورة بنفسك إنك قدرتي تقاومي مشاعرك وعرفتي تاخدي القرار الصح وفي الوقت المناسب."


قالت أفنان بنبرة لطيفة وهي تحاول تشجيع ميرال ورفع روحها المعنوية لتبتسم ميرال ابتسامة منكسرة صغيرة قبل أن تنبس بالآتي:


"الحمدلله على كل حال، أنا بس عايزاكي تكلمي نوح وتقوليله يبطل يكلمني بس من غير مشاكل يا أفنان من فضلك."


"هو أنا بتاعت مشاكل برضوا؟! عيب عليكي، ها هتعزميني على أكل أيه بقى؟"


سألت أفنان شقيقتها ممازحة إياها لكي تقوم بتلطيف الأجواء قليلًا بينما داخلها كان مشتعلًا من الغيظ بسبب نوح وكذلك كان عقلها منشغلًا فيما عليها فعله لردع نوح عن حماقاته التي يرتكبها تلك.


وبالرغم من أن أفنان لا تطيق وجود أنس بجوارها أو بجوار رحيم لكنها تمنت لو أنه تقدم لخطبة ميرال لكي يستطيع أن يُبرح نوح ضربًا ويمنعه منعًا باتًا من الإقتراب من شقيقتها لكن في النهاية طردت أفنان تلك الفكرة من رأسها فهي ليست بحاجة إلى مساعدة من أحد كي تُنهي ذلك الموضوع فهي وحدها كافية.


بعد مرور يومان من تلك المحادثة بين ميرال وأفنان قابلت أفنان رحيم بعد انتهاء دوامها من الجامعة وقد اتفق معها أن يمر عليها لتناول الغداء سويًا ثم يقوم بإيصالها إلى المنزل قبل أن يعود إلى عمله مجددًا، وبمجرد أن قابلته أفنان وتبادل كلاهما التحية وأثناء جلوسها إلى جانبه في السيارة قررت أن تُفاتحه في الأمر الذي شغل بالها منذ يومان.


"رحيم لو سمحت أنا عايزة أروح أقابل نوح."


"ليه؟ حصل حاجة؟"


"بيضايق ميرال، كل شوية يحاول يكلمها وهي مكنتش بتقولي وبيحاول يرجعلها وقارفها في عيشتها وهي قالتله أكتر من مرة يبعد بس هو برضوا مصمم يحاول!"


"طيب ما تقولي لمامتك أو باباكي وهما يتدخلوا، أو أحذره أنا تتكلمي أنتِ ليه؟"


"محدش بيعرف يتفاهم مع نوح غيري، أنا بعرف أمشي كلمتي عليه وحتى لو الكبار اتدخلوا مش هيسمع كلامهم وأنتَ لو اتدخلت المشكلة هتكبر أكتر."


"مش مقتنع بس ماشي براحتك، بس هاجي معاكي."


"خلاص ماشي اتفقنا."


أردفت أفنان بسعادة وساد الصمت لثوانٍ قبل أن يدنو منها رحيم نظرًا لفارق الطول بينهم ومن ثم يُقبل جبينها بلطف لتضحك أفنان وقد شعرت بوجهها يشتعل من الحُمرة قبل أن تسأله بخجل:


"أيه ده في أيه؟"


"مفيش، مبسوط عشان قولتيلي قبل ما تروحي تكلميه أو تقابليه."


"طبيعي أقولك قبلها مش أنت زوجي قرة عيني؟ وبعدين من آخر مشكلة بينا وأنتَ بقيت بتحكيلي معظم الحاجات اللي بتحصل معاك وبطلت تخبي، فأنا كمان قولت اشتغل على عيوبي عشان تبقى علاقتنا سوية أكتر ولا أيه؟"


"أنا مش مصدق نفسي أني بسمع الكلام الحلو ده، أفي أنتِ عظيمة بجد ومكافأة ليكي عشان الكلام الحلو ده هجبلك كل اللي نفسك فيه النهاردة أي حاجة تخطر على بالك هجبهالك."


أعلن رحيم بسعادة شديدة وهو يقوم بالإستعداد للإنطلاق بالسيارة بينما ظلت أفنان تراقب تحركاته وتعابير وجهه اللطيفة أثناء قيادته.


في مساء اليوم التالي كانت تنتظر أفنان داخل سيارة رحيم أمام منزل خالتها عودة نوح من العمل، كانت أفنان على علم بمواعيد عودته منذ خطبته هو وميرال وبالفعل لم يتأخر عن الموعد المتوقع.


بمجرد أن رأت أفنان سيارته تتقدم نحو منزل خالتها غادرت السيارة، قام نوح بصف سيارته ومن ثم غادرها بهدوء دون أن ينتبه لوجود أفنان ولكنها تحىكت سريعًا بحيث تقف في مواجهته وأمام المدخل مانعه إياه من دخول المنزل وهي تُردف بنبرة حادة وجادة:


"أنت ياض أقسم بالله لو مبعدتش عن أختي هسود عليك عيشتك يا نوح الكلب أنتَ!"


"أفنان! في أيه؟ أنتِ اتجننتي ولا أيه؟! ازاي تتكلمي معايا كده؟ وأيه اللي جابك هنا أصلًا؟"


سأل نوح بدهشة وفزع فهو لم ينتبه لوجودها وقد صُدم كذلك من حدة حديثها وإن كان قد اعتاد عليها في السابق لكن هذه المرة كانت نبرتها تحوي في طياتها غضب حقيقي؛ غضب لم يراه نوح في عيناها من قبل وذلك منطقي تمامًا فالأمر هنا لا يخصها بل يخص شقيقتها الوحيدة، والتي بالرغم من أنها تكبر أفنان إلى أن أفنان دائمًا تشعر بالمسئولية تجاهها وتشعر بأن عليها حمايتها طوال الوقت.


"أنا مش جايه أرغي أنا قولت اللي عندي، وياريت بقى تروح تتعالج عشان أنتِ بني آدم مريض ومفيش واحدة هتبقل بيك عالوضع ده!"


صاحت أفنان في وجهة بنبرة تحذيرية، كانت كلماتها قاسية وإن كانت واقعية تمامًا... كانت تنتظر منه أن يصيح في المقابل أو يقوم بتوبيخها لكن ما فعله عكس ذلك تمامًا حيث طالعها بإنكسار وبأعين مليئة بالحزن قبل أن يُردف بآسى:


"حاضر، حاضر يا أفنان هروح... ممكن تسيبيني اطلع بيتي بقى؟" كان نوح على وشك الصعود ولكن أوقفه صوت أفنان مجددًا وقد كانت نبرتها أكثر هدوءًا هذه المرة وهي تُردف:


"سيبها في حالها يا نوح، كفاية تدمير في حياتها ومشاعرها خليك انسان كويس ولو لمرة واحدة."


"على فكرة أنا اتغيرت صدقيني وأنا مش قصدي أزعل ميرال بس أنتِ السبب يا أفنان! أنتِ جرحتي مشاعري ورفضتيني بطريقة قاسية..."


تفوه نوح بنبرة درامية وملامح حزينة ولكن ذلك كله لم يؤثر على أفنان بل زاد من حنقها، حكت أفنان جبينها بيدها وهي تتأفف قبل أن تُعلق على حديثه بنبرة قاسية:


"بطل الوهم اللي في دماغك ده يا نوح! أنا قولتلك أكتر من مرة بطريقة غير مباشرة ومباشرة وأنتَ مكنتش راضي تتقبل الكلام وبعدين اللي أنتَ بتقوله ده ملهوش لازمة، أنا خلاص اتجوزت وجوزي في العربية مستني إشارة مني لو الكلام ضايقني هينزل والموضوع هيكبر."


"ربنا يخليهولك العيل الطري بتاع مامي وبابي اللي أنتِ متجوزاه ده، ده أنتِ أرجل منه يا أفنان!"


أردف نوح بنبرة ساخرة محاولًا إثارة غضب وغيظ أفنان لكن في الواقع حديثه لم يفعل أي شيء سوى أن يُزيد من حبها لرحيم وزيادة إقتناعها بشخصه فهي لم تُخطئ قط في اختيارها رحيم كشريك حياة بدلًا من الأخرق نوح، ضحكت أفنان ساخرة من ما قاله قبل أن تُعلق أفنان على حديثه بنبرة واثقة:


"أنتَ فاكر أني هتضايق يعني؟ طب ما العيال الطري ده هو الراجل اللي حبيته واللي اخترته، بني آدم محترم وبيحترم مشاعر الناس اللي حواليه وبيتقبل الرفض والنقاش والآراء عادي مش انسان أناني ومتكبر وشايف نفسه أحسن من الناس! وأنا مش أرجل منه ولا حاجة أنا بس بسترجل مع الناس اللي بتتمرقع وبتقل أدبها لكن معاه؛ مع جوزي فأنا بنت عادي ورقيقة وكل حاجة."


بصقت أفنان كلماتها الحادة في وجه نوح والذي سرعان ما اضطربت مشاعره فحديث أفنان كأن أشبه بطعنات الخنجر في قلبه، لم يجد الكلمات المناسبة للرد على ما قالته وساد الصمت لبرهة قبل أن تُكمل أفنان حديثها مُردفة:


"بص عشان منضيعش وقت أنا الكلمتين اللي عندي قولتهم وعلى فكرة ميرال قريب ربنا هيكرمها بإنسان أحسن منك مية مرة وكلنا هنبقى مبسوطين وعايشين حياتنا وأنتَ هتفضل زي ما أنتَ لوحدك."


أغمض نوح عيناه لثوانٍ بعد جملة أفنان الأخيرة لقد كانت كلماتها تلك أقسى كلمات سمعها نوح يومًا، هل حقًا سيظل وحيدًا؟ ألن تقبل به أي فتاة؟ هل هو حقًا مريض ويحتاج إلى العلاج النفسي أم أنها قالت ذلك فقط لتؤلمه؟


تركته أفنان غارقًا في همومه واتجهت نحو السيارة لتدلف إلى داخلها بكل هدوء، رمقها رحيم في فضول وهو ينتظر داخل السيارة... ساد الصمت لبرهة وكاد رحيم أن يسألها عن ما حدث لكن أفنان سبقته وهي تتحدث بنبرة مرحة غير متوقعة قائلة:


"بقولك أيه أنا نفسي في شاورما."


"من عيوني يا أفي اشتريلك المحل كله لو عايزه، عملتي أيه بقى؟ احكيلي."


"يعني مسمعتش صوتي من عندك؟ ده أنا صوتي سمع محافظة الجيزة كلها." علقت أفنان بسخرية شديدة وهي تبتسم ابتسامة جانبية.


"عايز اسمع منك، عايز اتناقش معاكي في اللي قولتيه واللي حصل ولا مش عايزة؟"


سأل رحيم بلطف فهو لا يريد أن يضغط على حبيبته خاصة في مثل هذا الموضوع الحساس ولكن جاءه ردٍ غير متوقع بتاتًا من أفنان حيث طالعته بنظرات جادة قبل أن تُجيب على سؤاله قائلة:


"لا عايزة طبعًا، بس أنا مبعرفش أفكر ولا أتكلم وأنا جعانة."


نظر نحوها رحيم لبرهة بحيرة قبل أن ينفجر ضاحكًا على قوله وهو يهز رأسه للجانبين بينما يهمس:


"أقسم أنكِ لستِ طبيعية يا حبيبتي I swear you're abnormal babee!'."


بعد انتهاء جولة أفنان ورحيم عادت أفنان إلى المنزل وقد غمرتها سعادة كبيرة، دلفت أفنان إلى المنزل لتجد والديها يجلسان على الأريكة بينما يشاهدان أحدى البرامج الإخبارية على التلفاز.


"العواف، وحشتوني أوي حاسه بقالي كتير مش بقعد معاكوا."


"والله؟ لسه فاكرة إن ليكي أم وأب؟ ده أنتِ رحيم شغل وقتك خالص وكل ده ولسه أنتِ معانا في البيت أومال لما تروحي بيتك مش هتسألي فينا؟"


"يااه يا رانيا أنتِ شايله كل ده في قلبك وساكتة؟ أيه يا ماما الأوفر ده؟ ما أنا وشي في وشك طول اليوم عالعموم حقك عليا ياستي وجبتلكوا عشاء معايا كمان متقوميش تعملي حاجة."


"شكرًا يا ستي، خشي شوفي أختك من ساعة ما جت من الشغل وهي قاعدة لوحدها."


"استر يارب." نبست أفنان وهي تنزع وشاح رأسها بينما تتوجه نحو غرفتها هي وميرال، طرقت باب الغرفة بهدوء لكن لم تجد إجابة لذا قررت إقتحام الغرفة وهي تقوم بفتح الباب بقوة لتنتفض ميرال من مجلسها.


"في حد يخش على حد كده؟"


"ما أنا بخبط وأنتِ مش بتردي، مشغولة في أيه بقى؟ فرجيني." سألت أفنان بفضول وهي تحاول جذب هاتف  ميرال متعمدة إثارة غيظها لتبتعد الأخيرة عنها وهي تقول:


"ها؟ أوعي سيبي الموبايل... مفيش حاجة، ده أنا كنت بتطمن على أنس عادي يعني."


"هو مش أنتِ كنتِ قايلة إنك هتبطلي كلام مع أنس؟ ليه جيتي جري أول لما عرفتي أنه تعب؟ وليه بتطمني عليه دلوقتي؟"


سألت أفنان بنبرة هادئة ولكن جادة وهي تجلس أمام ميرال لتضطرب معالم الأخيرة وتحاول إجابتها لكن الكلمات لم تُسعفها فأخذت تُلعثم قائلة:


"أصل... يعني قولت من الأصول... هو أنتِ بتحققي معايا يا أفنان ولا أيه؟ من أمتى وأحنا في بينا كده؟"


كانت نبرة ميرال هجومية بعض الشيء في نهاية حديثها لكن أفنان تفهمت اندفاع شقيقتها لذا أمسكت بيدها بحنان وهي تنظر إلى داخل عيناها بينما تقول بصدق ولُطف لم تعهده ميرال منها: 


"أنا مش قصدي يا ميرال والله... حقك عليا، أنا بس مش عايزاكي تغلطي نفس غلطتي تعلقي نفسك بواحد بصورة غير رسمية وتفضلي مخبية على بابا وماما وتبقي بتعملي حاجة غلط وحرام... أنا مش شيخة ولا أحسن واحدة في الدنيا بالعكس أنا بغلط كتير وأنا آخر واحدة تتكلم عن الموضوع ده بس عشان أنا بحبك وخايفة عليكي مش عايزاكي تعملي نفس عملتي."


"طب... أعمل أيه دلوقتي؟" سألت ميرال بحيرة شديدة  لتأخذ أفنان نفس عميق وتُفكر لبرهة قبل أن تُجيب على سؤالها بإجابة مقنعة مُردفة:


"حاولي متتكلميش معاه خالص ولو حاول يكلمك قوليلي أنا هقول لرحيم يتكلم معاه، افتكري يا مرمر إن 'من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه'، والعوض ده أشكاله كتير يعني مثلًا ممكن أنس يطلع انسان كويس فيجي يطلبك على سنة الله ورسوله أو ربنا يرزقك بواحد أحسن منه أو ممكن ربنا يكرمك في حاجة تانية غير موضوع الجواز أصلًا... بصي أنا نصحتك وأنتِ فكري وأعملي اللي يريحك."


"شكرًا يا أفنان، شكرًا إنك موجودة... أنا بحبك أوي بجد..."  قالت ميرال وهي تنقض على أفنان لتعانقها عناق قوي ومن ثم تُمسك بهاتفها وتحذف محادثتها هي وأنس دون أن تقرأ رسالته الأخيرة...


_________________________________


(تذكره: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات، ورب الأرض ورب العرش الكريم، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني ككل.)


تكملة الرواية من هنااااااا


لمتابعة  باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله اضغط من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا


تعليقات

التنقل السريع