رواية غرام الذئاب الفصل الاول والثاني والثالث بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
رواية غرام الذئاب الفصل الاول والثاني والثالث بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
༺الفصل الأول༻
غرام الذئاب
بقلم ولاء رفعت
~ما بين الحب والفراق~
ما بين الحب و الفراق هناك وعد ووفاء... توالت السنوات بيننا و خوضنا معارك مع الحياة... كدت أفلت يدي من قبضتك فكان ذراعك الذي أحاط جسدي هو طوق النجاة... يا مَنْ سكن عشقك صدري لن تجد وطنا سوي فؤادي... أهلكت حصوني حتي اذاب صهر عذابك قراميدها... رفعت رايتي البيضاء واستسلمت... و ها أنا للتو في حرم سلطانك أقدم لك فروض الطاعة والولاء.
استيقظت للتو من النوم وتبحث بجوارها عنه ولم تجده مثل الأمس، فكما أخبرها في اتصال هاتفي لديه رحلة عمل في دولة مجاورة و عليه الحضور للأهمية و سوف يأتي اليوم، و من المفترض سيأتي إليها لدي الشركة خاصتها، نهضت علي الفور بنشاط و حيوية، ولجت إلي داخل المرحاض وفي دقائق انتهت من رويتنها اليومي.
قامت بإجراء اتصال هاتفي وانتظرت ريثما يجيب، لكن لا إجابة، كررت الاتصال وتلقت عدم الرد مرة أخري، زفرت باستياء لأنه تريد أن تخبره اليوم هو افتتاح شركة تصميم الأزياء.
ذهبت سريعاً إلي غرفة الثياب وأخذت تبحث عن الثوب الذي أعددته مسبقاً، كان ثوب باللون الأحمر القرمزي مثل لون التوت، أخذته وقامت بخلع المشجب الخشبي منه ثم شرعت بارتدائه، ألقت نظرة علي نفسها أمام المرآة، كان ثوب بأكمام تصل إلي الرسغين و ذو فتحة رقبة مفتوحة علي شكل مثلث مقلوب، ضيق من الصدر و يتسع من الخصر، يصل إلي أسفل ركبتيها، لقد صُمم خصيصاً لها من قبل أمهر مصممات الأزياء التي تعاقد معها زوجها و جلبها لها خصيصاً من باريس.
وقفت أمام مرآة الزينة وأخذت تصفف شعرها ثم وضعت لمسات من المستحضرات التجميل لا سيما قلم الحمرة التي برزت جمال شفتيها، والخط الأسود الرفيع علي حافة جفنيها، فبدت كملكة جمال حقبة الستينات، أكمل هذه الهيئة حذاء أسود ذو كعب مرتفع.
انتبهت إلي طرق الباب، رفعت رأسها وقالت:
"اتفضلي يا داده زينات"
ولجت الأخرى فأردفت صبا تسألها:
"مالك و زينب فين؟"
"فطروا و قعدوا يلعبوا في الجنينة و بعد كدة طلعوا علي أوضتهم مالك بيلعب بلايستيشن وزوزو نامت"
نهضت و اتجهت إلي غرفة الثياب مرة أخري باحثة عن حقيبة يدها:
"بالله عليكي يا داده خدي بالك منهم لحد ما أرجع، و أدعي لي إن اليوم يعدي علي خير"
رفعت الأخرى كفيها في وضع الدعاء:
"يارب يا صبا يا بنت إيمان شركتك تنجح و تبقي أكبر دار أزياء في العالم"
رددت عقبها:
"يارب"
التقطت الحقيبة وأخذت تضع بداخلها متعلقاتها، اقتربت منها زينات تربت عليها بحنان:
"أطمني علي عيالك دول ولادي و في عينيا، تروحي وترجعي أنتي و أبوهم بالسلامة"
ننتقل إلي حفل الافتتاح حيث بهو الشركة المزين بالبالونات ذات اللون الأحمر و أخري أسود، و زينة ذهبية و بالونات مثلها علي هيئة حروف تشكل اسم الشركة "Seba Group"
كان أغلب الحضور من النساء وسيدات المجتمع، أتوا جميعهن لحضور هذا الافتتاح المهيب و رؤية العرض الأول للأزياء التي صممت علي يد مصممة فرنسية شهيرة.
كان من بين الحضور و قمن بمشاركتها لحظة نجاحها كلا من كارين و علياء زوجات أشقاء زوجها، و كذلك شقيقته الصغرى ملك، بينما خديجة اعتذرت عن الحضور من أجل حالتها المرضية أثر عملية استئصال المرارة.
نعود للأجواء مرة أخري فالحفل منظماً و رائعاً، يتراص المصورون و الصحفيون علي جانبي ممشي العرض يلتقطون صور العارضات، بينما هي تقف داخل مكتبها تشعر بالقلق علي زوجها الذي لم يجب علي اتصالاتها، فهو قد أخبرها بالأمس في الهاتف إنه سيأتي ليشاركها تلك اللحظة، زفرت بسأم فانتفضت عندما قامت إحداهن بالنداء عليها:
"مدام صبا؟"
ألتفت إليها:
"نعم"
أخبرتها مساعدتها:
"أتفضلي حضرتك علي الـ carpet، الناس برة مستنياكي"
أومأت لها وقالت:
"حاضر، أنا جاية"
تركت هاتفها أعلي المكتب بعد أن شعرت بالسأم، ودت لو حضر الآن قبل أن تصعد علي المنصة و تلقي خطاب الترحيب بالحضور.
و في الخارج عندما ظهرت سقف لها الجميع، رفعت كارين يديها لها بتشجيع و برزت إصبعها الإبهام كدلالة علي إعجابها و انبهارها بإنجازاتها، ابتسمت إليها بامتنان و هزت رأسها قائلة:
"شكراً ليكم، شكراً علي تلبية الـ invitation"
ابتلعت ريقها بتوتر ثم تابعت:
"يارب يكون الـ show عاجبكم...
ظلت تتحدث وبداخلها خليط من التوتر والسأم، لأول وهلة تشعر إنها وحيدة من دون وجوده معها في هذه اللحظة، فهو الداعم والمشجع لها كما وعدها عندما قام بالتصالح معها في اليخت.
ها قد قاربت علي الانتهاء من حديثها:
"و في النهاية أشكر زوجي وأبو أولادي علي دعمه ليا، و أهديه كل نجاح هاحققه إن شاءالله"
تعالي السقف وتردد في الأرجاء، لم تتحمل الوقوف أكثر من ذلك فأومأت لهم بشكرٍ ثم ذهبت سريعاً إلي الداخل متجهة نحو غرفة مكتبها و دبيب قلبها يسبق خطواتها.
فتحت الباب وتعجبت من الظلام، فهي قد تركت الغرفة مضيئة، أخذت تبحث عن زر الإضاءة فانتفضت فجأة عندما أُغلقَ الباب، شهقت بخوف والتفتت، كادت تخطو نحو الباب فاصطدمت بجسد هذا المنتظر والمشتاق إليها، أطمئن فؤادها حينما قال لها بصوته الأجش:
"كل سنة و أنتي معايا"
اشتعلت المصابيح والتي تتنوع ما بين اللون الأحمر والأصفر الذهبي، أخذت تنظر من حولها و عيناها تنضح بعدة أسئلة، و بفطنته علم دون أن تنطق بها، حاوط خصرها بيديه قائلاً:
"أنا لسه واصل من عشر دقايق، أول ما أنتي خرجتي من المكتب، و أنا اللي زينت المكتب بنفسي"
أشار إليها نحو البالونات الطائرة في الهواء، أخرج هاتفه و ضغط علي مشغل الموسيقي، بدأت معزوفة رومانسية في العمل، استدار بزاوية و حمل بين يديه صندوقاً مغلف بالمخمل الأحمر و مزدان بشريط من الحرير الأسود، وضعت كفها علي شفتيها بسعادة تغمرها
"أنا لو جيبت لك كل كنوز الدنيا بين إيديكي، برضو هيبقي قليل عليكي"
حدقت إليه بنظرة تفيض من الحب والشوق الكثير والكثير، أخذت الصندوق من يديه وقالت:
"بصراحة خوفت لتنسي حفلة الإفتتاح و ماتجيش، كنت مستنياك"
ابتسم بحب ووداعة يخبرها بكل ما يكنه لها من العشق:
"عمري ما أنسي أي حاجة تخصك، و زي ما أنتي عارفة أنتي هنا و هنا ديماً"
أشار إلي قلبه ثم إلي رأسه، تركت الصندوق أعلي المكتب و ألقت بجسدها بين ذراعيه تعانقه بقوة، تستنشق رائحة عطره بقوة، تقترب بشفتيها نحو أذنه لتهمس إليه بعشق واشتياق:
"واحشني"
وقامت بطبع شفتيها علي عنقه نتج عنها إضرام نيران قد اشتعلت للتو في جسده، و ما هي سوي نيران الشوق والولع، وضع كفه علي خدها يداعب بشرتها الملساء، و عيناه تنضح بكل ما يشعر به في تلك اللحظة الحالمة:
"مش أكتر من شوقي ليكي"
أختتم جملته بقبلة يسبقها الهدوء ما قبل العاصفة، ألتهم شفتيها بنهم معانقاً إياها بقوة وكأنه سيفقدها إذا ابتعدت.
همهمت بصوت لم يتمكن من الخروج من شفتيها الأسيرة بين خاصته، أبتعد بلهاث ينظر إليها يسألها:
"فيه إيه؟"
ابتسمت وأشارت إليه بعينيها نحو الباب قائلة:
"ممكن حد يدخل علينا دلوقت"
ذهب نحو الباب وقام بوصده بالقفل الداخلي ثم عاد إليها و يخلع سترته فامتدت يده إلي ربطة العنق ليقوم بفكها:
"أطمني قايل للـ security يقف علي أول المدخل اللي برة و ممنوع حد يعدي حتي من قدام المكتب"
ارتفع حاجبيها وسألته بتعجب وسعادة في آن واحد:
"أنت ناويها بقي؟"
ألقي الربطة فوق المكتب وكاد يفك أزرار قميصه:
"بحتفل بشغل مراتي بس علي طريقتي"
غمز بعينه، سبقت يديها يديه نحو أول زر في قميصه قائلة بدلال جعل خلايا جسده تحترق عشقاً:
"تسمح لي أشاركك في الاحتفال"
بدأ احتفال الملك وزوجته علي أضواء الحب المتوهجة مثل قلوبهم المتقدة بنيران العشق الأسر، يطوقها بذراعيه و أنطلق بها في رحلة ذهاب أعلي غيوم العشق الوردية بينما العودة من الرحلة ستكون آمنة علي أرض الوطن، فموطنها صدره الحنون الذي يحتويها دائماً في كل اللحظات لديها، الحزن قبل الفرح، فهو شريك كل لحظة فرح و أمل و نجاح معها بل هو شريك عمرها، و هي لديه كما وشمَ أعلي صدره _ صبا القلب والروح _.
❈-❈-❈
و في الخارج تجلس لوچي تنظر إلي شاشة الهاتف كل فينة والأخرى حتي انتبهت إليها علياء
"فيه حاجة يا لوچي؟"
ابتسمت الأخرى بتوتر وأجابت باستنكار
"لاء يا لولو، مفيش قصدي يعني كنت مستنية واحدة صاحبتي هتعدي عليا عشان رايحين نزور واحدة صاحبتنا تعبانة بقالها كام يوم"
"طيب ليه مقولتيش كنت روحت أنا و أنتي و زورنا صاحبتك قبل ما نيجي علي هنا"
ابتلعت لعابها و مازالت ترسم البسمة علي شفتيها لتخفي توترها الناتج عن الكذب
"مفيش داعي أتعبك معايا، هي ساعة زمن و هاروح علي القصر علي طول، خليكي هنا مع unte كارين وصبا، و لو في أي حاجة هاتصل عليكي، Don't worry "
أومأت إليها زوجة ابيها و ابتسمت
"روحي و ما تتأخريش"
نهضت من جوارها و دنت منها لتعطيها قبلة علي وجنتها ثم ذهبت مسرعة إلي الخارج، غادرت الشركة و المكان بأكمله وقامت بالاتصال علي الذي ينتظرها، وضعت الهاتف علي أذنها و تسير دون انتباه، و إذا بيد تجذبها نحو مكان هادئ بعيد عن الأنظار، شهقت حينما نظرت إليه
"عمر؟"
"قلبه، كل ده عشان أشوفك؟!"
ابتسمت بخجل و تجذب ذراعها من قبضته الحانية، تتهرب من نظراته المصوبة نحو عينيها، يكفي قربه المهلك هذا.
"مكنش هاينفع أخرج غير لما يخلص الديفليه، unte صبا كانت هاتزعل مني"
رفع يده وأخذ يلمس خصلات شعرها المحيطة بوجهها
"أنا اللي كنت هازعل لو مكنتش شوفتك، أنتي وحشاني أوي أوي"
أبعدت يده عن خصلاتها
"عمر please، ما بحبش الحركات دي"
ابتسم و رفع كفيه
"أنا كنت بس بزيح شعرك عشان بيداري عني القمر اللي أنا شايفه قدامي"
نظرت إلي أسفل بخجل و تخضبت وجنتيها بالحمرة، اطلق ضحكة علي هيئتها
"ده أنا شكلي مش هابطل غزل فيكي عشان اشوف خدودك الحلويين دول"
"بس بقي يا عمر"
غمز بعينه وأومأ
"حاضر، يلا بينا بقي عشان نلحق نستمتع بالساعتين اللي هانخرج فيهم مع بعض"
رفعت وجهها و رمقت باستفهام
"ساعتين إيه؟، هي ساعة واحدة بس و لا دقيقة زيادة"
"طب يلا بينا عشان الساعة خلصناها و احنا واقفين و كمان محضرلك مفاجأة"
مد يده لها لتمسك بها لكن نظرت إليه ثم ليده فتقدمت نحو الإمام، هز رأسه
"ماشي هعديهالك المرة دي"
اتجه نحو سيارة سوداء، فتح الباب الأمامي وولجت إلي الداخل، أغلق الباب و ألتف إلي الجهة الأخرى حيث مقعد القيادة، جلس ثم انطلق بالسيارة ذات المظهر الفاره.
بعد قطع مسافة ليست ببعيدة صف السيارة أمام مرسي علي ضفة نهر النيل
"إحنا وقفنا هنا ليه؟"
"عايز أقضي وقتنا زي ما بتمني، مركب بشراع و أنا و أنتي والهوا و الميه"
انتهي من حديثه و ظل يحدق إليها، ابتسمت و تجلت السعادة علي وجهها
"هاتفضل باصص لي كده كتير؟"
"بملي عيني منك قبل ما الوقت يسرقنا"
نظرت إلي الجهة الأخرى بخجل فاردف
"رجعنا نحمر تاني"
و اطلق ضحكة اثارت حنقها فالتفت إليه ولكزته في كتفه، هبط كليهما من السيارة و سارت معه نحو المرسى، كان بانتظارهما صاحب المركب الشراعية، صعدت داخلها و تبعها، هيهات و أخذت المركب تبحر، كانت تشعر بالخوف فطمئنها حينما جلس جوارها و تشبثت بذراعه و تتلفت من حولها تخشي منظر مياه النيل الأزرق القاتم وانعكاس أشعة شمس العصر تجعلها تتلألأ كالزجاج.
رست المركب علي شاطئ في الضفة الأخرى
"عمر، احنا ما رجعناش ليه مكان ما ركبنا؟"
سألته وتنظر من حولها بقلق، أجاب ممسكاً بيدها لبث الطمأنينة إليها
"ما هي دي المفاجأة، حبيت أفرجك علي أحسن مكان برتاح فيه نفسياً، فيا سلام بقي لو المكان ده معايا فيه البنت اللي بحبها"
هبط من المركب و مد يده إليها لتستند عليها و تهبط هي الأخرى، أخرج من جيبه شريط من القماش
"ممكن تثبتي مكانك و تغمضي عينيكي؟"
"هاتعمل إيه؟"
"إيه يا لولو، بالتأكيد مش هخطفك هغمي عينيكي بس، من باب التشويق يعني للمفاجأة"
اغمضت عينيها
"أوك"
وضع الشريط علي عينيها وأمسك بيديها فسار بها نحو كوخ متطرف بين الزرع الكثيف، كل خطوة يتبعها قلق يداهم قلبها
"وصلنا؟"
"اه خلاص وصلنا، خطوتين كمان و هاشيل الشريطة وتقدري تفتحي عينيكي"
شعرت بقدميه قد توقفت ووقف خلفها ليزيح العُصابة من عينيها
"تقدري تفتحي عينيكي"
بدأت تفرج جفونها فبدأت الصورة ضبابية قليلاً حتي اتضحت الرؤية و رأت كوخاً خشبياً قد جاء من كتب أساطير العشاق، مبني من الخشب الأبيض المطلي حديثاً و يزينه بالونات حمراء اللون، موضوع أمام الباب باقة كبيرة من زهور الجوري الحمراء و جوارها صندوق هدايا أسود مُزدان بشرائط من الحرير الأحمر، لا تنكر مدى سعادتها عندما رأت هذا المنظر الذي اختطف قلبها من أول وهلة، لكن هناك ما يقلقها أو أثار الشك والريبة داخلها، تراجعت خطوة إلي الوراء و كانت علي وشك الرحيل
"أنا عايزة أمشي من هنا"
قاطع طريقها واقفاً أمامها
"رايحة فين، استني هنا أنتي فاهمة غلط"
"جايبني في مكان غريب و بعيد، و شايفه قدامي كوخ عايزني افهم إيه؟، أنا وافقت أخرج معاك اه، بس أي حاجة في دماغك انساها"
كاد يمسك يدها فأبعدت يده
"ما تلمسنيش"
رفع يديه في وضع الاستسلام
"حاضر مش هلمسك، بس أنا مش في دماغي أي حاجة خالص، أنا حبيت أجيبك المكان ده لأن بحبه أو لما بكون مخنوق باجي ارتاح فيه، و أنا مش برتاح غير في وجودك"
تنظر إليه في محاولة تصديق كلماته
"أنا عارف أنك خايفة و قلقانة بس أنا أحب اطمنك عمري ما هأذيكي، بالعكس أنا جايبك في أكتر مكان أمان، عايزك تثقي فيا"
أطلقت زفرة وأخبرته
"أوك، بس مش هانقعد كتير، شوية و هانمشي"
"حاضر، أهم حاجة تكوني مطمنة"
اتجه إلي باقة الزهور و الصندوق و حمل كليهما، مد يده بالباقة إليها
"كل عيد حب و أنتي معايا"
أخذت الباقة وابتسمت
"و أنت طيب"
"اتفضلي أفتحي الصندوق"
قام بإمساك الصندوق بكلا يديه، قامت بفتحه ظهر لها داخل الصندوق كم من الحلوى و الشوكولا، صاحت بفرح
"واو، الحلويات و الشوكليت اللي بحبها"
"و كل الأنواع المفضلة ليكي"
مدت يدها لتأخذ قطعة فأوقفها
"مفيش حلويات قبل الأكل، ده أنا مجهزلك أكلتك المفضلة"
ولج سوياً داخل الكوخ، فكان الداخل أروع من الخارج، الأرض مغطاة بأوراق الزهور، كاد يغلق الباب خلفهما أوقفته علي الفور
"لاء، سيبه مفتوح"
"سواء مفتوح أو مقفول مش فارقة، مفيش حد غيرنا في المكان، عموماً هاسيبه مفتوح عشان تكوني مطمنة"
ولج إلي الداخل، تركها تقف في وسط الردهة
"خدي راحتك، هادخل اعملنا أكلة حلوة عشان واقع من الجوع"
"كنا أتغدينا في أي مطعم أحسن"
جاء صوته إليها من داخل المطبخ
"لاء أنا هعملك أكلة عمايل إيديا و لا أجدعها شيف فيكي يا مصر، واثق إنها هاتعجبك"
"لما نشوف"
قالتها وكانت تتجول داخل الكوخ حتي انتبهت إلي وميض هاتفه، سيطر عليها الفضول فاقتربت من الهاتف ونظرت إلي الشاشة فوجدت اتصالا وارداً باسم «سارة»، انتابتها مشاعر الغيرة ولم تشعر بحالها سوي و هي تضغط علي قبول وتضع الهاتف علي أذنها، سمعت صوتاً أنثوياً
"ألو يا مازن، أنت فين؟"
شهقت بفزع عندما اختطف منها الهاتف وأغلق المكالمة سريعاً بل أطفأ الهاتف ذاته
عبست و سألته بعدم استفهام
"مين سارة و بتقولك يا مازن ليه؟"
ألقي هاتفه داخل جيب بنطاله و أخفي توتره
"دي أختي و بتحب تناديني مازن"
"لو هي أختك مش بترد عليها ليه؟"
"هاكلمها بعدين"
و إذا يجذبها علي حين غرة
"تعاليلي هنا بقي، إحنا فينا من أولها مين دي و تفتشي الفون؟"
"ياريت تجاوب علي سؤالي"
"ما أنا جاوبتك، مش مصدقة إنها أختي، ممكن أتصلك عليها حالاً و أعمل speaker عشان تسمعي بنفسك"
بدي علي وجهها الراحة بعد أن استشعرت صدق ما يخبرها إياه
"مفيش داعي تعمل كدة، دي حياتك و أنت حر فيها"
التقطت حقيبة اليد خاصتها و كادت تذهب، امسك رسغها و منعها من ما هي مقبلة عليه
"لوچي"
تنهدت ثم حدقت إليه
"نعم؟"
"أنا مش خاين، و لا عمري هاخونك، لأن أنا من أول مرة شوفتك فيها حاجة شدتني ليكي، والانجذاب اتحول لحب، و اللي بيحب حقيقي عمره ما بيخون اللي بيحبه"
اقترب منها فلا مفر لها، خلفها الحائط الخشبي وأمامها هو، يحاصرها بأنفاسه و بكلماته التي طرقت علي باب فؤادها فانفتح علي مصرعيه، ابتلعت لعابها وصوت النبض يدق كالناقوس داخل مسامعها، اغمضت عينيها وتخبره بشق الأنفس وهي تخشى أن يرى ضعفها
"عمر، please ابعد"
"و لو ما بعدتش؟، هاتعملي إيه؟"
استند بيديه علي الجدار حيث احاط بها من كلا الجانبين، كانت بين قاب قوسين و شفتيه علي مقربة شديدة تفرقت عندما تابع
"هقولك أنا"
لم يعط لها فرصة للاعتراض وباغتها بقبلة يتخللها عناق، قاومت قليلاً و هيهات وأصبحت المقاومة في مهب الريح!
❈-❈-❈
تمسك بيد صغيرها وتقف أمام منزل في حي هادئ، تنتظر هذا الشيخ الكبير يفتح البوابة الحديدية الصدأة والتي اصدرت صوت اصطكاك مزعج
"اتفضلي يا ست أم حمزة، و خدي دول نسختين مفاتيح واحد للشقة وواحد للبوابة، مفيش حد غيرك هايسكن هنا، و لو محتاجة أي حاجة رقمي معاكي، كلميني علي طول"
"تسلم يا حج"
و ربت علي رأس ابنها بحنان
"وأنت يا حمزة خد بالك من ماما"
ابتسم إليه ببراءة وردد بطريقة حديثه الخاصة
"حمزة بيحب ماما أوي"
بادله العجوز الابتسامة وعقب
"ربنا يباركلك فيه، هستأذن أنا بقي"
ولجت داخل الفناء ثم فتحت باب المنزل، أخذت تنظر من حولها، ها قد عادت إلي الفرار والوحدة من جديد، كانت لا تريد فعل ذلك بعد أن حيا قلبها بعشقه و أصبح الحب بينهما قولاً و فعلاً، لكن ما حدث ذلك اليوم التي أصبحت فيه ملكه قلباً و قالباً جعلها تراجعت آلاف الخطوات إلي الوراء.....
«حدث سابقاً»
لم يشعر كليهما بصوت مقبض باب الغرفة، يتحرك ببطيء فانفتح الباب و ظهرت قدمان ترتدي صاحبتها حذاء أسود ذو كعب مرتفع، تسمرت في مكانها عندما رأت ابنها غارقاً في بحور عشق الخادمة التي انجبت من شقيقه سِفاحاً وقام زوجها بتصحيح هذا الوضع و جعلها زوجة ابنه الذي كان قد توفى، و كل ذلك تم عبر الأوراق الرسمية ليصبح ابن ولده حفيده الشرعي و قبل وفاته قام بكتابة كل أملاكه باسم الحفيد، لم يكن يعلم حينها أن تلك الأفعى الشيطانة زوجته و أم ولديه لن تظل مكتوفة الأيدي، قامت بالتخطيط كلاعب الشطرنج، تراهن علي الفوز بتحريك الحصان، و كانت لا تدري أن هذا الحصان سيقع في عشق أنثاه و يحميها من بطشها بل ويخبئها في مأمن بعيداً عن أذرع شرها، و بذلك سيضرب كل ما خططت إليه في عرض كل الجدران التي ظلت حبيسة داخلها لأيام قبل أن تعلم بعنوان هذا المنزل من أحد رجالها المخلصين.
أبيضت مفاصل أنامل يدها التي تمسك بمقبض الباب، صاحت و كأن تمسك نجلها بالجرم المشهود مع زوجته!!
"أحمد؟"
انتفض كليهما و ردد ابنها
"ماما!"
حدقت نحوهما بازدراء وباقتضاب أمرته
"ألبس هدومك، هستناك في الـ living room "
خرجت وأغلقت الباب خلفها بعنف، بينما هو ألتفت إلي علا التي كانت في موقف لا تُحسد عليه، أمسك يدها وشعر بالرجفة التي تسري في جسدها
"مش عايزك تخافي من أي حد و لا من أي حاجة طول ما أنا معاكي"
نظرت إليه بعينين يغلب عليهما الخوف والتوتر
وكان لسانها يعجز عن الرد اكتفت بهز رأسها فأكمل ويحيط وجهها بين كفيه
"خليكي هنا لحد ما أجيلك"
و اقترب بشفتيه نحو جبهتها فقام بتقبيلها ثم ابتعد رويداً فنهض، و في الخارج تقف في منتصف الردهة تعقد ما بين حاجبيها، تتأمل صورة ولدها المعلقة علي الحائط، تحدق بتحديٍ سافر و يدور في رأسها ألف وعيد حتي انتبهت مسامعها إلي صوت خطواته بالقرب منها
"مش هسألك عرفتي منين مكان شقتي، بس ممكن اعرف إيه سبب زيارتك المفاجأة؟"
أطلقت زفرة ودون أن تكلف نفسها عناء الالتفات له فأجابت ومازالت موليه ظهرها إليه
"جيت عشان أشوف خيبتك للمرة التانية، و أشوف بعيني و أنت في حضن البت الخدامة اللي قدرت تضحك علي أخوك و بعدها أبوك و للأسف قدرت توقعك أنت كمان"
كان يستمع إليها و يجز علي أسنانه فعقب قائلاً
"أولاً هي ليها اسم و ثانياً مفيش داعي لكلامك اللي أنا و أنتي عارفين كويس حقيقة اللي حصل، إما ثالثاً و أخيراً علا تبقي مراتي علي سنة الله و رسوله، و اللي شوفتيه جوه ده شيء طبيعي ما بين أي راجل ومراته"
وإذا بها تتلفت فجأة وصاحت برفض
"أنا ما بتكلمش علي اللي كنت بتهببه معاها، أنت فاهم قصدي كويس، أنا عارفة من أول يوم لما جبناها هي وابنها علي الفيلا أنت أول ما شوفتها دخلت دماغك وعاجبتك، و لما اتفقت معاك تتجوزها عشان نخلص من الكارثة اللي باباك عملها فينا و تبقي تحت عيننا هي و ابن أخوك، طبعاً قلبك الحنين وقع في حبها وقدرت تقنعك أنك تسيب الفيلا، أنا عديتلك كتير قبل كدة لكن المرة دي مش هاسكت"
يقسم داخله أنه يرى في عينيها شر يتطاير، خفق قلبه وجلاً علي زوجته فتعمد قول ذلك عله يتقي شر والدته لكن هناك من فتحت باب الغرفة قليلاً بعد أن انتهت من ارتداء ثوب محتشم، سمعت قوله الزائف
"و ليه ما تقوليش إن أنا حبيت أثبتلها حبي ليها عشان تثق فيا و أعرف أنفذ اتفاقي أنا و أنتي"
اقتربت منه ووضعت يدها علي كتفه
"أنت بتضحك عليا و لا علي نفسك؟!، و لا تكون فاكرني عيلة صغيرة هاتصدق الكلمتين اللي قولتهم!، عيب لما تكذب علي شيري الشريف اللي ربيتك و علمتك أصول اللعب"
حاول بكامل طاقته أن يظهر لها صدقه
"ما هو التلميذ بيتفوق علي استاذه، وأنا ما بكذبش عليكي، كل اللي طالبه منك شوية وقت و كل حاجة هتم زي ما أنتي عايزة"
رفعت احدى حاجبيها
"هحاول أصدقك، بس لو طلعت بتستغفلني يا أحمد، ما تزعلش من اللي هاعمله، ساعتها مش هتلوم غير نفسك"
ابتسامة لم تصل إلي عينيه ونظرة وعد زائف
"اطمني، قريب أوي كل حاجة هاترجع لنا"
و لدي علا بعد سماعها كل ما قيل شعرت بغصة بل بزلزال قام بهدم كل ما شيده زوجها من آمال ووعود أعطاها إياها، تردد و عينيها قد بدأت الدموع بالتجمع داخلها
"لاء، لاء، ده أكيد بيكذب، مستحيل يكون بيخدعني، هو بيحبني فعلاً، و جابني هنا أنا و ابني عشان يبعدني عن شر مامته"
وقفت أمام مرآة الزينة وكأنها تتحدث مع شخص آخر
"و إفرضي بيخدعك و كل وعوده ليكي مجرد وهم، هاتعملي إيه؟!"
هزت رأسها تحاول رفض استيعاب و إدراك ما قد سمعته فاستسلمت إلي حالة البكاء التي انتابتها للتو، أخذت تبكي حتي رأت المقبض يتحرك ويُفتح الباب، قامت بمسح دموعها سريعاً و تظاهرت بعدم معرفتها أو أنها قد سمعت الحوار الذي دار بينه و بين والدته
اقترب منها و جثى علي ركبتيه أمامها، يمسك بكلتا يديها
"اطمني يا حبيبتي، هي جت عشان تعرفني أن أنا مهما أخدتك و هربنا علي أي مكان، هاتقدر توصل لنا"
كانت تنظر صوب عينيه لعلها تصدق هذا الصوت الذي داخلها يخبرها بأنه يحبها حقاً و ربما ما قاله كذباً وذلك من أجل حمايتها من شر والدته
"مالك بتبصي لي كدة ليه؟"
صمتها أثار الريب داخله فأدرك علي الفور سماعها لما قاله منذ قليل، تنهد وأخبرها
"ما تصدقيش أي كلمة قولتها ليها، كان لازم أكذب عليها عشان أحميكي أنتي و حمزة، مكنش ينفع أقف قصادها و اتحداها و أنا معرفش هي ممكن بتفكر أو ممكن تعمل إيه، وللأسف هي في الأول و الأخر أمي"
سحبت يديها من خاصته و نهضت متجهة نحو النافذة، تتجنب النظر إليه مباشرة وتخبره
"و جايز جداً كل اللي قولته ليها صح، و أنك فعلاً أوهمتني بالحب و خلتني أصدقك عشان أديلك الثقة و الأمان، منها أكون أنا و ابني تحت إيدك و سيطرتك أنت و مامتك"
ألتفت إليه وابتلعت غصتها واستطردت حديثها الذي ألم قلبها قبل أن تلقيه علي أذنيه
"و منها تنول مُرادك مني تحت مسمي الجواز"
غر فاه بصدمة
"أنتي بتقولي إيه؟"
تقدم نحوها ووقف أمامها وجهاً إلي وجه
"معقول أنتي شيفاني واحد وسخ أوي كدة؟!"
عقدت ساعديها أمام صدرها و تظاهرت بالتماسك أمامه
"أومال اتجوزتني ليه، قصدي أجبرتوني أنت و مامتك تحت الضغط و التهديد بأنكم يا أقبل الجواز منك يا تاخدوا مني ابني"
"أنا اتجوزتك عشان بحبك، و كل كلمة ووعد قولتهولك بجد، مش بكذب عليكي"
كادت تبتعد من أمامه أوقفها ممسكاً بيدها
"أقفي و بصيلي و أنا بكلمك، أنا هعذرك عشان لسه ما تعرفنيش كويس، و أنا هاثبتلك مع الأيام إن أنا ما بكذبش عليكي"
"و أنا كل اللي عايزاه إن أنا و ابني نعيش في سلام، بعيد عن جو المؤامرات و الكذب، وواضح أن شيري هانم مش هاتسيبك تكمل معايا و هتأذيني أو تأذي ابني عشان شوية فلوس و أملاك أنا أصلاً مش عايزة منهم أي حاجة"
تجمعت العبرات في عينيها مجدداً و أكملت بنبرة وشيكة علي البكاء
"أنا مش عايزة أتوجع تاني، و لو اضطر الأمر اختار ما بين ابني و ما بين قلبي هـ....
توقفت قبل إطلاق كلمات بمثابة الرصاصة، لكن ملامحه تخبرها بأن صدمته تتفاقم و بدلاً من الوثوق به والوقوف جواره أمام الصعاب فها هي تُصرح بعدم تحملها لهذا الوضع، لم يرى سوي أنانيتها و ليس الخوف علي فلذة كبدها
"كملي، قولي اللي كنتي هتنطقيه دلوقتي، عايزاني ابعد عنك عشان خايفة علي نفسك، و مش مهم البني آدم اللي حبك و مستعد يعمل أي حاجة عشانك"
صاحت بأنكار تام:
"أنا مش خايفة علي نفسي، أنا بخاف علي ابني اللي مالهوش حد غيري"
"و أنا؟"
لن يكن سؤالاً عادياً فأجابتها يتوقف عليها كل ما هو قادم بينهما، اغمضت عينيها وتمنع عبراتها بصعوبة بالغة، فتحت عينيها ثم أخبرته
"أنت أحمد بيه و أنا علا اللي كانت بتشتغل خدامة عند أخوك اللي اعتدي عليها و حملت منه"
كلماتها كالرياح التي عصفت علي جمر خامد فأشعلته، استيقظ الوحش داخله و يخشى عليها من غضبه الضاري، جز علي أسنانه حتي برزت عظام فكه و عروق عنقه النافرة، يكور قبضتيه بقوة فهربت الدماء من مفاصل أنامله، و في غضون لحظات اختفي من أمامها قبل أن يرتكب فعلاً سيندم عليه لاحقاً.
سمعت صوت إغلاق الباب بقوة و اهتزت جميع نوافذ المنزل مما أيقظ الصغير مرتعداً، خرج من غرفته و أتي إلي والدته، عانقها و يحتمي بها
"ماما، حمزة خايف"
قامت بمعانقته والتربيت علي ظهره بحنان و حماية
"متخافش يا حبيب ماما، مش هاسمح لأي حد يقرب منك أو يبعدك عني أبداً"
عودة إلي الوقت الحالي...
تقف داخل الشقة الجديدة المستأجرة، تنظر من حولها و تتأمل الأثاث البسيط، انتبهت إلي صوت رنين هاتفها والذي استبدلت شريحته بشريحة اتصال جديدة لا يعلم عن رقمها أحداً سوى هذا المتصل
"ألو يا عم صابر أنا لسه وصلة حالاً أنا و حمزة"
"معلش بقي يا بنتي، معرفتش أكون معاكي، أنتي عارفة أي خطوة ليا متراقبة من الهانم"
"أنا عارفة، كتر خيرك كفاية أنك قدرت تلاقيلي شقة إيجار بالسرعة دي، و زي ما قولتلك بالله عليك أوعي أحمد يعرف مكاني، مهما ضغط عليك قوله ماتعرفش"
"ما تقلقيش، و لو حصل أي جديد هابلغك علي طول، في حفظ الله أنتي و ابنك"
"تسلم يا عم صابر، مع السلامة"
أنهت المكالمة وألتفت إلي ابنها و كادت تتحدث، وجدته يمسك باللوح الإلكتروني يتأمل صورة تجمع بينه و بينها و ثالثهما أحمد، خفق القلب شوقاً و دمعت عينيها ألماً، ودت لو عادت إليه وألقت نفسها بين ذراعيه، لن تنكر شعورها بالأمان حينما كانت معه، لكنها ظنت أن الأمان الحقيقي هو الابتعاد عن كل ما يخص والدة زوجها.
❈-❈-❈
في داخل أحد الأحياء الشعبية في محافظة الإسكندرية، تجلس داخل مكتبة لبيع الأدوات المدرسية وتصوير المستندات، تمسك بين يديها المصحف الشريف و تتلو الآيات بصوت خافت، وقفت فتاة أمام خزانة العرض الزجاجية وقالت
"أميرة، معلش صوريلي الملزمة دي بسرعة الله يخليكي"
"صدق الله العظيم"
تفوهت بها الأخرى ثم طوت الصفحة التي كانت تتلو منها الآيات وتركت المصحف فوق المنضدة فنهضت ثم ذهبت إلي الفتاة
"عايزه كام نسخة؟"
"نسخة واحدة"
أخذتها الأوراق منها ووقفت أمام ماكينة تصوير الأوراق، و إذا بها تشعر بدوار مفاجئ كادت تقع فاستندت علي الماكينة، دخلت إليها الفتاة تسألها بقلق
"أنتي كويسة؟"
رفعت يدها وأخبرتها بصوت شبه مسموع
"أنا بخير"
"فيه إيه يا أميرة مالك؟"
كان صوت هذا الرجل العجوز الذي دخل للتو، أجابته الفتاة
"كانت بتصور ليا الملزمة وفجأة لاقيتها كانت هاتقع من طولها"
"معلش يا إسراء، سنديها لغاية بيت الحاجة خيرية و ما تسيبهاش لغاية ما تدخل البيت"
"لاء يا عم خليل، أنا بقيت كويسة"
قالتها أميرة واعتدلت واقفة لكن يبدو علي وجهها علامات التعب، فاخبرها الأخر
"كويسة إيه بس، ده أنتي وشك لونه زي الكركم، روحي النهاردة و ارتاحي و لو بقيتي أحسن بكرة أبقي تعالي، الشغل مش هايطير"
ذهبت معها الفتاة إلي أمام باب ذاك المنزل القديم وقامت بالضغط علي زر الجرس وانتظرت حتي فتحت لهما امرأة في العقد السادس من عمرها
"إيه ده، مالك يا أميرة حصلك إيه يا بنتي؟"
أخبرتها الفتاة
"ما تقلقيش يا خالتي، هي تعبت فجأة و داخت فعم خليل قالي أوصلها لحد عندك"
"تسلمي يا إسراء، اتفضلي يا حبيبتي"
"شكراً يا خالة، أصل ورايا درس بعد ربع ساعة و نخافوا نتأخروا، عن أذنك"
أمسكت خيرية بيد أميرة وسارت بها داخل الفناء ثم إلي داخل الشقة ذات الأثاث الزهيد
"قولتلك مية مرة يا بنتي بلاش شغل، الحمدلله المعاش بيكفينا، برضو ما بتسمعيش الكلام و تعبة نفسك و تعبة قلبي معاكي من المناهدة"
جلست أميرة علي المقعد ذو الوسائد القطنية
"اقعد اعمل إيه يا ماما خيرية، القعدة في البيت بتتعبني أكتر، بحاول ألهي نفسي في شغل المكتبة"
"و كلام الدكتور و تحذيره ليكي لما تعبتي المرة اللي فاتت، قالك بلاش تجهدي نفسك عشان حالة الإغماء اللي بتجيلك كل فترة دي"
"حاضر يا ماما، عم خليل أدالي راحة النهاردة"
رفعت الأخرى سبابتها محذرة إياها
"اعملي حسابك مفيش شغل خالص"
أومأت و رددت باستسلام
"حاضر"
"يحضرلك الخير يا حبيبتي، يلا قومي اغسلي إيديكي عملنالك صينية سمك و معاه رز صيادية هتاكلي صوابعك وراه"
نهضت الأخرى و ذهبت تفعل ما أمرتها به هذه السيدة الحنون ذات الملامح السمحة، تتميز وسط جيرانها بالطيبة وحسن الأخلاق.
صدح رنين جرس المنزل فصاحت
"حاضر ياللي علي الباب"
فتحت الباب فظهر لها رجلاً يرتدي حلة سوداء و نظارة طبية، يبتسم لها
"مساء الخير يا حاجة خيرية"
"أهلاً وسهلاً، مين حضرتك؟"
"أنا المتر حسين الغمري، جاي بالنيابة عن ثروت بيه عشان نخلص إجراءات بيع البيت"
تحولت ملامحها في لحظة من الهدوء إلي الغضب العارم
"أنتم تاني!!، هو البيه بتاعك ده مش هيتلم غير لما نهزقوه، قولنا مليون مرة مش هنبيع البيت، ما يروح للبيوت المعروضة للبيع علي الإمة و لا بيتي أنا اللي عليه سكر "
"يا هانم اسمعيني الأول، مش يمكن العرض اللي هقدمه لحضرتك أحسن من اللي قالك عليه البيه المرة اللي فاتت"
"إن شاء الله لو عرضت مية مليون أني مش هنبيع البيت حتي لو بقي خرابة، روح قول للبيه لما نبقي نموت يبقي يجي يشتريه من الورثة، و بلغوا سلامي"
أغلقت الباب في وجهه، جز الرجل علي أسنانه بحنق وغادر علي الفور، بينما في الداخل، خرجت من المرحاض تجفف يديها بالمنشفة القطنية
"كنتي بتكلمي مين يا ماما خيرية؟"
"الراجل اللي معندهوش دم اللي اسمه ثروت، باعتلي المحامي بتاعه عشان يقنعني نبيع البيت، هو اشتري البيت اللي علي يميني و التاني اللي علي شمالي و عايز يشتري بيتي عشان يهدهم التلاتة و يبني أل إيه مول"
"طيب يا ماما أنتي ليه رافضة تبيعي، أنا سمعته المرة اللي فاتت عرض عليكي مبلغ حلو أوي و شقة في العجمي"
تنهدت الأخرى واخبرتها
"أني رافضة لسببين يا أميرة، الأول زي ما أني حكينا لك قبل كدة، البيت ده مش مجرد حيطان عايشين جواها، دي ذكريات و أجمل سنين العمر عيشتها ويا المرحوم لحد ما مات و سابلي العيال صغيرين، أني اللي ربيت و علمت لحد ما كبروا و هجروا علي إيطاليا، تقدري تقولي البيت بقي جزء مني، روحي فيه"
حدقت إليها أميرة و تشعر في آن واحد بحنين لا تعلم لما هذا الشعور، سألت الأخرى
"و السبب التاني؟"
ابتسمت خيرية و الابتسامة تخفي خلفها حزن دفين يتضاعف كل يوم عن الأخر منذ سنين
"بقالي 15 سنة عايشة لوحدي من وقت ما كل واحد فيهم سافر علي إيطاليا و مارجعوش، بقيت زي المقطوعة من شجرة و لا كأني شيلتهم في بطني تسع شهور و سهرت الليالي وربتهم و تعبت عليهم و كنت الأب و الأم من بعد أبوهم، بقي أخرهم معايا مكالمة كل فين و فين يعملوا انهم بيطمنوا عليا"
"بالتأكيد عندهم ظروف منعاهم أنهم يرجعوا هنا"
"ظروف إيه يا أميرة اللي تخليهم في بلد غريبة يقعدوا 15 سنة!!، و اعرف من الأغراب منهم اللي اتجوز واحدة قدي عشان ياخد الجنسية و لا التاني اللي مقضيها خمرة ونسوان، و لا التالت اللي ما يعرفوش أخواته هو راح فين و لا بيشتغل مع مين، كأنهم ملهمش أم شقيت و اشتغلت 25 سنة عاملة نظافة في مستشفي عشان أقدر أصرف عليهم و ما أحسسهمش أنهم أقل من حد"
اقتربت منها الأخرى و عانقتها بحنان
"ما تزعليش يا ماما خيرية، بإذن الله هيرجعولك بالسلامة و يجوا يملوا عليكي البيت"
"ولو حتي ماجوش، كفاية ربنا عوضني بيكي، كنت نفسي من زمان ربنا يرزقني ببنت، البنت بتبقي حبيبة أمها و القلب الحنين اللي بتميل عليه في عز حزنها، و الإيد اللي بتطبطب و تواسيها، بتهيقلي لو كان معايا بنت مكنتش هتبقي في حنيتك عليا و لا بتحبني زيك"
ابتسمت الأخرى و عقبت بسعادة
"ده أنا اللي ربنا بيحبني أنه رزقني بيكي، لولاكي كنت زماني مرمية في الشارع و يا عالم كان جرالي إيه، و أنا لا عارفة أنا أبقي مين و لا مين أهلي!"
❈-❈-❈
منذ أن غادرت المشفى وذهبت إلي منزل والدها القديم برفقة زوجة أخيها وصديقتها، قررت المكوث وعدم العودة إلي القصر بالرغم من محاولات عديدة من زوجها و التحايل لتعود إليه، لكنها تأبى العودة و مسامحته بتلك السهولة، يكفي من فرط حزنها تسبب لها بأن تم استئصال المرارة لديها.
كانت تتمدد علي الفراش بعد النوم طوال الليل، تقلبت علي جانبها الأيمن فشعرت بأنفاس دافئة تلمس بشرتها، شعرت بالخوف وأخذ قلبها يخفق بشدة وجلاً، فتحت عينيها رويداً رويداً و تردد بسم الله الرحمن الرحيم و بعض أدعية التحصين، و إذا تجده يتمدد جوارها وينظر إليها مبتسماً، كادت تصيح فكمم فاها
"أوعي تزعقي و لا تصرخي عشان غلط علي جرحك"
أزاحت يده من علي فمها ونهضت رويداً وتحاملت علي ألم الجرح لديها، تسأله بنفاذ صبر من بين أسنانها
"أنت إيه اللي جابك هنا؟"
نظر إليها بعينين الجرو البريء يخبرها بوداعة
"مش عارف أؤكل و لا أشرب و لا أنام و أنتي بعيدة عني"
رفعت كلا حاجبيها بتعجب ساخر
"لا والله؟!، تصدق صعبت عليا و الدمعة هتفر من عيني"
"بقي كدة يا ديجا؟!، بتتريقي عليا!، ده أنا عملت المستحيل عشان أصالح أخوكي و مراته علي بعض، و شيماء كتر خيرها خدت يوسف ابننا عندهم يومين عشان أجي استفرد بيكي قصدي أجي أقعد معاكي و أعرف أصالحك علي راحتنا"
"و أنا بقولهالك يا آدم للمرة المليون، أنا مش عايزة أتصالح لأن عديتلك قبل كدة و حذرتك و ماسمعتش كلامي لحد ما القدر جابني لحد عندك و خلاني شوفت بعيني و عرفت اللي مخبيه عليا، و بسبب أنك حرقت دمي و ما استحملتش شيلت المرارة، عايزني أسامحك عشان المرة الجاية تجيبلي جلطة و أموت و ترتاح مني!!"
نهض واقترب منها
"ألف بعد الشر عليكي، والله ندمان أشد الندم و مش طبعي و أنتي عارفة أن أفضل أتحايل علي اللي قدامي، بس عشان بحبك و مقدرش أعيش بعيد عنك فجيت لحد عندك و بقولك احكمي عليا بأي حاجة إلا البعد و كلمة طلقني دي، لأن أنا و لا هابعد و لا هاطلق، و هاتفضلي مراتي و حبيبتي لحد أخر يوم في عمري"
كانت ستضحك علي طريقته التي تخللها بعض الطفولية في تحديه، لكن تظاهرت بالجدية أمامه، لا تنكر أن إصراره البالغ علي طلب مسامحتها له و عدم تلبية طلب الانفصال ولم يكل و لا يمل بالرغم أن هذا نقيض طبعه الذي يمل سريعاً، بينما هذا أمراً يتوقف عليه حياته، فهي زوجته و حبيبته كما أخبرها، و القلب الذي يعيش به و من أجله.
قفزت داخل رأسها فكرة تجعله يفكر آلاف المرات قبل أن يرتكب خطأً في حقها
"عايزني أسامحك و ما ابعدش عنك؟"
اقترب نحوها أكثر فابتعدت إلي الوراء تنظر إليه بتحذير أن يظل مكانه
"بجد؟، قصدي يعني هتسامحيني و هانرجع زي الأول و أحسن؟"
"أنا فعلا هسامحك و هانرجع بس بشرط"
عقد ما بين حاجبيه وكاد يفقد صبره ويعط لغضبه إشارة الانطلاق لكنه تمكن من السيطرة علي نفسه، فهو علي مقربة من تحقيق ما كان يرجوه منذ أيام
"قولي شروطك يا قلب آدم"
ابتسامة نصر تتلألأ علي محياها وهي تخبره
"أولاً هاتعيش معايا هنا في بيت بابا الله يرحمه لمدة شهرين، قول أربعة لحد ما أقولك أنا زهقت و نرجع القصر، ثانياً أنا هنام في أوضتي و أنت شوفلك أي أوضة تانية نام فيها، معلش بقي أصل جرحي مطرح العملية مش بيخليني اعرف أنام علي راحتي و بفضل أتقلب كتير فعايزة أكون علي راحتي"
"مفيش ثالثاً بالمرة و لا لسه هاتفكري؟!"
أدركت السخرية في سؤاله و تعلم أن لو زادت من الضغط عليه فلا تلوم سوي حالها، لا تأمن غضبه الذي مثل الخيل الجامح دون لجام.
"لاء، هما شرطين مالهمش تالت، و عشان أكون منصفة معاك هاديلك مهلة يومين تفكر فيهم عـ....
قاطعها بجدية
"و أنا موافق"
يتبع....
༺الفصل الثاني༻
بقلم ولاء رفعت
غرام الذئاب
~ما بين الحب والفراق~
لكم في الذّكرى شجوني من أجلها تدمع عيوني، فإذا طال الزّمان ولم تروني، فابحثوا عنّي على من أحبّوني، وإذا زاد الفراق ولم تروني، فهذا كلامي فيه تذكروني
ها قد جاء اليوم الموعود... و لنذهب أولاً إلي مهبط الطائرات علي أرض مطار القاهرة الدولي فيدوي صوت المذيعة بالإعلان عن وصول الطائرة القادمة من فرنسا، و داخل المطار تقف جوار زوجها والسعادة تغمرها، عادت إلي أرض الوطن بعد رحلة سفر طويلة في عدة دول أوروبية، و ها قد أتت إلي وطنها بعد أن علمت بموعد زفاف ياسين علي رودينا و الذي كان مفاجأة غير متوقعة لها
"حمدالله علي السلامة"
ألقاها عليهما قصي والذي كان ينتظرهما
"حمدالله علي السلامة يا عمي، حمدالله علي السلامة يا چيهان هانم"
قام بمصافحتها بينما قام بعناق والد زوجته
الذي سأله
"أومال فين أخواتك و صبا؟"
"صبا ما تعرفش غير أنها مع ملك و كارين و علياء بيحضروا نفسهم للفرح، و بالنسبة لأخواتي چيهان هانم طلبت مني ما قولش لحد منهم"
عقبت چيهان
"أيوه، حبيت اعملها لهم مفاجأة، خصوصاً أن النهاردة يوم فرح ياسين اللي مش مصدقة إزاي وافق أخيراً يتجوز بعد ما كان رافض الجواز تماماً بعد موت ياسمين الله يرحمها"
أخبرها قصي
"فيه مثل بيقول الزن علي الودان أمر من السحر، و ملك و آدم ما شاء الله قاموا بالواجب و زيادة"
"طيب و هو يا قصي، قصدي دي كانت رغبته؟"
"هو اللي يقدر يجاوبك علي السؤال ده"
نظرت نحو الفراغ بتفكير
"أتمني تكون رغبته نابعة من جواه، لأن لو العكس هيبقي بيظلم نفسه و قبلها بيظلم رودينا معاه"
❈-❈-❈
و داخل جناح كبير الخاص بتجهيز العروس، تقف أمام المرآة ترتدي ثوب الزفاف ذو الأكمام الدانتيل، من الخلف التول الشفاف الذي يكشف عن معظم ظهرها، ينتشر اللؤلؤ و الألماس الصغير علي جميع أنحاء الثوب، تتحرك يميناً و يساراً لترى كيف يبدو عليها الثوب الذي طالما حلمت به منذ سنوات و قد تحقق لها الأمر الذي ظنت أنه معجزة صعبة المنال.
طرق علي الباب يتبعه أذناً منها للطارق بالدخول
"اتفضل"
فتح الباب و كانت والدتها صاحبة الوجه ذو الملامح الصارمة
"ماما!، اتفضلي واقفة عندك ليه؟"
دلفت وتتأمل هيئة ابنتها التي ابتسمت
"شوفتي يا مامي، ده الفستان اللي كنت رسماه في خيالي، و أخيراً جه اليوم اللي عشت سنين أحلم بيه"
هزت والدتها رأسها بنظرة تقييمية غير مرضية، تزمت شفتيها إلي الأسفل مما جعلت الأخرى تشعر بالاستياء
"و أنا كمان كنت بحلم باليوم ده بس مع اللي يستاهلك و يقدرك، مع الوحيد اللي بيحبك و يخليكي ملكة فوق راسه، أنتي أول بخته و كذلك هو، مش واحد أرمل عايش علي أطلال المرحومة مراته اللي سابتله بنت محتاجة رعاية و بدل ما يجيبلها ناني تهتم بيها راح يتجوز و يجيب لها مرات أب"
كلمات كالسموم أصابتها في مقتل، ضربة بآلاف الضربات سببت لها ألم جم في قلبها، فتلك الكلمات تخبرها به أقرب الناس لها فماذا عساه الغريب أن يخبرها هو أيضاً!
"أنتي ليه بتعملي معايا كدة؟، حسسيني و لو مرة في حياتك إن أنا بنتك، جاية لي في يوم زي ده؟!، عارفة أنتي عملتي إيه كدة فيا؟!، كأنك جيبتي سكينة تلمة وقعدتي تغرزيها في جوه قلبي"
أجهشت في البكاء، لم تتحمل تلك الطعنات القاتلة، اقتربت والدتها وتخرج من حقيبتها المحرمة الحريرية الخاصة بها
"أنا مش جاية أوجع قلبك، أنا جاية أحذرك لأخر مرة و إحنا لسه علي البر، فاكرة أن ما بحبكيش برغم لو قعدتي تفكري هتلاقيني خايفة عليكي، كلامي لو وجعك النهاردة، أحب أقولك جوازك من ياسين هيكون وجع هايقعد معاكي لأخر العمر"
صرخت بجنون
"كفاية، كفاية، مش عايزة اسمع كلمة تاني، و لعلمك أنا عمري ما هابعد عن ياسين حتي لو هاعيش في وجع، الوجع و أنا في قربه أرحم بكتير و هو بعيد عني، و هيحبني زي ما أنا بحبه، و مع الأيام هتتأكدي من كلامي"
ابتسامة ساخرة يتبعها قذيفة أخرى مدمرة
"اللي أنتي فيه ما اسمهوش حب، اسمه مرض، أنتي مهوسة و مريضة بلعنة اسمه ياسين، و بكرة هتتمني أن الزمن يرجع بيكي للحظة اللي إحنا فيها دلوقتي و تتراجعي، يا خسارة يا رودينا"
ألقت تلك الكلمات الحارقة وتركتها وغادرت المكان، وقفت أمام المرآة تنظر إلي هيئتها فأمسكت بزجاجة العطر و بكل قوة لديها قذفتها علي المرآة، تهشم الزجاج و تناثر في كل مكان حولها مثل حالتها الآن، جلست علي الأرض تبكي بضعف حتي سمعت إلي طرق علي الباب مرة أخرى يتبعه صوت أنثوي
"آنسة رودينا الميك أب آرتيست وصلت"
مسحت دموعها سريعاً واستندت علي الأرض بيدها لتنهض و لم تنتبه إلي قطعة المرآة المكسورة، تأوهت بألم وألقت نظرة علي كفها المصاب فوجدت الدماء تدفق من جرحها النازف لكن الجرح الذي تركته لها والدتها أعمق بكثير من جرح يدها.
❈-❈-❈
يغفو داخل غرفته في القصر و حوله صور زوجته الراحلة و صور أخرى تجمع بينهما، مطفأة السجائر الكريستال مليئة ببقايا لفافات التبغ المحترقة جوارها كأس شاغرة و زجاجة نبيذ فارغة أيضاً، يبدو أن ليلته بالأمس كانت حافلة بالدخان والشراب حتي الثمالة.
يتمدد علي مضجعه يرتدي بنطال وقميص مفتوحة أزراره، لم يسمع الطرق المتكرر و المصاحب لصوت والدته
"ياسين، ياسين"
فتحت الباب ودلفت لتري هذا المشهد المذكور سابقاً حينها علمت إجابة السؤال الذي كان يحيرها، اقتربت منه و جلست جواره، مالت بجذعها جواره، تداعب خصلات شعره كما كانت تفعل له ذلك وهو طفلاً صغيراً
"طول عمرك أكتر واحد قلبه حنين من و أنت صغير، لما بتحب، بتحب بقلبك وروحك، عمري ما انسي لما كان عندك عصفورة و سميتها چيچي علي اسم الدلع بتاعي، كنت متعلق بيها لدرجة كنت بتحط القفص جمبك و أنت نايم، و لما تعبت و ماتت قعدت تعيط عليها وفضلت مقاطع الأكل لحد ما تعبت وأخدتك علي المستشفي، من ساعتها عرفت أن الحب ليك زي اللعنة، فضلت أدعي و أقول يارب ما تجرحش قلبه و لا تعلقه غير مع اللي تحبه بجد و تستاهل حبك ليها، و برغم اللي حصل بينك و بين ياسمين ما وقفتش قدام حبكم، بالعكس كنت واقفة جمبك ومهمنيش موقف باباك ورفضه لجوازك من بنت الجنايني، مكنش يعرف أن الحب ما بيعترفش بالفروق، المهم يكون الحب متبادل ما بين الطرفين"
يفتح عينيه ببطيء حتي تمكن من رؤيتها بوضوح، لم يصدق عينيه والدته تجلس جواره الآن!!
نهض بجذعه مبتسماً
"ماما!، إيه المفاجأة الحلوة ديه، حمدالله علي السلامة"
عانقها بقوة فأخبرته
"أنا رجعت مخصوص عشانك، أول ما عرفت بموضوع جوازك من رودينا"
أمسك يدها وقام بتقبيل ظهر كفها
"حبيبتي ربنا يخليكي ليا"
ربتت علي كتفه بحنان غادق و أمرته
"قوم خدلك دش، ريحة الخمرة و السجاير فايحين منك أوي و أنا هستناك في التراس"
و بعد قليل... كانت ترتشف القهوة و تنتظره، رأته يخرج إليها ورائحة عطره تسبقه، تركت القدح بعد انتهائها من القهوة أعلي المنضدة.
"تعالي أقعد جمبي"
و أشارت إلي المقعد المجاور لها فجلس أعلاه
"مش هعطلك عشان بعد شوية سيادتك المفروض تروح الأوتيل و تجهز هناك"
كان يتهرب من النظر في عينين والدته، يتجنب السؤال الذي يتوقعه منها
"طولتي الغيبة يا ماما، كنت و لسه لحد دلوقتي محتاجلك أوي"
نظرت إليه بابتسامة تمده بالأمل و التفاؤل
"أنت محتاج نفسك أكتر من احتياجك لأي حد حتي لو كان الحد ده أنا، أدي لنفسك فرصة تعيش من جديد، لكن لو أنت هاتتجوز عشان تنسي وجعك علي ياسمين الله يرحمها فأنا بقولك بلاش و إحنا فيها ممكن تنهي كل حاجة، بلاش تظلم رودينا معاك"
"أنا مش هتجوزها عشان أنسي بيها ياسمين، ياسمين ماتت بس لسه عايشة جوايا، إنما جوازي من رودينا لأسباب خاصة مش حابب أتكلم فيها"
أمسكت طرف ذقنه ونظرت صوب عينيه و كأنها تقرأ داخله
"مش محتاج تقولي الأسباب، أنا شايفاها في عينيك، عشان كدة بقولك يا ياسين لو ظلمت رودينا أو جيت عليها أنا أول واحدة هتلاقيني واقفة قدامك، اللي ما أقبلوش علي أختك عمري ما هقبله علي بنات الناس، فياريت تحط تحذيري ليك قدام عينيك ديماً"
بشبه ابتسامة يخبرها
"اطمني، مش هظلمها"
رفعت حاجبها بسخرية
"بأمارة الشقة اللي هتتجوزوا فيها قدام شقتك القديمة!"
نظر إلي أسفل بحرج كالطفل الصغير أمام والدته
"عموماً مكانكم موجود في القصر، ممكن تنقلوا حاجتكم هنا، و عقبال لما تقضوا الهني مون و ترجعوا أكون جهزتلكم الجناح اللي كان بتاعي أنا و باباك"
نهض و الوجوم يعلو وجهه، اكتفي بردٍ مقتضب
"أنا مضطر أمشي عشان هاروح ألحق أجهز نفسي للفرح"
و دنا من رأسها قام بتقبيل جبهتها وغادر في صمت، كانت تنظر في إثره
"ماشي يا ياسين، اهرب براحتك، بس عمرك ما هاتقدر تهرب من نفسك"
استقل سيارته وانطلق في طريقه نحو الفندق الذي سيقيم داخله العرس، انحرف عن الطريق و سلك آخر يتفرع منه منطقة خاصة بالمقابر و تقع بها المقابر الخاصة بعائلة البحيري، توقف بالسيارة ونظر من خلف نظارته الشمسية نحو المقابر، يتردد في النزول و الذهاب إليها لكن لم يملك الجرأة بأن يفعل ذلك، لديه شعور تجاه نفسه، شعور أقرب للكراهية، لا يرى نفسه سوى أنه خائن!
انسدلت دمعة من عينه انزلقت علي خده و تتخلل شعيرات ذقنه النامية، لم يتحمل أكثر من ذلك وانطلق بالسيارة نحو وجهته الأولى.
❈-❈-❈
بعد مرور ساعات معدودة، امتلأت القاعة بالحضور الذين جاءوا من أجل العروسين حيث الأقارب والمعارف والأصدقاء، يقف قصي و يليه آدم ثم يوسف في استقبال المدعويين و علي الجهة الأخرى والد رودينا وجواره رحيم ابن شقيقة زوجته التي اكتفت بالجلوس جوار شقيقتها في أحدى الأركان كالغرباء.
"ألا قوليلي يا شاهيناز، هو عريس بنتك رودينا أرمل و عنده بنت، أنا عرفت من أصحابي اللي في النادي، أصل عيلة البحيري ماشاء الله سمعتهم مسابقاهم"
شعرت الأخرى بالحنق لكن أظهرت نقيض ذلك علي وجهها بابتسامة صفراء
"اه يا رجاء، أرمل أو مطلق أهو في النهاية راجل و مش أي راجل، ده ياسين البحيري، و أخته و بنتي أصحاب من و هم لسه في الـ KG"
رفعت رجاء زاوية فمها
"اه ما أنا عارفة، بس بنتك برضو مش قليلة، إحنا عيلتنا كبيرة، و رودينا كانت تستاهل واحد تكون هي أول زوجة ليه زي ما هو أول زوج ليها"
نهضت و قد فاض بها الكيل من حديث شقيقتها
"عن إذنك يا رجاء، هاروح أشوف رودي تكون محتاجة حاجة"
وذهبت بعيداً، فقامت الأخرى بالاتصال بابنها الذي عندما رأي اتصالها نظر نحوها، أشارت إليه بأن يأتي إليها، استأذن زوج خالته وذهب إلي والدته
"فيه حاجة يا ماما؟"
"اه فيه، سيادتك جايلك نفس وواقف تستقبل معازيم فرح بنت خالتك اللي سيادتك لحد دلوقتي بتحبها ورافض الجواز بسببها"
"أقولها لك تاني يا ماما، رودينا قبل ما تكون الإنسانة اللي بحبها هي تبقي بنت خالتي و سبب وجودي هنا لأن جوز خالتي عازمني بنفسه، و مش معني أن مفيش نصيب يبقي اقاطعهم إحنا أهل في الأول و الأخر، و اللي بيحب حد بيتمني له السعادة حتي لو كانت هتبقي لغيري"
"طبعاً ما أنت طالع زي باباك، بسبب طيبته الزيادة عن اللزوم ما أقدرش يعيش و خلع من الدنيا بدري"
نظر بامتعاض وسأم
"أنا رايح أقف مع عمي أحسن"
وفي الأعلى تنتهي الفتاة من وضع اللمسات الأخيرة من مستحضرات التجميل علي وجه العروس
"تقدري فتحي عينيكي"
فتحت عينيها وأخذت تتأمل جمالها التي تبرزه بعض اللمسات البسيطة، هكذا كان طلبها عدم الإفراط من تلك المساحيق.
طرق علي الباب ثم فتحت ملك
"ها، ندخل و لا لسه؟"
"اتفضلي يا مدام ملك، أنا خلصت"
ولجت ملك و برفقتها ياسمينا الصغيرة، تنظر إلي زوجة والدها
"زي القمر يا مامي رودي"
ابتسمت الأخرى بسعادة و دنت من الصغيرة لتقبل خدها
"قلب مامي رودي أنتي اللي قمر وسكر كمان"
نظرت إلي صديقتها وبنبرة يتخللها التوتر سألتها
"بجد يا ملك، شكلي حلو؟"
"يا حبيبتي أنتي مش محتاجة رأيي، و مالك متوترة كدة ليه، لاء أجمدي كدة يا عروسة، ده الليلة ليلة فرحك أنتي و ياسو"
غمزت بعينها لها، جاءت كلا من صبا و كارين و علياء وخديجة، يهنئن العروس.
و جاء والدها بعد أن حمحم
"عروستي الحلوة جاهزة؟"
ظهرت ابنته من بينهن تتقدم علي استحياء نحو والدها، فتح ذراعيه ليأخذها بينهما في عناق حنون
"و جه اليوم اللي بحلم و أشوفك أحلي عروسة"
"حبيبي يا بابي، ربنا يخليك ليا أنت و مامي"
مد ساعده و يخبرها
"يلا بقي حطي إيدك علي دراعي الزفة بدأت و المفروض أنزل أسلمك لعريسك"
و في الأسفل بدأت الموسيقي بصوت دوي في ارجاء القاعة كانت الموسيقي الشهيرة لظهور العروس، تمسك بساعد والدها و يسير بها نحو عريسها الذي ينتظرها أمام المقاعد الخاص بهما.
مد ياسين يده فوضعت خاصتها، شعر ببرودة يدها و الرجفة التي تسري بها، مال نحوه والدها يلقي علي أذنه وصيته
"أنا أديتلك روحي فحافظ عليها"
أومأ له الأخر و أخبره
"ما تقلقش يا عمي، رودينا في عينيا"
تقف السيدات جوار بعضهن فوقف خلفهن أزواجهن، همس آدم إلي خديجة
"فاكرة يوم فرحنا يا حبيبتي"
أجابت بسخرية
"و ده كان يوم يتنسي برضو، ده في قائمة الذكريات السودة يا حبيبي"
تذكر سريعاً هذا اليوم و كأنه حينها كان مجبوراً علي الزواج وظهر في ذاكرته ومضات من مشاهد ليلة الزفاف، كان قاسياً معها، عاد من الذاكرة ينظر بامتعاض
"كان عندك حق والله، عشان كدة أنا بفكر نعمل فرح من أول و جديد"
لكزته بمرفقها فأصابت بطنه وتأوه بألم، ألتفت له
"لو رجع بيا الزمن ليوم فرحنا كنت فكرت ألف مرة ومكملتش، أنا موافقة نعمل فرح من أول و جديد بس تطلقني و بعدين أفكر نرجع و نعمله و لا لاء"
"علي جثتي موضوع الطلاق، و مش عايز فرح"
"يعني أنا اللي عايزة؟!، أوعي من طريقي هاروح أشوف يوسف ابني حبيبي بيعمل إيه"
دفعته من أمامها فعقب بوعيد
"ماشي يا خديجة، ما بقاش آدم البحيري غير لما هاطلع عليكي كل اللي بتعمليه فيا، بس بعد ما نتصالح"
بينما طه يقف جوار شيماء التي تتمتم
"معقول ده ياسين اللي كان بيموت بقاله سنتين علي فراق مراته؟!، أقول إيه بس، كلهم صنف واحد ما بيطمرش فيهم حاجة"
كان طه منشغلاً في التصفح علي هاتفه أو تحديداً يشاهد البث المباشر لجارته الحسناء و يستمع إلي صوتها عبر سماعة الأذن اللاسلكية، انتبه علي وكز زوجته له بمرفقها في عضده
"سيب المخروب اللي في إيدك و جاوب علي سؤالي"
أغلق الهاتف سريعاً و خلع السماعة من أذنه
"إيه يا شوشو، فيه حاجة يا حبيبتي؟"
"بقولك هو أنا يعني ألف مليون بعد الشر عليا لو جرالي حاجة هاتروح تتجوز بعدي؟"
ردد بهمس خافت
"اعمليها أنتي بس الأول"
"نعم؟"
"يا وقعتي السودة، بقولك بعد الشر عليكي يا حياتي، ده أنا مقدرش أعيش لحظة من غيرك، و خير دليل اليومين اللي سيبتيني فيهم و روحتي قعدتي مع أختي، مدوقتش النوم و لا الأكل غير لما رجعتي بيتك بالسلامة"
"اه ما أنا عارفة، حتي بدليل السفرة اللي كانت مليانة شنط الوجبات و علب البيتزا و الحلويات و لا أزايز البيبسي، ده و لا كأنك صدقت أن سيبتلك البيت"
"يعني يرضيكي أموت من الجوع يعني و ما أكلش عشان اثبتلك أن أنا زعلان علي بُعدك؟"
"لاء يا حبيبي ما يرضنيش، أموت أنا أحسن من القهر يا بتاع روميساء"
صاحت في أخر جملة، وضع كفه علي فمها
"وطي صوتك فضحتيني"
أزاحت يده وأمسكت عضده
"هوطي صوتي و مش هاتكلم بس خدني يلا نرقص سلو"
"يارب أنا عارف أنه ابتلاء و عقاب علي الذنوب اللي ارتكبتها في حياتي"
جذبته من ذراعه و دفعته نحو ساحة الرقص
"كفاية برطمة و يلا قدامي، عدي ليلتك أحسنلك"
و في مكان قريب تتابع لوچي هاتفها والرسائل الواردة من عمر الذي جاء بعد أن أخبرها إنه يريدها في أمر هام و سيرحل، أرسلت إليه رسالة نصية
«استناني في الجراچ تحت و أنا جاية لك»
لم تنتبه إلي أسر الذي كان يقف خلفها جوار زوجته ولاحظ ما تفعله ابنة صديقه و انتابه الفضول أو ربما القلق نحو تلك المراهقة.
بينما علياء تجلس بجوار يوسف الذي يتابع عمله عبر الهاتف
"حتي في فرح أخوك بتابع شغلك؟!"
"والله المفروض لأنك دكتورة تكوني أكتر واحدة مقدرة ظروفي"
كظمت الغيظ، فهو في الآونة الأخيرة أصبح يتعمد الرد الجاف و أحياناً القاسي، نهضت من جواره
"أنا رايحة التويليت و راجعة"
ذهبت فتبعتها لوچي لكن تعلم الوجهة التي تريد الذهاب إليها، ألتفت من حولها لتجد والدها الذي تظاهر بالتصفح علي هاتفه و إلي زوجته التي اختفت بين الناس، وجدت تلك هي الفرصة، و تذهب إلي المنتظر في المرآب.
"رايحة فين يا أسر؟"
أجاب علي زوجته
"رايح اشوف حاجة وراجع بسرعة، خلي عينك علي كارما و أمجد"
ذهب وكانت عينين صديقه كعيون الصقر، نهض وذهب خلفه، و في طريقه والشك يجول صدره أوقفته والدته
"چو، تعالي معلش قيس الضغط لعابد، تعب فجأة و طلع يرتاح فوق في السويت"
أطلق زفرة و كاد يجن جنونه، لكن طلب والدته لن يمكن رفضه أو تأجيله فهذا واجبه.
و في الأسفل حيث المرآب، تسير بين صفين من السيارات، تبحث عنه فوجدت يد تجذبها ويدفعها نحو العمود الخرساني، شهقت بفزع
"ينفع كدة يعني؟"
"آسف علي الخضة يا حبيبتي"
و أخذ يتأمل مظهرها الجذاب والفاتن، ترتدي ثوب أسود لامع دون أكمام و يصل طوله إلي ركبتيها، بعض خصلاتها تتجمع خلف رأسها علي شكل زهرة و بقية شعرها ينسدل خلف ظهرها، كم هي جميلة و ساحرة!
"آسف علي إيه و لا إيه، أصلاً مكنتش هجيلك و لا ناسي أخر مرة لما كنا في الكوخ كنت هاتعمل إيه معايا"
"ما أنا جاي عشان اعتذرلك و أقولك حقك عليا مش هاكررها تاني، أنا ضعفت قدام رغبتي و مكنتش قادر أمسك نفسي عنك، لولا إزازة المية اللي كسرتيها فوق دماغي مكنتش عارف كان ممكن يحصل إيه"
"أنا اللي غلطانة عشان وافقت أروح معاك من الأول، و هتبقي أول و أخر مرة هخرج معاك، و لو عايز تشوفني يبقي نتقابل في النادي"
كان هناك من يستمع و يراقب الموقف من مسافة قريبة
"خلاص هاعملك اللي أنتي عايزاه، المهم ما تكونيش زعلانة مني"
"يعني أنت جاي من أخر الدنيا عشان تقولي الكلمتين دول؟"
اقترب منها وحاصرها بينه و بين العمود
"أنا فعلاً جيت أقولك الكلمتين دول و أصالحك"
دنا بشفتيه نحو خاصتها فدفعته في صدره قبل أن ينال غايته
"تاني يا عمر؟!"
"أنا كنت هبوس راسك، خلاص بقي ما تكشريش، و لا أقولك خليكي كدة شكلك بيبقي حلو أوي"
صدح رنين هاتفها وجدت المتصل علياء
"دي طنط علياء، شكلها بتدور عليا، أنا مضطرة أسيبك، باي"
ركضت تاركة إياه، ظهر أسر له و تعمد أن يفعل ذلك و ينظر له من طرف عينيه، حمحم الأخر بحرج و ذهب نحو باب الخروج، شعر باهتزاز هاتفه فأجاب
"ألو؟"
"إيه يا سي روميو مش قولت هاتبعت الفيلم اللي صورته وأنت مع البت بنت الدكتور؟"
"الفون وقع مني ومكنش عايز يفتح اضطريت أعمله سوفت و اتمسح كل حاجة من عليه بالفيلم"
صاح الشاب بصوته المزعج
"سوفت يا روح خالتك!، بقولك إيه يالاه أنت أخرك معانا يومين مالهمش تالت اتصرف إلا وفيديوهاتك الحلوة مع البنات التانية هنوديها للحاجة تشوف بطولات ابنها ده غير الأفلام دي هاتنزل علي كل المواقع إياها و أهل البنات دي هايجبوك من قفاك يا هيشرحوا جتتك يا هيسلموك للبوليس وهاتبقي ترند بعنوان عنتيل شبرا، ها هاتنفذ المطلوب منك و لا نذيع يا حلو؟"
نعود إلي حفل الزفاف، ترقص بين ذراعيه وتنظر إلي عينيه كل حين و الأخر، تستمع إلي الموسيقي وتتحرك علي إيقاعها كالفراشة بين يديه، بينما كان ذهنه في ملكوت خارج نطاق ما يحدث من حوله، يرى مَنْ استحوذت علي لبه تقف في زاوية بعيدة عن الأضواء، ترتدي ثوب أبيض تبتسم إليه و كأنها تهنئه، ردد اسمها حتي تلاشت الصورة و عاد إلي الواقع علي صوت عروسه
"أنا رودينا مش ياسمين"
أثر الصمت بالتزامن مع توقف الموسيقي.
و في أحد الأروقة صوت ضحكاتها وهي تسرع خطواتها لتلحق به
"استني يا قصي، مش عارفة أجري معاك كعب الشوز عالي و هاقع علي وشي"
توقف وألقي نظرة عليها
"يبقي مفيش غير حل واحد"
قام بحملها علي ذراعيه
"نزلني يا مجنون، هو كل ما نحضر فرح لواحد من أخواتك تروح حاجز سويت لينا، أخوك اللي هايتجوز و لا إحنا"
أنزلها أمام باب الجناح وأخرج البطاقة الإلكترونية وقام بفتح القفل من خلالها، سحب زوجته خلفه وأغلق الباب ثم دفعها نحو الحائط
"أيوه إحنا هانفضل عريس و عروسة و لا أنتي شايفة إيه؟"
ينتظر إجابتها ويده تتسلل إلي سحاب ثوبها ويقوم بفتحه رويداً رويداً
"أنا شايفة كل ما بنبقي مع بعض ببقي حاسة إن أنا عروسة"
"طب يلا تعالي أعيشك الإحساس ده للمرة اللي معرفلهاش رقم"
وجدت أكمام الثوب تسقط من كتفيها ويحملها من جديد متجهاً إلي الغرفة.
❈-❈-❈
كان الزفاف علي وشك الانتهاء، سألت ياسمينا الصغيرة جدتها
"نناه هو بابي و مامي رودي هيمشوا و مش هاروح معاهم؟"
ربتت جدتها علي يدها فسبقتها ملك التي دنت منها وأخبرتها
"بابي و رودي هيروحوا لوحدهم و إحنا هانبقي نروح نزورهم"
سألتها ببراءة
"و أنا هاروح فين؟"
أجابت ملك
"هاتروحي معايا، إيه مش وحشوكي مليكة و نور؟"
فتدخلت چيهان
"لاء ياسمينا هاتيجي معايا و هتبات في حضن نناه، صح يا ياسمينا؟"
عانقت الصغيرة جدتها
"صح نناه"
"حبيبة قلب نناه ياروحي أنتي"
و لدي العروسين، اقتربت السيدة شاهيناز من ابنتها قامت بمعانقتها قبل أن تغادر القاعة مع زوجها
"خدي بالك من نفسك"
لم تبادلها ابنتها العناق فيكفي ما قد سمعته منها اليوم و تأتي أمام الجمع و تعانقها و تمثل دور الأم الحنون، هكذا كان يدور في رأس رودينا التي وجدت يد مدت إليها، رفعت عينيها تري صاحبها فما هو سوي رحيم، و قبل أن تمد يدها سبقتها يد زوجها يصافحه بقبضة عنيفة
"الله يبارك فيك يا دكتور رحيم، معلش أصل العروسة من هنا ورايح ما ينفعش تسلم بإيدها علي حد غير محارمها"
نظرت رودينا إليه ثم إلي رحيم وتخشي أن يحدث شجار، فأجاب الأخر علي زوجها
"ألف مبروك يا أستاذ ياسين، رودينا تبقي بنت خالتي و زي أختي"
لم يرد المباركة فأجابت الأخرى بدلاً من زوجها
"الله يبارك فيك يا رحيم عقبالك"
أومأ لها بشبه ابتسامة و ذهب بعيداً قبل أن تفضحه نظرات عينيه أكثر من ذلك، لكن تلك النظرات أدركها جيداً ياسين والذي جز علي أسنانه، لم يعط لها أن تلتقط أنفاسها فجذبها أمام عائلته و عائلتها
"يلا نروح"
"ياسين، استني بس أخواتك لـ...
توقف فجأة وحدق إليها بنظرة نارية جعلتها تبتلع بقية الكلمات
"مش عايز اسمع و لا كلمة لحد ما نوصل لشقتنا، فاهمة؟"
هزت رأسها دون أن تتفوه بكلمة وسارت معه إلي خارج الفندق، تشعر بقبضته التي تعتصر أناملها، وجد السائق في انتظاره يفتح لهما باب السيارة الخلفي، ولجت إلي داخلها ثم فعل المثل.
تقف چيهان تتابع ما يحدث، قالت ملك
"مامي أنتي إزاي سيبتيه ياخدها كدة و هو في الحالة دي، أنا خايفة علي رودينا ليعمل فيها حاجة"
كانت تمسك هاتفها وتجري الاتصال بنجلها
"بطلي قلق يا ملك، أخوكي ما يقدرش يعملها حاجة"
وضعت الهاتف علي أذنها تنتظر إجابته
"ألو يا ياسين، خد بالك من عروستك و ماتنساش وعدك ليا و ماتنساش تحذيري ليك"
أجاب بعد أن ألقي نظرة عبر المرآة الأمامية فوجد رودينا خائفة
"اطمني يا ماما، مفيش حاجة أنا بس مكنتش قادر أقعد أكتر من كدة، مع السلامة"
أنهي المكالمة وظل ينظر إليها، في غضون دقائق توقفت السيارة فكان المنزل قريباً من الفندق.
رفعت رأسها تنظر لما توقف السائق، ألتفت إلي ياسين فأجاب سؤال عينيها
"وصلنا"
يتبع.....
༺ الفصل الثالث ༻
غرام الذئاب
بقلم ولاء رفعت علي
كقطرة ماءٍ أنتِ يتبعها غيث يهطل علي أرض فؤادي الذي تشقق من فرط الاشتياق، اسقيني من نهر عشقك ولا تتمهلي فاللوعة قد بلغت الآفاق.
صوت المفتاح يخترق قفل الباب كما يخترق صوت أنينها السكون الذي يعم في الإرجاء، هذا بسبب قبضة يده علي أناملها و لم يلاحظ أن يدها مصابة، و إذا به يفتح الباب ثم يدفعها إلي الداخل و شيطانه يهيمن عليه، يسألها بصوت جعلها ترتجف كما اهتزت النوافذ أثر إغلاقه للباب بعنف
"ممكن تفهميني ابن خالتك عايز إيه منك؟"
تضع أناملها علي الجرح عّلها تخفف الألم الداهم في يدها، توجست خيفة من تلك النظرة المخيفة التي يرمقها بها، ابتلعت لُعابها وافترقت شفتيها لتخبره
"ما أنت قولتها، ابن خالتي يعني طبيعي هايحضر فرحنا"
يقترب منها بُخطى يماثلها خطواتها حيث تبتعد إلي الوراء
"بلاش استعباط و وش البراءة اللي راسماه عليا ده، أنتي فاهمة أنا أقصد إيه"
كادت تتعثر لكن سرعان وجدت يدها مسند المقعد المخملي فجلست
"لو قصدك عشان بيسلم عليا، هو ما يقصدش حاجة، خلاص دلوقتي أعتقد إنه هايعتبرني زي أخته"
اقترب حتي أصبح أمامها مباشرة ثم دنا منها مستنداً بيديه علي مسندين المقعد
"نظراته ليكي مكنتش بتقول كده"
ألتصق ظهرها بالمسند الخلفي للمقعد تتحامي به
"و أنا أعمله إيه"
"ما تشوفيش وشه تاني نهائي، أي مناسبة عائلية عندكم هايكون هو فيها ممنوع تروحي، مفيش مرواح للنادي غير لما أكون أنا معاكي، مفهوم؟"
لم يتلق رداً فصاح في وجهها مكرراً سؤاله، هزت رأسها في التو ورددت
"حاضر، حاضر"
ابتعد عنها و لم يخف عن فطنتها الحالة النفسية التي تسيطر عليه، يبدو التوتر و القلق بل و الارتباك أيضاً، تلك الانفعالات يخفيها خلف عنفوان غضبه الذي تراه لأول مرة، لم تنكر أنه سبب لها الذعر، ظلت تراقبه في صمت وهو يجول أمامها ذهاباً و إياباً و كان يتمتم بكلمات غير مسموعة، نهضت علي الفور و أرادت الفرار من أمامه
"عن إذنك"
"إستني عندك"
توقفت ونظرت إليه باستفهام في انتظار معرفة ماذا يريد منها و ليته ما تفوه ببنت شفه
"أوعي خيالك يصورلك سبب غيرتي عليكي من رحيم يكون أن أنا بحبك وعاشقك مثلاً، ده طبع فيا لأني راجل دمي حامي و بغيّر علي أهل بيتي و اللي مني"
تسبب حديثه اللاذع في تصدع جدران قلبها، حاولت التظاهر بالقوة أمامه و لم تريه ضعفها أو السماح لهبوط دمعة واحدة علي وجنتها أمامه
"لاء اطمن، أنا مش غبية للدرجدي، أنا فاهمة و عارفة أنا إيه بالنسبة لك، بس حبيت أفكرك أن دوام الحال من المُحال"
أطلق زفرة وفي عينيه نظرة لم تستنتج منها بشيء فسألته
"في أي حاجة عايزة تقولها ليا تاني؟"
شعور قليل من الندم انتابه علي ما تفوه به من حديث، حك فروة رأسه بحرج، سألها و كأنه لم يكن كالثور الضاري منذ قليل
"جعانة؟"
تعجبت من سؤاله الذي لا محل له من هذا الحديث الفظ
"ما باكلش بالليل"
رفع يده مشيراً إليها نحو وجهتها بوجه من الجليد
"تمام اتفضلـ...
لم تدعه يكمل قوله وذهبت تلملم أذيال آلامها، و بمجرد أن دخلت أغلقت الباب و استندت خلفه بظهرها، وضعت كفها علي فمها تمنع شهقاتها و حديث والدتها يتردد في رأسها بضراوة
«"و أنا كمان كنت بحلم باليوم ده بس مع اللي يستاهلك و يقدرك، مع الوحيد اللي بيحبك و يخليكي ملكة فوق راسه، أنتي أول بخته و كذلك هو، مش واحد أرمل عايش علي أطلال المرحومة مراته اللي سابتله بنت محتاجة رعاية و بدل ما يجيبلها ناني تهتم بيها راح يتجوز و يجيب لها مرات أب"
"أنا مش جاية أوجع قلبك، أنا جاية أحذرك لأخر مرة و إحنا لسه علي البر، فاكرة أن ما بحبكيش برغم لو قعدتي تفكري هتلاقيني خايفة عليكي، كلامي لو وجعك النهاردة، أحب أقولك جوازك من ياسين هيكون وجع هايقعد معاكي لأخر العمر"
"اللي أنتي فيه ما اسمهوش حب، اسمه مرض، أنتي مهوسة و مريضة بلعنة اسمه ياسين، و بكرة هتتمني أن الزمن يرجع بيكي للحظة اللي إحنا فيها دلوقتي و تتراجعي، يا خسارة يا رودينا"»
زادت تلك العبارات وجعاً فتاكاً فوق آلامها التي بلغت الحلقوم، لم تتحمل فأجهشت في البكاء كانت دموعاً كالسيل العارم.
و بالعودة إلي ياسين، كان قد ذهب إلي غرفة مجاورة يغلق الباب خلفه و يلتقط أنفاسه كالذي انتهي لتوه من سباق مارثون، انتظمت انفاسه ثم عبس وكأنه تذكر أمراً ما، أخرج زجاجة صغيرة في حجم كف اليد من بين طيات الجيب الداخلي لسترته، رفعها أمام عينيه، قد أعطاه إياه شقيقه يونس بعيداً عن الأنظار أثناء حفل الزفاف و أخبره
«مشهد سابق»
"أنا حاسس بيك و عارف اللي بتمر بيه من ضغط نفسي، عشان كدة جيبتلك حاجة هتخليك تنسي أنت مين و تعيش ليلة و لا ألف ليلة و ليلة كأنك داخل دنيا أول مرة في حياتك"
اعطاه شقيقه الزجاجة الصغيرة فأخذ ياسين يحملق بها ثم حدق إلي شقيقه بامتعاض
"نبيذ؟!"
ابتسامة من الأذن إلي الأخرى تجلت علي وجه شقيقه ذو العقل الهارب
"و مش أي نبيذ، ده متعتق من أيام جدك البحيري، الله يرحمك يا جدي، حاجة كدة مفعولها زي السحر، بس خد بالك أخرك بوقين تلاتة منه و ما تكترش"
"أنت عبيط يا يونس؟!، أنا أصلاً قررت ماشربش الهباب ده تاني"
لكزه شقيقه في كتفه
"أنت هاتعيش عليا الدور و لا إيه، بأمارة أوضتك اللي كانت مليانة أزايز فودكا و سجاير"
كان يمر أحد ما من جوارهما فخبأ ياسين الزجاجة سريعاً في الجيب الداخلي لسترة حُلته السوداء، فاستطرد يونس حديثه
"اسمع كلامي و هاتدعيلي، دي الليلة ليلتك يا عريس، اللي أنت داخل عليه محتاج عامل نفسي و أنت يا حبيب أخوك عندك اكتئاب و عايش و مش عايش علي رأي الهضبة، المفروض كنا عالجناك في مصحة"
رمقه الأخر بغضب فحمحم يونس
"بهزر معاك، ده أنت سيد العاقلين، بص عشان ما نلفتش الأنظار أكتر من كدة، بوقين من البتاعة دي و هتبقي ملك زمانك و هتدعيلي"
«عودة إلي الوقت الحالي»
قام بفك ربطة العنق و ألقاها ثم خلع سترته وألقاها أيضاً و كما فعل بهما فعل أيضاً بجسده، استلقي علي ظهره و أخذ يتأمل الزجاجة في يده في محاولة عدم الانغمار في براثن الذكريات لكي لا يصبح أسير الألم لا سيما عندما تذكر تحذير والدته و شعوره بالندم من أسلوبه الفظ و الحاد منذ قليل مع زوجته القابعة في الغرفة الأخرى.
نهض بجذعه و شقت وجهه ابتسامة يشوبها خليط من السخرية والشجن، فتح الزجاجة و تجرع علي دفعة واحدة من هذا الشراب المُحرم.
❈-❈-❈
ليل أسود ونسمات هواء شديدة البرودة وصوت طائر البومة المختبئة في الأشجار التي تحيط بالقلعة ذات المظهر المظلم و المخيف،
تجلس الشقراء علي حافة النافذة تنظر نحو الخارج بملل وضجر، تنظر إلي شاشة هاتفها لتعيد الاتصال رقم المائة فتتلقي رسالة صوتية مسجلة بأن الرقم غير متاح في الوقت الحالي، فهكذا كان الوضع منذ يومين، لا تعلم عنه شيء كالعادة، يسافر و يذهب إلي أشغاله و أعماله الظاهر منها و الباطن و لم يخبرها تفاصيل ما يقوم به، يتجاهلها عمداً أو ربما يريد معرفة مشاعرها الحقيقية اتجاهه و السبب خلف تهربها كلما يطلبها للزواج، حمقاء فهناك مئات يتمنين بالتقرب فقط من فلاديمير رومانوف أكبر زعماء المافيا الروسية!
انتفخت أوداجها و لم تستطع عليه صبراً أكثر من ذلك، اهتز هاتفها ليعلن عن رسالة واردة فحواها كالتالي
«القيصر يسهر الآن في ملهي الدائرة الحمراء»
ابتسامة عارمة ظهرت منها أسنانها يتبعها قولاً بل وعيداً وتنظر إلي صورة تحتفظ بها داخل ملف يُفتح برقم سري علي الهاتف
"مهما مرت أعوام وأصبحت عقود لم أستسلم للوصول إليك و ستصبح لي أنا فقط"
ذهبت إلي الخزانة و أخذت ثوباً لنقل بالأحرى شبه ثوب!
بعد أن أعدت نفسها للذهاب ارتدت معطف من الفرو الوثير لتخبأ أسفله ما ترتديه من ثوب أسود عاري وذلك ليس خجلاً من رجال فلاد أن يرونها بهذا المظهر المنحل بل تخشي من الوشاية بها إليه، فهي لا تريد إثارة غضبه ريثما يكمل مخططها الشيطاني!
بعد مرور وقت، كانت داخل سيارة ذات دفع رباعي، يرافقها حارس شخصي هكذا شرط فلاد للسماح إليها بالتنزه أو الخروج بعد استئذانه بالطبع.
"توقف هنا"
ألقت أمرها علي السائق، ليست حمقاء أن تجعله يتوقف أمام الملهي حتي لا يخبر سيده فأمرته بالتوقف أمام مطعم قريب من مبتغاها.
ألتفت إليها الحارس الشخصي
"سيدتي، المطعم هنا ليس آمن، من الممكن أن نذهب إلي مطعم آخر من المطاعم التي يملكها الزعيم"
حدقت إليه شزراً
"ليس من شأنك ما أريده يا هذا، فأنا كفيلة بحماية نفسي"
"إذن لن أتركك بمفردك في الداخل"
أخبرها بهدوء قاتل أثار حنقها، أخذت تتمتم بغيظ بصوت خافت
"تباً لك فلاد و لرجالك"
قامت بخداع الحارس حيث ولجت داخل المطعم برفقته و جلست و طلبت الطعام ثم نهضت وأخبرته أنها سوف تذهب إلي المرحاض و عليه الانتظار جوار الطاولة ريثما تعود، فعلت ما سبق ثم خرجت من باب آخر يؤدي إلي الشارع الخلفي و طريق مختصر إلي الملهى كما يظهر لها علي خريطة الموقع الجغرافي للمنطقة.
وصلت إلي بوابة صغيرة يقف في الخارج رجلان ذوي بنية جسدية ضخمة، و لافتة ضوئية باسم الملهى، أظهرت لأحدهما شاشة الهاتف تريه دعوة خاصة من صاحب هذا الملهى، ابتسم لها هذا الحارس العابس
"تفضلي سيدتي، سيد روجرز في انتظارك"
أومأت إليه بابتسامة يكللها إغراء سافر
"شكراً لك أيها الضخم"
و ولجت إلي الداخل، سارت في رواق ذو إضاءة خافته و يتبعها رجل يعمل هنا، أعطي أمر إلي حارس البوابة الداخلية و ما أن قام بفتحها صدح صوت الموسيقي الصاخبة، روائح خمر و أدخنة لفائف التبغ الفاخر منها و المحلي، أصوات ضحكات أنثوية يتبعها تهليل من هؤلاء الشباب و الرجال السكارى
"من هنا سيدتي، تفضلي"
أشار إليها الرجل نحو رواق شبه مظلم، وصل كليهما أمام باب غرفة صاحب الملهى والذي أن رآها نهض وفتح ذراعيه بترحاب
"أوه سيلينا، لقد اشتقت إليكِ كثيراً يا امرأة"
اقتربت منه و تبادلا العناق
"روجرز، كيف حالك يا رجل؟"
"كما ترين أيتها الجميلة الشقراء، كنت صاحب حانة في أحد الحواري التي يقبلون عليها المتسكعون و المجرمون، و ها أنا اليوم أصبحت صاحب أكبر سلسلة ملاهي ليلية في روسيا و قريباً سأفتتح سلسلة في إيطاليا"
"لا داعي أن تخبرني فأنا أعلم بكل هذا و أكثر"
"يا لي من أحمق، قد نسيت أنك الآن زوجة الزعيم فلاديمير"
ابتسامة صفراء تخفي خلفها غيظ جعل دمائها تغلي كالمُهل
"لم أصبح زوجته بعد، فنحن في مرحلة التعارف"
أطلق الآخر ضحكة و أخبرها
"أنتما ليس بحاجة إلي عقد زواج فالجميع يعلم أنك زوجته، لكن مهلاً، هل يعلم بوجودك هنا؟"
"بالطبع لا، كيف يعلم ذلك و أنا أخبرتك من قبل مجيئي هنا أمر سري"
"كنت أظن سبب مجيئك هنا هو اشتياقك إلي أيام السهر و الرقص كما كنتِ تفعلين في الحانة"
خلعت المعطف ذو الفراء و رأت كيف ينظر إليها الأخر، ابتلع ريقه فهو يرى أيقونة الإغراء أمامه، جلست أعلي المكتب الزجاجي عاقدة ذراعيها أمام صدرها تخبره بكل ثقة
"لا داع أن تذكرني بتلك الأيام، كنت طائشة و حمقاء، أنا هنا لأمر هام"
دنا منها وسألها بأنفاس ثقيلة و عينيه لا تبرح عن ما بين ذراعيها
"ما هو؟"
حلت ساعديها لإحاطة عنقه بيديها ذات الملمس الحريري
"أريد مقابلة القيصر"
جحظت عيناه و ابتعد عنها
"مَنْ؟، هل تمزحين أم ماذا؟، لا تعلمين أن القيصر المنافس و العدو الأول لزوجك؟!، و إذا علم بهذا الأمر ستكون كارثة فوق رأسي قبل رأسك"
زفرت بغضب
"لا تقل زوجك مرة أخرى، و أنا أدرك جيداً ما أريده، لا تقلق لن يعلم بهذا الأمر"
"كفي هراء سيلينا، زوجك لن يخفي عليه شيئاً و أنتِ أكثر الناس معرفة بفلاد رومانوف و إلي أي مدي تصل نفوذه و سطوته، و أنا ليس علي استعداد أن أصبح علي القائمة السوداء لديه"
لمعت عيناها بنظرة تحدي و إصرار غير آبه بجميع تحذيرات روجرز لها
"عزيزي روجرز، شئت أم أبيت، سألتقي بالقيصر"
تناولت معطفها و حقيبة يدها ثم غادرت تاركة إياه يضرب كفً في الأخر غير مكترثة بأي أمر لاحق.
أخذ روجرز يبحث بعينيه عن هاتفه حتي وجده فامسك به و قام بأجراء اتصالا هاماً وهو يتمتم
"اللعنة عليكِ أيتها الحية، لابد أن أخلي مسئوليتي و أحافظ علي ما بنيته لسنوات"
و علي نفس التوقيت في بلدٍ آخر، يجلس داخل سيارته السوداء، يتابع عمله علي الحاسوب ويتابع أيضاً الاتصال الوارد إليه للتو
"ماذا هناك ألبير؟"
"سيدي لقد كنت مرافقاً للسيدة سيلينا إلي مطعم يقع في شمال موسكو"
أغلق الحاسوب في الحال وصاح سائلاً إياه
"ماذا؟، أعد ما قلته للتو مرة أخرى"
"سيدي، السيدة سيلينا قالت لي أنها قد أخبرتك بذهابها إلي المطعم"
"هل أنت أحمق أم تَدعي ذلك؟!، ماذا عن تحذيراتي لكم؟!، أمرتكم ممنوع أن تخطو قدمها خارج بوابة القلعة و ألا سأحاسبكم جميعاً"
"أعتذر بشدة سيدي"
"ماذا سأفعل باعتذارك أيها الأحمق، أرسل لي الموقع الآن فأنا قادم غضون نصف ساعة"
ابتلع الحارس ريقه خوفاً من سيده لذا أخبره بتردد
"سـ سيدي، هناك أمر هام أريد أن أخبرك به"
انتبه فلاد إلي انتباه مكالمة علي الانتظار، ألقي نظرة حتي علم هوية المتصل فأخبر الحارس
"افعل ما أمرتك به و لا تتحرك من مكانك"
لم يجب علي المتصل الأخر بعد أن تكرر الاتصال حتي صدح صوت رسالة نصية فحواها جعل دماءه تفور كالماء المغلي داخل المراجل
«زوجتك لدي في الملهي تريد مقابلة القيصر»
برزت عروقه و صوت اصطكاك أسنانه من الغضب يسمعه السائق الذي اختطف نظرة في المرآة وجد سيده في حالة قد اصابته بالرعب، كلما رآه في تلك الحالة يعلم أن الأمر لن يسلم من إراقة الدماء.
صوت رسالة أخرى من الحارس بها تفاصيل الموقع، كانت قبضته كادت تحطم هاتفه!!
❈-❈-❈
ما زالت تمكث في الغرفة وانتهت من وصلة بكاء تلاها حالة تبلد، تقف أمام المرآة وتنظر إلي هيئتها، عروس بائسة بل ومريضة بحُب هذا القاسي الذي لا يكترث إلي أي شيء تقدمه إليه أو مشاعرها حياله، نظرت إلي نفسها بازدراء و لم تتحمل رؤية ثوب الزفاف عليها أكثر من ذلك فبدأت بفك التاج ثم الوشاح المتشابك به ألقتهم علي الأرض وشرعت بخلع ثوبها.
وفي الغرفة المجاورة، أصبح في حالة سعادة زائفة، يضحك تارة ثم يصمت و يعيد الكرة مرة أخري، يبدو أنه قد بدأ مفعول الشراب ودخل في حالة ثمل، يشعر بحرارة اضرمت في جسده نابعة من مشاعر أخرى تراوضه كالرغبة والإثارة.
بينما العروس البائسة أغلقت صنبور الاستحمام و تناولت المنشفة القطنية، ارتدتها حول جسدها ووقفت أمام مرآة الحوض، تتحدث إلي ذاتها
"أنا مش هاسكت له تاني ولازم يفهم إن أنا بقيت مراته ولازم يحترمني و يحترم مشاعري"
تناولت منشفة صغيرة و خرجت من الحمام تجفف شعرها المبتل وإذا بها تبعد المنشفة عن وجهها لتجده يجلس علي طرف الفراش ويدخن لفافة تبغ، أزرار قميصه مفتوحة تكشف لها عن صدره العاري، يتأمل هيئتها المثيرة عن كثب وينفث الدخان من أنفه و فمه، شعرت بالخجل من نظراته وقد نست قرارها الذي اتخذته منذ قليل!
حمحمت وأخبرته دون أن تنظر إليه
"الحمام جاهز، تقدر.....
جذبها من يدها ثم ألقي اللفافة المشتعلة علي المنضدة المجاورة، رفع وجهها لتنظر إليه
"آسف"
أصابتها الدهشة، هل يعتذر لها حقاً؟!
أحاط خصرها بين يديه، تشعر بأنفاسه ذات رائحة دخان التبغ وتخالطه رائحة أخرى لم تعلم ماهيتها
"لسة زعلانة مني؟"
غرت فاها لم تصدق ما يفعله و يقوله لها، و علي الفور قد محت من ذاكرتها كل من أفعال و كلمات جارحة صدرت منه، سرعان و أذاب قلبها بين يديه كما يشعر جسدها بالذوبان من قربه المهلك و نظراته التي جعلتها تنسي ذاتها.
"ما أقدرش أزعل منك أبداً، أنا بحبـ....
وضع طرف سبابته علي شفتيها فأصابها بقشعريرة، يخبرها بنبرة اشعلت نيران العشق بها
"كفاية كلام، و تعالي ننسي كل حاجة، أنا محتاجلك"
اختتم كلماته بدفن وجهه بين كتفها و عنقها، أخذ يقبل موضع العرق النابض لديها، اغمضت عينيها واذعنت إلي كلماته واستسلمت إلي ما يفعله من لمسات و يتبعها همسات بكلمات عزفت علي أوتار قلبها طرباً، همهمت بترديد اسمه حتي ارتفعت قبلاته ووصلت إلي شفتيها، ابتعد برأسه و نظر إليها غارقاً في بحر الرغبة وصورة مشوشة ضربت ذاكرته وكأنه يراها علي الحقيقة، همس داخل عقله
"ياسمين؟!"
اختفت الصورة كمشهد انقطع إرساله، أطلق عنان خياله وكأنها هي، ألتقم شفتيها بقبلة مباغتة، تأوهت بألم وحاولت التملص من تلك القبلة الغاشمة
"ياسين ممكن بس..
لم يمهلها أن تكمل طلبها، فقام بتقبيلها وحملها من خصرها حتي وصل إلي المضجع، أنزلها و لم يفصل قبلته، كانت تدفعه في صدره بقوة واهنة لتستطيع التنفس، ابتعد ليلتقط أنفاسه وخلع قميصه وبدأ في خلع بنطاله، تراجعت بالتزحزح إلي الوراء بعد أن أدركت حالة الثمل التي بها، رفعت يدها كإشارة للتوقف عن ما سيفعله
"ياسين، ما ينفعش نكمل و أنت سكران، أنا مش عايزة كد.....
جذبها من قدميها ودنا منها فأصبحت محاطة بجسده ويده تمسك بطرف المنشفة التي ترتديها
"بس أنا عايز"
"ياسين، ياسين، يا....
ضاع توسلها إليه داخل جوفه و لم يكترث، نيران الرغبة في جسده قد وصلت إلي ذروتها مثل لفافة التبغ التي مازالت مشتعلة، تتوهج نيرانها وازداد الدخان و احترقت اللفافة و صوت صرخة في الخلفية فأصبحت زوجته شرعاً وقانوناً، و ما تبقي من لفافة التبغ المحترقة سوي الرماد!
❈-❈-❈
تتمايل هذه الشقراء علي الموسيقي و في يدها كأس من النبيذ الأحمر، تضع ساق فوق أخرى و عينيها كالصقر نحو القيصر الجالس وسط حاشيته في الجهة المقابلة، و بالفعل أصابت هدفها، لاحظ نظراتها فمال إلي مساعده الأقرع
"من تلك الشقراء المثيرة؟"
"دعك منها سيدي، فهذه تخص آل رومانوف، تدعي سيلينا، كانت ترافق نيكلاوس و الآن أصبحت رفيقة شقيقه فلاد و سوف يتزوجا عما قريب"
"قلت لي رفيقة فلاد، علي الرحب و السعة"
رفع كأسه كإشارة ترحيبية لها، بادلته الترحاب ونزلت من فوق الكرسي، تتمايل بخصرها المنحوت وثوبها الذي يكشف عن ساقيها و ذراعيها و يبرز أعلي مفاتنها، وقفت أمام الطاولة تبتسم بدلال سافر
"هل لي من مكان جوارك يا قيصر؟"
"بالطبع أيتها الشقراء المثيرة"
نظر إلي رجاله من حوله فنهضوا جميعاً وابتعدوا علي مسافة قريبة، اقتربت و جلست جواره
"سيلينا، هذا هو اسمي"
ابتسم بدهاء وأخبرها بمكر
"و من لا يعلم عروس آل رومانوف؟!"
جزت علي أسنانها وحاولت ألا تظهر غضبها و وارته خلف ابتسامة حية لعوب
"مجرد ترهات تقال هنا و هناك، أنا مساعدة الزعيم فقط، عرض علىّ الزواج بالفعل لكنني لم أوافق بعد"
أثار حديثها فضوله و أراد أن يعلم المزيد
"عفواً، أريد إيضاح أكثر من ذلك"
تناولت زجاجة خمر من علي الطاولة و أخذت كأسه الذي اوشك علي الانتهاء وقامت بسكب القليل، تناولت رشفة و تركت طبعة حمرة شفتيها واعطته إليه وأشارت بنظراتها نحو الكأس ليشرب من خلفها، اتسعت ابتسامته و رفع الكأس فرفعت كأسها هي أيضاً، ارتطم الكأسين وقال
"نخبك سيلينا"
"نخبك قيصر"
انتهت من الشراب و تركت الكأس لتردف
"أنا أمكث لدي فلاد لأنني أعمل معه و كنت اعمل مع شقيقه سابقاً و والدي كان يعمل لديهم، فعلاقتي بالزعيم مجرد عمل ورفاق ليس أكثر"
"لقد فهمت إذن، لكن هناك سؤال أريد أن أعلم إجابته، هل يعلم فلاد أنك هنا و تجلسين معي، فأنا عدوه اللدود"
اخفت توترها خلف ابتسامة
"هذا ما كنت سأخبرك إياه، أرجو أن مقابلتنا تكون سراً بيننا لا يعلم بها أحد، فأنا أريد منك خدمة و سأعطيك المقابل الذي تريده"
"و ما هي الخدمة؟"
و خارج الملهى علي بُعد مسافة أمتار، تتقدم السيارة نحو العنوان المنشود
"سيدي لقد اقتربنا"
لاحظ وجود بعض من رجال القيصر ينتظرون خارج الملهى فعقب
"اللعنة سيلينا، كنت أؤجل أمر هذا الوغد لاحقاً"
العودة إلي القيصر الذي انتهي من الاستماع لطلبها، سألته و تخشي رفضه
"ماذا قلت؟"
"بالطبع لن أرفض لك طلباً لكن تعلمين في عالمنا كل شيء و له مقابل، و أنا لا أريد مقابل واحد بل اثنان"
و أشار لها بأصبعيه السبابة و الوسطي
"أخبرني إياهما و أعدك لم نختلف"
"المقابل الأول أريد قضاء ليلة معك"
"و الثاني؟"
" و كما أخبرتني منذ قليل كونك مساعدة فلاد، فأنا أريد صفقة الأسلحة التي سيستلمها في إيطاليا"
لم يكن لديها فرصة للرفض فهدفها هو الأهم مهما كان الثمن الذي ستدفعه حتي لو اضطر الأمر إلي خيانة فلاد!
"أوافق"
ابتسم بانتصار و وجد أحد رجاله يدنو منه و يهمس إليه بأمر، فأسرع يخبر سيلينا
"انهضِ وارحلي من هنا علي الفور، فلاد و رجاله في الخارج"
انسحبت الدماء من وجهها، نهضت مسرعة لتختبأ قبل أن يمسك بها فلاد وهي تجلس مع عدوه، أدركت أن روجرز قد أخبره
"كان روجرز اللعين لا يمزح إذاً"
كان بالفعل قد ولج فلاد و رجاله داخل الملهى و كان في استقباله روجرز
"مرحب بك يا زعيم"
كان غاضباً حقاً و عندما يصل إلي تلك الحالة فلا يرى أمامه و يريد حرق الأخضر و اليابس
"أين هم؟"
"يا للمفاجأة السعيدة، الزعيم بذاته هنا!"
كان وجه القيصر مثير لحنق فلاد مما دفعه إلي تسديد لكمة قوية في أنفه جعلته وقع علي الأرض طريحاً
كاد يشتبك رجال القيصر مع فلاد و رجاله رفع يده و أمرهم
"لا يتدخل أحد بيني و بين الزعيم"
نهض وأخذ يمسح دماء أنفه بالمحرمة، حدق فلاد روجرز بنظرة قاتلة، أشار له الأخر بعينيه نحو الرواق المؤدي إلي المرحاض، فأمر فلاد رجاله
"انتظروا هنا"
و اتجه مسرعاً نحو الرواق، كانت تختبئ داخل المرحاض وارتدت ثياب عاملة النظافة، تدفع عربة المنظفات إلي الخارج بعد أن وضعت علي رأسها قبعة من الصوف تخفي أسفلها شعرها الأشقر، لمحت طيف فلاد الذي يقترب من المرحاض، أسرعت خطواتها دون مبالغة حتي لا تلفت انتباهه إليها.
ولج داخل الحمام فوجد شقراء موليه إليه ظهرها، جذبها من ذراعها
"ماذا تفعلين هنا أيتها الـ....
صرخت الفتاة ووجدها ليست هي، تركها معتذراً
"معذرة"
أخذ يفتح كل باب مرحاض فيجده شاغراً، غادر و نظر يميناً ويساراً لم ير سوي عاملة النظافة في نهاية الرواق، ظل يتأملها حتي اختفت عن الأنظار
توقفت أمام الغرفة الخاصة بعمال النظافة، ولجت و تركت العربة جانباً تتنفس الصعداء، عليها أن تعود إلي المطعم قبل أن يجدها و يفتك بها.
بدلت الثياب و ارتدت ثوبها و المعطف، امسكت بحقيبة يدها واستطاعت الهروب من الباب الخاص بالعمال وذلك بمساعدة أحد رجال القيصر، و في غضون دقائق كانت داخل المطعم، ولجت من الباب الخلفي لتجد المطعم خالي من الزبائن و هدوء يسبق العاصفة.
"هل كان الأمر صعباً لتبقين كل هذا الوقت داخل المرحاض؟!"
ألتفت خلفها لتجده يقف و علي شفتيه ابتسامة دبت الرعب في قلبها، فهو نقيض شقيقه حليم و صبور للغاية و إذا غضب فلن يرحمها، و تلك الابتسامة غير مبشرة علي الإطلاق.
"قمت بالاتصال بك أكثر من مائة مرة و أجد هاتفك غير متاح و لا أعلم عنك شيء، أردت التنزه قليلاً بدلاً من الكلل و الملل داخل القلعة الباردة"
لاحظت نظراته إلي أسفل حيث يمعن النظر إلي حذائها الأحمر المخملي ذو الكعب المرتفع
"ماذا كنتِ تفعلين مع القيصر داخل الملهى"
شهقت وأجابت بإنكار
"ما هذا الهراء، ملهى؟!، و من قيصر ذاك؟"
جذبها من شعرها حتي كادت تقتلع خصلاتها في يده
"أكره الكذب و خبث ومكر العاهرات ذلك، هيا أجيبِ"
"ما زالتِ تستمرين في الكذب، أنتِ من أردتِ ذلك فلتتحملي النتائج"
جذبها عنوة تحت توسلاتها إليه بأن يترك ذراعها، وصل بها إلي سيارته و دفعها إلي الداخل، وجدت أن البكاء خير وسيلة لاستعطاف قلبه، لا تدرك البكاء و العويل يضرمان نيران غضبه أكثر.
"اصمتِ"
صاح بغضب جامح مع دفعة من يده لها جعل رأسها يرتطم في زجاج النافذة ففقدت وعيها في الحال.
أصاب قلبه الذعر نحوها، أمسك برأسها وأخذ يربت علي وجهها
"سيلينا، سيلينا، كفي تمثيلاً"
تناول زجاجة المياه وقام بسكبها علي رأسها فشهقت كالعائد من الموت، فتحت عينيها رويداً رويداً لترى نظرة القلق و الخوف عليها في عينيه، بصوت خافت سألته
"ماذا حدث؟"
أطلق زفرة تنم عن الراحة التي شعر بها بعد أن اطمئن عليها و عاد الوجه الغاضب مرة أخرى
"لن أعيد سؤالي مرة أخرى، ماذا بينك و بين القيصر ليجعلك تهربين من الحارس و تذهبين إلي ملهي روجرز؟ و هناك السؤال الأول لماذا خرجتي من دون إذني"
هنا استخدمت ذكائها لتتجنب عقابه
"أنت لم تهتم بي مثل قبل وفوق ذلك تسافر بالثلاثة أيام و لم تخبرني عنك شيئاً و تضع رقمي علي قائمة الحظر لديك لكي لا أزعجك، لماذا تفعل معي ذلك؟"
عقد ما بين حاجبيه و داخله يشعر بالانتصار ها هو قد أصاب هدفه
"ألم تسألي نفسك أولاً لماذا أفعل معك ذلك؟"
"كل هذا بسبب تأجيلي لموعد الزفاف"
"و أريد تفسيرك لهذا التأجيل الغير مبرر"
"و أنا أخبرتك شرط زواجي منك أن تأخذ بثأر شقيقك، و الثأر ليس بالتخلص بمن قتله بل تقضي علي من يحبهم، عائلته"
"و أنا قد سألتك حينها لماذا تُردين ثأر شقيقي بالرغم من ما فعله بك؟، ما هو الدافع الحقيقي لديك؟"
شعرت بالتوتر والخوف من نظراته الحادة، ابتلعت ريقها ثم أخبرته كذباً
"لأن قاتل شقيقك هو السبب في إفساد علاقتي بكلاوس، كان يريد مني أن أرافقه ورفضت، حينها أخبر شقيقك أنني من أريد التقرب منه و لا أعلم بماذا أخبره أيضاً و جعل كلاوس ينتقم مني أشر الانتقام"
هز رأسه برفض معقباً
"لم اقتنع، هناك حلقة بل حلقات مفقودة، هيا سيلينا أخبريني بالحقيقة كاملة و ألا سأجعلك تندمين كثيراً إذا علمتها بنفسي"
نظرت إلي الجهة الأخرى تبتعد عن النظر إليه مباشرة لكي لا يكشف كذبها
"هذا كل ما لدي، و إن لم تصدقني دعك مني واتركني أذهب"
لم يعقب و أخذ ينظر إليها في صمت وصوت داخله يردد في رأسه
«عشقك لعنة جنت علي قلبي وروحي، كنتِ تظنين لا أعلم بما تخفيه داخلك، لكن أنا أعلم عنك ما لا تعلميه عن ذاتك حبيبتي»
انتبهت إلي صمته فألتفت إليه
"ما سبب صمتك هذا؟"
تنهد وأخبرها
"لا شيء سيلينا، لا شيء"
و نظر أمامه و يلاحظ نظراتها إليه و مدي التوتر و القلق المسيطران عليها، يبدو هذه الحمقاء لا تعلم مَنْ هو فلاديمير جيداً و كم هو يتميز بدهاء و مكر لم يضاهيه فيه أحد من أقوي و أعتى الرجال في عالمهم المظلم ذاك و إذا لم يكن كذلك فما كان قد وصل لمكانته الحالية.
وصل إلي قلعته الشامخة و الحراس منتشرون في كل مكان، نزلت من السيارة و هو خلفها
"اذهبي أنتِ و سألحق بك ريثما انتهي من شيء سأفعله"
ابتسمت بدلال واقتربت منه، وضعت يديها علي كتفيه لتخبره بنبرة لعوب
"سأنتظرك في غرفتي لأرحب بعودتك"
اقتربت أكثر و همست جوار أذنه
"لا تتأخر فأنا أشتاق إليك كثيراً يا زوجي المستقبلي"
تركت قبلة علي وجنته ثم ذهبت وتغمز بعينها، ابتسم من فعلتها و هناك سبب آخر خلف ابتسامته تلك؟!
أجري أتصالاً هاتفياً
"روجرز، أرسل لي حديثهما الذي سجلته"
"و ماذا عن القيصر، إذا علم بهذا الأمر سُيقضي علي"
"لا تقلق فأنت في حمايتي و لن يقدر هو و أمثاله علي الاقتراب منك"
"أمرك يا زعيم، لقد أرسلته لك الآن"
نظر في شاشة هاتفه ووجد رسالة صوتية بالفعل قد أُرسلت إليه، أنهي المكالمة ووضع الهاتف علي أذنه ليستمع هو فقط و عينيه نحو النافذة حيث تقف حبيبته الشقراء و تلوح له بيدها.
❈-❈-❈
إنها السابعة صباحاً كما يظهر في ساعة هاتفها، ترتشف قهوتها كما هي عادتها كل صباح، تتأمل أزهارها من شرفة الغرفة مع الاستماع إلي صوت فيروز
«شايف البحر شو كبير، كبر البحر بحبك، شايف السما شو بعيدة......»
أخذت نفساً عميقاً بمتعة لا تشعر بها سوي علي أرض الكنانة نقيض الأجواء الباردة و الغريبة في البلاد التي قامت بزياراتها مع زوجها الذي خرج للتو إلي الشرفة ووقف خلفها يعانقها
"وردتي الجميلة صاحية بدري أوي كدة ليه؟"
تركت القدح من يدها وألتفت إليه
"صحيت عشان استمتع بأحسن وأحلي جو وريحة نسيم مش هتلاقي زيها غير في بلدنا"
ابتسم و عقب
"و ياسلام علي فنجان القهوة مع صوت فيروز اللي خلوكي تقومي من حضن جوزك حبيبك و تسيبيه لوحده نايم، بقي كدة يا چيچي بيدو حبيبك هان عليكي؟!"
ضحكت من أسلوب حديثه الفكاهي المازح
"عمرك ما تهون علىّ، بس كانت وحشاني اللحظات دي أوي كنت مفتقداها الشهور اللي فاتت"
"لاء أنا كدة أغير بقي، مفيش حد يوحشك غيري أنا فاهمة يا هانم و لا لاء"
أخذت يده بين كفيها وأخذت تربت علي كفه
"عابد أنت هدية ربنا بعتها ليا بعد سنين صبر شوفت فيها كتير، أنت حب حياتي الوحيد اللي كنت بدعي ربنا ديماً أننا نكون لبعض، أي نعم أتحقق في وقت متأخر و بعد ما اتسرقت أجمل سنين عمرنا و بقينا جد و جدة، بس ده ما يمنعش أن أنا فرحانة من كل قلبي و بستمتع بكل لحظة وأنت معايا"
قام بتقبيل جبهتها ثم قبل كلا يديها
"ربنا يخليكي ليا يا حبيبتي، و ربنا يبارك في اللي باقي من عمرنا وأفضل أسعدك و نعوض كل اللي فاتنا"
لاحظ نظراتها نحو الفراغ، يشغلها أمر اظهر الحزن في عينيها فجأة
"مالك يا چيهان؟، سرحتي فجأة و شكلك متضايق و حزين"
أطلقت زفرة عميقة وأفاضت عما يقلقها
"قلقانة علي الأولاد أوي يا عابد، حبيت أعملهم رجوعنا مفاجأة لاقتهم هم اللي فاجئوني، آدم و خديجة متخانقين و طالبة الطلاق، ياسين أتجوز رودينا عشان ينسي بيها وجعه علي فراق مراته و كده هيظلم التانية معاه، حتي يوسف ابني الدكتور اللي بقول عليه عاقل عو ومراته شكل ما بينهم مشاكل معرفش أي هي بس قلبي بيقولي في مصايب هاتحصل و ربنا يستر"
"ليه التشاؤوم ده يا حبيبتي، وارد جداً يحصل مشاكل ما بين أي زوجين، و هما ماشاء الله كبار و عندهم أولاد و فاهمين يعني إيه جواز و مسئولية، سيبيهم يحلوا مشاكلهم بنفسهم و لو لا قدر الله الأمر كبر وقتها هانتدخل أنا وأنتي عشان نحلها"
ابتسمت وارتمت علي صدره
"آسفة يا عابد، شغلتك بمشاكل ولادي و نكدت عليك و أنت عمال تقولي كلام حلو و رومانسي"
أبعد رأسها عن صدره وأحاط وجهها بين يديه
"أنا هازعل بجد لو كررتي كلمة ولادك دي، اسمهم ولادنا، و لا أنتي بتعتبريني غريب بالنسب لهم؟!"
"أبداً والله يا حبيبي، أنت في مقام باباهم وربنا الشاهد طول السنين اللي فاتت من مواقف و مشكلات بتحصل معاهم كنت أنت أول واحد بتقف جنبهم"
ابتسم بحب مربتاً علي كتفها
"ما تقلقيش يا قلب عابد، أنا هاخدك و نروح نزور كل واحد فيهم يوم و نطمن عليهم"
"بحبك أوي يا عابد"
حدق في عينيها بمكر مبتسماً
"و أنا مش بحبك، ده أنا بعشقك و بعشق نفسك و روحك و نبضك و كل حاجة فيكي، و يلا تعالي ندخل جوة عشان حاسس ببرد و عايزك تدفيني و أثبتلك كل الكلام الرومانسي اللي قولتهلك دلوقت قولاً وفعلاً"
ضحكت ويدفعها برفق أمامه إلي داخل الغرفة
"استني بس، طب نفطر الأول وناخد الدوا"
"فطاري ودوايا هاخده دلوقتي"
أغلق عليهما باب الشرفة الزجاجي ويتبعها غلق الستائر، كفت عن الضحك فلديهما حديث من نوع آخر.
❈-❈-❈
لقطات مزعجة تراوضه في أحلامه، ذلك اليوم الذي ظل يدفع ثمنه حتي فقدها للأبد، صرخاتها وهي تتوسل له ليبتعد عنها ويتوقف عن تمزيق ثيابها وهو يقوم بالاعتداء عليها
صرخاتها باسمه
«ياسين... ياسين... ياسين»
استيقظ بفزع ويشهق كالعائد من الموت، ظل لثواني يدرك أين هو وما يحدث حوله، وجد سكون مريب، انتبه إلي جسده العاري ويغطيه الدثار إلي خصره، وقعت عينيه علي ثوب الزفاف الملقي فوق مقعد طاولة الزينة و ثيابه المبعثرة علي الأرض، جواره منشفة قطنية كبيرة، اتسعت عينيه عندما رأي بالقرب من طرفها بقعة دماء!
يتبع...
تكملة الرواية من هنااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا