رواية عن تراض الفصل الرابع عشر والخامس عشر بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
رواية عن تراض الفصل الرابع عشر والخامس عشر بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
(١٤)
#رواية_عن_تراضٍ
-حضرتك تعرفني؟
-طبعًا هو فيه حد ميعرفش بنته حبيبته! أنا بابا، حسين اللبان...
ازدردت لعابها باضطراب ومادت الأرض تحت قدميها، تحول عقلها لصفحة بيضاء، فهذا هو القاسي الذي حذرها منه عمرو، مر بمخيلتها الكثير من المشاهد، هل سيأخذها عنـ ـوة، هل سيخطفها الآن؟ هل سيذيقها من العذاب ألوانًا لم ترَ مثلها...
باغتها حسين حين جذبها لأحضانه فصرخت ودفعته، عاد حسين للخلف خطوتين، وهو يرشقها بنظرةٍ ثاقبة اخترقتها، وقد بدا متذمرًا مما فعلت!
ارتفعت حرارة جسدها فجأة، وكأن أحضانه كانت متلهبة فأضرمت النار بجسدها، ظلت متخشبة مكانها وتبادلا النظرات، كانت ساخطة، مصدومة ومروعه كذلك! عادت للخلف بظهرها ثم ركضت للداخل، والأسئلة تتلجلج بداخلها...
من هو؟ شخص لا تعرف عنه إلا اسمه، يُقال أنه والدها الذي لم تسمع إلا عن غلظته وقسوة قلبه، ظهر فجأة! لماذا؟ ماذا يريد؟
قابلتها «نداء» التي سمعت صراخها، تفحصتها بنظرة سريعة، وهي تسألها:
-فيه ايه؟!
أشارت «سراب» للخارج وهي مبهوتة ودون أن تلتفت، زحفت «نداء» بنظراتها نحو الباب، فاصطدمت بعمرو الذي ولج وألقى السلام، زجرته نداء:
-إنت مش هتبطل حركاتك دي يا عمرو؟ مزعل سراب ليه؟
-أنا مزعلها؟
قالها عمرو وهو يشير لنفسه رافعًا إحدى حاجبيه بتبرم، طالع سراب التي توليه ظهرها دون التفاف أو حركة، وأضاف:
-دا أنا لساني مخاطبش لسانها بقالي إسبوع.
لم تكترث سراب لكلماته، التفتت في سرعة، تطالع الباب، أين ذهب حسين؟ لا ترى له أثر...
خرجت من المكان مهرولة، ووقفت تتلفت يمنة ويسره، أمامها وخلفها وقلبها يدق كالطبول التي تنذر بحـ ـرب وشيكة و... اختفى!! لا أثر له وكأنه تلاشى في الهواء! هل كانت تتخيل؟ لا لا لم تُجن بعدُ، لازال عقلها يزن كل شيء، لم تكن تتخيل، كان هنا! ضمها ولازالت رائحة عطره عالقة بأنفها، أجل! كان هنا بالطبع، هي على يقين...
سارت خطوتين وأخذت تتفرس وجوه المارة حولها، وتنظر داخل السيارات، ولا أثر له!
لم تنتبه من انفعالها إلا على صوت سائق سيارة أجرة يهدر بها:
-بصي قدامك يابنتي، إنتِ ماشيه في نص الشارع؟
تبادل «عمرو» و«نداء» النظرات ونادها عمرو وهو يشير لها أن تأتي وأن تدخل للصالة الرياضية، فانصاعت لأمره وسارت نحوه وهي تلتفت خلفها بعد كل خطوة، حتى اصطدمت بعمود إضاءة، فعاركته هاتفة:
-إيه اللي جابك؟ جاي هنا ليه؟
أخذت تسدد له اللكمات، وهي تتخيل حسين! لكمته كثيرًا غير آبهة بألم يدها فقد كان ألم قلبها أشد...
-إنتِ بتعملي ايه يا سراب؟
هدر بها عمرو بينما جذبتها «نداء» من ذراعها وحاولت تهدئتها، وأخذ عمرو يسألها عمَ أصابها؟ وكانت مشدوهة، ترى حركة فمهما بالكلام لكنها لا تنصت لأي كلمة مما يقولان!
-فيه ايه يا سراب؟
قالها عمرو وهو يضغط على حروف كلماته، ويمشط وجهها بنظراته متفحصًا ملامحها المذعورة، واصفرار وجهها، وسرعة تنفسها وكأنها تختنق! وبالفعل كانت تختنق، ويعصر القلق قلبها عصرًا، سألها عمرو للمرة الثالثة وهو يوقع كلماته بلهفة شديدة:
-مالك يا سراب؟
لاذت بفقاعة من الصمت، حاول عمرو جذبها منها بتكرار سؤاله عما يحدث معها؟ ونداء تسأله هل هو سبب حالتها تلك، وهو ينفى ويقسم أنه لا يفهم ما بها؟
هبت سراب واقفة فجاة، ووضعت يدها على قلبها وأخذت تدور بالمكان كما تدور التساؤلات والأفكار داخلها، لن تنهـ ـار، هي قـ ـوية، والله سبحانه لن يضعها داخل اختبار مثل هذا إلا إذا كانت أهلًا لتحمله...
ظلت تُطمئن نفسها متجاهلة كل من عمرو ونداء اللذان يدوران معها، ثم التفتت لهما ونطقت بلهفة عارمة:
-تقى!؟ ممكن يروح لتقى؟
كررت اسم تقى بلهفة وقلق ونبرة مختنقة بالدموع التي لم تُطلق سراحها...
وقف عمرو قبالتها وفتح كلتا ذراعيه يحثها على التوقف عن الدوان، وقال بنفاذ صبر:
-بس بقا اقفي! اهدي واحكيلي، إيه اللي حصل؟ احنا جنبك، اهدي، وتقى مش لوحدها، هناك هيام ومحمد معاها، محدش هيقدر يقربلها...
تنفست عميقًا ونظراتها عالقة بعينيه، تنفست وتنفست وكأن أنفاسها حُبست لفترة داخل صدرها، وهو يومئ لها ويشير بيديه أن تهدأ، فجلست على المقعد، ونظراتها تتذبذب بتوجس، قبضت بيدها على طرف الطاولة الخشبية؛ لتكبح جماح مشاعرها المتأججة، أخرجت هاتفها من حقيبتها وطلبت رقم تقى، سألتها عن حالها بكل هدوء ورصانه، ثم قالت:
-متخرجيش من المصنع إلا لما أجيلك.
نفد صبر «عمرو»، فقد ألح كثيرًا ليعرف ما بها لكنها لم تخبرهما حتى الآن، مما دفعه للجلوس قبالتها محاولًا تمالك نفسه وقال:
-انطقي يا سراب الله يهدينا ويهديكِ في إيه؟
قالت بحشرجة:
-حسين اللبان!
حمحمت لتجلي حلقها ثم رفعت عينيها ونظرت بعيني نداء، وأكملت بهلع ظهر بنبرتها الخافتة:
-كان هنا! حضنني! أنا شوفته! وشميت ريحته.
طرق عمرو على الطاولة بغضبٍ جامح، وقال:
-مش هيسكتوا! كنت حاسس إنه هيجي! كنت مستنيه.
عاد يجلس قبالتها وقال بملامح تتقد غضبًا:
-متخافيش يا سراب، إن حاول يمس شعره منك أو من تقى أنا... أنا هنسفه من على وش الأرض...
-أنا مش خايفه على نفسي، أنا خايفه عليكوا كلكم، أنا مش مهم بس مش هقدر أستحمل تقى يحصلها حاجه! أو إنت أو عامر أو عمو رائد أو... أو أي حد، لو عايزني أنا هروحله بس...
قالتها نداء بنبرة ترتجف، وصدرها يعلو ويهبط بانفعال مع كل كلمة، قاطعها عمرو الذي كان أشد انفعال منها:
-تروحي فين؟ محدش هيقدر يقرب منك ولا من تقى...
وكانت «نداء» تنصت للحوار بترقب وفي صمت، وقد تسرب الخوف لقلبها رويدًا رويدًا حتى امتلئت غرفاته وفاضت، حتى وصلت أطراف جسدها فاختلجت... الآن الجميع في خطر! ويجب توخي الحذر في كل خطوة!
حملت سراب حقيبتها، ونهضت بعدما أخبرتهما أنها ستذهب لتقى، فخاطب عمرو نداء:
-معلش ممكن تقعدي شويه وتبلغي اللي هيجوا إن ميعادنا العشا؟
أومأت نداء التي كانت تتظاهر بالثبات لكنها ترتعد من الداخل، حملت هاتفها بأيدٍ مرتعشة وطلبت رقم رائد لتخبره عما يحدث، عله يطمئنها ويعانق قلبها المضطرب بكلماته...
تبع عمرو سراب وحاول التحدث معها، حاول إخراج الكلمات منها لكنها لم تخرج من صمتها كانت تهز رأسها فحسب، شعر بخوفها ولكن ماذا سيفعل؟
ركبا سيارة أجرة معًا، ومر الطريق في صمتٍ ثقيل، كان عمرو يركب جوار السائق، ويلتفت بين فينة وأخرى ليطمئن عليها...
لم تكن سراب في حالة طبيعية، كانت معدتها تتقلص، وكلما تذكرت رائحة عطر حسين شعرت برغبة عارمة في التقيؤ...
حاولت جاهدة كبح جماح نفسها، حتى ارتجلت من السيارة، أطبقت يدها على فمها وحاولت التماسك ولكن... انحنت وكان جسدها بأكمله يرتج وكأنها ستتقيأ لكن لم يخرج من فمها شيء، وكأنها كتمت آهاتها فلم يستطع جسدها التحمل فثار بتلك الطريقة...
سقطت حقيبتها فأخذها عمرو ونادى فرد الأمن طالبًا منه أن ينادي أخته هيام على وجه السرعه...
استغفروا 🌸
★★★★★
جلست «تقى» على مكتبها شاردة، شعرت بصوت سراب المضطرب عبر الهاتف ولو لم تفصح لها عما بجعبتها...
أخذت حبة دواء لتسكن آلام رأسها وكان الإرهاق يتجلى على ملامح وجهها وتلك الهالة التي تكونت حول عينيها تشى بمدى تعبها، فقد جافاها الكرى، وكيف يأتيها؟ فرغم تظاهُرها بالثبات إلا أن اختفاء والدها ترك داخلها خاويًا، وفؤادها فارغًا، تتصلب أمام الجميع وتُقنع حالها أنها بخير لكنها ليست كذلك...
كان عامر هو السنا الذي تسلل لحياتها المعتمة، فقد أفصح أمام الجميع أنه يريد الزواج منها، لم تعطه الرد بعدُ، وقررت ألا تعطيه ردًا الآن، أقنعته بتأجيل الأمر وكان يكفيه أن يعلم جميع العائلة، حتى الشارع بأسره أن تقى لعامر وعامر لتقى مهما طال الدهر...
مدت بصرها والتقطت نظراتها فستان الزفاف الأبيض الذي صنعته بيدها، كان جميلًا بل رائعًا، واسع وفضفاض كما تهوى، مزين من عند الرقبة والكتفين والمعصمين بفصوص لامعة تشبه الألماس، تخيلت حالها ترتديه، وبالفعل ستأخذه معها للبيت، فهذا الفستان لن يخرج إلا لها أو لسراب!
أرسلت تنهيدة طويلة، كيف تفرح أو تتزوج أو تعيش أو حتى تتنفس ووالدها لا خبر عنه! عليها الانتظار لفترة أطول فقد يظهر، ولكن إلى متى؟
مسحت وجهها الذي أغرقته الدموع، وأخذت تلهج بالدعوات التي لم تيأس منها أبدًا، ففي كل وقت وفي كل حين، تدعو أن يعود والدها وأن تستقر حياتها، أن تضيء عتمتها، وتعود أرض قلبها القاحلة للحياة وتُزهر من جديد...
شعرت بحركة غريبة بالخارج فوثبت من جلستها وهرولت وهي تسمع صوت هيام تخاطب أربعة فتيات يحملن أحد ما!
-ســــــــــــــراب.
نطقت بها تقى وهي تعدو نحو سراب التي كانت شبه واعية...
وبعد فترة انتبهت سراب كُليًا، بعدما أجبرها عمرو أن تشرب علبتين من العصير، فقد انخفض ضغطها فجأة...
هدرت بها تقى:
-عشان مش بتاكلي كويس يا سراب! والله ما هسيبك بعد كده وهأكلك بالعافيه.
نطقت سراب بنبرة خافتة ومرهقة:
-أنا كويسه...
انحنى عمرو لمستواها وفتح علية أخرى من العصير، فرمقته بنظرة استردتها سريعًا، ولاح شبح ابتسامة على شفتيها وهي تقول:
-إنت عارف العلبه دي فيها كم سُعر حراري؟
-ارحمي نفسك، وكلي زي الناس، يا شيخه حسبي الله... وقعتي قلوبنا...
قالها عمرو وانتصب واقفًا فربت محمد على كتفه وقال:
-يلا هوصلكم للبيت...
قالت هيام:
-ناخدك مستشفى الأول يا سراب؟
نهضت سراب واقفة لتطمئنهم أنها بخير، وأخذت تعدل ملابسها وهي تقول:
-أنا كويسه والله.
انتبه عمرو أن حقيبتها لازالت بيده حين مدت يدها وجذبتها منه برفق، وشاكسته حين قالت بابتسامة:
-هات يا عم، احنا أخر مره وثقنا في حد نشل الشنط باللي فيها.
وميض ابتسامتها لم يدم طويلًا، انطفأ وانطفات معه ملامحها، لكنها لم تبكِ...
أشاح عمرو بصره عنها وقلبه معلقًا بها، وبحالتها...
-خلاص هي بقت كويسه، يلا يا شباب أوصلكم.
قالها محمد، وخرج الجميع متوجهين للبيت وأصر عمرو أن تحكي سراب كل شيء بالتفصيل لدياب ورائد وتتناول الغداء معهم، أو لنقل ليطمئن أنها تناولته قبل أن تذهب لبيتها...
صلوا على خير الأنام ♥️
★★★★★
على الصعيد الأخر
في غرفة المعيشة، جلست سعيدة قبالة «فاطمة» (جدة رحمه ورغده)، نطقت سعيدة بخبث:
-ليه كده! عمرو وعامر المفروض يتجوزوا رغده ورحمه! وهما رغده ورحمه وحشين دول وردتين زي القمر طيب والله أحلى من سراب المعصعصه، وتقى دول اللي مش معروفلهم أصل من فصل.
صمتت فاطمة وكانت متجعمة الوجه متذمرة من رفض عامر الزواج من إحدى حفيدتيها، وجلست منتبهه لكلمات سعيدة وارشادتها بكل حواسها، أومأت فاطمة قائلة:
-عندك حق يا سعيده ياختي بس هنعمل إيه! نجوزهم بالعافية.
مصمصت سعيده بشفتيها وقلبت كفيها بحسرة ثم قالت بحزن زائف:
-دا أنا زعلت أوي لما عرفت بالموضوع ده، يلا هما الخسرانين ولا تشغلي بالك يا فاطمه.
زفرت فاطمه قائلة:
-أنا عن نفسي مش شاعله بالي، بس جوزي وأخته ما هي جدتهم أم أمهم! زعلانين من دياب وعمايله! يعني مش عارف يثني حبل على عياله!
نبست سعيدة متخابثة:
-وليه متقوليش إن البت تقى ضاحكه على عامر، واللي اسمها سراب بتلعب على عمرو كمان! والاثنين ضاحكين على العيله كلها...
هزت فاطمة رأسها وهي تُقلب الكلمات في رأسها ثم لفظت:
-جايز!
عادت سعيدة تستند للخلف وطفقت ترش الملح على الجرح بقولها:
-البنتين دول مش سهلين صدقيني، أنا لو مكانكم أقاطع دياب وعيلته دول خالص...
-والله عندك حق يا سعيده، أنا برده من ناحيتي مش هسكت...
اتسعت حدقتا سعيدة وانحنت بجزعها العلوي نحو فاطمة، وهي تقول بفضول عارم:
-هتعملي إيه؟ ها هتعملي إيه؟
رفعت فاطمة إحدى حاجبيها وقالت:
-هكلم ستهم أم أمهم أكيد هتتصرف، دي مبتسكتش...
قالت سعيده تشجعها:
-أيوه متسكتيش حاولي مره واتنين، الواد عامر يستاهل بره، شاب زي القمر ومعاه فلوس هيعيش بنتكم في مستوى كويس.
وقعت كلماتها بابتسامة ماكرة ونظرة فارغة ثم نهضت لتغادر وتركت فاطمة والأفكار تتموج داخلها وتتشابك.
استغفروا
★★★★★
انقضى اليوم وتبقى على أذان المغرب ما يقرب من النصف ساعة...
كان «عامر» بسنتر الدروس الخصوصية، فقد كان يُدرس مادة الفيزياء للصف الثالث الثانوي...
خرجت أخر مجموعة من الطلاب إلا أربعة شباب سألوه عدة أسئلة وخرجوا فاقترب فتاة ترتدي ملابس ضيقة، حجاب لا يتلائم مع تنورتها القصيرة ذات اللون الأحمر وقميصها وبنطالها الأسودان يشبها قلبها، كما تجلت مساحيق التجميل على بشرتها...
وقفت قبالة عامر فاخترق أنفه رائحة عطرها النفاذ والآخاذ، كاد يخرج من الغرفة لكنها أوقفته وأخذت تسأله عدة أسئلة حول حصة اليوم، فاضطر لإجابتها حاولت مداعبته بالضحك لكن عامر كان متحفظ الكلمات ولا ينظر لوجهها ولا يتبسم...
قالت بدلال:
-هو أنا شكلي وحش أوي كده يا مستر عامر! حضرتك مش بتبصلي ولا حتى المستر بدر لما أكلمه بيبصلي.
-وإنتِ عايزانا نبصلك ليه؟
قالها عامر بحدة واقتضاب، فوجهت له سؤال مباشر:
-يعني أنا شكلي حلو؟
تجاهل عامر سؤالها وقال وهو يلملم حاجياته:
-ها عايزه تسالي حاجه تانيه؟
-هو مستر بدر هـ...
قاطع عامر سيل كلامها بحسم:
-لو سمحتِ حاجه بخصوص الماده غير كده أنا مش هجاوب... اتفضلي...
قال أخر كلمة وهو يشير نحو الباب لتخرج فرمقته الفتاة بنظرة محبطة وأطرقت، فخرج هو من الحجرة وتركها وحدها، فحملت حقيبتها وهي تُصر على أسنانها بحنق...
من ناحية أخرى...
كانتا «رحمه ورغده» تذاكران بالخارج، تنتظران عامر ليوصلهما للبيت فقد شدد عمرو وعامر عليهما بعد موضوع نادر...
كان «بدر» يجلس بحجرة أخرى يُصحح أوراق الإمتحان، نفخ متضجرًا ونادى رحمة، فنهضت ببطئ وذهبت إليه بخطواتٍ متثاقلة...
-نعم يا مستر؟
قالتها «رحمه» وهي تفرك أناملها باضطراب، فهي تعلم ما يريده منها، ازدردت لعابها لتبلل حلقها الذي جف، وترقبت كلماته المعتادة أن تركز وتذاكر وهكذا...
قال:
-مينفعش كده والله يا رحمه! أنا مش عارف أكتبلك درجه! هو إنتِ مش بتفهمي مني؟
-لا والله حضرتك شرحك ممتاز بس أنا اللي مـ... مكنتش مذاكره كويس.
ارسل تنهيدة ثم رمقها وقال بقلة حيلة:
-ماشي يا رحمه، اتفضلي...
أظهر ورقة الامتحان على سطح المكتب فأخذتها وطالعتها بأسى، ثم جلست جوار رغده ونكست رأسها فنظرت رغده للورقة بيدها ونهضت...
طرقت رغده باب الغرفة لينتبه لوجودها، فرمقها بنظرة غضها في سرعة وأومأ لها لتقترب، فقالت بتلعثم وهي تُخفض نبرتها كي لا تسمع أختها:
-مـ... مستر آآ... رحمه شطره وكانت أشطر مني بكتير بس... يعني هي من بعد موضوع نادر وهي متغيره و...
قاطعها دون أن يرفع بصره:
-ساعديها شويه، رحمه محتاجه دعم نفسي وإنتِ أحسن واحده تعمل ده! قربي منها واتكلمي معاها خرجيها من الحاله دي! ولو هي محتاجه تفهم أي حاجه تانيه أنا موجود.
رفع بدر بصره ونظر لوجهها فأخفضت نظراتها حياءًا وقالت:
-حـ... حاضر، شـ... شكرًا يا مستر.
ابتسم «بدر» وهو يومئ لها، فخرجت، وعلِقت نظرات بدر بمكانها الفارغ للحظات...
عادت تجلس جوار أختها، تبتسم لها وتربت على كتفها، فابتسم بدر وكاد يُكمل تصحيح الأوراق ولكن قاطعه عامر:
-يلا يا بدر...
نهض «بدر» واقفًا ومتأهبًا لملم الأوراق ثم خرج وترك عامر يُغلق الأبواب...
خرجت الفتاة التي كانت تتحدث مع عامر قبل قليل، تعثرت على درجات السلم عن عمد، فسندها بدر قبل أن تسقط، وهرولتا رغده ورحمه إليها، فغرست الفتاة عينيها بعيني بدر دون حياء وشكرته بنعومة مصطنعة ورقةٍ زائفة، فتبادلت رحمه ورغدة النظرات الصامتة بينما مسح بدر راحة يده التي أمسك بها الفتاه بالحائط وكأنها اتسخت!
أثار ذلك انتباه رغدة فابتسمت...
استقلوا السيارة فانحنت الفتاة قبالة نافذة بدر وقالت:
-ممكن توصلوني في طريقكم يا مستر؟
-معلش أصل إحنا رايحين مشوار...
قالها بدر باقتضاب، فرشقت الفتاة رغده ورحمه بنظرة حادة وقالت بامتعاض:
-تمام شكرًا...
وانطلق عامر بالسيارة، ثم هز رأسه مستنكرًا وقال:
-البنت دي مش مظبوطة.
-حسيت كده فعلًا... ربنا يهدي...
قالها بدر، فتبادلت رغدة ورحمه النظرات مرة أخرى وران عليهم الصمت...
حتى ظهر فجأة، ومن العدم سيارة وأخذت تتبع سيارتهم وتُضيق عليهم وكأن هناك من يتعمدها، فأسرع عامر بالسيارة، ليبتعد عنها وما أن اطمئن لاختفاء السيارة، ضغط مكابح السيارة فلم تستجب، حاول أكثر من مرة، ثم نطق باضطراب:
-أنا مش عارف فيه إيه!!! الفرامل فيها مشكله...
أجفلوا وصرختا رغده ورحمه، فقال عامر:
-اهدوا متوترونيش...
حاول بدر مساعدته وتهدئته، ومرت عليهم دقائق عصيبة وعامر يتفادي السيارات ويحاول إنقاذهم...
وكانوا على مقربة من شارعهم، وقبالته تمامًا...
-يا الله!
قالها عامر بفزع شديد بعدما تفادى سيارة نقل كبيرة...
دخل بدر في حالة صدمة واستسلم وكأن بينه وبين الموت خطوة أخيرة، بينما فقد عامر السيطرة على السيارة ودارت عدة مرات على شكل دائرة وأجسادهم ترتج بالسيارة وترتجف واختلط صوت صرخاتهم مع صوت أزيز وصفير السيارة المرتفع...
وعلى الصعيد الأخر
في شقة دياب شعرت تقى بخفقة غريبة، فوضعت يدها على قلبها وأطبقت جفونها لبرهة، فقد كانت بين العائلة وسراب تحكي لهم عن لقائها بوالدها، انتبهت لها شيرين فقالت:
-مالك يا بنتي؟
فتحت تقى عينيها وقالت:
-هـ... هو عامر اتأخر النهارده؟
قالت شيرين:
-رن عليه يا عمرو المفروض يكون وصل دلوقتي!
أومأ عمرو وأخذ يطلب أخيه، مرة تلو الأخرى ولم يجب!
فقال عمرو:
-تلاقيه سايق مبيحبش يرد وهو سايق...
ران عليهم صمت طفيف قطعه رائد:
-أنا مش عايزكوا تقلقوا، احنا جنبكم ميقدرش يعمل حاجه...
هز دياب رأسه مؤيدًا وقال:
-محدش يقدر يقرب منكم انتوا في حماية دياب العقيد...
طمئنتهم النظرات الواثقة التي تُطل من عينيه، فاومأت سراب وابتسمت، بينما وجهت شيرين سؤال لتقى:
-إيه يا تقى... مش هنعمل خطوبه ونفرح بقا؟
أسقطت تقى بصرها حياءًا وهي تردد:
-إن شاء الله.
قال دياب:
-إيه رأيكم نجيب الدهب أخر الأسبوع، ونعمل حفله وأهو الفرح يدق بابنا.
صمتت تقى هنيهة، متسائلة أما آن أوان اجتماعها بعامر! ازدردت لعابها ونطقت:
-اللي حضرتك تشوفه يا عمو.
قال دياب بسرور:
-يبقا على بركة الله...
ابتهجت سراب وضمت تقى بسعادة، في حين قال رائد بمرح:
-حضرتك بتتفق يا بابا والعريس مش هنا؟
ضحك دياب قائلًا:
-هنبقا نعزمه إن شاء الله.
ضحكوا جميعًا، وكان عمرو يختلس النظر لسراب وسعادتها تلك التي تجعل صدره يعلو وتجعل روحه تتنفس، بينما حزنها يجعل صدره يهبط وينقبض، شرد ونظراته مسلطة على سراب والإبتسامة على مُحياه، وانتبه لنفسه فجأة فهز رأسه وزالت ابتسامته ودقات قلبه تتواثب، أطرق متجهمًا، يزجر حاله! وينهى نفسه عن هذا الشعور، وفي سريرته صوت يهدر؛ أيها الأبله! إنها الحمقـ ـاء سراب، انصرف عن هذا...
وكانت شيرين تفطن لنظرات ابنها وتتابعه، حتى قُرع جرس الباب...
نهض عمرو ونظر من الشرفة، فصاح شاب:
-عامر أخوك وصاحبه وبنات الاستاذ صالح عملوا حادثه قدام الشارع...
هُرع الجميع وركضوا للخارج.
بقلم آيه شاكر
★★★★
-أَغيب وَذو اللطائف لا يَغيب
وَأَرجوه رجاء لا يخيب
وأسأله السَلامة من زَمان
بليت به نوائبه تشيب.
انتبه عامر على صوت الإبتهال الذي يصدح من مسجد قريب، فقد قفز من السيارة قبل أن تنقلب ثلاثة مرات ثم تصطدم بشجرة على زاوية الطريق، فتح جفونه فقد أطبقهما ظانًا أنها المرة الأخيرة ولن ينكشف ستار جفونه مرة أخرى...
كان الناس يتجمعون حول السيارة...
والأربعة قد قفزوا من السيارة في نفس اللحظة كانوا مبهوتين وفي حالة صدمة شديدة كل واحد باتجاه، بدر يمسك ظهره، وعامر يمسك رأسه، ورغده تمسك ذراعها، ورحمه تمسك ساقها...
تدور أعينهم في ذعر، يتفحصون أنفسهم ليطمئنوا أنهم لازالوا على قيد الحياة، يتنفسون عدة مرات، وينظرون لبعضهم ليطمئنوا أن أحد لم يتأذى...
نهض عامر متأوهًا ودار حول السيارة التي تهشمت جوانبها، حاوط رأسه بيديه في حسرة، فواساه رجل؛
-احمد ربنا يابني، دا انتوا ربنا لطف بيكم... جت سليمة ومحدش اتأذى...
وقال أخر:
-دا كويس إن مكنش فيه عربيات جايه ولا رايحه.
ونطق ثالث:
-لا حول ولا قوة الا بالله.
ربت بدر على كتف عامر وقال برضًا:
-الحمد لله...
ساعد الناس في تحريك السيارة ووضعها في زاوية بشارعهم...
فأشار بدر لرغده ورحمه الواقفتان جوار بعضهما ولم يحركا ساكن، اقتربتا منه فقال:
-واقفين كدا ليه؟ يلا على البيت.
-حـ... حاضر يا مستر.
قالتها رحمه واقترب عامر منهم ليطمئن عليهم، فأخبراه أنهما بخير، فقال بضحك هستيري:
-العربية ماتت يا شباب.
شاركه بدر الضحك وقال:
-أنا مش مصدق أصلًا إننا عايشين.
ضحكت الفتاتان على ضحكهم، وقالت رغده:
-أنا كنت مرعوبه، بصراحه مش عايزه أموت دلوقتي.
قال عامر:
-ومين اللي عايز يموت؟ أنا مش فاهم أصلًا حصل ايه!!
قالت رحمه بضحك:
-دا ذنب البنت اللي موافقتش تركبها معانا يا مستر بدر!
قال بدر بضحك:
-لا وإنتِ الصادقه، دي عين وصابتنا يا رحمه.
ضحك الأربعة فسأل عامر من خلف ضحكاته:
-جماعه هو إحنا بنضحك على إيه؟ إحنا كنا هنموت.
قالت رغده بابتسامة:
-بس مموتناش! فبنضحك احتفالًا إننا على قيد الحياة.
رأتهم سعيده يضحكون فهرولت نحوهما، وقالت:
-أهلًا أهلًا بالمتواضعين...
قال بدر بضجر:
-خالتي سعيده، يا غاليه احنا لسه خارجين من حادثه والعربيه متفرتكه على الأخر.
أطلقت سعيده ضحكات عاليه وقالت ساخرة:
-حادثة!! دا منظر ناس خارجين من حادثة!! دا انتوا ولا اللي جاين من حفله...
نظر بدر لرغده وقال:
-خدي أختك وادخلي يابنتي بسرعه.
ثم نظر لسعيدة وقال:
-خالتي سعيده سيبينا في حالنا بالله عليكِ... يلا يا عمرو...
-أنا مش عمرو أنا عامر...
قالها عامر وهو يضحك، فجذبه بدر من ذراعه وهو يقول:
-بقولك ايه إنت كمان... قدامي...
ضحك عامر وسار جوار بدر الذي تحسس ظهره وتأوه ثم قال:
-إنت يابني بقيت نسخه من عمرو والله بقيت أتوه فيكم، احلق يا عم ذقنك تاني...
-لا خلاص مش هينفع أنا حبيت شكلي كده، وبعدين ما كلكوا ملتحين اشمعنا أنا عايزيني أنعمها...
قالها عامر ووضع يده على رأسه وتأوه...
استقبلهم أفراد العائلة الهرعين، سأل دياب بلهفة:
-إنت كويس يا عامر؟
حاول عامر كبح ضحكاته وهو يهز عنقه بحسرة، قائلًا:
-أنا كويس لكن العربيه... تعيشوا انتوا...
سأل عمرو وهو يلتفت حوله:
-فين العربيه؟
أخرج مفتاحها من جيبه وأعطاه لوالده وهو يضحك بهستيرية قائلًا:
-دا اللي اتبقى منها يا والدي... أهي حاجه للذكرى...
أطبق بدر شفتيه ليكظم ابتسامته، وطالع عامر الذي كان يضحك بهستيرية وكأن هناك من يدغدغه، تبادلت العائلة النظرات، بينما اقتربت هيام من عامر تأملته وهي تقول:
-إنت شارب حاجه يا عامر؟
-شارب شاي...
قالها وهو يكبح ضحكاته، سألته تقى:
-إنت كويس يا عامر؟
-تمام الحمد لله.
قال بدر ساخرًا:
-هو اتخبط في دماغه، فتقريبًا الخبطه أثرت عليه.
قال عامر بجدية:
-لا والله أنا كويس... أنا بس...
عاد عامر يضحك بهستيرية وحين رأت شيرين نظرات سعيده الثاقبة المترقبة، قالت:
-طيب تعالوا فوق... تعالى يا بدر.
دخل الجميع عدا دياب ورائد ومحمد توجهوا لتفقد السيارة، وظلت ضحكات عامر تجلجل عاليًا، فضحكوا على ضحكاته...
بينما وقفت سعيدة تزم جفونها وتردد:
-آه يا شوية متكبرين!
★★★★★
رغم التعثر وتخبط الخطى، كان يكفيها أن تسمع ضحكاته، أن تعانق نظراته ولو لبرهة، أن تتنفس من الهواء الذي يتنفسه، فكل ذلك يدفعها للنهوض، وللتشبث بوشاح التفائل الذي تأبى عواصف الحياة أن تتركه على أكتافها.
كانت تقى تعلم ما الذي أصابه، فعامر حين يرتبك أو يضطرب أو يخاف، يضحك بهستيرية، ويختلف عن عمرو في هذا...
وبالشقة شرحت سراب لبدر مرة أخرى ما حدث وأخذت تصف له شكل حسين، فقال بدر:
-هو فعلًا شكله كده...
شهقت سراب وقالت:
-وممكن يكون هو اللي لعب في الفرامل يا جماعه؟!
تبادلوا النظرات، فقال عمرو:
-معقوله؟ وليه يعمل كده؟
قالت سراب بخوف:
-وليه يجي هنا أصلًا! أكيد ناوي على شر!!
قال عمرو بضجر:
-بطلي سلبيه يا سراب، متخوفيناش على الفاضي...
رمقته بابتسامة باردة وقالت:
-أنا مش بخوفكم لكن عايزاكوا تاخدوا بالكوا... أنا خايفه أصلًا يجيلنا البيت...
ران عليهم صمت طفيف حتى قال بدر:
-هو ممكن يكون جاي يدور على الحاجه اللي هند سألتك عليها!
قال عمرو:
-هند دي تبقى نرمين بنت أخوه يعني بنت عمك يا سراب.
التفتت له سراب باندهاش، وقالت:
-وإنت عرفت منين الكلام ده؟
-عرفت بطريقتي...
أثار اقتضابه غضبها، فهدرت بنبرة مرتفعة:
-هو إيه اللي عرفت بطريقتي ما تقول عرفت ازاي؟
طاف «عمرو» بنظراته على وجوه الجميع «بدر، وعامر وتقى ونداء وشيرين وهيام» وأصر على أسنانه ثم هدر بها:
-قولتلك متعليش صوتك يا سراب.
هبت سراب واقفة وقالت:
-هو إنت مش هتبطل تبقى مستفز، مخبي عليا ليه! وياترى مخبي إيه تاني؟
اكفهر وجه عمرو، واحتدت نبرته هادرًا بها:
-يا بت وطي صوتك، برده بتعلي صوتها عليا ازاي! هو أنا شغال عندك يا بت إنتِ.
-إيه بت دي هو أنا عيله صغيره؟ دا إنت واد رخم بقا!
-تصدقي بالله أنا غلطان إني بفكر فيكِ، وإنتِ متستاهليش أصلًا.
كانا يرميان بعضهما بنظرات تحدي وكأنهما في صراع ما، قالت سراب بنبرة مرتفعة:
-تمام! ومن النهارده يا عمرو ملكش دعوه بيا نهائي ولا لسانك يخاطب لساني... أنا بجد بكرهك...
تردد صدى أخر كلمتين في رأسه عدة مرات، فقال بغضب وهو يشير لسراب بسبابته:
-أنا بقا اللي بكرهك، ومش طايقك، ومش عايز أشوفك قدامي...
-بكرهك يا عمرو بكرهك.
قالتها بانفعالٍ بليغ، وبنبرة مرتفعة سمعتها كل زاوية بالبيت، فاحتقن وجه عمرو بالد**ماء، وقال بنفس انفعالها:
-أنا مبقتش طايقك قدامي.
تخشبت مكانها لبرهة وهما يتبادلان النظرات الحادة، وكل منهما يصر على أسنانه، لا يسمعان أصوات العائلة من حولهما فقد جاهدوا لكبح شعلة الغضب بينهما بلا فائدة...
ارتفع صوت أنفاس سراب، وكان قلبها يختلج خلف أضلعها، هدرت:
-وأنا مش جايه هنا تاني...
-في داهيه...
قالها عمرو ملوحًا بيده في ضجر، وعاد يتشاجرا واحتدم الحوار بينهما كانا يصرخان بوجه بعضهما وكأنهما أعداء، حتى هرولت سراب لتخرج من البيت وتبعتها شيرين ونداء وهيام يهدئنها وقد برقت عيناها بالدموع، بينما عاتبت تقى عمرو:
-ليه كده يا عمرو؟!
أطرق عمرو بتجهم ولم ينبس بحرف، فتنهدت تقى وتبعت سراب...
قال عامر بغيظ:
-هو إنت غـ ـبي يَلَه؟!
-إيه يَلَه دي إنت كمان! إحترم نفسك.
قال بدر:
-أنا هتكلم معاها متقلقوش...
جذبه عمرو من ذراعه وهدر بعصبية:
-تتكلم معاها بتاع إيه إنت كمان؟! إقعد يا بدر مكانك.
جلس بدر مرة أخرى وهو يحدج عمرو بنظرة ذات معنى، ثم تبادل هو وعامر النظرات فضحك عامر وقال:
-إنت خوفت منه ولا إيه يا بدر؟
-بصراحه أيوه.
قالها بدر وأخذ يعاتب عمرو بهدوء على انفعاله دون داعي...
وبعد.مغادرة سراب عادت شيرين وقفت قبالة عمرو لكزته بكتفه بغلظة وهي تقول بعصبية:
-تصدق بالله إنت الوحيد اللي معرفتش أربيك...
لم يتفوه عمرو بكلمة وطأطأ رأسه في سكون، وهو يعلم بمقدار خطئه! لكنه سيُصالحها بطريقة ما!
بينما دخلتا هيام ونداء يجهزان الطعام لبدر وعامر...
استغفروا🌸
★★★★★
وبعدما دلفت للشقة أخذت تبكي وارتفع نشيجها، ضمتها تقى وربتت على ظهرها وهي تقول:
-هو أنا يعني اللي هعرفك على عمرو يا سراب، ما إنتِ عارفاه عصبي بس طيب ودلوقتي تلاقيه جاي يخبط علينا ويعتذرلك كمان.
تعلم! وتدرك جيدًا أنهما ورغم محاولتهما المستمرة لإظهار نفورهما من بعض إلا أنهما قُيدا بخيط مطاط يجذبهما لبعضهما كلما ابتعدا، فيعودا ويرتطمان بقـ ـوة..
قُرع جرس الباب، فوثبت تقى واقفة وهي تقول:
-شوفتي أكيد هو ده.
هرولت تقى تفتح وتبعتها سراب تأخرت في تحذيرها أن تفعل، فتحت تقى، فرأته قبالتها يبتسم، قال بهدوء:
-مساء الورد، أكيد إنتِ تقى بنت عمي كارم الله يرحمه.
كان يضغط على كل حرف بأخر كلمتين وكأنه يؤكد عليها، ازدردت «تقى» لعابها والتفتت تنظر لسراب وهي تنطق بنبرة مرتعشة:
-هو ده حسين اللبان؟
أومأت سراب، طالعته تقى بتوجس، فقال بابتسامة وتأدُب:
-ممكن أدخل؟
همت تقى أن تغلق الباب ولكن يد حسين حالت دون ذلك، ولج للداخل ثم صك الباب خلفه، فزُلزلت غرفات قلبهما وحُبست أنفاسها هلعًا.
حدج حسين سراب بنظرة مدلهمة وتوجه صوبها بخطى واسعة، قال بنبرة يشوبها السخرية:
-قلب بابا من جوه اللي محيره بابا ومطيره النوم من عينه... سوسو...
عادت سراب للخلف بهلع، وقالت بانفعال:
-اطلع بره وإلا هنصوت...
جلس ضـ ـاربًا بتهديدها عرض الحائط، ونظر لتقى قائلًا:
-بس تقى زي القمر شبه أختها الله يرحمها، كلها أمك يا بت يا سوسو.
أجفلت تقى، ولكن تظاهرت بالثبات وهي تقول:
-إنت عايز إيه؟!
-عايز ايه!! هو أنا لازم أكون عايز حاجه! أنا جاي أطمن عليكم دا احنا قرايب!
-بابا كارم فين؟
قالتها تقى فتنهد حسين بأسى زائف وقال:
-آه، عمي كارم! الله يرحمه كان راجل طيب أوي، مات من ٢٠ سنه.
قالها وضحك، فرفعت سراب ذقنها لأعلى وقالت بقـ ـوة ورصانه:
-خير يا حسين باشا! عايز مننا إيه؟
صمت حسين هنيهة ثم قال بجدية:
-فين الحاجه اللي كارم سرقها وهرب؟!
زفرت سراب قائلة باستهزاء:
-حاجة إيه؟ إحنا منعرفش بتتكلم عن ايه! ومن ٢٠ سنه كنا لسه متولدناش!
أطلق حسين عدة ضحكات ونهض واقفًا، فانكمشتا على بعضهما في هلع، وانبثق الخوف من نظراتها، انتظرتا أن يزجرهما أو يشهر سلاحه بوجههما كما فعلت هند سلفًا، لكنه اتجه صوب الباب، أمسك بالمقبض، ثم التفت وقال:
-هنشوف بعض كتير الفترة الجايه، سلام يا حبايبي.
ألقى لهما قبلة في الهواء وفتح الباب فصاحت سراب:
-إنت اللي بوظت فرامل عربية عامر صح؟
-مين عامر؟!
قالها دون أن يلتفت لهم، فهدرت به سراب:
-لو قربت من حد فيهم تاني أنا اللي هقفلك...
أطلق عدة ضحكات وخرج دون أن يلتفت لهما، صافعًا الباب خلف ظهره، فنظرت تقى وسراب لبعضهما وجلستا في آن واحد...
قالت تقى:
-إحنا عمالين ندخل في متاهات...
أطالت سراب النظر لها وصمتت قليلًا ثم تنفست بعمق وقالت:
-متقلقيش... المهم إننا عندنا عروسه، عايزين نفرح بقا.
سخرت تقى:
-نفرح!!
قالتها وانهـ ـارت باكية فضمتها سراب وشاركتها البكاء...
ومن جهة أخرى
تزامن خروج حسين من الشقة صعود بدر درجات السلم، وحين رآه بدر تصنم مكانه ولم يرف لـ حسين جفن بل اتجه نحوه فاتحًا ذراعيه وهو يقول:
-أهلًا، أهلًا، أهلًا، إزيك يا بدر؟ فينك يا جدع!
ضمه حسين فدفعه بدر وقال:
-كنت بتعمل إيه فوق؟ حرام عليك سيبهم في حالهم...
ربت حسين على كتف بدر وقال:
-ملكش دعوه إنت يأبو غمازات.
غمز له حسين ثم نزل الدرج، وتركه مذهولًا من وقاحته، فصاح بدر:
-جدي مش هيسكتلك؟
ضحك حسين وأكمل طريقه دون أن يعقب، وظل بدر يتتبع أثره، حتى التفت حسين وقال:
-ابقى سلملي على جدو يا حبيب جدو على رأي أخواتك...
وانصرف يضحك وكأنه ألقى دعابة، بينما حمل بدر هاتفه ليخبر عامر وعمرو بما حدث...
فنظر عامر لعمرو وقال:
-اتصرف وصالح سراب يا عمرو... قوم تعالى معايا هنروح نشوفهم...
-سيبني في حالي دلوقتي أنا مش رايح في حته...
-بجد عندها حق تكرهك.
ألقى عامر بجملته وخرج من الغرفة ليذهب هو وبدر لتقى، ليتحدث معها ولو كلمتين ليطمئنها دون أن يدخلا من باب الشقة...
وقد قرر أن يُعجل بزواجهما...
استغفروا 🌸
🔴لا تغفلوا عن الدعاء لإخواننا في فلـ ـسـ ـطين🔴
★★★★★
وبعد عدة أيام
فتح عمرو جفونه عند انبلاج الفجر، فلم تفارق سراب تفكيره طوال الليل، لا يدري هل نام بالفعل! أم أنه كان منتبهًا، نهض من فراشة بعدما أيقظ عامر الذي ظل يتحدث مع تقى لوقت متأخر من الليل...
وخرجا للصلاة، كان عمرو شاردًا أطال النظر لشرفة سراب قبل أن يتوجه للمسجد، ود لو يراها الآن ليعتذر منها، وسيفعل بالفعل ولكن... متى؟ فكلما رأها وهم أن يُحدثها تأبى الكلمات أن تخرج من حلقه، وهي أيضًا أصبحت تتجاهله...
إلى أن أتى اليوم الذي ستنعقد به خطبة عامر وتقى، يوم مليء بالزغاريد ومحفوف بالبهجة والزينة...
كان الحفل ببيت دياب ورغم اعتراض سراب أن تدخل البيت في وجود عمرو إلا أنها وافقت لأجل تقى...
وقفت جوار تقى وهي تراها ترتدي خاتم الخطبة المربوط بالشريط الأحمر وارتدى عامر الخاتم المربوط كذلك، فقد تبقى خطوة واحدة وستطوى المسافة الفاصلة بينهما...
تءبذبت نظرات سراب ودون قصد وقع بصرها على عمرو، كان يقف جوار بدر ويتحدث معه، ظنته لن يلاحظ نظراتها لكنه كان يعرف بمكانها ويختلس النظر إليها بين فينة وأخرى، التفت عمرو نحوها فتلاقت نظراتهما، فاضطربت وأشاحت بصرها عنه ثم جلست على أقرب مقعد، وكان جوار جدتي رحمة ورغدة «فاطمة وداليا» متجهمتا الوجه، كانتا تقيدان حركة رحمة ورغدة فلم تبرحا مكانهما...
نهضت داليا واتجهت لدياب، قالت:
-أنا لبيت الدعوه وجيت ياخويا لكن الجوازه دي مينفعش تكمل، عامر وعمرو لرحمه ورغده.
-الجواز مش بالعافيه يا داليا!
-يعني إيه يا دياب؟
-يعني نورتي ياختي والله يبارك فيكِ.
تركها دياب وانصرف، ووقفت تزمجر غاضبة، ثم أشارت لرغده ورحمه وفاطمة وانصرفن عدا رغده أصرت على البقاء...
*******
وبعد تردد اتجه عمرو يمسك مكبر الصوت، حمحم عدة مرات ثم قال:
-آآ... للأسف أنا لا بعرف أغني ولا عندي أي موهبه خالص الصراحه...
ضحك، وأكمل:
-بس حافظ أبيات شعر وعايز أقولها...
صفق له الجميع بحرارة وأصدر بدر صفير ليحمسه، فقال عمرو:
-أما آن للغضبان أن يتعطفا
لقد زاد ظلمًا في القطيعة والجفا
بعادٌ، ولا قربٌ، وسخطٌ ولا رضى
وهجر ولا وصل وغدر ولا وفا...
ثم ضحك عمرو، فضحكوا جميعًا، وأطرقت سراب وهي ترى الأعين تكاد تخترقها...
عاد عمرو يقول بضحك دون أن ينظر إلى سراب:
-طيب أنا آسف طيب...
نهض عامر وأخذ المايك من أخيه وهمس في أذنه:
-فضحتنا يا عمرو...
اشتد احمرار وجه عمرو بينما قال عامر:
-تقبلت أسفك يا حبيب أخوك...
طالعها عمرو بنظرة خاطفة وابتسم...
كان الحفل سيمر بسعادة لولا ظهور حسين، فخفق قلب سراب، وداهمتها الأفكار السلبية، ألا يحق لهم الخروج من لوحة الحزن ولو لساعات معدودة؟
ولمَ عاد مجددًا؟
يتبع
(١٥)
#رواية_عن_تراضٍ
كان الحفل سيمر بسعادة لولا ظهور «حسين»، فخفق قلب سراب، وداهمتها الأفكار السلبية، ألا يحق لهم الخروج من لوحة الحزن ولو لساعات معدودة؟
ولمَ عاد مجددًا؟
نهضت واقفة واتجهت نحوه تستقبله بملامح جامدة ونظراتٍ تشع سخط ومُقت! تخيلت أنها تخنقه بيدها فينتهي الأمر، أو تصرخ بوجهه وتطرده بعيدًا، أو... أو ماذا؟ لن تفعل أي شيء سوى أنها ستُطبق فكيها في حنق شديد فتُحبس شعلة الغضب لتحرق داخلها، فتشتعل حرارة جسدها ويحتقن وجهها... كم هي مسكينة!
-تعالي نتكلم تحت...
أمرها حسين بنبرة حانقة، ونزل الدرج أمامها وتبعته وهي تقبض على فستانها بكلتا يديها، حتى وقفت قبالته أمام البيت، قالت باقتضاب:
-عايز إيه؟
قال بنبرة حادة:
-إيه اللي بيحصل هنا؟ أخدتوا إذن مين؟
-وإنت مالك أصلًا، جاي هنا ليه؟ اتفضل امشي متبوظش فرحتنا...
قالتها وهي تغرس عينيها بعينيه، وتتحداه، تبادلا النظرات في صمتٍ، وكان يرفع إحدى حاجبيه ساخطًا من كلامها، ولم تتخيل أبدًا رد فعله المباغت... صفعها صفعةً اهتزت لها كل خلية بجسدها وتركت احمرارًا على وجهها... لكنها لم تنطق فقط تأوهت بخفوت، ووضعت يدها مكان الصفعة، فهدر بها وهو يوقع كلماته بنبرته المرتفعة:
-تقى مش هتتجوز غيري، فاهمه؟ عرفيها بقا إن الخطوبه دي باطله وهي خطيبتي أنا... هتجوزها لما مزاجي يطلب...
تنفس الصعداء، ثم ولى مغادرًا وهو ينطق:
-سلام يا قطه... قال سراب قال، اسم مقرف زي صاحبته...
ظلت مكانها مصدومة هي تراه يستقل سيارته ويغادر، ما هذا الضعف الذي أصابها على حين فجأة؟ لمَ لم تصرخ به؟ أو تصفعه كما صفعها...
لم يصفعها مرة واحدة بل مرتين واحدة بيديه والأخرى بكلماته والأخيرة كان وقعها أشد ألمًا، أيريد الزواج من تقى؟ كيف وهو يكبرها بأكثر من عشرين عامًا!!
استغفروا 🌸
★★★★★
جلست «نداء» تبتسم فقد كانت الفرحة تتجول حولها وتحاول القفز إلى قلبها فصدتها أوجاعها الخفية! وعلى حين غفلة ولجت البهجة لقلبها ولكن... طردها ضجيج روحها، حمدت الله فلن تضطر للتظاهر بالإبتسامة فنقابها يوارى ملامح وجهها المتجهمة.
كانت نظراتها تطوف على وجوه الجميع، والديها، وعائلة دياب، وترى البهجة تحلق في الأرجاء، تمنت لو ظل «نادر» صديق لعمرو وعامر، اشتاقت لنادر، تفتقد أخاها الوحيد، تدعو له كل ليلة، تبكي وتتمنى لو يستيقظ من غفلته تلك، لو يعود، لو يترك ذلك الطريق الذي ضل فيه...
لم تكن تعلم أنه سلك طريق العودة بالفعل، لم يصل بعدُ لكنه سيصل، وهل يضيع حافظ القرآن؟ قد يتخبط ويسقط ويتعثر لكنه سيستقم بإذن الله...
-قلبي اللي إنتِ سارقاه جه قالي إن قلبك زعلان...
قالها رائد الذي جلس جوارها للتو، هامسًا جوار أذنها فالتفتت له، ألتلك الدرجة يشعر بها! قبض على يدها برفق، فنظرت ليديه وابتسمت، فأضاف:
-أخوكي هيرجع يا دودو، فيه بشاير حلوه ابقي فكريني أحكيلك بعد الحفلة...
قالت بحمـ ـاس:
-لا احكيلي دلوقتي.
-بعد الحفله عشان العيون علينا وأنا الصراحه بخاف من الحسد.
قالها رائد وضحك وهو ينهض من جوارها ويترك يدها، فقبضتها بقـ ـوة وكأنها لا تريد لأثر يده أن يتبعثر...
غمز لها خلسة، وانصرف فضحكت بخفوت، وظلت نظراتها عالقة عليه، حتى وقف جوار والده ورماها بابتسامة حانية، ونظراتٍ تُشع حبًا، فأشاحت بصرها ونظرت لوالدتها ثم التفتت حولها حياء أن ينتبه لهما أحد...
فهو زوجها الحنون الذي تأنس إليه، يشاركها مشاعرها، وتحكي له عما يؤرقها دون تردد، والآن فهم ما يعتل به صدرها دون أن تفصح، كان يرعاها وكأنها ابنته، وكأنه يعوضها عن سنوات الحرمان التي قضاها بدولة أخرى، يبحث عن الرزق، وقضتها هي وحدها، تسقى بذرتهما التى زرعها قبل رحيله حتى أزهرت، وصار عندهما طفلان جميلان...
تجولت نداء بنظراتها في المكان بحثًا عن ابنتها وابنها واتسعت ابتسامتها حين رأت ابنتها تهتم لأخاها وتمسك يده بحب، بالطبع لم تمر حياتها هباءًا، لقد أنجزت شيئًا، كم هي سعيدة بأسرتها ولكن سعادتها لن تكتمل إلا بعودة أخيها «نادر».
صلوا على خير الأنام 🌸
★★★★★
انتبه «عمرو» لاختفاء سراب، دارت نظراته بالمكان فقد اختفت فجأة! انشغل لدقائق بالحديث مع عامر وبدر وحين التفت لم يجدها بمكانها، تسائل هل أحرجها؟ أم تبرمت من كلماته!
وقف يسأل حاله ويجيب...
لمَ يهتم من الأساس! هو اعتذر لأجل عائلته وإصرارهم عليه، وكلماتهم الساخطة من فعلته لذا كان يجب عليه أن يعتذر وإن لم تكن الطريقة مناسبة ولكن لم يكن لأجلها، أليس كذلك؟ هو كذلك بالطبع...
أقنع حاله بتلك الفكرة وراح يقف جوار بدر، لكن أين هي؟ أين ذهب تلك؟
ظلت التساؤلات تدور برأسه فنفخ بحنق واتجه يسأل هيام عنها، فلم يجد إجابة، سأل نداء، ولم يجد إجابة كذلك، كاد يخرج للبحث عنها لكنها أطلت بهيئتها التي تأسر قلبة، وبرقة ملامحها وفستانها الواسع، كانت تبدو كأميرة جميلة تبحث عن تاجها.
تُرى هل يمكن أن يكون هو تاجها؟!
دلفت سراب من الباب، فتنفس عمرو الصعداء واستكان داخله وعاد يتظاهر بتجاهلها وأنه لا يهتم لأمرها!! رغم أنه لا يهتم إلا لأمرها.
*******
بعض الضجيج مهما كان صاخبًا يطرق القلوب برفق...
انتهى الحفل بضجيجة فقد كان أفراد العائلة يضحكون ويتبادلون الحديث، كان حفل بلا معازف، حفته بعض الأناشيد مع التصفيق...
والآن سكنت الأصوات، وانطفئت الأضواء، وانفض الحفل وذهب كلٌ لبيته...
****
عادت «تقى» للشقة، كان تعيش حالة من اللذة وكأنها كانت تتعطش للأمان والآن ظهر أمامها بحر واسع يمتلئ به، فأخذت تنهل منه ليرتوي ظمأها، فعامر يسقى قلبها بالطمأنينة والأمن بكلماته الحانية ونبرته الحالمة...
كانت «سراب» تراقب ابتسامتها بعدما نزعت فستانها، ودت لو أخبرتها بما قاله حسين، لكنها لا تريد أن تهشم أحلامًا وآمالًا لازالت من زجاج هش، ولكن لابد أن يُحاط ذلك الزجاج بالفولاذ كي لا يحطـ ـمه حسين...
لفظت سراب دفعة واحدة:
-المفروض كنتوا تكتبوا الكتاب مع الخطوبه.
جلست تقى قبالتها وقالت:
-مكنش عندي مشكله ولو كان عامر عرض عليا كنت هوافق لكن طنط شيرين قالت اصبروا شويه... تلاقيهم عاوزين يجهزوا نفسهم ولا حاجه...
قالت سراب:
-بس مينفعش خطوبه بس... لازم كتب كتاب في أقرب وقت.
-أنا مش مستعجله أصلًا يا سراب...
-بس أنا بقى مستعجله يا تقى آآ... مينفعش أصلًا خطوبه وبس لازم كتب كتاب، احنا بنتين لوحدنا يعني مينفعش عامر يدخل ويخرج كده.
قالتها سراب وازدردت لعابها تبلل حلقها الجاف وتبتلع كلمات كادت تخرج من بين شفتيها، دققت تقى النظر لوجه سراب وسألتها:
-مالك؟
-مالي! أنا تمام...
قالتها سراب برجفة، وهي تشيح وجهها للجهة الأخرى، كي لا تلاحظ تقى تلك العلامة الحمراء التي وارتها بكريم أساس قبل عودتها للحفل...
قالت تقى متخابثة:
-بس إيه رأيك في اللي عمرو عمله؟ اعتذار رومانتك على الأخر...
هبت سراب وافقة وكأنها لُدغت، احتقن وجهها ورفعت سبابتها هادرة بانفعال:
-إيه رومانتك ده! دا مستفز أصلًا ولعلمك بقا أنا... أنا متقبلتش اعتذاره، دا واد مقرف وبارد ورخم و... و... ومستفز.
كانت تضغط على أحرف كلماتها وحالما انتهت دبدبت بقدميها في الأرض وغادرت الغرفة، دلفت للمرحاض وصكت بابه خلفها بعنـ ـف، فضحكت تقى وقالت:
-مجنـ ـونه...
رن هاتف تقى وحين رأت اسمه نطقت بهُيام:
-عموري...
اشرئبت بنظراتها لتتأكد أن سراب لم تسمع ما نبست به، ثم حمحمت بجدية وأجابته بتحفظ شديد، فقد قررت سلفًا أنها ستلتزم بضوابط الخطبة.
وفي المرحاض
غسلت «سراب» وجهها متناسية أثر تلك الصفعة التي تحولت لخليط بين اللونين الأزرق والبني المحمر، وما أن أبصرت وجهها بالمرآة شهقت وتحسيتها وهي تقول:
-يالهوي هي عملت كدا ليه؟ أبو تقل ايدك يا حسين! هطلع ازاي دلوقتي... وهقول لتقى ايه!!
خرجت من المرحاض وهي تتفادى نظرات تقى وتحاول الوصول لكريم الأساس لإخفاء وجنتها، لكن التقطتها تقى، وكانت تتحدث مع عامر، فقطعت الحديث بشهقة وقالت:
-إيه اللي في وشك ده يا سراب؟
-آآ... و... وقعت في الحمام.
قالتها سراب وكادت تغادر الغرفة فوثبت تقى من جلستها واقتربت منها تتصفح وجهها وقالت:
-مين ضـ ـربك على وشك كده؟ هو حسين جه هنا؟
-يا ستي قولتلك وقعت متكبريش الموضوع.
قالتها سراب ونفخت بضجر ثم خرجت من الغرفة فسأل عامر تقى:
-مالها سراب؟
-حاسه إن فيه حد ضـ ـربها على وشها، بس هي بتقول إنها وقعت... لكن من ساعة ما جينا وأنا حاسه إنها مخبيه عليا حاجه.
-سراب مبتعرفش تخبي حاجه أكيد هتقولك، اضغطي إنتِ بس عليها شويه... يلا أسيبك بقا عشان ورايا شغل...
قالها عامر وحين أنهى المكالمة التفت يُطالع أخيه الذي يجلس على الفراش منتبهًا منذ سمع اسم سراب، قال عامر متخابثًا:
-ها إسأل متقعدش تبصلي كده، عشان لما أبدأ شغل على إختراعي مبحبش حد يقاطعني.
-أسأل على ايه؟ مش عايز أسأل على حاجه.
قالها عمرو بلامبالة زائفة، وسند ظهره للخلف، فقال عامر:
-على العموم تقى بتقول سراب مخبيه حاجه وتقريبًا وقعت على وشها أو حاجه، وهي شاكه إن حد ضـ ـربها بالقلم.
انتفض عمرو وتغيرت ملامحه وهو ينطق:
-ضـ ـربها! مين ده؟ إوعى يكون حسين؟
حرك عامر كتفيه بجهل وأخذ يُجهز أدواته، بينما أطرق عمرو عاقدًا جبينه في حنق، وأخذ يمسح على ذقنه فرمقه عامر وقال متخابثًا:
-طيب ما تخطبها إنت كمان وتبقى الفرحه فرحتين.
نهض عمرو واقفًا انتعل حذاءه البيتي وهو يقول بنزق:
-تصبح على خير يا عامر أنا هنام في أوضه تانيه...
خرج «عمرو» من الغرفة وهو ينفخ بحنق، تمدد على الأريكة بغرفة المعيشة محدقًا بالسقف أعلاه وأخذ يتخيلها أمامه، انفعالها عليه وكلماتها الهادئة والأخرى الساخطة، وبريق عينيها المنطفئ، وانكسـ ـارها رغم محاولاتها التظاهر بالصلابة، وابتسامتها المميزة، وأخيرًا دقات قلبه كلما رأها أو سمع اسمها، انتبه لنفسه وهو يبتسم، فنفخ بضجر واستعاذ بالله من الشيطان، حمل هاتفه يتصفح تطبيقات التواصل الإجتماعي، توقف على منشور رفعته سراب الآن وأخذ يقرأ كلماته حتى حفظها، فقد كتبت:
”حين تركت تروس حياتي الجامدة، دفعتني نحو الهاوية، أشعر أنني أنزلق ولكن... ماذا سأفعل؟”
اعتدل جالسًا وهو ينطق بقلق:
-مالها دي بقا؟!
استغفروا 🌸
★★★★
بغرفة شيرين ودياب
جلست «شيرين» على الأريكة تعقد ذراعيها أمام صدرها، متجهمة وشاردة، ونظراتها تشع بالحيرة والقلق، جلس دياب جوارها وسألها:
-مالك يا أم رائد؟
-هه! بتقول حاجه؟
-بسألك سرحانه في ايه؟
صمتت هنيهة، وتقارب حاجبيها في حزن، ثم قالت بعد تنهيدة حارة:
-أنا مقولتش لتقى يا دياب وضميري بيأنبني...
اتسعت حدقتاه وقال بقلق:
-مقولتلهاش ايه؟ إوعى يكون قصدك إنها متعرفش بحالة عامر؟! إوعي يا شيرين...
حدقت بوجه دياب وقالت:
-هي بتحبه معتقدش إنها تسيبه عشان حاجه زي دي...
عاتبها بانفعال:
-ليه كده يا شيرين؟ لـــــيـــــــه؟ كان لازم تعرف وهي اللي تقرر... مش إنتِ اللي تقرري عنها، أنا بفكر أقول لعامر كل حاجه...
أمسكته من ذراعه وقالت برجاء:
-لأ... إوعى يا دياب بالله عليك! متكسرش ابني عشان خاطري، عامر لو عرف مش هيتجوز أصلًا طول عمره.
حدق بعينيها حيث طفقت العبرات تغزو سحابتها البيضاء، أشاح وجهه مرددًا:
-لا حول ولا قوة إلا بالله! طيب والحل ايه دلوقتي؟
مسحت دمعة فرت من مقلتيها وقالت:
-سيبني شويه وأنا هقول لتقى بنفسي... بس عامر مش لازم يعرف أي حاجه...
تنهد دياب وأطرق وهو يستغفر الله ويلهج بدعواتٍ صادقة لإبنه...
بقلم آيه شاكر
★★★★★
افتر ثغر الصباح بشمس النهار الذهبية، بعد ليل قضته «سراب» تفكر، وتتسائل ماذا تفعل؟ لابد أن تتحدث مع أحد وتخبره عما فعل حسين...
ارتدت ثياب الخروج وتسللت للخارج دون أن تنتبه تقى التي كانت بالمرحاض...
استقرت أنه ستخبر بدر، ويخبر هو جده عبر الهاتف، طرقت باب شقته وقرعت الجرس عدة مرات فاستيقظ بدر مفزوعًا، نظر بساعة الحائط وكانت الثامنة والنصف...
وثب من فراشه وهو يسأل عن هوية الطارق...
مسح وجهه وهو يتجه نحو الباب والجرس لا يتوقف عن الدويّ، فصاح نازقًا:
-خير يارب! براحه شويه... الصبر.
فتح الباب ورأها تقف مطاطأة الرأس، فتبدل تجهمه لقلق وهو ينطق:
-فيه حاجه ولا ايه يا أنسه سراب؟
أومأت وهي تقول بخفوت:
-وطي صوتك... أنا عايزه أتكلم معاك ضروري.
تجاهل جملتها ومشط وجهها بنظرة سريعة ونابهة، وسألها:
-إيه ده! وشك ماله؟
نظرت خلفها وقالت بنبرة خافتة:
-قولتلك وطي صوتك... عايزه أقولك إن حسين جه امبارح وضـ ـربني بالقلم وقال إنه هيتجوز تقى...
-هيتجوز تقى؟!
قالها بخفوت عاقدًا جبينه بتعجب، فأومأت وقالت:
-كلم جدك وقوله يعمل حاجه أنا خايفه أوي.
مسح وجهه، وقال:
-طيب انزلي يا سراب ومتخافيش أنا هنا ولو ظهر في أي وقت رني عليا، آآ... إنتِ معاكي رقمي؟
هزت رأسها نافية فقال:
-طيب هاتي رقمك وأنا هرن عليكِ حالًا وسجلي الرقم، وإن ظهر حسين في أي وقت رني عليا وملكيش دعوه.
-بس أنا مرعوبه.
قالتها بنبرة خافتة ومرتعشة ونظرةٍ تشى بمدى خوفها، فزم شفتيه لبرهة ثم طمئنها:
-متقلقيش، كلنا حواليكوا.
تنهدت بعمق وأومأت، أملته رقم هاتفها ثم نزلت الدرج، وأغلق بدر الباب وهو يقول نازقًا:
-يادي الأخبار اللي على الصبح! أنا عارف السبب أكيد عشان كسلت عن صلاة الفجر... يارب اليوم يعظي على خير يارب.
******************
دلفت سراب للشقة فقابلتها تقى بسؤال:
-كنتِ فين؟
انتفضت سراب فقد كانت شاردة تفكر في ردود بدر عليها، كررت تقى سؤالها، فردت سراب وهي تشير نحو الباب:
-كنت... كنت هناك آآ... قصدي هنا، يلا، يلا اتأخرنا على الشغل، أنا لبست وجاهزه... اجهزي، على ما أخلص شغل مهم على الابتوب آآ... أصل أنا مشغوله جدًا، من ساعة ما فتحت البيوتي سنتر وأنا مش ملاحقه على الزباين يا تقى...
-ربنا يوسع عليكِ يارب.
رمقتها سراب وركضت صوب الشرفة متظاهرة بانشغالها بجهاز الابتوب لتهرب من أي أسئلة أخرى، بينما وقفت تقى مكانها تُطالع سراب وتتسأل، ماذا تخفى عنها تلك؟!
سألتها تقى وحاولت الضغط عليها ولكن رواغتها سراب وتفلتت منها...
وبعد فترة
توجهت تقى لمصنع الملابس بينما ذهبت سراب «للبيوتي سنتر»، مرت على نداء بالصالة الرياضية، التي كانت تجلس بمفردها شاردة تحدق بالفراغ، ضمتها سراب من الخلف فالتفتت نداء وقالت:
-أهلًا بالشقية، عامله ايه؟
-بخير طول ما إنتِ بخير.
قالتها سراب وجلست قبالتها وما أن أبصرت وجنتها شهقت واتسعت حدقتيها، فأشارت سراب لوجهها وقالت بخفوت:
-من قبل ما تسألي... مضـ ـروبه على وشي، الراجل اللي بيقول إنه أبويا ده ضـ ـربي، وقالي إنه هيتجوز تقى كمان.
زفرت سراب ضاحكة، فأدركت الآن أنها اعتادت الألم فأصبحت تحكي عنه بضحكة ساخرة وابتسامة رغم صراخ قلبها، سألتها نداء:
-وعامر عارف بالكلام ده؟
هزت سراب رأسها يمنة ويسرة وهي تقول:
-ولا تقى ولا حد عارف إلا إنتِ وبدر، ومتقوليش لحد يا أبله نداء أنا بفضفض معاكِ.
صمتت نداء وهي تتأمل وجه سراب، وملامحها التي تحبها وتلتمس فيها الدفئ والراحة، مررت نداء أناملها تلمس أثر الصفعة، فأغلقت سراب جفونها، وقالت بابتسامة:
-مش بتوجعني...
-إنتِ جميله أوي يا سراب اللهم بارك، تعرفي إني بحبك أوي، ونفسي بنتي لما تكبر تبقى زيك، شكلًا بس مش شقاوة خالص...
قالتها نداء وضحكت فاتسعت ابتسامة سراب وقالت:
-أنا اللي بحبك أوي أوي أوي...
نهضت سراب واقفة وقالت بمرح:
-أنا هروح بقا البيوتي سنتر عشان الزباين كتير زي ما إنتِ عارفه، ولو عايزه قصة شعر جديده أو أي تظبيط كده ولا كده أنا في الخدمه.
غمزت لها سراب واتجهت نحو الباب وقبل أن تخرج نادتها نداء وداهمتها بسؤال:
-شوفتي أخر فيديو نادر نزله؟
زاغت نظرات سراب، خشيت أن تسألها نداء عن معنى كلمات نادر! فكانت تفهم معنى كل كلمة نطق بها في الفيديو، تلعثمت:
-آآ... أيوه شوفته بتسألي ليه؟
-أصله قال في الفيديو إن فيه بنت هي اللي غيرت حياته بالكامل لما قالتله اتق الله، وهو كان هيرتكب ذنب معين، حسيت إن البنت دي إنتِ!!
أحست سراب أن نداء تتهمها فهزت رأسها بعنـ ـف واندفعت قائلة:
-لا لا لا والله مش أنا دي رحمه...
عضت لسانها، ثم ابتلعته، ونداء تحثها على الإكمال، فقالت سراب:
-آآ... قصدي يعني رحمه من ربنا سبحانه وتعالي... عن إذنك بقا...
خرجت سراب تغمغم نزقًا من لسانها المنفلت، وتقول:
-والله العظيم أنا عارفه نفسي مش هعرف أسكت... مش هعرف أسكت إلا لما أقول لتقى اللي مخبياه وأقول لأبله نداء موضوع رحمه...
دخلت للبيوتي سنتر المكتنز، هادئ كالعادة، لا عرايس ولا فتيات يدخلن ولا أحد يتجول به غيرها...
مر ساعة وأخرى فأخرى وأيقنت سراب أن اليوم سيكون كسابقيه بلا زبائن، نفخت بضجر وأغلقت الصالون واتجهت لبيت دياب، لازالت تشعر أنها تريد الحديث مع أحد! تريد البوح، لذا ستخبر شيرين بما يعتل به صدرها، لابد أن تخبرها عن حسين أيضًا.
بقلم آيه شاكر
★★★★★
وفي سنتر الدروس الخصوصية
جلس «بدر» على مكتبه، لازال يدعو أن يمر اليوم على خير فتكاسله عن صلاة الفجر أظلم يومه رغم ضوء النهار...
كان ينتظر مجموعة من الطلاب، فجلس عامر قبالته وزفر بحنق، رفع بدر عينيه وقال:
-إيه يا عريس؟ مالك مش على بعضك ليه؟
-مش عارف! حصل حاجه غريبة يا بدر...
-خير؟
قالها بدر وأغلق الدفتر أمامه، فقال عامر:
-فاكر البنت اللي مكنتش مظبوطه دي؟!
أوما بدر ليحثه على إكمال حديثه، فاسترسل عامر:
-لما العيال باركولي على الخطوبة قعدت تعيط واستأذنت ومشيت... لكن قبل ما تمشي قالتلي بصوت عالي وقدام المجموعه كلها أنا مش هسامحك على اللي عملته فيا!
قالها عامر مقلدًا صوت الفتاة، فضحك بدر وقال باستهزاء:
-كانت من معجبينك ولا ايه؟ ما إنت وسيم بزياده برده يا عامر.
أحاط عامر رأسه بكلتا يديه وهو يقول:
-مبهزرش يا بدر أنا بجد مخنوق جدًا.
-متشغلش بالك يا عامر، تلاقيها بت مراهقه، سيبك منها...
تنفس عامر ونهض واقفًا ثم قال:
-المجموعه الجايه عندك بتاعت رحمه ورغدة صح؟
أومأ بدر وغمغم مؤيدًا، فقال عامر:
-مش عارف عمي وعمتي هيسمحولهم يجوا تاني ولا ايه!! الظاهر إن خطوبتي مزعله ناس كتير أوي يا بدر...
ضحك بدر وشاركه عامر، الذي اتجه صوب باب الغرفة وفور خروجه، قابله رجل عظيم البنية، يسأل بصوت جهوري فظ:
-فين المدرس اللي اسمه عامر؟
-آآ... أنا عامر! خير يافندم؟
ترقب «عامر» كلماته لكنه لم يترقب لكماته، فقد انقض عليه الرجل، لكمة تليها ركلة، ثم دفعه ليرتطم بالحائط وهو يقول:
-بتتحـ ـرش ببنتي ياروح أمك دا أنا هـ***
سبه وشتمه، وأخذ يهزه بعنـ ـف، وعندئذ خرج بدر من الغرفة، أخذ عامر يضحك وهو يقسم أنه لم يفعل! هرع بدر يسحب الرجل بكل ما أوتي من قـ ـوة وتعالت أصواتهم وتكبكب الناس وانتهى الجدال بأن حضرت الشرطة...
وفي المركز
وقف عامر وعلى وجهه أثر اللكمات خاصة حول عينه، سأله الشرطي:
-إنت تحـ ـرشت ببنت الأستاذ ده؟
رفع عامر سبابته وقال:
-والله العظيم أبدًا، دي البنت دي أصلًا مكنتش مظبوطه حتى إسأل مستر بدر...
ثار والد الفتاة وهم أن يضـ ـربه مجددًا فأجفل عامر ووقف خلف بدر، وهدأ الضابط الرجل، اشرئب عامر من فوق أكتاف بدر وقال بإنفعال:
-أنا أصلًا مش مدرس، حضرتك أنا عالم وقريب أوي هطلع اختراعي للنور وكلكوا هتندموا على اللي بتعملوه فيا ده.
-هاتوا بطايقكم!
قالها الضابط متجاهلًا كلام عامر، فأخذوا يفتشون في جيوبهم ومرر والد الفتاة بطاقته للضابط في حين وقف عامر وبدر يتبادلان النظرات، فسألهما الضابط:
-فين البطايق؟
قال بدر:
-حضرتك احنا مكناش عاملين حسابنا نيجي هنا... منه لله بقا.
رشقه الرجل بنظرة حادة وتعالت أصواتهم مجددًا فصرخ الضابط وصاح منفعلًا:
-نزلي الاتنين دول الحجز...
سحبهما العسكري نحو غرفة الحجز وبدر صامتٌ ساخط، بينما كان عامر يضحك مرددًا:
-ابنك بقا سوابق يامه.
هدر بدر نازقًا:
-اخرص يا عامر، بتضحك على إيه؟
حاول عامر كظم ضحكاته وهو يقول:
-أصل أنا أول مره ادخل قسم! لا وكمان هدخل الحجز...
وأضاف عامر ضاحكًا وبنبرة مرتفعة:
-ابنك بقا سوابق يامه.
دفعه العسكري داخل غرفة الحجز، وتبعه بدر ضاحكًا بعدما أُصيب بعدوى الضحك، فقال بدر:
-الله يرحمك يا أمي، ابنك بقا سوابق يامه.
ضحكا الإثنان، وحين لاحظا خطورة الأمر، رجل أو متهـ ـم يعتدل جالسًا من رقدته ليُطالعهما، نظرا لبعضهما وابتلعها أصواتهما...
★★★★
-إنتِ خلصتِ إزازتين مايه وإنتِ قاعده يا سراب؟
-حضرتك بصالي في المايه يا طنط شيرين ولا إيه؟
-لأ مش بصالك، بس إنتِ بقالك ساعه بتقوليلي هحكيلك موضوع مهم، ولا بتقولي ولا بتبطلي شرب مايه.
-طيب هدخل الحمام الأول أجمع كلماتي كده وأرجعلك.
ركضت سراب نحو المرحاض، فصاحت شيرين:
-ما هي دي تالت مره برده تروحي الحمام، وتقوليلي هجمع كلماتي!
-اصبري يا طنط، الله!
صاحت بها سراب قبل أن تغلق باب المرحاض، جلست شيرين تستغفر الله متبرمة من تلك الفتاة، فقُرع جرس الباب، نهضت تفتح وكانت رغده تلهث، وعلى السلم تتبعها رحمه، اضطربت شيرين وقالت:
-في ايه يا بنات؟
قالت رغدة:
-بدر... قصدي مستر بدر...
وأكملت رحمه من خلف أنفاسها:
-وعامر الشرطه أخدتهم...
صكت شيرين صدرها وقالت بصدمة:
-شرطه! شرطه ليه؟
قالت رغده:
-مش عارفه بس عامر كان بيضحك وبيقول دي بنتك اللي مش مظبوطه، والراجل كان عايز يضـ ـربه تاني.
صاحت شيرين:
-تلني! يعني هو ضـ ـربه أولاني؟! يالهوي يابني... هو الواد دا ماله منحوس كدا ليه! أنا هروح البس واتصليلي على رائد يا رغده بسرعه...
دخلت شيرين ترتدي ملابسها، بينما خرجت «سراب» من المرحاض فأبصرت رغده ورحمه، التي قالت:
-شوفتِ اللي حصل لعامر؟
جحظت عيني سراب وقالت بصدمة:
-ماله؟
روت لها رحمه، فتواثبت دقات قلب سراب وشعرت أن هناك مكيدة دُبرت له! ربما حسين مجددًا!!
استغفروا 🌸
★★★★★
خرج «عمرو» من البيت باكرًا، أراد أن يتحدث مع «تقى» يسألها عن سراب وما حدث معها، ظل يساعد هيام بالعمل وحمل الأقمشة للداخل حتى سنحت له فرصة الحديث مع تقى، كانت تجلس في غرفة وحدها أمام ألة الخياطة وتعمل على تفصيل ثوب زفاف بتركيز شديد...
دنى منها وألقى السلام ثم سحب مقعد وجلس قبالتها، قال:
-سمعت إن فيه حد ضـ ـرب سراب؟!
-مش عارفه والله يا عمرو هي بتقول إنها وقعت! بس أنا حاسه إنها مخبيه عني حاجه!
قالتها ونهضت لتقص طرف القماش على طاولة مجاورة، فحمحم عمرو ولمس أذنه وهو ينطق:
-هي زعلت من اللي أنا عملته امبارح؟
رمقته تقى وفردت القماش وهي تقول:
-هو مكنش يصح خالص يا عمرو، يعني أبيات شعر وقدام العيله والجيران!! وعلى فكره هي قالتلي متقبلتش الإعتذار.
انفعل عمرو قائلًا:
-عنها ما تقلبت، أنا أصلًا مخنوق منها، البت دي مستفزه جدًا!
كبحت تقى ضحكة أرادت الخروج وقالت:
-سبحان الله نفس اللي بتقوله عنك...
عادت «تقى» تجلس وقامت بتشغيل ألة الخياطة، فصمت عمرو وأخذ يحملق بنقطة وهمية بالفراغ، وحين توقف صوت الألة، نهض عمرو وقال:
-طيب تقى؟ ممكن لو قالتلك حاجه تبقي تقوليلي؟
-إنتِ عايزني أشتغل فتانه يا عمرو؟
-قصدي عن موضوع الضـ ـرب ده!
-ماشي حاضر، لو عرفت حاجه هبقا أقول لعامر وهو يقولك.
أومأ عمرو وتجولت نظراته بالغرفة الخاصة بتقى فقط، وكان بابها مفتوح، أطل منه يحيى، أشار له وقال بغيظ:
-بتعمل إيه عندك، تعالى...
أدرك عمرو أنه الآن في مأزق! بالطبع سيمطره يحيى بوابل من عبارات العتاب، فلم يحضر دروس مراجعة القرآن منذ إسبوعين، انشغل مجددًا، التهى قلبه بسراب وما يحدث، وترك مصحفه...
وقف عمرو قبالة يحيى مطأطأ الرأس، يفرك لحيته باضطراب، فهدر به يحيى:
-ممكن أفهم بتعمل إيه عند تقى؟
-كنت بسألها عن حاجه وبس... مش خلوه يعني يا شيخ يحيى الباب كان مفتوح.
باغته يحيى بضـ ـربة على قفاه، فضحك عمرو وتأوه وهو يلمس مكانها والتفت حوله وهو يقول:
-براحه يا شيخ! أنا عارف إنك زعلان مني بس مش كده، لو حد شافني بنضـ ـرب الهيبه هتروح.
-دا عشان متبقاش تستنى تقى تبقى لوحدها وتسألها عن حاجه.
ضـ ـربه يحيى مرة أخرى وقال:
-ودا بقا عشان مبقتش تيجي الدرس...
-والله يا شيخ كنت مضغوط نفسيّا و...
قاطعه يحيى وهو يمد يده مجددًا، فأمسك بها عمرو وكاد يُقبلها ويحيى يحاول سحب يده، حتى جذبها منه وقال:
-يا عم متشيلنيش ذنب، إوعى كده...
-إيدك أبوسها يا شيخي عشان تسامحني.
قالها عمرو وهو يجذب يد يحيى مجددًا، فهرول يحيى مبتعدًا وهو يقول:
-متتأخرش على الدرس بالليل يَلَه.
صاح عمرو ضاحكًا:
-أنا كده عرفت نقطة ضعفك يا شيخي...
لوح يحيى بيده في ضجر دون أن يلتفت، فغمغم عمرو:
-عسل والله... بحبك أوي.
ارتفع رنين هاتف عمرو وكانت سراب، انتظر لحظات متظاهرًا بالثقل، ثم أجاب قبل أن تنتهي الرنه بثانية واحدة، قال برصانة:
-سلام عليكم.
انتظر صوتها الذي تلهف لسماعه، ولكن هدرت والدته:
-إنت فين يا عمرو أخوك عامر في القسم محبوس.
-إيه الكلام ده محبوس ليه!
-معرفش محبوس هو وبدر... روحله بسرعه وخد يحيى ومحمد ورائد سبقكوا...
قالتها شيرين بصوت مختنق بالعبرات، مما أثار القلق والخوف بقلب عمرو، وهرول يخبر البقية ويتوجهوا إلى القسم...
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
★★★★
جلس «عامر» جوار بدر على الأرض وعيناه تجوسان في خوف، فهو الآن بين المجـ ـرمين، مال على بدر وقال:
-وبعدين؟ بقالنا تلت دقايق هنا ومفيش جديد.
-اسكت يا عامر، دا احنا سمعتنا هتنور بعد ما نطلع من هنا.
أطرق عامر بحزن، وحين نظر جواره رأى رجل عريض الشارب متوسط البنية، قال الرجل بصوت مرتفع:
-معاك دخان؟
هز عامر رأسه نافيًا، والذعر يُطل من عينيه فقال الرجل:
-وإنت جاي هنا ليه؟
-آآ...
هدر به الرجل:
-انـــــــطــــــــــــق.
-تـ... تـ ـحرش.
-علــــــــي صـــــــــوتك مــــــش ســـــامــــــع.
أجفل عامر وصاح بنبرة مرتعشة ومرتفعة جلجلت بالمكان:
-بقولك تــــــــــحــــــــرش...
التفت له جميع الرجال من حوله وكانوا أكثر من عشرة رجال، صك بدر وجهه، بينما ضحك الرجل وأخرج علبة السجائر من جيبه وشرع يدخن، نهض عامر واقفًا ونادى فيهم:
-بس أنا بريئ والله بريئ، أنا بدي دروس خصوصية وفيه بنت اتبلت عليا، جه أبوها وضـ ـرب فيا فجيت الأوضه ديه.
قهقه جميع الرجال، صفر أحدهم وصفق الأخر وقال ثالث:
-الله يفتح عليك يا عم الشاعر...
ابتسم عامر وربت على صدره باعتزاز وعاد يجلس جوار بدر الذي كان يكبح ضحكاته...
قال الرجل الذي يجلس على يمينه، بعدما نفث الدخان:
-أنا بقا جاي سرقة ومش بريئ.
انتفض عامر والتصق ببدر، أخذ الرجال واحد تلو الأخر يعرف عن نفسه وسبب وجوده:
-وأنا جاي سرقه بس بريئ.
-وأنا جاي في عاهه مستديمه.
-أنا بقا قتـ ـلت مراتي لأنها خـ ـانتني.
-وأنا كنت هربان بالتوكتوك من الكمين فمسكوني أنا والتوكتوك.
-وأنا جهزت بنتي ومضيت شيكات على نفسي ومعرفتش أسددها... فسلمت نفسي.
قال عامر:
-يا جماعه أنا أصلًا عالم، وقريب أوي هطلع اختراعي للنور وهيندموا على اللي بيعملوه فيا ده.
ضحكوا جميعًا وأخذوا يتبادلون الحديث، والنكات، وأخرج أحدهم بطاقة يدسها تحت جوربه، أعطاها لعامر قائلًا:
-دا الكارت بتاعي لو احتاجت أي حاجه، سرقه، سطو، بلطجه، رن على أي رقم من هنا... قول بس إنك من طرف الأسطا حمزه تختخ.
طالع عامر الأرقام وابتسم قائلًا:
-شكرًا يا ياسطا حمزه...
-لأ أنا تختخ، حمزه دا ابني...
قُطع سيل كلامهما حين فُتح الباب ونادى العسكري على بدر المذهول من إجتماعية عامر فقد ودعه الرجال وكأنهم عشرة طويله رغم أنه لم يمكث معهم إلا بضع ساعات...
وبالخارج...
حين رأى عامر أخيه عانقه وقال:
-بقيت سوابق يا عمرو...
-متقولش على نفسك كده يا حبيبي...
بدل عامر نظراته بينهم«رائد وعمرو ويحيى ومحمد» وقال:
-ياريت محدش يقول لتقى يا جماعه.
قاطعهم قول الضابط:
-الراجل معملش بلاغ، خاف على بنته، ودا من حُسن حظ عامر، فهيخرج معاكم.
أشار بدر لنفسه قائلًا:
-طيب وأنا!!
-تقدروا تتفضلوا كلكوا.
قالها الضابط باقتضاب، وخرجوا جميعًا، فقال بدر:
-طيب ما هو الضابط دا طيب ومحترم أهوه! أومال ليه نزلنا الحجز.
-وكنتوا هتباتوا فيه بس أنا جبتلكوا واسطه.
قالها محمد، فقال عامر:
-الحمد لله عدت على خير.
قال عمرو:
-إيه حكاية البنت اللي بتتبلى عليك دي يا عامر.
-والله ما أعرف هو أنا يعني عشان مسمسم وحليوه يحصلي كل ده!
رمقه يحيى شزرًا وقال:
-مسمسم!
واستقلوا جميعًا السيارة، وأخذ عامر يحكي لهم ما حدث بالتفصيل، ثم قال:
-أهم حاجه بابا وماما وتقى ميعرفوش باللي حصل ده يا جماعه... هو إنتوا عرفتوا ازاي؟
قال عمرو بضحك:
-ماما كلمتني... وأنا اللي قولتلهم.
-يعني ماما عرفت؟ مش مشكله أهم حاجه محدش يقول لتقى وبابا ولا باقي أخواتي عشان محدش يقلق، ومن باب الستر برده.
قالها عامر فتبادلوا النظرات وران عليهم الصمت حتى دخلوا شارعهم فاستقبلتهم سعيدة التي صاحت بأعلى صوتها:
-كفاره يا متواضعين...
جحظت عينا عامر بصدمة، وارتجل الجميع من السيارة إلاه، فأشار له بدر لينزل، سأل عامر بتوجس:
-خالتك سعيده جايه؟
لم يلبث أن أنهى جملته وأطلت سعيده برأسها من نافذة السيارة وهي تقول:
-إيه اللي حصل ده! لعلمك أنا لما وصلني الخبر قولت استحاله، استحاله ابننا يعمل كده...
انتفض عامر وقال:
-أنا فعلًا معملتش حاجه والله...
-ما إحنا كلنا عارفينك يابني...
قالتها سعيده، فتنفس عامر الصعداء وهو يحمد الله ثم ارتجل من السيارة، فابتسمت سعيدة وقالت:
-إنت عارف اللي بيحصلك دا ذنب مين؟
-مين؟
-ذنب البنت اللي إنت غدرت بيها وروحت خطبت تقى!
أشار عامر لنفسه مرددًا بقلق:
-أنا! لـ... ليه هو أنا غدرت بمين؟
-رغده ورحمه! ركز معايا يا متواضع.
قالتها بنزق، فعقب عامر:
-إنتِ فاهمه غلط أنا والله ما غدرت بحد.
وبابتسامة ونظرة حاذقة قالت سعيدة:
-على خالتك سعيده الكلام ده! الشارع كله عارف...
انحرفت زاوية فم عامر وهو يهز رأسه لأسفل قائلًا:
-عظيم... عظيم.
أخذت سعيده تتحدث وعامر يومئ برأسه، صعد الجميع الدرج ودخل بدر لبيته، وترك عامر سعيده تُحدث نفسها، بعدما استأذنها أكثر من مرة ولم تفصل عن الكلام، فغمغمت:
-آه يا شوية متكبرين!!
★★★★★
أغلق عامر الباب وتنفس الصعداء، زاعمًا أن الأمر انتهى وولى، ولكن حين استدار وجد عائلته بأكملها بالبيت، حتى تقى وسراب، الجميع يرشقونه بنظرات حائرة قلقة، فابتسم وفتح كلتا ذراعيه ناطقًا:
-يا مرحبًا وأهلًا، حللتم أهلًا ونزلتم سهلًا.
ازدرد لُعابه ونظر للمرآة على شماله، فشهق واتسعت حدقتاه وهو يتأمل كدمات وجهه خاصة حول عينيه، أطبق شفتيه، ثم أقبل نحوهم وهم يتأملونه بشفقة، سند رأسه على كتف والدته وقال بحشرجة:
-ابنك بقا سوابق يا ماما.
قال رائد:
-جت سليمه الحمد لله، والراجل اللي عمل فيك كده إحنا مش هنسكتله...
-أنا كنت عارف إن خطوبتي مش هتمر مر الكرام كده، اشمعنا أنا يعني اللي الناس بصالي يا بابا، هو أنا أول واحد يخطب!
قالها عامر بحشرجة، مسلطًا بصره على والده وقد برقت عيناه بالدموع، فقال دياب:
-عشان إنت قدها وقدود يا عامر.
قال عامر بنبرة مختنقة بالعبرات:
-أنا معرفش البنت دي اتبلت عليا ليه، و المشكله إن دا هيضر سنتر الدروس.
ربتت والدته على ذراعه وقالت:
-الناس عارفه عامر وأخلاق عامر، متقلقش يابني.
تنهد عامر بألم واعتدل في جلسته ثم فرك عيناه بأنامله وقال بفمٍ متشنج:
-أنا بجد جعان... فيه هنا غدا إيه، أصل قعدة الحجز بتجوع...
ضحك الجميع ولكزه عمرو بذراعه قائلًا:
-ياخي قسمًا بالله خضتني عليك أنا قولت إنت هتعيط.
رفع عامر إحدى حاجبيه في عدم رضًا وقال:
-وأنا يوم ما أعيط هعيط قدام الحشد ده كله، ليه يعني؟ عشان تقولوا عليا عيوطه!
كانت تقى تتابع حركاته وسكناته، وسراب تبدل نظراتها بين الجميع، وانتبه لها الجميع حين نطقت:
-هو ممكن يكون حسين اللي عمل كده؟ زي ما بوظ فرامل العربيه لعامر قبل كده... هو شكله مستقصد عامر.
علق عمرو دون أن ينظر نحوهما:
-اشمعنا عامر يعني؟ بعد إذنك بطلي تقولي أي كلام.
نبرته الجامدة التي تحمل شيئًا من السخرية أثارت غيظ سراب، فهدرت:
-أنا مبقولش اي كلام، هو فعلًا مستقصد عامر...
-مش عاوزين نقلق نفسنا على الفاضي يا جماعه، متركزوش معاها.
قالها عمرو ساخرًا، فلوحت سراب بيدها في ضجر وهي تخاطبه بانفعال:
-إنت بتتكلم كدا ليه؟ إيه متركزوش معاها دي! هو أنا عيله صغيرة؟!!
أشاح عمرو وجهه عنها ولم يُعلق، بينما طافت بنظراتها على وجوههم وهي تقول:
-يا جماعه افهموني هو مستقصد تقى وعامر عشان... عشان...
ابتلعت لسانها وأطبقت شفتيها، تحبس لسانها وتقيده كي لا يبوح بما تخفي، فقال عمرو مستهزءًا:
-ياريت متخوفيناش عشان شوية أوهام في دماغك.
وكانت كلماته تلك هي مفتاح قيود لسانها، هبت واقفة، حبست أنفاسها وهي تقول دفعة واحدة:
-من الأخر بقا عشان بجد مش عارفه أخبي أكتر من كده، حسين جه امبارح وضـ ـربني بالقلم وقال إن الخطوبه دي باطله وإنه هيتجوز تقى لما مزاجه يطلب.
تنفست الصعداء ثم أشارت لوجهها وقالت:
-وأثر إيده على وشي أهيه... ومنك لله يا عمرو.
ابتسم عمرو فهو يعلم مفاتيحها، أحرز هدفه وجعلها تفصح عما تواري، عادت تجلس بينهم وهم يتجادلون حول الأمر وهي شاردة لا تسمع أصواتهم، نطقت فجأة:
-أنا شايفه إن عامر لازم يكتب كتابه على تقى في أقرب وقت، وبكده هتكون زوجته رسمي.
هبت شيرين واقفة واعترضت:
-لا، كتب كتاب لأ.
سألوها عن السبب، فقالت بحزم:
-هو كده! كتب الكتاب هيكون يوم الفرح، والحوار انتهى لهنا.
قالتها وهرولت صوب المطبخ، وسط استغراب الحضور وهمهماتهم، وتبعتها وئام وهيام وبعد لحظات نداء...
كان قلب «تقى» يقرع بقـ ـوة، مذهولة ومصدومة مما قالته سراب ومن رد شيرين المباغت...
أما شيرين فكانت منفعله وهي تُعد الطعام، ونداء ووئام وهيام يتبادلن النظرات حتى وقع الطبق من يد شيرين فغمغمت بامتعاض، ووقفت تستند بكلتا يديها على طاولة المطبخ...
أرادت أن تخبر تقى بذلك الحمل الثقيل الذي تخفيه عن الجميع ولكن لم يكن الوقت مناسب لتتحدث، تنهدت شيرين بألم وقالت:
-يارب ساعدني يارب.
وبالخارج أشار عامر لتقى ليتحدثا بالشرفة بينما جلست سراب شاردة، وعمرو يزحف بنظراته ليرى وجهها وأثر الصفعة الواضح، انتبهت من شرودها والتقطت نظراته، ارتبكت وارتبك أيضًا، أخذ يمسح ذقنه، ثم خاطبها بنبرة خافتة:
-قومي روحي المطبخ.
انتبهت سراب أنها تجلس بين الرجال، فنهضت دون جدال لكنها لم تتجه للمطبخ بل توجهت للشرفة وأخبرت تقى أنها ستغادر، ورافقتها تقى بعد حديث قصير مع عامر كان كافيًا لطمئنة فؤادها المرتجف...
استغفروا 🌸
★★★★
توالى مرور الأيام بات حسين كالشبح، يُطارد سراب وحدها ويسألها عن شيء لا تدري ما هو! أخبرها أن تدله عليه وسيختفي من حياتها وكأنه لم يظهر يومًا!
لو تدري ما يريد، لأعطته له في الحال، لكنها لا تعرف!
وكانت تتجاهل عمرو وهو أيضًا يتجاهلها...
أُطلقت الإشاعات حول عامر وصار يبرر لهذا ويوضح لذاك، أُرهق نفسيًا وجسديًا خاصة حين رفعت البنت فيديو على صفحتها الشخصية وهي تبكي وتشكو عامر وبدر وتصرفاتهما معها ومع باقي الفتيات، وعلق أكثر من فتاة على الفيديو مؤيدين والناس يعلقون أنه لابد وأن ياخذا جزائهما، كانت فترة امتحانات أخر العام وتغيب الكثيرون عن الدرس بسبب ما يُشاع...
تسألوا كثيرًا هل هي مكيدة لعامر كما قالت سراب، أم ماذا يحدث؟
ركنوا لله وسألوه العون والثبات والنجاة، كان عامر يبكي كثيرًا بمفرده، بات يخشى الخروج من البيت، انكسـ ـر، أصبح يخشى الأخبار الجديدة لا يتصفح هاتفه خاصة تطبيق الفيسبوك، واليوتيوب...
وحين أوشك اليأس أن يفتك به، أرسل الله له عونًا...
دخل عمرو للغرفة مبتهجًا، وهو يحمل هاتفه، قال:
-شوفت الفيديو اللي نادر نزله يرد على الفيديو بتاع البنت.
-نادر!
-أيوه ما هو نادر مشهور جدًا والفيديو بتاعه جاب تفاعل فظيع... أسمع قال ايه...
فتحه عمرو وظهرت صورة نادر وهو يتحدث:
-للأسف السوشيال ميديا أصبحت مكان لترويج الأكاذيب أكثر من الحقائق، وسائل التواصل تلك هيئت للجميع أن أي أحد بقدرته أن يصبح صانع محتوى مشهور، حتى لو خرج للناس وهو يأكل فقط، أو ربما مذيع مشهور يبث أخبار عائلته كيف يضحكون، يمرحون، يحبون بعضهم البعض ويرقصون أيضًا، فالرقص أصبح فرفشة لا مثيل لها؛ يبهر المشاهدين وعليه إقبال يرفع المشاهدات، ولقد خوضت التجربة بنفسي...
حتى بيت الخلاء (المرحاض) أصبحوا يصورون أنفسهم فيه الآن، فلا حول ولا قوة إلا بالله...
صمت نادر هنيهة ثم أكمل:
-عامر دياب العقيد صديق الطفولة شاب يحفظ كتاب الله تخرج من كلية العلوم ودومًا يخبرنا أنه على وشك اكمال اختراعه وسيظهر للنور ويبهرنا وأنا على يقين، حين ضللت في طريق الـ... البغي كان عامر وتوأمه شوكة في حلقي حتى عُدت... ومؤخرًا ظهرت فتاة تقول كلمات لا مجال للشك أنها كذب، وأنا أُكذبها أمامكم، يستحيل أن ينظر عامر لفتاة، فكيف يلمسها... وبدر كذلك بما أنه صديق عامر فلا مجال للشك به...
قالها نادر وهو يوقع كلماته، تحدث كثيرًا عن أخلاق عامر، فأدمعت عيني عامر وقال:
-الواد ده اتغير أوي! نادر رجع يا عمرو، رجعلنا...
أدمعت عيني عمرو وضم عامر قائلًا:
-كنت عارف إنه هيرجع، كنت بدعيله ليل ونهار والحمد لله ربنا استجاب.
مسحا وجههما واختلطت ضحكاتهما وقال عمرو:
-الفيديو نازل من ساعتين وعليه خمسه مليون مشاهده، إنت بقيت مشهور يا عم رُب ضارة نافعة...
-يا عم أعوذ بالله من الشهره أنا بحب أمشي جوه الحيط.
-جوه الحيط إيه يا حبيب قلبي... العالم كله بقا مستني اختراعك.
حاوط عمرو كتفي عامر وقال:
-ألا هو إنت بتخترع إيه يا عامر؟ الفضول هيجنـ ـني.
أزاح عامر ذراع أخيه وقال:
-بص قريب أوي هبهرك يا عمرو، استعد.
-أنا مستعد بس شد حيلك إنت...
نهض عامر ينفض عن قلبه غبار اليأس وكشف عن اختراعه ليعمل، ابتسم عمرو وهو يراه يكتب ويمحو من على لوحة معلقة...
تنهد بارتياح فأخيرًا خرج عامر من حالته تلك...
★★★★★★
وعلى الصعيد الأخر
كان بدر لا يبالي بأي اشاعات، لا يكترث لنظرات الناس ولا يبرر شيئًا، يباشر عمله بالمصنع ويمر على المحلات، ويتبع سراب وتقى ليطمئن عليهما... ولم
يهتم لرأى أحد إلا واحدة فقط وهي رغدة، التي لم تُصدق تلك الإشاعات فاطمأن... لمَ اطمأن لا يدري ولكن رأيها يهمه.
خرج من بيته لصلاة العشاء ثم درس القرآن الذي يمسح عن قلبه المتعب من مكابد الحياة، وكان ببيت يحيى...
لم يحضر عمرو وعامر وكانت رغده ببيت وئام حتى أنها من فتحت الباب فحياها بدر بابتسامة، وقال:
-النتيجة هتطلع إمته يا رغده؟
-لسه بدري يا مستر يعني ممكن شهر كده.
-بالتوفيق ان شاء الله.
-دعواتك.
كان لنبرتها وقع مميز في نفسه رغم أنه أنكر ذلك، ففرق السن بينهما كبير، عشرة أعوام كاملة! ولازالت طفلة، ولكن لمَ لأ؟ لا أحد يدري ما الذي تخبئه الأيام، ليترك قلبه معها عله يسترده ذات يوم.
مر الوقت نصف ساعة وغادر بدر وكانت رغدة تترقب مغادرته، لتسير معه للبيت، زجرتها وئام ولكنها قالت:
-اوعدك مش هعمل كده تاني.
ولوحت لها قبل أن تنصرف، فغمغمت وئام بنزق واتجهت ليحيى تخبره، فلم يهتز له جفن وقال بثقة:
-متقلقيش بدر محترم جدًا.
-الحب بيوقع أجدع محترم يا يحيى، والبنت لسه صغيره وطايشه.
اتسعت ابتسامته وقال مطمئنًا:
-متقلقيش بدر كبير وناضج.
تنهدت وئام وقالت:
-ربنا يستر.
من ناحية أخرى
-امشي قدامي يا رغده.
قالها بدر باقتضاب، فقالت:
-كنت عايزه أتكلم مع حضرتك، بخصوص رحمه، نادر اتغير وبعتلها يعتذرلها وهي فرحانه أوي، شكلها بتحبه بجد، وهو كمان شكله بيحبها، مستر هو إنت عمرك حبيت؟
هدر بها:
-حب ايه يا رغده! إنتِ لسه صغيره أوي على الكلام ده!
قالت بانفعال:
-أنا مش صغيره أنا هكمل ١٦ سنه كمان شهرين.
-برده صغيره ومينفعش تتكلمي في المواضيع دي، ركزي في دراستك يا رغده... يلا اتفضلي امشي قدامي.
قال أخر جملة بتجهم، وكرر أمره، فأصرت على أسنانها وسارت أمامه متبرمة، وابتسم هو وأخذ يستغفر الله حتى وصل بيته...
★★★★★
وببيت دياب
انفردت شيرين بتقى لتخبرها بسرٍ أخفته وحان وقت البوح به...
كانت سراب تنتظرهما بالشرفة، تتسائل عمَ يتحدثان؟
نظرت لنداء التي تقف جوارها وسألتها، فقالت نداء:
-أعتقد عشان ماما رفضت كتب الكتاب، فهتتكلم مع تقى وتوضحلها وجهة نظرها.
هزت سراب رأسها مؤيدة، طلب رائد من نداء تحضير أقداح من الشاي الساخن فراحت تلبي طلبه، بينما أخذت سراب تعبث بهاتفها، تتفقد طلبات المراسلة التي لم تفتحها منذ قرابة العام...
قاطعها عمرو الذي حمحم ووقف جوارها، فرمقته واستغفرت الله بصوت مسموع مما دفعه لقول:
-طيب وبعدين؟ هنفضل كده كتير؟
-آه علطول، وياريت منتكلمش تاني أبدًا، الإنسان فيه اللي مكفيه والله.
قالتها بامتعاض فتنهد وقال بنبرة يشوبها الحزن:
-للدرجه دي بتكرهيني!
لم تجبه وأخذت تُطالع شاشة هاتفها تتصفح طلبات المراسلة دون تركيز، فقال:
-سراب!
أخذ ينبس باسمها عدة مرات لترد عليه، وما أن التفتت، قال بهدوء:
-ليه بتتجاهليني؟ وليه بتكرهيني؟
-لأنك مستفز يا عمرو! وإنت اللي بتكرهني على فكره والقلوب عند بعضها بقا.
قالتها دون أن تنظر إليه فصمت هنيهة ثم زفر قائلًا:
-دا لو القلوب عند بعضها فعلًا! يبقا قلبك في خـ ـطر.
وبعد تلك النبرة الهادئة الرخيمة، بات قلبها في خـ ـطر، ازدردت لعابها، ونطقت:
-إنت مستفز، أنا بجد مش بطيقك...
ضحك عمرو ولم يعقب أو يلتفت لها، وبأيدٍ مرتعشة فتحت سراب هاتفها الذي أظلمت شاشته، فتحت طلب مراسلة وكان بإسم نيرمين...
قرأت الرسالة واندلع من حلقها شهقة، وجحظت عينيها، نظرت لعمرو الذي التفت أثر شهقتها ورآى الصدمة تتمشى بين ملامحها...
يتبع
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا