رواية هل الضربة قاضية الفصل الثالث وعشرون والرابع وعشرون بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
رواية هل الضربة قاضية الفصل الثالث وعشرون والرابع وعشرون بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
هل الضربه قاضيه
ال٢٣و ال٢٤
(الفصل الثالث والعشرين)
بقلم نهال عبدالواحد
انصرفت حبيبة مسرعة محاولة تنظيم حركة تنفسها ربما تهدأ تلك الطبول التي تدق بقلبها وصارت لا تقوى عليها من شدتها.
هكذا قلبها يأخذها لمنعطفاتٍ بعيدة لا تحسب لها حسبان، هاهي في حالة عشقٍ تشلّ كل قواها، صارت تخشى من نفسها أن قد تحولت إلى عاشقة ضعيفة تتبع أوامر قلبها ولا تقوى على مخالفته... تُرى لأين ستذهب بقلبها أيها العشق؟
ذهبت حبيبة إلى الفندق مع باقي أعضاء المنتخب في مختلف الألعاب الفردية المشاركة لحضور ذلك المؤتمر الصفحي، و لم يكن الكثير يفهم الأسبانية فالغالبية تتحدث بالإنجليزية.
أما رياض فلم يستطع تحديد شعوره تلك اللحظة، فلا زال تأثيرها يسيطر عليه، صار الآن يشعر بكل شيء ويفهم معناه، يشعر بذلك الخفقان الشديد بمجرد رؤيتها، الحديث معها، تلك القشعريرة اللطيفة بمجرد مصافحتها أو الاقتراب منها، تلك السعادة الغامرة التي تنتابه في وجودهما معًا، وحتى شعور الغيرة الذي جربه لأول مرة اليوم عندما ضحكت ونظر إليها آخرون.
صار يشعر بكل تلك المشاعر ويفهم معناها جيدًا وبصدق، لا يحيد ويزيّف حقيقة شعوره من جديد.
لكن أكثر ما ضايقه الآن أنه لم يتمكن من قضاء ذلك اليوم المميز معها، ذكرى العام الأول للقائهما، وقد
نوى الاعتراف بمكنون مشاعره اليوم، فإن كان هذا اليوم ذكرى الاحتفال بيوم العزوبية فقد صار ذكرى ميلاد قصة حب أروع ما يكون.
انتهى المؤتمر واليوم وجاء اليوم التالي، استعد الجميع ورحلوا جميعًا في طريقهم عائدين إلى أرض الوطن.
عادت حبيبة معانقة هاجر عناقًا شديدًا، وها هي تراها بوجهٍ آخر غير الذي تركتها عليه قبل سفرها، وأيضًا عانقت بشدة هذه الأم الجميلة نادية أم رياض ورباب أخت رياض؛ وقد صرن أخوات وكأن بينهن رابط الدم.
ذهبتا حبيبة وهاجر إلى شقتهما كان ذلك قبيل وصول رياض الذي لم يقابل حبيبة منذ أن ذهب إليها في (طرّاكونة).
بالطبع لم يخفى هذا الخبر عن أمه، فسرعان ما علمت من إيهاب عندما عاد دون رياض وقد أخبرهم بتفاصيل كل شيء، والأهم وجه رياض الذي قد صار مختلفًا وأخيرًا... لقد أحب رياض ودقَّ قلبه، لقد سقط في بحر العشق اللانهائي!
بالطبع مكثت الفتاتين تحكيان عن كل ما حدث لكل واحدة منهما طوال الفترة السابقة، وكيف عانت كل منهما في افتقادها لأختها؟ وماذا استطاعت حبيبة شراءه لهاجر، وكانت هاجر شديدة السعادة بعودة ابنة خالتها وأختها وصاحبة عمرها.
بعد أيامٍ قلائل تمت استضافة أبطال البطولة في مختلف الألعاب الفردية المشاركة وتقسيمهم على عدة برامج و عدة حلقات من تلك البرامج الحوارية المشهورة.
وجاء يوم استضافة حبيبة وبعض زملاءها، لكنهم لم يدخلوا معًا بل كانوا يدخلون للقاءٍ بعد كل فاصل متتاليِين.
وجاء دور حبيبة فدخلت إلى الأستوديو، كانت مرتدية كنزة ذات لون أرجواني تظهر عظمة ترقوتها وجزء من أعلى كتفيها مع بنطال أسود رافعة شعرها على هيئة ذيل حصان، تضع محدد العيون مع طلاء شفاه بدرجة لون كرزتيها فلا داعي لإخفاءهما بأي لونٍ آخر.
لكن هيئتها التي طلّت بها قد أصابت رياض بغضبٍ شديد وأثارت غيرته لدرجة شديدة لم يتوقع أن يكون عليها ذات يوم أو يشعر بالغيرة كيف تكون من الأساس! فتساءل من داخله كم شخص حملق فيها وشاهدها بهذا الجمال.
كانت حبيبة متوترة قليلًا؛ فهي المرة الأولى التي يستضيفها برنامج حواري مشهور على إحدى القنوات الأكثر مشاهدةً وشهرة.
رحّبت بها المذيعة وبعد حوارًا حول البطولة واللعبة، سألتها: إحكيلنا كده إيه اللي يخلي بنت جميلة زيك تتجه للعبة زي الملاكمة؟!
- في البداية ما كانش مقصود كانت مجرد صدفة، كنت مجرد واحدة عايزة تتعلم أي لعبة قتالية تتدافع بيها عن نفسها خصوصًا لو كانت لوحدها، وبعد ما لعبت اللعبة حبيتها واجتهدت فيها وفضلت على كده، دخلت بطولات من أول البطولات الإقليمية وبعد كده بطولات الجمهورية، شاركت في أكتر من بطولة دولية ومثّلت اسم مصر وأخدت بطولات إفريقية كمان والمرة دي كمان، أنا سعيدة جدًا إني بشارك في بطولات وبمثل اسم البلد.
- حقيقة إنتِ واجهة مشرّفة للبلد، تقولي إيه لأي بنت كنصيحة؟
- لازم تعرفي تدافعي عن نفسك بأي لعبة مش شرط الملاكمة، في التايكوندو و الجودو و... مشرط عشان تاخد بطولة، لكن عشان تدافعي عن نفسك خصوصًا مع انعدام الأخلاق في زماننا ده، وعمومًا لازم تلعبي رياضة مش لازم في جيم لو وقتك ما يسمحش ممكن تلعبي في البيت واصمدي واتحملي، المهم جسمك يفضل مشدود وصحتك جيدة وده نوع تاني من الثقة، في دلوقتي صفحات إنترنت مسؤولة عن ده وفيه أون لاين كوتشز ممكن تتابع أي حد منهم وهي ف البيت، كلي كل حاجة لكن بالراحة وما تحرميش نفسك من حاجة لكن كلي بالعقل، إحرقي كتير أو تاكلي على أد المجهود عشان تحرقي أول بأول، إشربي مية كتير جدًا، إحترسي من السكر والملح.
ثم ابتسمت.
- حبيبة في أقاويل بتقول إنك بتشتغلي جرسونة، يا ترى ده صحيح الكلام ده؟!
قالت المذيعة الأخيرة باستخفاف، شعرت حبيبة بحزنٍ يعتصرها، لكنها حاولت إخفاءه، فقالت: وإيه المشكلة! هو الشغل حرام؟! أيوة اشتغلت، اشتغلت زي بنات كتير بتشتغل عشان تعيش، عشان تصرف على نفسها.
كانت حبيبة تتحدث بهدوءٍ مزيّف وهي من داخلها بركان يتأجج على وشك الانفجار، لقد ضغطت تلك المذيعة الحمقاء على جرحٍ قديم لم يلتئم بعد بل يملأه القيح والصديد و مع كل ضغطة يؤلم.
انتهى اللقاء أخيرًا لكن ليس كما بدأ، فبعد أن كانت سعيدة بما وصلت إليه وحققته ونوع من التقدير عن طريق هذا اللقاء، جاءت تلك التي تتطلع إلى خبر يزيد من حجم مشاهديها دون أي اعتبارٍ إنساني، لقد كانت ملامحها متنمرة وساخرة منها كأنها تستكثر عليها ما آلت إليه رغم كل اجتهادها وتعبها لتصل إليه، ثم أنها لن تنافسها يومًا في عملها فلِمَ السخرية من أقدار الناس وحياتهم ومحاولة إظهار عيوبهم ونقائصهم إن سُميّت بالعيوب والنقائص! وحتى و إن نافستها فالمجتمع يحتمل عدد لانهائي من الناجحين وليس ناجحًا واحدًا، ومهما فعل المرء وصارع في الحياة فلن يأخذ إلا ما كُتب له بالقطمير... سبحانه مالك الأكوان المُقيت!
وفي مكان آخر بل في غرفة مكتب كبيرة موجودة داخل قصرٍ فخم، مكتبًا خشبيًا مزدانًا من الجوانب بنقوشٍ وحليٍّ نحاسية، له كرسي جلد مريح ثم أريكة كبيرة، كرسيان كبيران من الجلد الطبيعي من اللون البني الفاتح، منضدة مستطيلة زجاجية، مكتبة خشبية بنية اللون وشاشة معلّقة كبيرة، كانت الجدران منقوشة بطريقة كلاسيكية في تصميم تقسيمات الحائط والتابلوهات المعلّقة وبعض المصابيح المزركشة متدليًّا منها حبيبات كريستالية معلقة تفصلها مسافات بالإضافة إلى نجفة كبيرة في وسط الغرفة من الكريستال.
و قف رجل ستينيّ وقد اشتعل رأسه شيبا فصار شعره رماديًّا كالفضة، بالإضافة لوجود تجاعيدٍ على وجهه وعلى كفيه تظهر في مسكته لعصاه التي يتكئ عليها يسير خطوات متقطعة ثم جلس على تلك الأريكة المريحة.
ثم تبعته امرأة خمسينية مرتدية بنطالًا وكنزة أنيقة مربوطًا فوق رأسها وشاحًا صغيرًا ظهر من أسفله خصلات رمادية أيضًا من غرة شعرها.
جلست جوار هذا الرجل وتحدثت إليه بصوتٍ حنون: مالك يا رأفت؟ إنت تعبان و لا إيه؟
فنظر إليها بوجهٍ منحوت داخله ملامح حزنٍ عميق، ثم أجاب بتنهيدة: في تعب يا قوت مقدور عليه.
فقالت و هي تربت عليه: لسه ما نسِتش!
فابتسم بسخرية قائلًا: ولا عمري هنسى.
وهنا دخل شاب ثلاثيني وسيم مرتديًا بذة بنية فاخرة أسفها قميصٍ وردي اللون مفتوحًا أعلى زر ولا يضع رابطة عنق.
ارتمي على أقرب كرسي متأففًا يبدو على وجهه الضيق بعد أن حياهما: مساء الخير.
فأجابت قوت: مساء النور ياحبيبي، إيه مالك؟ في حاجة حصلت؟!
فأجاب بنفس ضيقه وبنيتاه تزادان قتامة من حجم الغضب داخله: تعبت يا عمتو من عادل ده، لولا الدم والنسب كنت دفنته من زمان، بس عامل حساب إنه ابن عمي وأخو صافي.
فقال رأفت بفرغ صبر: المشكلة الأزلية! طب هنخلص إمتى ونركز في شغلنا وبس؟!
فأجاب: يا بابا حضرتك ما تعرفش عمايله! ده بيجي الشركة نزهة وكل شوية يسحب فلوس، غير إن مفيش واحدة عاتقها لازم يعاكس أي واحدة أدامه غير سهراته المنحلة اللي الكل عارفها وبيحكي عنها وهو عامل نفسه مش سامع وبكل ثقة وبجاحة بينفي كل حاجة! و الله حاسس إن بعمايله الشركة دي هتجيب درفها.
فتنهد رأفت قائلًا: وأنا تعبت من كتر الشكاوي دي.
فربتت عليه أخته قوت قائلة: إهدى يا خويا، مش كده عشان صحتك، و انت كفاية كده يا نبيل!
فأجاب: أنا مش عارف إزاي عادل ده من عيلة القاضي!
فابتسمت قوت بسخرية وتهكم: قصدك إزاي إحنا من عيلة القاضي؟! أنا وإنت وأبوك وأختك شاهندة، لكن هو ده طبع العيلة كلها.
فأكمل رأفت: وهو عادل هيجيبه من برة! طالع لأبوه وجدوده بلا هم! ده تربية نشأت ومجيدة.
فنظر نبيل ناحية عمته قائلًا بإشفاق: لسه مش عارفة تسامحي جدو يا عمتو!
فتنهدت بمرارة قائلة: نفسي أسامحه ما أنا بنته في الآخر ، الدور والباقي عل ما نعرفش سكتهم هيسامحوه بجد؟!
فأسرع رأفت مجيبًا: أيوة إن شاء الله، و لا يمكن يجمّعوا الوحش أبدًا جُواهم عشان قلوبهم بيضة، بس لو....
ثم سكت بحزنٍ عميق.
فقال نبيل ونظر بينهما: شكلكم بيتكلم بالألغاز ومش هتريحوني، يبقى أطلع أنام أحسن.
فتابعه رأفت بقلة حيلة وقال: طب شغّل التلفزيون نشوف فيه إيه نفوّق كده قبل ما ننام.
فأمسك جهاز التحكم وأدار الجهاز، وما أن دار التلفاز حتى كان ذلك البرنامج التلفزيوني المستضيف لحبيبة، و بعد قليل تسلّطت الكاميرا على وجهها وهي تتحدث فوجم ثلاثتهم من أثر الصدمة.
فقطع ذلك الصمت نبيل قائلًا: إده يا عمتو! دي شبهك جدًا حتى أكتر من شاهندة.
فهمست قوت بصدمة بصوتٍ مرتعش: لا لا شاهندة مين؟! دي أنا...
******
(الفصل الرابع والعشرين)
بقلم نهال عبدالواحد
ما أن أدار نبيل التلفاز وكان ذلك البرنامج الحواري المستضيف لحبيبة، فوجم ثلاثتهم من أثر الصدمة.
فقطع ذلك الصمت نبيل قائلًا: إده يا عمتو! دي شبهك جدًا حتى أكتر من شاهندة.
فهمست قوت بصدمة بصوتٍ مرتعش: لا لا شاهندة مين؟! دي أنا.
فنظر رأفت لأخته وقال بصوتٍ مرتعش هو الآخر: قلبي بيقوللي إن هي.
فأمسكت قوت بيد أخيها مبتسمة وتومئ برأسها قائلةوقد بدأت تدمع عيناها: هي إن شاء الله، هي!
فأشار رأفت بسبابته المرتعشة ناحية شاشة التلفاز وقال بصوته المختلط بالبكاء: مكتوب اللاعبة حبيبة القاضي بطلة مصر وأفريقيا، تبقى هي حبيبة بنتي.
فصُدم نبيل من كلام أبيه وصاح: بنتك! بنتك إزاي؟!
وهنا اقتحمت الغرفة مسرعة فتاة عشرينية تشبههم في الملامح لكن ذات شعرٍ فحمي حالك السواد، فأسرعت قائلة: إنتو بتقولوا إيه! مين بنت مين؟! وبع...
وسقطت عيناها على حبيبة بشاشة التلفاز، فاتسعت حدقتاها ثم قالت بصوتٍ مرتعش هي الأخرى: مكتوب اسم حبيبة القاضي وشبهنا! لا دي كأنها إنتِ بالظبط يا عمتو! بص يا نبيل صورة عمتو وهي صغيرة اللي متعلقة، هي هي...
تحدثت مشيرة ناحية إحدى التابلوهات المعلّقة ثم التفتت لتكمل حديثها لتجد أبيها واقفًا أمام شاشة التلفاز مباشرة يتلمس الشاشة ويبكي بحرقة.
فاقتربت الفتاة هي وأخاها يسندان أباهما المنهار بالبكاء ثم تحركا به حتى أجلساه على الأريكة جانب أخته كما كان، ثم أسرعت حبيبة بإعطاءه كوب من الماء، فرشف عدة رشفات ثم أعطى الكوب لابنته.
هدأ رأفت قليلًا وكفّ عن بكاءه إلا من صوت بعض الشهقات، جثيا أمامه نبيل وشاهندة ينتظرا ما سيقوله لكنه سكت ونظر لأسفل مطبقًا عينيه بقوة.
قطع نبيل الصمت قائلًا ممسكًا بكف أبيه: إطمن هعمل اتصالاتي وأجبهالك لحد عندك.
فقال رأفت يومئ برأسه نافيًا: لا يا نبيل! أنا لازم أروحلها بنفسي.
فأومأ نبيل بالموافقة ثم قال: حاضر، كل اللي حضرتك عايزه هعمله، بس أفهم.
فنظر لأخته من جديد فأومأت برأسها أن نعم وقالت: قول يا رأفت! لازم يعرفوا.
فأومأ برأسه موافقًا وقال: الحكاية بدأت لما...
أما حبيبة فذلك اللقاء قد أيقظ الكثير والكثير داخلها وتحولت إلى كائنٍ صامت منعزل في حجرته لا تفعل أي شيء ولا حتى الطعام والشراب.
يئست هاجر أن تخرجها من حالتها بشتى الطرق أو حتى تتحدث معها كما كان... لكن هيهات!
لقد صار الأمر مقلقًا أكثر من اللازم، تلك التصرفات ستودي بها حتمًا إلى الاكتئاب والانهيار التام.
بعد عدة أيام من لقاءها بالبرنامج، عزلتها وحدوث تلك الحالة، وكانت هاجر كلما يئست لم تجد إلا أن تذهب لعملها تجدد طاقتها حتى تقترب من جديد.
وفي هذا اليوم جاءت نادية زائرة إليهما فقابلتها هاجر وملامحها مهمومة فأفسحت لها لتدخل.
بعد أن سلمت نادية عليها قالت: أخبار حبيبة إيه؟
فتنهدت هاجر قائلة: زي ما هي، أنا خايفة عليها أوي! حالتها بأت غريبة، حصلها كده أيام ما هددتها إني هقاطعها، بس المرة دي أشد.
فتنهدت نادية ومصمصت شفتيها بصوتٍ مسموع قائلة: الله يسامحها المذيعة المؤذية دي!
- بيجروا ورا الفضايح ومجرد هيصة إعلامية من غير ما يراعوا أحساسيس الناس.
ثم أكملت هاجر: عارفة حضرتك طول عمرها كانت بتتعامل عادي وتضحك وتهزر، بس أنا الوحيدة اللي حاسة بيها، كنت بلمحها لما تشوف أي طفلة صغيرة ماسكة في إيد باباها أو ماشية معاه، كنت بشوفها لما تضطر تكتب اسم أبوها في الأوراق الرسمية وأول ما تبدأ تكتب ألاحظ إيدها اللي بتترعش وعينيها اللي بتدمع، كنت بشوف حاجات كتير لكن كنت بعمل نفسي مش واخدة بالي، لكن المرة دي خايفة بجد ومش عارفة أتعامل معاها خالص.
سكتت نادية قليلًا ثم أخفضت صوتها: كلام ف سرك رياض كلمني بخصوصها في حاجة بس مش عايزاكِ تفهميني غلط.
فأسرعت قائلة: خير.
فقالت بتردد: قال إنها محتاجة لدكتور نفساني.
فأجابتها هاجر: وأنا بصراحة حاسة بكده خصوصًا الفترة الأخيرة، بس...
فأومأت نادية برأسها قائلة: كله خير إطمني، عايزة أخشلها.
فلم تعقب هاجر واكتفت أن تنهض متجهة إلى حجرة حبيبة، طرقت الباب عدة طرقات ثم أدارت هاجر مقبض الباب وفتحت قليلًا تبحث عن حبيبة بعينيها داخل الحجرة فوجدتها جالسة أرضًا ضامّة ركبتيها إلى صدرها، تحدق في الفراغ بعينيها الغائرتين ووجهها الأصفر الشاحب.
اقتربت نادية منها بهدوء: حبيبة يا روحي، معقول طول الفترة دي وما تفكريش تعدي تسألي وأنا لوحدي طول الوقت؛ والله ده حتى رياض شغّال ليل ونهار عشان المحل الجديد، أصله لسه بيتشطّب إنتِ عارفة الصنايعية وحبالهم الطويلة، والشحنة اللي شحنها لسه ما وصلتش، لكن بكرة الجمعة وهو هيكون موجود، مستنياك بكرة إن شاء الله عل غدا، ومفيش اعتذارات.
فنظرت إليها حبيبة ثم حدقت في الفراغ من جديد دون أن تعقب بأي كلمة، فسكتت نادية.
و بعد فترة التفتت إليها حبيبة قائلة بحسرة: أنا ليه بيحصل معايا كده؟! ليه مستخسرين إني أنجح؟! ليه بيشمشموا وكأنهم هيلاقوا فضايح تزود متابعاتهم، ليه؟!
فربتت عليها نادية وقالت لها بهدوء: ما تفكريش في كلامها، الإنسان الناجح دايمًا يلاقي الناس بتكسر مقاديفه.
فبدأت حبيبة تبكي قائلة: والله أمي كانت محترمة! والله كانت متجوزاه على سُنة الله و رسوله! يبقى ليه؟! شوفتيها سألتني وبتبصلي إزاي! كانت مستنياني أحكيلها إيه دي! خلاص مفيش رحمة!
ثم قالت باحتقان: كله بسببه...
فنظرت ناحية هاجر قائلة: طب هو فين أراضيه يا هاجر؟
فصاحت حبيبة: ما نعرفش عنه حاجة ولا عايزة أعرف! عارفة! ياريته يكون حي، عشان... عشان هخنقه بإيدي دول!
كانت تتحدث بطريقة وكأنها مصابة بمس شيطاني، فصاحت نادية ناحية هاجر قائلة: روحي اعملي كوباية ليمون بسرعة.
ثم اقتربت من حبيبة تربت عليها فارتمت حبيبة في أحضانها وبكت بحرقة شديدة، ونادية تمسح على رأسها متمتمة برقيتها.
ظلت تمسح على رأسها وتتمتم بصوتٍ غير مسموع حتى هدأت ونامت، فقامت نادية بتعديل وضعية نومها ثم خرجت من حجرتها.
فقالت وهي تغلق باب الحجرة: خلي بالك منها وبلاش تكلميها في الموضوع ده بالذات، مستنياكم عل غدا بكرة ما تنسيييش، يلا سلام عليكم...
فتحت باب الشقة وانصرفت...
وفي اليوم التالي ذهبت بالفعل حبيبة وهاجر إلى نادية قبيل العصر.
كانت حبيبة أكثر هدوءًا من الأمس لكن وجهها شاحبًا لدرجة ينعدم منه الحياة، كان الجميع مجتمعًا في بيت نادية رياض، إيهاب، رباب، زوجها طارق وأبناءهما وقد تفاجؤا جميعًا بهيئة حبيبة خاصةً رياض، الذي لم يتوقع أن تكون قد وصلت لهذه الدرجة!
جلسوا جميعًا بعض الوقت ثم بدؤا في إعداد سفرة الغداء، وكان الغداء بناءً على طلب رياض عبارة عن فسيخ وملوحة، مع بعض الخضروات الطازجة والبطاطس المقلية والطحينة.
جلس الجميع على سفرة الغداء يأكلون في شهية تناسب مثل هذه الأكلة الشعبية وساد الجو بعض الأحاديث الخفيفة والمزحات.
كانت حبيبة تتبادل النظرات والضحكات الباهتة بين الجميع وبعض الردود الخفيفة.
فقالت نادية توجه كلامها إلى حبيبة: مالك يا حبيبة مش بتاكلي ليه؟!
فأجابتها بهدوء: باكل والله!
فقالت هاجر مازحة: حبيبة ضعيفة أدام أي كمية من الجزر والجرجير .
فتابع إيهاب بمزاح: إيه جزر وبرسيم!
فأجابته حبيبة: ليه شايفني أرنبة؟!
فضحك إيهاب وقال: حضرتك دي بتتقال في موقف تاني خالص.
فرمقه رياض وصاح: خف يا إيهاب!
ثم التفت لحبيبة الجالسة جواره وقال: دوقي وجربي هيعجبك صدقيني.
فقالت هاجر: حبيبة عمرها ما داقته وكل ما نفسي تهفني عليه وأقولها ما ترضاش وتكسّلني.
فقالت نادية: والله كنت عايزة أعمل غدا تاني خصوصًا وانتو راجعين من السفر عدمانين، لكن رياض قال لازم فسيخ وملوحة وجابهم بنفسه، كان نفسه فيهم.
فقالت حبيبة: عادي و الله أنا باكل أهو.
فتسألها نادية بصوتٍ حنون: طب كان نفسك تاكلي إيه مادام الفسيخ مش على هواكِ.
فابتسمت بهدوء وقالت: والله عادي!
فتدخلت هاجر قائلة: هي كان نفسها ف الباذنجان المقلي ساعة ما جت.
فنهضت نادية مسرعة فنادتها رباب قائلة: إيه يا ماما رايحة تقلي بدنجان ولا إيه!
فأجابتها: لا يا تحفة، أنا كنت عملاه ف المطبخ ما فكرتنيش بيه ليه؟!
فقالت هاجر: كنت باكله زمان مع ماما الله يرحمها بس كانت بتخبيه من خالتو عشان كانت الكِلية بتتعبها، بس كانت تسهيها وتروح تاكل منه برضو.
فضحكت ثم التفتت لحبيبة الناظرة لها وسكتت، فجاءت نادية، وضعت طبق الباذنجان أمام حبيبة وقالت: كلي حبيبتي أي حاجة.
فأومأت حبيبة برأسها، فقال طارق مازحًا بصوت يقلّد شخصية الجزار في فيلم المافيا: ما لكم أيها المصريون تكرهون السوشي وتحبون الفسيخ بريحته دي؟!
ثم قهقه فضحكت حبيبة ضحكة رنانة قليلًا فنهرها رياض قائلًا: إيه زغزغك!
فنظرت إليه ولم تعقب فقالت نادية: لا ما تنكدش عليها مش بحب تحكمات الرأي دي! ده حتى أبوك الله يرحمه كان راجل فرفوش و يحب الضحك والهزار.
فقال لها: بس لو ضحكتِ كده أدام حد حتى لو كان أخوه كان بيعمل إيه هه!
فقالت: يا خبر! ده كان بيقلب الدنيا وأفضل رايحة جاية أصالحه وأطيّب بخاطره و أبقى بموت لحد ما يرضى.
فقال طارق وهو يلكز رباب بخفة: شايفة! إسمعي وإتعلمي، مش تبقي غلطانة وزعلانة وأنا اللي أصالح كمان!
فأجابته رباب بغنج: والله! خلاص بأيت وحشة دلوقتي! طب ماشي!
فجذب يدها وقبلها قائلًا: إهدي خلاص إنت ما صدقتِ!
ثم امتعق بوجهه وقال: إف!
فضحكت وقالت: أحسن ما أنا باكل فسيخ وبصل!
فقال إيهاب: ما شوفتيش أخوكِ وإحنا ف الصين كان كل ما بنت تيجي تكلمه على أساس إنه أمور ومُز يعني، يطلع يجري ويقول دي بتاكل صراصير! طب ما أنت يا عم بتاكل فسيخ و ملوحة كلابي.
فضحكت حبيبة وقالت: إيه! كلابي!
فضحك إيهاب بشدة وقال: آه، ما الملوحة دي سمك إسمه كلاب، يلا حبيبة كلي كلاب.
فرمقه رياض وقال: ما تسكت بأه!
ثم التفت إلى حبيبة و قال بلطف: مالكيش دعوة بيه، جربي ومش هتندمي، دي ملحها خفيف وحلوة.
فقطع قطعة خبز ووضع بها قطعة صغيرة من الفسيخ ثم غمسها في الطحينة واقترب بجسده كله نحوها ومد يده باللقمة وقال: دوقي كده والله هتعجبك! وكلنا بناكل أدامك أهو.
فرمقته بنظرها تومئ له أن يبتعد قليلًا فقد صار قريبًا للغاية وقد أصابها خجلٌ شديد، لكنه لم يتحرك ببنت حركة وأصر على أن تفتح فمها قائلًا: إفتحي الأول! الطحينة هتسيح وتغرّق الدنيا.
فاضطرت لأن تأكل تلك اللقمة وقد سال القليل من الطحينة بالفعل أسفل شفتها السفلية فمدت يدها لتسحب منديلًا لكن كانت سبابة رياض هي الأسرع ومسح قطرة الطحينة وكانت قريبة جدًا من شفتها فلمسها بعفوية، لكن وجم اثنانتهما وتعلقت نظراتهما للحظاتٍ، وكان إيهاب وطارق متابعين بنظرات تسلية ويتهامسان بصوتٍ خافت.
مضى باقي اليوم في جلسة ودية عائلية بين مزحاتٍ خفيفة كان إيهاب وطارق يحرصان أن يتوجا بها الجلسة ليخففا عن حبيبة مهما رمقهما رياض، وكانت حبيبة بالفعل قد اندمجت كثيرًا مما جعل رياض يتقبل وضع هذه المزحات.
لكن ذلك لم يمنع أنها كانت من حينٍ لآخر تنظر بطرف عينها ناحية طارق عندما يمازح أولاده خاصةً عندما يحمل عالية ويجلسها على قدمه ويلبي لها طلب تصر ألا يفعله غيره فتلتمع عينا حبيبة قليلًا تهددان بنزول دمع لكنها تنجح في السيطرة عليه.
لم يغيب عن رياض تلك اللقطات وما تعانيه حبيبة وهو ينوي من داخله على شيءٍ ما، حتى انتهى اليوم وانصرفت حبيبة و هاجر متجهتين إلى البيت.
وصلت الفتاتان داخل بيتهما ولا تزال هاجر تعيد المزحات من التي قد حدثت في ذلك اللقاء ليستمر ضحك حبيبة حتى ولو مرسومًا بالكذب على وجهها.
لكن بعد قليل دقّ جرس الباب فنهضت هاجر لتفتح الباب وما أن فتحت حتى تفاجأت بـ...
تكملة الرواية بعد قليل
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا