القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية عن تراض الفصل الثامن عشر بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)

 

رواية عن تراض الفصل الثامن عشر بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)




رواية عن تراض الفصل الثامن عشر بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)


الحلقة ١٨

#رواية_عن_تراض

رفعت عينيها نحو السماء للحظات، كأنها تبحث عن كلمات مناسبة، لكن حين أسقطت بصرها مجددًا، رأت مشهدًا جعل قلبها يخفق بارتباك.


«سراب» تقف في الشرفة تراقبهما... و«عمرو» أيضًا، يقف في الشرفة المقابلة، يحدّق بهما بعينين تضيقان بغضب متزايد.

أسقطت بصرها، شعرت بتوجس عميق، وما هي إلا لحظات حتى سمعت خطوات قــوية تقترب بسرعة.


انزلق بصرها يمينًا... كان «عمرو» يقترب، وشرارة الغضب في عينيه تزداد اتقادًا، تتراقص كاللهب الباحث عن شيء لالتهامه.

لم يكن مجرد غضب، بل أشبه ببركانٍ على وشك الانفـ ـجار، وكأن «عمرو» وجد أخيرًا متنفّسًا يُفرغ فيه احتقانه المتراكم.

وتلقائيًا، تراجعت «رحمة» خطوة للخلف، وتسارعت أنفاسها، وتواثبت دقات قلبها، وقبل أن تجد الكلمات لتبرر وقوفها مع «نادر»، جاء صوت عمرو حادًا:

-واقف كده ليه يا نادر؟!

رفع «نادر» يديه في محاولة يائسة لتهدئته، وهو يقول بنبرة تحمل مزيجًا من الدفاع والتبرير:

-والله العظيم ما فيه أي حاجة من اللي في دماغك، وإلا مكنتش هقف معاها قصاد بيتكم.

ولكن كلماته لم تجد طريقها إلى «عمرو»، وكأن أذنيه أُغلقتا عن أي تفسير. 

رشقه عمرو بنظرة ثاقبة، ثم التفت إلى «رحمة» وألقى عليها أمرًا صارمًا:

-اطلعي فوق.

لم تجادله رحمه، لم تحاول حتى... أدركت أنها وإن فتحت فمها الآن ستسكب الزيت فوق النار، لذا استدارت بسرعة، ودخلت البناية، لكن قدميها توقفتا عند المدخل، كان قلبها يدق بعنف وهي تختبئ خلف البوابة، وتطل برأسها قليلًا؛ لتراقب المشهد بقلبٍ واجفٍ.


حدج «عمرو»، «نادر» بنظرة حادة، وفي حركة خاطفة، جذبه من تلابيبه، واقترب منه حتى كاد يسمع أنفاسه، فاتسعت حدقتا نادر مندهشًا من فعلته المباغتة، ونطق بصدمة:

-جرى إيه يا عمرو!!!؟


رد عمرو بنبرة مرتفعة مشحونة بالوعيد:

-توبت يا نادر ورجعت لعقلك؟ مبروك عليك... إنما رحمة خط أحمر، مفهوم؟


تراجع «نادر» خطوة بعدما أبعد يد عمرو عن ملابسه بهدوء وحاول التوضيح:

-يا عمرو والله ما فيه حاجه... دي هي اللي طلبت تتكلم معايا.


اقترب منه عمرو وربّت على كتفه بعنـ ـف، وهو يتمتم: 

-متقربش منها تاني، كفايه اللي عملته لحد النهارده يا نادر.

-يا عمرو أنا معملتش حاجه إنت فاهم غلط.

-لا، عملت.

قالها عمرو بنبرة مرتفعة وهو يغرس عينيه بعيني نادر، الذي تحولت نظراته إلى صلابة مفاجئة، شدّ فكيه، من الأفكار التي تدفقت إلى رأسه، يعلم أنه أخطأ... لكنه تغير، ألم يكفِ ذلك؟ ألم يُغفر له؟ أليس الله غفورًا رحيمًا؟ فلماذا إذًا لا يصدقه عمرو؟


نطق نادر بصوتٍ حاول أن يبقيه متزنًا لكنه خرج مُثقلًا بالقهر:

-إنت بتعاملني كده ليه يا عمرو؟ عملتلك ايه؟ شوفت مني إيه!

تساقطت كلماته بين أنفاسه الملهوفة، تحاول الوصول لقلب عمرو لكنها لم تنجح، رمقه عمرو بنظرة باردة، وقال بصوت خالٍ من أي تردد:

-إنت عليك علامات استفهام كتير أوي يا نادر، لما تيجي تحكيلي كل حاجه بوضوح ساعتها هحاول أديك فرصه.

غرست كلماته أنيابها في صدر نادر، ازدرد لعابه باضطراب، وتصاعدت التساؤلات إلى رأسه؛ هل توصل عمرو للحقيقة الكاملة؟ هل علم أنه هو بنفسه من صنع الفيديو لـ رحمه؟


ابتلع ريقه بصعوبة ثم قال بصوت خفيض يكسوه الاضطراب:

-متعليش صوتك يا عمرو، إحنا في الشارع، تعالى ندخل نتكلم جوه.

مد «نادر» يده للإمساك بذراع عمرو، لكن فوجئ بالأخير ينتزع ذراعه بسرعة، كأن لمسته كانت جمرة حارقة...

قال نادر برجاء:

-يا عمرو والله أنا اتغيرت، بلاش بالله عليك نتكلم في الماضي، عشان خاطري بلاش.


لمس «عمرو» الصدق في عيني نادر فاهتز شيئا بداخله. للحظة، أدرك أنه تجاوز الحد، ولا داعي لكل هذا الغضب! رفع رأسه تجاه شرفة سراب فاصطدمت نظراته بها كانت تقف وتتابع المشهد بصمت مريب، عيناها غامضتان، وكأنها تحاول فك شفرة هذا الغضب المتفجر أمامها.


تراجع «عمرو» خطوة للخلف ضغط على أسنانه حين تذكر أنها سيعقد قرانها على بدر اليوم، فقال بصوت أقل حدّة لكنه لا يزال مشحونًا بالجفاء:

-امشي من قدامي دلوقتي يا نادر.


لم يتحرك نادر أو يرمش حتى، وقال بانفعال:

-مش همشي يا عمرو، مش هينفع أمشي، احنا لازم نتكلم!

تبادلا النظرات في صمت مشحون بالأسئلة، يتساءل «نادر» كيف تغير معه عمرو لتلك الدرجة؟ ألم يكن صديق طفولته؟ لمَ يتعامل معه بكل هذا الجفاء؟ لمَ لا يعطيه فرصة ليثبت صدق نيته؟ ويتساءل «عمرو» هل تغير نادر فعلًا؟ أم أنها خُدعة ووراءه حيلة ما!

وحين طال الصمت كرر نادر بهدوء:

-لازم نتكلم يا عمرو.

اندفع «عمرو» نحوه، يدفعه باتجاه سيارته، وصوته يزلزل الهواء بينهما:

-امشي دلوقتي يا نادر، أرجوك امشي أنا مش طايق منك كلمه.


ثبت «نادر» قدميه، وقال بمرارة ممزوجة بالحيرة:

-لـــيــــــــه يا عمرو؟ ليه؟ ليه كلهم أدوني فرصة وإنت قافل بابك في وشي، لــــيــــــــه؟

ولم يكن يدري أن هناك سببًا آخر وراء ثورة عمرو الشديدة...

رفع «عمرو» رأسه مرة أخرى ليرى سراب مازالت تقف في شرفتها وتتابع بصبرٍ قـ ـاتل، نظراتها الباردة أشعلت النار في صدره، وكأنها لا تهتم به! انتبه لنادر الذي قال:

-رد عليا يا عمرو...


أغلق عمرو جفونه لبرهة وهو يرد:

-امشي يا نادر، امشي دلوقتي، أنا مش عايز أتكلم.


-تمام، براحتك بس أنا مش همشي... أنا طالع عند أختي.

قالها نادر واتجه يدخل من البناية...

اندفع «عمرو» يجذب نادر من ذراعه بعنـ ـف، يمنعه من التقدم خطوة واحدة داخل البناية، يدفعه نحو سيارته ويرغمه أن يركبها ويغادر.


حاول «نادر» أن يتفلت منه بعناد، والحيرة تقبع بين عينيه لا يفهم ماذا دهاه؟ ولمَ يتصرف بتلك الغرابة؟ هل يغير على رحمه؟ هل... يحبها؟!

مجرد تخيله للفكرة جعل وجهه يتصلب ويحتقن، دفع «نادر» «عمرو» بعيدًا عنه، هادرًا بصوت مشحون بالضيق:

-أوعى كده إنت بتعمل كده ليه؟

كانت دفعته أقوى مما قصد، دفعةٌ جعلت جسد عمرو يرتطم بالأرض، أدرك نادر أنه بالغ في رد فعله، فبسط يده لاشعوريًا لمساعدته على النهوض، ولكن لم يمد عمرو يده، بل نهض وحده، فقبض «نادر» يده في حرج، ووقف يتابع نظرات «عمرو» التي اختلفت، وكأن الغضب الذي كان يتأجج قبل لحظات بدأ يخبو قليلًا، أو هكذا ظن نادر، كاد يفتح فمه ليعتذر لكن... فجأة، ودون سابق إنذار، انطلقت قبضة عمرو في الهواء، وارتطمت بوجهه في لكمةٍ قوية مباغتة!


ترنح «نادر» للخلف، تذوق طعم الدم في فمه، لكن سرعان ما استعاد توازنه، وأنفاسه تتلاحق، وأصابعه تنقبض بقـ ـوة...


شهقت «سراب» بصدمة وبسرعة البرق اختفت من الشرفة واندفعت خارج المنزل، تركض نحوهما بخوف، بينما شعرت رحمة بأن الهواء بينهما أصبح مشحونًا بالكهرباء، وكأن هناك صاعقة ستضرب المكان في أي لحظة، تراجعت خطوة قبل أن تستدير وتركض إلى الأعلى، لتنادي العائلة...

استغفروا 🌸 


                        *********

                 على الجانب الآخر

فتح «بدر» باب شقته، ولم يتوقع أن يجد رغدة تقف خلفه...

تلجّمَ لسانه للحظة قبل أن يستدير عنها بوجوم، مقررًا ألا يُذيقها لينه بعد الآن! عقد ذراعيه أمام صدره، وانتظر كلماتها بصمت.


طالعت «رغدة» ظهره لبرهة وهي تفرك يديها بارتباك، ثم نطقت بصوت خفيض، تحمل نبرته مزيجًا من التوتر والندم:

-أنا آسفة يا مستر... مكانش ينفع أقولك اللي قلته المرة اللي فاتت....


لم يرد عليها فصمتت للحظات، تُجمع شتات نفسها قبل أن تتابع:

-آآ... أنا فهمت نفسي، أنا... كنت بسد الفراغ اللي جوايا، لأني مش لاقيه بابا... كنت بشوف فيك الأب اللي فقدته... أنا مش بحبك ولا حاجة، وأنا بعتذرلك.


استدار «بدر» إليها، وقال بجمود، دون أن ينظر إلى وجهها:

-لا تعتذري ولا حاجة، وأنا لا سمعت منك حاجة، ولا شوفتك اليوم ده من الأساس...


صمت هنيهة ثم أضاف بحزم:

-ولو سمحتِ، ماتجيش هنا تاني.


أومأت برأسها سريعًا، وهي تطبق شفتيها وتحاول كبح دموعها، ثم قالت بصوت مختنق:

-حاضر... ومبارك... ربنا يتمم لحضرتك على خير.


لم تنتظر رده واستدارت تنزل الدرج بسرعة، تكاد تثب في خطواتها كي لا يراها تضعف أو تبكي، وبعد خطوتين سمعت صوت إغلاق باب شقته، فتوقفت لبرهة تمسح دمعةً فرت من إحدى عينيها ثم واصلت نزول الدرج.


خرجت من البناية بأنفاس متسارعة فوجدت الشارع يعج بالفوضى، العائلة متجمعة، والشجار محتدم بين عمرو ونادر، والهواء مشبع بالغضب.


وقفت رغدة جوار سراب، التي تفاجأت بخروجها من البناية لكنها لم تهتم، فهناك مشهد آخر أشد إلحاحًا حيث وقف عامر قبالة عمرو يعاتبه:

-هي دي مبروك اللي بتقولهالي يا عمرو؟! الحياة ضاغطة علينا بما فيه الكفاية، ماتزودهاش يا أخي، بالله عليك.


توقف «عمرو» وأنفاسه تتسارع، تطايرت خصلاته الطويلة على جبينه، فمرر يده بها للخلف وهو يلقي نظرة متوترة على الجميع، ثم استدار وانصرف مبتعدًا، وهو يسدّ أذنيه عن النداءات التي تلاحقه لكن... تناهى لسمعه صوت عامر:

-هو كل مناسبة تعملنا مشكلة يا عمرو!!! على فكره محدش هيجي وراك...


توقف «عمرو» في مكانه لبرهة لكنه لم يلتفت وواصل طريقه تاركًا الجميع خلفه...

لم تفكر «سراب» كثيرًا وبتلقائية هرولت خلفه، متجاهلة كل نداءات المنطق، ومتجاهلة نظرات الناس والعائلة، نادته:

-يا عمرو... استنى!


لكنه واصل السير، ولم يمنحها ولو نظرة عابرة، فصاحت:

-يا عمرو، استنى، أنا طالعة وراك بالإسدال!


توقف أخيرًا، لكنه لم يستدر، قال باقتضاب:

-ارجعي.


هرولت حتى وقفت قبالته، لاهثة وقالت برجاء:

-طيب، بس كلّمني، خلينا نتكلم بالعقل...

نظر بعيدًا، إلى الأفق، لكنها نظرت صوب عينيه اللتين بدتا مرهقتين.

مرر يده في خصلاته المتناثرة، وأزاحها عن غُرّته، قبل أن يسأل بصوت خافت، لكنه مثقل بالمشاعر:

-عايزه إيه يا سراب؟


نزعت رابطة شعرها التي تضعها حول معصمها، ومدّتها له قائلة بمرح:

-خد، بس لِمّ شعرك الأول.


حدق بها لثانية ثم أخذها بلا تعليق، وعقص شعره، بينما تابعت بصوت رخيم:

-ارجع معايا يا عمرو... بالله عليك، إحنا مصدقنا نفرح، متضيّعش فرحتنا بزعلك...


أزاح بصره إلى وجهها، عيناها اللوزتين وأنفها الدقيق وذلك النمش الذي يزيد وهج بشرتها المائلة للاحمرار، انتبهت لنظراته فأشاحت وجهها باضطراب، انتفض وأطلق خطاه مبتعدًا، نادته سراب فلم يلتفت كادت تعود للبيت لكنها تذكرت كيف كان يظل ورائها حين تترك البيت غاضبة، فلم تيأس زفىت متضجرة ثم هرولت خلفه وهي تناديه، أشفق عليها فتوقف والتفت، رمقها بنظرة استعادها سريعًا وقال بصوت أثقل مما يحتمل الهواء بينهما:

-عايزه مني إيه!!


قالت من خلف أنفاسها المرتفعة:

-ارجع معايا، يا عمرو عاوزين نفرح ولو يوم، بالله عليك يا عمرو... ماتزعلش عامر وتقى، وطنط شيرين، وعمو دياب...

ضغطت على نقطة ضعفه، والديه وأخيه، فتنهد بعمق، أرخى كتفيه قليلًا، ثم أومأ قائلًا بصوتٍ أقرب للاستسلام:

حاضر يا سراب، يلا...


ابتسمت سراب وتنهدت بارتياح، وقالت بهدوء صادق:

-عارف يا عمرو إنت شخص كويس جدًا، ودي مش مجاملة... إنت فعلًا إنسان مفيش منه... بس مشكلتك الكبيرة في عصبيتك، حاول تتحكم فيها...


لم يعقب وسار نحو نحو البيت فتبعته في صمت، لكنها لن تكون سراب إن لم تستفزه، قالت بمكر:

-بس مكنتش أعرف إن رحمة غالية عندك كده!


لم يرد، فقط واصل سيره في صمتٍ ثقيل، وكأن الكلمات لم تعد تملك معنى، قطعت سراب الصمت حين سألته بنبرة مرتعشة، وكأنها تخشى إجابته:

-بتحبها؟


توقف للحظة، رمقها بنظرة غامضة، وأفكاره تتصارع... هل يصفعها بكلماته كما صُفع هو بخبر عقد قرانها؟ هل يخبرها أنه يحب رحمه؟ لكن ما الفائدة الآن؟ ما الجدوى بعد فوات الأوان؟


خفت بريق عينيه كشمعة نال منها الريح، وانطفأت نظراته على صخرة الإنكار، أجاب بتلعثم:

-لا... 

صمت للحظة وكأنه يقاتل الكلمات داخله، ثم أضاف وهو يوقع كلماته بنبرة حاسمة:

-قُلت قبل كده، وبقولها تاني أنا مابحبش حد.


ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، ابتسامة تحمل مزيجًا من الارتياح والإنتصار، لكن عينيها فضحتا شيئًا آخر... صمتت للحظات وهي تسير جواره وتراقبه خلسة، عبثت بطرف إسدالها وهي تقول بحماس مصطنع:

-عندنا حفلة الليلة...

-مبارك يا سراب... ربنا يسعدكم.

قالها بابتسامة واهية سرعان ما تلاشت قبل أن تكتمل.


خفضت نظرها وهي تهمس:

-الله يبارك فيك و... وعقبالك إنت كمان يا عمرو.


لم يرد فورًا، وكأن كلماتها علقت في صدره، استدار إليها بنظرةٍ منهكة وقال بنبرة مهزومة، لم يستطع أن يخفيها:

-لأ... أنا مش هتجوز.

لم يقل شيئًا آخر، وحين وصل إلى بيته لم يلقِ عليها تحية الوداع، فقط تركها، واندفع إلى داخل البناية، وهو يستعد للاعتذار من عائلته عن انفعاله...


أما سراب، فزفرت ببطء، كأنها تحاول طرد ثقل جملته من صدرها، واستدارت متجهة إلى شقتها، دون أن تنظر خلفها، لكن وقع خطواته الغائبة ظل يرنّ في أذنها.

صلو على خير الأنام ❤️ 

بقلم آيه شاكر 

**********

كان يومًا مريبًا من بدايته...

انقطع التيار الكهربائي عن المنطقة بأكملها، ومعه انقطعت المياه عن بيت دياب، مما أجبرهم على حمل الدلاء من شقة «تُقى» إلى شقة «دياب» لتحضير الطعام، فاليوم ليس يومًا عاديًا، الوليمة ستُقام بعد العصر، بعد أن يُعقد القِران في المسجد المجاور، ثم يأتي الحفل في المساء...


وبالمطبخ سقطت الملعقة من يد شيرين المرتبكة فتنهدت بضيق وتمتمت:

-هو يوم ما يعلم بحاله غير ربنا... الواد عامر دا طول عمره حظه كده!


اعترضت وئام بحزم:

-متقوليش كده يا ماما، احمدي ربنا... يمكن عين وجت في النور والمايه.


-ربنا يسترها...

قالتها شيرين وخرجت من المطبخ لتنفرد بنفسها...


وفي زاوية بغرفتها، جلست على الأريكة بصمتٍ ولكن داخلها كان يعج بالفوضى. 

ضميرها ينخزها بشدة، كأن ما تُخفي يضغط على صدرها بثقل لا يُحتمل... حاولت أن تُبعد الفكرة، أن تتجاهل ذلك الإحساس الخانق، لكن القلق كان يتسلل إليها بلا رحمة تتساءل هل إخفاؤها عن تُقى حرام؟ هل يعارض رضا الله وشريعته؟ فهي تخاف الله وتخشاه... لكنها أيضًا تخاف من عواقب البوح!


انتبهت من تسائلاتها حين طُرق الباب، واعتدلت وهي تأذن للطارق بالدخول، أطل «عمرو» برأسه من فتحة الباب وهو يرسم ابتسامة مفتعلة على شفتيه، اقترب منها وقبل يدها ورأسها بحنو، فقد ظن أنه سببًا في التوتر الذي خيم على العائلة، جلس جوارها وأخذ يعتذر بصوتٍ خافت، وأخبرها أنه اعتذر من نادر ومن دياب وحتى عامر، ابتسمت شيرين وربتت على كتفه بحنان، وقالت ممازحة وهي تحاول تخفيف الأجواء:

-إنت طالع عصبي لمين ياواد يا عمرو؟ 


ضحك بخفة، وردّ بمكر:

-أكيد وراثه يا ماما، يا ترى بقا إنتِ ولا بابا؟ 


ارتسمت على وجهها ابتسامة خافتة، وقالت مدعية الجدية:

-ياخويا أنا لا عصبيه ولا أبوك عصبي!


ضحكا، ثم قال عمرو ممازحًا ومحاولًا تغيير الموضوع:

-سيبك مني ومن عصبيتي، افرحي يا ام العريس عندنا فرح.


سرعان ما تلاشت ابتسامة شيرين عن شفتيها، كأن كلماته أيقظت في داخلها ذلك السر الذي تحاول دفنه.

تذكرت الحقيقة التي تخفيها، وشعرت بالحزن يثقل قلبها.

أطرقت للحظة، وغابت في أفكارها، مما جعل القلق يتسلل إلى صوت عمرو وهو يقول بلهفة:

-مالك يا ماما؟


رفعت رأسها ببطء وقالت بارتباك ومراوغة:

-مفيش، أنا بس مضايقه عشان النور قاطع والمايه كمان!

تأملها عمرو للحظة، وكأنه لم يقتنع، لكنه آثر ألا يضغط عليها، فقال بابتسامة مشجعة وهو يحاول أن يبدد الأجواء الثقيلة:

-إن شاء الله النور يجي دلوقتي، روقي كده وفكي وقومي زغردي حسسينا إن عندنا فرح، عاوزين نفرح يا حجه.


ظهر شبح ابتسامة على شفتي شيرين، ولم تتحرك، فقال عمرو:

-ما تسمعينا زغروده كده يا ست الكل.


ورغم ثقل قلبها ابتسمت، ونهضت واقفة، أخذت نفسًا عميقًا، ثم أطلقت زغرودة عالية شقت صمت المكان.


خرج صوتها قويًا، معلنًا لكل من في الشارع أن اليوم ليس يومًا عاديًا... اليوم هناك قلبان سيرتبطان برابطة قــوية، سيُزهر حبهما في النور، ويرتوي من الطهر، ويسمو بروح تعشق في الله ولله.


وسُرعان ما تعالت زغاريد أخرى من خارج الغرفة وكأنها ترد عليها، فابتسما الاثنان كل منهما يرضى الأخر بينما كان في القلوب ثقلٌ لا يُرى، فكل منهما يحمل همًّا مختلفًا، وعبئًا لا يشبه الآخر.


سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸 

                     ★★★★★

لم يغادر «نادر»، لكنه شعر بأن القلق يلتهمه كلما اقترب من عمرو، وحتى بعد اعتذاره، ظل هناك حاجز غير مرئي بينهما، حاجز من الغضب والخوف، كأن الكلمات لا تستطيع عبوره.

جلس مع نادر في شقة بدر، حائرًا بين مشاعره وماضيه، يتحدثه عن كل شيء وأكثر. كان يقول إنه تاب، إنه نادم، لكنه لم يجرؤ على قول ما يختبئ في قلبه، هناك شيئا لازال يخجل أن يحكيه...


لكن »بدر» كان شاردًا، ذهنه بعيدًا تمامًا، يطير في أفق أسئلة بلا إجابات. لم يكن ينتبه لما يقوله نادر، كان يسحب نفسه من الحديث وكأن الكلمات تسبح في بحر من الضباب. 

فجأة، انكسر الصمت وخاطب نادر بنبرة كانت محملة بمزيج من الفضول والقلق:

-هي نيرمين اللي إنت حكيتلي عنها قبل كده ماظهرتش برده؟


زفر نادر بعمق، كأن السؤال أعاد له ذكريات ثقيلة.

كانت نيرمين جزءًا من الماضي، من الخطايا التي ظل يهرب منها. أجاب بصوت منخفض، وكأن كلماته ثقيلة:

-لأ مظهرتش تاني ورطتني واختفت.


ابتسم نادر ساخرًا من نفسه وأضاف:

-بس أنا مش بلومها أنا كمان كنت أشد شر منها...


شرد «بدر»، لو كان في حالته الطبيعية لسأل عن معنى ما يقول نادر لكن كانتا عيناه تحدقان في الفراغ، كأنه يبحث فيه عن إجابة لسؤال يؤرقه، فهو الآخر لا يعلم أين اختفى باسل؟ لقد أخبره عمرو عن رسالة نيرمين، ولم يُعلق فقد بات كل شيء من حوله غامضًا، متشابكًا، بلا معنى واضح، ومن قد يكون هجم عليه أيضًا، لازال هناك الكثير من الأسئلة معلقة بالهواء، أسئلة كثيرة تتراكم بلا اجابات! بل كل التفاصيل حوله تغرقه في عالم من الغموض.


ثم كان عرض جده؛ ذلك العرض الذي لا يزال يقضّ مضجعه، فكلما وضح لجده رفضه الزواج من سراب، طلب منه التفكير مليًا، لكنه لم ولن يقبل بها زوجة، وليس لأنه يكرهها، بل لأنه رأى حالة عمرو، عصبيته التي زادت، وابتعاده المفاجئ عن الجميع، خاصة هو...

لا يملك أدنى شك في أن «عمرو» يغار على «سراب»، وأن الأمر ليس مجرد اهتمام عابر.


لو جاء «عمرو» إليه وسأله مباشرة، لكان أفضل... لأراحه واستراح.


و«رغده» أيضًا... ومرورها عليه اليوم؟ ووجهها الذي رأى عليه أثر البكاء، بالطبع أخبرها أحد عن عرض جده! هناك الكثير من الضغوط تجثم فوق صدره، ليته يستطيع الهرب! لكن إلى أين... لا مجال إلا للمواجهة...

انتشله من خضم أفكاره رنين هاتفه برقم جده، يعلم ماذا يريد قبل أن يجيبه، بالطبع سيفتح الحوار مجددًا، فقد تبقى على عقد القران سويعات قليله، وحين أجاب تأكدت شكوكه فقد أخبره جده أن ينزل إليه في الحال...


استأذن «بدر» من «نادر» وهو يقف:

-البيت بيتك يا كبير، هنزل أشوف جدي وأرجعلك.


أجاب «نادر» وهو يتحسس خده بألم:

-ماشي يا هندسه، وأنا هريح شويه.


ثم أضاف وهو يحاول اخفاء ابتسامة ساخرة:

-الواد عمرو دا أيده تقيله أوي.


ربت بدر على كتفه وقال:

-تعيش وتاخد غيرها.

-لا يا عم أعيش بس بلاش غيرها.

ضحكا معًا، لكن قلب بدر لم يكن في مكانه، انطلق بدر سريعًا، بينما استلقى نادر، وأغلق جفونه...

استغفروا🌸

                  ★★★★★

وفي غرفة سراب حيث يجلس البدري قبالتها، قال وهو يشير للفستان المُعلق خلفه:

-إزاي مش موافقه أومال مجهزه فستان أبيض ليه؟

-لا يا جدو الفستان فيه ورد سماوي وهلبس عليه طرحه سماوي يعني مش فستان كتب كتاب!

-وإيه بقا سبب الرفض؟ 

-إني مش مرتاحه! هو بدر شخص محترم جدًا وربنا يرزقه ببنت الحلال... بس أنا لأ!

ساد صمت ثقيل، تخلله فقط نظرات البدري الثاقبة، التي انغرست في وجه «سراب» كأنها تحاول اختراق جدارها الداخلي...


حاولت سراب ألا تُبدي توترها، لكنها شعرت أنه يقرأها بوضوح، يلامس تلك المشاعر المدفونة التي لم تجرؤ على تسميتها...


أشاحت بوجهها بعيدًا وهي تفرك يديها وقلبها ينبض بتساؤل مرعب، هل شعر بميولها نحو...؟


جاء صوته فجأة، جافًا وحاسمًا، وقاطعًا لتيار أفكارها:

-هو مين؟


التفتت إليه بسرعة، وكأنها تلقّت صفعة:

-مين ايه؟


-اللي رافضه بدر عشانه!

وثبت من جلستها وكأنها لُدغت وتلعثمت بحدة:

-مفيش حد، هو لازم يكون فيه حد! أنا بس... أنا اللي رافضه الارتباط.


ظل البدري يتأملها بصمت، بينما دوى طرق باب الشقة، وكأنه طوق نجاة. 


وثبت لتفتحه، تهربًا من نظراته الممحصة، فانحنى العجوز للأمام ساندًا بكلتا يديه على عصاه وواضعًا ذقنه عليهما، ثم أغمض جفنيه مفكرًا، ربما عليه أن يتريث قليلًا ليقنعهما رويدًا رويدًا ببعضهما، فقد عقد العزم أن يُزوج «بدر» من إحدى الفتاتين وها هي تقى تُفلت من الإختيار، لذا يجب أن تقتنع سراب.


وعلى الصعيد الأخر 

عندما فتحت الباب، وجدت بدر يقف أمامها، فتفجرت كلماتها دون تفكير:

-اسمع بقا إنت لازم ترفض، اتصرف واقنع جدك، أنا مش هتجوزك، إنت كويس بس أنا مش هينفع أتجـ...


قاطعها «بدر» بصوت هادئ، خالٍ من أي انفعال:

-تمام، متقلقيش...

شعرت بوخزة في صدرها، وهي تتساءل ألا تروق له؟ أم تتوقع إجابته تلك! ظنت أنه سيحاول إقناعها أو يطلب منها التفكير أو... أو ماذا؟ أوجعتها كرامتها حين لمست رفضه!


أخرجها من خضم أفكارها صوته:

-طيب إيه هدخل ولا ايه؟

-لا مؤاخذه... اتفضل

قالتها وأفسحت له ليدخل وهي تشير نحو غرفتها حيث يجلس جده، فأطلق خطاه، بينما وقفت سراب مضطربة تتمنى أن يكون قرارها صحيحًا، لمحتها تُقى من المطبخ، فصفعتها لجملة:

-هتندمي يا سراب...

لوحت سراب يدها بضجر ونفخت قبل أن تتجه لغرفتها.

*********

لم يكن لقاء «بدر» مع جده حاد كما توقع بل تقبل جده الرفض بهدوء ظاهري، فانصرف بدر وكأن ثقل قلبه خف للنصف بعدما انزاح عرض الزواج عن طريقه ولم يكن يعلم ما الذي يخطط له جده!

*********

مر الوقت سريعًا...

ارتفع أذان العصر، وسرعان ما عُقد القران داخل المسجد، كان «عامر» يرتدي جلبابًا أبيض، يضع يده بيد البدري، ويردد خلف المأذون كلماته بثبات...


وفي القسم المخصص للنساء...

كانت «تُقى» ترتدي فستان أسود واسع ورقيق أكمامه بها خيوط بيضاء والورود البيضاء تنتشر على أطرافه كما كانت تضع حجابًا أبيض على رأسها، جلست بين سراب ورحمه وغده ووئام وهيام ونداء، تستمع لصوته وهي تضع يدها على قلبها، تراقب اللحظة التي ستغير حياتها بالكامل، وما إن انتهى العقد، حتى أتى المأذون ليأخذ توقيعها...

لحظات قليلة، ودوّت الزغاريد في الأرجاء، وانتشر الفرح كضوء فجرٍ مشرق، بينما صدح صوتٌ في الشارع معلنًا تقى وعامر زوجين...


كان المشهد كله فرحًا وسعادة، إلا أن هناك أعين لم تشاركهم هذا البهاء...

إنها رغده في مصلي السيدات تنتظر أن تسمع عقد القران التالي وكأنها تُعاقب قلبها لأنه نبض لبدر...


وعمرو أيضًا كان يقف جوار أخيه، يرسم على شفتيه ابتسامة زائفة، لكنه بين وهلة وأخرى يرمق بدر بنظرات فارغة، ثقيلة، ولم يكن بدر بحاجة إلى سؤال ليفهم سببها...

كان عمرو ينتظر عقد القران التالي، يشعر أن روحه تتسرب منه شيئًا فشيئًا، وأن قلبه على وشك الانفجار...

مرت اللحظات ثقيلة ولكن... لم يسمع ما كان يخشاه، ولم يأتِ دور سراب، بل انفض المجلس، وخرج الرجال يباركون لعامر، دون أي إشارة لعقد جديد.


تحرك عمرو بخطوات بطيئة نحو بدر، لكنه توقف فجأة فيجب أن يتريث، ربما ستنعقد خطبتهما في المساء؟

وقبل أن يُمعن في أفكاره أكثر، فاجأه بدر باقترابه منه، ووقف بجانبه يبارك له زواج عامر، ثم أضاف بهدوء:

-بص يا عمرو أنا راجل صريح لا بحب اللف ولا الدوران، ومفيش أي سبب يخليك تبعد عني وتتغير معايا وتتجاهلني بالطريقه دي، أنا بعتبرك زي أخويا لكن إنت طلعت وحش أوي يا عمرو... 


أطرق عمرو ولم ينبس ببنت شفه، فأضاف بدر بصوت قاطع:

-اطمن أنا لا هتجوز سراب ولا بفكر فيها...

ولم بدر ينتظر تعقيبًا، بل أشار لنادر وابتعد، تاركًا عمرو غارقًا في دوامة من المشاعر.

شعر «عمرو» وكأن ثقلًا انزاح عن كاهله فجأة، كأن شخصًا غسل قلبه من ألمه العالق منذ أيام.

ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه، وبعينين متوهجتين، راقب سراب وهي تخرج من المسجد بصحبة تُقى مع بعض الفتيات.

رمقته سراب بنظرة خاطفة فأشاح وجهه في سرعة وسار نحو الرجال يتحدث معهم بعدما انفرجت أساريره وكأنه تبدل من عمرو إلى عمرو أخر...


**********

               من ناحية أخرى

كان «عامر» يتلقى التهنئة من سعيدة التي عادت للتو من عند ابنتها، ثم هرول ليلحق بالبقية، بينما تمتمت سعيدة:

-إيه العريس الحلو القمر ده! يا خسارتك الكبيرة يا رغده...

ثم تنهدت بعمق قبل أن تدخل بيتها...


وحين مر عامر بجوار المقهى الذي تفوح منه رائحة القهوة والسجائر.

لم يكن لينتبه، لولا أن عيناه التقطتا وجهًا مألوفًا يجلس على أحد المقاعد، يراقب الشارع بعينين نابهتين، حادتين كمن ينتظر شيئًا محددًا.


توقف «عامر» للحظة، تردد بين أن يواصل طريقه أو يقترب، لكنه في النهاية رسم ابتسامة واقترب منه، قائلاً:

-عمي تختخ! 

رفع الرجل عينيه، وللحظة لم يظهر على وجهه أي تعبير، ولكن سرعان ما ارتسمت ابتسامة دافئة على وجهه، وهو ينهض ليصافح عامر بحرارة، قائلاً بصوت خافت لكنه مرح:

-أهلًا بالعالم اللي هيرفع راسنا قريب.


ضحك عامر بخفّة، قبل أن يعتدل متسائلًا بجدية:

-طلعت من السجن امته يا عمي تختخ؟!

-خرجت من كام يوم كده، إنت بتعمل ايه هنا؟ إوعى تكون من سكان الشارع ده؟

أومأ عامر بثقة:

-أيوه فعلًا، إنت بقا جاي هنا ليه؟


تغيرت ملامح تختخ، تلاشي الوجه المرح، انحنى قليلًا وحاوط كتفي عامر هامسًا بحذر، ونبرته مزيج من الجدية والخطر:

-عندي شغل هنا، فيه راجل كُباره طالب مني شغل، بقولك ايه مين العريس والعروسه هنا دلني عليهم؟


اتسعت عينا عامر، وكأن صوت إنذار دوى في رأسه، وسأل بشكٍّ محاولًا التظاهر بالهدوء:

-هتعمل إيه في العريس والعروسه يا عمي تختخ؟


تراجع الرجل قليلًا، ضيّق عينيه وهو يراقب عامر بحذر:

-إنت تعرفهم ولا إيه؟


ازدرد عامر ريقه، وعقله يحاول تحليل كل كلمة، أجاب بحذر:

-يعني... كانوا بيجوا عندنا... 

ظل تختخ يحدق في وجهه للحظات طويلة، يدرسه، كأنه يزن صدقه.

كاد عامر يتكلم ليفك هذا الصمت الثقيل، وبالفعل استجمع نفسه وسأل بصوت منخفض:

-هو الراجل الكُباره اللي كلفك بالمهمه وشه طويل وليه ذقن بسيطه ووشه رفيع كده، ومش طويل ولا قصير ومش عريض ولا رفيع و...

قاطعه صوتٌ قريب، كان رجل يمر بجوارهما ويقول بمرح:

-مبروك يا عريس...


جفلت نظرات عامر، جسده تصلب للحظة، لكنه أجبر نفسه على الابتسام ورد التهنئة بارتباك.

لكن عندما التفت نحو تختخ، وجده ينظر إليه نظرة طويلة، تحليلية.

حاول «عامر» التخلص من التوتر، فابتسم ابتسامة مرتبكة وسأل بنبرة تحمل مزيجًا من المزاح والفضول الحذر:

-الراجل ده اتفق معاك على كام يا عمي تختخ؟

لم يرد تختخ وضيق جفونه وهو يُحدق بعامر، ابتلع عامر لعابه وقال بابتسامة مرتبكة:

-إزيك يا عمي تختخ؟


رد الرجل بابتسامة ساخرة:

-أهلًا بالعريس.

                       ★★★★★★

بعد وليمة عامرة احتفالًا بعقد القران، حيث علت الضحكات وتعالت التهاني بين الحضور، لم يلحظ أحد غياب عامر حتى تسللت خيوط الشفق إلى السماء، مُعلنة رحيل النهار. عندها فقط، تبادلوا النظرات المتسائلة، قبل أن يقطّب عمرو جبينه ويسأل بقلق:

-هو عامر راح فين؟


بدأت الهمسات تدور بينهم، والعيون تفتش في الأرجاء، والقلوب يدب فيها القلق رويدًا رويدًا والخطوات تتسارع وتتقاطع لكن دون جدوى. 


ظنوا أنه ربما ذهب لرؤية تُقى، التي ما إن وصلها الخبر حتى شحب وجهها وارتعشت شفتاها وهي تهمس:

-ماعرفش عنه حاجة... دا أنا مشوفتهوش من بعد كتب الكتاب ولا حتى اتصل عليا؟

كانت كلماتها البسيطة كصفعةٍ أيقظت الجميع إلى واقعٍ مرعب... عامر اختفى! لكن كيف؟ ومتى؟ دون أن يشعر به أحد؟ أم أنه نفس الاختفاء الغامض الذي لا رجعة بعده، مثلما حدث مع الآخرين؟


خرج الشباب للبحث عنه، بينما بقي «دياب» في البيت يستقبل المدعوين، على أضواء المصابيح الخافتة فقد استمر انقطاع التيار الكهربائي عن المنطقة بأكملها، وكأن الظلام ذاته يلتهم الأحداث ويبتلع الحقائق، وكانت ملامحه أبعد ما تكون عن الاحتفال، بدا التوتر كظلّ ثقيل يخيّم عليه.


في غرفة أخرى...

أخذت شيرين تذرع المكان جيئة وذهابًا، تعقد ذراعيها حول صدرها وكأنها تحتضن قلقها، تتأمل الهاتف في يدها بيأس، وكلما حاولت الاتصال، جاءها نفس الرد القاسي: "الهاتف المطلوب خارج نطاق الخدمة."


طرقت «سراب» الباب، فانتبهت شيرين من شرودها وأذنت لها بالدخول. تبعتها نداء ثم وئام، وابنها الصغير الذي تشبث بأطراف ثوب والدته.


سألت سراب بلهفة، وعيناها تبحثان في ملامح شيرين عن أي بصيص أمل:

-هو مفيش اي اخبار يا طنط؟


هزّت شيرين رأسها بضعف، وكأن الكلمات ثقيلة جدًا على لسانها، ثم همست بصوت مبحوح:

-مفيش يا بنتي والله... لا حس ولا خبر عن الواد.


أطلقت شيرين شهقة مكبوتة، ففاضت دموعها دون إرادة منها، اقتربت منها نداء، تمسك بيدها في محاولة لطمأنتها، وكذلك فعلت وئام، بينما زفرت سراب بقلق شديد وقالت بحسرة:

-دا تقى كمان مبهدله نفسها من العياط هناك وجدو قاعد يهديها... يارب عامر يرجع يارب...


قالت وئام تحاول تهدئة والدتها:

-هيكون راح فين يعني! إن شاء الله يرجع بالسلامه، ادعيله يا ماما...


لم تستطع «شيرين» مقاومة خوفها، فهزّت رأسها بيأس وهي تهمس بتطير:

-النور قطع من الصبح... يعني كان إشاره أنه يوم اسود من أوله.


قالت نداء بحكمة:

-وحدي الله يا ماما متقوليش كده، إن شاء الله خير، اصبري...


في زاوية الغرفة، كان الطفل الصغير يتابع الحديث بعينين واسعتين، قبل أن ينطق بجملة جعلت الد**ماء تتجمد في العروق:

-أنا سمعت راجل كان بيهدد خالو.

التفتت إليه الأعين دفعة واحدة، وكأن أحدهم ألقى قنبلة في منتصف الغرفة.

شهقت شيرين، والذعر يتراقص في عينيها:

-بيهدده ازاي؟!


قال الطفل ببراءة وهو يومئ بثقة:

-ايوه يا تيته قاله وهو سكاكين وكان مبرق عينه.


انعقدت حواجب الجميع في حيرة، حتى سألت سراب محاولة فهم ما يقصده:

-يعني إيه وهو سكاكين؟!


تردد الطفل للحظة، ثم صحح نفسه بحـ ـماس:

-لا لا قاله وهو كذلك، مش سكاكين...


ساد الصمت لثوانٍ، قبل أن تتبادل النساء النظرات، وفجأة انفجرت سراب في ضحكة مكبوتة، تبعتها وئام ونداء، وحتى شيرين وسط دموعها، وكأن اللحظة كانت بحاجة لهذه الفجوة الصغيرة من السخرية وسط بحر التوتر.

انحنت نداء لمستوى الطفل وقالت:

-لا لا دا مش تهديد! يا حبيبي إنت فاهم غلط كذلك دي حاجه تانيه مش الكزالك بنت عم السكاكين خالص...


ضحكن، وكانت الضحكة أشبه بنبضة قلب عادت بعد توقفه... وكأنها كسرت لعنة الخوف التي سكنت الأجواء، وما إن انطلقت الضحكات حتى عاد التيار الكهربائي فجأة، فأضاءت الشقة بأكملها، تلته أصوات الأغاني الشعبية تندفع من الشارع، وزمامير السيارات تنطلق بانسجامٍ غريب، فركضن نحو الشرفات والنوافذ...


                    وبالخارج...

اندفعت مجموعة من الشباب من سياراتهم، يحيطون بشاب يتوسطهم، بينما آخرون يحلقون حولهم بدراجاتهم النارية، يطلقون الهتافات بحماسة جعلت سكان المنطقة يخرجون من منازلهم، مدفوعين بفضول لا يُقاوم.

كان احتفالًا عفويًا غير متوقع، حتى «تُقى» أطلت من شرفتها، تبحث بعينيها عن سبب هذه الضجة، وما إن وقع بصرها عليه، يرقص ضاحكًا وسط الجموع، حتى شهقت بفرح:

-دا عامر...

تعالت الزغاريد من النوافذ، وتصاعدت التصفيقات، كأن الحزن الذي خيم على العائلة تبخر في لحظة واحدة.

حتى تُقى، رغم دهشتها، انخرطت في التصفيق، وعيناها تمتلئان بوميض الفرحة والذهول معًا.


لحظات مرت كأن الزمن توقف عندها، حتى ظهر عمرو برفقة بدر ونادر، كان مذهولًا من المشهد أمامه، فلم يكن عامر بهذا الانطلاق من قبل، بل كان دائم الإصرار على أن يكون أي احتفال بلا موسيقى! كيف يرقص هكذا؟


ووسط الهتاف والغناء، سحب «عامر» «عمرو»، ثم «نادر»، فـ «بدر» إلى منتصف الدائرة، ليتمايلوا مع الإيقاع دون أن يفقهوا كلمات الأغاني التي تتردد من حولهم، لم يتخيل أحدهم نفسه في موقف كهذا، لكن الحماسة جرفتهم، والفرحة حلقت في الأجواء حتى اخترق المكان صوت الآذان لينتشلهم ويعيد الأرواح إلى مسارها وكأنه ينادي فيهم استقيموا...


رفع عامر يده وبإشارة واحدة، توقفت الموسيقى قبل أن يصدح صوته بقـ ـوة:

-يلا يا جماعه نصلي، نتوب بقا يا جماعه... يلا كلنا على الجامع.

تبادل عمرو ونادر وبدر النظرات في دهشة، وكأنهم يحاولون استيعاب ما يجري، لكن قبل أن ينطق أحدهم، اقترب شباب مجهولين من عامر، يضمونه بحماس، قبل أن يستديروا واحد تلو الأخر وينطلقوا بدراجته النارية مغادرين.


التفت الثلاثة إلى عامر باندهاش، وهتفوا في آن واحد:

-مين دول يا عامر؟


ضحك عامر، وهز رأسه كأن الأمر بديهي تمامًا:

-متقلقش دول بلطجيه... بس طلعوا محترمين بشكل متتخيلهوش.


دنى منه رائد وسأله:

-إنت كنت فين؟


ابتسم «عامر» ابتسامة واسعة، كأن الإجابة مجرد تفصيل هامشي، قال:

-كنت مخطـ ـوف.


تركهم «عامر» مبهوتين يتبادلون النظرات في توتر، بينما ابتعد خطوتين رافعًا رأسه إلى شرفة تُقى، عاقدًا يديه خلف ظهره، وعيناه تلمعان بالحب وعلى وجهه ابتسامة واسعة حتى جذبه عمرو من ذراعه محاولًا إعادته إلى أرض الواقع، قائلًا:

-سيبك من الكلام ده دلوقتي تعالى احكيلنا حصل إيه؟

تلعثم عامر قائلًا:

-الراجل الحرامي طلع معرفه فساعدني... وأهي دي بقا ميزة إن يكون ليك إصحاب من مختلف الطوائف.


-إحنا مش فاهمين يا عامر!

قالها رائد، فقال عامر:

-ولا وأنا والله فاهم حاجه، أصل الحراميه نفسهم عندهم شرف مهنه وعمي تختخ مرضاش أبدًا يقول مين اللي حاول يخطفني...


رفع عامر رأسه لشرفة تقى مجددًا فوجدها دخلت، زفر بحنق وقال بحسم:

-بقولكوا ايه، مش أنا كويس؟ خلاص نتكلم بعد الحفله! يلا نصلي العشاء وبعدها نشوف هنعمل ايه!


تركهم يتبادلون النظرات وهرول للمسجد فلم يجدوا خيارًا سوى أن يتبعوه وكل منهم يسأل الأخر عما حدث؟!

استغفروا 🌸 

                      ★★★★

وفي شقة تقى وسراب...

بدأت «سراب» تمارس هوايتها كخبيرة تجميل، تضع لمساتها بحرفية على ملامح تقى، تزيدها إشراقًا فوق إشراقها الطبيعي، وكأنها تنحت الجمال بأناملها.


كانت «تقى» تنظر لنفسها بين الحين والآخر في المرآة، وهي تشعر ببعض الخجل، خاصة في وجود وئام وهيام ونداء ورغدة ورحمه من حولها...


قالت وئام بمرح، وهي تتأملها بإعجاب:

-اللهم بارك، الواد عامر هيتجنن لما يشوفك يا تقى.


ضحكت هيام وهي تتابع:

-هي أصلًا مش محتاجة مكياج، الأخ عامر واقع من زمان أوي...

كانت «سراب» تبتسم وهي تتابع عملها، لكن عقلها عالقًا بمكان آخر، أفكارها تتشابك، وكأنها تحاول فك خيوط شيء ما...


تتساءل ماذا ستفعل بعدما تتزوج تقى وتصبح لعالمٍ أخر وحياة جديدة، ولأحدٍ أخر سيكون الأهم بتفاصيلها! شعرت بيد خفية تصفع قلبها، قريبًا جدًا قد تجد حالها بهذه الشقة وحدها، في تلك اللحظة أضناها الندم تسائلت هل تسرعت برفضها لبدر!!

انتشلها من سطوة مشاعرها لكزة وئام، وقولها المرح:

-وإنت يا منيل كنا سمعنا إن فيه عريس زي القمر ورفضتيه بكل برود.


ابتسمت سراب رُغمًا عنها وقالت بمراوغة:

-لا أنا مبفكرش في الموضوع أصلًا، مش ناقصه وجع دماغ.


قالت هيام بضحك:

-هو وجع دماغ... بس حلو أوي يا بت يا سراب.


وقالت نداء وعيناها تبرقان بالحب:

-الجواز حلو بس لو مع حد بتحبيه وبيحبك.


قالت سراب بمرح:

-وأنا ألاقي بقا حد يحبني زي ما أبيه رائد بيحبك فين يا أبله نداء، دول عمله نادره حضرتك.


قالت نداء متخابثة:

-بس بدر باين عليه محترم وهيحبك يا عسل، ولا القلب فيه سُكان تانين!؟


تخصرت سراب وقالت:

-لا سكان ولا رُواد أنا قلبي فاضي وأفتخر.

ضحكن، وكانت «رغده« تتابع الحديث بابتسامة، فقد اطمأنت أن «بدر» لن يتزوج بسراب، لم تستطع أن تواري سعادتها بموقف كهذا، لكن لازال هناك ما يزعجها، ليتها لم تتحدث مع بدر أبدًا، لقد أخبرته بمكنون قلبها، أخبرته أنها تحبه، لا تريد أن تراه بعد الآن بتاتًا لولا إصرار رحمه وقدوم وئام بنفسها لتصطحبهما لم تكن لتأتي...


انتبهت رغده على جدالهمن مع تقى التي قالت:

-أنا مش هخرج كده قدام الرجاله...


قالت هيام:

-يا بت ما احنا فصلنا الرجاله هيقعدوا تحت والستات فوق...


-بس أنا مش هعدي على الرجاله اللي قاعدين تحت بمنظري ده.

تبادلن النظرات بين واحدة تؤيد والأخرى تعارض، حتى قالت تقى:

-ممكن نغطي وشي بقماشه خفيفه، ياريتنا كنا لبسنا هناك أو حتى عملنا الحفله هنا...


اتفقن على هذا الحل، وهاتفت وئام عامر ليأتي في حين طالعت رحمه سراب باستغراب فلازالت تقف بالبيجامة وقالت:

-هو إنتِ مش هتلبسي...


قالت سراب وهي تنظر ملابسها:

-يا ليلة بيضا! إزاي محدش فكرني! أنا نسيت خالص...

ضحكن عليها وهي تحمل فستانها وتغادر الغرفة راكضة...


بقلم آيه شاكر 

                     ★★★★

كان «البدري» يجلس وسط الرجال، تتنقل نظراته بين الوجوه، كما اعتاد أن يفعل مؤخرًا كان يبحث بين وجوه الرجال عن ابنه الذي لا يعرف ملامحه، لكنه يراهن على شعور الأب، أليس الآباء يشعرون بأبنائهم حتى لو لم يروهم من قبل؟

كان «دياب» يأخذ بيده، يقدمه للرجال واحدًا تلو الآخر، والبدري يتفحص كل وجه قبل أن يصافح صاحبه، يتأمل العيون، يبحث عن شيء مألوف، شيء يشبهه، لكن الخيبة تتسلل إلى ملامحه مع كل مصافحة جديدة. وأخيرًا، جلس بينهم مُثقلًا بخيبته.


أخرج من جيبه صورة قديمة لطليقته، وعيناها تنظران إليه كما لو كانتا تلومانه على شيء، تأملها طويلًا، ثم جال بنظره في الوجوه مجددًا، كأن الصورة قد تهديه إلى وجه مألوف، لكن لا شيء... لا أحد يشبهها!


في تلك اللحظة، ظهر شقيق شيرين، فنهض البدري ليُسلم عليه، وفي غمرة الحركة، سقطت الصورة من يده دون أن ينتبه. 

حملتها نسمة هواء خفيفة، واخذت تدور كلما هبت نسمة أخرى إلى أن استقرت بعد فترة مقلوبة على وجهها في زاوية من مدخل بناية دياب.


جلس «دياب» إلى جوار البدري، ومن الجهة الأخرى جلس شقيق شيرين.


ابتسم دياب قائلاً:

-دا يبقى اخو المدام يا حاج، والحاج البدري يبقى خال تُقى.


رفع «البدري» حاجبيه بابتسامة خافتة وقال:

-اسمي عبد الوهاب، "البدري" دا اسم شهرة لزق فيّا من سنين، لدرجة إني نسيت اسمي الحقيقي.


ابتسم شقيق شيرين ومد يده لمصافحته بحرارة وهو يقول؛

-فرصة سعيدة والله يا حاج عبد الوهاب، دا أنا ليّا الشرف إني أتعرف على حضرتك.

-الشرف ليّا يا أستاذ.


انخرطوا في الحديث، تتناثر الضحكات الخفيفة بينهم، وكان البدري حاضرًا بجسده فقط، بينما عقله يجوب المكان، يبحث عن وجه مجهول يحمله نصف ملامحه.


وفجأة خرج «عامر» من البيت وجواره والدته التي كانت ملامحها مثقلة بسر خفي لم يُعلن بعدُ، ولكن الآوان قد فات! صارت تقى زوجته الآن! أقنعت حالها، أنه ربما قدرها أن تشارك عامر معاناته كما شاركها أوجاعها مع عائلتها، وحين طالعت وجه عامر المضاء بالفرح، أيقنت أنها فعلت الصواب، فبعض الأسرار التي تثقل الصدر، إن خرجت، ستثقل الروح...


بدا عامر مشرقًا في حُلته السوداء الأنيقه يتوجه نحو بيت العروس بخطواتٍ واثقة، والشباب من حوله يصفقون، يلقون الأهازيج بحماس، والزغاريد تتعالى في الأجواء، وكأن الفرح نفسه يرقص بينهم...


                     ***★★★***

                      على نحوٍ أخر

وقفت «تقى» تفرك كلتا يديها بارتباك، أخفت وجهها خلف وشاح خفيف وكانت تقف على بُعد خطواتٍ من الباب والإبتسامة لا تفارق مُحياه، خفضت تقى بصرها حياء فرغم الضجيج حولها والزغاريد المرتفعة إلا أنها لم تكن تسمع إلا وقع خطوات عامر، ونبض قلبها وقلبه...


رفع عامر الوشاح عن وجهها ببطء، وقال متأملًا ملامحها بحب:

-اللهم بارك، أنا مش بحلم صح؟


رفعت تُقى بصرها ببطء، تقابلت أعينهما، لم يكن هناك داعٍ للكلمات، فقد تحدثت النظرات عن الحب الذي وُلد منذ الصغر واستمر حتى تُوّج بالحلال...


ولم يترك عامر اللحظة تمر بصمت، تجاهل العيون التي تراقبهما، واقترب هامسًا:

-أنا بحبك أوي يا تقى.


ازدردت ريقها باضطراب وأطرقت رأسها خجلًا. فمال نحوها وقال بجراءة:

-ردي عليا...

تسللت نظرات تُقى إلى من حولها، وهي تحاول إخفاء مشاعرها عن العيون المترقبة.

وفجأة، دون إنذار، جذبها عامر إلى حضنه، ضمها طويلًا وقال بصوت دافئ:

-عشان بس لو حلم وصحيت...


طال العناق، حتى جذبت وئام أخاها مبتسمة بمرح:

-كفايه يا بابا...


-سيبيني شويه يا وئام.

قالها وهو يشدد على ضم تقى مغلقًا جفنيه فضحك الجميع، إلا تُقى... لم يلاحظ أحد بريق عينيها بالدموع التي جاهدت لحبسها كى لا تفسد زينتها، وهذه الدموع لم تكن ضعفًا بل كانت امتنانًا وفرحًا...


ابتعد عامر قليلًا، نظر في عينيها بعمق، ثم انحنى وقبّل رأسها بلطف، هامسًا بإخلاص:

-بحبك وهفضل أحبك لأخر يوم في عمري.


لم تنطق بكلمة لكن نظراتها كانت كافية ووافية لإخباره بمكنون قلبها، فهي تحبه ولم تحب سواه.


أسدل الوشاح على وجهها مرة أخرى وخرجوا جميعًا دون أن ينتبه أحد لغياب سراب...


                      ***********

كانت «سراب» تقف أمام المرآة، تحاول لف حجابها، لكن أصابعها المرتعشة كانت تفضح ما يعتمل في صدرها...

انسابت دموعها بصمت، وكأنها تخشى أن يسمعها أحد، فهذه البداية فقط... همست لنفسها، لكن الصوت في رأسها كان يصرخ: أنسيتيني يا تُقى؟ ولماذا لم ينتبه أحد لغيابي؟


تنهدت، ألقت الحجاب على التسريحة، ثم توجهت إلى المرحاض، غسلت وجهها، وضغطت المنديل الورقي على عينيها علّه يمتص شيئًا من وجعها، ثم عادت تُكمل لف حجابها قبل أن تغادر الشقة.


                 ومن ناحية أخرى

وأمام بنايتها كان «عمرو» يقف قابضًا على هاتفه، يتأمل الرقم على شاشته بتردد متسائلًا أين هي؟ فقد رآهم جميعًا يخرجون... إلا هي.

تأفف بضجر، وقرر الاتصال عليها، لكنه حين رفع رأسه، رآها مقبلة...


شعر بقلبه يخفق خفقة عنـ ـيفة، ذلك الخفقان الذي لا يظهر إلا لها...

اتسعت ابتسامته رغمًا عنه، كانت جميلة... بل أجمل فتاة رآها في حياته، ولكن عيناها؟ كان الحزن عليهما كغيمة ثقيلة.

تقدم نحوها بخطوات سريعة، وقلبه يسبق جسده، وسأل بلهفة:

-مالك يا سراب؟


رفّت أهدابها، وأبعدت نظراتها عنه، وكأنها لا تريد أن يقرأها، ثم تمتمت بصوت خافت:

-مفيش حاجه.


لم يصدقها، سألها:

-اتأخرتِ عنهم فوق ليه؟


ازدردت ريقها، ثم قالت محاولةً التماسك:

-كنت بلبس وافتكرتهم هيستنوني.

لكن صوتها خانها، تحشرج في آخر جملة، وكأنها قد فجرت بنفسها شيئًا لم تستطع احتواءه. استدارت بسرعة، وشهقت باكية...


تراجع «عمرو» خطوة، نظر حوله، حيث يجلس دياب والبدري وبدر يتابعون المشهد بصمت...


عاد ببصره إليها، وقال بنبرة هادئة لكن قلقة:

-إنتِ تعبانه ولا حاجه؟


هزت رأسها نافية، وهي تمسح وجهها، لكن الدموع لم تتوقف.

وقف قبالتها، متحاشيًا النظر إلى ملامحها حتى لا يسقط في فخ مشاعر لا يريد الاعتراف بها، ثم همس بإلحاح:

-متقلقينيش عليكِ في ايه؟


زفرت بعمق، وكأنها تحاول طرد كل الحزن في أنفاسها، ثم قالت:

-مفيش حاجه، هي بس حاجه دخلت في عيني...


صمت لحظة، ثم قال بنبرة متفهمة، لكنها تحمل شيئًا آخر... شيئًا أخطر:

-لأ دي حاجه دخلت في قلبك... إنتِ زعلانه عشان تقى اتجوزت وهتبقي لوحدك!


أغمضت عينيها، استسلمت لدموع جديدة، ثم همست:

-محدش خد باله إني مش موجوده، وكأني سراب... فعلًا واخده من اسمي كتير أوي...

شيء ما لمع في عينيه، ذلك البريق الذي لم يظهر لها من قبل، وقال بصوت هادئ لكنه ثقيل بالمعاني:

-بس أنا أخدت بالي، وكنت واقف هنا مستنيكِ ومتردد أرن عليكِ ولا أطلعلك، إنتِ عمرك ما كنتِ بالنسبه لي سراب، حتى لو بنتخانق كتير و... وبيبقا فاضل شويه ونضـ ـرب بعض، بس إنتِ في مكانه كبيره أوي عندي...


رفع رأسه إلى السماء، تأمل القمر الذي تحيطه النجوم، ثم همس بصوت خفيض، كأنه يبوح بسر:

-زي القمر...


عقدت حاجبيها قليلًا وهي تراقبه بحذر، هل قال للتو إنها تشبه القمر؟


ابتسم «عمرو» بعذوبة، وعينيه ما زالتا معلقتين في السماء...


اعتدل في وقفته، ودسّ يديه في جيبي بنطاله، مستطردًا:

-القمر بيكون حواليه نجوم كتير بتبرق بس هو اللي منور، يعني لو غابت نجمه من النجوم أكيد مش هاخد بالي...


رمقها بنظرة سارع لغضها وأكمل:

-أما لو غاب القمر تلقائي هحس...  فاهماني؟


اتسعت عيناها، توهج القلق في ملامحها، هزت رأسها بعنـ ـف كأنها تحاول الهروب من وقع كلماته، وتمتمت بتلعثم:

-لا، أنا أصلًا مابفهمش...

يتبع

تكملة الرواية من هنااااااا


لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع