رواية هل الضربة قاضية الفصل الثالث والثلاثون والرابع والثلاثون بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
رواية هل الضربة قاضية الفصل الثالث والثلاثون والرابع والثلاثون بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
(الفصل الثالث والثلاثين)
بقلم نهال عبدالواحد
مرت أيام وأيام وحبيبة تتابع جلساتها بانتظام عند هذه المتخصصة، حرص رياض على الذهاب معها وانتظارها بالخارج، تقضي ما تقضيه من وقتٍ بالداخل ثم تخرج في حالة لا تعليق عليها تظل صامتة طوال الطريق فيحترم صمتها دون إلحاح منه لتحكي فهي تبدو دائمًا منهكة بعد هذه الجلسات.
أحيانًا تحكي في جلساتها عن طفولتها، عن أمها، عن هاجر ويطول حديثها عنها فهما متلازمتين طوال عمرهما متشاركتين في كل شيء، لا تتصور حياتها دونها على الإطلاق لتتأكد المتخصصة من أهميتها كشخص مؤثر في حياتها.
ثم يأتي دور الحديث عن رياض ذلك الذي دخل حياتها من اللاشيء، تحاول تذكر كيف تسلل داخل حياتها أو داخل قلبها بهذه الصورة لكنها لا تتذكر! رغم أنه لم تكن معرفتهما إلا مجرد عام وبضعة أشهر، لكن في النهاية صار شخص لا تستطيع الابتعاد عنه، ربما السبب الرئيسي لذهابها لمتخصصة هو عرض ذلك الأمر عليها، لا تتصور كيف تغيرت طبيعتها الشديدة ولا شخصيتها الصلبة الجافة من أي مشاعر، فقد كانت تعلم أنها مجرد صخرة وتفتخر بذلك فليس لها أي نقاط ضعف، أما الآن فقد لانت الصخرة، صارت تشعر وتخشى فراق أشخاص بعينهم.
أما عن نبيل وشاهندة فكان لهما نصيب في كلامها عنهما فلم تنكر إحساسها بهما منذ أول لقاء وانجراف مشاعرها نحوهما فكما يقال «الدم يحن.»
لكن لا تزال بموقفها لأبيها فلم تذكره إطلاقًا في قَصصها ولم تسألها المتخصصة عنه لدرجة أثارت فضول حبيبة؛ فقد انتظرت أن تسألها وتعاتبها لتنفجر فيها كعادتها كلما جاء ذكره لكنها لم تفعل وهذا في حد ذاته جعلها هي من تفكر في هذا الأمر، لقد صار لديها رغبة للتتحدث هي عنه، لكنها لا تدري من أين تبدأ!
هكذا فالممنوع مرغوب دائمًا.
ولا زالت شاهندة تجئ من وقت لآخر لحبيبة وهاجر ولا زال نبيل يوصيها بألا تتحدث عن أبيهم إطلاقًا كما يفعل هو بالضبط.
كانت حبيبة بالفعل تلاحظ ذلك، لا أحد يتحدث معها بشأن أبيها، مسامحته وكونه رجلًا مريضًا وحالته قد تأثرت ببُعدها، كانت تريدهما يتحدثان عنه حتى هذه المتخصصة لا تتحدث عنه أيضًا، مما زاد انشغالها بهذا الأمر.
كان لا يزال رأفت مريضًا ومتأثرًا بشدة من ابتعاد ابنته عنه رغم أن نبيل وشاهندة يطمئنانه عليها دائمًا، خاصةً عندما تصل شاهندة من عند أختها فإنها تذهب لأبيها في غرفته التي لم يعد يخرج منها وتظل تحكي له كل شيء عنها وكل شيء قد فعلوه معًا؛ تريد فقط أن تراه مبتسمًا فيضطر لتصنّع الابتسام لكن نبيل كان يدرك ذلك ويتألم من أجله كثيرًا وكان قد أخبره عن خضوع حبيبة لفترة من إعادة التأهيل النفسي وأن تلك المتخصصة زميلة قديمة ومحل ثقة وهو متابعًا للأمر بنفسه.
وذات يوم بينما كان نبيل جالسًا مع أبيه يتحدثان بشأن أمور تخص مسار العمل في الشركة وكانت قوت أخت رأفت جالسةً معهما مستمعةً دون تدخل، فهي تكاد لا تترك أخاها.
وجاءت شاهندة من الخارج وكانت عائدةً توًا من عند حبيبة فظلت تحكي وتمزح بعض الوقت حتى ابتسم أبوها.
وفجأة رن هاتف نبيل وكانت الدكتورة سلوى المرشدة النفسية فنهض مسرعًا متجه نحو النافذة ليتحدث بعيدًا عن الجميع، لكن هيهات فقد سكت الجميع وانتبه بكل حواسه مع نبيل.
- أهلًا يا دكتورة! إزي حضرتك؟ يا ترى عندك جديد؟
- الحمد لله بخير، إزي صحة الوالد ياريت يكون أفضل!
- إنت عارفة الإجابة كويس.
ثم تنهد وقال: الحمد لله على كل حال.
ثم تساءل: إيه الأخبار؟ يا ترى في جديد؟
- كل خير إن شاء الله، كنت عايزة أبلغ حضرتك إن حبيبة ممكن تعيش معاكم في القصر.
فتهللت أساريره قائلًا بفرحة: بجد! ده أحلى خبر والله!
- بس في شرط كده يعني.
فابتلع ريقه ببطء ثم قال: خير!
-لسه ده مش ميعاد اللقاء.
- يعني إيه!
- يعني تقدر تعيش معاه في نفس البيت، لكن من غير ما يتقابلوا وبرضو ما يتجابش سيرته إطلاقًا.
- إنتِ بتقولي إيه! ده كان يجراله حاجة! تبقى معاه ف بيت واحد ومش عايزة تشوفه! مش كفاية ساكتين وصابرين عليها كل الشهور دي!
- بص حضرتك، زي ما فهّمتك قبل كده مشكلة الفقدان الأبوي مش مشكلة بسيطة ولا هيّنة، ومع كل موقف بتبدأ تفتكر كل حاجة أو حتى تربطها به كنوع من دوافع النفس، وتبدأ تسترجع كل تفاصيلها وتحس بيها وتتأثر كأن الموضوع لسه جديد وحاصل توًا وكأنه عبارة عن مواقف كتيرة بتتكرر مش مجرد ذكريات بتستعيدها، تمام زي اللي بيتعرض لحادث شديد اللي بيأثر على العصب السمبثاوي فيرتفع مستوي نسبة الإدرينالين لفترة طويلة تخلي اللي اتعرض للحادث ده يفضل يفتكره كل شوية ويشعر بنفس الإحساس ونفس الألم اللي حصل وقتها، وبرضو بطمن حضرتك إن الشعور العدواني والرغبة في الانتقام ده ما وصلتش لحد العدوان المجتمعي، حالات كتير لما بيفقدوا الأب بيتحولوا لشخصيات عدوانية وإجرامية اتجاه المجتمع كله وكأنه بيحمّل المجتمع سبب اللي حصله وانتقامه بيكون شديد، لكن حبيبة الحمد لله ما وصلتش للدرجة دي، ربما يكون بسبب لعبة الملاكمة لأن لها قدرة عالية عن تنفيس الطاقات والانفعالات الزايدة اللي تؤثر على صحة الشخص وسلوكياته، وإحنا مشينا معاها بطريقة الممنوع مرغوب وفعلًا كتير كنت بحس إنها هي اللي عايزة تحكي عنه بس مستنياني أسألها، وأكيد حضرتك حسيت بده وإنت بتتعامل معاها.
فأومأ برأسه وقال: فعلًا، حتى بحس إنها سانّة سنانها عشان تجهز للعركة اللي هتتعاركها معانا، بس الطلب ده صعب ومش عارف إزاي هو هيتقبله!
- صدقني هيتقبله، لأنه أب وكل مُناه إنه يشوفها ويطمئن عليها إنها معاه في نفس البيت، وهيتقبل نص حل أحسن من مفيش، هيتقبل يشوفها من بعيد لبعيد.
- أنا فعلًا بتمنى إنها تيجي تعيش معانا، لكن مش بالصورة دي.
- صدقني الصورة دي هتقصّر الطريق، بس زي ما اتفقنا من غير أي ضغط من أي نوع ولا أي تلميحات، هي ذكية والأذكياء زي ما حضرتك عارف بيتعبونا في التعامل الغير مباشر.
فتنهد وقال: ربنا يسهل! أشكرك جدًا، حقيقي مش عارف من غيرك كان إيه اللي هيحصل.
- ما تشكرنيش، ده عملي اللي لازم ءأديه على أكمل وجه، ناهيك بأه إنها شخصية جميلة ولطيفة وتتحب والتعرف عليها من حسن حظي!
انتهت المكالمة وأغلق نبيل الخط، ظلّ واجمًا لا يدري من أين يبدأ! وإن كانوا قد سمعوا بعض من الحوار لكنهم يحتاجون لمزيد من التوضيح.
فناداه رأفت: فيه إيه يا نبيل؟ مش دي الدكتورة اللي بتتابع أختك؟!
فأومأ برأسه بهدوء، فأكمل الأب: طب في إيه؟
ثم ابتسم وقال: خلاص هينفع تيجي تعيش معانا!
فأجابه بتوتر ظاهر: يعني مش بالظبط كده.
فتدخلت قوت بانفعال: يعني إيه مش بالظبط كده ؟! ما توضح كلامك يا نبيل!
فسكت بعض الوقت كأنه يبحث عن الطريقة المثلى لشرح ما هو مطلوب، ثم تحدّث بلعثمة واضطرب: هو.. أصل...
فقاطعه الأب: خلاص فهمت! مسموح تيجي لكن مش مسموح تتعامل معايا!
فأومأ نبيل برأسه، فقالت قوت بغضب: ليه إن شاء الله؟! الموضوع ده طوّل وبوّخ أوي على فكرة!
فقالت شاهندة: والله يا عمتو حبيبة طيبة وشخصيتها حبّوبة بس...
فقاطعتها بنفس حدتها: بس إيه وبتاع إيه؟! ده أبوها وراجل كبير وتعبان! يعني إيه تيجي تعيش معاه في بيت واحد وما تتعاملش معاه؟! مستنية يجراله إيه تاني!
فقال نبيل: هي عايزة الخطوة دي تيجي منها وما تكونش مجبورة عليها.
فتأففت قوت وهمت تكمل حديثها الحاد فقاطعها رأفت قائلًا: و أنا موافق يا نبيل، موافق على النص حل، أقله هقدر أشوفها حتى لو ما اتكلمتش معاها، هكون مطمن إنها بايتة معايا ف نفس البيت مش بايتة في مكان بعيد عني، أنا موافق روحوا وهاتوها هي وبنت إسماعيل من بكرة.
فهاهو الأب! فلا يوجد رجل يهدي السعادة بلا مقابل سوى الأب.
فابتسم نبيل متنهدًا براحة، ثم انتبه قليلًا وقال: بس دي هنقنعها إزاي ولا نفاتحها إزاي؟!
فابتسمت شاهندة قائلة: سيب الموضوع ده عليّ.
بالفعل في اليوم التالي ذهبت شاهندة ونبيل إلى بيت حبيبة بحجة زيارتها، وبعد السلام والترحاب والأحاديث المتنوعة قالت شاهندة: بقولك إيه يا بيبو!
أجابتت حبيبة بابتسامة: قولي!
فأكملت شاهندة: ما تيجي تعيشي معانا ف القصر.
فوجمت حبيبة وهاجر على اختلاف أسبابهما، فأكملت شاهندة: أنا أخدت عليكم في حياتي وساعات مش بعرف آجي كل يوم، وساعات ببقى عايزاكِ في نص الليل أجيلك إزاي وقتها يا أختي الكبيرة؟! وبعدين في حاجات كتير عايزة نعملها سوا وأماكن كتير نروحها سوا مش بس نيجي نقعد كده.
فقال نبيل: طب والله أفكارك تجنن يا شاهي، وبآيتي بتعرفي تفكري!
فقالت متصنعة الغضب: يا سلام يا اخويا!
ثم التفتت إلى حبيبة قائلة: هه قُلتِ إيه! ويا ستي لو على بابي مش هنخليه يحتك بيكِ نهائيًّا... هه وافقي بأه!
كم هزها هذا الشرط وأحدث ألمًا داخلها لدرجة لاحظها من حولها خاصةً عندما شردت، وقد سعد نبيل وشاهندة بهذه الحالة التي انتابتها، إذن فقد صارت له مكانة وحيّز في قلبها.
لكن بعد لحظات استعادت نفسها وقالت تنظر ناحية هاجر: إنت عارفة كويس يا شاهي إني ما اقدرش أبعد وأسيب هاجر.
فقالت هاجر محاولةً إخفاء ألمها لكنه ظاهر في حشرجة صوتها: ما تشغليش بالك إنت بيّ، إنتِ هتعيشي معاهم مش هتقاطعيني يعني وممكن نزور بعض كمان.
فتألّم نبيل من أجلها ثم قال مبتسمًا بحنان ناظرًا إليها: ومين قالك إنك هتتسابي هنا لوحدك؟! رجلك على رجلنا، سبق وقلتلك إنتِ م العيلة.
فازداد توترها ودقات قلبها المتلاحقة رغم عدم مناسبة الوقت، ثم قالت وهي تجاهد نفسها لتهدأ: آسفة جدًا مش هينفع، مااتعودتش أعيش عالة على حد.
فاتسعت حدقة نبيل وقال بلغة آمرة: عالة على مين؟!
طب مش هحاسبك على اللي قُلتيه! لكن هتسمعي الكلام وتلمي حاجاتك إنتِ وحبيبة!
لم يعجبها أسلوب نبيل الآمر، فنهضت واقفة أمامه مباشرةً ثم قالت: يعني حضرتك حكّمت رأيك علينا وقعدتنا في البيت ومنعتنا نشتغل، كمان هتتحكم وتأمرنا نعيش في قصرك! هي أختك ءأمرها براحتك لكن أنا لا.
رغم إشعالها لغيظه هذه المتمردة لكنها زادت من إعجابه وتعلّقه بها، فنهض واقفًا أمامها مباشرةً ولم تكن قد حسبت رد فعل كهذا أو انتبهت لهذا القرب، لقد كانا قريبين للغاية، كان يتأمل ملامح وجهها بكل دقة وتفصيل عن قرب، يشتم رائحة عطرها قليلًا شعر بأنفاسها الغاضبة تلفح وجهه فازداد تعلّقًا بها وازدادت ضربات قلبه بقوة، لم يشعر بهذه المشاعر المتداخلة من قبل، كل ما يسيطر عليه الآن هو رغبة في ضمها بين ذراعيه وهو على يقين بأنها ستهدأ تمامًا بل ستذوب بين يديه، بل وأسرع من قطعة السكر في الماء الساخن.
فقال بهدوء وطريقة لم تعهدها إطلاقًا: أنا مش معترض إنكم تشتغلوا، أنا اعترضت على نوع الشغل، مش معقول تشتغلوا عند حد وعندنا شركة العيلة، تقدري تنزلوا تشتغلوا من بكرة، تقدروا تعملوا كل حاجة نفسكم فيها، المهم تكونوا جنبنا.
كانت نبرة صوته وطريقة كلامه الساحرة قد ألجمت غضبها بل ألجمت لسانها عن الحديث وتحكّمت في كل إنشٍ فيها وأقسم من داخله أنه لو جذبها نحوه الآن بين ذراعيه فلم يجد أدنى مقاومة.
فقالت حبيبة والتي كانت متابعة جيدة لهما وقد كانت تكذّب حدسها من قبل لكنها قد تأكدت من شكها بعكس شاهندة التي لم تنتبه لهما: بس إحنا ما نفهمش حاجة، أنا يادوب معايا ما يعادل بكالوريوس التجارة وهاجر بالعافية خليتها تخش الجامعة المفتوحة تاخد شهادة منها.
فقال نبيل ولا زال متأملًا لهاجر: أنا موجود وهعلمكم كل حاجة ، وبعدين لو عل دراسة هي مش بتروح غير عل إمتحان مش كده!
وجه السؤال إلى هاجر فأومأت برأسها، فأكمل قائلًا: خلاص، يبقى تتدربوا وتشتغلوا وأبقى أديكي أجازة قُرب الإمتحانات، زي ما هدّيكِ إنتِ كمان يا حبيبة لما يكون عندك بطولة ولا حاجة، وبعدين إنتِ لازم تتمرني باستمرار ولا إيه!
فابتسمت حبيبة ثم اتجهت ناحية أخيها وتعلّقت برقبته تشكره معبرة عن امتنانها له، بينما كان ناظراه متمركزين على هاجر كأنما يقول لها بلغة لا يفهمها إلا هي، ألا نظرتِ إلى هذا العناق الحار؟ كم أتمنى لو أعانقك أنتِ أيضًا وأؤكد لكِ أن لن تجدي راحة على هذه الأرض إلا بين ذراعيّ وأنتِ مستندة على قلبي...
(الفصل الرابع والثلاثين)
بقلم نهال عبدالواحد
بالفعل اقتنعت حبيبة وهاجر، أعطاهما نبيل مهلة يوم لجمع متعلقاتهما، وقد جمعتهما بالفعل وهاهي الليلة الأخيرة.
لكن هاجر لم تعد لطبيعتها، بل جلست وحدها تزاحمها الأفكار محدثة نفسها...
لا أدري ماذا حدث لي؟! لماذا لم أُصر على رأيي في عدم الذهاب معهم؟! يا إلهي! ما هذا الضعف الذي ألمَّ بي؟! كنتُ أقوى وأكثر تحكُّمًا وتحمُّلًا، لم أتخيل يومًا أن أسقط في بحار العشق العميقة هكذا!
أجل! صرتُ معترفة بأني أحبّ، بل أني قد سُحرت بهذا النبيل، بِتُّ لا أُنكر تأثيره عليّ، ولا أدري إلى متى؟!
و تُرى ما آخر هذا؟ لماذا أشعر بألمٍ قريب؟ أم هي مجرد مخاوف و تهيؤات؟
حاولت هاجر التصالح مع النوم لكنه أبَى المصالحة وأصرّ على البعد و الهجران.
ومن ناحية أخرى كانت حبيبة تعاني من فوضى مشاعرها المختلفة وأفكارها المتبعثرة محاولة توقع أي شيء فتحدّث نفسها هي الأخرى...
لا أستطيع وصف مقدار إحساسي ولا ماهيته نحو المستقبل ونحو قرار العودة إلى العائلة، تُرى هل فعلًا لن أقابل أبي؟!
ماذا؟! هل قُلتِ أبي؟
لا لا بل أقصد ذلك الرجل! حقيقةً أنا لم أجرّب الكذب من نبيل أو شاهندة ومؤكد سيفيان بوعدهما لي.
هل ستصمدين أمام ذلك الشعور الذي بدأ ينبت في قلبك؟! إن ذلك الرجل صار يخطر ببالي طوال الوقت!
هل أسامحه وأقبل التعامل معه؟!
لا أدري ماذا أفعل؟! فحتى الآن أنا مشوشة!
لكن! لقد نسيتِ أمرًا في غاية الأهمية، رياض!
كيف سأراه فيما بعد؟ كيف سأتحمّل بعاده عني؟!
أجل فأنا سأشتاق إليه وسيكتوي قلبي بلوعة حبه وشوقي إليه، أخبرني متى ألقاك!
ثم نهضت فجأة أمسكت بهاتفها واتصلت بأخيها.
فجاءها صوته ناعسًا: أيوة يا حبيبة، إنتِ كويسة!
فأجابت بخجل: أنا آسفة، شكلي صحيتك.
- ولا يهمك يا حبيبتي، هه جهزتِ كل حاجة!
- آه، كله تمام.
- تحبي أجيلكم بكرة إمتى؟
- زي ما تحب.
- حبيبة لو مش مستعدة أو حاسة إننا بنضغط عليكِ قولي و نأجلها بعدين.
- لا لا أبدًا، مفيش ضغط خالص.
فقال بتثاؤب: طب يا بيبو مش عايزة حاجة!
- شكرًا يا نبيل...
وقبل أن يغلق الخط نادته مجددًا: نبيل!
فابتسم قائلًا: والله عارف إنك عايزة حاجة! قولي على طول ما تتكسفيش، محتاجة فلوس ولا حاجة!
- لا لا، مش كده خالص، والله الفلوس اللي إدتهالي بحالها ما اتحرمش منك أبدًا يا اخويا!
- طب ما تقوليش كده لأن ده مالك وحقك، وحتى لو مش مالك فأنا أخوكِ الكبير يعني لو ما طلبتيش مني هتطلبي من مين؟!
- يا حبيبي إلهي ربنا يسعدك ويفرح قلبك ويحققلك كل ما تتمنى!
فتهللت أساريره قائلًا: الله ع الدعوات الجميلة! هه قولي اللي عندك بأه، كلي آذانٌ صاغية.
فقالت بصوتٍ متلعثم: بصراحة... أصلي كنت... يعني... زي ما إنت عارف إننا كنا مأجرين الشقة من طنط نادية مامة رياض، والست الصراحة اتعاملت معانا زي أمنا وأكتر، وكنت عايزة أستأذنك يعني... يعني... يعني..
- هه!
- كنت عايزة يعني، نروح الصبح نسلم عليها، ده واجب يعني، وبعدين نديها كمان مفتاح الشقة... قُلت إيه!
فقهقه قليلًا ثم قال: بأه عايزة تروحي تسلمي على طنط نادية مامة رياض!
- ده لو ما كانش يضايقك يعني، إذا سمحت!
فابتسم قائلًا: عارفة يا بيبو، أنا محظوظ إن عندي أخت زيك.
-يعني إيه!
- قُلت كلامي مرة ولاقيتك نفذتيه بجد من غير ما تراجعيني ولا تاخديني على أد عقلي وتعملي اللي إنتِ عايزاه من ورايا، قُلت ما تروحيش فعلًا ما روحتيش، وأديكِ بتستأذنيني كمان، واحدة غيرك كانت ضربت بكلامي عرض الحائط خصوصًا وإنها عاشت سنين وسنين من غير ما يكون في حد يأمر ولا ينهي.
- بس اتربيت عل أصول، كنت حكيمة نفسي وبوزن الأمور، ودلوقتي لما أعرف إن لي أخ ما اسمعش كلامه ولا استأذنه! ده حتى اللي مالوش كبير بيشتريله كبير.
- تسلم إيد اللي ربت! ماشي يا حبيبة، وأنا موافق تروحي تسلمي على طنط نادية، هه! طنط نادية!
قال الأخيرة ضاغطًا على كل حرف ثم ضحك فشعرت بحرجٍ شديد كأن درجة الحرارة قد ارتفعت فجأة رغم برودة الطقس، فلا زال فصل الشتاء لم ينتهي بعد.
أغلقت حبيبة الخط مع أخيها واسترخت في فراشها لعلها تنام، لكن النوم قد ترك البيت قبل الفتاتين فلم يزورهما هذه الليلة!
وفي اليوم التالي استعدت حبيبة وهاجر ثم ذهبتا إلى بيت أم رياض، فسلمتا عليها وجلستا معها تتجاذبان أطراف الحديث وبعض المزحات.
وبعد قليل خرج رياض من الحمام ممسكًا المنشفة ومجففًا بها وجهه، وفجأة سمع صوت حبيبة فنزع المنشفة فجأة مسرعًا من على وجهه.
نظر أمامه متأملًا فوجد حبيبة وهاجر تجلسان مع أمه...
فردد لسان حاله: رفرف قلبي وحلّق في السماء، وضربتُ بجناحيّ في الهواء، تمنيتُ لو غردتُ أنشودة عذباء، بصوتٍ ككروانٍ لأجمل حواء، محبوبتي الغالية الجميلة الصهباء! أيُّ عشقٍ نما وتنفّس الصعداء، فرؤيايّ لكِ أفضل من الزاد والماء، وروحي تشتاقك يا حُميراء، هيا امسكي بي وحلقي معي في السماء!
وما أن رأته حبيبة حتى هبت واقفة تتأمله بشوقٍ كبير، لم يصمت لسان حالها هي الأخرى:
ما أجملك و ما أبهاك! سوف أبعد وأشتاق لرؤياك، أيا حبيب عمري! ستظل في قلبي لن أنساك، ومهما أخذتنا الليالي والأيام، سأظل أنتظر وأنتظر وأشتاق إلى لقائك ورؤياك.
وبعد لقاء العيون الطويل تصافح العاشقان وتمنى لو استطاع ضمها إليه، وتمنت لو استطاعت أن ترمي نفسها بين ذراعيه معانقة.
ورغم كل ذلك الفيض من المشاعر، كان داخله شعور غامض بوجود أمرٍ جلل!
نظرت حبيبة في ساعتها لتجد أن قد حان موعد الرحيل، ليت عقارب الساعة تقف دون تحرّك، لماذا تُسرع وتركض هكذا؟ ليتكِ تنتظرين قليلًا، ليتكِ تشعرين، ألا تعلمي ماذا ستسببين؟!
ابتلع ريقه ببطء ثم قال هامسًا: في إيه يا حبيبة!
فالنقطت أنفاسها ثم قالت بصوتٍ مال للاختناق : إحنا ماشيين خلاص يا رياض.
فصاح بصدمة: ماشيين على فين؟!
أخذت نفسًا عميقًا تود لو تتمالك نفسها لألا تسقط دموعها، ثم أجابته: نبيل جاي ياخدنا، خلاص مروحين معاه.
- طب هشوفك إزاي تاني؟
ورغم مجاهدتها لنفسها لكن قد تحشرج صوتها ببكاءها قائلة: مش عافة، بس هحاول...
ثم قالت: شكرًا يا رياض على كل حاجة عملتها عشاني، شكرًا على كل وقت إدتهولي، لأنك استحملت مني كتير، لأنك غيّرت فيّ حاجات كتير وقلبي ما بآش صخرة، شكرًا لأنك إديت كتير وما أخدتش حاجة.
فوضع سبابته على شفتيها هامسًا يسكتها: أنا ما عملتش حاجة عشان آخد المقابل، أنا عملت كل حاجة عشان حبيتك، حبيتك أكتر من أي حب، حتى إكتر من حب روميو وجوليت.
فوضعت سبابتها هي هذه المرة وهمست تسكته بدورها: بلاش روميو وجوليت عشان حكايتهم ما كملتش.
تفاجأ رياض من فعلتها ومن لمستها التي أذابته في لحظة بين يديها لدرجة أنه كاد يخر صريعًا، فنبض قلبه قد زاد وزاد فوق كل احتمال، فأمسك بسبابتها وقبّلها مغمضًا عينيه مستشعرًا سحر اللحظة مثلما أغمضت عينيها هي الأخرى.
لكن قاطعت بهمسها كل شيء: رياض!
- عيون رياض.
- هتوحشني أوي!
فشدد على يديها التي يمسكها والتمعت عيناه من السعادة؛ فقد نال أكثر مما يتوقع منها.
لكنها فاجأته بهمستها: رياض أنا بحبك وعمري ما هنساك.
وقبل أن تهطل دموعها بغزارة أسرعت مختفية من أمامه راكضة على السلم لأسفل ثم تبعتها هاجر التي شعرت بالأسى من أجلها، فوجدت أخاها أمامها ينتظرهما فألقت بنفسها بين أحضانه باكية، فربت عليها ومسّد على شعرها بهدوء، ونظر لهاجر يومئ لها بعينه أن ماذا حدث! فأومأت بعينيها لأعلى فأدرك نبيل سر حالة أخته.
أمر نبيل رجاله بوضع الحقائب في السيارات ثم نظر نبيل لأعلى حيث كان يقف رياض وهو يجاهد نفسه ليتماسك و جواره أمه مومئًا لهما بشكرٍ وامتنان، ثم ركب الجميع وانطلقوا...
وصلت السيارات الرباعية إلى القصر، هبط نبيل ممسكًا بيده يد أخته يتأبطها وسارت جوارهما هاجر.
شعر بارتعاش حبيبة، تخوفاتها وتوترها الشديد، فشدد على ذراع أخته وربت عليها برفق لتهدأ، ثم تحرّكا إلى الداخل.
دخل الثلاثة ومن خلفهم الخدم يحملون الحقائب.
دخلت حبيبة وهاجر وعينيهما تتلفتان في كل مكان، فعلى اليمين درجٌ داخلي مزركش يبدو أنه يؤدي إلى الغرف، و بعده ممر يبدو أنه خاص بالمطبخ والخدم، أمامها تقع طاولة السفرة الكبيرة وحولها ستة عشر كرسيًا منقوشًا ومنجّدًا لم ترى مثلها إلا في الأفلام، كانت السفرة بالكامل منقوشة ويحيطها عدة تحف ثمينة.
وعلى اليسار عدد من الصالونات لأقصى اليسار مائلًا أكثر للكلاسيكية فيبدو أنه أثاث قديم أثري من هيئته ونقوشه والتحف المحيطة به، لكن أقرب قليلًا أثاث أكثر حداثة وبعيد عن الكلاسيكية أو يجمع بين الكلاسيكية والحداثة.
كانت الفتاتان تتأملان كل شيء من الأثاث الفخم إلى التحف القيّمة والتابلوهات الموجودة على الحوائط المنقوشة، الستائر، النجف والسجاد... كل شيء كان أكثر من رائع.
لو أقسم أحدهم لهما أنهما سيدخلان مكانًا مثل هذا ذات يوم لم تصدقاه أبدًا، لكنهما لم تدخلاه فحسب بل ستعيشان فيه أيضًا.
بينما الفتاتان على وضعهما بين الانبهار والإعجاب، إذ أسرعت نحوهما شاهندة تعانقهما بسعادة وشوقٍ كبير.
- نورتوا! هتستريحوا وتنبسطوا هنا كتير!
فأومأت هاجر قائلة: إن شاء الله.
بينما حبيبة لم تنطق بحرف، وبعد قليل هبطت من الدرج العمة قوت.
تفاجأت حبيبة وهاجر من هيئة العمة وملامحها المتطابقة مع حبيبة سوى بعض الخطوط التجعيدية في جبهتها وعَبْسة محفورة بين حاجبيها يبدو أنها وليدة سنين الهم والشقاء وحول غمازتيها فحفرتهما في خديها.
ظلت حبيبة واقفة محملقة فيها وهي أيضًا، وبعد مرور بعض الوقت بدأت تتقدم قوت نحو حبيبة وتنبت على شفتيها ابتسامة عذبة، فتشجعت حبيبة وتقدمت هي الأخرى نحو عمتها.
حتى ما أن اقتربتا فتحت العمة ذراعيها فأسرعت حبيبة مندفعة بداخلهما إلى حضنٍ دافيء لم تجده إلا في حضن أمها، فبكت خاصةً وقوت تشدد في ضمها إليها وتمسد على شعرها بهدوء حتى انتهت عن البكاء ولم يعد هناك إلا مجرد صوت شهقاتها.
فسلمت على هاجر معانقة لها ومرحبة، جلست العمة وجلس حولها نبيل، حبيبة، شاهندة وهاجر وبدأت تتبادل الحديث معهم، شعرت بألفة سريعة نحو الفتاتين وكذلك هما، وما أن مر بعض الوقت حتى صارت حبيبة على طبيعتها تمامًا في تلقائيتها ومزحاتها وهاجر أيضًا رغم تحفظ هاجر وتوترها خاصةً عندما تلمح نظرات نبيل إليها بطرف عينها وتحاول تجاهلها، لكن بسرعة انتبهت لهما قوت وابتسمت نحو ابن أخيها بألم.
تذكرت كيف حُكم عليه بالزواج مثلها من قبل الجد!
فقد حكم عليها بالزواج من مَن في مثل عمر أبيها ليحقق ذلك الأب صفقة يريدها، وعانت سنوات طويلة بين ذل وإهانات وسوء معاملة، حتى حقها لتكون أُمّ يومًا لم يتحقق، لتتنفس الصعداء يوم وفاته، فلم يُرى من قبل من يُشرق وجهها ويتورد جمالًا يوم وفاة زوجها، وازدادت راحة بعد وفاة أبيها.
أما عن نبيل، كيف يعيش حياة فاترة بلا روح منذ أعوامٍ وأعوام؟ كيف استغلته زوجته تلك في تلبية طلباتها التي لا تنتهي، خروجها، سفرها ورحلاتها الشبه مستمرة! فتكاد لا تمكث في القصر، ربما يتركها لأنه آثر بعادها عن قربها الذي لا يرغب فيه، فقط لأنه أُجبر عليها...
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا