رواية غرام الذئاب الفصل الرابع والخامس والسادس بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
رواية غرام الذئاب الفصل الرابع والخامس والسادس بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
༺الفصل الرابع༻
غرام الذئاب
بقلم ولاء رفعت
و خرت على الارض راياتي
وقطعت من آمالي الاعناق
سفني كلها ضاعت ..اغرقت
ضاع مينائي في الافاق
ملئت قصص الغدر هواجسي
و سودت افكاري للأعماق
وعانقت آهاتي حد الاحراق
قولي ما افعل في الاشواق
انت الداءِ و انت الترياق
«من أشعار سليم الخطابي»
لقطات مزعجة تراوضه في أحلامه، ذلك اليوم الذي ظل يدفع ثمنه حتي فقدها للأبد، صرخاتها وهي تتوسل إليه ليبتعد عنها ويتوقف عن تمزيق ثيابها وهو يقوم بالاعتداء عليها
صرخاتها باسمه
«ياسين... ياسين... ياسين»
استيقظ بفزع ويشهق كالعائد من الموت، ظل لثوان يدرك أين هو وما يحدث حوله، وجد سكون مريب، انتبه إلي جسده العاري ويغطيه الدثار إلي خصره، وقعت عينيه علي ثوب الزفاف الملقي فوق مقعد طاولة الزينة و ثيابه المبعثرة علي الأرض، جواره منشفة قطنية كبيرة، اتسعت عينيه عندما رأي بالقرب من طرفها بقعة دماء، داهمته ذاكرته بومضات من أحداث الأمس، باغته ألم الرأس و صفير في أذنيه، وضع كفيه علي مسامعه حتي توقف الصفير، دنا بجذعه من الأرض جوار السرير، ألتقط سرواله فارتداه أسفل الدثار ثم نهض اتجه نحو الحمام، دلف داخل كابينة الحمام الزجاجية وفتح صنبور المياه فتساقطت بغزارة علي رأسه وجسده، استند بكفيه علي الحائط الرخامي، ينكس رأسه محاولاً تذكر ما حدث أمس، عينيها تذرف الدموع وتوسلاتها له برفضها إتمام زواجه منها و حالة الثمل التي كان عليها يصاحبها قوة مفرطة جعلته كالوحش الثائر عليها.
هز رأسه برفض مرة أخرى كان وغداً و مغتصب حتي لو كانت الضحية في تلك المرة زوجته، فأخذ الحق عنوة من الطرف الأخر يصبح اغتصاباً و إذا كان مشروعاً، و شعور بذنب أكبر و هو خيانة الإنسانة التي عشقها بكل حواسه و لو كانت في حكم الأموات.
انتهي من الاغتسال سريعاً، يجب أن يصلح ما أفسده قبل أن يعيد مرة أخرى المعاناة التي ظل يدفع ثمنها منذ سنوات مع زوجته الأولي.
تبدل الوضع من الأمس، فبعد انتهائه منها حاولت النهوض برغم الألم الذي اجتاح جسدها، غارقة عينيها بدموع القهر، كانت تحلم بليلة العمر فأصبحت أسوء ليلة لن تنساها بتاً.
اغتسلت وارتدت منامة قطنية فضفاضة ثم تناولت قرص من المهدأ الذي قلما لجأت له لتفر من التفكير المهلك للأعصاب و الألم النفسي، اليوم لجأت لتناوله فراراً من الألم الجسدي والنفسي معاً.
و الآن قد استيقظت للتو وقامت بغسل وجهها وأخذت تتأمل وجهها الشاحب، لاحظت بقع الدماء المتجلطة المتفرقة علي شفتيها، عنقها لا يخلو من كدمات ناتجة عن قبلات عنيفة، رسغيها بهما آثار قبضتيه عندما قام بشل حركاتها أسفله.
انتابتها حالة من البكاء يُرثي لها، وضعت كفها علي فمها حتي هدأت و خرجت، أبدلت المنامة بثوب ذو أكمام وأخذت تمشط خصلات شعرها المبعثرة، فُتح الباب فجأة و عندما ألتفت ورأته شهقت بذعر وتراجعت إلي الخلف، ألمه قلبه من رد فعلها الذى زاده شعور الازدراء من نفسه، اتجه نحوها ورفع كفيه
"ما تخافيش مش هعملك حاجة، أنا مكنتش في وعيي إمبارح و مش عارف حصل كده إزاي، أقسملك مكنتش في وعيي خالص"
نظرتها إليه مليئة بالغضب والازدراء
"مهما كانت أعذارك عمري ما هنسالك اللي عملته فيىّ امبارح"
اغمض عينيه يعتصرها بندم
"أنا عارف الأسف مش كفاية، وماليش الحق أطلب أنك تسامحيني، بس قوليلي إيه اللي يرضيكي و أنا هاعمله؟!"
"أنا كان نفسي إمبارح نبدأ أول ليلة في عمرنا زي أي أتنين متجوزين، كان اللي يرضيني هو أنك تفتح صفحة جديدة في حياتك معايا و تدي لقلبك فرصة يحب من جديد مع حد طول عمره بيحلم أنك تكون ليه"
"و أنا محتاج لك تكوني جنبي و تساعديني عشان أبقي معاكي واحد تاني، ياسين اللي بيحب الحياة و البسمة ما بتفارقش وشه، مش مجرد واحد عايش بعقدة الذنب و علي الذكريات اللي بتاكل فيىّ و بتعذبني، أنا عارف ما ينفعش أقول اللي هاقوله قدامك، أنا عمري ما هنساها و لا هانسي حبي ليها، ياسمين بالنسبة لي كل الحياة و لما سابتني و حصلها اللي حصل خدت حياتي معاها و بقيت عايش حلاوة روح، تعبت من الحالة اللي مازالت عايش فيها، نفسي أفوق من غير ما أخسر نفسي و لا أخسر اللي حواليا، و لا أخسرك"
تشعر بصدق حديثه وحالة الضعف التي بها و توسله لها لمساعدته أن يحيا من جديد، أصبحت في حيرة من أمرها، فما حدث بالأمس ولد لديها شعور بالنفور منه و هناك صوت آخر داخلها وهو صوت قلبها الأعمى، يخبرها أن تعطيه فرصة و تأخذ بيده ليبنيا معاً حياة جديدة خالية من المعاناة، و استقرار عاطفي ونفسي دون متاعب.
اقتربت منه ووقفت أمامه، لاحظ كل آثار العنف التي تركها لها، مد يده وحاول أن يمسك يدها، يخشي رفضها أن يلمسها لكنه وجدها ترضخ للمسة يده و في عينيها نظرة الغفران
"و أنا ممكن أغفرلك كل كلمة أو فعل جرحتني بيه بس توعدني أنك ما تتخلاش عني في يوم من الأيام و تدي لقلبك فرصة يحبني زي ما أنا بحبك، و كل واحد فينا يساعد التاني أننا نتجاوز أي محنة أو عقبة سواء من الماضي أو الحاضر عشان نقدر نعيش المستقبل في سلام"
لم يجد مفر من الوعد، لعله يكفر عن جزء بسيط من خطأه، ابتسم إليها وأومأ بالموافقة
"أوعدك"
اقترب بشفتيه فأغمضت عينيها، تظن أنه سيقبل خاصتها، لكنه يحاول إدراك ما هو مقبل عليه فاكتفي بقبلة علي جبهتها و ابتعد خطوة إلي الوراء
"أنا، أنا نازل رايح مشوار وراجع تاني، عندك كل حاجة في المطبخ، افطري براحتك و لو محتاجة أي حاجة كلمي البواب و هو هيجبهالك"
زفرت بحنق ها هو قد عاد من جديد، الهروب وسيلته الدفاعية كلما اقترب منها.
بينما هو غادر الشقة و توقف أمام الباب في الخارج، ينظر نحو باب الشقة المقابلة بحنين وشوق، لم يشعر بقدميه وهو يسير نحو الباب، يخرج مفتاح من جيب بنطاله، فتح الباب و دخل ثم أغلقه خلفه، أضاء كل المصابيح فانكشفت كل تفاصيل المنزل من أثاث و أركان في كل ركن و زاوية لهما ذكريات لن تنسي، ذهب إلي غرفة النوم وفتح الخزانة، أخذ ألبوم الصور و جلس علي الأرض، يتأمل كل صورة سواء لها أو لهما معاً و صور أخيرة تجمعهما مع ابنتهما.
لمس بأطراف أنامله وجهها و ملامحها في الصورة، تجمعت دموع الحزن في عينيه فانسدلت رغماً عنه علي وجنتيه
"سامحيني، سامحيني يا ياسمين، سامحيني يا حبيبتي، عمري ما هنساكي و لا هانسي حبنا، قلبي عمره ما هايعشق و لا هايحب غيرك أنتي و بس"
أخرج صورتها وأسقط ثوبها من فوق المشجب و احتضن كليهما، اجهش في البكاء بنحيب و كأنه قد تلقي خبر وفاتها للتو، تمدد علي الأرض و مازال يحتضن الصورة و الثوب، ظل علي هذا الوضع دون أن يشعر بالوقت حتي غلبه النوم.
❈-❈-❈
يتقلب و لم يفتح عينيه بعد، يمد ذراعه ليحتضنها فلم يجد سوي الفراغ و الفراش بارد الملمس، فتح عينيه بانزعاج ونهض بجذعه يبحث بعينيه عنها فوجدها تجلس أمام مرآة الزينة تطلي شفتيها بقلم الحمرة، انتهت للتو ورأته عبر المرآة
"مارضتش أصحيك و سيبتك نايم براحتك، هاتصل عليهم هخليهم يطلعولك الفطار عقبال ما احضرلك الإسبريسو"
نهض بجذعه العاري، يرتدي بنطال قطني، اقترب منها ووقف خلفها، وضع كفيه أعلي منكبيها
"و أنتي لابسة و بتجهزي كدة رايحة علي فين؟"
رفعت وجهها تنظر له عبر المرآة و تخبره
"رايحة علي الشركة، بقالي يومين مش متابعة الشغل عشان كنا مشغولين في تجهيزات فرح ياسين ورودي، فما ينفعش أغيب أكتر من كدة لأن عندنا أوردرات لازم تتسلم قبل آخر الأسبوع"
داهمه شعور بالضيق كلما وجدها تهتم بعملها أكثر و انشغالها مؤخراً عنه، و أصبح يستغل كل فرصة لينفرد بها قبل أن تغرق في عملها كصاحبة دار أزياء محلية شهيرة.
"مالك يا قصي، سرحت في إيه يا حبيبي؟"
شبه ابتسامة علي شفتيه، يجيب عليها
"مفيش يا حبيبتي، أنا هاروح أخد لي shower يكون طلعوا الأكل و نفطر مع بعض"
نهضت و ألتفت إليه
"معلش يا روحي، أنا للأسف مش هلحق أفطر، و كمان مليش نفس، أفطر أنت و أنا هابقي علي تواصل معاك و مع داده زينات هاطمن علي الأولاد"
لم تنتظر تعقيبه علي حديثها سواء بالقبول أو الرفض، اعطته قبلة سريعة علي ذقنه و غادرت الجناح علي الفور.
جز علي أسنانه غضباً، زفر بقوة و لم يستطع التحمل فركل مقعد الزينة من أمامه.
❈-❈-❈
كان صباحاً غير معتاداً لخديجة التي استيقظت للتو علي رائحة الطعام، نظرت في شاشة الهاتف لتجد الساعة العاشرة صباحاً و إشعار رسالة تنبيه قد سجلتها من قبل فحواها كالآتي
«ماتنسيش ميعاد النيابة النهاردة»
رنين وارد من المحامي التابع لعائلة فجر، نهضت و ذهبت لتتأكد أن زوجها لم يسمعها إذا أجابت علي الاتصال، قامت بفتح الباب فوجدته أمامها مما سبب لها الفزع، رددت بسم الله بصوت خافت، صاحت بحنق في وجهه
"مش تخبط علي الباب الأول و لا لازم تخضني علي الصبح؟!"
"هو أنا لحقت أخبط، كنت لسه هارفع إيدي و هاخبط عشان أصحيكي لاقيتك فتحتي علي طول، و بعدين هو أنا محتاج أستأذن أو أخبط علي مراتي؟!"
رفعت أحد حاجبيها وأجابت لتجعله يستشيط من الغيظ
"اه محتاج تستأذن يا حضرة الباشمهندس و لا نسيت اتفاق و شروط قعادك هنا معايا؟!"
جز علي شفته السفلي و يكور قبضته ثم ضربها في الباب الخشبي
"لاء مانستش يا خديجة، بس ياريت أنتي ما تنسيش طباع جوزك، و إن أنا مفيش بيني و بين الصبر عمار"
ابتسمت بسخرية
"و تيجي علي نفسك ليه و تتحمل، ما قولتلك نفضها سيرة من الأول و نتطلق"
أخذ شهيقاً ثم أطلقه زفيراً عدة مرات ليهدأ
"شكلك بتنسي كتير يا ديجا يا حبيبتي، و زي ما بيقولوا في التكرار إفادة، مفيش طلاق يا بيبي"
و ربت علي وجنتها، أبعدت يده عنها
"بلاش تستفزني لأكلم المحامي و أخليه يبدأ في إجراءات الخلع"
تحول هدوئه الزائف إلي النقيض مما جعلها تهرب من أمامه، صاح بصوت أخافها
"خلع مين يا أم خلع، ده أنا أحبسك مكانك و أمنع عنك التليفون و أي وسيلة تواصل و أخليكي تترجيني عشان نرجع علي القصر"
رفعت سبابتها بتحذير
"لو سمحت ألتزم أدبك معايا في الكلام، إيه أسلوب سواقين التوكتوك اللي بتكلمني بيه ده؟!"
ضحك بسخرية معقباً
"هو أنت لسه شوفتي حاجة؟!، البركة فيكي يا هانم، بعد ما كنا عايشين في القصر خلتيني كل يوم اصطبح بوش حموكشة و زرجينة و الخناقات اللي كل يوم بتحصل في قلب الحارة ووصلة الشتايم و الردح و لا كل ما أمشي خطوة ألاقي واحد من الشمامين اللي بيبيعوا مخدرات يوقفوني بيسألوني أن كنت عايز اشتري حشيش و لا هباب أزرق علي دماغهم"
ضحكت رغماً عنها
"اضحكي، اضحكي، يبقي أنا سايب شغلي و حالي و مالي و قاعد معاكي عشان ما ينفعش اسيبك لوحدك و كل شوية علي بوقك كلمة نتطلق، نتطلق"
انتبهت إلي وميض شاشة الهاتف و تذكرها لموعد شهادتها في سراي النيابة، اقتربت منه و فاجأته بعناق قوي
"حبيبي يا دومي، أنا بحب أستفزك، أنا ما أقدرش استغني عنك يا جوزي يا حبيبي يا أبو ابني"
كانت تدفعه إلي الخارج و تعجب من رد فعلها، وجد نفسه خارج الغرفة وابتعدت عنه لتصبح هي بالداخل
"عن أذنك بقي يا حبيبي عشان ألحق أغير هدومي لأن ورايا مشوار مهم و ما ينفعش أتأخر"
أغلقت الباب في وجهه وأوصدت القفل
"مشوار إيه و النهاردة أجازة من الجامعة"
أجابت وتعد ثيابها علي عجلة من أمرها
"هقابل واحدة صاحبتي كنت قايلة لها تصور لي المحاضرات عشان عندنا امتحانات ميدترم"
"مفيش نزول غير لما تفطري الأول"
صاحت تخبره كذباً
"أنا صايمة، افطر أنت"
" ده النهاردة السبت و لا هو اتنين و لا خميس و لا حتي رمضان و لا الستة البييض، أنتي غيرتي الملة و لا إيه يا شيخة ديجا؟!"
"إحنا في التلات أيام القمرية يا باشمهندس والنهاردة أول يوم"
زفر بحنق و أدرك أنها تتهرب منه فأراد أن يضيق عليها الخناق
"خلاص أنا كمان هغير هدومي و أجي أوصلك"
كانت قد انتهت من تبديل ثيابها سريعاً، فتحت الباب و خرجت
"لاء، قصدي مفيش داعي أصلي طلبت أوبر، خليك أنت هنا أفطر و أنا هارجع علي طول و عشان نروح نزور ماما چيهان و uncle عابد"
ضيق عينيه بعد أن لاحظ تفرك يديها معاً، و تلك الحركة تفعلها كلما تشعر بالتوتر و القلق
"فيه حاجة مخبياها عليا؟"
ولت ظهرها إليه لتخفي نظرة القلق علي وجهها
"هاكون مخبية عنك إيه يا حبيبي، مفيش حاجة، ده أثر الصيام ما تاخدش بالك"
"تمام يا خديجة، روحي و خلصي مشوارك بسرعة و ياريت ما تتأخريش"
ألتفت لتنظر إليه بابتسامة حتي لا يشك في أمرها
"تسلم يا دومي يا حبيبي"
ركضت من أمامه لترتدي حجابها تحت نظرات تعجبه واندهاشه، فتحدث مع ذاته
"يا تري مخبية إيه عليىّ يا خديجة؟!"
بعد قليل...
قد غادرت هي و هو جلس ليتناول الفطور، صدح رنين هاتفه فنهض قائلاً
"شكلها نسيت حاجة"
وجد المتصل المحامي الخاص به الذي وكله لمتابعة قضية فجر و باسم حرصاً علي سلامة زوجته و حماية لها من شر و تهديد عائلة باسم إذا قامت بأدلاء شهادتها
أجاب في الحال
"فيه جديد في القضية؟"
أخبره المحامي
"مش عارف أقول لحضرتك إيه، التحقيق اتفتح و النيابة طلبت شهادة مدام خديجة، و لسه جايلي خبر أن محامي أهل فجر مستنيها قدام سراي النيابة عشان تحكي عن اللي شافته بحكم إنها شاهد عيان علي محاولة القتل"
اتسعت عينيه فها هو اتضحت له كل الأمور التي اخفته عنه
"تسلم يا متر معلش مضطر أقفل معاك و ألحقها بسرعة قبل ما توصل"
أنهي المكالمة و قبل أن يتحرك لتبديل ثيابه فوجد كل ثانية تأخير خطر علي زوجته، تناول مفتاح سيارته و هاتفه
"بتكذبي عليىّ يا خديجة و رايحة تنفذي برضو اللي حذرتك منه، صبرك عليا لما أشوفك"
❈-❈-❈
"إينما أنا عاملة لكم صينية بسبوسة بالقشطة، من اللي كنتي بتخليني أصحالك نص الليل عشان أعملهالك"
وضعت الجدة طبق حلوي البسبوسة أمام دنيا الشاردة و يبدو علي وجهها علامات الإرهاق و التعب
لم تتحمل الأخرى رؤية أو شم رائحة الحلوى وتفوح منها رائحة السمن و القطر، أبعدت الطبق من أمامها
"بالله عليكي يا تيتا، ابعدي الطبق ده عن وشي، مش طايقه ريحته"
فطنت جدتها الأمر في الحال، هللت بسعادة
"يا ألف نهار أبيض، عملتيها رابع؟!، يا ماشاء الله، ألف مبروك و ربنا يزيد و يبارك"
كان علي وجهها ملامح الحزن وردها المقتضب علي تهنئة الجدة التي شعرت بالقلق لصمت و حزن حفيدتها
"بت يا دنيا، مالك مش فرحانة ليه؟، هو جوزك مزعلك و لا يكون نكد عليكي لما عرف أنك حامل؟"
"أنا اللي مش عايزة الحمل ده"
ضربت الجدة بكفها علي صدرها
"يا نهارك اللي مش فايت، بت يا دنيا، أنتي اتجننتي؟!، ربنا بعتلك رزق و نعمة و أنتي تقولي مش عايزاها؟!"
"لأن لا ده و قته و أنا نفسياً مابقاش عندي طاقة أتحمل حمل وولادة، أنا لسه ما فوقتش من يزيد"
لكزتها الجدة في كتفها و قامت بتوبيخها
"معلشي يا قلب ستك أتحملي و تعالي علي نفسك التسع شهور و قومي بالسلامة و أنا اللي هربيه و أخد بالي منه زي ما ربيتلك أخواته"
نهضت من جوارها ووقفت تخبرها بإصرار
"لو سمحت يا تيتا، دي حياتي و أنا حرة"
أمسكت الجدة العصا المعدنية التي تتكأ عليها و نهضت
"قولتيلي بقي يا عين ستك دي حياتك و أنتي حرة فيها، الكلام ده لمين يا بت"
و قامت بضربها علي أسفل ظهرها بالعصا، صاحت الأخرى
"اه يا تيتا، العصاية بتوجع، حرام عليكي"
كفت الجدة عن ضربها
"و هاكسرلك بيها دماغك الناشفة دي لو ما أتعدلتيش يا بنت ابني، قال مش عايزة الحمل قال، ده جوزك لو سمعك هينفخك"
كانت تضع يدها علي أثر الضربة و تخبر جدتها بتردد
"ما أنا قولتله مش عايزاه"
شهقت الجدة وجحظت عينيها
"يخربيت عقلك، و عمل إيه لما قولتي له؟"
"ماردش عليا و ما بيكلمنيش ورجع يتجاهلني تاني"
"طبعاً عنده حق، و محدش يقدر يغلطه المرة دي، ما أنا معرفتش أربيكي"
"يا تيتا افهميني، أنا الضغط النفسي اللي مريت بيه طول السنين اللي فاتت عمل تراكمات جوايا، ما بقاش عندي قدرة لإحتمال أي شىء، محتاجة فترة راحة نفسية و خايفة أظلم اللي في بطني"
"بصي يا بنت ابني، لو كنتي فاكراني أكمني جاهلة و مش ههفهم من كل اللي قولتيه ده حاجة تبقي غلطانة، أنا الزمن علمني اللي دكتور الجامعة نفسه ما اتعلمهوش، نفسيتك التعبانة دي دواها تقربي من ربنا و تقربي من جوزك اللي عمال يعملك البدع عشان ترضي عنه وتسامحيه علي اللي فات، لكن دماغك اللي زي حجر الصوان دي مخلياكي تقلانه علي الراجل و مزعلاه، ربنا غضبان عليكي عشان كدة هاتفضلي في عدم راحة و مش هطيقي اي حاجة و أولهم نفسك"
عقبت بدفاع و قلب ملتاع
"ربنا يعلم يا تيتا أنا مش مقصرة في أي حق من حقوقه، و بعامله بما يرضي الله"
"أيوه بتعامليه بما يرضي الله بس من غير نفس يا قلب تيتا، و دي ما تبقاش عيشة"
"و قلبي مش زرار يا تيتا عشان أدوس عليه يقوم ناسي في يوم و ليلة اللي عمله معايا طول السنين اللي فاتت، أنا قولتله أن سامحته و فتحنا صفحة جديدة مع بعض، لكن لسه جوايا غصة في قلبي مش عايزة تروح، كل ما افتكر اللي فات أتقهر"
اقتربت منها جدتها وربتت علي كتفها بحنان
"بعد الشر عليكي يا ضنايا من القهرة، ربنا يريح قلبك و يهدي سرك، حاسة بيكي و عارفة ما أنتي طالعة لي ما بتنسيش بسرعة، بس أوقات مضطرين نتعايش مع الوضع المفروض علينا لحد ما النفسية تهدي، و ده مش عشان إحنا، ده عشان الولاد و البيت اللي بنحافظ عليه، و الحمدلله ربنا هدالك العاصي و خلاه نفسه يجيبلك حتة من السما و يحطها ما بين إيديكي و يشوف في عينيكي نظرة الرضا"
انتابها البكاء فشهقت و أخذت تبكي بين ذراعي جدتها
"تعبت يا تيتا، تعبت أوي"
"عيطي يا حبيبتي عيطي، دي هرمونات الحمل قالبة معاكي بنكد، شكلك حامل في بت، الله يرحمها أمك فضلت شهور الوحم و هي حامل فيكي تعيط و تنكد علي أبوكي لحد ما هو كمان بقي يعيط و أنا لما شوفتهم كده قعدت جمبهم أعيط، الله يرحمهم ماتوا وارتاحوا و سابولي بومة عمالة تنوح"
ضحكت رغماً عنها من بين دموعها
"أنا بومة يا تيتا؟!، الله يسامحك"
"أيوه بومة، هخاف منك يعني و لا إيه، و قومي يلا اغسلي وشك و حطي لك شوية أحمر وأخضر داري بيهم وشك اللي بقي شبه الكركم ده، و روحي لجوزك صالحيه و فهميه أنك ما تقصديش حاجة"
"هو أنا زعلته عشان أصالحه؟"
"اه زعلتيه و هتصالحيه، و لا معملتيش كده يبقي ما اشوفش وشك هنا تاني و انسي إن ليكي تيتا"
"حاضر يا تيتا، هاسمع كلامك، و عشان أنفذه بضمير مضطرة أسيبلك الولاد، عن إذنك بقي يا دوب أروح أجهز حالي و شقتي"
قامت بتقبيل يد جدتها و ذهبت، ابتسمت الأخرى
"ربنا يهديلك الحال يا دنيا و يهدي سرك أنت و جوزك قادر يا كريم"
❈-❈-❈
تشاهد فيديو بعنوان كيف تصبغين شعرك في المنزل، تتبع الخطوات وتقوم بتطبيقها، ضغطت علي علامة إيقاف التشغيل، نظرت إلي المرآة لتكمل وضع بقية الصبغة علي خصلات شعرها الكثيف.
دخلت ابنتها إليها تسألها
"ماما، مش لاقيه الفستان الأحمر بتاعي في الدولاب و أنا المفروض عندي درس بعد ساعة"
كانت منشغلة بوضع الصبغة و تردد التعليمات بصوت خافت
"كدة حطيت صبغة التفتيح، يبقي ناقص كدة صبغة اللون اللي أنا عايزاه"
"يا ماما، ردي عليا"
سألتها ابنتها بصياح، ألتفت الأخرى و صرخت في وجهها
"سمعتك خلاص، ماما، ماما، ماما، إيه بغبغان! "
رمقتها ابنتها بامتعاض و كادت تذهب، اوقفتها
"تعالي هنا، فستانك متعلق في الدولاب"
"دورت عليه مش موجود في الدولاب و لامتعلق"
"و لو جيت يا ريتاچ و طلعته لك بنفسي هخليكي تغسلي كل يوم المواعين؟"
تراجعت علي الفور تعلم أن والدتها لا تمزح و تعاقبها بأعمال البيت رغم صغر سنها
"خلاص يا ماما، هاروح أدور تاني عليه كويس، شكلي ما أخدتش بالي"
ذهبت ابنتها و جاء ابنها يسألها
"ماما ممكن ألعب بموبايلك شوية؟"
"لاء يا سالم، عشان بعد كدة تسمع الكلام و تخلص الواجب أول بأول و الميس بتقعد تشتكي لي منك، لما تتعدل و ألاقيك شاطر هخلي بابا يشتريلك موبايل"
"طيب هتخلي بابا يشتريه لي امتي؟"
"لما تبقي شاطر"
"اعتبريني بقيت شاطر و قوليلي امتي؟"
صاحت في وجهه
"ولاه، امشي من وشي ألاقيها منك أنت و لا أختك و لا من أبوكم، خلوني أخلص العك اللي بعمله ده، يكش نعجب أبوك في الأخر و يبطل بص علي المزغودة اللي ساكنة جنبنا"
حدق ابنها إلي شعرها فانطلق في الضحك
"بتضحك علي إيه يا أهبل؟"
وضع سالم كفه علي فمه و بيده الأخرى أشار لها نحو شعرها، ألتفت نحو المرآة، صرخت
"يالهوي، شكلي تقلت في بودرة الأكسجين، ده أنا بقيت شبه العجوز الشمطاء، لهتوني و نستوني أغسل شعري يا ولاد الـ.... "
ركضت إلي الحمام و دنت برأسها أسفل صنبور مياه الحوض، كلما تدلك خصلاتها لتزيل الصبغة تجد شعرها يتساقط بغزارة، رفعت رأسها فوجدت الحوض امتلأ بشعرها نظرت سريعاً إلي المرآة فأطلقت صرخة جعلت ابنها و ابنتها يهرعا إليها ليرى كليهما ماذا حدث لوالدتهما و كانت الصدمة!
وصل طه بعد قليل من الخارج منادياً
"سالم، يا ريتاچ، شوشو"
ركضت ريتاچ نحوه و قامت بعناقه و كذلك صغيره سالم
"حمدالله علي السلامة يا بابا"
"حبايب بابا، أومال فين ماما؟"
نظر الصغيرين إلي بعضهما فابتسما ثم ألتفت كليهما إلي والدهما، فأخبره ابنه
"بص يا بابا هنقولك علي حاجة بس أوعي تقول لماما إن إحنا اللي قولنالك، اتفقنا؟"
أُثير فضوله فأومأ إليه
"ربنا يستر، يارب ما تكنش عملت مصيبة، و لا تكون قتلت روميساء و حطتها في أكياس!، دي قادرة و تعملها"
انتهي من همهمته مع نفسه فسأل ابنه:
"قول يا سولي"
مال الصغير إلي أذن والده و أخذ يروى له ما حدث مع والدته، كبت الأخر ضحكته حتي لا تسمعه زوجته التي مكثت في غرفة النوم تلف وشاحاً علي رأسها وتعقصه إلي أعلي، تبكي علي شعرها الذي احترق و تساقط بسبب سوء الاستخدام، سمعت صوت باب الغرفة يُفتح و دخل زوجها، كان يكبت ضحكته عنوة حتي لا تظن أنه يسخر منها.
"شوشو، نايمة و لا صاحية يا حبيبتي؟"
نهضت بجذعها وانفجرت في البكاء
"شعري باظ يا طه، كنت عايزه أصبغه و أعمل مفاجأة عشانك"
قام بمعانقتها فبالرغم من المشاكل التي لا تنتهي بينهما بين شد و جذب لكن هناك حب ووصال، لن يتحمل دموعها حقاً، أخذ يربت عليها
"حبيبتي اهدي مفيش حاجة تستاهل أنك تعيطي و تعملي في نفسك كدة"
رفعت رأسها عن صدره وأخبرته من بين عبراتها
"أنا بعيط علي شعري اللي باظ، ده كان أحلي حاجه فيا شعري، كان الكل بيحسدوني علي تقله و نعومته، و أنا بغبائي روحت دمرته"
"يا شيماء مش أنا قولتلك يا حبيبتي روحي لأكبر بيوتي سنتر و ملكيش دعوة بأي فلوس، إحنا الحمدلله ربنا كرمنا من وسع و عاملك فيزا سايبلك فيها مبلغ محترم عشان تشتري و تعملي اللي أنتي عايزاه؟"
أومأت إليه وأخذت محرمة ورقية من العلبة فوق الكمود وقامت بتجفيف سيل أنفها بصوت مقزز، رمقها بامتعاض
"لا مؤاخذة يا أخويا"
"أخوكي؟!، و لا يهمك يا حبيبتي"
"أنا فعلاً روحت سألت في بيوتي سنتر كانت قايله لي عليه كارين دخلت أسأل عن صبغة الشعر بكام، لاقيت بت شبه السحلية قعدت ترتطم بالإنجليزي و مفهمتش منها حاجة و في الأخر إديتلي زي كتالوج صغير شبه منيو المطعم، قعدت خليت البت ريتاج تترجم لي لاقيت أرقام عجيبة و غاليين أوي، دي البت توحة اللي في الحارة بتعمل صبغة و بروتين و بطلع الواحدة عروسة و هما 500 جنيه اللي بتاخدهم"
اغمض عينيه و ظل يردد كلمات لم تتمكن من سماعها، زفر بنفاذ صبر
"أنا و لا هتخانق معاكي و لا هلومك و لا هعاتبك، كفاية اللي حصل لشعرك ده أكبر عقاب ليكي، و أبقي خلي توحة تعالج لك شعرك بالجاز اللي بتحطه ليكم و تفهمكم إنه بروتين، و أنا مني لله لو قولتلك تعملي حاجة تاني"
نهض من أمامها فأجهشت في البكاء مجدداً
"شمتان فيىّ ليه ده أنا قولت أوفرلك "
"اسكتي يا شيماء لأنك كل ما تتكلمي بتعكيها أكتر و بتخليني أقعد أدعي علي نفسي"
نهضت واقتربت منه
"بعد الشر عليك يا حبيبي، ده أنا ماليش غيرك، أنا خلاص مش هاتصرف من دماغي تاني، وهاعمل اللي هاتقولي عليه"
رفع أحد حاجبيه وسألها
"و لو حصل عكس كدة، اعمل معاكي إيه؟"
ابتسمت بدهاء أنثى بلهاء
"أنت قلبك طيب و بتحبني و بالتأكيد مش ههون عليك تزعلني"
"ماشي يا شيماء"
احتضنت عنقه بين يديها، تسأله بدلال
"ماشي يا شيماء كدة حاف؟"
تظاهر بعدم الفهم
"حاف إزاي يعني؟"
"و أنا اللي بقول عليك بتفهم من النظرة، أخص عليك"
عقب وهو يتأمل ربطة الوشاح العجيبة
"لاء فاهم، بس ربطة الإيشارب العجيبة دي مخلياني شايفك شخصية ظريفة اللي كانت في المسلسل اللي بيجي زمان"
شهقت بصدمة ولكزته في صدره
"نهارك مطين، أنا ظريفة؟!، لاء كدة أقلبلك علي الوش التاني"
رفع كفيه
"بس لا تاني و لا تالت، أنا أصلاً كنت جاي أخد حاجة و نازل"
"استني هنا، رايح فين؟"
"و من امتي و أنتي بتسأليني رايح فين"
ظن أن سبب سؤالها بدافع الغيرة، فأجابت لتقلب كل توقعاته رأساً علي عقب
"خد شنطة الزبالة معاك و أنت نازل"
جز علي أسنانه بحنق شديد و تركها، أخذ يردد في طريقه
"يارب، صبرني علي ما ابتلتني بيها يارب"
و أغلق الباب خلفه بعنف
"بقي أنا بلوه يا طه، ماشي لما ترجع، حسابك معايا لما تيجي"
❈-❈-❈
أصوات تنبيه السيارات يصدح هنا و هناك، و أصوات صاخبة ما بين السائقين و أصوات أغاني و موسيقي، و من بين كل هؤلاء، تجلس في حالة قلق، تنظر كل فينة و الأخرى إلي الساعة، تخشي التأخير، تتجاهل اتصال زوجها المتكرر، لا تريد الكذب أكثر من ذلك عليه، ستؤدي واجبها و تعود سريعاً، لا تدرك أنها بما ستفعله تلقي بنفسها في عش الدبابير.
و علي مقربة مسافة أمتار قليلة، تقف سيارة زوجها في وسط هذا الزحام الخانق، يكاد يجن جنونه
"ردي عليا يا خديجة، يا غبية هتودي نفسك في داهية"
لا رد منها، ألقي هاتفه علي المقعد المجاور بغضب، انتبه إلي سيارة سوداء لا تحمل لوحة أرقام داخلها رجال غريبون الهيئة، الإجرام والشر سيماهم علي وجوههم، ازداد خوفه أكثر و أكثر علي زوجته
"لازم ألحقها"
تحركت السيارات و بدأ يقل الازدحام شيئاً فشيئاً، لم يجد مفراً سوي أن يكسر الإشارة و يعبر سريعاً ليلحق بسيارة الأجرة حتي وصل إليها و سار بمحاذاتها، أخذ يضغط علي الزمور، فانتبه السائق و هي أيضاً، انتفضت حين تلاقت عينيها بعينيه، صاح في السائق
"اقف علي جمب و نزلها بسرعة"
صاحت خديجة بأمر
"ما تسمعش كلامه و كمل طريقك، مفيش وقت"
سألها السائق
"هو قريبك يا مدام؟"
نظرت إلي زوجها ويصيح بغضب مشيراً إليها بيده
"قوليله يوقف و ينزلك بسرعة يا غبية"
استشاطت من الغيظ لأنه نعتها بالحمقاء
"و عشان طول لسانك ده مش نازلة، سيبك منه يا سطي ده لا قريبي و لا أعرفه"
تعمدت قول ذلك بصوت مرتفع فكان آدم في حالة غضب عارم، ود لو قفز من سيارته ليقبض علي نحرها
"يا مدام الراجل ده عمال يقفل علييّ في الطريق و العربية دي أكل عيش و عليها أقساط لو حصلها حاجة و لا أنتي و لا هو هاتنفعوني"
توقف فجأة بجوار الرصيف فأردف
"اتفضلي أنزلي يا مدام"
"أنزل إيه مفيش وقت"
"و أنا مش عايز مشاكل، لو عندك مشاكل مع البيه حلوها بعيد عني"
"بقي كدة طب و....
لم تكمل وعيدها حيث وجدت باب السيارة يُفتح، و يجذبها آدم من ذراعها
"أنزلي يلا و تعالي معايا، و لو سمعت صوتك هوريكي وشي التاني هخليكي تكرهي حياتك"
جزت علي أسنانها بحنق، رضخت لأمره و نزلت من السيارة فانطلق السائق، فتح زوجها باب سيارته
"يلا أطلعي اركبي بسرعة"
وقفت بتحدي ورفض
"مش طالعة و لا رايحة معاك، و روح قول للي قالك أنا رايحة فين، أنا ما بخافش و هاشهد بالحق و هاجيب حق فجر"
"مش هاتروحي يا خديجة، و كلامي هو اللي هايمشي، و إن كنتي مش خايفة علي نفسك أنا هاتصرف"
"ما تزعقليش، و أوامرك دي علي نفسك مش عليا"
و إذا بصوت طلقات نارية عشوائية أطلقت صوبهما، هبطت و اختبأت بين ذراعيه صارخة باسمه، و كان يحاوطها بجسده، و في لحظات فرت السيارة
نظر إليها آدم بقلق و خوف، يلتقط أنفاسه من هول الموقف
"أنتي كويسة؟"
أومأت خديجة و الدموع في عينيها، سألته بقلق
"و أنت؟"
شعرت بسائل دافئ علي ذراعه المتشبثة به، رفعت كفها لتجد دمائه المتدفقة حيث أُصيب برصاصة في عضده.
❈-❈-❈
هبط علي الدرج حتي وصل إلي بهو الفناء، وجد جارته تقف جانباً وجوارها حقائب عديدة، تمسك بالهاتف تجري اتصالا، تزفر بضيق
"راح فين ده بس دلوقتي"
اقترب طه نحوها مبتسماً
"أي خدمة؟"
"لاء، شكراً يا أستاذ طه"
انتبه إلي لقب أستاذ، و حديثها يخلو من ابتسامة نقيض ما كانت تتحدث معه قبل ذلك، تدخل بذكاء لمعرفة سبب معاملتها الجافة
"لو بتتصلي علي البواب، مش هتلاقيه لأنه مسافر و راجع بالليل، لو عايزاه عشان الشنط أنا هشيلهالك وأطلعهالك لحد شقتك"
ألقت هاتفها داخل حقيبتها
"بلاش أحسن ما أسبب لحضرتك مشاكل مع مدام شيماء"
"مفيش مشاكل خالص، لو قصدك لما كنا في المستشفى ده كان سوء تفاهم و المدام ماكنتش تقصد تضايقك"
"تمام، حصل خير"
و دنت من الحقائب لتحملها بيدها و الأخرى مازالت في الجص الطبي، سبقها و حملها عنها
"عنك، مش هاتقدري تشيلي كل ده بإيد واحدة"
ابتسمت وسلبت ابتسامتها عقله، ابتلع ريقه وتقدمها
"أنا هاسبقك"
"استني، هانطلع مع بعض"
ذهب كليهما ودخلا إلي المصعد، ضغط علي رقم الطابق، تحرك المصعد لأعلي طابق واحد ثم توقف فجأة وقُطع التيار، صرخت
"إيه ده، هم رجعوا يقطعوا الكهربا تاني؟!"
أخرج هاتفه وقام بتشغيل ضوء الفلاش، نظر إلي الساعة
"اه كانوا نبهوا امبارح الكهربا هاترجع تقطع ساعة كل يوم"
"ساعة!!، ساعة هانفضل محبوسين في الأسانسير و النور قاطع، أنا عندي فوبيا من الضلمة و الأماكن الضيقة"
ابتسم الأخر بمكر
"أنتي تخافي و تتخنقي لو كنتي لوحدك، لكن بالتأكيد الموضوع هيبقي أهون و أنا معاكي، و لا أنتي شايفه إيه؟"
"عندك حق، بس الجو حر أوي"
باغتها باقتراح فج وسافر
"اقلعي"
اتسعت عينيها و كادت تعقب قاطعها بعد أن حمحم فأصلح حديثه سريعاً
"قصدي ممكن تقلعي البليزر اللي أنتي لابساه لأنه هو اللي مخليكي حرانة"
"تصدق فعلاً، أنا كنت لبساه عشان كان عندي meeting مع شركة إعلانات عقارات، كانوا عايزين موديل"
خلعت السترة من ذراع وليتها ما قامت بخلعها، ترتدي أسفله كنزة بحمالات رفيعة وضيقة للغاية تحدد و تظهر تفاصيل جذعها وتفاصيل أخرى جعلته يبتلع ريقه ويشعر بارتفاع في حرارة الطقس!
"معلش ممكن تساعدني، مش أعرف أخلع الكوم التاني"
انتبه إلي طلبها فأومأ إليها، و كانت المساعدة جعلته علي مقربة شديدة منها، لم يتحمل هذا القرب المهلك له، انتفض بعيداً وحاول أن لا ينظر إليها.
"مالك يا طـ...
قاطعها عودة التيار سريعاً، ضغط علي زر الصعود للطابق الذي يقطن كليهما به، حمل الحقائب وتوقف أمام باب الشقة دون أن يتكلم أو يلتفت إليها.
"معلش عطلتك معايا، thank you "
"أبداً و لا تعب و لا حاجة، عن إذنك"
ذهب إلي المصعد لينزل فانتبه إلي سوار ذهبي رفيع، يبدو قد وقع من رسغها دون أن تنتبه، أخذه وعاد إليها، وجد الباب غير مغلق وصوت لرجل يتطاول عليها بحديث فظ و لا أخلاقي
"ما أنتي عايشة علي كيفك و دايرة علي حل شعرك و لا كأن ليكي أهل"
"لأخر مرة بقولك أطلع برة و مش عايزة أشوف وشك تاني، إحمد ربنا ما بلغتش فيك لما ضربتني و كسرتلي دراعي، و ده مش عشان خاطرك ده عشان خاطر ماما"
"مش طالع غير لما تديني الفلوس اللي قولتلك عليها لإما أكسرلك دراعك التاني"
"يا أخي حرام عليك، بتستقوي عليىّ و عايز مني فلوس كل ده عشان الهباب اللي بتشربه؟!"
"الهباب ده اللي حايشني عنك، كان زماني دفنك و اغسل عارك، بدل ما أنتي مجرسانا في كل حتة و عملالنا فيها بلوجر و بتتصوري مع الرجالة"
"اخرس يا سافل"
صياحها تزامن مع صفعة هبطت بها علي وجهه، زمجر الأخر كالوحش
"بتمدي إيدك عليىّ يا بنت الـ.... "
أطلقت صرخة مدوية، ركض طه سريعاً ليجد الرجل الغريب يعتدي عليها بالضرب والسباب
"ماتمدش إيدك عليها يا حيوان"
لكمه بقوة في وجهه، نظر الأخر له بشرٍ
"و أنت مين أنت كمان يا..... "
و نهض فلكمه في عينه، صرخت روميساء واقتربت من طه
"طه معلش حقك عليىّ أنا، ملكش دعوة بيه، ده حاتم أخويا"
حدقه طه بازدراء فسألها شقيقها بسخرية لاذعة
"و مين سي طه؟، زبون من زباينك إياهم؟"
"زباين إيه الله يخربيتك، ده جارنا وراجل محترم، أقسم بالله لو ما ممشيتش من هنا يا حاتم لهتصل بالبوليس وأقولهم أنك جاي تتهجم عليىّ و هخلي الجيران يشهدوا عليك"
يخشى تهديدها لكنه تظاهر عكس ذلك، جز علي شفته السفلى بحقد فأخبرها بوعيد
"أنا ماشي، بس يكون في علمك مش هاتقدري تخلصي مني و هاتلاقيني طلعلك زي القدر المستعجل و أنتي وحظك بقي، سلام يا بلوجر"
لوح بيده ساخراً و ذهب، ركضت تغلق الباب خلفه ثم عادت إلي طه الذي يتحسس أثر الضربة علي عينه وعظمة وجنته
"آسفة مرة تانية يا طه، مكنتش حابة تشوف البني آدم ده و لا يحصل اللي حصل"
"هو بيعمل معاكي كده ليه؟"
أجابت بخجل وحرج
"أصله، أصله مدمن، و كل ما أروح في مكان يعرفه و يجي عشان ياخد مني فلوس، يا إما يضربني، و عشان أخلص منه و أذيته بضطر أرميله قرشين"
"ما تودوه مصحة أحسن، كده خطر عليكي و علي اللي حواليه"
"وديناه و هرب منها، هو خلاص ضيع نفسه وضيعنا معاه"
"بس أنتي غلطانة لما تنازلتي عن حقك لما كسرلك دراعك"
"مكنش ينفع أحبسه، عشان خاطر ماما، أنا حبسته قبل كده وهي تعبت واتحجزت في المستشفى، كانت هاتضيع مني"
"ربنا يهديه"
"يارب، يوه شوفت خدنا الكلام و نسيت أجيبلك تلج تحطه علي خدك، ثواني"
ذهبت لتجلب قطعة ثلج وضعتها داخل قطعة قماش خفيفة، عادت إليه واقترب منه للغاية
"معلش هي هتلسعك في الأول، استحملها"
كان لا يشعر بألم اللكمة أو برودة الثلج قدر ما يشعره من نيران مشتعلة في قربها، تزيح خصلاتها عن وجهها وترجعها خلف ظهرها، فتعطي له مساحة من رؤية ما كانت تغطيه الخصلات.
أمسك يدها فجأة
"كفاية"
"عشان حوالين عينك ما يورمش، مش كفاية إنه حصلك بسببي، بجد يا طه أنا عمري ما قابلت حد في جدعنتك و لا شهمتك، بجد يا بختها بيك مراتك"
"مفيش داعي للشكر، ده واجب عليىّ"
تركت قطعة الثلج علي منضدة مجاورة لها ثم وضعت يدها علي وجنته تسأله
"و يا ترى الواجب ده بتعمله مع كل الناس و لا مع اللي بتحبهم؟"
ابتلع ريقه وأنزل يدها برفق
"مع أي حد في محنة أو محتاج مساعدة"
"بس اللي شايفاه في عينيك ما يقولش إن أنا أي حد، قصدي يعني إن ليا معزة أو مكانة خاصة"
"و أنا شايف إن لازم أمشي، عن إذنك"
اعترضت طريقه وأمسكت يده
"ليه بتهرب؟، أنا و أنت فاهمين بعض كويس، من أول يوم شوفتني فيه و بالك مشغول بيا، و أنا كمان حسيت بنفس الشعور"
"روميساء أنتي فاهمة غلـ...
وضعت أطراف أناملها علي شفتيه
"بلاش تنكر مشاعرك، اهتمامك بيا و متابع كل أخباري علي السوشيال ميديا، سواء نزلت صور أو ريلز، كل ده معناه حاجة واحدة بس"
لا يعلم بماذا يجيب أو يعقب، كان لا يتوقع تلك المواجهة وتصريحاتها الصادمة، هو لم يعرف الحب سوي مع زوجته، لكنه كمعظم ابناء آدم يقودهم الهوى إلي كل أنثى مختلفة وجذابة ومثيرة للاهتمام.
"أنا مش هانكر، بس اللي حسه مجرد إعجاب، زي الفانز بتوعك علي حسابك، شايفين واحدة جميلة، فيها مواصفات فتاة أحلامهم"
"أيوه معجب، بس إعجابك بيا غيرهم، إعجاب من نوع تاني، و كل ما بتقرب مني حاجة جواك بتبعدك، لأنك بتحب الأصول وبتخاف تغضب ربنا، نقدر نقول عايز اللي نفسك فيه بس بالحلال"
احاطت وجهه بين كفيها واستطردت أمام شفتيه
"و أنا نفسي أعيش مع اللي بحبه في الحلال، من الأخر يا طه أنا موافقة أكون الزوجة التانية و أي شروط هتقولها أنا موافقة عليها من قبل ما أعرفها، أنا بحبك"
وكادت تقبله فاوقفها رنين هاتفه الذي كان نجدة له قبل أن يقع في المحظور، وجد المتصل شقيقته فاجاب
"ألو يا خديجة"
..........
"إيه!!، أنا جايلك حالاً، سلام"
"فيه حاجة يا طه و مين خديجة دي؟"
نظر لثوان إليها ثم أخبرها ويهم بالذهاب
"دي أختي اللي كنا معاها في المستشفي، جوزها حد ضرب عليه رصاص، جاتله طلقة في دراعه، عن إذنك مضطر أمشي"
ذهب سريعاً فخرجت هي إلي الشرفة ولم تنتبه إلي شيماء التي كانت تقف وتراقب المارة في الشارع، وجدت زوجها يخرج للتو من البناء
"هو كان نازل من بدري، أومال كان فين كل ده؟!، هادخل أجيب موبايلي و أتصل عليه، يا ويلك يا طه لو كنت بتلعب بديلك من ورايا و....
قبل أن تدخل رأت روميساء تقف بدلال و علي محياها ابتسامة كيدية وعادت إلي داخل منزلها، تاركة خيال شيماء قد بلغ العنان، فلم تملك تفسيراً سوي أن زوجها كان مع تلك الجارة الحية.
"هي وصلت لكده يا طه!، مابقاش شيماء بنت سهير و بنت الحاج فتحي الله يرحمهم غير إما وريتك النجوم في عز الضهر"
يتبع......
#الفصل_الخامس
#غرام_الذئاب
#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب
#بقلم_ولاء_رفعت
ليتني لم أرد على رسالتـك ذات يـوم و تركتك غريباً ..ليتني تجاهلتك ولم أفتح لكَ نافذة فؤادي ..
ليتني لم أسمح لك بتجاوز أسوار وطني وأبقيتك بعيداً ..بعيداً حيث لا قصة بيننا ؛ ولا ذكرى قد تشق خاطري في فلك الليل ..ولا لأعيش الألـم بهـذه الطريقة ..
ليتني أنهيت الطريق معك قبل أن يبدأ..
وأدرت ظهري واقتنعت بأنها كانت قصة زائفة!
يجلس أعلي السرير الطبي حيث يخرج شقيقه الرصاصة من عضده، تأوه آدم بألم فقال شقيقه مازحاً بسخرية
"ما تنشف يا آدوم، أومال لو مش حطيتلك بنج كنت عملت إيه؟!"
"أخلص يا يوسف أنا مش مستحمل كلمة، و ياريت محدش يعرف باللي حصلي خصوصاً ماما"
"مش هقول بس علي شرط، تقولي مين عمل فيك كدة، أنت ليك عداوة مع حد؟"
كتم الأخر ألم داهمه فالمخدر لم يكن كافياً لتسكين الوجع، فأخبره من بين أسنانه
"هحكيلك"
أنتهي شقيقه من مداواة جرحه وتعقيمه ثم تقطيبه فحمايته بالنسيج الطبي واللاصق، أعطاه حمالة و أمره
"خلصت، خد دي علق فيها دراعك لحد ما جرحك يلم"
نظر من حوله باحثاً عن سبب متاعبه
"هي خديجة راحت فين؟"
"قولتلها تقعد مع طه عشان مش هاتستحمل تشوف و أنا بخرجلك الرصاصة، ها احكيلي"
روى له آدم كل ما حدث منذ بداية محاولة قتل فجر علي يد باسم حتي أحداث اليوم وكانت خديجة المقصودة بالرصاصة و ليس هو.
عقب يوسف بامتعاض
"و إزاي كل ده يحصل معاكم و ما تقولناش كنا اتصرفنا و ما تجرأوش يبصوا لكم حتي، يا بني أنت ناسي إحنا مين؟!، دي مكالمة واحدة من قصي يجيبلك الواد ده و عيلته كلها لحد عندك"
"أنا مش ناسي، لكن قبل أي تصرف لازم أعرف أنا بتعامل مع مين الأول، خليت المحامي يجيبلي قرارهم، طلعوا تجار سلاح و من التقال كمان، و اللي زي دول البعد عنهم غنيمة"
"هاتزعل مني لو قولتلك أنت جبان؟"
نزل من فوق السرير يرمقه بغضب
"ما تروح أنت أقف قدامهم يا دكتور وورينا شجاعتك، و ما تزعلش بقي لما الحرب تطول أهل بيتك وولادك، أنا مش جبان و لا ضعيف و هاعرف أخد حقي و حق مراتي بالعقل من غير ما أؤذي اللي مني، فيه أمور لازم تتعامل معاها بحكمة لأنك لو عملت العكس مش هاتتحمل عواقبها"
وقف أمامه مباشرة وأردف
"النار لما بتولع مش بتنطفي غير لما بتحرق الكل يا دكتور"
و في الخارج تجلس جوار شقيقها الذي يرتدي نظارة شمسية ليواري بها أثر اللكمة حول عينه
"أنا نفسي أفهم إزاي جالك الجرأة ورايحة لوحدك تعملي خطوة عارفة بمجرد لو خرجتي من باب البيت بعد الشر ممكن يجرالك حاجة"
"لأن اللي كنت هاعمله شهادة حق، و ربنا هو الحافظ يا طه، و ما أحبش أكون جبانة و أضيع حق واحدة عشان حتة عيل هو و أهله معرفوش التربية وبيدوسوا علي الناس و كأن البلد مفيهاش قانون"
"يا حبيبة أخوكي، أنتي لاغيتي وجودنا، أنا و جوزك وولاد عمنا، و لا كأن ليكي رجالة هم اللي يتصرفوا، إيه يا خديجة ده كان ديماً بابا الله يرحمه بيتباهي بعقلك اللي يوزن بلد"
"و أنا لو كنت قولتلك أنت و آدم أنا رايحة أشهد في تحقيق النيابة باللي شوفته كنت سمحتوا لي أخرج من باب البيت!"
"طبعاً لاء، لأن أهل الولد بعتولك اللي قالهالك في وشك صراحة، لو شهدتي علي ابنهم هيأذوكي و مش أنتي و بس، أنتي و جوزك و ابنك"
تدخل الذي خرج للتو يثني ساعده في الحامل المعلق
"قولها يا طه، قولها عشان مكنتش مصدقة غير لما شافت بعينيها والرصاص نازل علينا، يمكن كانت صدقت أكتر لو كانت جت في دماغي و لا قلبي"
صاحت بقلق و خوف
"بعد الشر عليك، أنا قلبي كان هيقف لما جاتلك الرصاصة في دراعك"
حدقها بامتعاض معقباً بتهكم
"صادقة يا شيخة خديجة"
اقتربت منهما أحدى العاملات تحمل صينية يعلوها زجاجات مياه و أكواب فارغة و كؤوس مليئة بالعصير الطازج
"اتفضلي يا فندم"
ومدت الصينية أمام خديجة فأخذت زجاجة مياه
"جزاكِ الله كل خير، كنت عطشانة أوي"
أخذت تتجرع المياه بنهم، اقترب منها زوجها وسألها ساخراً من ما كانت تخبره به من صيامها صباحاً
"ألا قوليلي يا شيخة خديجة إيه أخبار الصيام؟"
توقفت عن شرب المياه ونظرت بابتسامه يشوبها الخجل
"أصل، أصل أنا.....
"أنتي إيه؟!، هقولك أنا، أنتي كذابة و مش مرة، مرتين، كذبتي لما قولتيلي إنك صايمة عشان ما تقعديش تفطري معايا و تلحقي ميعاد تحقيق النيابة، و المرة التانية لما روحتي من غير ما تستأذنيني، و أنتي أكتر واحدة فينا عارفة تعاليم دينك و ما ينفعش تروحي في مكان غير بعلم جوزك يا مدام، صح و لا أنا بتكلم غلط يا طه؟"
أجاب الأخر وينظر إلي شقيقته من خلف النظارة الشمسية بعتاب
"بتتكلم صح و أديك جيت و أنا بعاتبها علي اللي عملته"
وقفت أمامهما تحدق إليهما بحنق
"خلاص، اتفقتوا عليا أنتم الأتنين وطلعت أنا الظالمة الكذابة"
قال يوسف الذي كان يتابع في صمت
"لاء يا خديجة، اللي عملتيه كان بدافع الحق و الكذب كان وسيلة لتحقيق غاية"
أشار إليه شقيقه بأمر
"نقطنا بسكاتك بالله عليك، مش ناقصاك أنت كمان، بتشجعها علي الغلط بدل ما تعقلها، عايزاها تعمل إيه تاني و بسببها جايلك و دراعي سايح بدمي، المرة الجاية أجيلك جثة؟!"
"لاء يا عم آدم، أنا كان قصدي كان ممكن تخليها تروح تشهد و أنت توفر لها جارد أو إتنين و قبلها كنت بلغت صاحبك العقيد كان زمانه خلص لكم كل حاجة"
"معلش يا دكتور، أصل أخوك ما بيحبش المشاكل عشان ما يأثرش علي شغله و سمعة العيلة"
تفوهت خديجة مما أثارت غضب زوجها الذي نهرها بغضب
"ممكن ما اسمعش صوتك خالص، و خلي يومك يعدي علي خير و ألا والله لـ...
"لإيه؟، هاتعملي إيه يا باشمهندس، الحمدلله أن الحوار قدام أخويا و أخوك، عشان محدش يلومني لما كنت بطلب منك الطلاق"
نهض طه وعقب
"طلاق إيه أنتي كمان، جوزك خايف عليكي و عايز مصلحتك و مش عايز يدخل في مشاكل مش هاتضر بيكم بس هاتضر العيلة كلها، بطلي عند و فكري في جوزك و ابنك، و ربنا ما بيضيعش حق حد و حق صاحبتك هيرجعلها سواء بيكي أو من غيرك"
كان آدم سيعلق علي حديث شقيق زوجته لكن سبقه هاتفه باتصال وارد، وجد المتصل المحامي الخاص به
"ألو يا متر"
.............
"تمام، أنت متأكد؟"
.............
"طيب أنا هاشغل speaker عشان المدام تسمع بنفسها"
لمس مكبر الصوت فأخبرهم المحامي
"من ساعة جه ظرف لوكيل النياية المسئول عن القضية، طلع فيه فلاشة عليها فيديو متصور عليه تفاصيل محاولة القتل، و ما يعرفوش مين اللي بعته"
سأله آدم
"و بعد ما شافوا الوكيل إيه اللي تم؟"
"بعتوا جابوا فني عشان يتأكدوا من صحة الفيديو و طلع سليم مية في المية، كانت مفاجأة علي دماغ أبو باسم و هايتجنن، مقوم لابنه أكتر من عشر محامين"
"طيب بالنسبة لشهادة المدام؟"
"مش هاتضيف جديد لأن الفيديو جايب كل التفاصيل صورة و صوت و تهديد باسم لفجر وهو بيطعنها"
"تمام يا متر، شكراً"
"العفو يا آدم بيه"
ألغي مكبر الصوت ووضع الهاتف علي أذنه
"سلام يا متر"
قال طه
"الحمدلله و أخيراً، أظن يا خديجة سبب مشكلتكم أتحل، و أنت يا آدم خد مراتك وروحوا أتصافوا في بيتكم"
سأل يوسف بتهكم مازحاً
"أنهي بيت بالظبط في القصر عندنا و لا بيتكم يا طه اللي في الحارة"
أجفلها آدم بالقبض علي يدها وأخبرهم
"و لا ده و لا ده، إحنا لينا شقة هنروح ليها وهابقي أكلمهم في القصر يبعتولنا حاجتنا عليها"
"و أنا......
كادت تعترض فألجم لسانها نظرة زوجها التحذيرية بل والمرعبة لها، أومأت بالموافقة، ضحك كل من يوسف و طه الذي علق بنبرة فكاهية
"هم كده يا ابن عمي صنف ما بيجيش غير بالعين الحمرة"
اقترب منه آدم و سأله بهمس
"ألا قولي يا طه، من وقت ما وصلت هنا ولابس نضارة شمس، هي شيماء علمت علي وشك و لا إيه؟"
"مين دي اللي تعلم، ابن عمك مسيطر، دي خناقة كانت في الشارع و جاي أحوش، راح جه بوكس في عيني"
حدقه الأخر بمكر
"هاعمل نفسي مصدقك، و يا خبر بفلوس بكرة هيبقي ترند بعنوان الزوجة التي لقنت زوجها ضرباً مبرحاً بعد أن أمسكت به مع جارتهم الحسناء"
لكزه طه في ذراعه المصاب
"امشي يا آدم أحسن ما هسلط عليك أختي و هخليها تيجي تقعد عندي"
"الطيب أحسن، أنا كده كده ماشي"
نظر إلي شقيقه يوسف ورفع يده
"سلام يا دكتور"
لوح الأخر يده
"سلام، المرة الجاية مش عايزك تيجي غير في زيارة مش مصاب"
انتبه طه إلي اهتزاز هاتفه الذي كان يهتز كل فينة و الأخرى، تذكر أمر المتصل، زفر بضجر و تمتم قبل أن يجيب
"شكلي انا اللي هاجي مصاب بجلطة بسببك يا شيماء"
أجاب علي الاتصال
"نعم يا حبيبتي"
أبعد الهاتف عن أذنه بسبب صراخها المزعج
"مش عايز ترد عليىّ ليه يا أستاذ؟!، طبعاً خايف ترد يا خاين، كنت بتعمل إيه عند أم سحلول اللي جنبنا يا طه، و إياك تكذب لأن أنا شوفتك بعينيا و أنت خارج من العمارة بعد ما مشيت من الشقة بحوالي أكتر من نص ساعة"
"عارفة يا شيماء، أنا مكنتش ناوي أعملها، بس عشان ظنك السئ فيىّ علي طول هاعملها، هاخونك مع أم سحلول قصدي روميساء و كل واحدة حلوة هاشوفها هاخونك معاها و كلمة كمان و هتلاقيني داخل عليكي بالزوجة التانية و التالتة و الرابعة و ما ملكت أيماني، و هاشتريلهم قصر و اكتب عليه طه سالم البحيري و حريمه، و ياريت ما تتصليش تاني عشان مش هارد عليكي و من غير سلام، ها"
أنهي المكالمة وأغلق الهاتف!
❈-❈-❈
تتأمل هيئتها الجديدة حيث ذهبت إلي مركز تجميل شهير، قامت بتغير لون شعرها من الأسود إلي الأشقر الذهبي و فعلت كل ما تفضله المرأة من الزينة والتجميل، تمسك في يدها ثوب حريري باللون الزمرد الأخضر، تنظر من خلال المرآة إلي المضجع تتذكر آخر ليلة قبل المشاجرة.
«مشهد سابق»
كان يتمدد جوارها يلتقط أنفاسه بينما هي ولت ظهرها إليه و الدثار يكسو جسدها ما عدا رأسها و ذراعيها، تضم يديها أسفل خدها، لا يبدو علي ملامحها أي تعبير وكأنها تمثال صامت، و قررت أن تتخلي عن صمتها فأخبرته دون مقدمات
"مبروك، هتبقي بابا للمرة الرابعة"
انتفض بسعادة سألها للتأكد من الخبر
"قولتي إيه؟، أنا سامع كويس و لا بتهيئلي؟!"
نهضت واستندت بجذعها علي مسند الظهر للسرير، تجيب ببرود
"أيوه زي ما سمعت"
لاحظ ملامحها الساكنة لا يبدو عليها سعادة المرأة عندما تخبر زوجها بحملها، أمسك يدها وقام بفرض حسن النية
"أنا عارف يا حبيبتي لسه ما فوقتيش من تربية يزيد و قد إيه تعبتي في حمله و فترة الرضاعة مع مسئولية الأولاد و البيت و كنتي بترفضي أجيبلك حد يساعدك أو ناني تاخد بالها معاكي من الولاد، المرة دي هاجيبلك شغالة تشيل شغل البيت و ناني تهتم بالولاد و مش عايز منك غير أنك ترتاحي و كل طلباتك مجابة"
نظرت إليه وترددت قبل أن تلقي عليه بالصاعقة
"بس أنا مش عايزة الحمل ده"
ترك يدها وحاول إدراك ما تخبره إياه، شبه ابتسامة ظهرت علي شفتيه يسألها ويكذب حدسه
"ده شعور طبيعي يا حبيبتي، ما تقلقيش أنا معاكي و جمبك و هادعمك معنوياً و حسياً و كل أنواع الدعم"
احتضنها وقام بتقبيل عنقها، دفعته ونهضت ولا تبالي بالحماقة التي تصرفت بها للتو، تناولت مأزر الغلالة وارتدته سريعاً
"ما تفهم بقي، قولتلك مش عايزه الحمل يعني مش عايزاه، كفاية ولادنا التلاتة، الرابع ده هعرف أربيه إزاي و احتويه وأبقي حنينه عليه و أنا خلاص بقيت فاقدة للعطاء، مش قادرة أتجاوز اللي عملته معايا السنين اللي فاتت"
صدمة تلو صدمة يستقبلها بوجه متجهم عاقداً ما بين حاجبيه، سألها بكل هدوء ينافي ما داخله من عاصفة غضب جم
"يعني كنتي بتنامي في حضني طول الأيام اللي فاتت و أنتي مش طيقاني؟!، و بعد كل كلامي معاكي و الاعتذارات اللي قدمتهالك برضو لسه شايلة مني لدرجة مش عايزه اللي في بطنك؟!"
تلاشت النظر إليه فأجابت بدفاع و تنظر بعيداً عنه
"ما أقصدش اللي فهمته، بقولك مش مستعدة نفسياً للحمل مش عشان أنا مش عايزاه منك"
صاح بصوت أجفلها وجعلها تنتفض خوفاً
"لاء قصدك يا دنيا، و لو مقولتيهاش بلسانك شايفها دلوقتي في عينيكي، كنت كل ما أقرب منك حتي من شوية ألاقيكي زي اللي بتأدي واجب، من غير مشاعر و لا أي إحساس، كنت بكدب نفسي أو أقول معلش أصبر عليها ما اللي شافته مني برضو مش قليل"
لن تتحمل صياحه المخيف و مواجهته لها فأجهشت في البكاء
"أنت مش عارف حاجة، مش حاسس بيا"
"أنا عارف و فاهم و حاسس بكل اللي مريتي بيه لحد اللحظة اللي واقفة فيها قدامي، الواضح إنك أنتي اللي مش فاهمة و لا حاسة و لا حتي بتحبي جوزك، جوزك اللي عمال يرضيكي بكل الطرق عشان يعوضك عن كل اللي فات"
"و أنا ما أنكرتش أي حاجة بتعملها عشان ترضيني، أنا بس...
"بلاش كذب، أفعالك عكس كلامك،و مش بعيد سبب أنك عايشة معايا لحد دلوقتي خوفتي من تهديدي ليكي لما قولتلك لو طلقتك زي ما طلبتي مش هاتشوفي الولاد فاضطريتي تتقبلي الأمر الواقع، مسألتيش نفسك أنا لجأت للأسلوب ده ليه و اتمسكت بيكي؟!، و ليه عديتلك الليلة إياها لما خلتيني قربت منك و بعدها تقوليلي قربي منك مقابل الفلوس عشان تأمني نفسك و تقدري تطلقي و أنتي مطمنة؟!"
شعرت وكأن هناك آلاف القيود علي لسانها،
و مازالت مستمرة في البكاء، اقترب منها وقبض علي رسغها يهزها بغضب
"بطلي عياط و ردي عليىّ"
هزت رأسها بنفي وكأن الكلمات تبخرت من رأسها، رددت باقتضاب من بين بكائها
"مش فاهم حاجة، مش فاهم حاجة"
أمسك ذقنها ورفع وجهها لينظر صوب عينيها الباكية
"أنا اللي مش فاهم حاجة و لا أنتي اللي مش
لاقيه حاجة تقوليها؟!، لأن كلامي كله صح"
نفض كل من رسغها وذقنها وذهب نحو الكمود، أخذ من العلبة لفافة تبغ وقام بإشعالها و نفث دخانها و شحنات الغضب في آن واحد
"بصي يا بنت الناس، أنا هعيش معاكي تحت سقف واحد بس أنتي مع نفسك و أنا مع نفسي، الظاهر لما كنت كدة معاكي أدمنتي تجاهلي ليكي و لما بدأت أتقي الله فيكي و بقيت معاكي كويس مابقاش عاجبك، و أنا ما بحبش أغصب حد علي حاجة"
أخيراً استطاعت التوقف عن البكاء وأخبرته
"ممكن تسمعني و تديني فرصة أتكلم"
"هاتقولي إيه يعني، هتحاولي تجبري بخاطري، مش عايز، متشكر، و علي أي حال أنا هاريحك مني، هاسيبلك الأوضة تاخدي راحتك فيها من غير أي إزعاج اسببهولك و أنا هانام في أوضة المكتب، اعتبريني ضيف تقيل، و لا بلاش أنا هنفذلك اللي طلبتيه مني قبل كدة، مش كان نفسك تطلقي؟"
هزت رأسها بالرفض وقالت
"أنا مطلبتش الطلاق و لا عايزة أتطلق"
دس ما تبقي من اللفافة في الصحن الخزفي، أخذ وسادة و دثار و همّ بمغادرة الغرفة
"بشوقك، بس خليكي فاكرة أنا عرضت عليكي ورفضتي، تصبحي علي خير"
وقبل أن يخرج قام بتهنئتها بسخرية علي خبر حملها
"نسيت أقولك صح، مبروك"
«عودة للوقت الحالي»
دمعة هربت من عينها سرعان ما قامت بمسحها، كفى بكاء فالقلب لن يتحمل الشجن أكثر من ذلك، عليها أن تسترده إلي أحضانها فهي تعشقه إلي حد الثمالة.
دخلت إلي الحمام لتبدل ثيابها وترتدي هذا الثوب الزمردي ثم خرجت بعد قليل، أصبحت نجمة من نجوم الفن التي تتصدر صورهم أغلفة المجلات، قامت بنثر العطر وتركت الزجاجة، انتبهت إلي صوت باب المنزل وخطواته تتجه إلي غرفة المكتب التي يمكث بها منذ أيام وليالي.
و لأنها تعلم أنه لا يحب تناول وجبة العشاء، اكتفت بصنع العصير الطازج و جواره طبق من الحلوى الشهية، حملت الصينية، طرقت مرتين علي الباب ثم فتحت ودخلت، وجدته يقف بظهره ويخلع قميصه، تركت ما في يدها أعلي المكتب واقتربت منه لتساعده، و حينما رفع وجهه وتلاقت عينيه بخاصتها، تفاجئ بمظهرها الجديد بل فاجأها هو بتعبير وجهه عندما رآها، كان واجماً ولم يتحمل النظر إليها،
أمسكت ذقنه ونظرت صوب عينيه
"لحد أمتي هاتفضل هاجرني؟!"
أبعد يدها عنه و ألقي قميصه علي الأريكة، مجيباً باقتضاب
"لو سمحت اتفضلي بره أنا عايز أنام"
"أنا هاعتبر نفسي ما سمعتش حاجة، بس عايزاك تبص لي و لا اللوك اللي أنا عاملاه بيفكرك بحد مش عايز تفتكره؟!، و لا يمكن أنت ما نستهاش أصلاً"
ألقت تلك الكلمات وتدرك جيداً الفتيل الذي أشعلته و ستتحمل العواقب مهما كانت، لكن هناك شيء ربما قد نسته، زوجها يمتلك من الذكاء يفوق ذكائها، لذا عقد العزم سيريها كيف تتلاعب بمشاعره و تسبر أغواره!
"أيوه يا دنيا مانستهاش"
اتسعت عينيها ولم يدع لها مجال لاستيعاب جوابه، جذبها من رسغيها ثم وضع ذراعيها خلف ظهرها فأصبح صدره العاري ملاصقاً لها
"مش عايزة تعرفي آخر مرة كانت بيني و بينها قبل ما تهرب عملت معاها إيه؟"
ارتجفت عندما رأت تلك النظرة المظلمة داخل عينيه، حاولت تفك رسغيها من قبضتيه
"مش عايزة أعرف"
"مش أنتي شبهتي نفسك بيها و جاية تسأليني نسيتها و لا لاء؟!، خليني أقولك الإجابة عملي بس ياريت تتحملي"
فتحت فاها للرفض فباغتها يقبلها بنهم ضاري علي جيدها و كتفها العاري، أخذت تتلوي بين يديه
"كنان، كفاية، كنان كفاية بجد"
ترك يديها لكنه قيد جسدها بين ذراعيه حيث حملها نحو الأريكة واختطف شفتيها بعنفوان، قامت بدفعه عنها في صدره حتي استطاعت النهوض قبل أن يجثم فوقها و هو في تلك الحالة من الغضب والعنف، جذبها من يدها ودفعها مرة أخرى علي الأريكة
"رايحة فين!، مش ده اللي أنتي عايزاه أعمله معاكي وعلشان كده روحتي صبغتي و حطيتي ميك أب و لابسه قميص نوم من نفس البراند اللي كانت هي جايبه منه القميص اللي لاقتيه في الصندوق"
دنا منها وأنفاسه صفعت وجهها
"ما كنتي لبستي قميصها زي ما لبستيه قبل كده"
علقت غصة في حلقها، وكانت علي وشك البكاء، فقام بهزها
"بلاش عياط لأنك مش هاتصعبي عليا، مش أنتي عايزاني اعتبرك هي أتحملي بقي"
أنزل حمالة ثوبها عن كتفها فوضعت يدها علي يده لتوقفه، و يدها الأخرى وضعتها فوق بطنها، ترجوه ببكاء
"أنا خايفة علي ابننا"
نهض مبتعداً يحدق إليها بازدراء يخبرها بسهام من نار
"ما تخافيش مكنتش هعمل حاجة و لا هأذي ابني، و بلاش تلعبي بالنار معايا أنا بالذات، لأن ناري ممكن تحرقك زي ما حرقت اللي قبلك"
"أنت إزاي بقيت كده!"
"أنتي، أنتي السبب، بعد ما أتغيرت علي إيديكي رجعتيني للصفر من تاني، خلتيني أرجع أكره نفسي زي ما بقيت كاره القرب منك"
كان حديثه فوق قدرة تحملها، صرخت في وجهه
"طلقني"
نظر بسخرية وأخبرها
"مع الأسف كان عرض متاح لما سألتك قبل كدة، دلوقتي مش هاينفع، فمعلش تعالي علي نفسك زيي وأرضي بالوضع"
لم يرحم ضعفها أمامه فكانت في حالة سيئة، حاولت أن تجمع قواها ولن تظل الضعيفة و قليلة الحيلة أمامه، وقفت تحدق إليه وجهاً إلي وجه بقوة و وعيد
"والله يا كنان بحق كل كلمة دبحتني بيها ما هسامحك حتي لو هتجي لي راكع عمري ما هنسي كلامك و لا الطريقة المهينة اللي عاملتني بيها، و مش أنت بتقولي عرض الطلاق خلص، تمام أنا بقي هاعتبر نفسي من اللحظة دي اتطلقت منك وهاعيش لعيالي و لنفسي و بس، حياتي خاصة بيا ملكش دخل بيها"
اقترب منها فأخذت تعود إلي الخلف حتي أصبح ظهرها ملتصق في الحائط، أخبرها جوار أذنها بحسم و هيمنة
"طول ما أنتي علي ذمتي كل الهرتلة اللي قولتيها دلوقتي تبقي مجرد أحلام عصاري، أوامري اللي هاتمشي و اللي هاقول عليه يتنفذ"
أخذ يعبث في خصلات شعرها و أمرها بنبرة تحمل قسوة عاتية
"تاخدي بعدك وتروحي علي أوضتك وياريت طول ما أنا موجود تلمي شعرك وتلبسي طرحه، و نصيحة مني بلاش تقلدي حد تاني وخصوصاً لو كانت ضرتك"
أبعدت يده عن شعرها وتنظر له من أسفل إلي أعلي بسخط وازدراء ومشاعر أقرب للكراهية، كلماته هدمت كل ما كان يشيده الأيام السابقة من حب ومودة، فأين هذا الحب و أين هذه المودة الآن!
"لو تعرف أنا شيفاك إزاي دلوقتي قدامي، مجرد.....
وضع كفه علي شفتيها، وبنظرة تحذيرية أخبرها
"هتطولي لسانك و هتتجاوزي حدودك هتلاقي رد فعل مش هايعجبك خالص، أنا لغاية دلوقتي محترم معاكي"
دفعته من أمامها وتصيح في وجهه
"أنا بكرهك، بكرهك"
وركضت إلي الخارج وذهبت إلي غرفتها، أغلقت الباب بقوة وأطلقت العنان لدموعها التي انهمرت بغزارة، تقف أمام مرآة الزينة ظلت تنظر إلي نفسها وتعيد كلماته القاسية داخل رأسها، تحول بكائها إلي حالة من الهياج والصراخ، أمسكت بكل شيء أعلي طاولة الزينة وأخذت تلقيه علي المرآة وعلي الحائط، تردد عكس ما في قلبها
"بكرهك يا كنان، بكرهك، بكرهك"
❈-❈-❈
كان يشغل نفسه عن عمد في مراجعة أعماله عبر الحاسوب و ذلك حتي لا يترك نفسه فريسة داخل براثن أفكاره.
دخلت زينات و وضعت أمامه فنجان القهوة أمامه أعلي المكتب
"ده خامس فنجان قهوة تشربه يا بني و أنت و لا اتعشيت حتي الغدا يعتبر ماكلتش"
كان ظاهره هادئ للغاية و داخله حمم بركانية تتأجج نيرانها وتفور
"شكراً لاهتمامك، ممكن تروحي أوضتك ترتاحي"
نظرت إليه بعتاب فهو يطلب منها المغادرة من الغرفة بأسلوب مهذب، لا تعلم إنه يدعها في مأمن عن غضبه الكامن، ليست هي السبب بالطبع لكن تلك التي وصلت في الخارج للتو هي من جعلته في هذه الحالة.
ألقي نظرة علي الساعة في شاشة الحاسوب، فوجدها الثانية عشر وثلاثون دقيقة
"حاضر يا قصي بيه، تصبح علي خير"
ذهبت وداخلها يشعر بالحزن، تعلم سبب حالته لاسيما عندما رأت باب القصر يُفتح وتدخل صبا تحمل حقيبة كبيرة داخلها أوراق رسم، ذهبت زينات لتستقبلها وتحذرها أيضاً
"حمدالله علي السلامة يا بنتي"
"الله يسلمك يا داده، وحشاني يا زيزي"
عانقتها فربتت الأخرى بحنان
"و أنتي أكتر يا حبيبة قلب زيزي"
"الولاد طبعا ناموا من بدري"
امسكت عنها الحقيبة الكبيرة وحقيبة يدها الصغيرة
"اه اتعشوا و ناموا علي الساعة تسعة"
ألتفت من حولها لتأمن عدم سماع قصي لتحذيرها لزوجته
"أنتي إيه اللي أخرك لنص الليل، قصي بيه من وقت ما جه و قاعد في أوضة المكتب، ما أكلش و كل اللي عليه يشرب قهوة و خلص يجي عشر علي سجاير لحد دلوقتي"
"اعمل إيه يا داده، غيبت عن الشركة يومين عشان فرح ياسين وروحت النهاردة لاقيت الشغل كله متراكم، و عقود وكمية ورق مستنية مراجعة مني و توقيعي، قعدت من أول ما دخلت المكتب لحد ما قبل ما أمشي عمالة أراجع ورق و أمضي علي ورق"
"يا حبيبتي مقولناش حاجة، الله يعينك و يقويكي، بس ما ينفعش برضو تقعدي في شغلك لحد نص الليل، ما تعمليش لنفسك مشاكل مع جوزك"
"هو قالك حاجة؟"
"لاء مقالش، بس الجواب باين من عنوانه، و أنتي أكتر واحدة أدري بجوزك لما بيوصل للحالة دي"
"ما تقلقيش يا داده، أنا هاعرف أهديه، روحي أنتي إرتاحي"
ذهبت زينات إلي غرفتها بينما الأخرى ذهبت إلي غرفة مكتب زوجها و مع كل خطوة تدعو داخلها أن تمر هذه الليلة بسلام.
دخلت ورأته ينظر إلي شاشة الحاسوب باهتمام، اقتربت نحوه حتي وقفت خلف المقعد الذي يجلس عليه، وضعت يديها علي كتفيه ودنت منه تقبل وجنته
"وحشتني"
رفع الفنجان إلي فمه وارتشف باقي القهوة ثم ترك القدح، يخبرها بتهكم
"إيه اللي رجعك بدري كده، ده أنا كنت بحسبك هاتخلصي شغلك الفجر"
ازاحت القدح بعيداً وجلست أعلي المكتب لترى وجهه و بمرح عقبت
"ما أنا قولت لنفسي كفاية النهاردة كدة يا صبا، و روحي أقعدي مع جوزك حبيبك"
أغلق الحاسوب ونظر إليها يرفع حاجبه
"ليكي نفس تهزري!"
احتضنت عنقه بين ذراعيها مبتسمه بمرح
"أنا ليا نفس أهزر و نسهر ونلعب و نضحك بس بعد ما ناكل عشان أنا هاموت من الجوع وعايزاك تعملي ساندوتشات من إيديك الحلويين يا بيبي"
كانت نظرته و ملامح وجهه المتجهم تخبرها أن تكف عن المزاح و حان وقت الجد، و ها هو أبعد يديها عن عنقه ونهض، رفع شاشة هاتفه أمام عينيها
"أنتي شايفة الساعة كام؟"
"اه شايفاها، 12 ونص"
"طيب ينفع واحدة محترمة و متجوزة ترجع من الشغل بعد نص الليل؟!"
شعرت بالإهانة فتحولت ابتسامتها المرحة إلي النقيض
"و هل أنا في يوم وجهتلك نفس سؤالك المهين ده، لما كنت بترجع متأخر أو بتبات في الشركة؟!"
"أنتي هتقارني شغلك بشغلي يا هانم؟!، و لا نسيتي إتفاقي معاكي!"
"مانستش، بس ده ظرف يوم وعدى خلاص"
"بالنسبة لك عدى لكن بالنسبة لي ماعداش ولازم تتحاسبي"
ابتسامة ساخرة علي شفتيها يعقبها قولها بتذمر
"اتحاسب!!، أنت شايفاني عيلة صغيرة قدامك؟!، انتبه لكلامك يا قصي، أنا ماكفرتش لما أتأخرت يوم بسبب كم الشغل اللي كان لازم أتابعه لحد ما يخلص عشان أقدر أسلم الحاجة لأصحابها، ده أنت المفروض أكتر واحد تقدرني"
"ماشي يا صبا، طالما وصلنا للنقطة دي، و نكرانك لتقديري ليكي، كلمة و مش هقولهالك تاني لأنها المرة الجاية هاتبقي فعل، لو تأخيرك أتكرر تاني و لا هايبقي فيه شركة و لا مصنع و لا خروج من القصر كمان"
"اعتبر ده تهديد؟"
"اه يا صبا، أنا بهددك وأنتي عارفة كويس لما بهدد المرة اللي بعدها بنفذ علي طول"
ابتلعت ريقها فهي ترى الصدق في عينيه، لذا عليها إطفاء نيران غضبه وكسب وده و تنحي عنادها جانباً الآن، تقربت منه وبدلال غير مبالغ تخبره
"أنا آسفة، مش هاكررها تاني، و أي شغل هيخليني أتأخر هاجيبه معايا هنا و هخلصه، أهم حاجة أنت ماتزعلش و لا تضايق"
تعجب من حديثها النقيض لطبيعتها المتمردة في الغالب
"أنتي بتثبتيني يا صبا؟!"
"أثبتك ليه يا روح قلبي، أنا بتكلم بجد و مش عايزه شغلي يكون سبب مشاكلنا، وبعدين أنت الفترة اللي فاتت وقفت معايا كتير لحد ما بدأ البراند بتاعي بدأ يسمع في السوق، أقل حاجة بقي أقدمهالك هي التقدير"
احتضنته وبذكاء و دلال أنثي تعزف علي أوتار قلب حبيبها أردفت
"مش كان أحمد عز برضو بيقول لكيندا علوش في فيلم المصلحة، الراجل ليه عند مراته تلات حاجات، الطاعة ثم الطاعة ثم الطاعة"
وضع كفه يتحسس جبهتها
"أنتي سخنة يا حبيبتي؟"
لكزته بخفة في كتفه
"أدي اللي باخده منك، تريئة يا أوامر"
"أصل بصراحة مش مصدق وداني، معقول صبا الرفاعي هي اللي بتتكلم؟!"
"يعني كان هايعجبك لو وقفت قصادك و أفضل أعند معاك"
"مش أنا يا حبيبتي اللي يتوقف قصاده و يتعاند معاه، لأنك أنتي اللي هاتبقي خسرانة"
"عشان كدة لازم أغير من نفسي و أكون هادية و ست مطيعة وجوزي حبيبي يكون راضي عني"
أومأ بعدم تصديق
"ما هي حاجه من الأتنين الأولى أنك بتمثلي عليا عشان تتجنبي اللي كنت ناوي أعمله معاكي و الحاجة التانية و دي اللي أتمناها تكوني أتغيرتي وعقلتي"
قامت بالحديث في أمر آخر كي لا يكشف أمرها، جذبته من يده
"شوفت بقي عمالين نتكلم و أنا من وقت ما جيت و هاموت من الجوع، شوية كمان هتلاقيني أغمي عليىّ، يلا بينا علي المطبخ"
و داخل المطبخ، يعد لها الشطائر الشهية، تقضم بنهم وكان هو أيضاً يأكل وينظر لها، تلوك الطعام داخل فمها باستمتاع
"كولي براحة محدش بيجري وراكي"
ابتلعت ما بفمها ثم أخبرته
"اتلهيت في الشغل و ما أكلتش حاجة خالص، بالله عليك يا قيصو ناولني برطمان الشوكيلت اللي هناك ده و كمل جميلك بقي هاتلي معلقة معاه"
"اتفضلي"
أعطاها ما تريده وكان يراقبها وهي مستمرة في تناول الطعام، وقفت تخلع السترة
"الشوكيلت ليها طقوس عندي و أنا باكولها، أقلع البليزر الأول و الشيميز الأبيض"
قامت بفك أزرار قميصها وخلعته فأصبحت بكنزة قطنية دون أكمام تظهر جمال قدها و منحنياتها، جلست علي المقعد ومازال يتابعها
"كده أؤكل و ألغوص براحتي"
فتحت البرطمان و تناولت ملعقة، أخذت تموء بدلال جعله لم يتحمل هيئتها المثيرة، أخذ منها البرطمان والملعقة، فحدقت إليه بضيق، تفاجئت عندما وجدته يجذب الكرسي الذي تجلس أعلاه، حملها من خصرها واتجه نحو الطاولة الرخامية وأنزلها فوقها
"أنت أخدت مني الشوكيلت ليه؟"
وقوست شفتيها لأسفل مثل ابنتها، ابتسم من ما تفعله وتبدلت ابتسامته إلي نظرة يملأها رغبة جامحة
"هخليكي تاكلي الشيوكليت بطريقة هتخليكي تحسي بطعم مادوقتهوش قبل كدة"
تناول بأصبعه قليلاً من سائل الشكولاتة فقام بدهنها علي شفتيها، ابتعد قليلاً وأخذ ينظر إلي شفاها باشتهاء ثم همس أمامها
"و دلوقتي حسي بطعمها معايا"
ألتقم شفتيها ويتذوق طعم الشكولاتة في آن واحد، ابتعد ليلتقط أنفاسه وكذلك هي أيضاً، أمسكت البرطمان فأخبرته بمكر
"و فيه طريقة أحلي كمان لأكل الشوكليت"
غمزت اصبعها و تناولت القليل ثم قامت بتلطيخ وجهه، علي وجنتيه و شفاه وعلي نحره، تركها تفعل ما تريد فقامت بلعق الشكولاتة من عنقه ثم وجنته ووجنته الأخرى حتي وصلت إلي مبتغاها وقامت بالتهام الشكولاتة وشفاه معاً، انتهت تلك القبلة الجامحة فوجدته تركها وذهب ليغلق باب المطبخ بالمفتاح من الداخل، ابتسمت وسألته
"وافرض حد من الشغالين صحي وسمعنا؟"
"هي أول و لا آخر مرة، وبعدين إحنا جعانين ولسه مخلصناش أكل"
قام بتفريغ المائدة من كل شيء يعلوها فأصبحت شاغرة، حمل صبا فؤاده
"يا قيصو يا مجنون، تعالي نطلع أوضتنا أحسن"
وضعها أعلي المنضدة
"أنا مزاجي هنا، ركزي معايا أنتي وملكيش دعوة باللي بيحصل بره، مفيش حد هنا غيري أنا وأنتي والحلل تالتنا، تعالي بقي ما أعلمك طرق أكل الشوكليت"
أطلقت ضحكة توقف رنينها بين شفتيه حيث أصبحت بين ذراعيه يتبادلان العشق والغرام و تناول الشكولاتة علي طريقة الملك وزوجته، و الأواني والموقد والبراد و كل أدوات المطبخ
تشهد علي ذلك!
يتبع....
༺الفصل السادس༻
غرام الذئاب
بقلم ولاء رفعت
لم أعلم مَنْ أنا و أين أكون، يكفيني وجودك فأنت ذاتي و وطني
يخلع قميصه من المشجب ثم يطويه ليضعه داخل حقيبة السفر خاصته، دخلت إليه والدته تسأله بامتعاض
"مصمم برضو تسافر يا رحيم؟!"
أجاب و مستمر في وضع بقية ملابسه
"معلشي يا ماما، محتاج أقعد مع نفسي بعيد فترة"
"ما أنت كل مرة تقولي كدة، و فترة تجر فترة و تقعد بالشهور بعيد عني، كأنك بتعاقبني أنا، طب كان بإيدي إيه و معملتوش؟!، ده أنا طلبتهالك من خالتك من و أنتم لسه عيال في ثانوي، و البنت لما سمعتني عوجتلي بوقها، إيه اللي بتقوليه ده يا خالتو، رحيم زي أخويا"
"خلاص يا ماما مالهوش لازمة الكلام، أنا أصلاً شيلت أي حاجة من دماغي، ربنا يسعدها مع جوزها"
شهقت والدته ثم صاحت بتعجب
"و كمان بتدعيلها؟!، يا خيبتك القوية يا رجاء"
حدق إليها بضيق ثم أغلق حقيبته و حملها تاركاً إياها تنعي حظها، لحقت به
"رحيم، استني يا حبيبي"
توقف عن جر حقيبته
"نعم؟"
وضعت يديها علي منكبيه
"متخليك قاعد هنا معايا و جمب عيادتك، أنت غاوي بهدلة و غربة ليه"
"أنا مسافر لمحافظة تانية مش بره مصر"
"في بلد إيه؟"
أطلق زفرة بنفاذ صبر
"إسكندرية، و دي سفرية تبع عمل خيري"
"طيب هاتقعد قد إيه هناك؟"
"معرفش"
همّ بالذهاب فأوقفته مرة أخرى
"خلاص أبقي أنزل علي الفيلا بتاعتنا اللي في كفر أبو عبده و أنا هاتصلك علي البواب هناك يخلي مراته تنضفهالك و تحضرلك الأكل عقبال ما تروح"
"ماما كفاية بقي، أنا مش طفل صغير و لا هي أول مرة أسافر، كل اللي محتاجه منك تدعيلي ربنا يريح قلبي"
"حبيبي يا ابني، يارب يا رحيم يا ابن رجاء يريح قلبك و تقابل بنت الحلال اللي تحبك و تحطك في عينيها"
ثم أردفت بصوت خافت
"و اللهي يا رودينا يا بنت شاهيناز ما تتهني و لا تنعمي براحة زي ما خليتي ابني مكسور القلب"
انتبهت إلي ابنها الذي فتح باب المنزل و كاد يغادر، ركضت نحوه وصاحت
"رحيم؟"
رد بهدوء و أدب
"نعم؟"
"خلي بالك من نفسك، و هاتصل بيك كل شوية أطمن عليك"
"حاضر"
"رحيم؟"
"نعم؟"
"لا إله إلا الله"
ابتسم لها وعقب
"محمد رسول الله، سلام"
❈-❈-❈
"أميرة، يا أميرة، هي راحت فين؟"
كان نداء السيدة خيرية و يبدو علي صوتها التعب، فُتح باب المنزل و ولجت أميرة تحمل كيساً بلاستيكياً، فوجدت الأخرى تقف و تستند علي مسند الظهر لمقعد المائدة
"إيه اللي قومك يا ماما، أنا خرجت كنت بجيب عيش لأن اللي هنا عيش بايت و أنتي بتحبي العيش الصابح، روحي إرتاحي و خمس دقايق و الغدا هايكون علي السفرة"
"تعبت يا بنتي من الرقدة علي السرير، قولت أمشي رجلي شوية"
"طيب تعالي افتحلك التليفزيون و مددي علي الكنبة هنا"
أمسكت جهاز التحكم بالتلفاز قامت بتشغيل الشاشة، أمسكت بيد خيرية
"المسلسل اللي أنتي بتحبيه شغال أهو، تعالي يلا نامي هنا"
ذهبت لتعد أطباق الطعام و غرفها بشكل فني تعلمته من السيدة خيرية، قامت برصها فوق المائدة
"يلا يا ماما الغدا جاهز"
جاءت وأخذت تنظر إلي الأطباق بابتسامة
"الله، شكل الأكل يفتح النفس"
"البركة فيكي يا ماما، أنتي اللي علمتيني إزاي اطبخ و أقدم الأكل بشكل حلو، و علي رأي المثل العين بتاكل قبل الفم"
ربتت علي يدها بسعادة و حنان غادق
"ربنا يبارك لي فيكي يا بنتي"
جلست ثم كادت أميرة تجلس فوقفت
"نسيت دورق الميه و العيش، هاروح أجيبهم من المطبخ"
و في طريقها إلي المطبخ صدح رنين الجرس، صاحت خيرية
"شوفي مين اللي بيرن الجرس يا أميرة"
قامت الأخرى بفتح الباب لتجد ثلاثة رجال اعمارهما تتراوح ما بين الثلاثين و الأربعين عاماً سألها
"أنتي مين؟"
انتبهت إلي وشاحها المزحزح من فوق شعرها الناعم، قامت بضبطه سريعاً
"أنا اللي المفروض أسالكم أنتم مين؟"
"مين يا أميرة؟"
سألتها خيرية من الداخل فدلف الثلاثة تراجعت أميرة بحرج و خجل، و أن رأتهما السيدة نهضت تحدق إليهما بصدمة، تقدم أكبرهم
"مش هتقوليلنا حمدالله علي السلامة يا ماه"
هناك صراع المشاعر يجول داخلها، جزء يرفض وجودهم بعد أن تركوها لسنوات ما بين الآسي و الهجران، و جزء آخر و هي عاطفة الأم التي مهما تلقت من قسوة ابنائها أطناناً فهم ابنائها في النهاية و لم تستطع أن تكرههم فالغلبة لعاطفة الأمومة، ليت الابناء يدركون ذلك.
اقتربت منهم و فتحت ذراعيها، ارتمي ثلاثتهم يعانقونها، كانت تتابع أميرة ذلك المشهد و ذرفت عينيها الدموع يتخللها ابتسامة.
بعد قليل...
يجلس جميعهم حول المائدة يتناولون الطعام بشهية، ماعدا أميرة التي طلبت من خيرية أنها ستتناول طعامها في المطبخ لأنها تشعر بالخجل و التوتر في وجود ابنائها.
قال أوسطهم بتلذذ و استمتاع
"الله ياماه، طول عمرك عليكي طبق ملوخية ريحته تشميها من علي الإمة"
"مش أنا اللي طبخة، دي أميرة ربنا يباركلها، بنتي اللي مخلفتهاش"
توقف الكبير عن تناول الطعام و ابتسم بسخرية
"بنتك!، ده كلام الناس طلع صح بقي، جايبة لنا واحدة من الشارع مقعداها معاكي، و تقولي عليها بنتك، دي ناقص تورث معانا كمان"
صاحت والدته بغضب
"أيوه بنتي، رزق ربنا بعتهولي من سنتين، عوضني عن ولادي التلاتة اللي هجروني و لا سألوا عليا و بقيت أعرف أخباركم من الجيران زي الغريبة و لا كأني كنت أمكم وتعبت و شقيت عليكم لحد ما بقيتوا رجالة"
اقترب أوسطهم من شقيقه الكبير يهمس إليه
"ما تهدي يا كبيرنا لحد ما نخلصوا اللي جايين عشانه و بعد كدة نشوفوا إيه حكاية البت دي و نديها قرشين تغور من هنا"
قام أصغرهم بتهدئة الأجواء فأخبر والدته مبتسماً
"معلش يا ماه، أخويا ما يقصدش حاجة، هو بس كان قلقان عليكي برضو إحنا مانعرفش مين البنت دي و أصلها و فصلها"
"ما تقلقش منك ليه، دي ملاك و بنت أصول، و شيلاني و مرعياني و عمرها ما رفضتلي طلب، أنا سميتها أميرة لأنها اسم علي مسمي، مش زي ولاد بطني اللي مطمرش فيهم تعبي و تربيتي ليهم"
حمحم بحرج ابنها الأوسط
"ما تزعليش نفسك ياماه، إحنا غلطانين فعلاً و مهما قولنا لك من حجج ليكي حق تزعلي، بس أنا و أخواتي خلاص مش هنسافر تاني و قررنا نعيش معاكي، مأمون طلق الولية المجنونة اللي كان متجوزها، و أنا الحمدلله أتجوزت أخت واحد زميلي كان معايا في الغربة، و محمود أنتي بقي دوري له علي عروسة"
صاح شقيقه محمود
"خليك في حالك أنت، أنا بحب أعيش حر، مش ناقص هم و نكد"
انتهوا من تناول الطعام، قامت أميرة بتقديم أكواب الشاي، توقفت أمام الشقيق الأوسط، ظل ينظر إليها حتي جعلها تشعر بالخجل
"اتفضل الشاي"
لاحظت والدته نظرات ابنها
"خد الشاي منها يا وليد"
تناول الكوب، تركت أميرة الصينية
"محتاجة حاجة يا ماما؟"
"شكراً يا بنتي، أدخلي أوضتك أرتاحي"
كان الثلاثة يتابعون حوار والدتهم مع تلك الغريبة، انتظروا ريثما دخلت للغرفة و أغلقت الباب، نهض مأمون و جلس جوار والدته
"لاء كده الحوار يقلق ياماه، هي البت دي هاتفضل عايشة معاكي و لا إيه؟"
"أنا نفسي تفضل تعيش معايا، بس بالتأكيد ليها أهل بيدوروا عليها"
نظر الثلاثة لبعضهما البعض ثم نظروا إلي والدتهم و في صوت واحد
"أنتي خطفاها ياماه؟"
"خطف إيه يا مجنون منك ليه، دي كانت في المستشفي اللي كنت شغالة فيها، كانت جاية بعيد عنكم في حادثة كبيرة، فضلوا يعالجوها و عملية ورا عملية لحد ما قامت بالسلامة لكن يا عيني عليها فقدت الذاكرة و مكنش معاها أي أوراق تثبت مين هي و لا أهلها مين، كتر خير الدكتور اللي كان متابعها و خلاها لحد ما اتحسنت لاقيتها مش عارفة تروح فين و لا لمين، خدتها عندي و قولت ربنا بعتهالي تاخد بإيدي و تاخد بالها مني بدل ما أنا عايشة لوحدي بين أربع حيطان لو تعبت محدش بيسأل عليا، علي الأقل لو مت هلاقي اللي تقف علي غُسلي و تدفني"
"بعد الشر عليكي ياماه، و إحنا روحنا فين، إحنا جينالك أهو و قولنا بدل الغربة و التعب برة في بلاد الخواجات خلينا نفتح مشروع أنا و أخواتي نكسب منه و منها نبقي جنبك و ناخد بالنا منك"
"لو كلامك صح يبقي ربنا يوفقكم و يعينكم"
اقترب محمود منها بابتسامة خبيثة
"ربنا يوفقنا و يعينا بمساعدتك يا أمي"
أدركت خيرية مُراد ولدها
"والله يا ابني لو بأيدي حاجة مكنتش أتأخرت عليك أنت و أخواتك، كل اللي أملكه سيباه للزمن علي الأقل تلاقوا فلوس عشان الدفنة و الإجراءات وقتها"
تدخل أكبرهم بعد أن نظر إلي شقيقيه
"بصراحة ياماه إحنا جينا بعد ما كلمنا محامي ثروت بيه، قالنا مستعد يدفع اللي هنقوله عليه، و أنا و أخواتي سألنا واحد سمسمار معرفة و قدر لنا سعر البيت لاقيناه هايجيبلنا 50 مليون جنيه، لأن منطقتنا هتاخدها شركة مقاولات كبيرة تبع جماعة خلايجة و أجانب مستثمرين هيدفعوا مليارات الدولارات"
عقب أوسطهم
"و إحنا ياماه لو اشتغلنا أنا و أخواتي طول عمرنا بره عمرنا ما هنجيب عشر المبلغ ده، و بعد البيع هنقسم الفلوس زي ما قال شرع ربنا، ليكي نصيبك و كل واحد فينا ليه نصيبه بالعدل"
نهضت خيرية بوجه متجهم تخبرهم بحسم منقطع النظير
"و أنا مش هبيع، حتي لو اتباعت كل البيوت اللي حواليا و مافضلش غير بيت أبوكم، برضو مش هبيع"
"اسمعينا ياماه بـ...
قاطعته بصرامة
"اسمعوني أنتم يا ولاد بطني، البيت ده مش مجرد جدران تتهد و يتبني بدالها جديد، ده عمر و ذكريات، روحي و عمري كله فيه، لما أموت أبقوا أتصرفوا فيه براحتكم"
صاح ابنها الأكبر الغاضب دائماً
"معناه إيه الكلام ده ياماه؟"
"معناه أنك تاخد أخواتك و تتكلوا علي الله و ترجعوا مطرح ما جيتوا، و أنا اللي كنت فاكرة أنكم ندمانين و راجعين تعوضوني عن فراقكم السنين اللي فاتت، زي ما قلبي كان حاسس اللي هايجيبكم المصلحة و الفلوس"
وقف الثلاثة فقال أوسطهم
"أنتي بتطردينا من بيت أبونا ياماه؟"
نهرتهم بقسوة وليدة سنوات هجران
"دلوقتي بقي بيت أبوكم؟!، كنتم فين من سنين فاتوا؟!، اسمعني ياض أنت و هو، ملكمش حاجة عندي"
اندفع نحوها أوسطهم
"يعني إيه الكلام ده؟"
"زي ما فهمت كدة بالظبط، الجحود بيولد جحود و الجفا بيولد جفا، فما تنتظروش الحنية، أمكم بتاعت زمان ماتت"
اقترب أصغرهم من شقيقه
"يلا بينا دلوقتي و نبقي نجيلها في وقت تاني"
ثم أخبر والدته بصوت مسموع
"هنسيبك دلوقتي يا أمي و هانبقي نرجعلك تاني تكوني فكرتي في كلامنا، نصيبك هيجيبلك شقة واتنين و تلاتة، فكري قبل ما تردي، يلا يا مأمون أنت و محمود"
ألقي كلا من شقيقيه نظرة سخط علي والدته قبل أن يغادرا، ذهبت خلفهم و أغلقت الباب بعنف، أخذت تبكي فخرجت لها أميرة، تعانقها
"ما تزعليش منهم هم بيحبوكي، هم بالتأكيد خدوا علي خاطرهم لما قولتلهم مالكمش حاجة، مهما كان ده بيتهم و ليهم فيه"
"من قهرتي يا أميرة و قسوة قلوبهم خلوني أقولهم كدة، أنا عمري ما هخالف شرع ربنا، بس من حقي أعيش آخر أيامي في البيت اللي أتجوزت و عشت فيه، حتي دي كمان مستخسرينها فيىّ؟!"
أخذت الأخرى تربت عليها و لا تعلم ماذا عساها أن تفعل لها.
"إهدي يا ماما و كفاية عياط عشان ضغطك ما يعلاش"
كانت قد كفت عن البكاء بالفعل، لكن هناك ما أثار قلق و خوفها علي السيدة خيرية عندما شعرت بثقل جسدها بين ذراعيها، ألقت نظرة علي وجهها لتجدها فاقدة للوعي
"ماما خيرية، ماما خيرية، ردي عليا عشان خاطري، ماما، يا ماما"
صرخت في آخر نداء لها مما جعل الجيران يهرعون إليها و قاموا بمهاتفة خدمة طوارئ الإسعاف و التي جاءت في غضون دقائق لقرب المشفى من السكن.
❈-❈-❈
كانت تقف بجوارها في الغرفة و الممرضات و الطبيب يسعفونها و يوصلون بها أجهزة تنشيط و متابعة الأجهزة الحيوية، كانت تتابع ما يفعلونه بجنون
"طمني يا دكتور ماما مالها، هي مغمي عليها بس؟، حضرتك ما بتردش عليىّ ليه، طمني عليها بالله عليك"
نظر إليها بأسف وأخبرها بحزن
"واضح إن والدتك اتعرضت لضغط نفسي و عصبي خلي الضغط ارتفع عندها و عملها جلطة علي المخ وخلاها دخلت في غيبوبة الله أعلم هاتقوم منها امتي، إدعيلها"
تراجعت إلي الوراء في زاوية وجلست علي الأرض تبكي و تدعو الله بأن يشفي تلك السيدة التي لم ترَ منها سوي الخير و الحنان.
"معلشي يا آنسة ما ينفعش تقعدي هنا، و كمان محتاجين تشتري لوالدتك أدوية ضروري تجيبيها لأنها مش متوافرة عندنا في صيدلية المستشفي"
نهضت أميرة و أخذت منها الورقة
"حاضر، هاروح أشتريها لها بسرعة و راجعة تاني، بس ممكن تاخدي رقم تليفوني عشان لو حصل أي حاجة أو فاقت تقوليلي؟"
"خدي سجليه"
اعطتها هاتفها لتسجل رقمها سريعاً، قامت بتجفيف دموعها و غادرت الغرفة ثم المشفى و لم تنتبه إلي ابناء السيدة خيرية الثلاث اللذين يهرولون بحثاً عن والدتهم، أوقف احدهم الممرضة
"فين حالة الست الكبيرة اللي كان مغمي عليها؟"
أشارت إليه نحو الدرج
"لو قصدك علي الحجة خيرية، في الدور التاني، غرفة رقم 22 بس ممنوع الدخول"
سألها الأخر
"هي حصلها إيه؟"
"أنتم تقربولها إيه؟"
"إحنا ولادها"
"ادعوا لها جالها جلطة علي المخ خلاها دخلت في غيبوبة و طلبنا من أختكم تروح تجيب الأدوية المطلوبة"
"أختنا؟!"
همس شقيقه الأخر له
"البت اللي إسمها أميرة"
فتهامس الثالث
"إحنا سايبين أمكم سليمة و البت شكلها سمعت كلامنا إحنا و أمنا و الله أعلم عملت فيها إيه"
رد الثاني
"تصدق عندك حق، خافت لأمنا توافق و هي هاتروح فين، و الله أعلم ممكن مضتها علي ورق و لا حاجة"
قال أصغرهم
"اتقوا الله حرام عليكم، دي شكلها بت غلبانة و لو كانت زي ما بتقولوا كان زمانها عملت كده من زمان و إحنا سايبين أمنا"
عقب كبيرهم
"بقولكم إيه تعالوا نطلع نطمن علي أمنا و واحد مننا يروح البيت و ياخد باله من الأوراق و أي حاجة هناك، و خصوصاً حجة ملكية البيت"
"أنا هاروح، خليك أنت يا مأمون مع وليد و أنا لو فيه حاجة هاكلمكم"
كانت قد وصلت المنزل و قد نست إغلاق الباب خلفها، فما يشغلها الآن هو تدبير المال لشراء الأدوية، أخذت محفظة النقود خاصتها من حقيبتها فوجدت كل ما لديها لا يكفي سوي لشراء علبة واحدة، ففي طريقها إلي المنزل سألت في الصيدلية عن ثمن الأدوية المطلوبة.
زفرت بضيق
"أدبر باقي المبلغ منين ياربي"
نظرت نحو غرفة السيدة خيرية و ترددت، و بعد تفكير و حيرة، دلفت إلي الغرفة واتجهت نحو الخزانة لتبحث عن محفظة نقود الخاصة بخيرية، فتحت الضلفة و مدت يدها إلي الرف العلوي
"أنا كان عندي حق لما حذرت أمي و أخواتي منك يا حرامية"
شهقت و ألتفت لتجد المدعو محمود، هزت رأسها بالنفي و أخبرته بدفاع
"أنا كنت عايزة أخد فلوس عشان أجيبلها الدواء، أنا أخدت كل اللي معايا و لاقتهم مش هيكفوا، فحاولت أخد من عند ماما و هقولها أول لما تفوق بالسلامة"
اقترب منها حتي أصبحت محاصرة بينه و بين الخزانة، يرمقها بنظرات ذئب يتمعن فريسته قبل الانقضاض عليها
"ما تخافيش مش هقول لأخواتي حاجة، و هاسيبك تعيشي مع أمي حتي بعد ما نبيع البيت، بس علي شرط"
ابتلعت ريقها بخوف فغريزتها الأنثوية تدرك تلك النظرة المخيفة و ما يليها
"لو سمحت يا أستاذ، عيب كدة وابعد عني"
"ما تبطلي تعيشي عليا يا بت دور الشرف ده لإنه مش لايق عليكي، هتلاقيكي كنتي هربانة من أهلك و جيتي علي إسكندرية و حصلتلك الحادثة و بتمثلي أنك فاقدة الذاكرة بعد ما لاقيتي أمي بتحن و بتشفق عليكي، قولتي ست كبيرة و عايشة لوحدها و لا هتعرف أصلي و لا بنت مين وكنتي هربانة ليه"
دفعته بقوة من أمامها وخرجت من الغرفة، صدح رنين هاتفها و قبل أن تمد يدها عليه وجدت من يجذبها من ذراعها ويلقي بها علي الأريكة
"الظاهر ما بتحبيش الذوق، لما نجرب معاكي العافية"
حاول تقيد يديها و كانت تقاومه بكل قوة، ضرب ذاكرتها المصابة ومضات من مشاهد من الماضي حدث مثل تمر به الآن لكن المعتدي وجهه مبهم، أخذت تصرخ و تخمشه بأظافرها، و جمعت قواها فقامت بركله بركبتها بين ساقيه، انتفض و صرخ بألم، ألقي عليها سبة بذيئة، بينما هي التقطت حقيبتها و هاتفها و نجت بنفسها راكضة إلي خارج المنزل، تلقت اتصالا مرة أخرى فوجدت رقم غير مسجل
فتذكرت أمر الممرضة، أجابت في الحال
"ألو"
"أنا بتصل عشان اقولك ما تجبيش حاجة خلاص"
ابتسمت من بين دموعها وسألتها
"ماما فاقت؟"
"البقاء لله يا حبيبتي"
و في نفس الوقت تلقي محمود من شقيقيه مكالمة بوفاة والدته، اتسعت عينيه بصدمة وأخذ يبكي، فما نفع البكاء و الندم الآن!
نعود لأميرة التي ركضت بكل قواها إلي المشفى حتي وصلت أمام الغرفة و ترى الممرضات تخلع أسلاك الأجهزة عن السيدة خيرية ثم تغطي وجهها بالدثار، لم تصدق أميرة ما تراه عينيها ارتمت جوار الجثمان وأخذت تصرخ
"ماما، يا ماما، ردي عليىّ، ما تسيبنيش يا ماما، أنا ماليش غيرك"
حاولت الممرضة جذبها لتبعدها
"ما ينفعش يا آنسة، اللي بتعمليه ده، معلش اطلعي استني برة و هنندهلك وقت غُسلها"
خرجت من الغرفة رغماً عنها، فوجدت مأمون ووليد يجلسان علي المقاعد و يبكيان علي والدتهما، جاء محمود من نهاية الرواق، يصيح ببكاء
"ماتت و هي زعلانة مننا، إحنا السبب"
وضع مأمون كفه علي فم شقيقه
"بس اسكت، هاتفضحنا"
انتبه محمود إلي وجود أميرة ويخشي أن تخبر شقيقيه و لم يبالي إلي وفاة والدته وحزنهم عليها، اقترب من تلك المسكينة التي تبكي بحرقة حزناً علي أمها التي لم تلدها
"انتي واقفة عندك بتعملي إيه؟!، ليكي عين و عمالة تعيطي عليها؟!، أنتي السبب، هتلاقيكي أديتلها دوا غلط هو اللي عملها الجلطة وموتها"
نهض وليد و جذب شقيقه يبعده عن الأخرى
"عيب يا محمود مش وقته اللي بتعمله ده، خلينا نشوف هانعمل إيه و نجيب تصريح الدفن"
ثم وجه حديثه إلي أميرة
"و أنتي يا بنت الناس روحي دوري لك علي مكان تعيشي فيه، اللي كنتي قاعدة معاها ماتت، و إحنا تلات رجالة و الوضع مش حلو لا ليكي و لا لينا"
نظرت إليه بانكسار لم يكن لديها رد أو إجابة فلديه حق لاسيما بعد محاولة اعتداء شقيقه عليها.
أخرج من جيبه عدة ورقات من المال مطوية، مد يده بها إليها
"خلي دول معاكي و لو احتاجتي أي حاجة هاديكي أرقامنا كلمي أي واحد فينا وهتلاقينا واقفين جمبك"
"كتر خيرك يا أستاذ، شكراً مش عايزة حاجة منكم"
لم تتحمل سماع كلمة تزيدها وجعاً فوق أوجاعها، غادرت المشفى بقلب ملتاع، تبكي علي فراق السيدة التي كانت بمثابة والدتها، تبكي علي حالها حيث أصبحت بلا مأوي، شريدة لا تملك مكان يأويها.
❈-❈-❈
عبر بسيارته للتو من مدخل محافظة الإسكندرية، عينيه صوب الطريق وذهنه شارد مقتطفات من ذكريات ومواقف قد جمعته بها، كان يخاف عليها دائماً فحينما كانا في رحلة صيفية عائلية، كانت تريد تعلم الصيد، أخذ يشرح لها كيف تمسك بالخطاف وتضع في نهاية الخيط الطعم المفضل للأسماك.....
"إيه الملل ده بقالي ساعة و لا سمكة واحدة قربت من الطُعم"
ضحك فألتفت إليه بحنق
"هو أنا بقول حاجة تضحك يا دكتور رحيم؟"
"لاء، بس بضحك عليكي، لأن قايلك أهم حاجة في الصيد الصبر، ممكن تقعدي اليوم كله عشان تصطادي سمكة"
"نعم!، بلاها صيد أصلاً، أنا إيه اللي يجبرني أقعد كل الوقت ده"
نظر نحو مياه البحر وأمواجها المتلاطمة يخبرها
"مش إجبار و لا حاجة، الموضوع بيبقي نابع من جواكي، أنتي نفسك في حاجة و عشان تبقي ليكي عارفة هاتقعدي وقت كبير عقبال ما توصلي لها، الدافع اللي عندك هيخليكي تصبري لحد ما توصلي لهدفك"
تأملت ملامح وجهه وعينيه داخلهما آلاف الكلمات، فهي تدرك جيداً ما بين سطور حديثه، قاطع تأملها صوته ويشير إليها نحو نهاية الخيط
"شدي الصنارة بسرعة"
"مش عارفة، فيه حاجة بتشدها مني جامد"
اقترب منها ووقف خلفها، وضع يديه فوق يديها
"خليكي ماسكة جامد واسحبي لفوق و شدي عليكي"
شعر بجسدها الذي انتفض بين ذراعيه، تظاهر بالانشغال في مساعدتها لتحصل علي صيدها، لاحظ بطرف عينه دون أن ينظر إليها تحدق بتيه، الأمر كان لديه فوق الوصف، يشعر وكأنه يملك دنياه وتمني لو امتلك قلبها الذي ينبض بقوة ويصل صوت دقاته إلي مسامعه.
جذب الخطاف فجأة فوجد الصيد سمكة كبيرة لكن تمكنت تلك السمكة من التحرر من الخيط وقفزت في البحر.
ابتعدت من بين ذراعيه فوقفت أمامه تشعر بسخط
"يعني بعد ما صبرت كل ده عشان اصطادها تقوم هي هربانة مني، أنا عارفة حظي، عمري ما تمنيت حاجة وبقت ليا، بالعكس بلاقيها تبعد وتبعد أوي كمان"
رمقها مبتسماً وعقب بهدوء
"مش كل اللي بنتمناه بناخده، أحياناً بيكون شر و ربنا مش كتبه لينا، المفروض نعيد حسابتنا و نبص للأمور صح، هتلاقي نفسك أمنية لحد تاني"
"كلامك صح، بس ملناش حكم علي قلوبنا، فساعات بنتعلق بالشخص الغلط"
"و ليه ما نفكرش بالعقل مع القلب، عشان نختار صح؟"
"لأن في الغالب القلب و العقل ما بيتفقوش"
"لو التفكير سليم هيتفقوا، ما ينفعش ندي السلطة للعقل لوحده أو للقلب و المشاعر لوحدهم، لازم يبقي فيه توازن عشان ما نندمش في الأخر ونقعد نقول ياريت"
ضحكت وأرادت تغير دفة الحديث، أدرك ذلك سريعاً عندما عقبت قائلة بمزاح
"أنت سيبت الطب واشتغلت فيلسوف و لا إيه يا دكتور؟"
"كلامي مالهوش علاقة بالفلسفة دي دراستي لعلم النفس بحكم تخصصي في علاج المخ و الأعصاب"
أطلق تنهيده وتردد فيما هو مقبل علي التصريح به مردفاً
"رودينا، أنا كنت فيه حاجة عايز أقولهالك و مأجلها للوقت المناسب، و شايف أنه جه الوقت ده، أنا بحبك وعايزك تكوني شريكة حياتي، تتجوزيني؟"
نظراتها أقرب للصدمة لكن جوابها وكأنه أُعد من قبل
"أنا مقدرة و محترمة شعورك، بس أنا اللي جوايا ليك مخليني مش قادرة أشوفك غير ابن خالتي وأخويا"
"بس أنا مش أخوكي يا رودينا و لا عمري شوفتك زي أختي، أنا فاهم سبب رفضك، بس أنا المعلومات اللي عرفتها أن اللي كنتي مستنياه يكون ليكي أتجوز خلاص"
أخفت ما شعرت به من ضيق و غيره خلف ابتسامة ساخرة
"و يا تري مصدر معلوماتك تبقي شاهيناز هانم اللي متفقة معاك أنت و خالتو رجاء أننا نيجي نقضي الأجازة هنا عشان نقرب أكتر أنا و أنت من بعض وتقولي بحبك و عايز أتجوزك، و أنا المفروض أوافق عشان أنسي حبي اللي من طرف واحد"
"و ليه حسبتيها كده، كان ممكن جيتلكم لحد البيت و طلبتك بشكل رسمي و يبقي كده حطيتك قدام الأمر الواقع"
"و لو عملت كده كنت هقولك نفس اللي هقوله لك دلوقتي، لاء يا رحيم، مش موافقة، أنا مش هاتجوز غير اللي بحبه حتي لو هافضل طول عمري single"
عاد من ذكري تلك الرحلة و لقطات من حفل زفافها وهي بين ترقص بين يدي زوجها، كم يكره حالة الضعف التي جعلت عينيه تذرف دموعاً، يأبى أن يظل أسير هذا الحب، يكفيه عذاباً وألماً، لذا لجأ للفرار إلي عمله و شغل نفسه علي قدر ما يستطع حتي لا يترك لفؤاده فرصة للتفكير بها مرة أخرى.
و في ذات الوقت كانت تلك المسكينة تركض في الشوارع و الممرات حتي وصلت إلي الطريق الرئيسي للسيارات، تعبر الطريق وتغرق الدموع عينيها، لم تنتبه إلي السيارة التي علي وشك أن تصدمها.
كان ينظر إلي هاتفه الذي يرن، كاد يجيب علي اتصال والدته التي تريد الاطمئنان عليه، رفع عينيه نحو الطريق فإذا بالتي ظهرت أمامه فجأة واصطدمت بمقدمة سيارته فخرت علي الأرض دون حراك!
❈-❈-❈
يهبط ويرتفع بجسده مستنداً علي ذراعيه، يفرغ غضبه في ممارسة التمارين الصعبة بدلاً من الانفجار، علي وشك أن يفقد عقله لا يعلم أين هربت إلي الآن، لم يترك مكاناً إلا وبحث عنها وكانت مجهوداته تذهب سدي.
سمع صوت خطوات حذاء تقترب منه حتي توقفت أمامه، رفع وجهه ونظر إليها فسألته
"و معني أنك مالقتهاش لحد دلوقت يبقي كده خلاص هاتبطل تدور عليها؟"
نهض وألتقط منشفة قطنية يجفف عرقه، نظر بسخرية إلي والدته
"و شيري هانم بنفوذها و علاقاتها مش قادرة تعرف حفيدها و مرات ابنها فين؟!، معلش بقي حكم السن بيخلي الواحد جهده علي قده"
سخريته الصريحة أثارت حنقها
"اخرس، أنا لسه زي ما أنا، شيريهان الشريف اللي بإشارة من صباعها هتلاقيني جيبالك مراتك تحت رجلي، بس سبب سكوتي لحد دلوقتي لأن أنا لو وصلتلها هخليها تبكي بدل الدموع دم"
جز علي أسنانه بغضب، تهديد والدته يحمل إهانة لزوجته لذا قام بتحذيرها
"لأخر مرة يا شيريهان اتكلمي عنها باحترام، لأنها في الأول و الأخر مراتي"
"مش لما أنت الأول تحترم نفسك و انت بتتكلم مع مامتك؟!، يا فرحتي بيك وأنت فخور أوي و تقولي مراتي، أومال لو مكنتش خدامة أخوك قبل ما تضحك عليه و تلبسه في الولد اللي بلتنا بيه"
ركل بكل قوته كرسي من المعدن أصدر صوتاً جعلها انتفضت ذعراً و ابتعدت، تنظر له بصدمة فأخبرها
"عيدي كلامك ده تاني وهتلاقي الفيلا بقت عاليها واطيها ده غير مش هخليكي تشوفي وشي تاني"
ألقي المنشفة بقوة علي الأرض ثم تركها وذهب خارج صالة الرياضة الخاصة به، و في طريقه إلي غرفته أوقفه أحد الحراس
"أحمد بيه"
ألتفت إليه فاقترب الحارس منه وهمس في أذنه بأمر كان ينتظره الأخر
"روح أنت وشوية و أنا جاي وراك"
بعد قليل...
دخل غرفة تقع خلف المنزل يجلس في الوسط هذا الرجل الطيب و علي يمينه و يساره حارسين، علي ملامحه الخوف من تلك المواجهة، ابتلع ريقه حينما رأي أحمد يجذب مقعد ويجلس عكسه مستنداً بذراعيه علي مسند الظهر، أشار إلي أحد الحارسين، جاء إليه مسرعاً يعطيه علبة لفائف التبغ، سحب لفافة ويسأل الرجل الطيب
"ها يا عم صابر، لسه مصمم أنك ما تعرفش مكانها؟"
أشعل الحارس له اللفافة فنفث الدخان في الهواء، يستمع إلي إجابة العم الصابر المغلوب علي أمره
"حضرتك ليه مش مصدقني يا أحمد بيه، أنا آخر مرة شوفتها لما حضرتك أخدتها من الفيلا و معرفش عنها و لا عن ابنها أي حاجة"
نفث دخان اللفافة مرة أخرى وينظر نحو هذا الرجل بإمعان
"و لو قولتلك مش مصدقك و أنك راجل كداب"
نظر إلي أسفل بحزن
"الله يسامحك يا بني"
نهض من علي الكرسي وركله بعيداً، قبض علي تلابيب قميص العم صابر بعنف
"اسمع يا راجل أنت، جو المسكنة و يا بني و يا ضنايا ده مش هياكل معايا، أقسم بالله لو ما قولت مراتي وابن أخويا راحوا فين لأبعت رجالتي يجيبوا مراتك و بناتك هنا، خليهم يشوفوك و أنا بقل منك قدامهم"
رأى صابر الشر في عينين أحمد، لكن ليس هذا الشر الذي كان عليه سابقاً، فهذا الغضب الذي عليه غضب عاشق يكاد يجن جنونه إذا لم يصل إلي من التي امتلكت قلبه.
مرت دقيقتان دون إجابة، فصاح هذا الأحمد بصوت جهوري مخيف
"مش عايز تنطق، فاكرني بهدد وخلاص؟!، ماشي هخليك تسمع و تشوف، متولي، لم الرجالة و تروحوا علي بيت الراجل ده، تجيب لي مراته و بناته"
صاح صابر متوسلاً
"بالله عليك يا أحمد بيه، بلاش اهل بيتي أبوس أيدك، هقولك علي اللي أنت عايزه"
أشار الأخر إلي الحارس بأن لا ينفذ أمره، دنا من العم صابر الذي أخبره
"هقولك، بس بالله عليك بلاش تأذيها، دي غلبانة و بنت حلال"
"أنت هاتوصيني علي مراتي، أنا حر أعمل اللي اعمله معاها، أنجز وقول يلا"
و في مكان آخر، كانت تغفو وولدها يغفو أيضاً بين ذراعيها، يصل إلي أذنها صوت خرير مياه تنهمر بقوة تخرج من صنبور تالف، ضيقت ما بين حاجبيها وتنصت جيداً إلي مصدر الصوت، انسحبت من جوار ابنها بهدوء كي لا يستيقظ، و ما أن وضعت قدميها علي الأرض، غمرتهما المياه، شهقت وركضت إلي المطبخ لم تجد شيء، ذهبت إلي الحمام فوجدت المياه تتدفق من صنبور الحوض الذي امتلأ وفاضت منه المياه التي اغرقت الممر و الغرف و الردهة، بحثت سريعاً عن المحبس الرئيسي وقامت بغلقه فتوقفت المياه، قامت بشد غطاء مصرف المياه الصغير داخل الحمام فبدأت المياه تُصرف من خلاله.
لملمت السجاد المبتل سريعاً و ألقت به علي سور الشرفة ثم عادت إلي الداخل، قامت بخلع العباءة القطنية المبتلة من حملها للسجاد وأصبحت بالقميص القطني القصير ذو الحمالات، ظلت تزيح المياه بالممسحة وتجفف الأرض خلفها بقطعة قماش من القطن، قاربت علي الانتهاء و لم يتبق سوي الردهة، كانت تجثو علي ركبتيها وتجفف وتزيح خصلاتها الحرة إلي الوراء بظهر يدها، لم تشعر بمرور الوقت أو الانتباه إلي صاحب الحذاء الأسود، قد دخل بعد أن فتح باب الشقة بالمفتاح الذي أخذ نسخته من صاحب العقار.
سار بخطى واثقة حتي توقف أمامها، انتفضت لدى رؤيتها للحذاء، رفعت رأسها فشهقت عندما رأته يقف أمامها!
يتبع....
تكملة الرواية من هناااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا