القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية هل الضربة قاضية الفصل الخامس والثلاثون والسادس والثلاثون والسابع والثلاثون والثامن والثلاثون بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)

 رواية هل الضربة قاضية الفصل  الخامس والثلاثون والسادس والثلاثون والسابع والثلاثون والثامن والثلاثون بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)




رواية هل الضربة قاضية الفصل  الخامس والثلاثون والسادس والثلاثون والسابع والثلاثون والثامن والثلاثون بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)


(الفصل الخامس والثلاثين)



جلست العمة قوت بصحبة أبناء أخيها في جلسة ودية لم تجلسها منذ زمنٍ بين المزحات والضحكات، وبعد فترة صعدت الثلاث فتيات إلى غرفهن وكانت في الطابق الأول. 


كانت لكل فتاة غرفة، دخلت حبيبة غرفتها تتأملها بابتسامة راضية وسعادة، فالغرفة كبيرة خشبها من اللون البني الفاتح ذات نقوش هادئة جمعت الستائر المعلّقة بين اللون الهافان والبيج الفاتح ومطعّمة ببعض الخطوط الذهبية، وكذلك السجاد جمع بين الهافان والبيج والقليل من اللون الزيتوني. 


كانت تتلفت حولها وتشاهد كل تفصيلةٍ وإنشٍ فيها بسعادة بالغة ثم جاءتها أختها شاهندة تساعدها في وضع أشياءها وتتأكد من رضاءها عن الغرفة. 


أما هاجر فكانت غرفتها من اللون البني الداكن وأيضًا هادئة النقوش، ستائرها جمعت بين اللون البنفسجي الفاتح واللون البيج الفاتح ومطعمة ببعض الخيوط الذهبية أيضًا، وكذلك السجاد يجمع بين اللون البيج والبنفسجي. 


سعدت هاجر بالغرفة وأحبتها كثيرًا ثم همّت بوضع أشياءها فسمعت صوت طرق الباب فذهبت لتفتح فوجدت العمة قوت فابتسمت لها قائلة بأدبٍ جمّ: إتفضلي يا عمتو.


فابتسمت قوت وقد ازداد إعجابها بهاجر وأسلوب كلامها وقالت: لا يا حبيبتي، تسمحي إنتِ اللي تتفضلي معايا. 


فاختفت ابتسامتها قليلًا لكنها حاولت إعادتها، فتابعت قوت: ما تخافيش يا حبيبتي إنتِ قلقتِ كده ليه؟!


قالتها و هي تربت عليها بحنان، فلم تجد هاجر بدًا إلا وأن تغلق الغرفة وتتبعها. 


صعدت قوت وخلفها هاجر ببعض التوجس والريبة إلى الطابق الثاني، وكان يحتوي على غرف قوت، رأفت ونبيل. 


وصلت قوت أمام غرفة ثم التفتت إلى هاجر قائلة بهدوء: انتظريني ثواني. 


طرقت الباب ثم دخلت وأغلقته خلفها، ظلت هاجر واقفة تفكر فيما تريده هذه العمة، لكن كان نبيل في هذه اللحظة يصعد الدرج ليذهب إلى غرفته فوجد هاجر فاتسعت ابتسامته، وعندما لمحته ازداد توترها واشتدت ضربات قلبها حتى إنها قد وضعت يدها على صدرها وتنفست متوالية، لكنه وقف إلى جوارها، أجل هو جوارها تمامًا تفصلهما مجرد سنتيمتراتٍ قليلة، تشتم رائحة عطره الرجولي التي تعشقها، شعرت الآن أنها في حالة من الانهيار التام، وأن صوت قلبها هذا يتزايد أكثر وأكثر لدرجة أن صوت قلبها مسموعًا، لم تتوقع أن ما تسمعه ليس صوت قلبها وحده بل مزيج من لحنٍ يعزفه قلبيهما معًا ببراعة. 


وبعد قليل فتحت قوت الباب فتفاجأت بوقوف نبيل الذي ابتسم لعمته بمجرد رؤيتها لها، فنظرت بينهما متبينة اضطرابهما ثم أفسحت لهما الطريق مشيرة بيدها قائلة: إتفضلوا. 


فدخلت هاجر بهدوء وبعض التوتر ودخل نبيل خلفها ثم تقدم ليسير جوارها. 


كانت هذه غرفة رأفت وكانت كبيرة للغاية، خشبها ممتلئًا بالنقوش وذات لونٍ ذهبي، ستائرها من اللون القرمزي المطعم باللون الذهبي وكذلك السجاد. 


كان رأفت جالسًا على إحدى كراسي الصالون الملحق بالغرفة وكان أيضًا ذهبي اللون وقماشه جمع بين القرمزي والزيتوني. 


وما أن دخلت هاجر حتى نهض واقفًا فقد هبت فيه اليوم العافية بمجرد أن وطأت حبيبة قدمها إلى داخل القصر والذي كان يقف في الأعلى يستقبلها بعينيه ويملئ نظره بصورتها وأذنه بصوتها وضحكاتها. 


كان يتأمل هاجر وملامحها الجميلة التي تتشابه مع ملامح أمها وخالتها الحبيبة، هناء حبيبة العمر، من دقّ لها قلبه وتحرّكت لها مشاعره، وجرى عشقها في دمه.


شرد في ملامحها بعض الوقت وعلى وجهه ابتسامة صافية أنارت وجهه قد أراحت نبيل كثيرًا؛ فلم يذكر متى كانت آخر مرة يرى والده بهذا الهدوء والبهجة. 


قال رأفت وهو مادًّا يمينه: أهلًا بالغالية وبنت الغاليين وريحة الغاليين. 


فنظرت هاجر إلى نبيل الذي أومأ لها بعينه مشجعًا، فتحركت نحو رأفت وبدأت تنبت على ثغرها ابتسامة هادئة، وصلت أمامه مباشرة مادّةً يدها مصافحة له قائلة: أهلًا بحضرتك يا عمي. 


ثم انحنت تقبّل يده احترامًا، فتفاجأ نبيل وقوت من فعلتها ثم ابتسما معجبين بما فعلت. 


ربّت رأفت على كتف هاجر فاعتدلت واقفة، ثم قال لها بنبرة حانية: أديكِ قولتِ يا عمي، يعني إنتِ هنا في بيت عمك، يعني بيتك، يعني تكوني براحتك ورافعة راسك، إنتِ مش عالة على حد، إنت في بيت عمك وولاد عمك، أبوكِ كان أخويا بجد وأكتر من أخويا، وإنتِ بنت أخويا. 


فابتسمت له قائلة: متشكرة لحضرتك جدًا، وربنا يوسع عليكم كمان وكمان ويزيدك شفاء يا عمي. 


فابتسم ثم أمسك بيد الكرسي من خلفه ليجلس فقد أرهقه هذا الوقوف وأشار لهاجر أن تجلس، لكنه انتبه لذلك الواقف جوارها ومتأملها بعيونٍ عاشقة تبثُّ كل مشاعر الحب والهيام، فرفع عينيه ناحية أخته فابتسمت هي الأخرى بإيماءة غير ملحوظة. 


شعرت هاجر بنظراته التي تتأملها وكل نظرة شوق وحب وصلت إلى قلبها مباشرةً، تبًا لهذا القلب! لم تعد تتحمل كل هذه الضربات، شعرت بأن الجميع يشاهدها وقد كشف أمرها كأنه مكتوبٌ على جبهتها «عاشقة نبيل» لم تعلم أنها أيضًا معشوقته، بل شعرت وأدركت لكن في نفس الوقت ظنت نفسها متوهمة... يا إلهي! ويا ويلي من هذا التشابك بين كل المشاعر والأحاسيس!


حاولت التخلص من كل هذا فابتلعت ريقها ثم قالت ببعض التأثر: مش عايزة حضرتك تزعل يا عمي من حبيبة ولا تشيل منها عشان يعني الشرط اللي إتفقوا عليه، والله حبيبة طيبة وقلبها أبيض! بس هي تعبت كتير وشالت كتير أوي! ووالله اتغيرت أوي! عشان كده أنا متفائلة خير و قريب جدًا إن شاء الله. 


فابتسم رأفت وقال: مين ده اللي يزعل؟! حبيبة دي بنتي! ومش أي بنت دي بنت حبيبتي، عارف إنها عانت واتحملت اللي ما تتحملوش بنت في سنها، لكن ما تنكريش إن كل ده خلق منها شخصية قوية ورائعة زي شخصيتها اللي بالطبع عارفاها أكتر مني، وهي دي تدابير المولى، بيحطنا في ابتلاءات ويمنع عنا حاجات مين عارف لو ما كانتش حصلت كان حصل كوارث ، لكن نقول الحمد لله يا رب، الحمد لله في السراء والضراء، الحمد لله على نعمك الكتير وحتى منعك نعم. 


فقالت هاجر: ونعم بالله. 


فأكمل رأفت: أنا كمان متفائل خير، بمجرد وجود بنتي في البيت قمت وقفت واتحركت، إسأليهم كنت راقد في السرير ما بتحركش، الحمد لله!


فقالت: الحمد لله! ربنا يتم نعمته عليك و يزيدك شفاء يارب!


فابتسم لها وقال: آمين. 


فقالت قوت: سمعت إنكم هتنزلوا الشغل قريب مع نبيل. 


فأومأت برأسها وقالت: إن شاء الله، مع إني مش عارفة حاجة ولا عارفة هشتغل إيه ولا إزاي!


فقال نبيل بنفس حالته المتيمة: ولا تشغلي بالك أنا هعلمك كل حاجة بنفسي. 


ثم تنحنح وقال ناظرًا لأبيه وعمته المتابعَين له: هعلمكم كلكم، ما شاهي كمان اتشجعت وهتنزل الشغل معاهم. 


فقالت هاجر بتوتر: بس أنا ما اعرفش أي لغات. 


فأسرع نبيل قائلًا: هعلمك، قصدي وعمتو كمان هتعلمك. 


فابتسمت قائلة: طبعًا يا حبيبتي،  أنا بعرف إنجليزي وفرنساوي وإيطالي وطبعًا ألماني عشان كنت عايشة في ألمانيا، طب وحبيبة؟


فأجابت هاجر: لا حبيبة بتعرف عشان كانت بتسافر برة، تعرف إنجليزي وأسباني وكانت بتتعلم فرنساوي. 


فأعجبت قوت قائلة: برافو!


فتابع رأفت بفخر: بنت أبوها بصحيح. 


ثم نظر ناحية ابنه الذي لا يزال هائمًا بها، فتذكر نفسه منذ سنواتٍ طويلة كيف بدأت حالة حبه! وكيف هامَ بحبيبته؟ يبدو أن القدر قد كتب لابنه مشاعر الحب ليحيا بها بعد حياته الجامدة منذ سنواتٍ طويلة التي لا يمكن أن يُطلق عليها حياة، لكنه لم يقف أمام حياته مثلما حدث معه في الماضي. 


جلسوا جميعًا بعض الوقت ثم انصرفت هاجر متجهة إلى غرفتها.


مرت الأيام والقصر هادئًا صار يُسمع فيه أصوات ضحكات الفتيات وتصاحبهن عمتهن فشعرت بنفسها  تستعيد شبابها بجلوسها ومزاحها معهن، حتى نبيل كان يحاول المجئ باكرًا من العمل ليشاركهم مزحاتهن وسمرهن وكشفت حبيبة عن خفة ظلٍ لا مثيل لها، أما هاجر فكانت تتحفظ بوضوح وقت حضور نبيل.


كان نبيل أخًا رائعًا حنونًا بل وصار يمزح، يضحك ويعبث مع أختيه كأنما عاد طفلًا صغيرًا، خاصةً حين يقذف بهن في حمام السباحة، بينما هاجر تتابع من بعيد فيزداد عشقها لهذا النبيل. 


كانت قوت ورأفت سعيدَين بالحالة العامة للبيت ولهذا التغير الرائع لنبيل فقد كان عبارة آلة تعمل فقط بعملية شديدة بلا روح ولا شعور؛ فمن أين يأتياه الروح والشعور وقد أُجبر من الزواج من ابنة عمه بلا وفاقٍ أو رغبة، وجاءت أفعالها الباردة وهجرها المستمر له لتكمل عليه وتحوله إلى شخصٍ متبلدٍ عديم الإحساس والشعور سوى بالعمل والواجبات فقط!


ذهبت الفتيات إلى الشركة وقد تعلمنّ الكثير وسعد نبيل بتقدمهنّ وسرعة تعلمهنّ، خاصةً هاجر والتي جعلها السكرتيرة الخاصة له، لكنهما لم يتعاملا إطلاقًا خارج نطاق العمل، فلم يبث أحدهما إحساسه ولم يبوح أيهما بشعوره إلا من العيون التي تفضح النظرات مهما خبّأها صاحبها فهي أبلغ من أي لغة بين العاشقين. 


أما حبيبة فكانت تستيقظ باكرًا لتتريض في حديقة القصر ثم تدخل غرفة الرياضة لتكمل التمارين الخاصة بالأوزان، وكان رأفت يشاهدها يوميًا من خلف نافذة غرفته ويسعد بها، بل وأحيانًا يتسلل نحو غرفتها بعد منتصف الليل فيفتح الباب ويلمحها وهي نائمة ويتمنى لو دخل وقبّلها قُبلة ما قبل النوم. 


أما حبيبة وبعد مرور فترة شعرت بأنها تشتاق لذلك الأب الذي بالفعل لم تلمحه إطلاقًا ولم يتحدث أحد عنه أمامها مثلما وعدوها، كانت كثيرًا ما تقف أمام صورته تتأملها وأحيانًا أخرى تتسلل فتقف أمام باب غرفته تتلمس بابها وتتمنى لو تفتح هذا الباب، تدلف إليه وترتمي في أحضانه، تُرى كيف يكون شعور الأبوة والحضن الأبوي؟


لكنها تتراجع في آخر لحظة، كان نبيل يراقب هذه التصرفات دون تدخل منه لكنه يرى الأمل يقترب. 


أما هي فلا زالت تذكر آخر لقاء مع الدكتورة سلوى وآخر كلماتٍ قالتها لها...  


- عارفة يا حبيبة، والدي الله يرحمه كان سفير يعني دايمًا مسافر برة، طلعت الدنيا لاقيته مش موجود وبعيد، كبرت واتعودت إنه مش موجود رغم إنه كان لسه عايش على وش الدنيا، لحد ما طلع عل معاش كنت ساعتها كبرت وانشغلت بدراستي والماجستير والدكتوراه وبعد كده اتجوزت وخلفت وانشغلت بحياتي، وحتى لما أروح البيت عندهم زيارة ما عمريش قعدت واتكلمت معاه ولا حتى رميت نفسي في حضنه، بس كنت اتعودت إنه مش موجود، كنت بشوف في عينيه نظرة كده ما اخدتش بالي منها وقتها، بس بعد كده فهمت معناها، كانت نظرة حزن وقهر، عارفة فهمت إمتى؟


وبدأت في البكاء قائلة بصوتٍ مختلط ومحتقن: بعد ما اتوفى! وبأه فعلًا ما لوش وجود، بآيت بشتاقله بتمنى أشوفه وأقعد أكلمه وأفتح قلبي! نفسي أترمي ف حضنه زي البنت الصغيرة!


ثم أخذت نفسًا عميقًا وأكملت: عشان كده باقولك إلحقي اتمتعي بباباكِ قبل فوات الأوان، عشان ما تندميش ندمي. 


و تعود من ذاكرتها هذه وهي لا تدري كيف تبدأ أو تقترب! 


تتذكر رياض وتشتاق إليه ويزداد حنينها له واشتياقها إليه؛ فهي لم تراه منذ ذلك اليوم، لتجد منه رسالة ذات يوم... 


«الوداع لا يقع إلا لمن يعشق بعينه، أما ذاك الذي يحب بروحه وقلبه فلا ثمة انفصال أبدًا.»


(من أقوال جلال الدين الرومي) 


فقرأتها وابتسمت ثم كتبت إليه: «وحشتني يا قلبي.»


فيجيبها كاتبًا: «إنتِ اللي قلبي ومعاكِ قلبي وماليش حبيب غيرك يا أحلى حبيبة، طمنيني عليكِ وأخبارك ؟ عاملة إيه وعايشة إزاي؟!»


-«أجمل أيامي هي اللي جنبك يا إما بلاش، أنا ما اتغيرتش غير ليك وبيك وبآيت متأكدة إن راحتي عمرها ما هتكون غير معاك.»


كان يقرأ ما تكتبه ولا يصدق ما يراه، أهذه حبيبة؟ وهذا كلامها؟! ربما الكتابة دون المواجهة وجهًا لوجه تعطي بعض الجرأة أم بالفعل اشتياقها له قد صنع المعجزات؟! فكتب لها وقلبه يتراقص من السعادة: «وأنا كمان يا حبيبة، عمري ابتدى وياكِ وهيكمل معاكِ يا اللي قلبي ما اتفتحش إلا عليك.» 


- «ياريت أشوفَك قريب!»


- «دي أمنيتي قبل منِّك.»


ومرت أيامًا أخرى ولا زالت الأمور تجري في أعنّتها على ما يرام. 


وذات ليلة بينما كان نبيل جالسًا مع عمته يتسامر إذ دخلت شاهندة، حبيبة وهاجر من الخارج فسلمنّ على العمة وقبّلنها، بينما سلمت الأختان على أخيهما معانقتين له. 


ثم جلسن جميعًا مرسومًا على وجوههن الابتسامات، فقالت العمة: هه يا بنات! أخبار الفساتين إيه!


فقالت شاهندة ضاحكة: أنا مش عارفة ليه يا عمتو ما جتيش معانا تعملي فستان؟! دي حفلة عيد ميلادي أنا وبيبو. 


فضحكت قائلة: يا حبيبتي أنا عندي فساتين كتير جدًا وبحالهم، مش هعمل فساتين جديدة غير على فرحكم. 


فنظر نبيل ناحية هاجر بشوقٍ كبير وواضحٍ للجميع بينما هي توردت وجنتيها خجلًا من نظراته هذه والتي أيضًا واضحة للجميع.


وفجأة! دخل خادم حاملًا حقيبتين سفر وصعد بهما لأعلى فالتفت إليه الجميع في دهشة، لكنها سرعان ما اختفت عندما دخلت صافي بكنزتها وتنورتها الضيقتين والتي تصل إلى فوق ركبتيها وقد غيرت لون شعرها إلى اللون الرمادي وصففته بشكل متموج.


ثم ارتمت على إحدى الكراسي وأشارت للجميع بطرف أصابعها قائلة: هاي! وحشتوني كتير كتير. 


فسألتها لها شاهندة باستنكار: إيه اللون ده؟!


فأجابتها وهي تخلل أصابعها بين خصلاته بميوعة: يجنن مش كده!


فهمست حبيبة لأختها: ومستعجلة تعجز ليه؟! مين دي؟!


قالت الأخيرة بصوتٍ مسموع، فأجابتها شاهندة: صافي بنت عمنا، كانت مسافرة ولسه جاية زي ما إنتِ شايفة. 


فنظرت إليها صافي مشيرة إليها بسبابتها وقالت بتهكم: إنتِ بأه حبيبة!


فأجابتها بضيق محاولة إخفاءه: أيوة، في اعتراض. 


فأومأت برأسها أن لا ثم قالت بنفس تهكمها: أكيد يا طنط قوت إنتِ أكتر واحدة فرحانة بيها عشان شبهك بشكل مرعب. 


فابتسمت قوت لحبيبة وضمتها إلى صدرها بحنان ممسّدة على شعرها ثم قالت: دي حبيبة قلبي دي. 


فابتسمت إليها حبيبة وقبّلتها على وجنتها قائلة: حبيبتي إنتِ يا عمتو. 


فقاطعتهما صافي بسخرية: خلاص خلاص كفاية!


ثم التفتت ناظرة إلى هاجر والتي ما أن رأتها دخلت عليهم حتى انقبض قلبها وشعرت بغصة غريبة في قلبها، فقالت صافي توجه إليها الكلام: وإنتِ تطلعي مين؟ ولا تكونوا طلعتوا بنتين بدل بنت واحدة!


فأجابتها هاجر بضيق: لا أنا بنت خالتها. 


فقهقهت بتهكم ثم قالت بتعالي: الله يرحمك يا جدو! مُت قبل ما تشوف المهزلة دي، شوية عامة عايشين في قصر القاضي باشا. 


فصاح فيها نبيل والذي لم ينطق بحرف منذ دخولها وقد قُبض قلبه هو الآخر، فيبدو أنه قد نساها بل أن الجميع قد نسوها، وبمجرد أن رآها عاد سريعًا إلى جموده، فصاح فيها: كفاية يا صافي! مش مسموح بتعدي أكتر من كده. 


فنظرت شاهندة بين الجميع وحاولت تلطيف الجو قائلة: كنا بنقول إيه! آه يا عمتو، الفساتين تجنن وهنستلمها يوم البارتي الصبح.


فاعتدلت صافي منتبهة ثم قالت: بارتي!

بارتي إيه دي!


فأجابتها شاهندة : بارتي عيد ميلادي أنا وبيبو. 


وضمت أختها إليها وقبلتها على وجنتها.


فقالت صافي بغضب : وإزاي ماتقوليش؟!


فأجابتها بلامبالاة: عادي، ما نعرفش إنك راجعة إنهاردة. 


فنهضت واقفة ممسكة بهاتفها تعبث به وصاحت بغضب: لا طبعًا ما ينفعش كده.


ثم ابتعدت قليلًا تتحدث في الهاتف، بينما حبيبة تهمس إلى شاهندة: أعوذ بالله! ودي الناس بتتعامل معاها إزاي؟! لا لا إزاي الناس بتصرفها! انصرف! انصرف! 


فضحكت شاهندة بشدة من طريقة أختها في السخرية من ابنة عمها، بينما هاجر فقد لاحظت تحول ملامح نبيل وكل شيء فيه وقد عاد أكثر قسوة وجمودًا، ورغم عدم فهمها لشيء إلا أن الغصة لا تزال موجودة بقلبها. 


فاقتربت صافي من جديد آخذ حقيبة يدها ترتديها تهمُّ بالخروج، فنادتها شاهندة: رايحة فين كده؟!


فأجابتها وهي تهندم نفسها مخللة يدها في شعرها تضبطه ناظرة في المرآة: ماجي وصلتلها تشكيلة فساتين هروح أختار واحد للبارتي قبل ما حد يختار قبلي، ولا هحضر البارتي دي إزاي؟!


فقالت العمة: يا بنتي إستهدي بالله! إنتِ لسه راجعة من سفرية طويلة، اقعدي حتى مع جوزك ما يصحش كده! 


فقالت بتهكم : هيروح فين يعني ماهو قاعد أهو! باي بأه!


وسارت بضع خطوات ثم عادت ناحية نبيل وقالت: بقولك يا بيبي، ماجي هتتصل بيك تقولك عل حساب عشان تبعتهولها... يلا باي!


وانصرفت وسط وجوم الجميع لكن وجوم حبيبة وهاجر أشد من أثر خبر كون نبيل متزوجًا، وبالأخص هاجر التي بدت عليها الصدمة.

لكن حبيبة صاحت مسرعة: هو مين اللي

 جوز مين؟!


(الفصل السادس والثلاثين)


بقلم نهال عبدالواحد 


ما أن سمعت هاجر كلمة (جوزك) حتى انخلع قلبها فجأة كأنها قد طُعنت بسكينٍ بارد... يا الله! ما أقساه من شعور!

فرفعت طرف عينها ناحية نبيل تتأكد الخبر وتقرأ انطباعه فوجدته منكّس الرأس بلا ملامح ولا تعابير... 


إذن فقد صدق الخبر! قد أحببت سرابًا، قد وضعتُ قلبي تحت عجلات سيارةٍ مسرعة فدهسته بلا وعي، علمتُ أني لا أجيد السباحة، لكني عاندتُ وألقيتُ بنفسي في يمٍ عميق، إن كانت فعلتها أُمُّ موسى ذات يومٍ، ألقت بطفلٍ لا حول له ولا قوة، لكنه وحيُ الإله!

أن القيه... وإنّا رادّوه إليكِ!

فالعفو منك يا ربِّ أن شبهتُ قلبي بكليمك! والعفو منك يا ربِّ أن ألقيتُ بنفسي في تهلكة! لكنه الحب والهوى! وما أدراك ما الهوى!


يهوي بصاحبه ويغوي به، يلغي عقله، حدسه وانتباهه، ويسير مسحوبًا كالأعمى، لربما الأعمى ملكاته تهديه، لكني حتى لم أكن مثل الأعمى، ربَّ حلّيني بالصبر وأعني، قويني ووفقني، أجتاز محنتي وأملك قلبي!


ظلت في حديثها الداخلي للحظاتٍ ثم أخذت نفسًا عميقًا، فتحت عينيها ونهضت مسرعة إلى غرفتها دون أن تنظر خلفها، وقفت حبيبة فجأة هي الأخرى ونظرت في وجوههم جميعًا ثم أسرعت خلف ابنة خالتها بينما ظلّ الباقون في أماكنهم جالسين دون حراك كأن على رؤوسهم الطير. 


دخلت حبيبة الغرفة على هاجر فوجدتها دافنةً وجهها في وسادتها تبكي بحرقة كأنها لم تبكي طوال حياتها قط! فاقتربت منها سامعة صوت شهقاتها التي أدمت قلبها؛ فهذه أول مرة في عمرها ترى هاجر بهذا الانهيار!


تساقطت دموعها لاإراديًا لا تدري كيف سقطت ولا كيف توقفها! جلست جوارها، ربتت عليها وبمجرد أن لمستها نهضت ودفنت وجهها بين أحضانها في عناقٍ طويل، لا تدري حبيبة ماذا تقول! ولا بماذا تبدأ! 


لكن تفاجئت بها اندفعت في الكلام وتحدثت بصوتٍ نزف من وجع قلبها تختلطه شهقات بكاءها الحار: غلطيني يا حبيبة! غلطيني وقوليلي إني غبية! أنا اتخدعت وخت أكبر قلم في حياتي! لا لا أنا اطعنت بسكينة تلمة! لا لا أنا اللي طعنت نفسي! هو عمره ما قالّي... عمره ما قالّي بحبك ولا حتى كلمني ولا لمحّلي، يبقى عملت ف نفسي كده ليه؟!

لا لا بس أنا حسيت، حسيت بيه، كنت بقرا نظرات عينيه، كنت بسمع صوت دقات قلبه، يبقى إزاي؟!

طب قوليلي أعمل إيه! هموت يا حبيبة هموت! قلبي واجعني أوي... واجعني أوي... 


وأكملت بكاءها، وكانت شاهندة قد دخلت وواقفة أمامهما فتركت حبيبة هاجر ووقفت أمام أختها مباشرةً قائلة بإتهام: ممكن أفهم ليه ما حدش جاب سيرة إن نبيل متجوز؟!


فقالت شاهندة بحزن: والله يا حبيبة! ما جاتش مناسبة كلام يعني... 


فقاطعتها بغضب: يعني إيه ماجاتش مناسبة!


فأجابت بحزن: زي ما أنتِ شايفة طول الوقت برة البيت ومسافرة، إنتو بآلكم هنا أد إيه عمركم شوفتوها ولا لمحتوها! ولما بترجع من رحلاتها بتفضل تتنطط بين صحباتها، مش مؤثرة فينا فطبيعي ننساها، كنا مشغولين بيكِ طول الفترة اللي فاتت ونسيناها، وأديكِ شوفتِ ولسه هتشوفي دي مش بني آدمة... حبيبة رايحة فين؟!


قالتها وهي تمسكها من ساعدها فأجابتها حبيبة بانفعال: رايحة لأخوكِ. 


فقالت بحزن وهي ترخي يدها عن ساعدها: وأخوكِ إنتِ كمان! بلاش تيجي عليه! 


فانصرفت حبيبة مسرعة دون أن تلتفت فجلست شاهندة جوار هاجر تحتضنها وتمسّد على شعرها لتهدأ حتى قالت هاجر بصوت شبه مبحوح: سيبيني _ لوحدي...


فتركتها شاهندة متأثرة للغاية، بينما حبيبة اتجهت مندفعة تبحث عن أخيها فوجدته في غرفته فطرقت ودخلت، وكانت المرة الأولى التي تدخل غرفته منذ أن وطأت بقدمها ذلك البيت. 


كانت غرفة كبيرة للغاية، بل جناحًا فاخرًا، فالتخت من الخشب البني الداكن المطفئ وإلى الجانب أريكة وعدة كراسي كبيرة جلدية ذات هيئة حديثة، جمعت ما بين البني الداكن، البرتقالي والبيج بشكل قد أثار أعصابها خاصةً وخلفها ستائر تحمل هذه الألوان، ومن الناحية الأخرى باب كبير يبدو أنه مؤدي إلى الحمام وغرفة الملابس فلم تنتبه إليه وأعادت بصرها لأخيها الذي كان جالسًا على أريكة صغيرة أمام السرير منكّس رأسه بين يديه. 


فصاحت: ليه كده يا نبيل؟ ليه خبيت حاجة زي كده؟ ليه خبيت إنك متجوز؟! وإوعى تقولي إن عمرك ما كلمتها ولا لمحتلها ولا كل الكلام ده؛ لأن عينيكم كانت فضحاكم، وكانت حاجة واضحة للجميع بس كنا مستيينكم، ليه ما قولتش م الأول عشان تلحق نفسها؟ ليه سيبتها لحد... لحد ما اتكسر قلبها بالشكل ده؟


فقاطعها صوت عمتها التي دخلت توًا لكن صوت حبيبة عاليًا بما يكفي أن تسمعه العمة قبل أن تدخل الغرفة: حبيبة! 

صاحت فيها! 

ثم تابعت: إزاي تتهمي أخوكِ الكبير وتكلميه بالشكل ده؟!


فسكتت حبيبة قليلًا ثم قالت: أصل... 


فقاطعهما صوت نبيل المختنق تمامًا في حالة لم يُرى عليها طوال حياته: سبيها يا عمتو! سبيها! إتفضلي كملي يا حبيبة وخبّطي فيّ زي ما إنتِ عايزة، هه! خلصت التهم ولا لسه؟!


فقالت على استحياء: آسفة يا نبيل... بس قدّر موقفي... 


فقاطعها منفعلًا: وأنا مين يقّدر موقفي؟! مين؟!


قال الأخيرة مبتلعًا ريقه لألا تسقط دموعه، لكنه وجد نفسه سينهار فأسرع تاركًا غرفته يخرج ليتنفس الهواء بعيدًا عن الجميع، لكن ما أن وصل إلى الطابق الأسفل حتى سمع صوت شهقات هاجر وبكاءها الحار فلم يتحمّل.


اقترب من باب غرفتها، أخذ نفسًا عميقًا ثم طرق الباب مناديًّا عليها بصوتٍ مختنق: هاجر! هاجر! ردي عليّ! طمنيني عليكِ...


فانتفضت من مكانها بمجرد أن سمعت صوته وأسرعت ناحية الباب وما أن أمسكت بمقبض الباب حتى توقفت مكانها واستعادت رشدها. 


فأكمل قائلا: هاجر أرجوكِ ما تعمليش ف نفسك كده، أنا ما استاهلش كل ده ولا استاهل دمعة واحدة منك، و الله ما كان قصدي أوجعك ولا أكسر قلبك! من أول مرة شوفتك فيها وأنا اتشديتلك ولاقيتك فجأة بآيتي بتجري ف دمي، قاومت بعدت وقررت أطعن قلبي عشان ما يحبكيش أكتر لكن كل ما أبعد كنت بقرّب أكتر، أنا والله حبيتك! وعمري ما حبيت غيرك، لكن أعمل إيه ف حظي وظروفي! يجي جدي ويؤمر إن أنا وبنت عمي نتجوز! شوفتِ عمرك واحد بيتجوز بقرار عائلي! ولا هي طيقاني ولا أنا طايقها ويوم بعد يوم وسنة بعد سنة وف كل يوم بتثبتلي إنها مش عايزاة غير إسمي وفلوسي، وأنا كنت بشتري دماغي وبديها كل اللي يكفيها و سايبها تفتكر إنها متحكمة فيّ، ونسيت نفسي وإحساسي، نسيت إن عندي قلب، أصل ما كانش موجود، ولا يمكن موجود بس منغير روح، مجرد صخرة! لحد ما شوفتك وعرفتك ونسيت بجد كل حاجة، حتى نسيتها هي... 


تحدث ودموعه تنهمر لاإراديًا ثم أكمل بصوتٍ يخالطه البكاء: أنا نبيل القاضي... رجل الأعمال اللي ما حدش يقدر يهزّه ف السوق... ضعيف! أنا ضعيف! واقف متكتف ومش عارف آخد قرار حتى ف حياتي! معقول تستاهلي واحد ضعيف زيّ؟!


آلمتها الكلمة كما آلمتها حكايته كادت أن تفتح الباب وتضمه إليها فورًا، تربت عليه لتمده بالقوة، لكن استوقفها ألمها فلا زالت تتألم، هي أيضًا ضعيفة ولا تستطيع المقاومة ولا أن تكون في موضع اتهام؛ أن سرقت رجلًا من امرأته لنفسها مؤكد ستُتهم بالطمع في ماله، نسبه وسيطه، لكنها لم تطمع سوى بقلبه. 


فأكمل نبيل مناديًّا عليها مجددًا: هاجر! هاجر أرجوكِ بلاش تنهاري! خلي حد فينا يفضل قوي، أنا هستحمل أي حاجة زي ما طول عمري مستحمل، لكن إنتِ ذنبك إيه! أرجوكِ اقفي وبلاش دموعك أنا ما استاهلش، أنا ضعيف!


ثم هبط الدرج مرددًا مرارًا: أنا ضعيف! أنا ضعيف... 


فجثت هاجر على ركبتيها أرضًا باكية بحرقة، كما بكت شاهندة أيضًا التي استمعت لأخيها من خلف باب غرفتها، أخيها الذي طالما كان متظاهرًا دائمًا بالقوة والتحمل حتى وإن أطلت من عينيه الشجون. 


واستمعت له حبيبة التي كانت تود ملاحقته لكن قد استوقفها حديثه ظلت واقفة على الدرج مستمعة إليه بأسى وحزنٍ عميق تتساقط دموعها بصمتٍ وحزنٍ عليهما معًا. 


كما استمعت إليه العمة ورغم معرفتها بكل شيء ومعاصرتها له منذ البداية لكنها لم تتوقع انهياره ووصوله إلى نقطة تقيّده هكذا، فلا قدرة له على التقدم ولا طاقة له على التراجع. 


حتى رأفت في غرفته قد استمع وتابع كل شيء، لكنه قرر إعطاء آخر فرصة لابنه ثم سيتدخل فورًا. 


كانت ليلة عصيبة على الجميع فمن نام لا يعلم كيف غمض جفنه، مؤكد أنه قد فقد وعيه من شدة البكاء. 


وفي الصباح فتحت هاجر عينيها بصعوبة فهي تعانى من ألم شديد في كل جسدها وصداعٍ شديد حتى لا تقوى على فتح عينيها، لكن قد فتحتهما بصعوبة فوجدت نفسها قد نامت أرضًا جانب باب الغرفة مكان جثوها من الأمس، بدأت تتذكر كل شيء من جديد لكنها متعبة للغاية وشعرت بإنهاكٍ شديد. 


نهضت واقفة بصعوبة ثم اتجهت إلى حمام غرفتها لتأخذ حمامًا دافئًا ربما يسكن وجع جسدها... لكن ماذا عن وجع قلبها؟!


أخذت حمامها، بدّلت ملابسها لكنزة وبنطال ثقيلين فهي تشعر ببرودة غريبة رغم أن الطقس ليس باردًا، نظرت ناحية المكيف لكنه كان مغلقًا. 


فتحت باب غرفتها هابطة للأسفل متجهة نحو المطبخ، كان وجهها شاحبًا للغاية، عيناها شديدة الحمرة وجفنيها متورمين من شدة البكاء. 


وبينما كانت في طريقها إلى المطبخ استوقفها صوت صافي قائلة وهي هابطة من الدرج: يا إنتِ، إنتِ يا إسمك إيه!


فالتفت هاجر على مضض وأجابت من بين أسنانها: هاجر، إسمي هاجر. 


فقالت باستخفاف: مش مهم مش مهم، إنتِ داخلة المطبخ؟


فأومأت بعينيها قائلة بنفاذ صبر: في مشكلة!


فزمت صافي شفتيها قائلة: بس إبقي إعمليلي نسكافيه معاكِ مظبوط وبوش. 


قالت الأخيرة بأسلوب أمر وتعالي، فقالت هاجر مستنكرة: أعملك إيه!


فصاحت بتعالي واستخفاف: إيه! عندك مشكلة ف السمع ولا حاجة!


وما أن همت تصيح فيها هاجر حتى أتاها صوت صياح نبيل يرجّ القصر: صافي! إلزمي حدودك! عايزة حاجة إطلبي م الشغالين!


فقالت وهي تخلل أصابعها بين خصلات شعرها: أمال هي إيه! دي واحدة م العامة. 


فصاح فيها: إخرسي!


فصاحت مستنكرة: أنا صافي حفيدة القاضي باشا يتقالي إخرسي عشان البتاعة دي! 


قالتها باحتقار، فصاح فيها نبيل والذي لم يكن حاله بالأفضل من هاجر إطلاقًا، فقد كان منهكًا متعبًا كأشد ما يكون. 


صاح فيها قائلًا: عارفة لو ما سكتيش دلوقتي حالًا هتشوفي حاجة تزعلك.


فقالت بنفس استخفافها: إنت كمان هتزعأ! مش كفاية فرجت علينا الشغالين بنومتك في الجنينة!


فضم حاجبيه وقال: يعني شوفتيني نايم ف الجنينة! طب ما صحتينيش ليه يا هانم؟!


فقالت متأففة: والله ما حدش قالك تنام برة!


فمسح على وجهه يخفي إجهاده وتعبه الذي لم يخفى على هاجر ثم قال: ما حدش قالّي أنام برة ولا مش عايزاني أعرف جيتِ إمتى إمبارح يا مدام؟!


فتأففت ثم نظرت في ساعتها وصاحت: حلو كده أديني إتأخرت!


فقال: ورايحة فين كده دلوقتي؟! وإنت لسه جاية م السفر إمبارح وخرجتِ في ساعتها!


فازداد تأففها ثم قالت على مضض: على فكرة دمك تقيل جدًا إنهاردة وأسئلتك سخيفة، وعلى كلٍ أنا رايحة النادي عشان صحابي وحشوني، وخلاص هبقى أشرب النسكافيه هناك، أوف! باي! 


وانصرفت دون أن تنتبه لزوجها المريض ولا هيئته المريبة تلك التي لم يُرى عليها إطلاقًا من قبل، ونظرات هاجر المندهشة حد الصدمة، وما أن خرجت حتى ارتمى نبيل جالسًا على أقرب أريكة مغمضًا عينيه بقوة من شدة الألم سانداً برأسه للخلف.


بينما هاجر اتجهت بصعوبة نحو المطبخ، وبعد قليل خرجت تحمل صينية بها كوبين من عصير الليمون الساخن المحلى بالعسل الأبيض.


كانت تسير باحتراس خوفًا أن تسقط الصينية أو تسقط بالصينية؛ فهي أيضًا منهكة. 


وضعت الصينية على المنضدة أمام نبيل وجلست جواره مع ترك مسافة مناسبة ثم نادت عليه بهدوء: نبيل. 


فانتبه لأكثر صوتٍ أصبح يعشقه، ما أجمل اسمه عندما يخرج من بين شفتيها! لقد سرت قشعريرة غريبة في بدنه، ففتح عينيه بصعوبة ونظر نحوها مبتسمًا بألم هامسًا: نعم. 


فقالت بصوتٍ بدا فيه الألم: عملتلك ليمون دافي بالعسل، إشربه، شكلك تعبان. 


فقال بلهفة: إنتِ تعبانة!


فأجابت بلامبالاة مصطنعة: عادي! داخل عليّ برد، وانت كمان شكلك بردت، إشرب واطلع أوضتك ارتاح. 


فنظر إليها بشوقٍ واضح ولم يعقب، بل أمسك بكوبه باحتراس وبدأ يشرب وهي كذلك... ثم ساد الصمت. 


كانت حبيبة وشاهندة تهبطان من الأعلى وما أن هبطتا حتى نظرتا نحوهما ثم نظرتا لبعضهما لبعض وقالتا في صوتٍ واحد: صباح الخير. 


فأجابا عليها كلًا من هاجر ونبيل بصوتٍ منهك: صباح النور. 


فنظرتا لبعضهما البعض مجددًا في دهشة وفضول ثم أكملتا سيرهما، جلست حبيبة جوار نبيل وشاهندة جوار هاجر. 


اقتربت حبيبة باحتراس من أخيها ثم قبّلته على إحدى خديه ثم قالت على استحياء: آسفة يا بيلو، آسفة إني كنت قليلة الذوق معاك إمبارح. 


فقال مشيرًا بيده أن تبتعد عنه: إمشي من هنا أنا داخل عليّ برد وهتتعدي. 


فقالت وهي تقبّل خده ثانيًا: لا بأه أنا عايزة أتعدى، المهم ما تزعلش مني. 


فقال مسرعًا: خلاص خلاص! الله يكون ف عونك يا اللي ف بالي! 


فضحكت وقد توردت وجنتيها ثم دفنت رأسها في كتف أخيها وعانقته من خصره.


فضحك بألم وقال: مفيش فايدة، وبعدين إيه الحضن اللي هيقع ف الأرض ده!


فضحكت وقالت: مكان ما طولت بأه !


فقال مشاكسًا: يبقى في ناس تانية هتحضنيها من رجلها على كده. 


فلكزته في كتفه وقالت: إنت رخم على فكرة. 


فقال: وإنتِ إيدك تقيلة وأنا تعبان على فكرة.


وكانت هاجر تنظر لهما وتبتسم من مشاكستهما ابتسامة باهتة، بينما شاهندة تضحك بشدة.


وفجأة وضعت حبيبة يدها على جبهة أخيها تتلمسه ثم نزعتها مسرعة وهي تعتدل في جلستها ثم قالت بجدية ولهفة: نبيل إنت سخن. 


فقال مستنكرًا وهو يحاول النهوض: لا لا أنا كويس، هطلع آخد شاور وأنام هقوم فايق إن شاء الله. 


وقد تصادف في نفس اللحظة نهوض هاجر وانحناءها لتضع كوبها على المنضدة ويبدو أنه قد أصابها الدوار من تلك الانحناءة فلحقها نبيل قبل أن تسقط، وفجأة صارت بين يديه...



(الفصل السابع والثلاثين)


بقلم نهال عبدالواحد 


كانت هاجر تضع كوبها الفارغ على المنضدة وبدا عليها أنه قد أصابها الدوار من تلك الانحناءة فلحقها نبيل قبل أن تسقط، وفجأة صارت بين يديه! 


تعلقت العيون في لقاءٍ طويل بين عتابٍ، شوقٍ، حنينٍ وأمنياتٍ كثيرة لم يعد لها مكان على أرض الواقع، ويبدو أنها ستظل فقط في عالم الأمنيات. 


تمنى أن يجذبها إليه أكثر ويضمها، لكن تلك الحمى قد أنهكت جسده فجعلت الوجع ينهش في كل مفصلٍ، فأغمض عينيه وفتحهما من جديد محاولًا أن يبقى على صموده. 


أما هي فقد تسببت تلك الحمى التي تسري فيها بارتعاشة في كل جسدها، شعر بها بين يديه وبالفعل بدأت تشعر وكأنها بحاجة لمن يحمل عنها رأسها التي يفتك بها الوجع، بل تريد من يحملها الآن ويضعها في فراشها كالأطفال.


بدأت تبعد نفسها ببطء لتذهب قبل أن تخر مغشيًّا عليها، شعرت بالفعل أنها ابتعدت لكنها لا تزال واقفة مكانها، أغمضت عينيها هي الأخرى وفتحهما، فوضع يده تلقائيًّا على جبهتها فتفاجأ بحرارتها العالية. 


فقال لها بلهفة: إنتِ سخنة!


فأومأت برأسها وبدأت بالفعل تتحرك ذاهبة إلى غرفتها، كانت تترنح لكنها كانت تمسك بالأشياء، وكذلك فعل هو الآخر .


صعد الاثنان هكذا بحالتهما المذرية على مرئى من أعين حبيبة وشاهندة وهما في قمة الأسى والحزن على حالهما. 


بينما نبيل ظلّ واقفًا يراقبها حتى دخلت غرفتها وأغلقت بابها، فأغمض عينيه بألمٍ شديد وهاهي قد تجمعت عليه كل آلامه، آلام جسده وقلبه. 


صعد بضع درجات فوجد عمته تخرج من غرفتها متجهة إلى غرفة أبيه فأشار لها بابتسامة ميتة ثم دخل غرفته. 


أغلق بابه خلفه وسار مترنحًا متسنّدًا على كل شيء حتى وصل إلى حمام غرفته الخاص ففتح صنبور الماء وانحني برأسه ينكّسها في الحوض وترك الماء الفاتر يجري فوق رأسه لفترة من الزمن.


لا يدري إن كان يُخفض تلك الحرارة أم يزيل كم الألم الذي يعيقه عن التفكير. 


وبعد ذلك أغلق الماء، سحب منشفة ووضعها فوق رأسه ثم اتجه نحو فراشه فأخذ قرص دواء ثم دثّر نفسه وذهب في سباتٍ عميق. 


أما هاجر فدخلت غرفتها وازدادت ارتعاشات جسدها كأنها في شهر طوبة، ثم ارتدت معطفًا ثقيلًا ودخلت به في فراشها ودثّرت نفسها بالأغطية ولا زالت ترتعش، ويبدو أن الحرارة قد بلغت مبلغها فبدأت تخترف منادية على نبيل بصوتٍ متقطع مرتعش: نبيل... ما تسبنيش... هموت من غيرك...


وبعد صعود نبيل وهاجر وهما مترنحَين، نظرت حبيبة إلى شاهندة وقالت مشيرة عليهما: الاتنين دول عيّانين ببعض على فكرة.


فأجابت شاهندة: باين جدًا على فكرة. 


ثم التفتت لأختها التي يبدو وأنها شردت قليلًا، فقالت لها مشاكسة: جرى إيه يا عم الحبيب!


فانتبهت لها حبيبة ونظرت إليها مبتسمة ولم تعقب، فانقضت عليها أختها تشاكسها وتلكزها قائلة: هتقولي! قولي يلا!


فقاطعتها ممسكة يديها: بلاش معايا الحركات دي إنتِ مش أدي. 


ثم قالت: بت يا شاهي ما تيجي أدرّبك بوكس.


فقالت: لا شكرًا، قولي لي بأه عمرك عييتي قبل كده من حب سي رياض بتاعك ده؟


فوضعت يدها على فم أختها قائلة: إيه الفضايح دي!


فهمست شاهندة بمزاح: طب قولي. 


فضحكت حبيبة من هيئة أختها ثم شردت بهيام وقالت: مرة فعلًا زعلت منه وصبحت عيّانة، سخنت ورقدت ف السرير وكنت داخلة عل ماتش النهائي في بطولة أسبانيا، سبحان الله! فُزت بأعجوبة، بس وأنا بحييّ الجمهور لاقيته واقف أدامي، جالي مخصوص من تركيا لأسبانيا بدل ما يرجع مصر، بصراحة كان نفسي أضربه، طول الماتش كنت شايفاه أدامي بدل الخصم وفضلت أضرب بغل، بس بعد ما لاقيته تراجعت. 


فسألتها شاهندة: بتحبيه أوي كده؟


فابتسمت وقالت: غيرني أوي يا شاهي، بجد مش مصدقة إني أنا حبيبة بتاعة زمان اللي كانت مجرد صخرة لحد ما دخل حياتي و غيرها كلها. 


فقالت شاهندة: لا مصدقة، ما عندنا صخرة تانية بتعاني فوق بعد ما لانت وأهي اطربأت فوق دماغه. 


فتابعت حبيبة على مضض: حقّا مراته دي يتفاتلها بلاد، وهي فين على كده؟!


فأجابتها: لا دي خرجت من بدري، كان شكلها رايح النادي.


فجزت حبيبة على أسنانها وقالت بغيظ: نادي! وسايباه راقد فوق كده! يا مين يناولني زمارة رقبتها. 


فقالت: يا ستي قلبك أبيض. 


سكتت قليلًا ثم قالت: باقولك يا بيبو، إنتِ صحيح عزمتِ رياض مش كده!


فأجابتها بابتسامة عريضة: أيوة استأذنت نبيل وعزمته هو وكل أهله. 


ثم تنهّدت بهيام، فتابعت شاهندة قائلة بتردد: يعني عزمتِ إيهاب!


فأجابتها: يا بنتي بقولك عزمته هو وأهله وإيهاب ده يبقى... 


ثم نظرت لأختها وضيقت عينيها وقالت: وبتسألي عن إيهاب ليه يا ترى؟!


فأجابتها بتوتر واضح: لا أبدًا، بس أصل يعني، ده مجرد سؤال خطر على بالي. 


فأعادت حبيبة الكلام بعدم تصديق: مجرد سؤال خطر على بالك! إنتِ بتكلميه يا شاهي!


سكتت قليلًا ثم أومأت برأسها أن نعم وأسرعت بقولها: بس مجرد كلام عادي يعني.


ثم تساءلت قائلة: هو إيهاب مش كويس؟


فأشارت لقلب أختها قائلة: في حاجة هنا؟


فأجابتها : لا طبعًا...


ثم تراجعت قائلة: آه... 


ثم قالت زافرة: مش عارفة يا حبيبة! مش عارفة حاجة!


فضحكت منها أختها ثم قالت وهي تضرب كفًا بكف: ده إيه الخيبة دي! يعني بتحسي بإيه يا هبلة! مبسوطة! زعلانة! مخنوقة... إيه!


سكتت قليلًا ثم قالت: بحس إني عايزة أتكلم معاه، وببقى مبسوطة وهو بيكلمني، لكن بصده دايمًا، بخاف يكون بيلعب بي، ولو غاب وما كلمنيش أبقى هتجنن لكن برضو ما اتصلش ولما هو يكلمني أعمل نفسي متفاجأة ولا على بالي ، ده يبقى إيه!


ضمت حبيبة ساعديها أمام صدرها ولم تعقب و بعد فترة قالت: ما أختك خيبة برضو فضلت مش عارفة راسي من رجلي أد إيه! 


فأكملت شاهندة قائلة: وعندنا خيبة تالتة فوق. 


فقالت حبيبة وهي تضحك: وأديكِ انضميتِ لثلاثية الخيبات المتحدة. 


فضحكتا معًا ثم قالت حبيبة: طب نخلي عندنا دم ونروح نشوف الناس العيانين دول.


فأجبت شاهندة وهي تنهض: يلا بينا. 


فاتجهتا لغرفة هاجر فوجدتاها لا تزال ترتعش وتخترف باسم أخيهما فنظرتا لبعضهما البعض في أسى، وبدأت حبيبة بعمل الكمادات لها. 


تركتها وتسللت ناحية غرفة أخيها فوجدت عمتها خارجة من غرفته مغلقة الباب خلفها هامسة: أخوكِ نايم، ربنا يقويه عل هو فيه!


فهمست شاهندة: بينادي عليها برضو!


فأومأت برأسها زافرة بأسى، فاتجهتا إلى غرفة هاجر للاطمئنان عليها. 


مر اليوم وتحسنت حالة الاثنين نسبيًا لكن لم يخرج أيهما وبالطبع لم تتحدث أي منهن بشأن تلك الخطرفة، لكن هاجر كانت تتذكر وقوفها بين يديه كأنها لا زالت تشعر بيديه تمسك خصرها حتى الآن! لكنها نوت الاختفاء. 


جاء المساء وحبيبة وشاهندة تجلسان مع عمتهما تتسامرن معًا فدخلت عليهن صافي آتية من الخارج. 


_ بونسوار!


فنظرت كلًا منهن للأخرى ولم تعقب إلا أن العمة قوت أجابتها بغيظ: يعني خرجتِ إمبارح وإنتِ لسه جاية م السفر وقمتِ إنهاردة خرجتِ من بدري برضو رغم إن جوزك تعبان تقومي كمان تقعدي اليوم كله برة! 


فقالت بلامبالاة وهي تعبث بخصلات شعرها الرمادية: أنا مش دكتورة يا أنتي هعمله إيه يعني! وبعدين عشان يحرّم ينام في الجنينة تاني. 


فهمست حبيبة لشاهندة وهي تشدد على يدها: سبيني عليها أجيبها من شعرها المعجّز ده. 


فقالت متأوهة: آي آي! سيبي إيدي وجعتيني.


فتركتها فأمسكت شاهندة بساعدها تدلكه من أثر مسكة حبيبة ثم لكزتها وقالت: وجعتيني يا باردة. 


فأجابتها حبيبة بتحذير مصطنع: ما بلاش تحضري العفريت!


فالتفتت إليها صافي وقد سمعتها فصاحت بتعالي: عفريت إيه ودجل وشعوذة إيه يا إنتِ!


فقالت حبيبة: ما قلتلك سبيني عليها. 


فنهضت صافي متأففة لتصعد إلى غرفتها قائلة: بونوي! أنا تعبت أوي إنهاردة مش قادرة.


فأعادت حبيبة قولتها بغيظ: طب سبوني عليها الله يخليكم! 


فضحكت شاهندة والعمة من هيئة حبيبة فضحكت هي الأخرى. 


مرت بضع أيام وكان كلًا من هاجر ونبيل قد شُفيا وقد عاد نبيل بالفعل لعمله بينما هاجر حرصت ألا تخرج من غرفتها متحججة بقرب موعد الإمتحان وبالطبع لم تذهب إلى الشركة بعكس حبيبة وشاهندة. 


جاء يوم الحفل والجميع يستعد لذلك الحفل الذي ستحضره حبيبة لأول مرة كواحدة من أبناء عائلة القاضي. 


وقفت شاهندة أمام مرآتها تتطلع لهيئتها بفستانها البنفسجي الداكن الضيق حتى الخصر ثم هبط باتساع قليل بعد ذلك، ظهر القليل من كتفيها وذات أكمامٍ مفرغة، جمعت شعرها لأعلى وعلى وجهها مساحيق تجميل هادئة أظهرت ملامحها فبدت رائعة. 


بينما هاجر والتي ارتدت فستانًا يشبه فستان شاهندة فهما لهما نفس القوام لكن كان لون الفستان أسود وجمعت شعرها للخلف مع القليل من مساحيق التجميل ورغم روعتها إلا إنها لم تخفي ملامح الشجن التي تطل منها فوضعت طلاء شفاه أحمر اللون ربما يعطيها إشراقًا أكثر، لكنه زاد من ملامحها الباهتة. 


أما حبيبة فقد ارتدت فستانًا من اللون الجنزاري المائل للإخضرار ضيق من الأعلى حتى الخصر لكنه هبط باتساعًا أكثر فقوامها أقل من قوام شاهندة وهاجر، بالإضافة لجزءٍ خلفي من الفستان تمسكه في يدها، وأيضًا ظهر جزء من كتفيها وذات أكمامٍ مفرغة وجمعت بعض خصلات شعرها للخلف وتركت الباقي منسدلًا مموجًا مع القليل من مساحيق التجميل. 


نظرت لنفسها بانبهارٍ شديد، شعرت بنفسها أميرة ولا ينقصها سوى التاج، لا تدري سر سعادتها هل لأنها المرة الأولى التي تحضر مثل تلك الحفلات؟ أو يُقام لها حفل عيد ميلاد؟ أو لأنها المرة الأولى التي ترتدي مثل هذا الفستان وتطل بمثل هذه الهيئة؟

أو ربما بسبب لقاءها أخيرًا مع رياض؟ فقد طال الغياب وزاد الشوق!


حاولت تخيل لقاءه،  تخيلته عندما يراها ويرى هيئتها... فابتسمت تلقائيًّا وطلّت غمازتاها على وجنتيها معلنة استقبال الحبيب. 


أما نبيل فقد وقف يصفف شعره بحرفية بعد ارتدائه لبذته السوداء وقميصه الأسود الذي اختاره ملائمًا حالته التي صارت ملازمته. 


فاقتربت صافي نحوه وخرجت من جانبها خبيرة التجميل خارج الغرفة وقد انتهت من تصفيف شعرها وتجميلها لكنها لم ترتدي فستانها بعد.


فالتفت إليها نبيل قائلًا: إنتِ لسه ما لبستيش!


فأجابته: أنا أعتبر خلصت.


ثم وقفت أمام المرآة جواره لكنها كانت تتغنج بجسدها وتتحرك للجانبين مشاهدة هيئتها وصاحت بكبى: أجنن طبعًا! مش كده!


فأجاب باقتضاب: أكيد. 


فالتفتت نحوه فجأة وصاحت فيه مشيرة إليه بطرف إصبعها: إيه اللي إنت لابسه ده! غيّر غيّر! دي ما تليقش على فستاني، إلبس البدلة البني أنا فستاني دهبي. 


فزفر وقال: سوري ما هو سيادتك ما قلتيش لون فستانك عشان أعمل حسابي. 


فقالت بدلال: سوري، مش مهم غيّر؛ حتى نكون لايقين على بعض. 


فزفر وقال ناثرًا عطره: لايقين على بعض بالبدلة والفستان! أنا خلصت خلاص، ياريت تخلصي إنتِ كمان عشان الناس منتظرة تحت. 


فقالت بتعالي: وماله يستنوا! أنا صافي نشأت القاضي حفيدة القاضي باشا وحرم نبيل القاضي يعني كوين، يعني الكل يجي ويستناني لحد ما انزل على أقل من مهلي.


ثم قالت: يا خسارة! بطّلوا التحية الملكية، واو! لو كنت نزلت والكل ينحني لي! مش أنزل ألاقي شوية حَوَش رعاع من العامة ماليين القصر. 


فصاح محذرًا: يا ريت تخلي بالك إن اللي بتتكلمي عنها دي تبقي أختي اللي هي بنت عمك يعني برضو من عيلة القاضي. 


فقالت على مضض: آه وماله، لكن ده ما يمنعش إنها عزمت ناس شعبية ولّا الفالجر دي كمان اللي مقعدنها فالقصر إسمها إيه كده... 


فقاطعها قائلًا: لحد كده وكفاية! مش عاجبينك ما تحتكيش بيهم!


ثم همَّ بالخروج فنادت عليه: إيه يا بيبي! مش تستني عشان تنزل معايا!


فقال بغيظٍ شديد: أنا نازل خليكِ إنتِ على مهلك يا حضرة الكوين. 


ثم خرج صافقًا الباب خلفه، فلم تبالي ووقفت تتغنج بهيئتها وتتغزل بجمالها قائلة: طب والله زي القمر! والله أجنن! و أحلى من أحلى كوين... 


ثم قبلت نفسها في المرآة: إمواه!

(الفصل الثامن والثلاثين)


بقلم نهال عبدالواحد 


هبط نبيل إلى الأسفل بكامل أناقته ووسامته المعهودة، تُشم رائحة عطره الرجولية الفخمة قبل أن يهل، هبط حيث جموع المدعويين، سلم على الجميع بابتسامة دبلوماسية لكنه كان متجولًا ببصره باحثًا عن شخصٍ بعينه. 


قابل أختيه، سلمّ عليهما بحرارة شديدة وقبّل جبهتهما وقد أبدى رأيه بجمالهما الآخّاذ وأناقتهما منقطعة النظير، لكنه لا يزال يبحث عنها حتى لمحها أخيرًا فبدأ يتنفس وقد لاحظتا ذلك أختاه فلم تعقّبا.


وقفت هاجر عن بُعدٍ منزوية عن الجميع لا ترغب في أي احتكاك فحالتها المزاجية ليست بجيدة حتى الآن، ولا تريد الاحتكاك خاصةً بنبيل؛ لقد قررت الابتعاد فرغم ما علمته من طبيعة حياته المعقدة البائسة لكنها ترى أن البعد هو أفضل الحلول وأن استمرارهما معًا لن يجني إلا مزيد من المتاعب والمشكلات. 


لكن ماذا عن قلبها الذي أرهقها؟! قلبها الذي كلّ وملّ من كثرة الشكوى، طُعن ولا زال جُرحه ينزف، ليته يُشفى أو حتى يُقضي عليها، لكنه لا هذا ولا ذاك، هل تضغط على ذلك السكين البارد بكل قوتها فتغمده أكثر في قلبها؟ فتستريح وينتهي أمرها!

أم تنتظر ذلك النزف ينتهي حتى تُصفّى من كل دمائها؟! اللعنة عليك أيها العشق! في وجودك آه!

وفي بعادك ألف آه!

ليت للقلب زر يُضغط عليه فينطفئ نبضه ولا يدق لبشر، ليته يعمل بالكهرباء ووقتما ازداد اندفاعه يُصاب بماسٍ كهربي، أين الحل دلّوني؟

كيف أوقف عمله؟!


وقفت جوار البوفيه فأخذت كأسًا من الماء وما أن قربته حتى تفاجئت بنبيل واقفًا أمامها، ومن فجأتها سقط الكأس ولم تشعر إلا بالماء على فستانها. 


تلفتت حولها تأخذ شيئًا تجفف به الفستان، فأخرج نبيل منديلًا من جيب كنزة بذته فلم تجد بدًا إلا أن تأخذه بأيدٍ مرتعشة. 


انحنت تجفف فستانها فانغرس كعب حذاءها في أرض حديقة القصر فجعلها تكاد تفقد توازنها وتقع لولا ذراعيه التفا حول خصرها فانتفضت انتفاضة أشد من الأولى. 


كانت متوترة للغاية تتجول بعينيها في كل مكان؛ تخشى أن يراهما أو يلحظهما أحد، فقالت بصوتٍ هامس يكاد لا يخرج من حنجرتها وهي تبعد نفسها من بين يديه: من فضلك، ما يصحش كده. 


فحاصرها بعينيه وداهمها بصوته العاشق قائلًا: وحشتيني.


فقالت بنفس حالتها: من فضلك يا نبيل إحنا مش صغيرين على الحاجات دي. 


فأجابها بنفس العشق الذي أبَى وأن يظهر: هم الصغيرين بس اللي لهم قلب يحس ويحب ويشتاق!


فأجابت بقوة مزيفة: ملعون ده قلب ما بيجيش من وراه غير الوجع وقلة القيمة!


فرفع سبابته أمام وجهها وقال: لا عاش ولا كان اللي يفكر يقل قيمتك. 


_ وأنا مش هستنى لما ده يحصل. 


_ ليه بتهربي مني؟ أنا بحبك وإنتِ بتحبيني يبقى إيه!


_ يبقى نفضها سيرة ونسكت خالص وكفاية لحد كده، وقلبي ده هعرف أتصرف معاه بطريقتي ولازم إنت كمان تتصرف بطريقتك معاه. 


فاقترب منها أكثر حتى اختلطت أنفاسهما، تعالت دقات قلبيهما وهمس متيّمًا تحتضن عينيه كل إنشٍ فيها: وأنا طريقتي مش هتعجبك حاليًا. 


كانت أشد ما يكون من الاضطراب والتوتر، تتصاعد أنفاسها بقوة تشعر بأن كل من في القصر يسمع صوت أنفاسها ودقات قلبها ثم قالت بصوتها المتحشرج من شدة التوتر: من فضلك ما يصحش كده!


كادت أنفاسها تنقطع وهي تقول كلماتها تلك، فابتسم لها ابتسامة رائعة جعلتها ظلت متأملة لوسامته بل صارت تراودها فكرة أن ترتمي داخل أحضانه وتدفن وجهها داخل صدره؛ هي لم تنكر إطلاقًا حبها الشديد له، شعرت أن هذا المكان هو ملاذها وهو مصدر أمانها وراحتها وقوتها، لكن لا يزال هناك قدر من الاتزان الانفعالي جعلها تدفعه برفق قائلة: لو مراتك نزلت دلوقتي وشافتنا يبقى حلو!


كأنما استيقظ فجأة من حلمٍ جميل فأنزل يده وزفر في ضيق، حتى الآن يرى أنها معضلة لا يعرف كيف يجتازها رغم أن الحل واضح، لكن كثيرًا ما لا نرى طرق الحل مهما كانت واضحة!


أما حبيبة وشاهندة فكانتا تقف مع عمتهما التي طلت بفستانٍ أسود هادئ وحجابٍ صغير على رأسها من اللون الرمادي الفاتح المائل قليلًا للفضي المطفئ مع القليل من مساحيق التجميل. 


وقفت بين ابنتي أخيها تلتقطن الصور فشعرت كأنها أم وبناتها خاصةً مع ذلك التشابه في الملامح بينهن وخاصةً هي وحبيبة لدرجة التطابق. 


وبينما هن على حالتهن إذ انفرجت شفتا شاهندة بابتسامة عريضة فالتفتت حبيبة فوجدت أسرة رياض وقد وصلت أخيرًا. 


فجاءت رباب فسلمت عليهن بحرارة فعرفتها على عمتها ثم اقتربت نادية وهي تعانقها بشدة: حبيبتي حبيبتي حبيبتي! إخس عليكِ يا بيبو قطعتِ بينا!


فابتسمت حبيبة قائلة: ربنا يعلم وحشتيني أد إيه!


ثم التفتت ناحية عمتها وقالت تعرّفها: عمتي حبيبتي، عمتو قوت. 


وقبّلتها فابتسمت لها قوت مرحبة: نورتينا يا مدام، بيبو حكت كتير عنك وعن طيبتك ومعاملتك ليها. 


فقالت حبيبة: مدام ده إيه! إنتِ تخشي وش كده وتقوللها يا ناني. 


فضحكت وضحكن وتصافحتا بحرارة أكثر، فقالت قوت: نورتينا حقيقي و أنا سعيدة إني قابلتك واتعرفت عليكِ وعلى بنوتك القمر دي. 


فأجابتها نادية بود: ده أنا اللي أسعد، والله كنت جاية وخايفة من مقابلتكم! أصلنا ما دخلناش سرايات ولا قصور قبل كده. 


فنظرت لها رباب، ثم قالت بتوتر محاولة إخفائه: إيه يا ماما! معلش أصلها بتحب تهزر!


فابتسمت قوت وقالت بلطفٍ شديد: لا مفيش حاجة، أنا عذراها أكيد سمعت عن والدي من حبيبة، لكن إطمني لا أنا ولا رأفت ولا ولاده كده. 


فتنهدت نادية براحة وقالت: الحمد لله!


فضحكت رباب وهي توجه كلامها لحبيبة: مالهاش حل ماما دي... 


ثم اقتربت رباب من حبيبة التي كانت تزوغ بعينيها في كل اتجاه، فأكملت رباب: بس حبيبة إنهاردة محلوية شوية يا ماما ولا إيه رأيك!


فقالت الأم: محلوية شوية واحدة!


فأكملت العمة محتضنة حبيبة: بنوتي حلوة على طول. 


تابعت نادية: ومين يشهد؟ ده إنتو فولة واتقسمت نصين!


فاقترب إيهاب وطارق معًا فسلما على الجميع، ولا تزال حبيبة تبحث بعينيها بدرجة لم تستطيع إخفاءها.


وفجأة! رأته أمامها فاختفى الجميع من مجال رؤيتها،

اختفى البشر وأصواتهم، اختفى المكان والزمان، تركا الدنيا والعالم، ركبا آلة الزمان، ورحلا من بين الجميع بروحيهما!


اقتربا كلًا نحو الآخر بخطواته، لا يدري! لماذا طالت المسافة كل هذا؟ رغم أنه يطوي الأرض طيًّا، وهي تركب الرياح لتصل إليه...


وما أن وصلا وهمّا بالمصافحة حتى جاء هادم اللذات ومفرّق الجماعات. 


إنها صافي جاءت تركض نحوهما بفستانها الضيق الذي أظهر مفاتنها بشكل مثير للغاية بالإضافة للون الفستان الذهبي الفاتح فيجعل الرائي من أول وهلة يُصدم إذ يظنها بلا ملابس حتى يتبيّن العكس. 


تدخلت ركضًا بينهما وقبل أن يتصافح رياض وحبيبة كان كف صافي سابقًا لها بابتسامة عريضة قائلة: بونسوار! مش تعرفينا يا بيبو!


فوجمت حبيبة من هيئتها ومن الموقف بالكامل كأنما ابتلعت لسانها، فتابعت صافي ولا زالت ممسكة بيد رياض ومشددة عليه في مصافحتها كأنما تخشى أن يفلت منها، فقالت: يا ترى مين الشاب الوسيم اللطيف ده!


فأجابت حبيبة على مضض: ده رياض نصّار، صديق. 


فأجابت بابتسامة عريضة مع بعض الميوعة: وأنا صافي بنت عم حبيبة. 


فأكملت حبيبة: ومرات أخويا. 


مدت حبيبة يدها ربما تبتعد صافي بيدها عن يد رياض بطريقة غير مباشرة، لكنها لم تنجح نهائيًّا!

كان رياض واجمًا هو الآخر لا يصدق جرأتها وهي تضحك أمامه وتتغنج بجسدها بطريقة مثيرة، بالإضافة للمستها ليده كانت تشعره بأشياء غريبة فاجأته، وبدأ يتلفت حوله في خجلٍ شديد وتمنى لو يصيح هل من مغيث!


استكملت صافي غنجها معه وهو بالكاد يجيبها ولا زال يريد الغوث. 


أما حبيبة ففجأة قد نسيت أنها لاعبة ملاكمة، ربما لو تذكرت وقتها لكانت سوّتها بالأرض! التفتت هي الأخرى فوجدت شاهندة تقف عن مقربة منها مع إيهاب يتبادلان أطراف الحديث، فاتجهت نحوهما مباشرةً ففزعت شاهندة وإيهاب وقالا: إيه في إيه! مالك!


فقالت حبيبة وعيناها تطلق شررًا: إلحقي البلوة دي وشليها من هنا أحسن ما أخنقها خالص دلوقتي. 


فقالت بتساؤل ودهشة: بلوة إيه! في إيه...


وسكتت عندما نظرت موضع إشارة حبيبة فتفاجأت بصافي، نظرت الفتاتان لبعضهما البعض بعض الوقت في توتر بينما إيهاب كان لا يزال واجمًا، أما رياض ففي موقف لا يُحسد عليه! 


وفي نفس الوقت كان نبيل وهاجر يقفان متجاورين في صمتٍ تام، يسبل كلاهما عينه في عين الآخر بكل ما يفيض من مكنونات مشاعره، يفهم لغتهما الهواء، الزرع والزهور، مهما بحثا عن كلام فلم يجدا، أيقنا وضعهما فلا اقتراب ولا ابتعاد. 


لكن...


بينما نبيل وهاجر على حالتهما إذ وجدا حبيبة تحمل فستانها وتجئ إليهما مسرعة هي وشاهندة، فتفاجأ نبيل وهاجر بهما، فقال في ارتياب وقلق: إيه في إيه! مالكم!


نظرت الأختان لبعضهما البعض ولا تدريان كيف تقولا له، هدّأت حبيبة انفعالاتها قم قالت بهدوء مصطنع: لا أبدًا، بس يعني، كل الحكاية... 


فتابعت شاهندة: أيوة كل الحكاية... 


ثم نظرت لأختها متسائلة: كل الحكاية إيه!


فنظر لهما نبيل شرزًا والتفت لهاجر فضحكت من هيئة حبيبة وشاهندة، فوجم بعض الوقت يتأمل ملامحها وقد نسي الموقف، فتأففت حبيبة قائلة: يا نبيل، أنا قصدي أقولك إن رياض وأهله وصلوا ولازم تكون في استقبالهم. 


فنظر لها بنفاذ صبر وسار أمامها فتبعته مسرعة، بينما أمسكت هاجر بشاهندة متسائلة: مالها أختك الهبلة دي!


فقالت لها هامسة في توتر: ربنا يستر! صافي مش هتجيبها البر... 


ثم تذكرت أمر هاجر وحساسيتها من صافي فسكتت، ثم حاولت تغيير الموضوع فابتسمت لها وقالت ببعض المكر: هه! كنتوا بتقولوا إيه بأه!


فتنهدت هاجر وقالت بيأس: زي ما شُفتِ كنا واقفين ساكتين، خلص الكلام يا شاهي لا ينفع نقول ولا ينفع نعيد...


تكملة الرواية من هنااااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع