رواية هل الضربة قاضية الفصل الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
رواية هل الضربة قاضية الفصل الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
(الفصل الثالث عشر) و(الرابع عشر)
بقلم نهال عبدالواحد
وفي صباح اليوم التالي ذهب رياض إلى بيت حبيبة وهاجر، اقترب من الباب وطرقه متطلعًا المكان من حوله مشاهدًا بعينيه الشروخ والتصدعات عبر الجدران باستياء، الوضع بالفعل خطير.
انتظر قليلًا ثم فُتح الباب وكانت هاجر التي تحاول رسم الابتسامة على وجهها بصعوبة.
ابتسم رياض قائلًا بلطف: صباح الخير.
فأومأت: صباح النور.
- إيه الأخبار؟ فين حبيبة؟
قال الأخيرة متطلعًا بعينيه لداخل الشقة.
فتنهدت وقالت: ف أوضتها زي ما هي، عمالة أخبط ومش بترد برضو.
ثم قالت: باقولك إيه! ما تجرب إنت وتحاول معاها.
فقال مترددًا: بس...
وسكت قليلًا ثم لم يجد إلا وأن يدخل، أشارت هاجر له نحو حجرة حبيبة فاقترب حتى وصل فطرق الباب عدة طرقات مناديًا: حبيبة، حبيبة، أنا رياض.
كانت حبيبة في حجرتها مستلقية في فراشها محتضنة وسادتها تحدق في الفراغ ولازالت تراجع كل حياتها كما تفعل دائمًا!
وفجأة انتبهت لصوته! ماذا؟! صوت رياض ! كيف؟!
فنهضت جالسة محرّكة بؤبؤتيها بسرعة في كل اتجاه كأنما تتأكد من يقظتها، ثم فركت خلف رأسها وأعادت ظهرها لفراشها، هو مؤكد حلم!
لكن...
إنه مجددًا! صوته مناديًا: حبيبة، حبيبة، أنا رياض، معقول كل ده نوم! ما كنتش أعرف إن نومك تقيل كده!
فقفزت مسرعة من فراشها واتجهت ناحية الباب ثم وقفت تتلاقط أنفاسها قليلًا، ثم فتحت الباب وتصنّمت مكانها وهي تحدق بحدقتيها نحوه.
فابتسم لها وقال بسعادة واضحة: يا صباح الفل.
ثم حملّق في هيئتها بتفحّص؛ كانت مرتدية منامة ذات نصف كم قصير وفتحة رقبتها متسعة تظهر بروز ترقوتها بدقة مثيرة، بنطالها قصير يتوسط ساقها، شعرها متبعثر بطريقة عشوائية أعطت لهيئتها رونقًا رغم الشحوب الظاهر على وجهها لكنها لم تفقد جاذبيتها بعد.
وبعد مرور بعض الوقت من النظرات المتبادلة والتي تتابعها هاجر بسعادة يشوبها بعض المكر، قطعت حبيبة ذلك الصمت وقالت بطريقة تحاول إخفاء توترها: يا ترى إيه سر زيارتك دي؟ ولا إنت عرفت طريق البيت منين؟! وإزاي أصلًا تتجرأ وتدخل وتخبط على أوضة نومي؟!
فضحك ثم قال: إيه كل دي أسئلة! هي دي طريقة استقبال الضيوف بتاعتك يا كابتن؟!
فتأففت ثم قالت: برضو ما قُلتش جاي ليه؟!
فرفع حاجبيه وفرك ذقنه قليلًا قم قال: خشي الأول إغسلي وشك وغيري هدومك وإظبطي حالك وبعدين نتكلم.
فوضعت يدها على شعرها المبعثر فجأة وهي تملس عليه بيدها بسرعة وكأنها قد أدركت هيئتها توًا، وهمّت بالركض نحو الحمام، لكن استوقفها صوت هاجر التي توجه حديثها لرياض: هحضر الفطار ونفطر سوا، أكيد بتفطر زيها لبن وبيض!
فأجابها بلطف: ألف شكر لذوقك، بس أنا سبقتكم، معقول نادية هتسمحلي أنزل من غير فطار!
فالتفت حبيبة وعادت إليهما مرة أخرى وقالت: ومين نادية دي إن شاء الله؟!
فابتسم من طريقتها ولهجتها الغريبة التي لم يعتادها منها، بل لم يعتادها على الإطلاق، ثم أجاب: دي ست الكل، الست الوالدة.
فأومأت ثم التفتت ناحية هاجر وصاحت فيها: ماشي يا زفتة هوريكِ.
فابتسمت هاجر واتسعت ابتسامتها ثم قالت: لو كنت أعرف إنك هتخرجي من حبستك عشانه كنت...
فهجمت عليها حبيبة توًا تود ضربها وصاحت: عشان مين يا هبلة إنتِ؟! مش هسيبك إنهاردة!
واتجهت خلفها وهاجر تحاول الإفلات منها، وجد رياض نفسه واقفًا بينهما كحدٍ فاصل بين تلك الضربات الطائشة.
في الحقيقة كل تلك الضربات كانت تصيبه وبعد قليل صاح فيهما: كفاية! اكبروا بأه! إيه شغل الروضة ده!
فنظرت نحوه الفتاتان ووضعت كلًا منهما يديها في خصرها ونظرتا إليه بتوعد، فقال بتراجع: ده أنا... ده أنا بهزر، كنت بسلّك بينكم بس، صلوا على النبي، الطيب أحسن، يلا الله يهديكم إخلصوا وخلصوني! هستناكم برة ياريت تنجزوا على طول.
وتركهما وانصرف مسرعًا، فنظرت كلًا منهما للأخرى وضحكت، ثم تعانقتا ثم ذهبت حبيبة تعد نفسها وهاجر تهندم ما أفسدته حبيبة، تناولتا فطورهما بودٍ وانسجام وكأن شيئًا لم يحدث، وكأنهما لم تتشاجرا يومًا قط!
خرجت الفتاتان وكان رياض منتظرًا في سيارته، اقتربتا الفتاتان لتركبا في الخلف فتأفف رياض قائلًا: على أساس إني سواق معاليكم!
فنظرت الفتاتان بعضهما لبعض ثم ركبت حبيبة جواره وهاجر بالخلف، وما أن همّ يدير سيارته حتى أشارت حبيبة بيدها أن انتظر قائلة: إنت برضو ما قُلتش هتاخدنا على فين؟ ولا إيه الحكاية؟!
فابتسم لها نازعًا يده من فوق مفتاح السيارة الموضوع في مكان إدارتها ثم قال: بصي يا حبيبة، أنا جاي عشان لاقيت حل لمشكلتكم، لاقيتلكم شقة مناسبة تعزلوا فيها و...
فقالت حبيبة تقاطعه وقد بدأت تتشنج ملامحها: ومين طلب منك حاجة زي كده؟! لما اتكلمت كنت مضغوطة جدًا وأكيد ما أقصدش إني أشكيلك همي ولا حتى أفضفضلك.
فتدخلت هاجر قائلة: يا حبيبة الراجل ما يقصدش، هو جاي يعرض خدماته، وبصراحة كفاية إنه قدر يخرجك من أوضتك!
فقال لها بهدوء وتفهّم : والله ما قصدت أجرحك ولا أي شيء! كل الحكاية إن من كام سنة جت ست الحبايب إشترت شقة ف البيت اللي ف وش بيتنا عشان يعني أبقى أتجوز فيها، و لما ربنا فتح عليّ إشتريت شقة أكبر وف منطقة أرقى لكن أمي رفضت تسكن فيها وفضّلت تستنى في شقتنا شقة بابا الله يرحمه، يعني بتقول عشان ذكراياتهم مع بعض ولو عزلت أجيب ذكريات منين! بصراحة احترمت رأيها وفضلت عايش معاها وأقنعتها نجدد الشقة، وفعلًا جددنا حاجات كتير، وكل الحاجات القديمة وديناها الشقة اللي ف وشنا، هي مش حاجات قديمة يعني، هي بس أقدم م اللي جبته، وأنا كمان بآيت بحط فيها بضاعة المحل والمانيكانات الزيادة، يعني عملتها مخزن، المهم الشقة دي ثلاث أوض إنتوا هتاخدوا اتنين وأنا هجمع حاجاتي في الأوضة الثالثة وأعملها باب من ع السلم وألغي الباب الداخلي عشان ما أزعجكمش، و باقي الحاجات والأجهزة لو حابين تستخدموها هسيبها لو لأ هبقى أتصرف فيها، شوفوا الشقة وقرروا ولو كده أفضيها وأنضفها وأديها وشين نضافة وتيجوا تتفضلوا فيها وتنوروها، هه! إيه رأيكم؟
فقالت هاجر براحة: عداك العيب والله كلك ذوق!
فقالت حبيبة: طب وهتاخد كام؟
فأجاب: مش هنختلف شوفيها الأول.
فأسرعت بجدية قائلة: لا لا اللي أوله شرط أخره نور، هنشوف الشقة آه، بس لو عجبتنا هدفعلك إيجار شهر مقدم زيك زي غيرك، وكفاية إنك اضطريت تأجر شقتك وتزنوء نفسك عشان خاطرنا.
فقال: يا حبيبة الشقة كانت مركونة وما لهاش لازمة، فقلت أستغلها، لكن خلي الإيجار دلوقتي.
فقالت حبيبة: إنت فاهم إن مش معايا فلوس! كنت شايلة مبلغ على جنب هدفعه إيجار ولما أرجع من أسبانيا يبقى ربنا يفرجها.
- طب خلي فلوسك معاكِ، إنتِ مسافرة ومحتاجة الفلوس دي، وبعدين هنروح من بعض فين!
فقالت بجدية أقرب للحدة: وأنا مش عايزة جمايل من حد! والفلوس دي مش هحتاجها، كل المصاريف على الرعاة المسئولين عن المنتخب، المبلغ ده كنت شايلاه أجيب بيه طقمين أخدهم معايا، وأجيب هدية لهاجر من هناك، لكن مش مهم الموجود يسد، وهاجر عارفة البير وغطاه.
فقال يحاول إقناعها: طب بـ....
فأسرعت حبيبة قائلة: لو مش هتاخد شهر مقدم يبقى خلاص لا رايحة ولا جاية واصرف نظر خالص عن القصة دي.
فقالت هاجر: خلاص بأه يا أستاذ رياض، وإنت إهدي شوية وبالراحة ع الراجل! مش جزاته ده!
فنظرت لها حبيبة شرزًا فسكتت هاجر، أدار رياض سيارته مسرعًا قبل أن تتراجع حبيبة في رأيها وانطلق.
وصل رياض إلى منطقة سكنه، والتي لم تختلف كثيرًا عن منطقة سكن حبيبة، وقف رياض بسيارته فهبطت الفتاتان من السيارة وهبط هو الآخر، ثم أغلق السيارة وتقدمهما متجهًا ناحية البيت الذي فيه تلك الشقة و هما خلفه تتبعناه، حتى وصلوا إلى الشقة.
فتح رياض الشقة، دخل فاتحًا النوافذ والشرفة لينير أرجاء الشقة وتظهر ملامحها.
كانت بدايةً صالة كبيرة فيها عدد من أكياس كبيرة تحتوي على قطع الملابس المختلفة، كل كيسٍ يحتوي على أشكال أو ربما مقاسات مختلفة يبدو ذلك من خلف الأكياس الشفافة، وآخرين داخل صناديق كرتونية سميكة، عدد من التماثيل المستخدمة في عرض الملابس في المحلات، وبعد مسافة قليلة كان هناك ردهة تطل عليها أبواب الحجرات والتي في إحداهم بعض كراسي الأنتريه وأريكة مغطاة بأغطية قديمة وهناك منضدة مستديرة، حولها أربعة كراسي ومغطاة أيضًا بأغطية سرير قديمة وعلى الجانب الآخر شيئًا مغلفًا تبدو أنها ثلاجة مغطاة بكارتون وموقدًا أيضًا مغطى بكارتون، وهذه مروحة وهي أكثر وضوحًا؛ فهي مغطاة بكيسٍ بلاستيكي وهذا يبدو سخان وأيضًا ملفوفًا بالكارتون...
كانت حبيبة وهاجر تفحصان كل إنش في الشقة باستنثناء تلك التي تبدو بضائع، وقد أعجبتا بالشقة و ذلك الأثاث القديم وتلك الأجهزة المستهلكة وقد قررتا استئجار الشقة من رياض وأصرت حبيبة على دفع الإيجار مقدمًا، لكنه أقنعها بدفع الإيجار بعد إعداد الشقة فاضطرت للموافقة.
همت هاجر وحبيبة بالانصراف من الشقة، بينما كان رياض يعيد غلق النوافذ والشرفة فناداهما: إستنوا إستنوا....
(الفصل الرابع عشر)
بقلم نهال عبدالواحد
همت حبيبة وهاجر بالخروج من الشقة فاستوقفهما نداء رياض: إستنوا إستنوا...
فالتفتت الفتاتان فقال وهو يلحق بهما: إستنوا نروح نسلم على نادية، هي مستنيانا.
فضمت حبيبة حاجبيها وقالت: نادية مين؟!
فرفع حاجبيه بدهشة وقال: تاني! ما قُلت الست الوالدة، لازم أقول مامي!
فانفجرت حبيبة ضاحكة بشدة فحملق فيها رياض بإنبهارٍ شديد من تلك الضحكة التي أنارت وجهها، فانتبهت لنظراته إليها فسيطرت على ضحكتها حتى توقفت.
فقال بنبرة مختلفة: هي عارفة إنكم جايين ومستنياكم.
فقالت: ليه؟ قولتلها إيه!
فقال بنفس حالته: بنتين جايين يأجروا الشقة فقالتلي خليهم يتفضلوا أتعرف عليهم عشان هنبقى جيران يعني؛ أصلها إجتماعية وعشرية جدًا.
فاستمعت إليه حبيبة ولم تعقب في حين كانت هاجر تتابع حوارهما بسعادة وبعض المكر، فجذبتها حبيبة وتأبطت ذراعها لتتحركا معًا.
اتجه رياض وخلفه الفتاتين حتى وصل إلى بيته، فدخل ونادى على أمه بملء صوته: يا نادية يا ست الحبايب، إحنا جينا.
بينما كانت الفتاتان تقفان أمام الشقة من الخارج.
فجاءت نادية مرتدية عباءة بلون زيتوني بيتية واضعة على رأسها وشاح بشكل عشوائي يظهر غرة شعرها المائل للحمرة بفعل الحِنة.
فصاحت بابتسامة عريضة ناظرة بعينيها بين الفتاتين: يا أهلًا يا أهلًا! يا دي النور يا دي النور! إتفضلوا يا بنات! إتفضلوا يا حبايبي!
كانت لنادية غرض آخر غير التعارف عليهما فكانت تنظر بينهما في حيرة، فسلمت على هاجر أولًا، قبلت وجنتيها والتفتت ناحية ابنها وكأنها تلقي عليه نظرة عابرة، هي بالطبع تريد معرفة اتجاه ناظريه.
لتتجه بعد ذلك نحو حبيبة لتعانقها عناقًا أشد حرارة وبسعادة بالغة، فقبلت وجنتيها وهي تربت على كتفيها، ظهرها وذراعيها، وحبيبة تبتسم إليها وتومئ لرياض ببعض الإندهاش من حرارة أمه لكنها غير منزعجة.
وأكثر ما زاد دهشتها قبضة كف نادية على كف حبيبة تجذبها نحوها لتجلس جوارها وكأنها قد وجدت كنزًا وتخشى ضياعه!
جلست نادية جوارها حبيبة وجوار حبيبة جلست هاجر، التي تتابع الموقف منذ البداية و هي تقرأ من بين السطور نية أم رياض وتفاصيل حركاتها المختلفة، بينما حبيبة لم تكترث بأي شيء.
كانت نادية تربت من حينٍ لآخر على فخذ حبيبة التي لا تفهم ما تفعله تلك السيدة لكنها تشعر بحرجٍ شديد بلا سببٍ واضح، بينما رياض يتابع تصرفات أمه بنظرات متوعدة متوسلًا لها أن تكف عما تفعل؛ فهو يدرك تصرفاتها جيدًا!
فابتسمت نادية قائلة: وإنتوا بأه كنتوا زملات رياض في الجامعة ولا زباين ف المحل ولا إيه!
فقال رياض: لا يا ماما، دي كابتن حبيبة القاضي اللي بتدربني الملاكمة.
فانفجرت نادية ضاحكة وقالت: آه! هي دي اللي بترقعك علقة كل يوم والتاني!
فلم تتمالك حبيبة نفسها وانفجرت ضاحكة، وجد رياض نفسه بدلًا أن يغضب من تلك الساخرتين، وجم تائهًا وسط ضحكات حبيبة الرائعة التي كادت تصيبه بالجنون.
فاستعاد رياض رشده بسرعة وقال لأمه: وبعدين هو حد بيزغزغكم ولا إيه! عجبتك أوي بترقعك علقة!
وجه الأخيرة لحبيبة التي وضعت يدها على فمها تمسك خديها تضمهما كأنها تمسك تلك الضحكة بطريقة طفولية كوميدية فضحك رياض هو الآخر.
فنظرت حبيبة بينه وبين أمه لتلاحظ تشابه الملامح ثم ابتسمت قائلة: بس رياض شبه حضرتك أوي.
فقالت: شبهي! لا! ده شبه المرحوم أبوه.
فتابعت حبيبة النظر بينهما مجددًا وقالت: بس بجد إنتم شبه بعض.
فقال رياض: بلاش المنطقة دي يا حبيبة، نادية ممكن تسمحلك بأي حاجة إلا إنك تقولي إني مش شبه بابا الله يرحمه.
فابتسمت حبيبة قائلة: واضح إنه كان غالي أوي.
فقالت نادية بابتسامة ناظرة أمامها: كان! ده طول عمره غالي ولا يوم من أيامك يا رياض.
كانت حبيبة تنظر لملامح نادية العاشقة وهي تتحدث وإلى عينيها اللامعتين والدمع يهدد بالهبوط في أي لحظة من أثر الشوق والحنين، ذلك المشهد و تلك النظرة تذكرها بأمها كلما تحدثت عن أبيها، فبدأت تتلاشى ابتسامة حبيبة تشرد وتغوص في عالمها المعقد.
لاحظ رياض وهاجر تبدّل حالة حبيبة وأدركا لأين شردت، وانتهزت نادية فرصة شرود حبيبة الذي تفسره على هواها وجذبت بهدوء وخفة مشبك الشعر من شعرها قليلًا ليصبح شبه ساقط من شعرها.
ثم قالت لها: ولو مش مصدقة إن رياض شبه أبوه قومي شوفي الصور اللي عل حيطة وإنتِ تلاقي إن رياض فولة واتقسمت من أبوه الله يرحمه، قمر حبيب قلب أمه.
فحدق رياض بأمه قائلًا بتحذير: ماما!
فأومأت له بوجهها أن اسكت، فهمت حبيبة لتنهض واقفة تشاهد تلك الصور فجذبت نادية مشبك الشعر وكأنه قد سقط وحده وشد شعرها، فتأوهت حبيبة بهدوء: آي آي، إيه ده!
قالتها واضعة يدها على شعرها جاذبة المشبك وتفكه من باقي الشعر الملتف حوله لينسدل شعر حبيبة على ظهرها فيظهر طوله ونعومته التي لم تكن بذلك الوضوح من قبل، فهي طوال الوقت تجمعه للخلف بمشبك أو على هيئة كعكة.
فوقفت جوارها نادية بإنبهار وهي تمسد على شعرها قائلة: الله أكبر ما شاء الله!
فابتسمت لها حبيبة بحرج وقد اشتدت حمرة وجنتيها جامعة شعرها من جديد.
بينما رياض فيبدو أنه كان خارج نطاق الخدمة، فبالفعل تلك أول مرة ينسدل شعرها أمامه هكذا فتاجها هذا يزيدها جمالًا بشكل سيصيبه بالانهيار وأوشك على أن تنفلت سيطرته على نفسه.
فابتسمت نادية وأعجبت كثيرًا من هيئة ابنها وأيضًا وقد تأكدت من جمال شعر حبيبة، فقالت: ويا ترى يا حبيبتي بتعملي إيه ف شعرك عشان يبقى ما شاء الله كده، الله أكبر ربنا يحميكِ!
فقالت: ولا حاجة هو كده لوحده هاجر اللي بتروح للكوافير على طول.
فقالت نادية ولازالت تمسد عليه: قصدي يعني بتحافظي عليه إزاي؟ أصل رباب بنتي بعد الحمل والولادة شعرها خف أوي، فلو يعني عندك نصيحة أقولها لها، والله مش قصدي أحسد ولا حاجة!
فقالت: عارفة والله! بصي حضرتك مش عارفة بصراحة بس ممكن طريقة التغذية بأه، أنا باكل بيض وبشرب لبن أساسي مرتين ف اليوم، وطبعًا كام حزمة جرجير.
فوضعت هاجر يدها على فمها وجحظت عيناها من تلقائية حبيبة الغريبة، فمالت نحو ابنة خالتها وهمست لها: حد يقول بياكل بيض مرتين كل يوم! هتفضحينا!
فهمست لها حبيبة: ليه يعني ممنوعات؟!
فقالت: لا متفجرات!
فلكزتها حبيبة بكوعها وهمست لها: إنت كده اللي بتفضحينا.
وهذه المرة كان رياض هو المتابع محاولًا تمالك ضحكه، اتجهت حبيبة نحو الصور المعلقة تشاهدها فاكتشفت فعلًا أن رياض يشبه أباه بل هو نسخة منه فالتفتت حبيبة لنادية قائلة: عندك حق يا طنط، ده نسخة منه.
فقالت: ما بلاش كلمة طنط دي، بتجيبلي كرشة نفس وقولي حاجة تانية.
فابتسمت حبيبة وقالت وهي تضيق عينيها: خلاص هقولك يا ناني.
فضحك رياض وقال: إنتِ كده دخلتِ قلبها من أوسع الأبواب.
فنظرت بعدم فهم، فقالت نادية: هو قالك ولا إيه!
فقالت حبيبة بدهشة وبلاهة: قالي إيه!
فقال رياض وهو يضحك: لا يا ماما ما قُلتش حاجة، دي اجتهادات من الكابتن، أصل ناني ده الدلع اللي كان بابا الله يرحمه بيناديها بيه، شُفتي بأه!
قال الأخيرة موجهًا حديثه إلى حبيبة، فابتسمت وأومأت برأسها أن قد فهمت، فاقتربت منها نادية وجذبتها إليها مجددًا لتجلس جوارها وهي تقول لرياض: قوم يا رياض إعمل ليمون م الحلو بتاعك، حكم رياض عليه ليمون بالنعناع ما تقوليش لعدوك عليه أحسن من أي ليمون ممكن تشربيه ف أي حتة.
فنظرت له حبيبة و تومئ إليه متسائلة إن كان صحيحًا فابتسم لها فقالت: واضح إن ناني راضية عنك عل آخر!
فقالت نادية: أمال! ده الواد الحيلة، حبيب أمه.
فنظر لها رياض يومئ لها بعينه و يكز بأسنانه على شفته السفلى بتحذير لتسكت فألقت إليه بقبلة في الهواء فضحكت منهما حبيبة...
(الفصل الخامس عشر) والسادس عشر
بقلم نهال عبدالواحد
وبينما رياض متجهًا نحو المطبخ لصنع العصير إذ رنَّ جرس الباب، فاتجه ليفتح فإذا بها أخته رباب ممسكة بيدها ابنها عليّ وطارق زوجها حاملًا ابنتهما عالية.
فسلّم عليهم واستقبلهم بوجهه الباش وتعلّق الطفلان برقبة خالهما وهو من ناحيته حملهما، أخذ يمزح ويلعب معهما وحبيبة تتابعه بعينيها مرسومًا على وجهها ابتسامة تلقائية لا تشعر بها.
كانت رباب تشبه رياض في ملامحه بعض الشيء، فبمجرد رؤيتهما معًا تتعرف من تلقاء نفسك عليهما كأخوان فبشرتها فاتحة وعيناها داكنتان مثله لكنها أقل في القامة، أما طارق فيشبه إيهاب لكن جسده يميل للبدانة قليلًا خاصةً ذلك الكرش الرجولي!
حقيقةً ذلك الرباعي رياض، رباب، طارق وإيهاب يشتركون جميعًا في نفس الملامح، ويسهل الحكم عليهم كونهم من نفس العائلة.
دخلت رباب تعانق أمها كالعادة وسلّم طارق على نادية مقبّلًا جبهتها، ثم انتبها لوجود هاجر وحبيبة، اتجه نظر رباب وطارق نحو حبيبة بعد إيماءة صغيرة من نادية.
كانت رباب تتفحصها بنظرها هي الأخرى بسعادة أيضًا، خاصةً وكانت عينا حبيبة متمركزةً ناحية رياض، لعبه ومرحه مع أبناء أخته، فهذا جانب جديد لم تراه فيه من قبل، كشخص سياسي في تعامله مع الأطفال وبحب، حقيقةً اليوم بأكمله هي ترى رياضًا آخر غير الذي تعرفه منذ عدة أشهر، أم أنها لم تحاول معرفته أصلًا؛ دائمًا تصنع الحدود والعراقيل وتحول دون اقتراب أي كائن من معشر الرجال.
قالت رباب: مش تعرفنا يا رياض على الجماعة!
صاحت نادية بسعادة: دي هاجر، والبيضة أوي القمر دي حبيبة، جيرانا الجداد هيأجروا الشقة.
صعق رياض من وصف أمه الصريح لحبيبة، وأيضًا حبيبة ازدادت حمرة وجنتيها من ذلك الوصف، وبدا عليها التوتر وبدأت عيناها تزوغ في كل اتجاه من الارتباك، حقيقةً هي لا تفهم نفسها اليوم ولا تدري ماذا أصابها!
فقد اعتادت على التبلد والقوة في أي موقف، لكن ماذا بها اليوم وقد تحولت فجأة لفتاة رقيقة تتحرج من أي كلمة وأي تعبير ! وكأنها أصبحت فتاة طبيعية!
فقالت رباب بسعادة هي الأخرى: وأنا أقول البيت منور إنهاردة كده ليه؟!
أومأت حبيبة على استحياء: منور بصحابه، إتشرفت بمعرفتكم والله!
فقالت نادية: لا ولسه لما تسكنوا هنبقى مع بعض، زي ما أنتِ شايفة أنا ست وحدانية ورياض بيخرج م الصبح وما بيرجعش إلا نص الليل، يعني لوحدي اليوم كله، قليل أوي لما بيجي عل غدا، عشان كده تلاقيني دايمًا عند رباب أو هي عندي.
ثم قالت: إن شاء الله يتغير قريب ويلبد هنا اليوم كله.
ثم ضحكت...
فنظر رياض لأمه نظرة تحذيرية من جديد محرّكًا فمه بلا صوت بقول: ماما!
فقالت هاجر لتغير الموضوع خاصةً وكتلة الحمرة الواقفة جوارها على غير العادة: بصراحة حضرتك إحنا بنشتغل برضو وبننزل الساعة اتنين وبنرجع ع الساعة حداشر تقريبًا، يعني مش زي ما حضرتك متصورة.
فقالت بتساؤل: ليه؟ إنتوا بتشتغلوا إيه؟!
فقالت حبيبة: بنقدم الطلبات في مطعم وكافيه.
فتدخل رياض قائلًا: بتاع مصطفى صاحبي يا ماما، وأنا عرفتهم من هناك.
فسكتت نادية قليلًا ثم قالت بتنهيدة: شغلانة صعبة وتعرضكم للمرمطة، بنتين زيكم وسط الناس وتروحوا وتيجيوا!
فقالت حبيبة مع بعض الشرود وكأنها بدأت تغوص في ذكرياتها: أهي شغلانة نصرف بيها على نفسنا، إحنا لوحدنا وما لناش حد، وده السبب اللي خلاني أدور على لعبة دفاعية.
فأومأت نادية برأسها بتفهم وقالت: عشان كده بأه دخلتِ ف موضوع الملاكمة!
فأومأت حبيبة برأسها، فرفعت رباب حاجبيها وقالت بابتسامة ماكرة: يبقى دي الكابتن اللي بتهد حيلك وبترقعك كل علقة وعلقة!
فانفجر الجميع في الضحك مجددًا، بعكس رياض الذي بدا عليه الغضب قائلًا محاولًا السيطرة على نفسه: حلو أوي ده! عملتوني نكتة خلاص! وبعدين إيه بترقعك علقة دي! إسمها بتدربني كتير، بتشد عليّ ف التمرين.
فأمسكت حبيبة خديها من جديد لتسيطر على ضحكها، ثم قالت: أنا سعيدة بمعرفتكم ونتقابل مرة تانية إن شاء الله.
فنهضت نادية متجهة نحوها قائلة: على فين؟ هو أنا لحقت أشبع منك!
فابتسمت حبيبة بود وقالت بهدوء: معلش حضرتك الأيام جاية كتير وهتزهقي منا.
فأسرعت نادية قائلة: لا ده إنتِ حتى دخلتِ قلبي واتربعتي فيه!
فقالت هاجر: يادوب عشان ميعاد الشفت بتاعنا قرّب.
فسلمت عليهما نادية ورباب وشددت نادية في عناقها لحبيبة رغم كل نظرات رياض التحذيرية لها، ثم انحنت حبيبة تسلّم على الطفلين، وما أن همت بالخروج حتى ناداها رياض: حبيبة.
فالتفتت نحوه، فاقترب بضع خطوات ثم قال مسبلًا بنظراته: ممكن رقم تليفونك، عشان يعني لما الشقة تجهز أتصل بيكِ وأبلغكم يعني.
كان يتحدث بارتباكٍ واضح، عينيه مسلطتين مباشرةً داخل عينيها، والغريب أنها لم تعترض وأعطته رقمها بالفعل.
كانت حبيبة تحاول السيطرة هي الأخرى على توترها وخجلها الزائد اليوم خاصةً وهي تشعر أن نظراته هذه تخترقها بشكلٍ غريب، هي اليوم تشعر بالكثير من المشاعر الغريبة والمتضاربة! حتى لم يفطن أحدهما لتقلص المسافة بينهما وأنهما قريبان للغاية.
كان رياض على حاله هذا وإحدى يديه جانبه...
وفجأة!
قضم كفه أحد الطفلين فصرخ رياض فجأة صرخة مدوية كادت تصيب حبيبة بالصمم؛ فأذنها كانت قريبة للغاية من فمه، فصرخت فيه هي الأخرى وهي تهز رأسها مدلك أذنيها: إيه ده! هطّرش! في حد يعمل كده!
فجذب يده بسرعة ملتفتًا لمن حوله وهم ما بين ضاحكٍ وناظرٍ بنظراتٍ مسلية، فوزّع عليهم جميعًا نظراتٍ تحذيرية، ثم قال موجّهًا حديثه لأخته: عجبك عمايل عيالك دي! معلماهم العض كمان!
فضحكت قائلة: وأنا مالي دي جينات! أصلهم بيقولوا عني إني كنت غضاضة وأنا صغيرة.
قالت الأخيرة بنبرة مسكنة مصطنعة.
فأومأ برأسه قائلًا: صبرك عليّ بس!
فاستأذنت هاجر جاذبة ذراع ابنة خالتها تتأبطها قبل أن يحدث مزيد من المواقف التي لا تنتهي.
وبعد انصراف الفتاتين، توجه رياض نحوهم جميعًا ثم ضم ساعديه أمام صدره موزعًا نظراته عليهم ثم قال: مالكم! إيه العمايل والفضايح دي! حد مسلّطكم عليّ إنهاردة!
فابتسمت رباب: جرى إيه يا رياض ما بتهزرش ولا إيه!
فرفع حاجبيه بنفاذ صبر متأففًا وناظرًا لأعلى، لتقول نادية هي الأخرى : طب والله لطاف وقعدتهم حلوة!
فتوجه رياض لأمه قائلًا بغيظ: وإيه بأه الحركات اللي كنتِ بتعمليها دي!
فقالت بعدم فهم مصطنع: إيه عملت إيه! كل ده عشان حضنتها و بوستها!
فقال بتعجب : حضنتيها و بوستيها ! يا أمي ده إنت نازلة فيها تفعيص و حاجة....
ثم انتبه ناحية طارق الذي قد مال إلى جانبه من شدة الضحك.
فصاح رياض بغضب: هتتفضل معايا ولا هتخليك تكمل ضحك! مسكتم الزغزغة كلكم إنهاردة!
فقال له: مالك يا عم؟ ما تفكها كده وخليك حلو.
فنظر له رياض شرزًا وهو يتجه نحو باب الشقة، فنهض طارق وقال: جاي أهو، أنا أصلًا كنت مستعجل طلعت بس عشان أسلم على ست الحبايب.
ثم انحنى مقبّلًا رأس نادية ولا زال لا يتمالك نفسه من الضحك، ففتح رياض الباب وانطلق إلى الخارج، وبمجرد خروجه انفجر الجميع ضاحكًا.
فقال طارق وهو يسلم على زوجته: كفاية كده عشان أخوكِ شايط و هيولع فينا كلنا.
ثم انصرف، اقتربت رباب من أمها وكانتا على حالتهما من شدة الضحك والقهقهة، ثم جلست جانب أمها وقالت: إيه النظام!
فقالت نادية مبتسمة: زي ما توقعت، أخوكِ واقع! كنت شاكة من فترة سرحان على طول، لا وبيكلم نفسه ولما أسأله يقولي لا ده أنا بفكر بصوت عالي، وكان نفسي أعرف مين هي من غير ما يحس إني واخدة بالي من حالته، وأهي جت منه هو والحمد لله.
فصفّقت رباب وقالت: يا نادية يا جامدة! مش سهلة إنتِ! خِطرة أوي!
قالت الأخيرة بطريقة درامية وهي تغمز إليها بإحدى عينيها، ثم قالت متنهدة بارتياح: بصراحة البنت قمر ودخلت قلبي وشكلها بنت ناس بس فيها حاجة كده، هو رياض قالي إنهم بنتين وحدانيين كل أهلهم متوفيين، غير بس هي حكاية شغلها في المطعم دي، ودي مقدور عليها أكيد رياض هيقعدها ف البيت بعد الجواز.
فقالت رباب: كأنك تايهة عن رياض يا ماما! ده عدوه الجواز، وهيآوحك إن مفيش حاجة وإنه هيفضل عازب وتحيا العزوبية وكل الشريط اللي حافظينه كلنا ده!
فقالت الأم: كل مرة بنعرفه على واحدة كعروسة، لكن المرة دي دخلت قلبه وربعت يعني ما بآش فيها مقاومة ولا كلام، لا وهو اللي جايبها بنفسه يعرفها علينا، يبقى إيه!
- يا ماما ابنك مش هيسلم بالسهولة دي، وهيفضل يناهد فينا ويوجع قلبنا وينكر أي حاجة.
فقالت الأم ناظرة أمامها في نظرة بعيدة: هو بس محتاج لقعدة مع نفسه، وأهي جاية لوحدها، هو ومسافر و هي ومسافرة وهيبعدوا عن بعض فترة، والفترة دي هي الحكم بعون الله...
*"
(الفصل السادس عشر)
بقلم نهال عبدالواحد
خرجت حبيبة متأبطة هاجر تتجهان إلى المطعم بعد غياب حبيبة؛ فموعد فترة عملهما قد اقترب.
كانت هناك ابتسامة غريبة عفوية مرسومة على وجه حبيبة، ربما لم تنتبه هي نفسها إليها، فمثلما اللسان مغرفة القلب فإن ملامح الوجه وتعبيراته أيضًا مغرفة القلب حتى ولو رغمًا عنك!
فكثيرًا ما يبدو قلقك وحزنك على تعابير وجهك حتى ولو لم تُفصح ومهما بلغت بك قدراتك على إخفاءها، فأيضًا تبدو السعادة على الوجه حتى وإن لم يقصد صاحبها إظهارها.
كانت هاجر متابعة كل تلك التغييرات الطارئة على حبيبة وتجيد تفسيرها تمامًا، لكنها في نفس الوقت لا تقوى على مواجهة حبيبة بها، فهي متأكدة أنها على أقل تقدير ستنفي وتكابر بل ربما لتحدث مشاداة بينهما وخلاف جديد لا طاقة لها به، إذن فأسلم حل هو الانتظار، تنتظرها حتى تحين اللحظة التي تروقها لتحكي لها مكنونات قلبها، وإن كان ذلك الحدث قد أسعد هاجر، أن أحدهم قد نجح وحرّك شعورها وإحتل قلبها.
لكن حبيبة نفسها لم يصل إدراكها لتلك النقطة، فهي حتى الآن تجهل تفسير حالتها، تشعر فقط بتغير ينتابها ومؤثرات تؤثر فيها لكن دون أن تدرك معناها ولا ماهيتها، ربما لم يصل عقلها لذلك أو بمعنى أدق لا زال العقل يرفض مثل تلك الأمور، بالتالي لم يتمكن بعد من ترجمة ما يحدث، بل أكاد أُجزم أنها حتى ولو وصلت لتلك الترجمة فسترفضها وتجاهد نفسها لتتخلص منها مهما بلغت العواقب!
والوضع لم يختلف مع رياض فلا زال هو الآخر ينفي مثل تلك التفسيرات رغم أن كل الشواهد تقول العكس تمامًا، لكن ماذا نقول عن العناد خاصةً بغير وجه حق؟!
وكان يشعر دائمًا أنه محاصر وإن كانت المحاصرة بمجرد نظرات تجمع بين المكر والتسلية وأحيانًا ذات شفقة!
فيهرب من نظرات أمه ليجد أخته فيهرب منهما ليجد إيهاب وطارق وإن هرب من كل هؤلاء وتصادف وقابل مصطفى يرى منه ومن زوجته أيضًا، فلم يتحدث إليه أحدهم بعد أو حتى يلمحوا له بأي شيء، الكل منتظر اللحظة الحاسمة.
لكنه لا زال عند موقفه ولا يزال معتقدًا أنه مجرد موقف شهامة ورجولة يقف به جوار فتاة وحيدة بل وجديرة أن تجد من يدعمها ويساعدها.
وها هو يثبت لنفسه وللجميع موقفه؛ فلم يتصل بها إطلاقًا إلا عندما انتهى من إعداد الشقة كما وعدها!
بدأت بالفعل هاجر وحبيبة تنقلان أشياءهما إلى السكن الجديد، وافقتا على استخدام الأجهزة الموجودة بالشقة وبعض قطع الأثاث التي كانت أفضل حالًا من خاصتهما .
وبدأت الفتاتات مرحلة ترتيب السكن الجديد وكانت تصاحبهما نادية معظم الوقت وإن تصادف وجود رباب عند أمها كانت تشاركهن أيضًا.
كانت نادية متعجبة من حال إبنها؛ فقد خالف كل توقعاتها فلا زال يخرج منذ الصباح ولا يعود إلا مساءً، لم تجده مثلًا يتصل بها ولا يقف في إحدى النوافذ أو الشرفة ليتطلع إلى بنت الجيران!
أما عن حبيبة فصارت منشغلة بتدريباتها أكثر الوقت حتى إنها قدّمت على إجازة ولم تعد تذهب لعملها؛ فوقتها ما بين التدريب الشاق وإعداد بعض الأوراق ولوازم السفر، لكن لم يمنع أنها كانت كثيرًا ما تلمحه يتسلل مسرعًا في الصباح ليخرج كأنه يهرب ويخشى أن يراه أحد، أو في الليل كانت حينًا وهي واقفة في النافذة قبيل نومها تراه قادمًا وأيضًا يدخل البيت مسرعًا، وبالرغم أن كل ذلك لم يستوقفها كثيرًا إلا أنها صارت تعاني من وجود فراغ في حياتها، أيعقل أن يكون هو المتسبب في هذا الشعور؟! أيعقل مثلًا أنها تفتقده؟!
في حين هاجر كانت هي التي تذهب إلى العمل وفي حال تواجدها بالبيت تجالسها نادية فقد ألفت الفتاتين وصارت لهما بمثابة أُمًّا؛ لذلك صار موقف ابنها يغضبها من داخلها فلم تجد لعناده أي مبرر.
وذات يوم ذهبت حبيبة إلى السيد مصطفى في المحل لتودّعه قبل سفرها، فطرقت باب مكتبه وكانت مرتدية ملابس شبابية عادية غير زي العمل، فأذن لها ودلفت إليه.
وقد تصادف وقتها جلوس رياض معه، وما أن دخلت الحجرة ولمحت رياض حتى وجمت وتصنّمت مكانها بعض الوقت، وبعد قليل استعادت رشدها وألقت التحية فجاءها رده على تحيتها ببرودٍ شديد لم تعهده منه وحتى دون أن يلتفت إليها، تُرى أين ذلك الوجه الباش الذي مهما فعلت كانت تجده ؟!
أين نظرة الاهتمام المميزة التي كانت لا تراها إلا منه؟!
نظرة مختلفة بحق، إختلفت في تفسيرها وإعطاءها مسمى، لكن ما الفارق إن كانت افتقدتها؟
ماذا؟ أتقول افتقدتها؟!
لا، مؤكد أي شيء وأي مسمى آخر لكنه ليس افتقاد، تراه لماذا يؤرقني جفاءه وطريقته وهو أصلًا لا يعنيني ولا يهمني! فهو في النهاية رجل وجميع الرجال متشابهين ولهم نفس الطبيعة، هو مؤكد كان يريد التسلية لكنه قد فشل بل وفشل فشلاً ذريعًا.
لكنه لم يظهر ذلك يومًا، ولم أري منه إلا الشهامة والمعاملة اللطيفة مهما بلغت فظاظتي المتعمدة، حتى لم أرى في عينيه تلك النظرة الحيوانية أو نظرات التهكم والسخرية التي كنت أراها في عيون غيره من الرجال ، بل لا تنكري أنك كنتِ تنتظرين له خطأً ، أي خطأ لتنالي منه... لكنه لم يفعل!
هكذا كانت تحدث نفسها داخل عقلها، فتجاهلته هي الأخرى؛ فهي لم تقصده في الأساس، واتجهت نحو مصطفى.
الذي قال: خلاص يا بيبو آن الأوان!
فأومأت برأسها وقالت بهدوء: أشوف وشك بخير.
- هتوحشينا والله يا بيبو! بقولك إيه عايزك ترجعي بكام ميدالية كده.
- ياريت والله! ربنا يوفقني يارب وأقدر أحصّل ولو ميدالية واحدة! نفسي أوي ف واحدة ذهبية، مش هوصي حضرتك على هاجر.
قالت الأخيرة على استحياء وهي تنظر أرضًا، فنهض واقفًا واضعًا يديه في جيبيه ثم قال بابتسامة: عيب عليكِ ده إنتو إخواتي.
- وده العشم ربنا يعلم والله! إن حضرتك عندنا زي أخونا مع حفظ المقامات يعني.
فرفع أحد حاجبيه باستنكار قائلًا: مقامات إيه إن شاء الله! خلي بالك من نفسك كويس، كنت عايز أوصلك المطار.
- ألف شكر لحضرتك، أنا هركب مع باقي الفريق لحد المطار إن شاء الله.
كان مصطفى يتجه نحوها ببعض الخطوات فمدت يدها لتصافحه قبل أن تخرج، فصافحها لكنها شعرت بملمس الأوراق النقدية في يده، فاتسعت حدقتاها وهي تومئ إيماءة خفية أن لا، ليومئ لها بعينه بل نعم وليس أمامها إلا أن تقبل المال، فابتسمت له وهي تسحب يدها بما فيها من مبلغ مالي و تومئ إليه بسعادة وامتنان.
كان عليها أن تذهب الآن وكانت منذ أن دلفت للحجرة و هي تنظر ناحية رياض بطرف عينها تنتظر منه أي ردة فعل أو حتى كلمة وداع، لكنه لم يتحرك ببنت حركة كأن على رأسه الطير بل ربما لم يطرف جفنه ولم ينطق بأي حرف.
بعد أن صافحت مصطفى واستأذنت لتخرج التفت في إتجاه باب الحجرة لكن ظلت واقفة في مكانها بعض الوقت؛ ربما ينهض رياض يسلّم عليها ويودعها.
لكن مع كل أسف لم يحدث أي شيء وظل جالسًا مكانه دون حراك ، فشعرت بتجمع الدموع في عينيها ولا تدري لماذا!
كل ما تعيه جيدًا أنها قد طُعنت في كرامتها من لامبالاته هذه وعدم اكتراثه بها وأن عليها الإنصراف فورًا فيكفي ما أُهدر من كرامتها أمامه وكأنما تتسول منه السلام والوداع.
وفي لحظات كانت قد اتجهت ناحية الباب وخرجت مسرعة تطوي أرض المحل طيًّا بأقصى ما أوتيت من سرعة لتبتعد عن هذه المكان المتواجد فيه.
ومع غلقة الباب خلفها أغلق رياض عينيه بقوة مبتلعًا ريقه بمرارةٍ وحزنٍ ظاهرين، فتح أزرار قميصه العلوية ملتقطًا أنفاسه وهيئته متعبة حقًا، وكان مصطفى مسلطًا أنظاره عليه بحيرة وعدم فهم.
وبعد مرور بعض الوقت على تلك الحالة بادر مصطفى قائلًا:...
تكملة الرواية بعد قليل
جاري كتابة الفصل الجديد للروايه حصريا لقصر الروايات اترك تعليق ليصلك كل جديد أو عاود زيارتنا الليله
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا