رواية عن تراض الفصل الحادي عشر والثاني عشر بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
رواية عن تراض الفصل الحادي عشر والثاني عشر بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
(١١)
#رواية_عن_تراضٍ
ولاهم باسل ظهره وكاد يغادر من هول صدمته...
-دا جوز هند! هو إيه اللي بيحصل هنا!
قالتها «سراب» بتوجس وهي تشير نحو «باسل» بأنامل مرتعشة، جال في خاطرها العديد من التساؤلات، هل هو كمين لهم!
تذبذبت نظراتها، وزحفت ببصرها نحو عمرو ودار بين نظراتهما حوار صامت دام لبرهة قرأ خلالها كل أسألتها وخوفها...
نهض «عمرو» واقفًا وقال بثبات زائف:
-متقلقيش يا سراب دا اخو البشمهندس بدر يعني ابن ابن خال والدتك.
التفت لهم «باسل» ودنى منهم متظاهرًا بالإستغراب، ورافعًا رأسه بشموخ، وهو يقول:
-مين دول يا جدي!
قال البدري باقتضاب:
-قرايبنا.
وقف «عمرو» قبالته ومد يده ليصافحه وهو يقول:
-إزيك يا أستاذ باسل؟ حضرتك متعرفنيش ولا إيه! دا احنا اتقابلنا قبل كده!
صافحه باسل بابتسامة مرتعشة وقبض يده وهو يقول:
-مش واخد بالي! آآ... اتقابلنا فين؟
-لما كنت بتتجوز هند، فاكر؟
سأله عمرو متخابثًا، فغضن باسل حاجبيه وقال بتعجب مصطنع:
-هند مين؟ أنا مش متجوز و... ومعرفش حد بالإسم ده!
عاد «عمرو» يجلس وأخذ يقص على الجميع لقاءه الأول مع باسل وما حدث في عُجالة، ثم رؤيته لباسل في شارعهم وما فعله بسعيدة آنذاك حين دفعها وفر مسرعًا قبل أن يلتقطه عمرو وبدر...
أنكر «باسل» بكامل عزمه أنه يعرف عمرو، مبررًا أنه حين أتى لشارعهم كان يراقب «بدر» وخشى أن يراه لذا فر مسرعًا، فقال عمرو:
-على العموم يا أستاذ باسل أتمنى يكون تشابه فعلًا!
تلجم لسان باسل وجلس جوار جده الذي كان يراقب النظرات ويحلل الحركات وهو ينصت للحوار في صمت بليغ.
ألقى الصمت عباءته على الجميع، كان «عمرو» يرشق بدر وباسل والبدري بنظراتٍ يقتر منها الشك، يحاول ربط الأحداث ببعضها، أيعقل أنهم الآن داخلوا للدائرة السوداء التي حذره منها كارم!
أضناه الندم، كان يجب أن يأتي بمفرده وأن يفهم أولًا قبل أن يُدخل تقى وسراب تلك المتاهة...
انتبه من شروده على صوت البدري حين نظر لباسل قائلًا:
-خير يا باسل، كنت جاي ليه؟ عايز فلوس؟
-آآ... كنت جاي أطمن عليك يا جدي!
-وأنا بخير الحمد لله.
قالها البدري بنبرة يشوبها السخرية، ثم نظر للبقية وقال:
-اطلعوا يا ولاد ريحوا فوق، القصر مليان أوض اختاروا الأوض اللي تعجبكم...
تبادلوا النظرات المُرتابة والجد ينادى أحد الخدم ويأمره باصطحابهم، وصعد معهم بدر بعدما رمى باسل بنظرة ازدراء اخترقته، فنهض «باسل» ليتبعهم سيبرر لهم مرة أخرى ويحاول إقناع أخيه ولكن ناداه جده، فوقف مكانه وابتلع لعابه باضطراب قبل أن يلتفت له...
قال جده ساخرًا:
-اقعد بقا يا سي باسل قولي إيه حكايه إنك مكسرات، قصدي جوز هند!
ورغم الموقف العصيب الذي وُضع به باسل إلا أنه ضحك وهو يعود ليجلس جوار جده، قال وأثر الابتسامة عالقًا على شفتيه:
-مـ... معرفش يا جدي مـ... معرفش دا أكيد تشابه.
خاطبه جده بانفعال شديد:
-لا ما إنت مش هتضحك عليا أنا السنين اللي عيشتها داست على وشي وهي معديه والتجاعيد اللي في وشي دي تشهد.
تلاشت ابتسامة باسل وقال بارتباك:
-يا جدي صدقتي آآ...
قاطعه جده بطرقة على الأرض من عكازه ثم قوله بصرامة:
-ربكتك لما شوفتهم، ونظراتك وهما بيتكلموا فضحتك يا باسل.
-آآ... أنا فعلا اتوترت لما شوفتهم لأني كنت براقب بدر، آآ... أنا أول مره روحت الدقهلية كنت رايح ورا بدر عشان مكنتش عايزه يوصل لأولادك وشوفت الناس دول معاه هناك عشان كده اتوترت.
صمت الجد هنيهة وهو يتفرس ملامح باسل ثم قال ببرود وهدوء:
-إنت جاي عايز ايه يا باسل؟!
صمت باسل هنيهة، ثم حمحم وقال:
-بصراحه كنت عايز مبلغ كده بس حضرتك ممكن تعتبره سلف يعني ان شاء الله هرجعه.
ضحك جده ساخرًا وقال:
-كنت متأكد إنك جاي عايز فلوس، بس لأ متأسف... مفيش فلوس يا باسل، روح إطلب من أخوك الكبير اللي مشغلك تحت إيده.
-أنا محتاج مبلغ ضروري يا جدي وأخويا مستحيل يديني.
قالها باسل والقلق يتجول بين ملامحه، فقال الجد:
-معنديش مشكله أديك فلوس، لما تيجي تقولي الحقيقه كامله يا جوز هند، ساعتها هديك اللي إنت عايزه.
أمسك باسل بيد جده وقال باستعطاف:
-حضرتك مش مصدقني ليه! ما أنا قولت!
-قوم يا باسل ريح جتتك شويه عشان هترجع في قطر الفجر، إن شاء الله نصحى من النوم نلاقيك مش هنا.
قالها الجد بحزم ثم نهض يتكأ على عكازه وينادي أحد الخدم ليسنده حتى غرفته، ثم التفت لباسل وقال وهو يوقع كلماته:
-تقى وسراب خط أحمر يا باسل لو قربت منهم إنت ولا أخواتك مش هرحمكوا.
لم يبرح «باسل» مكانه وأخذ يتابع جده وهو يدخل غرفته...
نهض واقفًا حملق بالفراغ أمامه لبرهة وخرج من القصر صافعًا الباب خلفه في غضبٍ شديد، فأحدث دويًا مزعجًا.
ردد بغضب:
-ماشي يا بدر.
طلب رقم هند مرة تلو الأخرى فلم تجبه، صاح بغضب:
-ردي إنتِ كمان!
وبغضبٍ شديد واندفاعٍ أشد طلب رقم أخيه الأكبر وحكى له ما يفعله بدر، فلن يظلل عليه كما تفعل والدته دائمًا، بعد الآن سيتركه يواجه عاصفة أخيه الأكبر ولن يحميه أبدًا...
بقلم آيه شاكر
استغفروا🌸
★★★★★★
على الصعيد الأخر
تجولوا بالطابق الثاني لفترة والخادم يفتح الغرفات وهم يتصفحون كل غرفة بأعينهم ثم يخرجون، حتى قالت سراب بنبرة مرتعشة:
-احنا هننام في أوضة واحدة.
-إزاي يعني أوضه واحده يا سراب!!
قالتها «تقى» وهي تطالع «سراب» التي كان الخوف قابع بين عينيها، تريد أن تنام بغرفة واحدة مع عمرو وعامر علها تطمئن فقد كان داخلها يرتجف خاصةً بعدما سمعت ما قاله عمرو عن باسل! انتبهت حين قال عمرو:
-خلي أوضنا جنب بعض.
أشار بدر لغرفتين متجاورتين وقال:
-الأوضتين دول ليهم بلكونه واحده.
قال عمرو:
-تمام حلوين دول.
خاطب «بدر» الخادم الذي كان ينصت لحوارهم:
-تمام روح إنت أنا هفضل معاهم.
انصرف الخادم، فقال عامر:
-روح إنت كمان يا بشمهندس نام.
-تـ... تمام، لو احتاجتوا أي حاجه في أي وقت كلموني.
أومأ عمرو بابتسامة باردة أزالها حين ولاهم بدر ظهره، فلازال الشك يتجول بقلبه من ناحية بدر، وكان بدر على دراية بما في قلبه لذا ترك لهم حرية ابقاء مسافة بينهم وهو على ثقة أنها ستُطوى مع الأيام...
وبعد مغادرته قالت سراب بخفوت:
-يلا ادخلوا نتقابل في البلكونه ضروري...
طالعتها تقى بأعين متسعة، وما أن دخلتا للغرفة قالت تقى بحسم:
-متقوليش حاجه، اصبري شويه.
-لازم نحكيلهم عن هند و...
قاطعتها تقى بحدة:
-قولتلك اصبري شويه متبقيش متسرعه، خلينا نقابل اللي اسمه حسين ده الأول.
لم تبدي «سراب» أي رد فعل، كانت تعلم أن تقى مخطئة ويجب أن يعلموا جميعًا بشأن هند...
خرجتا للشرفة التي تُطل على مساحة واسعة من الأراضي الزراعية، وقفوا الأربعة يحملقون بلأشجار العالية التي يرونها على ضوء القمر فقد كانت أعمدة الإنارة خافتة الإضاءة، ذلك السكون المهيب الذي خيم على الأرجاء بث الخوف في صدورهم.
وفي صمتٍ مطبق وقفت عمرو جوار سراب وعلى يسارها تقى التي عقدت ذلك الرباط الأحمر الذي رماه لها عامر الواقف جوارها.
رمقت سراب لعمرو الذي يقف يمينها واضعًا كلتا يديه بجيبي بنطاله، فنظرت أمامها وهي تضع كلتا يديها بجيب سترته التي لم تخلعها، أرسلت تنهيدة عميقة قبل أن تتحدث بقلق:
-أنا حاسه إني برتعش من جوه.
-ليه الجاكت بتاعي مش مدفيكِ ولا ايه؟
قالها «عمرو» مازحًا عله يخفف من وطأة الخوف الذي حل على قلوبهم، فقالت سراب بجمود:
-مش وقت هزار خالص يا عمرو.
ساد الصمت مرة أخرى، حتى قال عامر بابتسامة ساخرة:
-بتقولي لبدر إحنا هنقعد في أوضه واحده يا سراب، خليتي الراجل شك فينا.
قالت تقى:
-الشك ده من حقنا احنا، دا أنا قلبي مليان أسئله أد كده، حتى خالي ده قليل الكلام وغامض كده أنا مش مرتاحه أبدًا، وازاي بقا عمي هو أبو سراب! مع إن اسم اللبان ده مش مكتوب في بطاقتي! أنا مش قادره أستوعب ولا عارفه إيه اللي بيحصل!
وقالت سراب:
-كل ده كوم والمكان اللي عامل زي بيت الأشباح ده كوم تاني.
قال عامر:
-متخافوش! وأنا شايف خالك ده محترم وباين عليه الطيبة يا تقى.
قال عمرو ساخرًا:
-اتنيل يا عامر إنت عندك الناس كلها محترمه وطيبه أصلًا، أنا بقا محتار ومش عارف إحنا ماشين غلط ولا ايه!
أرسل عامر تنهيدة طويلة ثم قال:
-إن شاء الله ربنا هيحلها، اقفلوا بس الأوضه على نفسكوا وناموا، احنا لازم ننام كويس عشان نقدر نفكر.
-أيوه فعلًا.
قالتها تقى وهي تفك الرباط عن يدها وتبتسم لعامر، الذي قذفها بنظرة تشي بالكثير وهو يقول بصوت رخيم:
-خلي بالك من نفسك.
نظر عمرو وسراب لذلك الرباط، ثم نظرا لبعضهما، طالت نظرات عامر لتقى، فحمحم عمرو وقال:
-مش يلا ننام بقا ولا ايه!
ارتبك عامر وأشاح بصره عنها وهو يضع الرباط بجيبه، ويقول بابتسامة:
-تصبحوا على خير.
كادت سراب تخلع سترة عمرو، فقال:
-هتعملي ايه! خليها هتاخدي برد، أنا معايا غيرها.
أومات وقالت بابتسامة:
-ماشي تصبحوا على خير.
قالت تقى:
-اقفلوا انتوا كمان على نفسكوا كويس.
-حاضر.
قالها عامر بابتسامة حالمة، فجذبه عمرو من ذراعه لينتبه لنفسه ودخلا لغرفتهما.
استلقى «عامر» على الفراش وهو يردد:
-أنا حاسس إن دي أحلى فتره عيشتها من يوم ما اتولدت.
-لا يا راجل!
قالها عمرو ساخرًا وأردف بجدية:
-هو انتوا ايه؟
اعتدل عامر جالسًا وقال:
-ايه!
جلس عمرو قبالته على الفراش وقال:
-بتحبها اتجوزها إنما كده مينفعش يا عامر، وأنا شايف إن هي كمان بتحبك ومش عارف على إيه بصراحه.
قال «عمرو» أخر جملة ضاحكًا وهو ينظر لأخيه بازدراء زائف، فقال عامر ببعض الانفعال:
-على فكره لو مش عاجبك شكلي فاحنا الاتنين نسخه مكرره يعني إنت بتسخر من نفسك، وإن كان على ذقنك فأنا ممكن أربيها شكلك عادي.
ثم استلقى مجددًا ونظر للسقف تنهد بعمق ثم قال بجدية:
-أنا عارف إنه مينفعش وعارف إنها بتحبني بس خطوة الجواز حاليًا متنفعش لا ليا ولا ليها، صعب جدًا.
أخرج عامر الرباط من جيبه أخذ يتأمله بابتسامة واسترسل:
-دي الحاجه الوحيده اللي بعرف أعملها عشان أحسسها بالأمان، تقى بنت محترمه جدًا ومتدينه وأنا واخد بالي من المسافة اللي هي سيباها بيننا، وكل مره بديها الرباط بحس بترددها وهي بتمد إيديها وتاخد طرفه تربطه على أيديها بس برده بحس إن الرباط ده بيطبطب على قلبها وبيجبر الكـ ـسر اللي فيه، أنا خايف عليها أوي يا عمرو، ببقا نفسي أحضنها وأقولها أنا هنا، ويمكن دي الطريقه اللي بقولها بيها أنا جنبك.
أطلق عمرو تنهيدة عميقة وقال:
-هي محتاجالك وإنت محتاج تكون جنبها وأنا شايف إنك لازم تتجوزها.
صمت عامر هنيهة ثم نطق:
-صعب، صعب جدًا...
قال عمرو بانفعالٍ شديد:
-طلما صعب يبقا تبطل حكاية الرباط ده وتتلم يا عامر، لو عملتها تاني أنا هحرجك وهحرجها.
انفعل عليه عامر:
-وإنت مالك أصلًا!
-لا ما أنا لازم أحذرك لما ألاقيك بتتبع خطوات الشيطان! النهارده فيه رباط بينكم بكره تمسك ايديها بعده هتحضنها، وأنا مش من الناس اللي بتشوف المنكر وتقول حرية شخصية، ربنا هيحاسبني لو محذرتش وقولت لأ دا مينفعش وده حرام...
-منكر! إنت خليته منكر؟ مجرد رباط بتمسك طرف وأنا بمسك طرف بقا منكر!
تنفس عمرو الصعداء ثم قال:
-دي خطوات الشيطان يا عامر! وربنا سبحانه وتعالى نهانا وقال:
«ولا تتبعوا خطوات الشيطان...»
-تصبح على خير يا عمرو.
قالها عامر بضجر وانقلب على جانبه الأخر ليهرب من نظرات أخيه وكلماته تلك، التي كانت كرمح أطلقه عمرو بغتة فمر من جواره لينتبه...
أكد عليه عمرو وهو يوقع كلماته:
-بكرر تاني يا عامر الرباط ده لو طلعته تاني أنا هحرجك وهحرجها.
لم يلتفت إليه عامر، فاستلقى عمرو جواره وران عليهما الصمت الظاهري، وكل منهما يتحدث في سريرته...
ظل عامر يفكر في كلام عمرو، غالب النوم وهو يقول:
-عندي حق يا عمرو، وشكرًا إنك فوقتني.
-أنا خايف عليك وعليها والله.
قالها عمرو فابتسم عامر وهو يُغلق جفونه ويقول:
-ربنا يديمك في حياتي يا عمرو.
وأخذ الكرى بجفونه بعدما عقد قراره وعزمه، فإن كانت تقى تحاول ترك مسافة بينهما وتتعفف فسيساعدها ويتعفف حتى يأتي الوقت المناسب.
بقلم آيه شاكر
صلوا على خير الأنام ♥️
★★★★★
ظل «نادر» يقطع شقتة جيئة وذهابًا فلم يخرج مع أصدقائه هذه الليلة، فجأة زهد في كل شيء، كاد يختنق من فرط التفكير وتأنيب الضمير،.فتلك الفتاة «رحمة» بريئة ونقية كالثلج وقد أقحمها في لعبة قـ ـذرة من تأليفه ولكن... أُخمد ضميره حين أقنعه شيطـ ـانه وتغلبت عليه وساوسه، لا ريب أنها تشبه والدتها، لازال يذكر كلام والديه عن «والدة رحمه» فقد أخطأت مع والدها قبل الزواج، وهل تلد الحداءة كتاكيت! بالطبع هي نسخة من والدتها، راقت له تلك الفكرة فارتسمت على شفتيه ابتسامة خبيثة وهو يتخيل رحمه أمامه، فقد أعجبته بشدة...
استلقى وطلب رقمها عدة مرات لكنها لم تجب ففتح الفيديو الذي ركبه لها بنفسه، وأخذ يشاهده والخبث يرتسم على ملامحه، إنها فتاة فاتنة!
أرسل لها رسالة أنه يجب أن يراها الآن لأمرٍ عاجل، فأرسلت إليه أنها ستقابله في الغد لأن الوقت قد تأخر، قرأ رسالتها وابتسم بمكر وهو يردد اسمها بشغف:
"رحمه"
★★★★★
ومن ناحية أخرى
كانت «رحمه» ترى رنين «نادر» لكنها لم تجبه تخشى أن يكون ثمة خبر سيء عن ذلك الفيديو، كانت مضطربة لم تخرج لدروسها اليوم كي لا تراه ولو صدفة، تشعر وكأن أحدهم قيد روحها، ليتها لم تقابله، كانت شاردة تجلس لحالها معظم النهار، حاولت رغدة اختراق سكونها ذاك أكثر من مرة، فهي تعلم أن رحمه فتاة غامضة، لا تكشف عما تخبئة بسهولة وتخفي عنها أمرًا ما لكنها لا تعلم ما هو...
حين رأت رحمه رسالة نادر وأجابت عليها ازداد قلقها وتفاقمت حيرتها، تسائلت ماذا يريد منها؟ وهل انتبهت تلك الفتاة المنتقبه لما فعلته!
استلقت «رغدة» على فراشها وهي ترمق أختها بين فنية وأخرى ثم شرعت تحكي لها ما حدث بينها وبين بدر ذلك اليوم للمرة الثالثة، وكأنها تخشى نسيانه، تحاول تذكر كل كلمة قالها، وكل حركة فعلها، ولكن رحمه كانت شاردة وقد أحاطتها هالة من المخاوف والمخاطر.
وحين لاحظت رغدة شرود أختها وجهت لها سؤالًا علها تنتبه:
-هو إنتِ متعرفيش هيرجع معاهم تاني ولا ايه؟
-هو مين ده؟
-بـ... بدر!
اعتدلت رحمه جالسة وقالت:
-شايفاكِ مشغوله أوي بحد إنتِ مشوفتيهوش أصلًا عشان نقول حب من أول نظره!
أطلقت رغدة ضحكة كالزفرة وقالت:
-حب ايه يا بنتي! دا فضول مش أكتر...
صمتت رغدة هنيهة وقالت:
-سمعتهم بيقولوا إنه شخصيه محترمه أوي.
-مين دول اللي بيقولوا؟!
قالتها رحمه، فاعتدلت رغدة جالسة وقالت بتلعثم:
-يعني جدو دياب وعمو رائد وتيته شيرين...
أومأت رحمه وصمتت، فسألتها رغدة:
-هو حلو يا رحمه يعني بما إنك شوفتيه وكده؟
-رغده! بطلي مراهقه...
قالتها رحمه بحدة، فاستلقت رغدة مجددًا وهي تقول بتلعثم:
-يا بنتي فضول مش أكتر... إنت فهماني غلط جدًا.
-بس بقا يا رغده أنا أصلًا دماغي في حته تانيه خالص.
قالتها رحمه ونفخت الهواء من فمها، فارتجلت رغده من سريرها وجلست قبالة رحمه تتفحص ملامحها وهي تقول:
-دماغك فين؟ إنتِ فعلًا متغيره وأنا حاسه وبحاول أكذب احساسي!
أطرقت رحمة هنيهة ثم نظرت بعيني رغدة وقالت:
-هو إنت لو خيروكِ تأذي حد عشان تعيشي هتعملي ايه!
-طبعًا مستحيل آذي حد عشان نفسي، الحياه والموت بإيد ربنا، وقال صلى الله عليه وسلم:
"وإذا اسـتعـنت فـاسـتـعـن بالله، واعـلم أن الأمـة لـو اجـتمـعـت عـلى أن يـنـفـعـوك بشيء لم يـنـفـعـوك إلا بشيء قـد كـتـبـه الله لك، وإن اجتمعـوا عـلى أن يـضـروك بشيء لـم يـضـروك إلا بشيء قـد كـتـبـه الله عـلـيـك، رفـعـت الأقــلام، وجـفـت الـصـحـف." صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح.
-صلى الله عليه وسلم كلام مريح للقب والروح، وأنا استعنت بالله، وواثقه إنه مش هيضيعني.
قالتها رحمه بهمس، فقالت رغده بقلق:
-فيكِ إيه يا رحمه؟
ترقرقت عيناها بالدموع ثم انفـ ـجرت باكية وارتمت بأحضان أختها وهي تردد:
-نفسيتي تعبانه أوي يا رغده.
-إيه بس يا روحي فيه ايه.
ارتشفت رحمه دموعها، غلا تريد إثارة قلق أختها، قالت بثبات:
-مفيش أنا بس قلقانه عشان الامتحانات وكده وفيه مواد كتير حاسه إني مش مجمعاها.
-متقلقيش أنا معاكِ هنظبط كل حاجه سوا.
قالتها رغدة وهي تمسح دموع أختها ثم عادت تضمها بحب وتربت عليها وهي تقول:
-تلاقيها عين خالتك سعيده دي! أنا هرقيكِ.
أخذت رغده تقرأ آيات من القرآن فاسكانت رحمه وأغلقت جفونها لتنام.
★★★★★★
آوت «تقى» إلى الفراش وسرعان ما غشيها النوم فقد كانت مرهقة ومتعبة، وتريد الهرب من سطو الأفكار والتساؤلات عليها...
أما «سراب» فكانت متوجسة من هذا المكان الذي بدا لها مريبًا، خاصة حين كانت تسمع أزيز انفتاح الأبواب كل فترة، وصوت أحد يتمشى بالخارج وهو يطرق الأرض بصولجان يرن بالقصر، وكانت تقى في سباتٍ عميق فلم ترد ازعاجها...
خرجت للشرفة الواسعة حيث أرعبها ذلك السكون، تمنت لو تشرق الشمس الآن لتغادر هذا المكان رغم أنها ستسير صباحًا نحو المجهول لكنها مطمئنة فالله معها ولن يُضيعها وهي توكلت عليه.
اقتربت من غرفة «عمرو وعامر» وضعت أذنها على الباب فلم تسمع أي صوت لذا عادت مجددًا، فلم ترد ازعاجهما أيضًا...
دخلت غرفتها فسمعت صوت أزيز باب يُفتح تلاه صوت خشخشة مخيفة، نادت تقى فولتها ظهرها وهي تغط في النوم...
ظلت هكذا عدة ساعات مروعة من ذلك المكان حتى غلبها النعاس لفترة وانتفضت فجأة على صوت خشخشة بالخارج حاولت إيقاظ تقى فلم تنتبه، لذا ركضت للشرفة لتطرق باب عمرو وعامر وقبل أن تفعل فتح «عمرو» الباب فعادت للخلف مفزوعة، وأجفل عمرو فجحظت عيناه وكاد أن يغلق الباب بوجهها لكنه انتبه...
-إنتِ إيه اللي مصحيكِ؟
قالها بهمس فالمكان هادئ جدًا، قالت بنفس الهمس:
-وإنت صاحي ليه؟
أغلق الباب على عامر وقال:
-بفكر في اللي بيحصل ده.
قالت بوجل وعينان متسعتان:
-إنت سمعت الصوت، على فكره يا عمرو القصر ده مسكون.
أطلق عمرو ضحكة كالزفرة وقال بصوت خافت:
-أنا مش بخاف من العفاريت أنا بخاف من البني أدمين، والصراحه أنا مش واثق في أي حد هنا.
أرسلت تنهيدة عميقة ثم قالت:
-عمرو أنا عايزه أقولك حاجتين أهم من بعض معرفش تقى منعاني أقول ليه! أنا شايفه إنكوا لازم تعرفوا.
انتبه لها بجميع حواسه وقال:
-قولي...
ازدردت لعابها وقالت:
-هحكيلك بس بالله عليك متستفزنيش علشان أكمل الموضوع ضروري.
-حاضر أنا مش هتكلم خالص أهوه.
أطبق شفتيه فرمقته بنظرة استعادتها سريعًا وأخذت تفرك يديها بارتباك، ثم عادت تنظر إليه باضطراب فحثها أن تتحدث بإماءة من رأسه، لكنها ظلت صامتة تفكر لمَ لم تفصح تقى عما فعلته هند حتى الآن، تخشى أن تخبره فتغضب منها تقى...
طال انتظاره لكلماتها ولم تنبس ببنت شفه فقال بنفاذ صبر:
-يلا يا سراب انجزي عشان وقفتنا كده متنفعش وحرام.
قالت سراب بانفعال:
-حرام ليه! هو احنا بنعمل حاجه غلط بطل أڤوره يا عمرو.
عقد عمرو ذراعيه أمام صدره وقال:
-مش أڤورة على فكره، إنتِ متأكده إنك كنتِ أزهر! مش واخده بالك إن دي خلوة.
-مش فاهمه خلوه ازاي وعامر جوه وتقى جوه كمان، واحنا اصلا في البلكونه! وبعدين أنا واثقه فيك وواثقه في نفسي.
زفر ضاحكًا ثم قال ساخرًا:
-يا سلام! طيب اخلصي بقا عشان أنا مش واثق في نفسي.
رشقته بنظرة ثاقبة فأضاف متخابثًا وبابتسامة:
-يعني واقف مع بنت زي القمر ولوحدنا ومفيش صريخ ابن يومين حولينا، فمضمنش نفسي الصراحه...
أنطلقت كلماته تلك كسهم رشق بقلبها فانتفض فجأة، وخفق بشدة فاحتقن وجهها بحمرة خجلٍ أخافتها! أتخجل من عمرو؟ ذلك المستفز! كيف؟ تذكرت قول سعيدة:
«استعدي أنا شيفاكِ عروسة لعمرو...»
رمقته بتوجس، وجملته تدور برأسها، ثم نطقت بتلعثم:
-تـ... تصدق بالله أنا غلطانه! ادخل نام يا عمرو والله ما أنا قيلالك حاجه.
وهرولت نحو غرفتها فهرول وهو يقول:
-يا بت استني... خدي بس بهزر معاك... سراب.
خلعت سترته التي ترتديها وألقتها بوجهه، وصكت الباب خلفها، فوقف عمرو يلتفت حوله باضطراب، خلل شعره بأنامله وهو يقول بحسرة:
-إيه اللي أنت قولته ده يا عمرو! ياني عليّ وعلى لساني...
عاد لغرفته وهو ينفخ بضجر من حاله، ألقي السترة جانبًا، وانحنى قبالة عامر الغارق في النوم فاغرًا لفاه، فأغلق له فكه وظل ينظر له لبرهة وهو يفتحه مجددًا فأغلقه مرة أخرى وهو يقول:
-يابني اقفل بوقك احنا مش ضامنين حشرات ايه اللي هنا ممكن تدخل فيه.
نظر للسترة التي كانت ترتديها طوال النهار، قربها من أنفه يستنشق رائحتها، ثم انتبه لنفسه فألقاها بعيدًا عنه وهو يستغفر الله، استلقى جوار أخيه وغطى وجهه وقلبه يقرع فزعًا وقلقًا من ذلك الشعور الذي بات يدق بابه.
من ناحية أخرى ظلت سراب تتقلب في الفراش وقد تناست كل ما يشغل خاطرها إلا جملته التي اخترقت قلبها وترددت في غرفاته وهو يقول:
«يعني واقف مع بنت زي القمر ولوحدنا...»
نفخت بضجر وهي تُطالع رجفة يديها وتشعر بقلبها يدق بقـ ـوة فقالت بحنق:
-منك لله يا عمرو.
استغفروا🌸
★★★★★
انبثق الفجر وانشق ثوب الدجى بضوءٍ حاني ينبه عن اقتراب إشراقة شمس اليوم...
استيقظت «نيرمين» من نومها فقد كانت مرهقة بالليلة الماضية فنامت مبكرًا، فتحت هاتفها لترى الوقت، وانتفضت جالسة حين رأت الكثير من المكالمات الفائتة من باسل...
طلبته على الفور وفاجأها صوته الحانق:
-بتنيل أرن عليكِ من امبارح مبترديش ليه قلقت عليكِ!
-معلش يا باسل والله كنت مرهقة جدًا امبارح، إنت عامل إيه؟
قالتها بحشرجة أثر النوم، فقال ساخرًا:
-عامل ايه!! هو إنت متعرفيش اللي حصل! مش سراب طلعت قريبتي وروحت لقيتهم عند جدي في العزبة.
وثبت من جلستها وهي تقول:
-قريبتك! قريبتك ازاي!
قال:
-معرفش يا نيمو مركزتش من صدمتي! لقيتها هناك هي وتقى وعمرو وعامر.
-طيب وعملت ايه!!
-هعمل ايه اتوترت وحاولت اقنعهم إنه مجرد تشابه بس أعتقد محدش صدقني.
ضربت بكفها على الطاولة المجاورة وهي تقول بحنق:
-يادي المصيبه على الصبح... إوعى يا باسل تقول حاجه عني.
-مستحيل طبعًا.
-بس ازاي ده! هما قالوا امبارح إنهم رايحين يحضروا فرح واحده في الشارع وهيقعدوا عندها كم يوم ومين جدك ده كمان!! ومن اي داهيه!
-معرفش يا نيمو معرفش تقريبًا جدي خال واحده فيهم.
ارتفعت أنفاسها وهي تقول:
-طيب أنا أعمل ايه دلوقتي! أقول لعمي ولا أعمل إيه!
-أهم حاجه تهدي يا نيمو آآ... أنا معاكِ، ومتقوليش لعمك حاجه لما نفهم.
تنفست الصعداء وحاولت الثبات وهي تتجول بشقها في اضطراب، قالت:
-المفروض إني زارعه جهاز تسجيل صوتي في شقتهم إزاي بقا مقالوش إنهم رايحين!
قال باسل:
-يمكن اتكلموا في أوضه تانيه يا نيمو!
قالت بفراسة:
-أو يمكن البت اللي اسمها رحمه دي نبهتهم! منه لله نادر هو السبب في الفكره المنيله دي! طيب اقفل دلوقتي يا باسل أنا هكلم نادر وأرجعلك.
أغلقت معه وطلبت رقم نادر مرة تلو الأخرى فلم يجب، زمجرت بغضب وارتدت ثيابها لتذهب إليه.
***********
وعلى أثر دقات جرس الباب فتح نادر عينيه بتعب فقد بات ليلته الماضية في أرق، وحين فتح بابه رأى نيرمين قبالته، وقبل أن يتحدث دخلت وأغلقت الباب خلفها وانفجـ ـرت في وجهه كالبركان:
-منك لله! أنا هعمل ايه دلوقتي؟ أنا إديت الأمان والبت ضحكت علينا يا أستاذ.
مسح وجهه أثر النوم وهو يقول بشدوه:
-بت مين؟ ر... رحمه؟
قالت بانفعال:
-هتكون مين يعني! خطتك فشلت يا أستاذ، أنا إيه اللي كان مشاني وراك! أنا هنزل الفيديو اللي معايا يا نادر.
قالت أخر جملة صارخة بوجهه، فانتفض وقال:
-لأ... تنزلي ايه! آآ... أنا هتصرف و... وهعرف منها تفاصيل عن البنتين، و... اصبري أرجوكِ.
حركت سبابتها في الهواء تحذره وهي تقول:
-قدامك لحد بالليل تعرفلي كل حاجه عنهم، ومين قريبهم اللي ظهر فجأه ده! ورايحينله ليه، مع إن إنت شخص لا يُعتمد عليه.
قالتها وانصرفت تهملج في غضب، وتركته يتخبط بدهاليز حيرته وها قد تأكد أن رحمه ليست بتلك السذاجه التي ظنها عليها، غسل وجهه ثم وقف يُطالع وجهه بالمرآه وهو يفكر ويفكر...
بقلم آيه شاكر
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ❤️
★★★★★
وقف البدري يودعهم بنظراتٍ تشع حزنًا وحنينًا، وهو يقول:
-هتروحوا القاهره وترجعوا هنا تاني، اتفقنا؟
قالت سراب بارتباك:
-آآ... احنا هنروح القاهره وهنرجع على بلدنا عشان شغلنا، أنا لازم أفتح البيوتي سنتر بتاعي و...
قاطعها البدري منفعلًا:
-أنا لسه مشبعتش منكم.
قالت تقى:
-هنجيلك تاني يا خالي إنت بس ادعيلنا نوصل للحقيقة ولبابا.
-هستناكوا، ربنا يمد في عمري عشان أشبع منكم.
قالها بابتسامة وود، فضمته تقى وقبل رأسها، كانت سراب مرتبكة وحائرة، فنظر لها البدري وقال:
-مالك يا صباح؟ شكلك قلقانه أوي!
التفتت سراب حولها وأدركت أنه يقصدها بصباح فقالت:
-أنا قلقانه عشان جدو كارم منبه عليا مدورش على أهلي فأكيد هما أشرار صح؟
لاح على شفتيه شبح ابتسامة وقال:
-من ناحية أشرار فهما أشرار، ناس قلوبها سوده ميعرفوش ربنا.
قالت سراب بانفعال:
-ولما هما وحشين كده حضرتك سايبنا نروحلهم عادي؟! وكمان أنا فيه حاجه مش فاهماها لو حسين اللبان دا عم تقى وأبويا والعيله اسمها اللبان ليه تقى مش اسمها في البطاقه تقى كارم اللبان؟ ولا هو أخو جدي كارم من الأم؟
قال الجد:
-عادي يابنتي مش لازم يكون اسم العيله في كل بطاقه قولي كده اسمك كامل يا سراب؟
-سراب حسين حسن عبد الله اللبان.
-وأنا تقى كارم عبد الله محمد محسن.
-ودا ملفتش نظركم إن أمك يا سراب كانت متجوزه ابن عمها!
قالت تقى بنبرة مرتعشة:
-بصراحه أنا مش فاهمه حاجه، وخايفه منهم.
أطل من عيني الجد نظرة واثقة وهو يقول:
-ميقدروش يعملولكم حاجه، روحوا بقلب جامد ودوروا على إجابات أسئلتكم، يارتني أقدر أجي معاكم بس صحتي متسمحش.
كان عمرو وعامر وبدر يتبادلون النظرات في صمت، فأشار الجد لبدر الذي رنى إليه وأخذوا يتهامسون بكلماتٍ تعمدوا ألا يسمعها البقية، كما أثار ريب عمرو أكثر وأكثر...
هتف الجد بنبرة مرتفعة:
-خلي بالك منهم يا بدر وخلوا بالكوا من نفسكوا يا ولاد، ربنا يكتب لنا اللقاء مرة تانيه.
سلموا عليه جميعًا، حاول إمدادهم ببعض المال فلم يوافقوا أبدًا، فأمدهم بالطعام الذي أعدته الخادمة، وهمس لبدر:
-هحولك فلوس على فودافون كاش...
أوما بدر وقبل يد جده، وغادرت تقى وهي تلوح له بابتسامة، كما فعل الجميع، أما سراب فقد بدأت ترتاح له بعدما شعرت في نظراته بدفئ وأمان طمئن فؤادها، همس عامر لعمرو:
-على فكره صعبان عليا، باين عليه راجل محترم وأخلاقه عاليه.
-وإيه الجديد ما إنت كل الناس عندك طيبه ومحترمه وأخلاقها عاليه.
قالها عمرو وزفر ضاحكًا، ثم نظر لسراب التي تظاهرت بتجاهله تمامًا وما أن انشغل بالحديث مع بدر، اقتنصت نظرة نحوه فانتبه لها وابتسم.
وظل عمرو يرمقها خلسة وتسترق هي النظر إليه حتى وصلوا لمحطة القطار، جلس عمرو وعامر قبالتهما أما بدر فجلس جوارهم، كان يعلم أن هناك فجوة بينه وبينهم ويتمنى إلتئام تلك الفجوة في أقرب وقت...
ألقى عمرو سترته لسراب وقال:
-ابقي اغسليها الأول وبعدين رجعيها، خلي عندك ذوق شويه.
نظرت سراب لعامر وقالت:
-شايف أخوك بيجر شكل ازاي!
-بس يا عمرو بقا.
ارتسمت على شفتي عمرو ابتسامة ماكرة وهو يردد:
-ابقي اغسليها وهاتيها لو سمحتِ يا أنسه سراب.
-ماشي يا دكتور عمرو.
قالتها سراب ساخرة، ثم نظرت من النافذة وران عليهم الصمت...
أخذ عمرو يتلو القرآن وكلما تعثر صحح له عامر، أو صححت له تقى، شغلوا تفكيرهم ووقتهم بالقرآن، فهو خير رفيق وأنيس في السفر...
وكان «بدر» يتابعهما بنظراتٍ تشع إعجابًا فلأول مرة يعلم أنهم يحفظون القرآن!
وصلوا للقاهرة قُبيل المغرب، وكان عمرو وعامر قد أتما تسميع القرآن كاملًا بالتبادل بينهما...
ارتجلوا من القطار، فسألهم بدر بفضول:
-هو كلكوا حافظين القرآن صح؟
قال عامر وهو يعدل حقيبة ظهره:
-إحنا كنا أزهر عشان كده كلنا حافظين.
قال بدر:
-اللهم بارك، هنيالكم وعقبالي.
كانت سراب متجهمة الوجه، اقشعر بدنها بعد ارتجالها من القطار فارتدت سترة عمرو الذي دنا منها، وقال:
-مش هتقوليلي على اللي كنت عايزه تقوليه امبارح؟
رفعت ذقنها لأعلى وقالت:
-لأ... ومتتكلمش معايا بعد إذنك.
-براحتك بس خليكِ فاكره إني جاي هنا عشانك وعشان أساعدك مش جاي أتفسح يعني...
قاطعته بضجر:
-والله محدش طلب منك تيجي.
-والله! طيب ماشي يا سراب.
قالها بنبرة جادة ودخل لمحل يشتري الماء، فشعرت بتأنيب الضمير، فقد قطع كل تلك المسافة معها هي وتقى فهل هذا كلمة شكرًا!
قررت أن تتحدث معه بلباقة، ما ذنبه بمشاعرها التي تقلبت فجأة وانجذبت إليه!
وقف عمرو قبالتهم وهو يمسك زجاجتين بلاستكيتين للماء وقال:
-حد عايز يشرب؟
هز بدر عنقه نافيًا وهو يتحدث عبر الهاتف ليُلم معلومات اكثر عن حسين...
أخذ عامر زجاجة مياه فتحها ثم أعطاها لتقى وبعدما انتهت شرب مكانها، لم يفعلها عن عمد ولكن حين تصفح وجوههم ونظراتهم الماكرة ووجه تقى الذي احمر خجلًا، انتبه لما فعل فشرق وأخذ يسعل، وما أن هدأ همس له عمرو:
-إنت بقيت بتستظرف؟
قال عامر بصوت سمعه الأربعة:
-والله العظيم ما أقصد حاجه.
حمحم بدر وقال:
-طيب هو فيه فندق قريب، كان نفسي أقولكم اتفضلوا معايا في بيتي بس أنا أصلًا هنزل معاكم في الفندق، نريح ساعه وهاخدكم لعنوان بيت حسين اللبان.
صمت عمرو وأطرق مفكرًا، فربت عامر على كتف بدر وقال:
-شكرًا يا هندسة حقيقي إنت شخص لطيف ومحترم جدًا.
ساروا معًا قاصدين إحدى الفنادق ليرتاحوا من عناء السفر...
وأثناء الطريق كانت سراب ترمقه بطرف خفي تنتظر أن يتحدث معها مرة أخرى وستتأدب معه، وربما تعتذر، لكنه لم يفعل بل تجاهلها تمامًا.
وما أن وصلوا للفندق، قال بدر:
-يلا هاتوا بطايقكم؟!
قالت سراب:
-ليه، لا مش هطلع بطاقتي أنا.
قال عامر:
-انجزي يا سراب.
أخرجت بطاقة هويتها على مضض، وضعت إبهامها على صورتها، وقالت:
-طيب بس متبصش على الصورة.
ضحك عمرو وشاكسها:
-يعني هتكون أبشع من شكلك اللي شايفينه قدامنا.
ورغم أنه كان يسخر منها إلا أنها ابتهجت وضحكت، فعلى الأقل حدثها وعاد لطبيعته معها، لكن تلاشت بهجتها حين ارتسمت الجدية على ملامحه وهو يعتذر منها على سخريته تلك...
حاولت تقى أن تحكي لهم عن هند ولكن عُقد لسانها فصمتت...
أتموا إجراءات الحجز بالفندق، بدر وعمرو وعامر بغرفة وتقى وسراب بغرفة أخرى...
كانت الغرفة مكتنزة بالكاد تحوي سريرين ١٢٠ سنتمتر، ومرحاض مكتنز.
جلس عامر على الفراش ونظراته تتجول بالغرفة، أما عمرو فنطق بازدراء:
-إيه الأوتيل ده يا بدر!
-ماله؟ جميل وشرح وبرح أهوه.
فتح بدر النافذة فأطل جدار بحجارة حمراء، عاد بدر يغلقه والتفت ببطئ زاحفًا بنظراته نحو عمرو وعامر اللذان عقدا ذراعيهما أمام صدرهما وطالعاه وعلى وجههما تقطيبة تدل على مدى حنقهما، حمحم بدر وقال:
-الأوتيل دا اللي بنزل فيه دائمًا بعيد عن عين أهلي.
-طيب واحنا مال أهلنا احنا!
قالها عمرو، فقال بدر:
-ما انتوا كمان لازم تكونوا بعيد عن عين أهلي، جدي منبه عليا.
نظر عمرو وعامر لبعضهما وسألاه عن معنى كلامه لكنه دخل المرحاض وأغلق على نفسه وهو يقول:
-يلا عشان هنخرج بعد صلاة المغرب علطول، وهحكيلكم كل حاجه في الطريق.
وقف عمرو أمام باب المرحاض وهو يقول:
-هو إنت وصلت للعنوان ازاي يا بدر؟
-جـ... جدي قالي عليه...
قالها بدر وأخذ عمرو يمسد على ذقنه بشك وقلق، نظر لعامر وهمس:
-أنا مش مطمن لبدر! شكله مخبي علينا حاجه!
-يا عم بطل شك بقا، بدر شخص محترم.
نفخ عمرو بضجر وهدر به:
-اتنيل...
على نحوٍ أخر
لم تختلف غرفة تقى وسراب عنهما كثيرًا، جلست سراب جوار تقى التي كانت مشغولة الذهن من بُعد عامر عنها دون سابق إنذار، أين الرباط؟ فلم يخرجه طوال اليوم! أنتشلها من شرودها قول سراب:
-هو إحنا مش هنحكي لعمرو وعامر عن رحمه!
-كنت هقولهم بس مش عارفه ليه لساني اتعقد.
-وموضوع هند! أنا شايفه إنك تقوليلهم برده مفيش مبرر إنك تخبيه.
أطرقت تقى قليلًا تتسائل لو كان والدها رجل سيء هل سيبتعد عنها عامر؟ وهل ستظل علاقتهما بعائلة دياب كما هي أم ستتزعزع أو ربما تُقطع من جذعها، شعرت بوخزة في صدرها، فها قد تبقى خطوة واحدة وتصل لعائلتها وإن كانوا أشرار هل سيكون والدها الملاك الوحيد بينهم! فحتمًا سيكون كذلك ولا ريب عندها!
باغتتها الدموع، فرنت إليها سراب وقالت بلهفة:
-في ايه؟! بتعيطي ليه؟
انفجـ ـرت تقى بالبكاء وقالت:
-أنا حاسه إني جوه كابوس، فجأة لقيت نفسي بجري لوحدي ومش عارفه هقع امته! ومتأكده إني هقع.
ربتت سراب على ظهرها وقالت:
-إنت مش دائمًا تقولي لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا! مالك بقا؟ هتيأسي؟ أكيد لكل حاجه بتحصل حولينا حكمه عقلنا المحدود مش مدركها، اجمدي واصبري كله هيعدي.
استنشقت تقى دموعها ثم مسحت وجهها وهي تقول بثبات:
-حاضر، هصبر، أكيد كل حاجه ليها حكمه، الحمد لله.
قالتها بنفس راضية، وبقلب مطمئن، داعبتها سراب قائلة بابتسامة ماكرة:
-وبعدين يعني عامر هنا، اطمني.
حدجتها تقى بنظرة ثاقبة وقالت بانفعال:
-على فكره مفيش أي حاجه من اللي في دماغك!
-مفهوم، مفهوم، مش محتاجه تبرري، النظرات تتحدث والحركات تشي بمكنون الصدور.
قالتها سراب وضحكت، فقالت تقى بمكر:
-بس جاكت عمرو اللي إنتِ لبساه ده مش لايق عليكِ.
-دا مقرف ومستفز زي صاحبه، بس بصراحه مريح.
قالتها وهي تضع كلتا يديها في جيبي سترتها وتبتسم، وأضافت بعد تنهيدة حارة:
-دا الواد عمرو ده مستفز أوي...
-والله ما فيه مستفز غيرك يا شيخه، سراب يا حبيبتي اتحكمي في تصرفاتك شوية.
أطلقت سراب تنهيدة طويلة وغيرت دفة الحوار قائلة:
-على فكره أنا عملت بيدج وأول ما نرجع هعمل اعلان لنفسي عشان البيوتي سنتر اللي هنفتحه.
-شيفاكِ متحمسه للبيوتي سنتر، بس خلي بالك يا سراب، ما بين الحلال والحرام شعرة رفيعة أوي.
أومأت سراب بتفهم وقالت:
-ربنا يبعدنا على الحرام يا ستي.
لا حول ولا قوة الا بالله 🌸
★★★★★★
كان غرضها نبيل وهي جذبه من طريق ضل فيه لكنه سحبها معه فأضلت وضلت...
ظلت «رحمه» تماطله حتى أذن المغرب، فأرسل لها رسالة إن لم تأتِ إليه في الحال سينتشر الفيديو خاصتها بكل مكان، فأجفلت، راودت جدها وجدتها وأختها واتجهت لشقته، وظل يستدرجها حتى دخلت، جلست قبالته فسألها:
-إنتِ عملتِ إيه؟
كانت مضطربة تتفحص أرجاء الشقة وهي تفرك يديها بوجلٍ، لكنها كانت تُطمئن حالها! لن يفعل شيئًا هي تعرفه فهو محترم ولن يقترب منها، ولأمانها لن تشرب أي شيء، وهي دقيقة واحدة وستغادر، انتشلها من شرودها سؤاله لها مرة أخرى، فقالت بتلعثم:
-مـ... مقدرتش أحط التسجيل قبل ما أنبههم فـ... فكتبتلهم على ورقه وحذرتهم وهما أخدوا بالهم.
وثب من جلسته وهدر بها بغضبٍ شديد:
-إنتِ... إنتِ إزاي تعملي كده؟
انتفضت واقفة وقالت:
-مقدرتش... مقدرتش أعمل غير كده، وبعدين مش الفيديو اتحذف وخلاص ايه بقا!
مسح وجهه وكبح انفعاله قائلًا:
-إنتِ حطيتِ نفسك وحطتيني في موقف صعب جدًا يا رحمه.
-ليه؟ أنا مجيبتش سيرتك أصلًا! أنا بس حذرتهم من البنت اللي قابلتنا دي!
لاذ بالصمت وكانت الدموع تبرق خلف أسوار مقلتيها ويديها ترتعش وهي تتابع حركاته المضطربة، نظر لها وقال بنظرة حب:
-مش إنتِ بتثقي فيا يا رحمه؟
قالت بحشرجة:
-أكيد وإلا مكنتش هجيلك هنا!
قال بصوت رخيم وهو يغرس عينيه بعينيها:
-وأنا بحبك أوي يا رحمه ومش من النهارده من لما كنتِ لسه طفله، ومستحيل آذيكي، بس إنتِ اسمعي كلامي ونفذي اللي هقولك عليه، اتفقنا؟
كلماته تلك طمئنتها وهدأت من روعها فأومأت وكأنها منومة مغناطسيًا، وقالت:
-حاضر.
فهي صغيرة، ولازالت طفلة، مهما كان عقلها كبير وناضج! لا تدرك أن ما يحويه قلوب البشر لا يتطابق دائمًا بما تكنه صدورهم! وإن أقسموا بالله على صدق نيتهم...
لازالت تجهل أننا لا نجاهد ونحـ ـارب شيطان نفسنا فحسب! بل نحـ ـارب ونتواجه مع شيطان كل نفسٍ نلتقي بها في حياتنا! لازالت لا تدرك أن الحياة معضلة كبيرة ويجب أن تستعين دائمًا بالأكبر منها قبل دخول أي طريق....
★★★★★★
ألقى الليل عباءته السوداء فغطى الأفق، وفي سيارةٍ استأجرها بدر وقفوا بعيد يراقبون الداخلين والخارجين من الڤيلا...
فبين فنية وأخرى تقف سيارة فخمة أمام الڤيلا ويخرج منها رجل مع زوجته التي ترتدي ملابس تكشف أكثر من كونها ساترة...
سأل عامر ساخرًا:
-هو دا بيت حسين اللبان ولا ملهى ليلي ولا ايه!
أومأ بدر وهو يقول:
-الظاهر إن فيه حفلة!
قالت سراب وهي تتفحص الداخلين للبيت:
-تحس إن هما لابسين يونيفورم واحد، هي الناس دي من كوكب زمرده ولا ايه! إيه اللبس ده؟
قال عمرو مازحًا:
-اسكتي دا احنا اللي فلاحين!
ضحكوا جميعًا، وقال بدر:
-لو كل الفلاحين زيكوا يبقا ياريتني فلاح.
قال عمرو:
-مش للدرجه دي يا بدر، واحنا مش فلاحين على فكره، يعني آه عندنا أراضي زراعيه بس عمرنا ما عيشنا حياة الفلاحين.
قالت تقى:
-طيب هنعمل ايه دلوقتي؟ هنفضل متخبين زي الحراميه كده!
طاف بدر بنظراته على وجوههم، وأدرك أنه وإن أراد كسب ثقتهم فيحب عليه أن يُفصح بما يخفيه عنهم، تنفس الصعداء وقال بتوتر:
-جماعه أنا عايز أفهمكم حاجه مهمه، أنا ليا تلت أخوات من ضمنهم باسل ودا أطيب واحد فيهم، أخواتي دول آآ... يعرفوا حسين كويس و... وبابا الله يرحمه كان بينه وبين حسين مشاكل وحوارات لكن أخويا الكبير حلها و... وكمان اتجوز من عيلة الـ... اللبان.
تبادلوا النظرات المصدومة وقال عمرو:
-الكلام ده لسه فاكر تقولهولنا!
-بصوا أنا المفروض مكنتش أقولكوا حاجه اصلًا، بس حسيت إني مش عايز أخبي عليكم حاجه، والمفروض أكون معاكم لحد ما تقابلوا حسين زي ما جدي وصاني، هو كان عايزه يشوفكوا وبس...
-ليه!!!
قالتها سراب مغضنة جبينها، فقال بدر بتلعثم:
-مش عارف بصراحه هو مقاليش سبب...
أدرك عمرو الآن لمَ حذره كارم من تلك الدائرة السوداء، ابتلع لعابه وقال:
-جماعه احنا لازم نرجع بلدنا، احنا مش هنقابل حد، الموضوع شكله كبير.
قالت سراب:
-طيب أنا كمان كنت عايزه أقولكوا على حاجه حصلت وتقى كانت منعاني.
أخذت تحكي لهم عما فعلته هند ورحمه كذلك وهم يرهفون السمع، قال عمرو بكياسه:
-دلوقتي باسل أكيد راح بلغ هند بمكاننا، وممكن تكون هند ورانا دلوقتي، دا لو افترضنا إن فعلًا بدر معانا ودا مش فخ لان أنا توهت مبقتش عارف احنا بنعمل ايه أصلًا...
-و... والله أنا معاكم!
قالها بدر، فرمقه الجميع بشك أزعجه وأحزنه، وران عليهم الصمت حتى قال عامر بقلق عارم:
-وأكيد اللي هددت رحمه هي نفسها هند، بس مين هند! وعايزه ايه؟
قال عمرو بقلق شديد:
-جماعه احنا في خطـ ـر! وكده كمان رحمه في خطـ ـر! أنا شايف إننا لازم نرجع مينفعش نقابل الناس دي، وعشان كمان نلحق رحمه.
قال بدر:
-رحمه دي اللي ليها أخت توأم، دول البنتين اللي عمك خطبكوا ليهم؟
وكأن دلو من الماء الساخن سُكب فوق رأس تقى على حين غفلة فتصلبت ملامحها، واشتعل قلبها فجأة بلهيب الغيرة، حتى أنها أصبحت لا تبصر ولا تسمع إلا جملة بدر الأخيرة، نظرت لعامر المرتبك وهو ينطق:
-آآ... هي بس...
بُتر كلامه حين فتحت تقى باب السيارة وخرجت وهي تقول:
-أنا هدخل أقابل عمي، أنا مش جايه أضيع وقت هنا! هواجهه وأعرف كل حاجه، واللي يحصل يحصل.
ارتجل بدر خلفها وقال:
-استني بس يا أنسه تقى، الأمن مش هيدخلك أصلًا.
-هدخل يا بشمهندس.
قالتها بتصميم شديد، ثم أضافت بكبرياء وكرامة:
-أنا بجد غلطت غلطه كبيره لما وافقت إن انتوا ترافقونا في السفريه دي! أنا آسفه لنفسي وآسفه ليكوا، يعني لا انتوا من محارمنا ولا كان ينفع أصلًا نيجي هنا من البداية، لكن بما إننا جينا يبقا هكمل اللي أنا جيت عشانه وهدخل أقابل عمي.
قالتها بأنفاس مرتفعة والجميع يحاولون اقناعها بأن تحيد عن قرارها، لكنها لم تسمع وهرولت نحو الڤيلا ووقف بدر يقول:
-دي اتجننت دي ولا ايه!
انفعل عليه عامر:
-إيه اتجننت دي! ما تحترم نفسك يا هندسه.
-مقصدش والله!
قالها بدر بتلعثم، ركضت سراب خلفها تناديها وداخلها يرتعد خوفًا، وتبعوها جميعًا وهم ينادون اسمها حتى وصلوا أمام الڤيلا، تزامنًا مع وقوف سيارة فاخرة، خرج منها رجل قد ناهز الأربعين وزوجته التي لم تختلف هيئتها عن هيئة باقي السيدات اللواتي دخلن من قبل...
طافا بنظراتهما على الخمس قبل أن يوجه الرجل كلامه المقتضب لبدر:
-إنت جيت القاهره امته؟
تذبذبت نظرات بدر وقال في اضطراب:
-يا محاسن الصدف! آآ... حالًا لسه جاي حالًا.
أشار الرجل للأربعة الواقفين، وسأله بتجهم:
-ومين دول؟
-دول... دول... دول كانوا بيسألوا عن حاجه وخلاص جاوبتهم وهيمشوا.
قالها بدر وألقى مفاتيح السيارة لعمرو، الذي التقطها في ارتباك، بينما قال الرجل وهو يزم جفونه بتمعن:
-وإنت بتعمل إيه هنا! ومن امته بتيجي عند أستاذ حسين؟
قال بدر بنبرة مرتفعة ليسمعهم:
-أيوه... أيوه أنا معزوم على الحفله يلا جاي معاك يا أخويا يا غالي يا أخويا يالي واحشني.
قال أخوه:
-حفلة إيه! دي مش حفلة دا عزاء.
أومأ بدر بابتسامة مرتعشة وهو يقول:
-آآ... آه ما أنا فعلًا معزوم على العزا.
حك بدر عنقه بارتباك فكيف لم ينتبه أن جميع السيدات يتوشحن بالسواد!
كانت زوجة أخيه تراقب الحوار بفراسة، دنت من تقى وسراب بخطوات واثقة، وهي تطرق الأرض بكعب حذائها، حتى وقفت قبالتهما وقالت:
-تقى وسراب، صح؟
أومأت تقى فابتسمت السيدة بخبث ونظرت لزوجها قائلة:
-دا إنت محظوظ أوي يا حبيبي النصابين اللي كنت هتبحث عنهم واقفين قدامنا.
تصفح الرجل وجوه الشباب أجمع ثم أشار لسائق سيارته الذي لبى إشارته فهمس له الرجل بشيء، ثم بدل نظراته بينهم وابتسم وهو يقول بتهكم:
-نورتوا القاهره.
ابتعد الرجل وزوجته يتحدثان مع بدر...
في حين نظر عامر لهم وقال:
-على فكرة الراجل ده باين عليه الإحترام وأنا حاسس...
قاطعه عمرو الذي شخص بصره فجأة وهو يحملق أمامه قائلًا:
-حاسس بمصيبه جيالي...
وحين التفت عامر حجظت عيناه وبوثبة واحدة اختبئ خلف عمرو مرددًا بذعر:
-يا لطيف يا لطيف.
فقد وقف قبالتهما إثنان من رجال الأمن وبيد كل واحد منهما كلب مقيد بسلسلة من حديد، وبمجرد أن نبحا، وثبتا تقى وسراب صارختان واختبئتا خلف ظهر عمرو الذي التفت لهم وقال بنبرة مكتومة من الخوف:
-إنتوا بتستخبوا ورايا ويكأن أنا الأسد اللي فيكوا، أنا أصلًا مبخافش إلا من الكلاب، خصوصاً النوع ده.
يتبع
(١٢)
#رواية_عن_تراضٍ
-إنتوا بتستخبوا ورايا ويكأن أنا الأسد اللي فيكوا، أنا أصلًا مبخافش إلا من الكلاب، خصوصاً النوع ده.
قالها عمرو وهو يشير نحو الكلبين المترقبين لإطلاق سراحهما وفردين الأمن اللذين ينتظران إشارة هذا الرجل حاد النظرات...
طالع «بدر» أخيه الذي زم جفونه وابتسم بخبث ثم رفع سبابته إستعدادًا لإعطاء الإشارة، توسل له بدر ألا يفعل وأن يتركهم يرحلون ولكن بإشارة من سبابته، أطلق فردان الأمن سراح الكلبين، فركضا خلف الأربعة واختلط نباحهما مع أصوات صرخات مذعورة سرعان ما كُتمت...
وقف «بدر» مشدوه مما يحدث، ينادي «عمرو» أن يتجه للسيارة لكن سقط المفتاح من يد عمرو من فرط اضطرابه وسرعة ركضه، فركض بدر يأخذه بعدما رشق أخيه بنظرة ثاقبة، فهدر أخوه غاضبًا:
-أيوه روح الحقهم يا روح أمك.
فتح بدر السيارة بأنامل مرتبكة، وهو يهدر:
-إنت... إنت معندكش رحمه!
-بــــــــــــدر! الزم حدودك.
كانت نبرة أخيه المرتفعة الحادة لترعبه في موقف غير هذا، لكنه لم يكن وقت للجدال، وعلى الفور استقل السيارة وانطلق نحو هؤلاء الأربع.
كان عمرو يركض ممسكًا بيد أخيه وتقى تقبض على يد سراب وتركض، حتى تعرقل عامر وسقط، حاول عمرو إعادة اتزان أخيه ليفرا ولكن انقض إحدى الكلبين على عامر وأمسك بسترته...
كان «بدر» قد وصل حيث تقى وسراب فصعدتا للسيارة، في حين حاول عمرو سحب عامر الذي كان يتمسك بطرف السترة والكلب يشد طرفها، فصاح عمرو:
-سيبهاله يا عامر.
خلع عامر حقيبته وأخذ يصوب بها الضـ ـربات للكلب، وهو يخلع سترته فهـ ـجم عليهما الكلب الأخر، انبطح عمرو أرضًا وفوقه كلب يعاركه وكذلك عامر الذي يأس وأدرك أنه سيُعض، لولا طلقتا رصاص مكتومتا الصوت طرحتا الكلبين أرضًا...
اعتدل «عامر» جالسًا يتحسس جسده بفزع، ووثب عمرو يلتفت حوله لمصدر الرصاص مذعورًا، لكن لم يرى أثر لمخلوق، وكان حولهم بعض البنايات العالية فوقف يتأمل أسطحها المعتمة حتى ناداهما بدر فركضا يركبان السيارة...
ركب عامر بالخلف جوار تقى، وكان صوت أنفاسه مرتفعًا، فسألته تقى بلهفة وقلق:
-إوعى يكون الكلب عضك!
هز عامر عنقه عدة مرات نافيًا دون أن يلتفت لها فقد كان مبهوتًا مما حدث فلم ينبس ببنت شفه...
تجلى الاضطراب والهلع عليهم جميعًا، صمتوا ولكن كان داخلهم يضج بالأسئلة...
قال بدر:
-إنتوا لازم ترجعوا بلدكم.
قالت تقى بانفعال:
-أيوه هنرجع أنا خلاص مش عايزه حاجه ومش عايزه أقابل حد.
قالت سراب:
-وجدو كارم؟
-معرفش بس أنا عايزه أمشي من هنا.
قالتها تقى بنبرة مختنقة بالعبرات، فتنفس بدر الصعداء وقال:
-هنبات الليله في الأوتيل وبكره ان شاء الله نركب مواصلات ونرجع.
تبادلوا النظرات لوهلة، حتى نطق عمرو:
-نرجع! ليه هو إنت ناوي ترجع معانا؟
أومأ بدر مؤكدًا، وران عليهم صمتٌ مطبق وهناك أسئلة تتلجلج برؤوسهم جميعًا ولم ينطق بها أحد؛ من الذي أطلق الرصاص؟ وما هذا الذي يحدث؟! وماذا عن بدر هل يثقون به أم أنه جاسوس دُس بينهم؟! وما الذي تبحث عنه هند؟ ومن هي هند؟ وهل لها علاقة بأهل تقى وسراب!
انقضى الليل في أرق وقلق، وبعد بزوغ فجر اليوم التالي تجمعوا أمام الفندق، أومأ أحدهم للأخر يحيه ودون كلمة انطلقوا ليستقلوا أول سيارة أجرة متوجهة لديارهم، عائدون بحيرة أشد من حيرتهم السابقة، ولازال حول بدر العديد من علامات الاستفهام، فأخذوا يرمونه بسهام نظراتهم المرتابة التي فطن إليها لكنه يدرك أن معهم كامل الحق...
وفي سيارة الأجرة ركب الثلاث شباب بالمقعد الأمامي وتقى وسراب بالمقعد الذي يليه...
أتى «بدر» اتصال على هاتفه وما أن أجاب تصلبت ملامحه فزعًا، سألاه عمرو وعامر عما به لكنه لم يجبهما وكأنه لم يسمع! وارتجل من السيارة_التي لم تتحرك بعدُ _ راكضًا ومنكبًا على وجهه...
استغربوا تصرفه وركض عامر خلفه لكنه لم يلحق به فقد استقل بدر سيارة واختفى عن ناظرهم...
فعاد عامر يركب السيارة التي اكتملت وانطلقوا لديارهم دون كلام ودن تعبير عن المشاعر المتخبطة والحيرة المتفاقمة، ومر الطريق في صمتٍ ثقيل.
بقلم آيه شاكر
استغفروا 🌸
★★★★★
ارتجل «بدر» من سيارة الأجرة أمام ڤيلا ضخمة، كان يسير ببطئ يجر قدميه وكأنهما كصخرٍ ثقيل وحين رآه البواب حياه بأدب وفتح البوابة...
سار بدر مسافة وهو يُطالع مدخل الڤيلا المُزين بورودٍ وأشجار، فهذا بيته الذي تربى فيه وعاش به في كنف أسرته لأعوام...
قطع طُرقة طويلة قبل أن يصل لنافورةٍ زينة محاطةٍ بحوض حجري قبالة باب الڤيلا...
ازدرد لعابه في اضطراب وتنفس الصعداء وهو يدق جرس الباب فقد كان يخشى أهوال القادم.
فتح له الخادم واستقبله بوجه يخلو من التعابير، وهو يصيح بأعلى صوته ليُسمع من بالبيت:
-بدر بيه وصل.
وكأن الخادم نادى العقارب من وكرها فخرجوا تباعًا والتفوا حوله يرشقونه بنظراتٍ حادة وقاسية، أخوه الأكبر وزوجته التي تشبهه تمامًا وأخوه الثاني الذي يشبه الأول في حدته وغلظته وزوجته حادة الملامح والطباع، وعارية الملابس أيضًا، أما الثالث فقد كان باسل وهو أرقهم قلبًا وأرفقهم به، نظر بدر لباسل بأعين تشع خوفًا ووجه له السؤال بنبرة ترتجف:
-ماما فين؟ أمي فين؟
أدمعت عينا باسل وأطرق، بينما صفق الأخ الأكبر بكامل عزمه وصاح بصوتٍ جلجل بالبيت:
-صقفوله يا جماعه، بدر بيه بيدور على ناس عشان يجوا يحرمونا من ميراثنا في جدنا!
قال بدر وهو يضغط على حروف كلماته:
-أمي فين؟
كان يبحث عنها بعينه، تمنى أن تخرج الآن وتضمه وتنصحه كعادتها، تلك التي كانت تقف بوجه إخوته على الدوام، تدافع عنه وتحميه من بطشهم وشرهم وقسوة قلوبهم...
صاح أخوه الثاني ببرود:
-أمك ماتت، خلاص اللي كانت بتحميك مننا ماتت يا بدر، ماتت، البقيه في حياتنا.
لم يبدِ «بدر» أي رد فعل لكنه تخيل حاله يصرخ صرخة هزت أرجاء البيت، وبدلًا عن ذلك أخذ يبحث بالبيت كالمجـ ـنون، فاقترب منه باسل وضمه بحنو وعيناه تمطر بالدموع، فدفعه بدر ليبعده عنه...
بينما كان أخواه يُطالعان ما يحدث بملامح جليدية، وكأنها لم تكن والدتهما!
أخذه باسل حيث جثمان والدته، فقبلها بدر وجلس قبالتها ساكنًا كالصنم، لا يدري لمَ لا يستطيع البكاء رغم سماعه لنشيج باسل ورؤيته لعبراته الحارة التي تودع والدته، قال بدر بهدوء:
-ماتت ازاي وامته يا باسل أنا مكلمها امبارح الصبح كانت كويسه!
نطق باسل بصوت مختنق ووجه محتقن:
-معرفش يا بدر اتصلوا عليا الصبح وقالولي كده.
-لا يا أمي... أمــــــــــي.
صاح بها بدر بقلبٍ مفتور، كان الحزن يقتات على قلبه، ولكن لم تخرج منه دمعة واحدة لتهدأ عواصف فؤاده.
وعند الظُهر تم تشيع جثمانها ومر عليهما «بدر وباسل» يوم طويل يمكثان بغرفة والدتهما، بدر يضم الغطاء الذي كانت تتدثر به وهو صامت وملامحه ساكنه، أما باسل فكان يبكي وحين يُرهقه البكاء تغفل عيناه وحين يستيقظ يعود للبكاء.
وفي المساء
في قاعة للعزاء جلس بدر جوار باسل بقلبٍ ضائع، ووجه مكفهر، وكان باسل الوحيد الذي يبكي دونًا عن البقية.
مضى الوقت وانتهى العزاء وانصرف المشيعون...
دخل الأربعة إخوة للبيت فقال الأخ الأكبر بجمود:
-رايحين فين؟ سعيكم مشكور يا جماعه خلاص الليله خلصت.
كانت عبارته إشاره منه أن ينصرفوا فقال باسل بانفعال:
-هو إنت بتطردنا من بيتنا؟
هدر الأخ الأكبر:
-بيتنا!!! دا بيتي أنا وعيالي ومراتي، وكل واحد فيكم ليه شقته وفلوسه من ورث أبونا في البنك، إلا بدر ملهوش عندي حاجه عشان يبقا يروح يدور على ناس يشاركونا في ميراثنا من جدنا، خلي بقا جدو ينفعك يا بتاع جدو.
هدر به بدر بانفعالٍ شديد:
-إنت ازاي كده؟ ازاي قاسي كده؟ أمك لسه مفارقانا! وبعدين إنت مش مكفيك الفلوس اللي معاك؟ مش مكفيكوا الشركات والڤلل والفلوس اللي في البنك اللي حرميني منها وأنا ساكت بقول مش مشكله اخواتي ومش هقف قصادهم في المحاكم!
صاح الأخ الأكبر وهو يشير لنفسه بانفعال أشد:
-الفلوس دي أنا اللي عملتها مع أبوك وكون إن أنا أديكوا منها فدا فضل مني يا بدر باشا! وبعدين ما أنا قولتلك تعالي وانا أشغلك في الشركه وبمرتب كويس إنت اللي مرضتش.
قال بدر متهكمًا:
-تشغلني في الشركه!
زفر ساخرًا وأردف:
-أنا مش زي باسل! وأنا ماشي مش عايز منكم حاجه بس سيبوني في حالي ومحدش ليه دعوه أنا بعمل ايه!
قال الأخ الثاني:
-إنت عبيط يله! إنت بتحرمنا كلنا من ميراثنا في جدك وجاي تقولنا محدش ليه دعوه بيا!
-والله ربنا يدي لجدي طولة العمر وهو اللي يورثكوا.
قالها بدر ساخرًا وطاف بنظراته في المكان ثم سلط بصره على أخيه الأكبر وقال:
-إنتو ظلمتوني بلعتوا كل حاجه وسرقتوا حقي وأنا مش مسامح، ســــــامعـــــيــــن مش مـــــســـــامـــح.
صاح الأخ الأكبر:
-بــــــــــــــــــدر! كــــفــــــــــــــــايــــــــــه، إنت طالع لمين إنت مش شبهنا أنا ساعات مببقاش فهمك ولا عارف إنت مين؟
قال بدر:
-أنا زاهد في الدنيا، أنا بخاف ربنا! أنا بفكر مية مره في كل خطوه قبل ما أخطيها هل هي حرام فارجع ولا حلال فأكمل... أنا كده والحمد لله إن أنا كده.
-الشيخ بدر! إيه رأيك نسميك من هنا ورايح الشيخ بدر.
قالها الأخ الثاني متهكمًا وضحكاته تجلل بالبيت، فقال بدر بهدوء:
-طبعًا مش هتفهموني! وهتفهموني ازاي وانتوا أصلًا متعرفوش ربنا! إنتوا ظَلَمْه.
باغتته ضـ ـربة قـ ـوية على ظهره ارتج لها جسده، وكانت من أخيه الأكبر الذي وثب أمامه وأمسكه من تلابيبه وهو يهزه بعنـ ـف هادرًا:
-مش عشان ساكتلك تسوق فيها يَلَه.
حاول بدر التفلت من يد أخيه دون شجار، فهو أخوه الأكبر ولازال يحاول احترامه رغم انفعال كلماته وثورته تلك...
أغلق جفونه ونطق بهدوء:
﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾
هجم عليه أخوه الثاني وهو يقول:
-إنت هتعملنا فيها درويش يَلَه!
أبرحاه ضـ ـربًا، حاول بدر التملص منهما لكنه لم يفلح، وزوجاتهما تراقبان ما يحدث وعلى وجهها تتجول علامات الخبث...
ركض باسل مسرعًا ليفعل شيئًا قبل أن يلفظ أخوه أنفاسه الأخيرة تحت أيديهما، ولكن دفعه أخوه الأكبر ففر باسل مبتعدًا، وفجأة انقطع التيار الكهربائي عن الڤيلا بأكملها، وقد فعلها باسل، فاستطاع «بدر» أن يهرب إلى حيث لا عودة...
سيفر إلى مكان آخر، سيركن إلى تلك العائلة الدافئة التي ارتاح بينهم فلا مكان له بين هؤلاء الذين يمتلكون قلوبًا أشد قسوة من الحجارة، فقد انقطع الخيط الذي كان يربطه بهم وهو والدته، ركض للخارج مستجمعًا ما تبقى من قوته، وخرج من البوابة يحمل بين ضلوعه فؤاده المذبـ ـوح...
وبعدما ركض مسافة وقف باسل قبالته بسيارته وقال:
-اركب يا بدر.
كان الزبد الأحمر يتساقط من فم بدر، وأثر اللكمات واضحًا على وجهه، لم يركب بل حدج باسل بنظرة اخترقته فارتجل باسل من السيارة، وطاف بنظراته على صفحة وجه أخية، ثم ضمه وقال من خلف دموعه:
-آسف يا بدر.
خاطبه بدر بانفعال:
-إنت السبب، إنت حكيتلهم عن رحلتي اللي كلفني بيها جدي، طعـ ـنتني ودلوقتي جاي تطبطب عليا يا باسل.
-آسف.
كررها باسل عدة مرات بندم، وهو يربت على ظهر أخيه، وأخذ يمسح وجه بدر بمنديل ورقي، فتأوه، لذا ابتعد عنه باسل وقال بحنو:
-بص احنا هنعمل ايه! هنروح نسحب الفلوس من الڤيزا بتاعتك قبل ما أخوك يوقفها وهتيجي معايا شقتي، بس يلا قبل ما أخواتك يجوا ورانا...
اضطر بدر للموافقة، واتجه معه ليسحب الأموال كما قال، ووقفا في مكان هادئ بالسيارة، والصمت سيد المكان إلى أن داهمه بدر بسؤال عن هند فأنكر باسل مجددًا معرفته بها...
ابتسم بدر بتفهم وقال بمكر:
-مشكلتك إنك طيب أوي يا باسل ومبتعرفش تكذب ولا تحور زيهم، طيب هسألك سؤال تاني وياريت متحورش عليا...
أخذ بدر يسأله عن «حسين اللبان» وعائلته وشركاته، وأجابه باسل بكل دقة وبكل صراحة عما يعرفه عنه بل لم يُركز في ترتيب كلماته فأفصح بما لا يجب الإفصاح عنه، حين قال:
-اللي أعرفه إن فيه إتنين حسين اللبان، الأول كبير العيله راجل معدي الثمانين سنه، إخواته كلهم ماتوا إلا هو شكله من المعمرين، كان ليه أخ أكبر منه اسمه حسن دا بقا خلف حسين اللبان الصغير عنده فوق الخمسين سنه، وحسين الصغير ده كان ليه أخ أكبر منه بس توفى هو وزوجته بعد ما خلفوا بنت، حسين الصغير ده قاسي وشديد زي عمه كان بيعذب بنت أخوه وبيحبسها، تقريبًا محدش يسمع عنها ومش بتظهر في أي مناسبه، البنت دي اتبهدلت جدًا في حياتها، وشركة المقاولات دي تعتبر صورة هو بيعرف يكسب فلوس بطرق تانيه، قمار بقا وربا وشغل عصابات تاني عقلك ميتخيلهوش، والمشكله إنه بيجبر نرمين تشتغل معاه لكن هي من جواها شخص كويس جدًا، وبنت طيبه بس هو بيجبرها.
-مين نرمين؟
سأله بدر متعجبًا وهو يحدق به مضيقًا جفونه وقد بدأت الرؤيا تتضح، فقال باسل بصدمة:
-مين نرمين! هو أنا قولت نرمين!!!
هنا أدرك باسل أن لسانه قد أقر دون إدراكه، تسائل ماذا لو أغضب ذلك نرمين!! وماذا لو تسبب لها بمشكلة ما مع عمها القاسي!
أحاطه بدر بنظراته المتفرسة، فتذبذبت نظرات باسل وارتبكت حركاته واظطربت أنفاسه، فسأله باسل بتلعثم:
-بـ... بتسأل عن الراجل ده ليه؟
طالعه بدر بنظرات حاذقة، وقال:
-هقولك لما تحكيلي حكاية هند!
أخذ باسل يحرك يديه بارتباك وهو يقول:
-هند مين! أنا معرفش حد بالإسم ده، والله ما أعرف حد بالإسم ده.
صمتا هنيهة وقال بدر بمكر:
-جايز يكون اسمها نرمين مش هند!
اكفهر وجه باسل، أطبق شفتيه وأطرق مرتبكًا، فربت بدر على كتفه وقال:
-شكرًا لمساعدتك يا باسل، أنا هنزل هنا...
-مش هتيجي تبات معايا؟
-لأ، لازم أمشي من هنا أخواتك مش هيسيبوني في حالي، أنا راجع للمكان اللي جيت منه.
ارتجل بدر من السيارة، وتبعه باسل وهو يسأل:
-هتروح عند جدك؟
-هروح بس مش دلوقتي... الأول هدور على ناس شبههي اتدفى وسطهم...
خلع باسل قلنسوة سوداء يرتديها على رأسه وقال:
-طيب خد البس دي على راسك وحاول تداري بها وشك المتبهدل ده.
أخذها بدر وعلى شفتيه لاح شبح ابتسامة باهتةٍ مهزومةٍ ومنكسـ ـرة، قال باسل:
-هبقا أرن عليك، خلي بالك من نفسك.
-وإنت كمان خلي بالك من نفسك ومن... ومن نرمين.
تذبذبت نظرات باسل، فلوح له بدر وابتعد وهو يصيح:
-أتمنى يفضل ليا أخ يسأل عليا مش يراقبني وينقل أخباري، سلام يا أخويا...
غادر بدر وترك باسل يكاد يتجمد مكانه، ينهر نفسه، كيف لم يراقب كلماته بتلك الطريقة؟ تُرى هل سيتسبب بمشكلة لنرمين؟ تلك الفتاة التي أحبها بجنـ ـون ولا يدري لمَ؟
تذكر والدته فلن يراها بعد الآن ولن يشكو لها همومه وكأنها هموم صديقٍ له، فقد حكى لها عن نرمين وكأن صديق له يعاني معها، وكان ردها أن صديقه أبله وأحمق! لو أحبها لانتشلها من عالمها المليء بالسموم والجراثيم وأخذها لمكان أخر تتنفس فيه، ولو كانت الفتاة كما يقول فهي الآن تحتضر وتحتاج لمن يُنعش قلبها، لكنه يقف جوارها ويدعو لها! تذكر نظرتها حين رمقته بفطنةٍ وقالت بكياسة «اذهب وانعش قلبها يا ولدي» وحينها أخذ يقسم بأنه ليس هو بل صديق مقرب فضحكت والدته وقالت ومنذ متى ولديك أصدقاء مقربون يا بني؟
استقل باسل سيارته وهو يبكي على فراق والدته الذي هز كيانه! فقد كان يحب والدته ولم يكره «بدر» أبدًا ربما يحبه أيضًا، لكنه يكره أخويه ويُمقت قسوة قلبيهما.
*******
قد تُحب شخص فتراه لين القلب وإن كان قاسيًا، وقد تمقت أخر فتراه قاسي وإن كان لينًا، ولكن هل يسلك قلبٌ أحبَ الله بصدق طريق القسوة؟!
اتجه «بدر» لموقف السيارات ليستقل أول سيارة تتجه لبلدة هؤلاء الذين أحبهم ورأى في عائلتهم ونس وراحة ولين فتمنى لو كان فرد منها، أراد أن يكون منهم ومعهم، ويطوي صفحة إخوته تلك للأبد...
قذفت عيناه دمعتين فمسح وجهه دون أن ينتبه له أحد، وطلب رقم جده ليخبره بأخر الأخبار بنبرة ثابتة...
فطلب منه جده أن يذهب إلى حيث تقى وسراب حتى يطمأن عليهما، لم يكن يعلم أنه أخذ قراره بالذهاب إلى هناك قبل تلك المكالمة.
وظل بدر يكبح دموعه ويواري حزنه الشديد الذي يعصف بداخله.
★★★★★
جلست «تقى» بينهن في غرفة بها سريران لوئام وهيام، ببيت والدهما «دياب»، فلولا إصرار شيرين لم تكن لتأتي، فلا تريد لقاء عامر ولا تريد لقاء هاتين الفتاتين رحمة ورغدة أصبحت تمقت رؤيتهم بعدما كانت تراهما بريئتان وتشفق عليهما، ظلت متجهمة الوجه تتجاهل كلامهن جميعًا وسراب تحكي باستفاضة ما حدث في تلك الرحلة العجيبة والغريبة، لم تترك تفصيلة إلا وقالتها، ولم تكن بالمرة الأولى التي تروى سراب القصة بل أخبرتهم بكل شيء حدث منذ يوم وصولهم للبيت...
-ما كفايه بقا يا سراب.
قالتها تقى بضجر، فقالت سراب:
-إيه يا بنتي خليني أحكي يمكن حد يفهم حاجه ويفهمنا.
وقالت شيرين:
-والله حاجه تخوف ولا الراجل اللي طلق عليكم كلابه ده!
كانت رحمه تجلس صامتة، فوجهت لها نداء سؤال:
-وإنتِ يا رحمه البنت المنتقبه دي قابلتك فين واشمعنا إنتِ؟
-مش عارفه، آآ... كنت وقتها قاعده في كافيه بشرب قهوه لوحدي... لوحدي خالص.
قالتها رحمة بارتباك، ودقات قلبها تقرع كالطبول، ربتت وئام على يدها وقالت:
-ربنا يستر والله، خلوا بالكوا من نفسكوا يا بنات.
زفرت سراب بأسى وقالت ببعض اللامبالاة:
-هيحصلنا ايه يعني! سيبيها لله يا أبله وئام...
أخذت سراب تحكي لهن مجددًا عن رحلتهم، فهدرت تقى بنفاذ صبر:
-خلاص بقا لو سمحتِ يا سراب.
ابتلعت سراب باقي كلامها وران عليهم صمتٌ طفيف، قطعته رغده بسؤالها:
-احم هو... هو بدر ده، اللي كان معاكم هيجي تاني ولا طلع من ضمن الأشرار!!
قالت سراب ببعض الشرود:
-بدر! الصراحه مش عارفه، بس شكله محترم.
ثم شهقت سراب وكأنها تذكرت أمر هام فانتبهن لها جميعًا حين أردفت:
-صحيح نسيت أقولكم إنه كان راكب معانا العربية وفجأه نط نزل لما جتله مكالمة، والمشكله عامر بيقول إنه رن عليه كتير مبيردش! والله قلقانه عليه.
أطلقت رغدة تنهيدة يائسة وهي تقول:
-يارب ميكونش شرير، والله باين عليه محترم، يارب يرجع.
لكزتها رحمه فانتبهت رغدة لتحديقهن بها بنظرات تقتر شكًا، فقالت:
-آآ... قصدي يعني يرجع بمعلومه تفيدكم.
رشقتها وئام بنظرة حادة، فأطرقت رغدة، وانخرطن بالحديث حول صالون التجميل الذي ستفتحه سراب «البيوتي سنتر»، حتى طُرق الباب ودخلت هيام التي أشارت لتقى وقالت:
-لو سمحت يا تقى كلمتين بس.
نهضت تقى...
فنهضت رغدة وجلست جوار سراب وسألتها بهمس:
-احكيلي بقا بدر عمل ايه؟
أخذت سراب تحكي مجددًا بينما شردت رحمه فيما أُجبرت على فعله...
نهضت «رحمة» بعدما رمقت سراب بنظرة تشي بالكثير، وكأنها تعتذر لها عما فعلته وستفعله! وخرجت رحمه لتقف بالشرفة وترسل لنادر التسجيل الذي سجلته لحديث سراب كامل...
وبالشرفة كان صوت الأغاني الصاخبة يصدح من بيت سعيدة، فزفاف ابنها في الغد مالت نداء على شيرين وقالت بهمس:
-مش عارفه يا ماما مش مطمنه حاسه إن رحمه فيها حاجه!
أطلقت شيرين تنهيدة وقالت:
-ربنا يسترها يارب.
قالت وئام:
-هي خالتي سعيده هتفضل مشغله أغاني كده طول الليل؟
قالت نداء:
-والله ربنا يهديها الست دي، أهي دي ابتلائنا في الشارع ده.
ظهرت هيام مجددًا وأشارت لوالدتها أن تأتي لأمر هام فنهضت شيرين وتوجهت حيث غرفة المعيشة فقد كانت تقى تقف على الباب تنتظرها لتدخل حيث رجال العائلة يتجمعون، فدياب يريدها بأمر هام...
وما أن دخلتا قال دياب:
-فين الباقين؟ وفين سراب؟
هرولت هيام تناديهن، بينما أطرقت تقى وترقبت، حسنًا ستتوقع الأسوأ حتى إذا حدث لن تتفاجئ كثيرًا....
وبعدما دخل البقية للغرفة، طاف دياب بنظراته عليهم ثم وجه كلامه لتقى:
-فيه موضوع مهم عايز أكلمك فيه يابنتي، ومش عايزك تردي دلوقتي تقدري تفكري براحتك.
أطرقت تقى بحياء، فربما سيطلبها للزواج من عامر! ولكن ماذا عن رحمه ورغدة وكلام بدر عنهما!
ترقبت كلام دياب وأرهفت السمع، وحين طال صمته رفعت رأسها تتفرس ملامحه أيعقل أن يخبرها دياب أنهم سيفصلوا تجارتهم عنهما خوفًا على عائلته بعدما حدث لعمرو وعامر بالقاهرة، ازدردت لعابها وخفق قلبها بشدة وارتعشت يديها، وهي تدعو في سريرتها أن يكون خير فقد أرهقتها الدنيا ومفاجآتها المفجعة، حانت منها التفاتة نحو وجه عامر الذي رنى إليها بنظراته، فأطرقت مرة أخرى وترقبت ما يريد...
★★★★★
وفي شقة نرمين كانت تقطع الردهة جيئة وذهابًا في اضطراب وحيرة، تشققت شفاهها لقلة تناولها للماء والطعام، فلم يرد عليها باسل منذ يوم كامل ولم تفعل شيء إلا البكاء والنواح خاصة بعدما سمعت التسجيل الذي أرسله نادر قبل دقيقتين وعلمت أن تقى وسراب وصلا لحسين، ارتعدت أوصالها...
تخشى أن تعود لعمها أو تحدثه أو أن تفعل أي شيء، ظلت كما هي تبكي وترتعد فرائصها خشية رد فعل عمها، فأخر مقابلة معه حبسها ثلاثة أيام دون طعام، ولم يطلق سراحها إلا بعدما أقسمت أنها ستحل ذلك الأمر بنفسها كما عقدته وها هي الأمور تتعقد أكثر وأكثر...
طلبت رقم باسل مجددًا، فأجاب، ابتهجت وجففت دموعها، وهدرت به:
-كده يا باسل! لا بترد عليا ولا بتسأل وإنت عارف بالمصيبه اللي أنا فيها و...
قاطعتها نبرته المهزومة:
-أنا أمي ماتت يا نيمو...
عُقد لسانها وهوت جالسة ثم قالت بهدوء وبنبرة حزينة:
-البقاء لله.
-ونعم بالله.
قالها بحزن، فصمتت تنصت لصوت أنفاسه وارتشافه لدموعه، مصيبته أشد منها، رغم هول ما هي فيه فحياتها على المحك، قالت:
-إنت كويس؟ أجيلك؟
-لأ خليكِ أنا اللي هجيلك قريب، المهم طمنيني عملتِ ايه؟
صمتت هنيهة، وأخذت تكتم نشيجها عنه، ولكن خرج صوتها مختنق حين قالت:
-أنا مش عارفه أعمل حاجه ولا أوصل للحاجه اللي عمي عايزها، والأدهى إن سراب وصلت لعمي حسين! أنا لو رجعت لعمي هيقـ ـتلني يا باسل.
صمتا وكان يسمع صوت أنفاسها المرتفعة بل شعر برجفتها وخوفها، ودموعها، فباغتها بقول:
-بقولك ايه يا نيمو! متيجي نبعد عن كل الناس دي ونسافر بره مصر.
عقبت بانفعال:
-طيب وفلوسي! حقي اللي مع عمي.
قال بحنو:
-هعوضك.
نهضت واقفة وأخذت تتذكر ماضيها وتقول بحـ ـرقة:
-والظلـ ـم و... والأيام الصعبه اللي أنا عيشتها في بيته!
هدأ ثورتها بصوته الرخيم:
-هنسيهالك بالأيام الحلوه اللي هنعيشها سوا.
صمتت هنيهة وانتظر تعليقها حتى نطقت جملة:
-موافقه يا باسل.
شعرت بابتسامة من نبرته المبتهجة حين قال:
-وأنا بحبك يا نيمو، اجهزي عشان نتجوز، ونرمي كل ده ورا ضهرنا ونمشي.
ارتعش فمها بابتسامة، فكلماته أيقظت لين روحها، فلازال اللين بقلبها وإن تظاهرت بالقسوة والجمود، وباسل كان وسيبقى أملها الوحيد لتنقية روحها من شوائب القسوة التي كادت تسيطر عليها، ولابد وأن لظهوره بحياتها حكمة ما!
والآن حان الوقت الهروب من كل تلك الضغوط، وحان وقت تنقية الشوائب وإعادة الصفاء والنقاء لروحها، بل حان وقت البوح والإعتراف بكل شيء لتقى وسراب في رسالة نصية، أو ربما ورقية، أو ربما تلتقي بهما، وستحكي لباسل كل شيء حين تراه، ستفر من تلك الحياة وذلك العالم المعتم، فسحقًا لحياة تسير فيها على وتر حاد يجرحها إن سارت ويجرحها إن توقفت.
★★★★★★★
-خير يا بابا حضرتك مجمعنا كلنا ليه؟
قالها رائد، فأرسل دياب تنهيدة عميقة وقال:
-تقى وسراب يعتبروا اتنين من العيله، وبالنسبالي هما زي وئام وهيام، اللي يوجعهم بيوجعني واللي يفرحهم بيفرحني.
قبلت وئام رأس والدها فربت على يدها الحنونه التي أحاطت كتفه وأكمل:
-دا حتى الناس بيعتبروني ولي أمرهم، النهارده وأنا في العطاره جالي أنس، انس دا كان شغال معايا لما كان صغير، دلوقتي ما شاء الله دكتور أطفال ممتاز عنده ٣٠ سنه و... إيه رأيكم في أنس؟
قالها دياب ونظر لرائد فقال رائد:
-أنس شاب محترم ومتدين وأمور ما شاء الله.
أثنى عليه الجميع فالعائلة بأكملها تعرفه، نظر دياب نحو عمرو وعامر الصامتان، فقال عمرو:
-إنسان محترم جدًا وراقي، أنا عن نفسي بحبه.
اومأ عامر مؤكدًا على كلامه وقال:
-أنس شاب مخلص وأحسبه على خير، بس ليه السؤال يا بابا؟
سلط دياب بصره على تقى وصمت هنيهة قبل أن يقول:
-أنس طلب مني إيد تقى.
هب عامر واقفًا وقال بانفعال:
-لا... هو كويس بس أنا عمري ما كنت برتاحله و... وبعدين دا، دا، دا كبير على تقى دا فوق الثلاثين بكتير يا بابا!
حدجه والده بنظرة حادة، فعاد يجلس بعدما رمق تقى بنظرة لو نطقت لتوسلت لها ألا توافق...
قال دياب:
-صلي استخاره يا تقى وردي عليا، ولو عايزه رأيي فإنتِ محتاجه راجل يقف في ظهرك وأنس راجل بمعنى الكلمة.
صمتت تقى وأطرقت بحياء، بينما نظر دياب لسراب وهو يقول:
-وإنتِ يا سراب آآ...
قاطعته:
-لأ لا أنا مش عايزه اتجوز دلوقتي خالص يا عمي.
ضحك دياب وقال:
-كنت هسالك عن البيوتي سنتر بتاعك هتفتحيه إمته؟
-آه... يومين كده ان شاء الله.
بدلت هيام نظرها بين تقى وعامر الذي تجهم وجهه واكفهر، فربتت على كتفه وقالت بخفوت:
-محتاجين نتكلم.
نهض «عامر» وتركهم يتحدثون حول أنس غير آبهين لقلبه المتقد بنار الغيرة والقلق من أن يخسر تقى للأبد، فربما توافق على أنس!
شعر وكان هناك من ينتزع جزءًا منه، أراد أن يصرخ وأن يقول لا هي خاصتي ولكن أنى له هذا! فلا يوجد إثبات أنها خاصته.
رأته تقى وهو يدخل لغرفته وتتبعه هيام ثم عمرو، فنهضت هي الأخرى وعادت لشقتها، نزعت حجابها وكأنها تعاركه وانخرطت في بكاء مرير وسراب تتابعها وتحاول تهدئتها، لكنها انهارت وصارت تبكي ولا أحد يسمع صياح قلبها المكتظ بالمواجد، تعلم أنها تحتاج لمن يطمئنها ويشعرها بالأمان؟ لمن يربت على فؤادها المكلوم أثر اختفاء والدها وكأنه تبخر، ومنْ يسكن ألم قلبها المكسـ ـور بعدما رأته بالقاهره، تحتاج لمن يأخذ بيدها لتصل لطريق آمن تسير به بعيد عن كل تلك الضغوط التي تنزح تحتها.
لكنها على يقين تام أنها لا تحتاج للبشر، فرب البرية يراها ويسمعها وسينقذها من شدتها بكل تأكيد، ستصلي وتشكو له، ستطرح مخاوفها بسجدة طويلة علها تتناثر فترقى روحها...
★★★★
جلس«عامر» قبالة أخته «هيام» صامت شارد، يسمع حوارها مع عمرو ولكن لا يفقه لكلماتهما معنى، كان قلبه معلقًا عندها، يريدها ولكن... ليس الآن! كادت نيران الغضب تحـ ـرق فؤاده، كيف يفكر بها رجل غيره؟! فلن يتحمل أن تكون تقى لغيره، يريدها له وحده ولكن... ليس الآن!
-ما إنت يا عامر غلطان برده! يعني على الأقل اطلبها للجواز، اخطبها، إنما إنت متوقع ايه يعني! أكيد هيتقدملها ناس.
انتبه حين قالها عمرو الذي يقف عاقدًا ذراعيه أمام صدره، يتابع حركات وسكنات أخيه الذي نطق باقتضاب:
-واختراعي!
قال عمرو:
-يا عم الحج دا ماله ومال اختراعك! اتجوز يا عم على الأقل هتكون ليك شقه تعمل فيها اختراعاتك بعيد عننا! وهتعرف تركز، إنما شاطر تمسك شريط أحمر تبص عليه وتحب فيه زي المراهقين!
صمت عامر هنيهة قبل أن ينطق:
-أنا خايف من الجواز! وفي نفس الوقت عايزها حد فاهمني؟
قالت هيام:
-فهماك لكن مفيش مبرر للخوف... إنت ما شاء الله عليك يا عامر تقدر تفتح بيت ويكون ليك أسره.
نهض واقفًا وقال بحزن:
-مش عارف، أنا عندي وسواس بيقولي إني مش هتجوزها أبدًا لأني معملتش أي حاجه اتمنيتها، كل حاجه بتتفرض عليا، الكليه دخلتها عشان التنسيق، والشغل اشتغلته عشان لازم أشتغل، وحتى الجواز عمي ضياء فرض علينا رحمه ورغدة.
-سيبك من عمك ضياء ورحمه ورغده، محدش بيتجوز بالعافيه، واحنا هنرفض رغدة ورحمه أصلًا...
قالها عمرو، فحدق عامر ثم تنهد وقال:
-طيب افرضوا تقى وافقت على أنس؟
قال عمرو بثقة:
-مش هتوافق، وإن وافقت ياسيدي سيب أنس عليا أنا هطفشه، بس إنت لازم تاخد خطوه بجد، لأن لو مشي أنس هيجي غيره.
جلس عامر جوار هيام التي احتضنت كتفيه وقالت وهي توقع كلماتها بابتسامة:
-مفيش مبرر للخوف، ولا للتأجيل وأنا شايفه إنكم لايقين على بعض، وهي كمان عندها مشاعر ناحيتك.
قال عامر باضطراب:
-طيب، سيبوني أفكر.
-لسه هيقولك أفكر ومفكرش!
قالها عمرو ساخرًا ثم خرج من الغرفة وترك الباب نصف مفتوح، فنهضت هيام واقفة وقالت:
-خد وقتك يا عامر بس أنجز.
أطلت وئام برأسها من فتحة الباب وقالت بمرح:
-هو إيه اللي بيحصل بقا يا ولاه!
أطرق عامر ولم يرد، فداعبت وئام وجنتيه وهي تقول:
-عموري كبر يا ناس وبقا بيغير...
ضحكت ونظرت لهيام المبتسمة، وقالت:
-شامة يا بت يا هيام؟
أطل «رائد» برأسه من باب الغرفة وقال:
-ريحة الحب بتهفهف في المكان.
ظهرت نداء خلف رائد وتبعتهم شيرين، ثم عمرو، فبدل عامر نظراته بينهم، هل كان مكشوفًا لتلك الدرجة؟ العائلة بأكملها تعلم بمكنون قلبه!
استنشقت نداء الهواء وقالت:
-أنا شامه ريحة شياط يا جماعه!
قالت وئام متخابثة:
-أكيد الريحه دي طالعه من عامر، غيران بقا!
استنشقت شيرين رأس عامر وهي تقول:
-فيه ريحة شياط بجد يا ولاد.
وثبت وئام وهي تقول:
-يا نهار أبيض الرز، كنت بعمل رز للعيال.
ضحكوا جميعًا، فشاركهم عامر وهو يبدل نظراته بينهم، فما أجمل عائلته! دافئة حنونة، تضيء قلوبهم ووجوههم بنور الإيمان...
أشخاص لا يتخيل حياته دونهم، خففوا عنه بمداعباتهم اللطيفة وسخريتهم الطريفة، فخرج من حالته وأخذ يضحك معهم...
مسحوا على صدره بماء حكاويهم فبرد لهيبه وسكن، فالعائلة هي السكن وهي الوطن.
ما كان الوطن وطنًا إلا بوجود العائلة، تلك التي لن تشعر بالغربه أبدًا ما دمت بينهم.
استغفروا🌸
★★★★★
وصل «بدر» للشارع الساجي، نظر لساعة يده التي أشارت للثانية بعد منتصف الليل، أين سيذهب الآن؟ هل سيجد أحد مستيقظ من أفراد العائلة، خجل أن يدق بابهم في هذا الوقت المتأخر، فجلس على الدرج قبالة المسجد الذي كان مغلقًا هو الأخر، شد من معطفه وقرر أن ينتظر عدة ساعات حتى يُفتح المسجد لصلاة الفجر، أو ربما يفتحه أحدهم قبلها...
عاد للخلف ليستند برأسه على باب المسجد ولازال هناك غصة تتلوى بصدرة، هناك ألم داخل قلبه، وكأن ثمة عاصفة من الرياح تدور بصدره حتى كادت تخلع أضلعه...
تمنى لو بكى كما فعل باسل، لاشك أن تلك العاصفة العنـ ـيفة لن تهدأ دون أمطار! يحتاج أن يبكي...
البكاء ينقي الروح ويُهدئ العواصف كما ينقى المطر أجواء الشتاء ويُهدأ رياحه العاصفة، فالنفس ترعد والقلب يبرق والعين تهطل بالدموع، الأمر أشبه بثـ ـورة كبيرة لابد عنها حتى تهدأ الروح وتسكن العواصف فتشرق الشمس من جديد.
نهض واقفًا يلتفت حوله بحثًا عن أي أحد يرتمي بأحضانه ويبكي، لكنه لم يجد فعاد يجلس وسند رأسه على باب المسجد وأغلق جفونه، فجذبه النوم...
*********
وقبل الفجر بساعة خرج «يحيى» متوجهًا للمسجد فمعه مفتاحه، وقد أخذه من العامل ليصلي القيام قبل أن يرفع آذان الفجر، فزوجته وأبناءه عند دياب، والشقة دونهم بلا حياة لذا خرج مبكرًا...
وحين وصل أمام المسجد وجد شاب يجلس على بابه! حزن داخله لأنهم أصبحوا يغلقون المساجد دبر كل صلاة!
اقترب من الشاب، وما أن تبين ملامحه، ووجهه المكلل بالكدمات، نادى وهو يهزه برفق:
-بدر... بدر.
انتفض بدر، ووضع ذراعه أمام وجهه وكأنه يتفادى الضـ ـرب، فأمسك يحيى بذراعه وقال:
-إيه يا حبيبي اللي منيمك كده؟ وإيه اللي في وشك ده.
حدق بدر بعيني يحيى للحظات ثم نطق:
-أمي ماتت و... وأخواتي آآ...
ترققت عيناه بالدموع، حسنًا! سسيصطك غمام حزنه وستمطر عيناه الآن سيقذف ما بداخله من آهات خلال نشيجه المرتفع... سيبكي عله يرتاح.
انهـ ـار أمام يحيى الذي أخذه لداخل المسجد، وظل يربت على صدره المتألم بكلماته الحنونة، ظل جواره حتى أفرغ طاقته السلبية بالبكاء وهدأت نفسه، فقال يحيى:
-تصلي قيام معايا؟
أومأ بدر ونهض معه، يجر معه كل آلامه...
لم يسأله يحيى عن أي شيء، فقط ساعده ليتوضأ ووقفا يصليان معًا في خشوع كامل، قرأ يحيى (سورة مريم)، وكالعادة ارتعش صوته عندما قرأ:
-يا يحيى خذ الكتاب بقوة...
وأخذ يكررها كثيرًا ثم بكي وأكمل الآية وركع ثم سجد ودعى لوالديه، فقد علق والديه قلبه بالقرآن، فأصبح ينفس القرآن...
رفع «يحيى» أذان الفجر وتوافد المصلون واستوو للصلاة كالبنيان المرصوص، وبعد الانتهاء، استند بدر على إحدى الأعمده فرآه عمرو وعامر وأقبلا إليه، تصفحا وجهه وسألاه عما حدث، والتف حوله رجال العائلة «يحيى ودياب ورائد ومحمد»، اصطك غمام الحزن داخله مرة أخرى فأمطرت عيناه، ولأول مرة يضمه عمرو بقلق ولهفة، بينما كانت شهقات بدر مرتفعة وهو يقول بحشرجة:
-أنا مش وحش والله يا عمرو، أنا مش زيهم، أنا مش وحش عشان تخاف مني للدرجه دي، أنا مش زيهم... والله ما في نيتي حاجه ليكم.
ظل يبكي بين ذراعي عمرو بينما حاوطهما باقي الرجال وهم يطالعون بدر بشفقة، وقلق من القادم، همس لهم يحيى:
-بيقول والدته توفت، وتقريبًا اخواته ضـ ـربوه أو حاجه!
وبعد فترة هدأ بدر، وطاف بنظراته على وجوههم ثم قال:
-هو أنا عشان أكون من العيله بتاعتكوا أعمل ايه؟ معندكش بنت يا عمي دياب تجوزهالي؟
ابتسموا جميعًا وقال دياب:
-والله يابني عيالي كلهم متجوزين حتى بنت رائد لسه صغيره، كنت جوزتهالك.
ضـ ـربه عمرو بلطف وقال:
-شوف الواد بيفكر في الجواز واحنا كنا هنموت من القلق عليه!
افتر ثغر بدر بابتسامة باهتة، وقال بسخرية:
-دا أنا أخدت علقه مأخدهاش حمار!
قال عامر:
-احكيلنا ايه اللي حصل؟! أخوك ضـ ـربك بسببنا!
-لأ مش إنتوا خالص... هحكيلكم بالتفصيل.
قالها بدر وأخذ يقص عليهم ما حدث، ثم خرجوا من المسجد...
حاوط عامر كتفي بدر وقال:
-مع إني واخد على خاطري منك ياسي المهندس!
-ليه؟
-بقا تقول قدام تقى عن موضوع رغده ورحمه؟
-والله بعد ما قولت أدركت إني غـ ـبي!
-لا لا لا متقولش على نفسك كده! معقوله إنت غبي! إنت عبيـ ـط يا غالي.
أخذ يحيى بدر معه ليرتاح بالبيت، إلى أن يرتفع النهار ويعود للشقة ببيت سراب وتقى وذهب كلٌ لبيته...
★★★★★
وفي فجر هذا اليوم
قررت تقى أن تنغمس بعملها، فهي مصممة ملابس رائعة، كما أنها ستشرع في تصميم ثوب زفاف جديد طرأت لها فكرته مؤخرًا.
قررت سراب أن تبدأ بعملها الجديد في صالون التجميل النسائي، وتعلن عن نفسها في كل مكان، وقررت أن تسميه «عن تراضٍ» ليلحق بمحلاتهم ومصنعهم.
قررتا ألا تذهبان مجددًا لوكر العقارب، فهما فتاتان وقد حذرهما كارم من فعلها وستسمعان النصيحة، فقد كانت كل منهما تخشى على الأخرى من بطش هؤلاء المجهولين، لذا قررتا أن تعيشان هنا بين عائلة دياب إلى أجل غير مسمى...
أشرقت شمس الصباح...
كانت أصوات الزغاريد تنبعث من بيت سعيدة، تلاها صوت أغاني صاخبة مجددًا من طليعة النهار، أخذت سراب تتراقص بالشقة على صوت تلك المعازف وهي ترتدي ملابسها لتخرج للعمل، طفقت تصفق وجذبت تقى من يدها لتشاركها الرقص، فجذبت تقى يدها بضجر، صفقت سراب وقالت بمرح:
-يا بت ارقصي محدش واخد منها حاجه، هو كل يوم فيه فرح في الشارع!
ظلت سراب تدور بالشقة فضحكت تقى وانتقل إليها جنـ ـان سراب فأخذت تفعل مثلها، تهز جسدها وهي تنتعل حذائها لتخرجان من البيت، توقفت الأغاني لكنهما لم تتوقفا عن الرقص والغناء، والضحك، حتى قالت سراب:
-كفايه بجد، احنا اتهبلنا ولا ايه!
ضحكت تقى وقالت:
-أحيانًا الإنسان بيحتاج جرعة من الهبل اللي احنا بنعمله ده عشان يكمل حياته.
فتحت سراب البيت وخرجتا ولازال أثر الضحك عالقًا بوجههما...
وتزامن خروجهما من بيتهما خروج رحمة ورغدة من البيت، فتأففت تقى ممتعضة وهي تتجه نحوهما، فقالت سراب:
-أولًا البنتين ملهمش ذنب، ثانيًا عمرو وعامر مش هيتجوزوهم أنا سألت أبله هيام وقالت إنهم رافضين بس معلقين الحوار ده عشان ميزعلوش عمهم ضياء، وعامر قلبه مع حد تاني.
قالتها سراب متخابثة، وفطنت تقى لنظراتها، فكبحت ابتسامة حاولت شق ثغرها لكنها ظهرت بعينيها، وأضافت سراب بمكر:
-عارفه أنا لو منك أقبل أنس، يعني أعمل نفسي قابله عشان الأخ يتلحلح شويه.
وصلتا عند رحمه ورغدة، اللتين ابتسمتا، وسلمتا عليهما وقبل أن يتحركن، تناهى لسمعهن صوت عامر:
-تقى!
همست لها سراب بمكر:
-يعني لا نادى وقال سراب ولا قال رحمه ولا رغده، ها تحبي نسبقك؟
جذبتها تقى من ذراعها لتقف، ووقف جميعهمن ينتظرن عامر، الذي حياهن فور وصوله، ثم قال:
-عرفتوا إن بدر رجع؟
-بجد!
قالتها رغده ببهجة، لكن تجاهلها عامر فقد كان يصب كل تركيزه مع تقى، أراد قول شيء أخر، ولكن...
-كنت عايز مفتاح الشقه عشان هيسكن فيها بدر.
قالها بارتباك، فأخرجت تقى المفتاح وقالت:
-ماشي اتفضل يا عامر.
سألته سراب:
-بس هو بدر كان فين؟
انتبهت رغدة وأرهفت السمع، فقال عامر:
-دي حكاية طويله، بعدين بقا أقولكوا.
-طيب ما تقول دلوقتي؟
قالتها رغدة بابتسامة، فتجاهلها عامر للمرة الثانية وولى ظهره مدبرًا ومتوجهًا لبيته، بعدما لوح لتقى فنادته تقى:
-عامر...
توقف مكانه لبرهة قبل أن يلتفت مترقبًا لكلماتها، فاتجهت إليه، بينما صرفت سراب رغده ورحمه، ووقفت تنتظر تقى أن تعود إليها...
قالت تقى:
-أنا صليت استخارة و... وبلغ عمي دياب إني... موافقه أقعد مع العريس.
ورغم ضيقه الشديد وحنقه بعد وقع كلماتها عليه، هز كتفيه بلامبالاة زائفة وقال:
-طيب وأنا مالي بلغيه بنفسك.
ولاها ظهره وسار مسافة وسارت هي أيضًا نحو سراب وهي تلتفت خلفها ثلاث مرات، ولم يلتفت أبدًا فقد كان يصر على أسنانه بغيظ شديد وبعدما وصلت لسراب التفت فجأة وناداها وهرول مقبلًا إليها وعادت هي الأخرى خطوات لتقابله حتى وقفت قبالته مترقبة، أخرج من جيبه الشريط الأحمر، وأعطاه لها فأخذته باستغراب وخفق قلبها فزعًا، تسائلت هل هي إشارة منه بانتهاء كل شيء...
فاجأها حين قال بعصبية وتجهم:
-إنتِ مش هتقعدي مع حد غيري، فاهمه؟ لا أنس ولا غيره... إيه القرف ده على الصبح.
رماها بتلك الكلمات ثم عاد للبيت مغمغمًا بضجر، فاحتقن وجهها بالد**ماء، وأطبقت يدها على فمها، فرنت إليها سراب وسألتها:
-إيه اللي حصل؟
-قالي مش هتقعدي مع حد غيري!
لوحت سراب بقبضة يدها في الهواء بسعادة، وضحكت ثم قالت:
-عارفه يا تقى أنا حاسه إن كل حاجه هتتحل قريب...
-يارب والله يا سراب.
-طيب عارفه كمان رغم كل حاجه بتحصل حولينا أنا فرحانه ومرتاحه وقلبي فيه سكينة كده غريبة، والنهارده حاسه إن فيه حاجه حلوه أوي هتحصل...
كانتا تتحدثان فلم تنتبها أنهما دخلتا لشارعٍ خاطئ، وأثار انتباه تقى رحمه التي تقف بمفردها في زاوية بعيدة وتلتفت يمنة ويسرة باضطراب، قالت تقى:
-هي البنت دي مش كانت ماشيه مع أختها دلوقتي؟
-ما اللي أنا أعرفه إنهم مش بيروحوا كل الدروس مع بعض، بس هي مالها مرتبكه كده!
وقفتا تراقبانها حتى وقفت قبالتها سيارة فابتسمت رحمة وصعدت إليها، نطقتا في آن واحد:
-دا نادر؟!!!
نظرتا لبعضهما ثم قالت سراب:
-وهي مالها ومال نادر!
صمتت سراب هنيهة ثم قالت:
-روحي إنتِ شغلك، وأنا هعمل حاجه...
همت سراب أن تغادر، فنادتها تقى:
-رايحه فين! فهميني!
لم تجبها سراب وهرولت مبتعدة عنها، فوقفت تقى حائرة تخاطب نفسها:
-هتعمل ايه المجـ ـنونه دي! هو احنا ناقصين!
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا