رواية آصرة العزايزه الجزء الاول" من يعيد لي قلبي " الآصرة الواحدة والعشرون والثانيةوالعشرون بقلم الكاتبه نهال مصطفى (حصريه وجديده على مدونة قصر الروايات كامله)
رواية آصرة العزايزه الجزء الاول" من يعيد لي قلبي " الآصرة الواحدة والعشرون والثانيةوالعشرون بقلم الكاتبه نهال مصطفى (حصريه وجديده على مدونة قصر الروايات كامله)
⭐️ الآصرة الواحدة والعشرون ⭐️
"أكثر ما يضرّ العلاقات بين الناس هي الصورة المثالية التي يضعها الفرد للطرف الآخر، وأكثر الخيبات من هذا السبب. لا يجب أن نغفل عن حتمية النقص البشري، ولا بد أن ندرك أن الأفراد في الواقع ليسوا مثل الأفراد في الذهن، الذهن دائما يطمح أن يرى الناس بصورة نقية، لكن الواقع مليء بالشوائب."
#راقت_لي .
•••••••••••••••••••
يقف هاشـم أمام نافذة غرفـة نومـه يدخن سيجارته الصباحيـة بعد ما ارتدى زيه العسكري الكامل ويتحدث مع " رؤوف " قائده بالوحدة العسكرية ، حانت منه نظرة سريعة لرغـد النائمة بالأرض ومتلفحة بلحافها الأبيض وقال والدخان ينبعث من بين شفتيه :
-تمام يا رؤوف ؛ هروح أعمل إخلاء طرف وبكـرة وهطلع على سينا ..
ثم غير مجرى الحديث :
-أنت مطول عندك ؟!
ركل رؤوف الحجر الصغير بالأرض بمشط رجله وقال :
-يومين إكده هخلص كام حاچه ومعاود ..
ثم ابتلع باقي الكلام بحلقـه متوقفًا عن الحديث إثر تنبه ما وصـل لهاتفه ، فألقى نظرة خاطفة وهو يقول بصوت منزعج إثر رؤيته لذاك الخبـر :
-هاشم ، افتح شوف الورطة دي .
فتح هاشـم تطبيق الرسائل ليفتح ذلك العنوان الإلكتروني الذي ارسله رؤوف معتقدًا أن هناك أمر مـا يخص شغلهم ولكن كانت الصدمة الكُبرى وهو يرى اسم العزايـزي عنوانًا للخبـر ، فتح مكبر الصوت وهو يتحدث بدهشة :
-من ميتى والجرايد عتچيب في سيرتنا !! ووو
قاطعه رؤوف :
-عاوز أقول لك أنو البلد مطربقة فوق روسنا من إمبارح ، من تحت راس اللي عمله بكر وِلد فياض .. والمفروض المجلس هيچوزهم خلاص ..
كان هاشم منشغلًا بالسباب إثر تطاول الصحفـي في إهانتهم حتى وصل لنهاية الخبر وكُتب تحت ناشره باسم " ليلة سامح الجوهري " ، حاول هاشـم تذكر تلك الفتـاة تقطن بمنزلهم ونفس الاسم الذي عرفت به نفسها من قبل ليقول بسخط :
-ليلة الچوهري اااه يا بت الـ*** ؟!! رؤوف الخبر ديه طلع من قلب العزايـزة ، كله من تحت راس البت بتاعت هيثم ..
كرر رؤوف الاسم ، وكل ما يشغله الاسم ليقول متستفهمًا :
-مش سامح الجوهري ديه اللي كان لواء في المخابرات العامة ، ولا ده تشابه اسامي ؟!
عاتبه هاشم :
-إحنا في ايه ولا في ايه ؟!! فكرك ديه هيشفعلهـا!! هارون لو عرف مش بعيد يدفنها حيـه ، الكدب والخيانة ملهمش دية في عرفنا يا رؤوف ودي واحدة مصنتش العيش والملح .. أقفل أروح ابلغه يشوف معاها صرفة ..
أوقفه رؤوف متعجبًا :
-بس هي هتعمل إكده ليه ؟!! ما يمكن هارون عنديه علم وو
رد هاشم بحزم :
-هارون عمره ما يدخل الحكومة ولا الصحافة في مشاكلنا ..
ثم لاحظ حركة رغد بمرقدها وتراقص جفونها فغير مجرى الحديث وقال :
-انا هتحرك على الوحدة دِلوق وهكلم هارون أشوفه وأنا في الطريق ..
نهى مكالمته بسرعة مع رؤوف ورمى هاتفه بعشوائية على الأريكة ليقترب من رغد لياليـه السرية وينكث على ركبتيه مداعبًا ملامح وجهها مستخدمًا لهجته الصعيدية التي تُزعجها كثـيرًا :
-ما بزياداكي نوم عاد وقومي فطري چوزك يا هانم ! ولا اطلع على لحم بطني ، يرضيكي؟
ضمت أناملها كفه وما زالت تحت سطو النعاس لتقول بصوت مفعم بالنوم :
-صوتك عالي ليه ؟! بتكلم مين الصبـح كده ؟
-شغل شغل متشغليش بالك ..
ثم أحكم قبضة يده على كفها الناعم كأنه سيلاعبها تحدي القوى " ريست" وجذبها عنوة لتنهض شاهقة مرتمية بين يديه مدمدمة باسمه بعتب :
-هاشم !! عايزة انام كمان شوية بليـز .
-الساعة ١٢ الضهر ومش بعوايدك تتأخري في النوم ، يلا قومي وفكي التكشيرة اللي مش عارف سببها من ليلة إمبارح دي ..
تبسمت مجاملة بوجهه لتقول :
-صباح الخير يا حبيبي ..
طبع قبلته الرقيقة على أرنبة أنفها وهو يداعبها قائلًا :
-لسه فاكرة !!
تأوهت قليلًا وهي تبث شكواها وتمسك ظهرها :
-آه !!جسمي كله متكسر وعايزة أنام كتير وبعدين أنتَ أيه عاجبك في نومة الأرض دي !! لو هتعملها تاني أنا هسيبك تنام لوحدك ..
ثنى ركبته كالخيمة المضللة فوق ساقيها الممدودة اتكئ على ذراعه الأخر وهو يدلل ملامح وجهها بابتسامة خفيفة :
-هقولك ، أصلـو زمـان وأحنا عيال كنا نناموا چار أحلام ، أنا وهارون ولما تيچي ليلتها وأبوي كان يطردنا من الأوضة كانت تنومـه كنا نبقوا مستنيها برة الأوضة كانت تيجي تأخدنا وتفرشلنا الفرشة فالأرض ومتسبناش إلا لما نروحوا في النوم .. فـ
ثم تأرجحت عيني ببحيرة عينيها التي تراقبه باهتمام واستمتاع ، فـ استغل الفرصة ليلطف الأجواء قائلًا بمزاح :
-بس كل اللي كان شاغلني زمان ليه أبوي كان يطردنا !! هاا ليه يا رغود ؟!
انفجرت ضاحكـة بوجهه ، ثم ظلت تعبث بثوبه الميري :
-بكرة لما يكون عندنا أولاد أنت اللي هتطردهم يا حبيبي ..
ضاقت عينيه بمزاح :
-يعني الحچ خليفة طلع خلبوص من زمان .. !!
-أنا دلوقتي عرفت أنت طالع لمين ، وهيثم أخوك كمان .. لالا واضح كده أنتوا الاربعة كلكم طالعين للحچ باباك ..
قفل عين وفتح الآخرى :
-هارون أقولك ماشي تعلب في نفسه !! لكن هلال ؟!! لالا مولانا ده أنا قلقان عليـه بقوله تعالى اديك دروس تقوية وأنت أديني دروس تقوى مش سامع الكلام .. ده مش باين له جواز من أصلـو .. أصلك متعرفيش هلال حياته كلها حلال وحرام ، ده لو شاف واحدة ست خالعة براسها ممكن يغمى عليه ... الواد هيبوظ سمعتنا البابظة دي ..
خرت ضاحكة بشكل هستيري ثم قالت :
-يعني المحترم اللي فيكم عايز تبوظه !! ما تسيب الراجل في حاله ..
ثم لفت ذراعها حول رقبتـه وأخذت تعبث بأزرار بذلته وهي تقول :
-بس من واقع خبرتي بالحيـاة يا سيادة الرائد يا مدرسة ، أن اللي زي أخوك هلال ده أكتر واحد بيعرف يحب ويعبر عن حبه .. الحب بيطلع منه العجب وهتشوف وبكرة هفكرك .
رفع حاجبه بعدم تصديق:
-هلال؟!! لالا مفتكرش .. بقولك أخويا وانا استعوضت ربنا فيه .. مفيش منه أمل وو
فقاطعته بنبرة اعتذار:
-اسفة يا هاشم بالليل نمت و سبتك بس فعلا كنت تعبانة أوي ، ممكن متزعلش مني .
انتقلت يده من زهور ملامحها لمشتل خصرها وهو يجذبها عنـوة إليه ويسند جبهته فوق جبهتها ليقول بشوق :
-لا بس أنا زعلان ، وزعلان أوي كمان .. هروح الوحدة أعمل إخلاء وهرجع لك تصالحيني بمعرفتك ..
ردت بتلك النبرة الخفيضة وهي تقول له بنبرتها الحنونة :
-هستناك ...
نظر في ساعته ثم وثبت بحماس متأهبًا للذهاب بعد ما طبع قبلة على جبين رأسهـا وأخذ هاتفه وقبعة رأسه العسكرية :
-مش هتأخر عليـكِ ..
ودعته بأسمى المشاعر التي تسكن قلوب المُحبين ورافقتـه لباب المنزل حتى استقل سيارته الفارهة وغادر من البيت قفلت الباب وأول شيء فعلته هو أنها ركضت على هاتفـها لتحدث أمها التي أكدت عليها أن تقفل هاتفها نهائيًا إلى أن يغادر زوجها .. ظلت تتنقل في أرجاء المنزل وهي تتحدث من أمها بآهات ملتاعة وخوف من الغد وما يحمله ؛ حتى جهرت بعجزٍ وغضب إثر محاولات أمها التي تؤكد لها حب هاشم :
-آكيد يامامي لما يعرف أن أبويا ممتش ومتسجل على قوائم الإرهاب مش هيضربلي تعظيم سلام !!
ردت سامية بتحدٍ :
-يبقى ده اختبار هاشم اللي بجد ، أنتِ اتنازلتي كتير واستحملتي وهو لو بيحبك وشاركي مش هيفرق معاه ..
••••••••••
~بسيارة هلال ..
بنفضة جسد فائض من شِدة القلق إثر شعور بالرهبة لذنب لم يرتكبه .. جاءت تلك اليد الحنونة لتُربت على كتفه فدار للخلف مذعورًا كي يكشف عن هوية صاحبها الذي همس له :
-اتبعني !!
ثارت ملامح هِلال على مرجل الحيرة وهو يتبع خطاه مكررًا أسئلته :
-من أنتَ ؟! وما تريـد ؟!
طالعه الرجل ذو اللحيـة البيضـاء مبتسمًا ليقول له :
-مما تخاف ؟!
عارضـه بيقين :
-لست خائفًا ، المؤمن بحق لم يخف ..
-أجل ، لِمَ تتساءل إذًا ؟!
كرر هلال سؤاله وهو يتبع خُطاه البطيئة :
-من أنت ؟! وما تريد ؟! لدي أشغال كثيرة لا أود أن أضيعها ..
دار لها الرجل الذي ينافسه في الطول ليعلق برقبتـه سبحة من الأحجار الكريمة ويزف له البشرى :
-دعنا نحتفـل بعريسنـا ..
تقطعت الكلمات بفاهه :
-أي عريس ؟! من سيتزوج !!
-أنتَ ؟! جئت لأبشرك و أهنئك وأخبرك ؟!
-بمـا !!
وتجولت عينيه بالمكان بغرابة :
-وما هذا المكان ؟! أين نحن ؟!
نزع الشيخ العجوز عِمة رأسه وتوجه بها وقال بحكمة مريحة للنفس :
-جئت أزفك بشخصي .. مبارك لك.. لقد نفذ أمر الله ..
ما زالت الغرابة تحاوطه وهو يتساءل :
-أي أمر ؟! وكيف سأكون عريس بدون عروس ؟!
تفقد الشيخ هيئته بعد ما ارتدى السبحة من أحجار الفيروز والعمة البيضاء ، فأشار له نحو باب خشبي عِملاق تحاوطه زهور الياسميـن :
-خلف هذا الباب بُشارك .. وبُشرى أيام دُنياك وآخرتك ..
-كيف !!
ثم هـمّ على وجهه راكضًا نحو الباب ليتطلع إلى مقصده ربما يتعثر بجواب اسئلته العقيمة التي لا تنجب ردًا يطمئنه ، أثناء ركضه تعثرت قدمه بحجـر صخري ارتطمت ركبته فتأوه صارخًا من شدة الوجع ولكن ذلك لن يعوقه لمواصلة سيره متبعًا فضوله ، امتدت يديه لتدفع ذلك الباب الخشبي الثقيـل لتُشرق قمـر قلبه على أحد درجات السُلم متوجـة بالزي الأبيض وتزفها الفراشات ، تقف رقيـة ممسكة بباقة ورد بيضاء وتتطلع له باستيحاء ، مازال تحت سطو دهشته دنى منها وهو يتلعثم غير مصدقا ما يراه ويطلع لها متساءلًا :
-رقيـة أنتِ هُنا ؟! ها أنتِ!!
فآتاه صوت الشيـخ الذي دب على كتفه ففزعه أكثـر وهو يلتفت له ليقول بوجهه البشوش وهو يشير لرقية المتوجـة بسبابته :
-أجل ها هي هنـا -ثم أشار لقلبه - ومن الآن ستبقى هنـا ..هذه أمانة الله ..
دمدم غير مصدقًا :
-رقية !!
فعارضه الرجل :
-كلا ؛ رُقى هلال بدنياه وآخرته ..
ثم تبسم مكملًا :
-ستقرع طبول السماء قبل طبول الأرض لتزُف عرائسها .
-شيخ هلال !! شيخ يا شيـخنا .. أنتَ ايه اللي نيمك إهنه عاد !!
جاء صوت أحد الرجال ليوقظ ذاك النائم الذي حرقت وجهه أشعة القمر الذي زُف له ، وداعبت خيوط السمـاء وجهه من خلف النافذة الخاصة بالمسجد ، كان يتصبب عرقا ويرتعش ويهذي بكلمات غير مسموعة مما أثار قلق الرجل الذي جاء ليجعله يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ففزع هلال صارخًا بصـوت المتألم هو يلتقط أنفاسـه بعناء :
-يااااالله !!
تراجع الرجل مبررًا :
-مالك يا ولدي ! قوم أصحى نهار ربك چيه !! ده كمنه كابوس اللي شقلب كيانك إكده !!
ظل يتلفت يمينًا ويسارًا وكأن قلبه يفتش عن ذلك الشيخ ، عن تلك العروس التي تحول قلبه في حضرتها لطير يرفرف في سماء الحياة.. ظل يمسح على جبتهه وهو يقول بصوت مفزوع :
-انا انا كنت ، صليت الفجر ونمت .. نمت چار العمود وو
ثم نظر للرجل وكإنه يتعرف على ملامحه، ففزغ من مرقده مستئذنًا بلهفة:
-انا لازمًا أمشي .. عن اذنك !
تعجب الرجل من حالتـه وهو يضـرب كف على الآخر ويدعو له :
-سبحان مغير الأحوال !! ربنا يهديك يا وِلدي ..
"تدابيرُ اللهِ ملهمةٌ وعظيمةٌ لدرجةٍ تفوقُ أحزاننا."
فرغ هلال من سطو ذاكرته التي استردت تلك الرؤى التي جاءته بعد صلاة الفجر وهو يبث شكواه للمولى كيف عليه أن يساعد فتاة مثلها تمزق قلبها إربابًا .. حتى غلبه النوم وفكره مشغولًا بأمرهـا فجاءه الحل من الله والذي غفل عنه ، فبرغم من ميله لها إلا أن فكرة الزواج بها لم تزر فكره أبدًا .. كان يعلم بمشقة الطريق لها وخاصة بعد ما اقترفه هذا المجرم بحقها باتت السُبل محطمة بينهما نهائيًا ؛ ولكنه قبل البشارة على سعة صدر وتهيأ لها ، لا يعرف كيف سيكون ذلك ولكن ربما يحدث الله بعد ذلك أمرًا !!!
صف سيارته أمام بوابـة مجلس العزايـزة الفخـم ونزل منها وهو يصفع بابها بقوة حيث التقي بهيثم أخيه مقبلًا عليـه ؛ لحظات قليلة وكان هيثم يقف أمامه بهيئته الصاخبـة :
-هلال ، موصلتش لحـل بخصوص اللي ما يتسمى ؟!
امتدت عينيه بنظرة خاطفة لرقية التي تجلس بالخلف تائهة في ملكوت الحزن الذي حل على رأسها وقال بيقين :
-الله سيدبر الأمر وحده !!
عقد هيثم حاجبيه وهو يراقب زي أخيه الفخم ورائحة عِطره الفجـة ليقول بلوم :
-هلال !! أنتَ هتوافق تكتب كتابهم !! أوعاك يا هلال ، ورب الكعبة لا تبقى أخوي ولا أعرفك ..
رد بارتياح وهو يشاهد مشهد مواساة أخته للتلك اليتيمة والمنكسـرة :
-دعها تأتي كما كتبها الله ..
هبطت خالة رقية من السيارة وهي ملفحة بحزن اللون الأسود :
-يا شيخ هِلال هيعملوا أيه في المسكينة دي !! دي لأب ولا أم يا حبة عيني وآخرها يبقى اللي اسمه بكر دهوت الچاهل !!
سكن اليقين قلبه حد الهدوء العجيب الذي لا يتناسب مع الموقف وقال:
-المولى عز وجل ما خلق نملة وتركها في حُجرها ؛ فما بالك بالبشر !! وبرقية .. لا داعٍ للقلق ؛ رقية لن تتزوج ببكر ..
رمقه هيثم بذهول :
-أنتَ أيه البرود اللي أنت فيه دهوت ؟! اللي يشوفك دِلوق ما يشوفكش ليلة إمبارح ، هلال أنتَ عارف حاچة وو
رد بهدوء :
-ربك رب قلوب وأحوال ؛ يقلبها في عشية وضُحاها ، علينـا بالتأني في مواجهة المصائب كي لا نزيدها سوءًا ..
-ولاه أنا چايب آخري من وِلد المدعوك ديه ومن العزايزة نفر نفر ، مش ناقصاك أنتَ كمـان ..
-أهدأ يا هيثم ..
في تلك اللحظة اقتحمتهم سيارة هارون التي يقودها بأقصي سرعة وخلفه سيارة آخرى مليئة بالخفـر الذين يمسكون ببكر الذي نال من ضرباتهم ما يستحقه حتى أنه لم ينجٌ من هارون الذي لم يتمالك أعصابه ليلكمه تحت عينه إثر فعلته الفاحشة التي اقترفها ذلك المجرم بولايته ..
ما رأى هِلال صورة ذلك المدعو بكـر وبدون عقل نزع عباءته وشاله وعلقهم بنافذة سيارته وهو يخبر هيثم :
-وبعض الأمور لا نستطيع عليـها صبرًا ..نحن في الأول والأخر بشر ..
ليقتحم صفوف الرجل وبكل ما أوتى من غضب مكتوم رفث بكر ببطنه ليسقطه أرضًا ، هرول هارون من سيارته نحو أخيه لينهره :
-هلال ، سيبو ..
لم يلتفت هلال لأمر أخيه بل أبركه بالأرض وانهالت على وجهه اللكمات القويـة المعنفة عن فعله الدنيء ، فجر هلال طاقته المكبوتة بوجهه الذي لُطخ بالدماء ، حاول هارون أن يوقف أخيه ولكنه دفعه بقوة كي يواصل عمله في أخذ الحق من ذلك المجرم .. هبطت رقية وهاجر التي تصرخ باسم أخيها وتحضن رفيقتها و التي تراقب أسدًا يزأر في ساحة أخذ حقها وهو لا يربطها بها أي شيء !! حاول هارون ورجاله منع هلال عما يفعله ولكن توقف هيثم بوجهه :
-سيبو يخلص عليه يا هارون وِلد المحروق دهوت ..
جهر صوت هارون وهو يراقب رجال المجلس يركضون نحوهم فتدخل ليمسك بأخيه بمساعدة رجاله وبصعوبة نجت رقبة بكر من أيدي هلال المغلولة وهو يلعنه :
-ورب العزة يا بكر ما هرحمك ..
ما نهض هلال مع أخيه بأعجوبة فركله بقدمه ، ما كاد هارون أن يلومه ففوجئ بهيثم إبترك فوقه وهو يلكمه بغلٍ :
-اااه يا كلـ* يا ابن الـ* .. منا مش كل يوم هضرب واحد من العزايزة !! أنا مش چاي الدِنيا عشان أربيكم وبس منا مش فاضي لكم ..
ثم طبق كفوفه على عنقه :
-عملت إكده ليه يا ***، دكر أنتَ إكده يعني ؟! ماهي لو بالشنبات كان الصرصار سيد الرجال ..
فاض صبر هارون الذي أبعد هلال عن بكر بأعجوبه ليركض صوب هيثم صارخًا وهو يرفعه:
-بزياداك يا هيثم أنت كمان .. مالكم چرالكم ايه اتجنيتوا !.
جاءت أم بكر تعـول وتصدح وتجثو فوق ولدها وتصيح :
-يا ولدي !! قوم يا حبيبي قوم ..اتكاتروا عليك .
وبخها هيثم باشمئزاز :
-بعد إكده المراة اللي تسقط تربي ، مش تطلق عُجولها علينـا .. أنا خُلقي ضيق هاا والتور اللي يسوق العوج قطع رقبته اشرف لنا ..
شده هارون بصعوبة :
-أنتَ اتخوتت !! أي عوچ دايس فيه !! هتبطل بلطجة ميتى !!
-سيبني أموته يا هارون وأبقى دافع عني وطلعني .
-هيثم ؛ مش وقت چنانك.. اركز الله يرضى عنك .
حدجه هيثم بمكر:
-أنتَ كُنت مكمر على وِلد الحرام دهوت ومش قايلنا يا هارون !!
-منا حاسس إني قصاد بلطجية مش رجالة عتفكر وعنديها مخ .. و
فقاطعه أحد الخفر :
-يا چناب العُمدة ، اتفضلو .. المشايخ مستنينكم ..
اقترب هلال من رقية بعد ما رتب ملابسه وتذكر بإنه عريس اليوم ، دنى من تلك الخائفة التي تختبئ بحضن أخته وترتجف ، فقال بحكمة لا يعلمها غيره :
-أخت رقية ، أرچوكِ ساعدينا .. اللي هقوله توافقي عليـه بدون تفكير .. ثقي بيِ.
سألته أخته :
-كيف يعني يا هلال !! ما تفهمنا ..
رمقها بحدة :
-لا تدخلين بالأمر وابقن بالسيارة ..
قال جملته الأخيرة وهو يرحل ليتسلل من باب شيوخ المجلس الذي عُين مأذونًا ومستشارًا دينيـًا به بالإضافة إلى مهنتة التدريس بالأزهر الشريف والمعهد الأزهري .. نظرن الفتيات لبعضهما البعض:
-هاچر أنا مش فاهمة حاچة ..
أقبل هارون آمرًا :
-هاجر استنى في العربية عندك ..
كادت أن تقاوحه ولكنه ألجمها بنظرة جعلتها تتقهقر مترددة وهي تترك يد رفيقتها .. سارت رقية برفقة خالتها وهيثم ثم هارون الذي وكل أحد رجال بحراسة أخته بالسيارة .. دخل الجميع لساحة المجلس ثم تبعهم بكر الذي يتعكز على ذراعي الخفر وأمه التي تُشيعـه بالصراخ .. جلس الجميع بأماكنهم لتبدأ المحاكمة ...
بسيارة هيثم تجلس هاجر التي يكاد أن ينفطر قلبها على حالة صديقتها فجاءها اتصال من شريف الذي يعد قوته ويستعد لاقتحام مجلس العزايزة ، فردت هاجر بتوجس:
-اتفضـل ؟
رد بمكره وحديثه المعسول :
-ها يا هاجر ، ايه الوضع عندك !!
ردت عليه بجدية :
-أولًا اسمي الدكتورة هاجر يا شريف بيه ، ثانيا هارون بيه أخوي كان محتفظ بالزفت اللي اسمه بكر وكلهم دخلو المجلس دِلوق ..
فتح باب سيارة الشرطة ليركب بجوار العسكري مبتسمًا :
-طيب براحة علينا يا دكتورة .. أنا بس رفعت التكليف قولت أننا هنبقى أصحاب وبنساعد بعض وو
قاطعته :
-شريف بيه من غير حديت مذوق ، تخلص شغلك ومتكلمنيش تاني ، وإلا هيبقى فيه حديت تاني مش هيعجبك واصل ...
رسم الضحكة على محياه وهو يأمر العسكري أن يتحرك وقال:
-تمام يا دكتورة هاجر ، أي جديد بلغيني ..بس براحة علينا شوية عشان أنا قلبي خفيف ..
-لا سلامتك يا شريف بيه ..
أنهت هاجر المكالمة بملل وهي تلعن الحظ الذي جمعها به وتعاتب نفسها:
-فوقي يا هاجر أخواتك لو عرفوا اللي حصل مش هيعدوها ...
~عودة لسـاحة المجلس ..
افتتح الشيخ الكبير مجالًا للحوار بعد ذكر اسم الله ، ووجه سؤاله لبكر :
-يا بكر ، لقد قمت بالاعتداء على ابنة عمك ، الكلام ديه صح ؟!
أخفضت رقية وجهها بالأرض وبكر يتطلع لها بدناءة :
-حصل يا مولانا ..
فأكمل الشيخ وقال :
-وتقرير المشفى أثبت أن الاتصال كان كاملًا وبدون أي تراضي !
وقف بكر بوقاحة أمام الشيخ وقال بخبث :
-في الأول قاوحت چنابك وبعد إكده .... إحنا بردك وِلد عم والدم عمره ما يبقى ميه وسلمت بكيفها لإنها ريداني كيف منا رايدها ..
كظم الجميع غضبه وقبض على مرجل الغضب إحترامًا لذلك المجلس الذي لا يجرؤ أحد على رفع صوته بهِ ، دمدم هيثم في سره بآذان هارون أخيه " الناقص" فألجمه هارون بتلك النظرة التي تخرسه حتى تلألأ صوت الحق لتنفيه رقية تمامًا والبكاء ينخرط من عينيها :
-كذب ، محصلش ... ولا عمري اسلم روحي لخسيس زيك .. ما كفاياك كِدب ..
-اقعدي يا رقية .. لم أوجه لكِ سؤالًا ..
ثم نظر لبكر:
-سبق وقولنالك متتعرضش لبت عمك يا بكر ، كسرت التحذير ليه ؟!
اخفض رأسه بالأرض:
-الهوى غلاب يا شيخنا وأنا رايدها في حلال ربنا ومستعد اكتب عليها دِلوق .. ويبقى صلحنا اللي حُصل ..
تكورت قبضة يد هلال على الطاولة أمامه وهو يذكر اسم ربـه كي يلهمه الصبر ، وعلى حِدى زفر هارون باختناق وهو يوشوش لهيثم :
-وِلد الـ*** تصدق أن غلطان كنت سبتك خلصت عليه وخلصنا...
تمتم له هيثم :
-أقوم أموتهولك دِلوق ؟!!
-لا استنى هبابة نشوفوا اخرته أيه يمكن أموته أنا..
-عيل ناقص وحلال فيه القتـل .
أشار له الشيخ أن يجلس بمكانه ثم نظر لرقية التي تتشبث بيد خالتها وهي ترتجف ، حانت نظرة مشفقـة من هلال فحاورها بلغة الأعين بالأ تخف من أحد وتدافع عن حقها ولكن أكثر ما كان يخيفها أن ظهرها بات عاريًا لا يقف به من يتلقى السهام عنها .. توجهت لحديث الشيخ العجوز وهو يسألها :
-ما رأيك فيما قال وِلد عمك يابتي؟
ارتعش صوتهما كيفما ارتعشت كفوفها :
-كله كدب .. أنا كنت رايحة أجيب لبس أمي ، وهو اتهجم عليّ ولولا أني وقعت على رأسي وغبت عن الوعي عمره ما كان ..
ثم تحشرجت نبرة صوتها وجهرت :
-إحنا إهنه لي؟! عشان تسمعوا أيه !! عاوزين تعرفوا أنا كيـف ادبحت ؟! عاوزين تحققوا في جريمة كاملة متكاملة الجاني فيها معترف على روحه !! أنا عاوزة أفهم إحنا إهنه ليه!!
تدخل الشيخ الآخر ويبدو عليه علامات الضجر من وقاحتها :
-بلغتي الحكومة ليه يا رقية !! إنتِ عارفة اللي أنتِ عملتيه ديه مش هيحسن موقفك!
أشار لها هلال بألا تضعف وأن تكمل حربها للآخر ، استمدت القوة من نظرته وأتبعت:
-ويعني لو كُنت چيت واتشحتفت وندبت قدامكم دهوه هيحسن موقفي !! أي موقف اللي حضرتك عتتكلم عنيه !!
وبخها الآخر:
-صوتك مايعلاش في مجلس العزايزة واتكلمي باحترام ..
ردت ساخرة كمن باع الدنيا ما عليها:
-أي احترام لمچلس جاي يعظم الچاني على فعله !! أصلا أنتوا فين عقلـكم وأنتوا عتنفذوا القوانين دي؟! مين سمح لكم !! علشان حدوتة قديمة حُلصت من قرن ونص چايين تسجننونا معاهم !!
ثم صرخت بقلب المجلس بحرقة:
-أنا واحدة ادبحت وخسرت أمها في ليلة واحدة!! تقدروا تقولولي المجلس بتاعكم هيعوضني كيف!!
ثم تقدمت خطوة وقالت بغلٍ:
-على الأقل الحكومة هتعدموا وتطفي ناري ، لكن أنتوا هتسقفلوا وتقولوا چدع ، يلا خُدها حلال عليـك .. تقدر تقولي لو بتك حُصل فيها اللي حُصل فيّ هتعمل أيه !!
فتدخل بكر ليشعل سوء الأمور :
-جنابك دي بتشكك في عدالاتكم وحكمتكم كل ديه عشان تكسر العُرف وتبرأ روحها ..
صرخت بوجهه :
-محدش غيرك عاوز كسر رقبته يا بكر ..
همس هيثم لأخيه :
-هارون ما تتكلم ، هياكلو البت ..
كان هادئًا يراقب الأمر بتريث ، يتذكر كلمات " ليلة" نظراتها ، وضع واحدة من أخوته موضع تلك الفتاة ففي لحظة توهجت حمرة الغضب بعينيه وقال بضيق:
-مش هينفعوا نسيبوا البت له يا هيثم .. اطمن .
تمسك بذراع أخيه بشغف:
-صُوح يا هارون !!
ثم احتد الحوار بالمجلس حتى صاحت رقية بالكل :
-بحق ربنا أنا مش ندمانة إني بلغت الحكومة لاني للاسف مش شايفة راچل دمه حامي على العرض والشرف ممكن ياخدلي حقي ..
انفعل أحد أقارب بكر بمجلس الشيوخ الخاص بهم و الذي يناصفه في فعلته :
-أنتي بت قليلة الرباية ، ولا عندك احترام أعراف ولا كبار .. وأنتِ إهنه عشان تنفذي حكم المجلس ورچلك فوق رقبتك ..
ثم نظر للشيخ الذي يكبرهم سنًا ومقامًا:
-احكم يا مولانا و ضع بالحسبان جرائمها المتعددة وأخرتها السب بالمجلس والتقليل منه ...
كاد أن يقف هلال ولكن سبقه هارون الذي يبغض ذلك الرجل كثيرًا ويقف خلف رقية ليلقي عليه نظرة ثاقبة ثم يقول معتذرًا :
-يا شيخنا اسمح لي بالكلام قبل ما تأذن .. الكل عارف إهنه أن مفيش قرار هياخده المجلس إلا لما يصدق عليه العمدة خليفة العزايزي وأنا النائب عنه دِلوق .. وبصراحة كنت مستني حكم المجلس الأول وبعديها اتكلم ..
ثم رمق بكر بتلك النظرة الساخطة وأكمل:
-لكن واضح أن الجاني خطط ونفذ وهو عارف هيعمل أيه زين .. وقبل أي حديت يتقال هل ذكر بكر إنه لما اتهجـم على بت عمه كان تحت السُكر والمخدر !! وده في حد ذاته جريمة كبيرة في حق أعرافنـا ...
هاج بكر معترضًا :
-كداب ..
ثم رمق الضحية بنظرة واحدة لتأمن وأتبع :
-لما رجالتي لقيوه في بيته القديم لقيو معاه قزايز بيرة وغيرها من المواد المخدرة.. وديه اللي خلاني أقول لراجل من رجالتي ياخدو عينة منه من غير ما يحس وودناها المعمل وثبت كلامي بالحرف والنون .. وأدي نتيجة التحليل ..
أخرج الورقة من جيبه ووضعها أمام الشيخ الكبيـر وأكمل :
-وبعدين لو چينا نتكلمو من منطوق العقـل ، إن في الحالة دي مش هينفع نطبقوا العرف لانها ناقصة .. هتسألني كيف ؛ هقولك ..
ثم تحرك حول مسرح الجانى مستغلًا دوره الأساسي كمحامٍ أولًا وقال بشموخٍ :
-لما العُرف نص على قاعدة چواز أي اتنين حصل مابينهم علاقة في الحرام ، الأهالي بتدخل ويلموا الموضوع ويچوزوهم ، والشرط الأساسي القبول بين الطرفين ، يعني اتنين رايدين بعض بس الظروف مش سامحة ، الأهالي رافضين .. ده مش يعفيهم من الحرام بس أبسط الحلول چوازهم لانه قايم على أهم سند وهو القبول بين الطرفين ..
ثم نظر لبكر بغلٍ :
-وده مش موچود غير في خيالك ، حضرتك شايف بنفسك الدكتورة رقية سبق ورفضته كام مرة وأخر مرة خدت عهد عليه من المجلس وهو محترمهوش ...
ثم رفع كفه وهو يعد الأخطاء :
-عندك سُكر ، ومخالفة أحكام المجلس ، والكذب ، وأخذ الضحية غدرًا وهي مغيبة عن الوعي تمامًا .. وده لا يتناسب مع أعراف ولا عدل يليق بالعزايزة ..
ثم دنى من رقية ليجهر بنفس صوت الحق وقال :
-ولو المجلس وافق على چوازهم بإكده هتبقى غابـة وكلنا وقفنا للمجرم وسقفلناله وقولناله شاطر .. ويبقى محدش يچي يلومنا بعد كام سنة لما النجع ديه يبقى مجازر ...
نهض الشيخ الذي يدعم بكر ليعارضه :
-كله حديت فارغ ، العرف ما يعرفش مكر المحاميين دهوت ، الكلام عندينا اي اتنين يتخلط دمهم ببعض يبقوا لبعض ..
لم يفكر هارون للحظـة ليُجيبـه بحدة :
-والدكتورة رقية اتعملها تنتضيف رحم بعد ساعة من وقوع الجريمة ، يعني مفيش أي حاجة ممكن تربطها ببكر إلا الدم والقصاص منه ...
تمتم هيثم بفخر بأخيه :
-يا وِلد اللعيبة يا هرن !! عليا النعمة عُقر ..
هدأت ضربات قلب رقية وهي تحدج هارون بإمتنان وعرفان على وقوفه بجوارها ، فقفل جفونه بهدوء كي تطمئن ولا يوجد داعٍ للقلق .. تدخل الشيخ الأكبر فيهم ونظر لأستاذ هلال :
-نسمعوا رأي الدين !!
فتدخل الآخر ليزيد الأمر سوءًا :
-شايف أن المجلس يحكم وبعدها نشوف رأي الدين في الحكم .. ولا أيه يا شيخنا ..
كانت هلال قد تحمس للدفاع عن رقية ولكنه تراجع إثر انصات الشيخ لمعرفة رأي الآخرين .. تفوه الأول المؤيـد لبكر بتحدٍ :
-شايف أن اللي حُصل حُصل والمشكلة هتنتهي بجوازة والموضوع خلصان وملهوش لازمة الحديت ...
بدّ الخوف على رقيـة وهي تمسك بقلبها وتنظر لهارون الواقف بجوارها ثم لهلال الذي أحمر وجهه من شدة الغضب ، فالتفت الجميـع لرأي الشيخ الثاني الذي قال:
-لو كسرنا العرف المرة دي، هنكسروا ألف عرف غيره ، كل الأدلة تدين بكر ، ولكن لأجل عرف قبيلة كاملة لازمًا حد يضحى ، وأنا من رأيي رقية تقبـل بزواجها من وِلد عمها لأن العرف معه من يوم ما ولدت ..
أمطرت سماء عينيها بفيض من العبرات وهي تستند على أحد الطاولات، فأتبع الثلاث قائلًا :
-أنا ضد چوازهم لان الاتنين مخطئين ، ومع طرد بكر من النجع والحكم بعدم زواج رقية مدى الحياة لانه لا يوجد أحد سيقبل بعارها وعشان يبقوا عبرة للكل .
أحمر وجه هارون بغضب لتلك الأحكام الجائرة فزفر ليجلس بجوار أخيـه هيثم بضيق ، وعلى الجهة الآخرى لقد نفذ صبر هلال وهو يسمع لحكم الشيخ الرابع وكبيرهم الذي نص قائلًا :
-وأنا أؤيد أول حكمين ومع زواج الاثنان ودفع كل منهما دية مخالفته للأعراف ..
ثم نظر لهلال آمرًا :
-يا مولانا جهز أوراقك لتكتب كتابهم الآن ..
انتقلت كل الأعين لهلال الذي لم يتحرك إنشًا لينفذ الأوامر ، ظل صامتًا لدقيقة وهو يستجمع نفسه لمواجه ذلك العنفوان الآدامي ، قفل دفتره ونزع جلبابه الأزهري ليهبط من فوق المنصة الخشبيـة الخاصة برجل الدين ويقف متجردًا من كل سماته الأزهرية مكتفيًا بجلبابه الأبيض ناصع البياض .. لم تتحمل رقية الوقوف أكثر من ذلك ونظرات بكر التي انهالت فوقها بظفر بل لجأت للجلوس على أقرب مقعد وهي تدعو ربها وأخذت تخر دموع عينيها بحرقة ، وقف هلال بصمود أمام الأربع شيوخ فنهره بكر وهو يتفاخر :
-يلا يا مولانا اكتب الكتاب وخلينا نخلصوا ..
تجاهل هلال سفهه وقال بخشوع وهو يذكر الآية القرانية ويرتلها على مسامعهما:
-قال الله في كتابه العزيز (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2))
ثم رفع رأسه ليواجه شيوخ المجلس وقال بصوته الذي يزلزل جدران المساجد :
-ربنا چل عُلاه أقام الحد على كُل من يقترف إثم الزنا ، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، يعني لم يقل زوجوه .. فبأي حق تآمروا بزواج مغتصب من فتاة كل ذنبها بالحياة أنها غابت عن الوعي ليواصل الذئب أكل لحم فريسته !!
ثم تقدم خطوتين وأكمل :
-بأي حق نتغاضى عن أمر الله في معاقبة السارق و المجرم مثله !!
فنظر لأخيه وأكمل بصوته المتحشرج بالبكاء :
-حضرة العمدة مقصرش وقدم كل الادلة اللي من المفترض يأخذها المجلس ليرأف بفتاة يتيمة مثلها ولكن يبدو أن الأعراف تغاضت عن أهم دور لها وهو الرأفة بالقلب ، سرنا نتبع أحكام ظالمة ونتحامى خلف مبدأ العرف الذي يحكمنا ، هو الأدرى بحياتنا، سرنا خلف كتاب وضعه البشر من معتقداته وتجاهلنا الكتب السماوية برحمتها ومبادئها !! تجاهلنا كلام المولى لنرفع صوت شخص ظالم يقف بظهر المستبد ويقهر المظلوم أكثر ..
ثم ألقى نظرة اشمئزاز على بكر الذي يأكله بعينيه وأتبع :
-وكلنا عارفين أن بكر متزوج .. وده بردك مشفعش للمسكينة اللي اتاخدت غدر ، ده القرآن بعظيم قدره ضاعف جزاة الشخص المحصن الذي يرتكب جريمة الزنا الرجم حد الموت، يعني الشخص المتزوج وارتكب فعل فاحش عذابه بقى الضعف عن الغير متزوج ، أما إهنه أحنا چايين نطبطبوا على كتف الچانى ونقوله تسلم يدك أعملها كل يوم وإحنا في ضهرك !! بل ملزم بدفع صداقها الذي نص عليه رسولنا الكريم ..
مال هارون على مسامع هيثم أخيـه متعجبًا من نفضة صوت هلال التي يتحدث بها :
-مال أخوك !!
ألقى هيثم نظرة عليه ثم على رقية التي تعلقت بطوق كلماته كأنه آخر حبل للنجاة :
-أنا شاكك في حاچة وشكل شكي هيطلع في محله..
رفع هارون حاجبه متهامسًا :
-هو أخوك رايدها !!
-باينله !! أنا عمري ما شوفته عيتحدتت بالحرقة دي !!
فـ رج الجدران نبرة صوت هلال الذي أكمل دفاعه عنها وهو يوبخ أحد المشايخ :
-ديه رأي الدين وكل الأديان السماوية اللي تجرم الفعل اللي قام به أفندينا ... وبالنسبة لرأي حضرتك اللي قولت فيه أنكم تطردوا بكر وتحكموا على اليتيمة دي بعدم زواجها مدى الحياة؛ كان على أي أساس تحرموها من حقها الشرعي في الحياة!! أنها چابت لكم العار !! أي عار عملته لمجرد أن قوتها مش كد قوة الذئب !! أي العار اللي هيعر بتك لو كلب قطع عليها الطريق ونهش في لحمها !! أي عار هذا !!
ثم هز رأسه متقبلًا فكرهم :
-عار حقًا .. وما ترونهُ عار أراه تأجًا فوق رأسي .. ولو شايفين أن رقية هتعركم فـ تزيدني أنا شرف !!
ثم انتقل ليجثـو تحت ركبتيها ويُطيل النظر بعينيها المغبرة بضباب الحزن ، سرحت عيناه التي تفيض بحبه الطاهر وهو يتأمل نقاء ملامحها ويترجاها في نفسه أن تقبل محاورًا عينيها الذابلة "لقد كُنتِ لـي شمسًا
فكيف أُخفي شُعاعكِ الساطع من عيني ! وكيف أبرهن لقسوة الشتاء أني أحترقُ دِفئًا
لأن الشمسَ تسكُن فُؤادي .. وكيف أقنع شمسك أن تنير حياتي مثلما أنارت قلبي !!"
ثم أخذ نفسه بعمق وقال بنبرته التي تبطنها التنهيدات المُلتاعة بحنان:
- رقية!! تقبلين بأن تكوني زوجتي على كتاب الله وسنة رسوله ؟!
لقد تتعافى الأبواب الخشبية حين تطرقها أيدي الأحبة .. تتعافى بالكامل .. صدحت الأصوات بقلب المجلس والجميع يعارض ويسب والأخر بكر الذي انفجر مدافعًا عن نفسه وعن جريمة هلال بكسر عرفهم، وثب هارون مشدوهًا لفعل أخيه حائرًا كيف عليه أن يتصرف، كيف يسحب السكين من تحت رقبته! كيف لهلال أن يلقى بنفسه في قعر النار، أمسك به هيثم بقلقٍ:
-يخربيت أمك يا هلال وده وقته !! هارون ألحق أخوك .. ده لو نجى من العزايزة مش هينجي من صفية..
من أين جئت بكل هذا الوهج والبشاشة، وكيف أتيت؟ بخطواتك الثابتة والصادقة، كأنك نجمةً سقطت من سماء الله، في صدري..تجاهل الثنائي كل الصخب الذي يعُمهم وسبحت النظرات في وديان الحُب النابت بينهم، ارتعد قلب رقية وهي تنكمش بالمقعد وتحك يديها ببعضهما بارتباك وانفاس عالية يقطعها دمع العين ، ما زالت عينيه تلمع وتدمع بطلبها ليقول مترجيًا :
-أقبلي ووعد عليّ ليوم الدين ما هخلي عِنيك تشوف إلا دموع الفرح ..
تحاشت النظر له وهي ترتجف وتولى وجهها بعيدًا عنه رافضة شعوره بالشفقة عليها ، رافضة أن تنسب له عارًا مثل هذا ، استكثرت وجوده عليها .. صاح بكر معلنا :
-وه وه وه ، هي الحدوتة إكده ..ولاد العزايزي مطبخينها .
لتكمل أمه بنفس الدناءة :
-شايف بعينك يا شيخنـا !! شايف البجاحة ، يبقى الكلام المتذاع في البلد صوح ، والبت مقصوفة الرقبة دي ماشية على حل شعرها مع اللي اسمه الشيخ هِلال.. وولدي عشان صان عِرضه عاوزين تحبسووه .. ملعوبكم اتكشف يا عمده
فابتع بكر ببخ سُمه بالمكان :
-حاميها حراميها ، تعالوا شوفوا اللي انتوا مخلينهم كبارات البلد ، چايين يكسروا العُرف هما أول ناس .. بعد كام سنة مش هيبقى فيه عزايزة...
فأكملت أمه :
-عاوز يتچوز واحدة عدم اللامؤاخذة انكشفت على رچل غيره ، احمينا يارب من الفضايح..
وقف هارون بوجهه محذرًا :
-حط لسانك چوة خشمك وإلا ورب الكعبة ادفنك مُطرحك ..
أحيانا لا يريد البشر سماع الحقيقة، لأنهم لا يريدون رؤية أوهامهم ومعتقداتهم تتحطم .. ثم جهر بوجه الكُل ليتحدى الجميع :
-مالكم سانين السكاكين ليه على واحد طلبها قصاد الكُل على سنة الله ورسوله !! ولا أنتو غاويين تطبيل للحرام !!
ثم نظر لمجلس المشايخ قائلًا :
-الضرورات تبيح المحظورات ، بالبلدي الممنوع شرعًا يباح عند الضرورة .. والخسيس في نجعي ملهوش عندي ديـة واللي يخالف شرع ربنا مايلزمنيش ، ولو المجلس هيظلم ومش هيحكم بشرع ربنـا كيف ما الشيخ هلال وضح ، يبقى فعلا اعتبروني مستغني عن العُمدية دي ...
ثم كلم كبيرهم :
-الكل غلط بما فيهم بكر ورقية بسبب بلاغها للحكومة ، بس مش هنصلحو جريمة بجريمة أكبر منيها .. وشايف الأمر في أيدين الفتاة اللي وصانا عليها النبي .. ومن حقها تقبل أو ترفض ومن حقها متتچوزش من أصلو .. ولو قالت موافقة بوِلد عمها الشيخ هلال مُلزم يكتب كتابهم وانا أول شاهد !!!
صعق صوت هارون بالمجلس ليخرس كل الألسن رغم اقتناعه من الداخل بأن ما يفعله خطأ كبير وحرب آخرى يقدم لها أخيه قربانًا ولكنه لم يتخلى عن هلال بذلك الموقف، تجاهل الشيخ الكبير همهمات المشايخ بجواره لينظر لرقيـة ويكرر سؤاله :
-ما رأيك يا بتي ؟! تتزوجين بهلال العزايزي أم ببكر فياض .. القرار بين يديكِ والمجلس سيصدق عليه الآن .. وذلك أو انحراف عن عرفنا ولكنا مثلما قال حضرة العمدة الضرورات تبيح المحظورات.
اختبار أصعب وضعت فيه بين قلبها وعقلها ، فكيف تورط هلال معها بهذه المصيبة الشنيعة ، أخذت تتذكر حديث أمها المتكرر عن هلال وكأنها كانت وصاياها قبل الموت وكأن دعوات أمها ساقته إليها بطريقة لم تخطر على ذهن بشر ، كيف ستعيش أن رفضت عرضه بمفردها بالحياة كيف سنتجو من شبح الوحدة كل ليلة !! ولكن كيف ستسامح نفسها على ظلمها له !! كي تنجو من نظرات الشفقة التي ستراها بعينيه !! حسمت قرارها برفض الاثنين وعدم قبولها لأي احد، كان هلال واقفًا بجوار أخيه منتظرًا قرارها فدنى منها هيثم متوسلًا :
-رقية وافقي ، ووعد تبقى أختنا التالتة وتنوري بيتنا .. رقية محدش هيقدر يحميكي منه غيرنا ..
سالت الدموع من مقلتيها وهي تهز رأسها يمينًا ويسارًا حيث تعثرت بنظرات هلال الدامعـة التي تترجاها ، اتفق كل إنش بجسدها على الرفض إلا أن جاء منطوق اللسان مخالف لإرادة المرء وجاءت إرادة المولى لتحقق كل شيء مستحيل ، فبدلًا من قولها لا وهي تحرك رأسها نفيًا والعبرات تسيل منها وتنظر لهلال بجسد يرتعش على فوهة بركان الحيرة قالت بصوت مهزوز :
-قبلت .......
في تلك اللحظة هجمت قوات الشرطة على المكان والأسلحة مرفوعة في وجه كل من يعارضهـا ليصيح شريف بنبرته النهاية :
-قولوا لرجالتكم ينزلوا سلاحهم ، أنتوا مش أد حربكم مع الحكومة ..
تقدم هارون بوجهه :
-أنت أيه عرفك أن بكر إهنه!!
رد شريف ساخرًا :
-أنا ظابط مباحث مش جاي ألعب طاولة ..
ثم أمر العسكري مشيرًا لبكر الذي يحتمي بمشايخ المجلس :
-هات يابني الزفت ده ....
في تلك اللحظة باغتهم بكر جميعًا ليقفز من النافذة خلف منصة المجلس ويهرب من الجميع والكل يلاحقه محاولًا الامساك بهِ ، نظر هيثم لهلال ليصيح :
-وِلد المدهوك هرب ياهارون .. بس هنجيبوه ..
فنظر هلال للشيخ قائلًا :
-عقد القرآن يا مولانا ..
ثم رمق رقية المرمية بحضن خالتها وقال بلطف:
-أصلو هرب ؛ ولابد أن تكونين بمكان آمن كي لا يطولك شره .
فأكمل هيثم مرحبًا :
-وطبعا مفيش أمان كد حضن الشيخ هلال قصدي حصن قصر العزايزة ..
أيده هلال:
-أنار الله وجهك وصح لسانك يا أخ هيثم ..
-وحياتك يا أخ هلال والله .. وو
ثم مال على مسامع أخيه متنبئًا :
-صفية هتزفنا زفة الانچليزي في العشة..
مشهد ختام:
فالطير لا يعود إلا لغصنٍ يألفه و يرتاح له ، وهكذا هو حال القلوب المألوفة ، فكان قلب هلال هو الطير الذي اختلس غصنًا يأمنه من بين الزحام وكأنها كانت الفرصة الوحيدة لاجتماعهما ..
••••••••••••
~بقطـر اسكندرية للصعيد ..
-مالك يا حج خليـفة من ساعة من كنا عند الضكتورة دي وأنت سئمان ! هي قالت لك عنديك أيه ؟!
أردف الرجـل سؤاله على آذان الحج خليفة الذي شكك في أقول الطبيبة ولكنه أوهمها بحزنه العميق إثر ما قاله ، فعند نزوله من عياداتها أمر رجل ممن معه قائلًا له سرًا
-عاوزك تروح تغير الچلابية دي وتلبس بحراوي كيفهم وعينك متندلاش عن الضكتورة دي..
ثم عاد لسؤال الرجل الذي عاد معه وقال :
-قالت كتيـر وياريتها ما قالت ..
ثم تنهد ليغير مجرى الحديث وقال :
-هاتلنا حاچة ناكلوها لسه مشوارنا مطول ...
~بالعيادة
-إلحقني يا رشيدي !! بتصل بشريف ما بيردش عليا ، مصيبة..
اعتدل رشدي من نومته وهو يتأكد من عدم وجود أميرة زوجته بالغرفة ليقفل بابها بأحكام :
-خير يا نادية ؟! حصل ايه
ردت بتوتر بعد ما أمرت المساعدة الخاصة بها أن تلغي كافة المواعيد:
-أنا عرفت أهل ليلة الحقيقيين ..
ثم مسحت على شعرها بفزعٍ وهي تقص له :
-رجل عجوز صعيدي جيه ، جيه يسال عن رفعت الجوهري وقال كان معاه بنت صغيرة
تلهف رشدي لردها وهو يسالها:
-وأنتٍ قولتي له ايه ؟
-اتوترت وحاولت امسك نفسي قدامه وقولتله البنت ماتت وو
حياها رشدي عما فعلت وأنها أحسنت التصرف ، فأتبعت نادية بتوجس:
-مش دي المصيبة ، المصيبة أن الرجل ده هو نفسه اللي ليلة قاعدة عندهم في البيت ، بيت خليفة العزايزي أيوة صح نفس الاسم ليلة قالته وابنه البلطجي اللي اسمه هارون ... هتجنن يا رشدي وبكلم ابنك مش بيرد ، ليلة لازم ترجع من هناك حالًا ...
-العزايزة !! اللي كان بيتكلم عنهم شريف ؟!
فكر رشدي بالأمر ويتساءل:
-استنى بس !! والرجل ده عرف أزاي عنوانك و اشمعنا الوقت اللي لليلة راحت فيه هناك !!
ثم قفز من مجلسه ليقول:
-نادية أنا جاي لك ، في حاجة غلط....
•••••••••••••
~ بقصـر العزايـزة .
-" عمة صفيـة ، أنا والبنات خلينا اوضة الشيخ هلال تُبرق من النضافة ، وبخرتهاله بنفسي عقبال ما انضفاله يومه فرحه "
جاءت زينة لتنضم لمجلس صفية وأحلام وليلة التي تجلس ملاصقة فيها وتبادلها الحديث المتهامس يبدو أن بين تلك الصبية وهذه العجوز أسرارًا كثيرة ، فمالت أحلام على مسامع ليلة لتقول لها :
-ما تكلمي الحچ خليفة نشوفوه فين ، قلبي واكلني عليه ..
ضحكت ليلة ببراءة وهي تناديها كما طلبت منها أحلام ، أن تقول اسمها بدون ألقاب:
-أحلام دي خامس مرة نكلمه هيزهق مننا ..
ثم وشوشت لها :
-وبعدين طنت صفية ممكن تغير ، ولا تتحسدوا ، مش معقولة يعني أنا اللي هقول لك كده .
قرصتها بذراعها مؤيدة حديثها:
-يسلم فومك .. خلاص بلاش لما ندخلوا الأوضـة چوة ابقى نكلموه ....
تناولت زينة طبق البامية من عمتها وشرعت بتقليمها بدلًا منها فدعت لها صفية :
-روحي يا بتي اللهي يسترك و يديكي الصحة ، يدي وچعتني من الصبح ..
لوحت زينة بكفوفها التي تملأها الأساور الذهيبة وقالت :
-دانا بس اتچوز هارون ومش هخليكي تقِلي ورقة مع على الأرض يا صفصف ..
ثم رمقـت ليلة بمكر انثوي :
-ألا قوليلي يا عمة ، هارون عيحب ياكل أيه عشان اطبخوله بيدي ..
ردت صفية التي تفرد ساقها فوق الاريكة :
-كل نعم ربنا عياكلها ..ماعيقولش لا لحاچة واصل ..
-بس آكيد لازمًا تكون له وكلة قريبة من القلب إكده ، تخليني أعشش بيها چوة قلبه..
فتدخلت ليلة التي لم تستطع الصمت على حماقتها :
-هو لازم عشان يحبك تكوني بتعرفي تعملي أكل؟! كده يبقى مش بيحب بالعكس واخدك مصلحة ..
تمايلت زينة وهي ترد عليها :
-أقرب طريق لقلب الرجل معدته .. اطبخيله هيحبك ..
بادرت ليلة وهي تقول بعفويتها:
-غلط اقرب طريق لقلب الرجل الرقص .. ارقصيله وهيحبك أكتر ..
حركت صفية شفتها بسخرية :
-وأنتِ ومسلوعة إكده هتعرفي تهزي !! بلا خيبة ..
ردت ليلة بعفوية:
-منا معرفش أصلا ، بس ناوية اخد كلاس رقص وهتعلم ..
مالت أحلام لتقاسم الضحك مع ليلة التي استخدمت أحد جمل جوري صديقتها لتنافس دهاء زينة ، فوشوشت لها أحلام:
-يحظك يا ليلة .. بس عتقول كلام صوح ..اتعلمي يا زينة .
وضعت زينة ساق فوق الآخرى :
-منا طبعا هرقص له ، لكن لازمًا لقمة طرية تنزل جوفه ولا هنشفوا معدة الراچل !!
فتدخلت صفية في حديثهم لتساءل ليلة:
-وأنتِ يا غندورة على إكده بتعرفي تطبخي ولا فالحة في الذواقة والعياقة وبس !!
نظرت لأحلام لتستفهم منها معنى السؤال :
-لا يا طنت أنا مش بعرف اطبخ خالص ..بس ناوية اتعلم ان شاء الله ..
ردت صفية بسخرية :
-كمان!! ابقى قابليني .. يكون في عون اللي هيتچوزك ..أمه داعية عليـه .
تأرجحت عينيها بحيرة :
-هو أنا هعذبه ولا أيه ياطنت !! بالعكس ده مامته بتحب جدًا وبتدعي له ليل نهار ..
همست لها أحلام :
-سيبك منيها ، الوكل ملحوق عليه .. لكن الدلع مش لأي واحدة ، وأنتِ الدلع كله يا ليلة .
هبت بسعادة إثر مبالغة أحلام في وصفها لتقول بفرحة :
-بجد !! أحلام، أنا ممكن أبوسك صح ....
ظل الحديث متبادل بينهم بين الضحك والهزار ووقوف أحلام بصف ليلة دايمًا ، فجأة اقتحم هارون مجلسهم وهو يحمل لهيب غضبه وينشره بالمكان ليقف أمام "ليلة" مشيرًا بسبابته بعد ما أخبره هاشم بما فعلته ليلة ونشرها للخبر :
-اسمعي يابت الناس ، تلمي خلجاتك وتعاودي على بلدكم ، وتبوسي يدك وش وضهر أني سايبك تطلعي على رچلك ....
وقِيل:
أن الغربةُ لا تقتصر على الفراق؛ بل تجدُ نفسَك غريبًّا بتغيُّرِ النفوسِ عليك، وبجَفوةِ الكلامِ بعد لِينِه، وبالتجهُّم بعدَ البشاشة .. بهتت ملامح ليلة التي تراقب ذلك الشخص الثائر بوجهها والذي لم تتوقع هذا التصرف منه أبدًا لتقول بأعين دامعة:
-أنا عملت أيه ؟!
يتبع
********
💫 الآصرة الثانية والعشرون 💫
قد يحدث ويتركك الجميع بدون سابق إنذار ..
وتتقبل الأمر بقلب مؤمن يؤكد لك لو كان خيرًا لبقى ..
وقد تُغادرك كل الأشياء التي أحببتها..
فتصبر وتحتسب وتعلق خيبتك على شماعة النصيب ..
وتستمر الحياة و لا تبالي ولن تلتفت للخلف كأن ما تسرب من حياتك مجرد حبات رملية لا أكثر ؛ ولكن عندما حلت الطعنة الكبرى منك ، أنتَ الذي انحصرت معالم الحياة برُمتها بكونه هنا معي !! و من حينها و أنا فارغ تمامًا فارغٌ وأكثر وحشةً من باب بيتٍ مهجور يخشى العنكبوت أن يسكنـه …
كنت راضيـة بكافة الهزائم وشتى الخسائر إلا أنت .. يا ليتك بقيت وبقي ما بيننا لآخر العُمر …
ولكن لم يتبقى لي منك إلا الحسرة والكثير من الشوق ..
#نهال_مصطفى .
••••••••••••
((كُل إنسان مرسوم على وجهه حِملُه))
وقِيل:
أن الغربةُ لا تقتصر على الفراق؛ بل تجدُ نفسَك غريبًّا بتغيُّرِ النفوسِ عليك، وبجَفوةِ الكلامِ بعد لِينِه، وبالتجهُّم بعدَ البشاشة .. بهتت ملامح ليلة التي تراقب ذلك الشخص الثائر بوجهها والذي لم تتوقع هذا التصرف منه أبدًا لتقول بأعين دامعة:
-أنا عملت أيه ؟!
أصابت الرعشات جسدها الذي يصارع المرض ويحارب تخلصه من الأدوية السامة التي تقتل كل خليه بـه لتكرر سؤالها بصورة أكثر خوفًا عندما تعرقلت بنظراته التي تأكلها :
-ماتبصليش كده !! أنا معملتش حاجة والله ، آكيد أنت فاهم غلط ..
تدخلت أحلام بينهما :
-حصل أيه يا هارون يا ولدي ، مالك بيها !
ما زال محافظًا على هيئته الثائرة التي لم تلتفت لحالة الذعر التي بدأت تركض على ملامحها :
-بدأنا في الكِدب ؛ يعني متعرفيش عملتي ايه ؟!! عملتي اللي چيتي عشانهُ !!
ثم نظر لأحلام التي تربت على كتفه وأكمل بحرقة على خداعـه بها :
-الاستاذة سربت خبر اللي حُصل لرقية في الجرانين و البچاحة كاتبـة اسمها على الخبر !!
نزلت الصاعقة على رأسها محاولة استيعاب ما قاله وما اتهمها به وهي لم تقترف ذنبًا ، اقتربت منه بصوت متحشرج وهي تجلي حلقها :
-أنا مش فاهمة أي حاجة !! خبر أيه وأنا هعمل كده ليـه أصلًا !!
ثم تمسكت برأسهـا التي ضربها الصداع بقوة وأغرورقت عينيها بالعبرات :
-أنا معملتش حاجة والله !!أنا مش بكذب عليك ..
وقف كالثور الطائح بكل ما يقابله جاهرًا بصوت ارتعدت له الجدران وهو يفتح هاتفه ليوريها المقال :
-واسم ليلة سامح الجوهري اللي مغرق المقالات !!! الحركات دي تعمليها على حد غيري ولحدت إهنه يا بت الناس مالكيش عيش في بيتي ..وشوفي وكل عيشك بعيد عنينا.
تدخلت صفية التي تعول فوق رأسها :
-وه يا بتي نمدولك يدنا ونفتحولك بيتنا وأنت تفضحينا .. ديه آخر الزمان !!
فأكملت زينة التي تعشق موالد اللطم :
-قولت لك دي كهينة يا عمة محدش صدقني !!أهي چابت وحطت على روسنـا .
ثم نظرت لهارون الذي رق قلبـه وأكملت :
-هارون دي لازمًا نتاويها في الچبل ، دي خاينة .. ملهاش عيش في دوارنا .
جرى صدى صوت اسمها بمسامع أحلام التي ردت اسم الجوهري كثيرًا وظلت تتأمل بربط الصلة بينها وبين " رفعت الجوهري " غاصت في دوامة فكرها ،جاء هيثم راكضًا بعد ما اطلع على الحدث وما وقع عليهما ليقف بصف ليلة التي أحس بأن هناك شيء مبهم ورائه ، جاء راكضًا من الخلف ممسكًا بكتف أخيه :
-هارون ما يمكن حركة من بتوع شريف أبو العلا .. نجس ويعملها .
ولكن ليلة التي غرس الخوف أنيابه بين خلاياها العصبية وهي تخر دموع عينيها لتقف مدافعة عن نفسها بنبرتها المهزوزة وهي تعطي له هاتفه بعد إطلاعها على المقال :
-أنا لو عايزة أعمل كده وأشهر بيكم في الجرايد زي مابتقول ، مش هعمل كده وأنا قاعدة لسه في بيتك !! وبعدين هعمل كده ازاي وأنا اللي اترجيتك عشان تقف مع المسكينة دي !!معقولة هقوم افضحها !!
ثم تلعثمت قطرات الدمع التي رسيت على حواف ثغرها وهي تلوح بكفها المرتعش وأكملت :
-لو هعمل كده مش هكتب اسمي على المقال !! وانا لو كنت عايزة اشهر بيك زي ما بتقول كنت سربت خبر أنكم بتاجروا في الآثار للدنيا كلها، لكن أنا طلعت هبلة وكنت هودي نفسي في داهية عشانك ..
ثم كفكفت عبراتها بهستيريا وهي لا ترى إلا ضباب أمامهـا :
-ومتقلقش يا هارون بيـه أنا ماشية ، ومش هتشوف وشي تاني ..
ثم ترجته بعينيها المحمرة وقالت بهمس يخاطب عينيه وحده :
-بس أنا والله معملتش كده .. ومش أنا اللي أخون ناس أكلت في بيتهم عيش وملح .
تشبثت أحلام بكفها وكأن قلبها أوحى لها بأنها عثرت عما تبحث عنه طوال الأعوام الماضية لتهون العيش على زوجها الذي كان يحمل وزرها عمرًا .. وواجهت هارون :
-ليلة مش هتمشي يا هارون ، وهي ضيفة خليفة العزايزي ، لما يرجع أبقا يحكم بنفسه ..
نبتت زهور الرقة بقلبه ولكن حشتها خناجر تمرده التي لا تود أن تشفق عليها خوفًا من عاقبة قلبه وراء انسياقه لحديثها يكفي أنها شجعته يقف بوجـه أعرافهم لأول مرة بحياته .. تزحزحت عينيها عنه وهي تتطلع لأحلام بخزى :
-أنا ماشية يا طنت .. ملهوش لزوم .
تدخلت زينة بحنق وهي تربت على كتف هارون بشماتة :
-عين العقل يا عمدة ، من يوم ما چات وأنا أقول لك البت دي مفيش من تحت راسها عمار .. وو
حدجها هارون بحدة :
-مش عاوز أسمع ولا كلمة ..اكتمي يا زينة .
فعارضه هيثم :
-هارون، ما ينفعش .. دي ضيفة يا أخي ؟؟
صرخ بوجه أخيه وهو يتحاشى النظر إليهـا :
-هيثم ، كلمتي اتقالت ومحدش هيكسرها ، تقعدش في بيتي ساعة زيادة ..
كيف يكون المرء سببًا في إنقاذِ أحدِهم من ضياعِ النفسِ، وكلالةِ الروحِ وتقديم وسام العيش وفجأة يجعله يتجرع السُم بدون رحمة ليقضي على كل ما قدمه ، كيف !!
دب خنجر إهانته لها بصميم قلبها فقسمه لنصفين ، حُجبت الرؤية أمامها فلا ترى إلا أمواج متحركة وصوت صاخب يضرب برأسها ، اختل اتزانها وضعفت قواها ومع أول خطوة لها لتغادر موطن ذُلها من أمامه تراقصت جفونها السابحة في بِركة الدمع لتسقط متغيبة عن وعيها فكانت يديه أول الأيدي التي تلقتها قبل أن يرتطم جسدها بالأرض .. ألتهمها ذراعه من خصرها تحت صراخ أصوات النسوة حوله فحملها بدون تفكيـر وركض بها نحو غرفة أحلام بقلب يلهج خوفًا ، لحقت بهِ هيام التي جاءت على أصواتهم المرتفعة ثم هيثم ثم لحقت بهم أحلام التي تسير بخطوات عرجاء .. ولت زينة لعمتها بغل :
-شايفة الكهن يا عمتي !! هي اتعودت على اللفح ولا ايه حكايتها دِّي !! شوفتي ولدك اتلقاها كييف على قلبه هو مش لساته كارشها !!
صرخت صفية بوجهها :
-خفي نغج يا زينة ، راسي فيها اللي مكفيها بعد اللي عملتو البت دي !! خلت سيرتنا على كل لسان … وياعالم مخبية أيه تاني؟!
ضربت زينة على فخذها بغيظ :
-وربنا المعبود البت دي قدمها نحس و چاية وناوية على خراب وابقي قولي زينة قالتها ياعمة ….
صاحت صفية بغلب :
-يكش تموت وتچيبلنـا نصيـبة هي التانية قوليلو يمشيها ونخلصوا …
وصل هارون لسريـر " أحلام " وهو يصرخ بهيثم أن يهاتف الطبيب على الفور ، انحنى ليضعها بمكانها وهو يلهث من شدة الخوف عما أصابها ويعاتب نفسه عن انفعاله بوجهها وإهانته .. انسحب ذراعها من حول رقبته ببطء وكل جزء بها ثابت إلا انهيار وادٍ العين المنجرف على خديها، وقعت عيناه على رقة ملامحها النائمة فنهشت قلبـه ندمًا وعتبًا ، جلست هيام بالناحية الآخرى وهي تتحسس وجهها وكفوفها لتقول :
-هارون دي چسمها متلچ !!
شد الغطاء فوقها فساعدته هيام ، ثم أمرها :
-هاتي غطى تاني من الدِلاب عندك ..
جاء هيثم راكضًا وهو يقول :
-عمار قال ادوها من الدوا اللي كتبه لحدت ما يچي ..
ألقى هارون نظرة شفقة على ملاكه النائم الذي استقوى عليه اليوم وهذا آخر ما كان يتوقعه أن يصدر منه لها ، في معجم الصمت كل نظرة نحو الألم تعادل صرخة ، جهر بوجه هيثم آمرًا :
-كلم أخوك هاشم واعرف لي مين ورا الخبر ديه يا هيثم ..
وبخه بضيق :
-ما كان من اللول ، ولا هي جعجعة وخلاص !!
انضمت أحلام لموقفهم لتُطيل النظر بعيني هارون التي تُبحر ندمًا وتقول بيقين وهي تربت على كتفه :
-البت غلبانة ومتعملهاش يا ولدي !! اسمع من أحلام .
اكتفى بقوله :
-خلي بالك منيها يا أحلام لحدت ما الداكتور يچي ..
ثم هرب من سطو نظرات أحلام التي تفضح أسراره المدفونة قبل أن يعرفها هو عن نفسـه ، تابعه هيثم وهو يوصي هيام :
-لما تفوق كلميني …
فنظر لأحلام بحنق :
-بذمتك قده البت الغلبانة دي عشان يخش فيها زي القطر إكده .. قده يا أحلام وقد هباته وچُعارته !!!
ردت أحلام مغلوبة على أمرها :
-ساعة شيطان يا حبيبي ، روح استعچل الداكتور البت حالها يقطع القلب ..
ولن أجنِ بحياتي ذنبًا إلا أنَّي ذو سُلطان
وأنَّكَ لي دُونَ الأنام مُحرمًا !
إعذرن ذلي وزلاتي فالخطأ في عرفي لا يرحمُ ..
بحزن لا يشبه الغيـم ، يحترف فيه البكاء بدون دمع وهو يعض على قلبه ندمًا إثر تهوره واندفاعه بوجهها دون تيقنه ، ربما لأن الصدمة لم تمهله فرصة للتفكير ، أو ربما كان عقله يحتج له كي يتخلص من وجودها قبل تورطه فيها وفي عينيها ، خرج لحديقة منزله وهو يتشاجـر مع طوب الأرض ويركله هنا وهناك ويقبض على جمر الذنب كمن بقلبه النار وبفمه الوقود وهو يحترق بينهما …..
•••••••••
فرغ هِلال من إجراءات عقد قرآنه بواسطة شيخه الأكبر ومُعلمه ، تكفل كبير المشايخ بوكالة العروس ليجوزها له في ظل وجود الحكومة التي شلت كلمة المجلس ، وفي ظل هروب بكر الذي لم يعثروا عليه حتى الآن .. فجميع السُبل هيئت العروسين لبعضهما ..
أصرت رقية أن تعود لمنزلهـا رافضـة أمر الذهاب مع هلال وأهله ، فأطاع أمرها بهدوء في ظل المجلس بعد ما أكد على أخوته بألا يخبرون أهل بيته الآن .. وصل الجميـع لبيت أبيها وتحرر هلال من قيد التطلع لها بحرية فالآن أصبحت زوجته وملكه ولا تخص أحد غيره ..
جلست رقية على الأريكة وهي تتحاشى النظر نهائيًا لهلال الذي لم يخجل لإطالة النظر إليهـا .. اقتربت خالتها منها وهي تحدثها بحنو :
-يابتي الله يهديكي ، قومي روحي مع چوزك ، هتقعدي لروحك إهنه كيف !!
فأكملت هاجر :
-حبيبتي ، قومي نروحوا بيتنا وأنت هتقعدي في أوضتي متخافيش وكُلها يومين وهنرجعوا أسيوط ، لكن قُعادك لروحك إهنه غلط عليكي ..
أصرت على موقفها والدمع يتقطر من مُقلتيها :
-أنا مش هسيب بيت أبوي يا هاجر .. وو
ثم رفعت جفونها لهلال الواقف كالحصن المنيع بوجهها وأكملت بارتباك :
-ووافقت على چوازي بس لغاية الغُمة دي ما تنزاح ، أنا مش هقدر أقف بطولي وو بس لكل شيء له آخر ..
عقد ذراعيه وراء ظهره بهدوء متقبلًا تلميحاتها الثقيلة بسعة صدر وقال بنبرة حازمة :
-هاجر خدي خالتك أم بدر وأطلعوا هاتوا حاجات رقية من فوق ..
وقفت رقية بوجهه لتعارضه بنبرة مدبوحة تحمل التمرد والترمد في جمر الحزن :
-أنا مش هروح لحتـة قُلت ..
رفع حاجبه بتريث ليحدثها بالعربية واللغة المقربة لقلبه كأنه يعلن بكناية ما عن درجة قربها له :
-حسنًا ؛ سنبقى هنـا .
ثم نظر لهاجر وخالتها بنظرة ثاقبة وهو يمد لها مفتاح السيارة :
-هاجر خدي أم بدر وخلي حد يوصلكم للبيت.
ثم رمق رقية بتلك النظرة الحاسمة :
-على أي حال ؛ أنا لا أفارق زوجتي ..
تأرجحت عيني هاجر التي تكتم الضحك الغير مناسب للوقف وهي تهمس لنفسها سرًا من وراء أناملها الموضوعة على شِدقها :
-فينك يا صفيـة تشوفي الهنا اللي أنا فيه …
انفجرت رقية بوجهه بارتباك واضح :
-كييف يعني !! أنا وأنت نقعدوا بروحنا !! مستحيل ..
ثم تلعثمت الكلمات بحلقها :
-شيخ هلال ؛ لازمًا تعرف أن الوضع ديه مؤقت ،فبلاش تعيش في الدور ..
ثم نظرت لهاجـر وقالت بضيق وهي تزيح عبرات حزنها :
-هاچر خدي أخوكي وروحي أنا اللي فيّ مكفيني والله ما قادرة أناهد قباله ..
كادت هاجر أن تتحدث فابتلعت كلمتها إثر نظرة أخيها الحادة وهو يرفع سبابته لينهي الأمر ويناديها باسمها رافعًا تكليفها بـ لقب الأخت :
-رقية ؛ هناك أمران ليس لهما ثالث ..
ثم تقدم منها خطوة وهو يفترس ملامحها الحزينة والتي يود أن يضمها ليهون عليها عناء ما مرت به :
-أما تيچي معاي على بيتي ، يا أما هاجر وخالتك هيمشوا ومحدش هيقعد معاكي غيري ..
انفجرت بوجهه وهي تتأهب للبكاء معاتبة :
-أنا اتچوزتك عشان الحِمل يخف من فوق قلبي مش تزوده ..
-الحِمل وصاحبته مسئوليتي لا تتدخلين بالأمر ..
اتسع بؤبؤ عيني هاجر التي تراقب أخيها في ثوبه الجديد فأرسلت له نظرة ضاحكة وساخرة على أمره فاستقبلها بنظرة حادة من عينيه أخرستها وملئتها رعبًا لتقول بقلق:
-فضينـا عاد يا رقية متعصبهوش ، يا تيچي ، يا يقعد .. شيخنا خُلق ضيق وما عيحبش المناهدة ..
تدخلت خالتها متوسلة وهي تربت على كتفها :
-أنا حاسة بوچعك يا حبيبتي ، بس الشيخ هلال چوزك وهو الأولى بيكي عن أي حد .. روحي بيت چوزك يا حبيبتي وهدي سرك وريحي قلبي وقلب أمك في تُربتها ..
كلمة " زوجك " التي اندلعت من فم الخالة بعفوية أصابت قلوبهما في مقتل ، كل واحد منهم نظر للآخر بنظرات عجيبة لا يدركها عقل بشري ولكن ثمة لغة القلوب التي تجمع أحبتها بطرق لا يتقبلها عقل ولا منطق ، حرك هلال كتفيه متحمحمًا :
-أنا في العربية .. ساعديها يا هاجر وقفلوا البيت زين …
بعد محاولات عديدة من التوسلات والكثير من البكاء آخيرًا اقنعت هاجر صديقتها بالمجئ معهم للبيت ، لملمت حقيبة ملابسها بفتور وهي تودع أرجاء منزل أبيها الذي لا تطيقه بدون صوت أمهـا وهي تتقطع في صمت وهبطت مع هاجـر لهلال الذي ينتظرهم بالسيارة .. ما أن رأهم من فتحة الباب منع الخفير أن يقترب منهم ونزل بنفسه ليحمل لها الحقيبة ويضعها بمؤخرة السيارة .. ودعت رقية أرجاء بيتهم بأعين محزنـة ، انتظر هلال صعودها لسيارته تحت حقل النظرات المتطايرة .. سألتها هاجر بهدوء وهى تغمز لأخيها الواقف بثبات :
-تحبي تقعدي فين !! أقعدي من قِدام ؛ أصلو الكرسي القدماني بيوچع لي ضهري وو
مدت رقية كفها لتفـتح الباب الخلفي بصمت وتجلس بالخلف بمكانها القديم ، فأشار هلال لأخته أن تدعها على راحتها .. تحمحم بخفوت وهو يستقل السيارة ويطلب من الخفير أن يوصل خالتها لقعر دارها .. ما استقل سيارته وهو يرتل بعض الأدعيـة ثم شغل المسجل الصوتي على سورة " يوسف " بصوت عذب وضبط المرآة الأمامية على صورتها ليطمئن عليها طول طريقهم .. كان الطريق قرابة الربع ساعة بين المنزليـن والتي اغتنم فيها هلال النظرات بعدد ثوانٍ المسافـة الفاصلة .. وفي ظل السكينة والهدوء الذي يُعم طريقهم والخالي من مزاح هاجر الذي لا يتناسب مع الظرف الواقع عليهما فلجأت للصمت مكتفية بمراقبة النظرات .. فجأة فزعن الفتيات إثر صوت قوي تسرب لقلبهن بسبب طفل صغيـر قام بإلقاء حجرًا على سيارة هلال فشُرخ زجاجها ..
صف هلال سيارته بعجل ليرى ماذا حدث فجاة ، نزل للطفل الذي عاتبه قائلًا :
-ليه كده !!
لم يهابه الطفل صاحب العشر سنوات وهو يقول :
-أمي قالت اللي يكسر العرف نكسروله راسه ، وأنت كسرت أعرافنا .. يبقى أنت مالكش عيش وسطينا ..
استعان على صبره فهو يعلم جيدًا ما سيواجهه الأيام المُقبلة وجثا على ركبتيه لمستوى الطفل :
-ألا يُعلمنا رسولنا أن الضرورات تبيح المحظورات ، بمعنى لو كنت تايه في صحرا ومش معاك أي مية تشربها ومفيش قصادك غير كاس خمر وانت هتموت من العطش خلاص مش قادر !! هل لو شربته تبقى أنتَ مذنب !!
اتسعت حدقة عين الطفل محاولًا استيعاب ما يقوله استاذه ، فربت هلال على كتفه وقال :
-كلا ؛ فهو معصوم من الذنب .. لأنه مضطر .. ألا أخبرك بأن ديننا دين يسر ولست دين قوانين بل دين قلوب تنبض بالحياة!!
ثم مسح على رأس الصغير بحنان :
-روح قول لأمك أن لكل قاعدة شواذ .. واحكي لها اللي قولت لك عليها .. وقولها الشيخ هلال مكسرش أعراف ، هو اتچوز العروس اللي تستاهله على سنـة كتاب الله ورسوله… هو معملش حاچة حرام ..
لقد كانت لديه الطريقـة الساحرة لمواساة جميع الجروح بطريقة مُبهرة، كأنه جاء طبيبًا لأجواعها ولست حملًا مضاعف لها .. كانت تتلصص النظر والسمع له بطريقة رفعت من شأنه بعقلها ، بطريقة جعلتها تتساءل عن نوع الخير الذي فعلته بالحياة كي تُرزق برجل حكيم حنون مثله .. ما أن لحظته يقترب منهم قفلت النافذة بسرعة وتكورت ملاصقة بالبـاب لا تراقبه إلا بصمت وأعين يملأها الحيرة ….
•••••••••••
انتهى عمار من فحص ليلة بعد ما أعطاها حقنة مهدئة ، ثم قفل حقيبته ووجه حديثه "لهيام" الواقفة بجوارها وقال بتلك النظرات التي يفيض منها الإعجاب خاصة بعد ما علم بقصتها من "نجاة" وكيف انهار زواجها قبل إتمامه وهو يقول بعتب :
-مش أنا مأكد عليكم بلاش الزعل .. قصرتي معاها ليه !
صوبت "هيام" أنظارها لأخيها الواقف بعيدًا يراقب ليلة النائمة بنظرات غريبة، بللت حلقها بربكة فتدخل هيثم وهو يعفيها من مهمة الرد :
-معلش يا داكتور تقول أيه ، بعيد عنك في تور فلت في البلد وخش فيها من غير أحم ولا دستور !! لكن عندي أنا دي تصحى بس وأنا هخلي بالي منِها زين ..
تكورت يد هارون على جمر غضبه المدفون وغيرته المجهولة من أخيه ليلتفت لسؤال أحلام :
-يعني هي زينة يا ولدي ، طمني عليها ، دي فجاة طبت من طولها وزي ما أنت شايف ..
لملم عمار عدته وهو يقول :
-المشكلة يا خالة أن محذرهم الصبح من أي انفعال او ضغط نفسي هي مش متحملة ، لكن شكلها اتعرضت لصدمة قوية متحملتهاش فقدت وعييها .. عمومًا هي ساعة بالكتير وهتفوق ..
قاطعه هيثم وهو يرمق أخيه بسخط :
-ربنا يجازي اللي كان السبب يا عمار يا خوي ..
تحمحم هارون بنفاذ صبر وهو يبرق لأخيه كي يكف عن عبثـه ، ثم نظر عمار بوجهه المبتسم ليقول "لهيام" موصيًا وليلطف معها الحديث :
-الضيفة مسئوليتك أنتِ عاد ، لو حصلها أي حاچة المرة الچاية هقول لك أنتِ السبب ..
أحمر وجه هيام بارتباك وهي تتحاشى النظر له وتشغل نفسها بأي شيء آخر :
-وانا مالي !! كنت عملتلها ايه وو
قطعه هيثم وهو يرتب على كفته :
-قول وسمع الناس يا داكتور ..
ثم همس له بصوت مسموع :
-حقا اللي يزعلها يبقى معندوش قلب ولا رحمة بعيد عنك .. دي ضيفة والمفروض تتشال فوق الراس .
فاض صبر هارون من عبث أخيه فتدخل برياح غضبه العاتية ليشكر عمار قائلًا :
-تعبينك معانا يا داكتور ..
وثب عمار حاملًا حقيبته وهو ينظر لهارون قائلًا :
-عاوزك برة يا عمدة ..
رافقه هارون الخطى وكل أسئلته دائرة حول ليلة وحالتها الصحية حتى وقف الاثنان على أعتاب الباب وهو يقول :
-أستاذي رد عليّ وقال لي الأدوية دي خطر وكلها أدوية جدول ، وبعد فترة من شربها بتدمر خلايا المخ وتدخل المريض في حالات نفسية صعبة جدًا ..
حلت الصدمة على ملامحه بجبين منكمش وتلهف قلبـه خوفًا عليها وهو يقول بعدم تصديق:
-كيف !! المفروض أمها اللي كانت تديها الأدوية دي !! يعني أيه !!
زفر عمار باختناق :
-ده اللي مجنني فيه حاجة غلط !! والمصيبة أحنا معندناش معلومة هي بتتعاطى الأدوية دي ليها كد أيه !! انسب حل دِلوق انها مترجعش للأدوية دي نهائي .. والدكتور كتبلها شوية أدوية بديلة تخفف أعراض الانسحاب منها.. بس قال إنه لازمًا يشوفها ..
رد متلهفًا :
-فين عنوانه ونروحوله !!
-عنوانه في مصر ، بينزل الصعيد يومين في الأسبوع ، هحجزلك معاه ونشوفه ..
ثم عاد ليؤكد عليه :
-بلاش تتعرض لأي ضغط هي مش متحملة كفاية وچعها اللي عايشاه ..
جاءت زينـة حاملة صنية الشاي والماء وتقول بعتب :
-على فين يا داكتور ، طب والشاي !! يا مُري عندنا بتين أنتَ عاوزهم يبوروا !!
دار لها "عمار" معتذرًا عنه وهو يكتفي بشرب الماء :
-سامحيني لازمًا أعاود العيادة مفيهاش حد ..
ثم تبسم بوجهها :
-ومحدش هيبور يا ستي ، لو أخوات جناب العمدة باروا أومال مين اللي هيتچوز بس !!
ابتسمت زينة بعبط المغرور وهي تقول :
-خطوبتي أنا وحضرة العُمدة قريب ولازمًا تنورنا يا داكتور ، ولا ايه يا هارون !!
رد عمار بامتنان :
-فرحة العمدة فرحتنا كلنا .. بالاذن انا ..
رمق هارون زينة بحدة كي تخفي شعرها الخارج من تحت حجابها بضيق على وجهه وهو يكظم غضبه منها ومن حديثها الزائد عن الحد وبالأخص خبر خطوبتهم الذي لف حبل الغضب حول قلبه ، ودع عمار بعرفان ثم نظر لهيثم المقبل من بعيدًا:
-ما تشوف هلال أخوك فينه مرچعش لدلوك !!
جاءت صفية من المطبخ وهي تقول :
-الوكل جهز ، أنتوا مش ناويين تتغدوا !! من ساعة البت الفقرية دي ما چات وأحنا متچمعناش على غدوة ..
فاتبعت زينة قائلة :
-قدمها شوم يا عمتي .. بومة .
قال هارون بضيق:
-أعملي وكل ليها ياما وخلي أحلام توكلها ..
فتدخل هيثم بحماس كي يزف خبر زواج أخيه ممسكًا بذراع أخيه :
-ألا قوليلي يا صفصف ، أنت طابخة أيه ؟! عاملة حمام !! بط !! كوارع !! لحمة ضاني .. أي وكلة من اللي يرموا العضم دولت !!
وبخته صفية بذهول :
-وأنت مال عضمك مين بعتره ياحزين !!
رد بعفوية :
-عضمي أنا حديد ، لكن عضم الشيخ هلال محتاج ترميم ولا أيه يا عمدة !!
حدجه هارون كي يخرس وألا يكشف سر أخيه فأكمل كلامه بعفوية :
-وهارون كمان محتاچ يترمم !!
فعارضته زينة بوقاحة وهي تقول بدلال :
-طبعًا مش عريس وداخل دنيا چديدة وكله عشاني وو
فقاطعها هيثم بسخرية :
-لا أنتِ مش مهم ، ده كله عشان ليلة اللي كل هبابة تطب منينا دي ، عاوزالها شيال عفي .. وهارون أخوي ما قصرش..
أزعقه هارون بحرقة لتطاوله وعلى الأقرب لأن الجملة لمست موطنًا حساسًا بقلبه :
-ما تحترم نفسك يا زفت ..
انضمت لهم فردوس بقلق :
-البت اللي كيف فرخ الحمام النمساوي عاملة ايه !! البت دي محسودة من يوم ما چات خلي الشيخ هلال يرقيها ..
حك هيثم رأسه :
-يابت الأيه يا دوسة جبتيها كييف دي ؟!! فرخ حمام على أبوه !!
ثم قال بحماس :
-ما ارقيها أنا !! هو هلال هيعمل أيه زيادة عني !!
لوحت له صفية بعتب :
-ولا يرقيها ولا يحزنون تاخد عفاريتها وتحل عنينا إحنا مش ناقصين نصايب ..
فجاءت زينة بغنج لتعاتبـه بعد ما كان متأهبًا للذهاب :
-اهو هارون زين ما عمل طردها وريحنا .. بس مالكش حق يا هارون ، هي كل ما تطب مننا تشيلها على قلبك وقدامي !!طب دانا حتى عغير طب راعي مشاعري .
تدخل هيثم بمزاح :
-تولع البومة ومشاعرها ، راعي فرخ الحمام النمساوي أنقح وأحلى ..
صرخت زينة بوجهه بضيق لتشكو له:
-وسكت هيثم يا هارون ، كُل كلمة اقولها يتمقلد عليها !! قوله إني هبقى مراة الكبير ومقامي من مقامه .. ولا أيه !!
انفجر هارون بوجههم بغضب يتطاير من شدقيه وهو يغادرهم :
-ما تخفوا أنتوا الاتنين وبطلو خوتة !!
هنـا فوجئ بهلال بوجهه يقف على أعتاب البيت ، تراجع عن المغادرة وأحس أن وجوده لابد منه خاصة بوجود هاجر ورقيـة ورائه ، تحدث الاثنان بالأعين حتى أفسح له مجالًا بالدخول .. دلف هلال ثم وقف بساحة البيت منتظرًا دخول أخته وعروسـته ، هرولت صفية نحوه وهي تنفض ملابسه :
-حمدلله على سلامتك يا حبيبي ، جعان أجيب لك تاكل .. تلاقيك اتهديت في الشغل النهاردة..
حك هيثم ذقنه الخفيفة بتوجس :
-العركة شكلها هتدور ما هي بالدور يا ولاد خليفة ولا ايه !! هارون أنا تعبت ..
لكزه هارون بجمود :
-فكرني احش لك لسانك دهوت !!
-وانا كنت عملت ايه !
حدجه بحزم :
-أبعد عن الاستاذة ياهيثم وشيلها من راسك !!
وبخه هيثم :
-سايبلك البت أمانة تخلص عليها يا هارون كدك دي بالذمة !! يخربيتك !! ده انا هتنقط منك وو
فتقدمت زينة بعفوية لتقطع حديث الأخوة :
-خليت لك الأوضة تبرق من الحلاوة .. مش هيدب فيها مقشة شهر بحاله .
عقد ذراعيه أمام بطنه وهو يرفع رأسه بشموخ :
-لدينا ضيفة جديدة ..
هزت صفية رأسها ببلاهه :
-وماله فوق راسي يا ولدي بس هي مين !!
رفع هلال أعينه صوب الباب الذي ظهرت منه هاجر بصحبة رقية التي تتمسك بيدهـا وتنتفض من هول الموقف، طالعتها صفيـة بذهول وهي تقول بتلقائية :
-وإحنا ناقصين شبهة ياولدي وو
قاطعها هلال بحزم وهو يعلن أمام الجميع وبالأخص "أحلام" و" هيام " الواقفات عن بُعد ليقول :
-الدكتورة رقية أبو الفضل ، مرتي..
دبت زينة على صدرها بأعينها البراقة وهي تدنو من هارون لتعارضه بأعينها ؛ أما عن صفية حلت نازلة الغضب فوق رأسها بعدم فهم :
-وماله تنورنا !! ضيفتك فوق راسنا كُلنا ووو بس ..
فتدخلت زينة مصححة بقهرة :
-ده عيقولك مرته يا عمة !! اتچوزها .. هلال اتچوزها ومن ورانا وكمان چايبها تعيش وسطينا !!!
رمقها هارون بنظرة تحذيرية:
-في وجودي مسمعش نفسك يا زينة انتِ فاهمة!
وضعت كفها على فمها بطاعة:
-حقك عليّ خرست أهو …
تفقدت صفية الوجوه حولها والذي لا يبدو عليهم الصدمة وقالت بعدم تصديق :
-مرتك كيف!!! يعني أيه مرتك .. !!
ثم نظرت لهارون :
-أنتَ كنت عارف ؟
فأفحمها هيثم :
-وأحنا كُنا شاهدين على الچوازة ، ماهو عشان إكده عسألك طابخة أيه عندينا عريس عقبالي يارب وو
صرخت صفية بوجهه :
-اسكت !!! اسكت !! لا في حاچة غلط !!
ثم نظرت لهلال وهي تحت تأثير صدمتها لتصرخ بوجهه :
-وملقتش غير دي يا هلال!! جايب لنا واحدة سـ …
قاطعها هلال ولأول مرة صوته يعلو على صوته أمه ؛ وبالبيت عمومًا :
-كلمة زيادة في حق مرتي مش هعمل اعتبار لمخلـوق خلقه ربنا .. رقية مرتي واللي هيقول كلمة في حقها هيلاقيني قصاده ..
فأتبعت صفية بعناد :
-عتعلي صوتك على أمك يا هلال !! دا أنت عمرك ما عملتهـا .. طب يا انا يا هي في البيت يا هلال وو
أخرسها هارون مناديًا :
-أمـاا
فتدخلت أحلام لتضع لهما حدًا بصفتها سيدة البيت :
-ولا كلمة يا صفية .. أنتِ هتنسي روحك ولا أيه !! البيت له كبير وهو اللي يقول مين يقعد ومين ما يقعدش ..
فتدخل هارون قائلًا :
-والحج خليفة أمر مراة هلال اخت تالتة لينا وفوق راس الكُل …
فوبختهم صفيـة بحرقة و جهل :
-كُلكم اتفقتوا عليّ !! أنا اللي غلطانه دِلوك !! طب يبقى تقعد وأنا اللي ماشية يا هلال .. عشان تبدي أمك على واحدة اتكشفت على راجل غيرك وخد غرضه منيها وو…
غلت دماء الغضب بهارون الذي لم يتقبل حرفًا على زوجة أخيه مناديًا بصوته المريب :
-صفيـة خلصنا !!
هنا لم تتحمـل رقية كلمة زيادة ، فتركت يـد هاجر عنوة وتأهبت للفرار من سجن النظرات التي تعصر قلبها والكلمات التي تقتلها ألف مرة .. لم يمنحها هلال الفرصة للمغادرة بل قطع المسافة إليها ركضًا لتغلف يده خصرها على أعتاب الباب ويوقفها جبرًا :
-أنتِ مش هتروحي لمكان..
صرخت متألمة ببكاء محاولة فك ذراعه من حولها :
-سيبني .. أنا مكنتش عاوزة اتوجع تاني كفاية اللي أنا فيه .. سيبني الله يرضى عنك روحني .
تحول في حضرتها من الشيخ الهاديء المسالم لـ حارس شخصي على قصر حبيبته ، لهثت الكلمات بفاهه وهو يقول لها بحذر بصوت لايسمعه غيرها وهو يخر بدمعة من طرف عينه :
-دي حربنا أنا وأنتِ .. ماينفعش تهمليها وتداري ورا الحيطان ، أنتِ معملتيش حاچة تخافي منيها ..
ثم انحنى ليحملها بين يديـه رغمًا عنها ويحدجها بنظرة حادة ألا تُجادله ليخترق صفوف الجميـع غير مهتمّا بأحد مدافعًا عن زوجته التي باتت أمانته من هذه اللحظـة متجاهلًا النظرات والأفواه الملتوية متجهًا إلى غرفته تائهًا في صحاري ملامحها التي ظل حائرًا يتساءل كيف يمكنه نبت الزهور من بينهمـا .. يبدو أن نور وجهه المشاع خدرها جعلها تنسى كيف يكون الكلام .. فجاة أصبحت بين يديه معلقة بنجوم عينيه التي تُربكها كثيرًا وهي لا تدري أي مرسى رسى بها هنا !!
أكمل هلال طريقه دون أن يلتفت تاركًا الساحـة لأخيه الذي يشتد عضده به في مواجهة التيـار ، ولقد كان وجهه بمحله وهو يقف بوجه امه محذرًا :
-رقية من الليلة بتك التالتة ، وأي كلمة تزعلها محدش هيزعل غيرك ياما ..
صرخت صفية بوجهه:
-لا انت عمدة على الكل لكن مش هتمشي كلامك عليّ !! لا انا مش هقبل بالبت دي في بيتي يا هارون، يجي أبوك ويشوف صرفة !
ثم أخذت تندب على وجهها وتلطم الخدود:
-يافضيحتك يا صفية اللي ما ليها آخر !! يا حزنك يا صفية !! الواد اتچوز بواحدة فضيحتها على كل لسان !! طب كيف اتچوزها كيف كسروا العرف كيف !! ياشماتة ام صديق والبلد فيكِ يا صفية !!
نظر هارون لزينة وأكمل :
-خدي عمتك اوضتها وعقليها يا زينة …
-تعالى يا مقصوفة الرقبة كله منك ..
فجرت صفية غضبها بوجه "هاجر" وهي تمد يدها لتنالها انتقامًا فاحتمت بكتف أخيها :
-الحقني يا هارون دي هتموتني ..
فتدخل هيثم الذي يراقب أخيه بذهول حتى وصل غرفته ليقول بعتب :
-فضينا ياما ، البت ملهاش ذنب وغلبانة .
-كلنا غلابة على باب الله !! وأحنا كمان ملناش ذنب نشيلو عارها !! يا مرك يا صفية !! يا حزنك !! طب أودي وشي من الناس فين !!
دار هارون لأخته هاجر قائلًا :
-خشي أوضة أحلام ، شوفي أدوية الاستاذة واديهالها بانتظام يا هاجر ..
ثم رمق أمه بحدة :
-واللي يفكر يزعلك قوليلي بس ..
أخذت زينة عمتها التي لم تكف عن الصراخ والنواح والتعداد الذي لم يفارقها :
-ربيتي ياخايبة للغايبة ..
همست زينة بقهر لعمتها :
-دانا روقت لها الأوضة بنفسي ياعمتي !! شوفتي الحزن ، كانت يدي اتقطعت ولا روقتها لواحدة خاطية زي دي !! ولدك شكله كان ناويها ..ياحزنك يا عمة !! أوعاكي تسكتي !! دي وصمة عار..
دنت أحلام من هارون الذي يسب نفسه سرًا وتهامست معه مردفة :
-هارون ؛ أي أصول الچوازة دي ؟! هلال عمل إكده عشان يستر على البت !!
زفر هارون بتعب :
-عمري ما كُنت هوافقه لو ديه هدفه ، لكنه رايدها يا أحلام وشوفت ده بعيني ..
تنهدت بارتياح :
-ريحت قلبي يا ولدي !! طالما رايدها واختياره يبقى الله يهنيـه بيها ويجعلهاله الأولى والآخيرة .. أمها تربعن وقيموا فرحهم زي ما ربنا قال .
هنا قطعه صوت رنين هاشم الذي لم يمهله الرد على أحلام ؛ اكتفى بهز رأسه وهو يغادر مستئذنًا :
-راچع لك يا أحلام !!
ركض للخارج وهو يرد على أخيه بلهفة :
-هاه يا هاشم وصلت لحاچة ؟!
كان يقود سيارته مرتديًا نظارته الطبيـة عائدًا لرغده ، فقال :
-زي ما اتوقعت يا هارون .. ملعوب من شريف أبو العلا وهو اللي سرب الخبر !!
لطخت معالمه بحمرة الغضب وهو يجز على فكيه وهو يحمل هَم ليلتـه التي إهانتها :
-ااه يا وِلد الـ**** .. ورب الكعبة ما هعديهالك وهتشوف ..
ثم أتبع قائًلا ليخبره :
-صوح هلال أخوك اتچوز يا هاشم ..
فرمل هاشم سيارته مفزوعًا بسخرية:
-هلال!! أنتَ عتتكلم چد !! اتچوز ميتى وكيف !! ليه ملهوش أهل !
ثم أطلق ضحكة ساخرة :
-ومين سعيدة الحظ!!
أطلق هارون زفير اختناقه :
-رقية .. رقية أبو الفضل ..
حلت النازلة على رأس هاشم الذي كل ما يشغله بالأمر كيف كُسر العرف ليطمئن على مستقبله :
-ايه؟!!!! والمچلس !! كيف يا هارون !
-ما خابرش يا هاشم ، تحس ربك قفل كل الخشوم محدش كان قادر ينطق ، بس اظن المجلس وافق عشان وجود الحكومة في الموضوع ؛ لموا الدنيا وياعالم ! متأكد أنهم مش هيسكتوا …
رد هاشم ساخرًا :
-ولا يسكتو ، المهم أن هلال كسـر العُرف .. يعني !!
أنهى هاشم المكالمة مع هارون ليتحمس ويرسل رسالة صوتية لزوجته قائلًا بفرحة لا توصل :
-رغود ، أحلى فستان عندك ألبسيه وهسهرك سهرة مش هتنسيها طول عمرك ….
••••••••••••
~بغرفة هلال ..
"هناك أشخاص خُلقت الطرقات لتكون بجوارهم بيوتا دافئة "
ارتمت رقية بجسدها الضعيف على الأرض دافنة وجهها بمعصمها وهي تنوح بصوت مكتوم تارة ومسموع طورا .. أخذ يراقب كيف ينتفض خصرها من قسوة الألم كيف تنتفض كالطير المذبوح منتصف غرفته ؟! نزع جلبابه الذي يقيد حركته ورماه على طرف السرير وجلس بجوارها محاولاً لمس كفتها ولكنه تراجع كي لا يخيفها منه .. يكفي قدرا تجاوزه لرغبتها أمام أهله وخطفها عنوة من بين أعينهم .. مسح على رأسها بحنان وهو يقول :
-البكاء ليس حلا ..
لم تجيبه بل تركت الساحة للبكاء كي تفجر كل عبراتها المكتومة خلال اليوم .. أتبع قائلا :
-رقية وعد اللي حصل تحت مش هيتكرر ومحدش هيقدر يجـرحك بكلمة وو
اعتدلت في جلستها بوجهها وهي تكفكفت عبراتها وتسأله :
-أنت اتجوزتني ليه ؟!
-وهو الشخص بيتجوز ليه يا رقية ؟!
ارتعد صوتها من قسوة البكاء :
-سؤالي واضح اتجوزتني أنا بالذات ليه يا شيخ هلال ؟! صعبت عليك ؟! شفقة ؟! قلت تأخد الأجر وتتجوزها ؟! ولا لقيتني مكسورة وضعيفة وماليش حد قولت أعطف عليها ؟!
طيف ابتسامة خفيفة ارتسم على محياه وهو يقول :
-إذا عقلك هيأ لكِ كل هذه الأسباب .. فهذا معناه إنك لم تعرفين هلال بعد ؟!
ردت ساخرة :
-صدقني ملهاش مبرر تاني .. غير أنك اتجوزتني شفقة صعبت عليك وو
ثم كفكفت سيول عبراتها :
-بس أنت مش مجبر .. وأنا هعفيك من كل ديه ؟! روحني بيت أبوي .. روحني وسيبني وأنا لي رب كريم ..
-أنا لم يجبرني أحد عليك ؟!
هزت رأسها بحزن وخيم :
-الزمن اللي أجبرك .. اسمعني ...
قطعها بحدة :
-اسمعيني أنتِ .. وهاجي معاكي بما يرضي الله .. أنت من اليوم مراتي ومسئولة مني .. مهما كانت الأسباب اللي هيئتنا للحظة دي فـ دي مايمنعش أنك قدام ربنا في حمايتي ليوم الدين .. قولي كيف ما بدالك هعديه عشان أنا شاركي لأبعد حد يابت الناس ..
ثم سألها ملاطفا :
-وبعدين طالما مش موافقة وجوة راسك كل السود ديه من ناحيتي .. قبلتي ليه ؟!
صرخت بوجه بصوت مكتوم مدافعة عن نفسها :
- أنا لما قبلت طلبك ده عشان خوفت يدبسوني في بكر والحكومة متعرفش تعمل حاجة .. قبلت عشان قولت مفيش واحد بتاع ربنا هيظلمني .. قبلت ووو
ثم لمعت العبرات بعينيها بعجز وهي تراقبه بارتباك :
-ماعارفاش .. لساني بدل ما يقول لا قال ااه ...
اتسعت ابتسامته وهو يراقب اضطراب ملامحها في دروب الحزن والشكوى :
-كلها تساهيل ربك وكله بإذنه وحده ...
هزت رأسها بالنفي غير متقبلة ذلك الوضع الذي ورطته فيه وقالت :
-كل كلام أمك عندها حق فيه .. أنا منفعكش .. انت تستاهل واحدة أحسن مني ..
ثم أحكمت أمرها واتبعت :
-أنا موافقة أقعد إهنه لغاية ما يقبضوا على اللي اسمه بكر .. وبعدين طلقني وسيبني لحالي أنا هعرف أدبر أموري ..وأنت اتجوز اللي هتختارهالك أمك وارضيها ..
ثم وثبت من أمامه محذرة وهي تشير بسابتها ما بين ماء عينيها المنهمر :
-ولحد ديه ما يحصل أنا زيي زي هاجر أختك .. وأنا واثقة أنك هتخاف علي قدها ..وهتراعي ربنا فيّ .. صوح !؟
وقف على مضض وهو يدنو منها خطوة ليقول :
-أنت أمانتي قدام ربنا .. ويمين عليّ ما ملزمة لي بحاجة قدام ووحده الشاهد .. انا مش جاي ازود وجعك يابت الحلال ..اطمني ..وواثقي فيّ ..
تدلت جفونها بالأرض وهي ترتعد وتتراجع خطوة للوراء وتقوم بصوت خائف :
-وديني أزور أمي .. أنا محتاجة لها قوي ..قلبي بيتقطع وهي مش معاي ..
-هوديكي مكان ما أنتِ عاوزة بس بطلي بكى عاد .. كنت فاكرك اقوي من إكده .
طرقت هاجر الباب وهي تحمل مائدة الطعام على يدها وبعد ما سمح لها هلال بالدخول هللت قائلة :
-أحلام كانت عاوزة تجيبلك الوكل بنفسها لولا رجليها واچعينها.. يلا عشان تاكلي ...
ارتدى ثوب العزة وقال بتأدب وهو يغادر الغرفة كي لا يخجلها منه :
-عليكٍ بها يا هاجر .. أن أكلت كل طعامها سأكفأكما معا ..
داعبته هاجر ممازحة :
-ولو مرضيتش !! أكله أنا ؟!
حدج أخته بنظرته المعتادة وقال برزانة :
-إن أبت سأطعمها بيدي .. بالإذن .....
•••••••••••
~اسكندريـة ..
أعباق من بقايا لفافات التبـغ المتكتلة بالمطفأة التي حرقتها نادية بمفردها ، واحدة وراء الأخرى وهي تتساءل ألف سؤال بين كل واحدة وتاليتها.. حتى ثنت بقلب المطفأة أخر واحدة بيدها وقالت بصوت مشحون :
-ازاي !! ازاي تكون رايحة تعمل لقاء صحفي وتصور شوية صور هوب تلاقي نفسها وقعت وسط أهلها وناسها اللي عشت أدور عليهم سنين !! ازاي يا رشيدي ..
ثم قعدت على طرف المنضدة وأكملت بغل :
-ولا الراجل ده باين عليه مش سهل ، بيتكلم وهو واثق من نفسه وعارف بيقول أيه كويس!! طيب هما معقولة يكونوا عرفوا بنتهم وبيستغفلوني !!
ثم ضربت الأرض بساقها :
-هتجنن يا رشيدي ! دماغي بتضرب أخماس في أسداس مش متخيلة اني كل اللي خططت له هيروح كده !!
وضع رشدي ساق فوق الأخرى وهو يقول بتفكير :
-مش المشكلة !! المشكلة لو حد شاف الأدوية اللي بتاخدها !! دي هتبقى مصيبة بجد !!
تأرجحت عينيها بقلق :
-مظنش .. لالا ، مش للدرجة دي ، دول أغبية والأدوية بتاعتنا مش أي حد يعرفها حتى لو كان دكتور ..
فكر رشدي قليلًا وأتبع :
-يبقى الحل في أيدك ، ليلة ترجع من هناك وهجهزلك الورق وتمضيها بأي طريقه على أملاكها ويبقى خدنا اللي عايزينه وهي بالسلامة كارت محروق بالنسبة لنا ..
هزت رأسها غير مقتنعة بانفعال :
-الموضوع أكبر من كده !! أنا لازم أروح لهـا .. لو مجتش أنا هروح لها يا رشدي ….
•••••••••••
~مساءً ..
-مين يا فردوس !! ماهي ناقصة نصايب !!
أردفت زينة جملتها الأخيرة وهي تدنو من باب القصر متأهبة للمغادرة بعد ما تأكدت من نوم عمتها ، فأعطت لها فردوس الظرف وهي تقول بجهل:
-مخابراش يا ستِ زينة، واحد من رچالة المچلس چيه وقال ديه لچناب العُمدة ..
أخذت زينة منها الظرف وهي تفتحه كأنها أصبحت سيدة لهذا البيت وتقول بسخط:
-وريني !! واحدة داخلة البيت بجُرسة والتانية طالعة بفَضيحه !! ناقص أيه تاني!!
سلطت كل من فردوس وزينة أعينهم بالمظروف لتدب زينة على صدرها صارخة :
-يا مُري !!! دولت شالوا هلال من المچلس …
ثم طبقته كما كان وقالت بحذر :
-خشي وديه لهارون ، ومتچيبلوش سيـرة إني فتحته…
لم يغادر هارون البيت طوال اليوم حتى يطمئن على وضع " ليلة " التي ظلمـها وكان سببًا في حالتها الأخيرة، وأنه تسرع في حكمه عليـها ، كان يجلس بالحديقة ينفث دخان غضبه وتلك أول مرة يدخن بهذه الشراهة ، فجاءت له أحلام وهي تربت على كتفه فساعدها في الجلوس بجواره وهي تقول :
-سرحان في ايه !! اللي واخد عقلك ؟
خجل أن ينظر لأحلام وهو يقول :
-البت طلع ملهاش ذنب ؛ كله من تحت رأس الزفت اللي اسمه شريف أبو العلا ..
رمقته أحلام بنظرات فاحصة :
-نظرة أحلام في اللي قدامها متخيبش واصل .. قلت لك متعملهاش ..
زفر هارون بضيق وهو يشكو لها :
-مطربقة فوق نافوخي من كل ناحية والله يا أحلام ..
ربتت على ركبته بحنانٍ :
-أنتَ قدها وقدود يا حبيبي .. إلا قول لي يا هارون.. وأنت عتقول اسم ليلة .. اسمها ايه تاني !!
رمقها باهتمام :
-اسمها ليلة سامح .. الجوهري ؛ بس ليه !!
تمددت ملامح أحلام بشكِ :
-ماعارفاش حسيت الاسم مش غريب عليّ ، شكلي سامعاه في حتة و
فأسرع هارون معترفًا على سجيته :
-كانت عتقول أن چدها كان لواء إهنه واسمه رفعت الجوهري ، آكيد تعرفيه وأبوي يعرفوا كمان ..
تفرغ فاه أحلام التي تحولت شكوكها ليقين وهي تكرر سؤالها بذهول :
-قولت مين !! رفعت الجوهري يبقى چدها !!! أنت متوكد يا هارون !!
قطعت حديثهم مجيء هيـام الراكضة وهي تخبره :
-هارون .. ليلة فاقت ومصرة أنها تمشي ..
مجرد ما سمع إنها استردت وعيها ركض ملهوفًا نحوها ليكفر عن سوء ظنـه بهـا .. والذنب الذي اقترفه ..
كانت " ليلة" بغُرفتها تلملم أشياءها بعبث وهي تتحرك هنا وهناك وتهذي مع نفسها ، كان هيثم يتبع خُطاها محاولًا الاعتذار عما فعله أخيه بدلا منه :
-يابت الناس اهدي هتروحي فين الساعة دي !!
فأتبعت هاجر التي لم تترك رقية إلا بعد ما غاصت في سباتها ، وقالت بعتب:
-هارون لو عرف أني ..
صرخت بوجهها :
-متقوليش اسم أخوكي ده قدامي عشان بيعصبني ، ماشي !!
ثم دخلت الحمام وأحضرت بعد مستحقات التجميل ورمتهم بالشنطة فأتبع هيثم :
-طب هتروحي فين الساعة دي بس وأنت عيانة !! وبعدين ما انا قلت لك مين ورا اللي حُصل ؟!
تدخلت هاجر بجهل منه عما فعله شريف :
-مين يا هيثم !! في أيه معرفهوش ؟!
تجاهل سؤالها :
-اركني أنتِ دِلوق !!
تناولت حذائها من الأرض ورمته هو الآخر بجوف الشنطة :
-هروح في أي داهية يا هيثم، بس مش هقعد دقيقة واحدة في البيت ده .. وده مش هيفرق معايا ولا هيصلح اللي عمله أخوك في حقي .
توقفت هاجر بوجهها مقترحة:
-طب ما الصباح رباح يا ستي ..
فأتبع هيثم وهو يخرج صندلها من الحقيبة ويرميه في الأرض قائلًا بمزاح:
-ياستي هي تجي واحدة وتمشي واحدة!! داحنا بنجمعوكم بالعافية ..
نظرت له بسخط وضعف يصعقها :
-هيثم بلاش تهرج عشان ده مش وقت تهريج وانا اصلا مش فاهمة حاجة ..
ثم انفجرت صارخة بوجهه عندما رأته يخرج ما بها :
-انت بتعمل ايه أنت كمان !! سيب حاجاتي !
في تلك اللحظة وصل هارون مطلقًا حمحمته المرتفعة قبل الدخول ، ما سمعت صوته فرت للتحامى بالحمام بعجل واضطراب شديد يملأها حتى أتاها صوته قائلًا بشموخ :
-خفي چنان يا استاذة مفيش مشي من إهنه ..
خرجت من الحمام وبيدها الفرشاة والمعجون وهي تتجاهل وجوده تمامًا وتسأل هيثم بتيـه :
-هيثم شوفت الشاحن بتاعي كان هنـا .. ؟!
أحسوا أخوته بإحراجه وتعمدها تجاهل وجوده حتى أتبعت وهي تدور بالغرفة بعشوائية :
-كده ناقص أيه كمان !! أنا تهت .. انا نسيت !! يووه !! أحيه عليا !!
دمدم هارون بجزع وهو يضم يديه أمام بطنه :
-يا صبر الصبر ..
ثم جهر :
-ما خلاص يا استاذة سوء فهم وراح لحاله ..
حانت منها نظرة خافتة وسرعان ما ذابت في صحن غضبها منه وهي تقول :
-هاجر ، ماشوفتيش اللاب توب بتاعي !!
ثم ضربت على رأسها بغباء:
-أحيه !! وأنتِ هتعرفي ازاي بس !! راح فين ده كمان ووو
كانت تدور كالنحلة بمنتصف الغرفـة حتى أمسك بمعصمها ودارها إليه ليجبرها أن تستمع لحديثه التي تعمدت تجاهله هنا وصلت أحلام لتقف على الباب وتتأمل الاثنان بفيض من النظرات المختلفة :
-هو أنا مش عكلمك !!
شدت ذراعها من قبضته وقالت معاندة :
-ومش واضح إني مش عايزة أكلمك !!
حك أنفه بارتباك لإحراجه أمام أخوته وقال بثقل وغرور :
-حقك عليّ ..
ثم صمت لبرهة وأتبع مبررًا :
-سوء فهم حُصل وراح لحاله …
سبحت عينيها في بركة الدمع وهي تتذكر إهانته لها بالصباح :
-والله!! كتر خيرك .. وفر اعتذارك لنفسك .
ثم ضربت الأرض بقدميها من شدة التوتر والارتباك الذي حل بها وهي تصيح :
-الموبايل بتاعي فين !! يووه وده وقته !!
ثم تدخل هيثم قائلًا :
-أهو هارون بنفسه جيـه عشان يتأسفلك ، روقي عاد.. ويلا نتعشوا.
ردت بملل :
-والله !! تعب نفسه .. وهيثم بس عشان أنت موترني وأخوك ده كمان موترني وحاجتي كلها ضايعة وده موترني !! وانا كده هعيط ..
ثم نظرت له :
-ملهوش لزوم يا عمدة كمان اعتذارك ، كده كده ماشية ، سوري تقلت عليك ..
استغفر ربه في سره ثم قال :
-مفيش مشي وخلصنـا .. ميبقاش قلبك أسود عاد !!
تجاهلت وجوده مما أشعل النار بقلبـه ليناديها بصوت المرعد الذي جعلها تقف مكانها ولأول مرة يخرج منطوق اسمها صحيحًا :
-ليـلة !!
تسارعت ضربات قلبها المضطرب ثم لملمت شتاتها لتعود له صراخه بوجهه :
-متزعلقيش !! واتكلم طبيعي زي الناس الطبيعية.. ووو وبعدين أنا مش لعبة في ايدك تقولي امشي واعقدي وو
أسبل عينيه في حضرتها كي يطمئنها ليقول بشموخ :
-أنا العمدة إهنه وكلمتي تمشي على الكل ..
عارضته :
-بس أنا لا ..
-طول ما أنتِ في بيتي يبقى كلمتي تمشي عليكِ !
زفرت بضيق :
-هيرجع تاني يقولي بيتي .. ارتاح كده هسيبهولك وأمشي ..
شد ياقته محاولًا قتل غروره وقال بأسفٍ :
-متزعليش وكبري مخك عاد وو
فتدخلت هاجر لتُلطف الأجواء:
-افرحي يا ستي ، حضرة العمدة بنفسه چاي يراضيكي ، فكي عاد وأنتِ عيانة مش ناقصة ..
نظرت له بعتب :
-هو أكتر واحد عارف إني تعبانة ومع ذلك محترمش تعبي وجيه وطردني قدامهم كلهم .. واتهمني بالكذب … وو
وقف أمامها ليمنع خُطاها ببنيته القوية ؛ لقد كان لا يملك ثقافة الاعتذار فأكتفي بقوله :
-ما خلاص !!
كادت أن ترتطم بجسده الصخري لولا أنه تراجعت خطوة للخلف وهي تشكو له منه :
-لو سمحت متكلمنيش ولا توجه لي أي كلام ؛ كفاية أوي اللي قولته الصبح وو
فتدخلت أحلام وهي تربت على كتفها :
-خلاص يا ليـلة يا حبيبتي .. عشان خاطري أنا أنسي وأهو قالك سوء تفاهم وو
قاطعتها :
-خاطرك فوق راسي يا طنط بس أنا طولت عليكم ولازم أمشي وو
فتدخل هيثم :
-طب صوري حلقتك التانية وأمشي ، حرام تعاودي وأنتِ مقضتيش مصلحتك ..
ردت بخزى وهي تتجاهل وجوده:
-خلاص يا هيثـم مش فارقـة ، مفيش نصيب.
حاولت هيام إقناعها :
-ياستي الدكتور قال ممنوع تروحي في حتة ، أقعدي عاد وو
أصرت على رأيها :
-هيحصل ايه يعني !! انا همشي وخلاص ..
لقد فاض صبر هارون من مقاوحتها وقال باندفاع:
-ماتخفي مُحن وقصري .. قولت حقك عليّ عاوزة أيه تاني !!
شهقت بوجهه وهي تشهد الجميع عليه :
-شايفين!! حتى الاعتذار مش من قلبه ولا حاسس بالندم !! وبيعاملني كإني شغالة عنده !!
ارتسمت الضحكة على ثغر أحلام تراقب لمعة الانجذاب لبعضهما البعض متلألئة لتتمتم في سرها " يارب اللي في بالي ومتكسرش قلوبهم يارب " ثم جهرت متوسلة لها :
-أقعدي ولما يجي الحج خليفـة هنشكوله من ولده ..كل كبير له الأكبر منيه .
فأتبع هيثم :
-وأنا شاهد معاكي !!
فاكملت هاجـر مقترحة:
-خلصي شغلك وعاودي ياستي ..
فتدخلت هيام:
-ولو كان على هارون مش هيچي چارك ، أصلا هو ماعيقدش في البيت .. بس بلاش تمشي وأنتِ مضايقة دي عيبة في حقنا ..
راقبت الأعين الحنونة التي تحيط بها لتقتل شبح فكرة رحيلـها و تبقى بمكان ألفة روحها لتوافق على مضض ، ثم رفعت سبابتها بوجه هارون لتلقي عريضة شروطها :
-اسمعني ؛ أنا هقعد هنا يومين اتنين بس ، هتقول لهيثم على المكان اللي هنصور فيه .. لسانك ميجيش على لساني نهائيًا .. تشوفني متقوليش حتى صباح الخير ، لا تكلمني ولا لك كلام معايا .. عشان أنا مستحيل هكلمك بعد اللي حصل منك .. ولو فكرت تكلمني أنا هسيبك وأمشي ومش هرد عليك ..
ثم نظرت لهيثم :
-موافق يا هيثم !!
غلت نيران الغيرة بصدره وهو يزفر حرائقه الداخلية لأول مرة أحد يتأمر عليه ، لاحظت أحلام لوحدها دخان غيرة وليس غضب لتراقبه وهو يقول بأسلوبه الاستفزازي متأهبًا للرحيل متقبلًا شروطها :
-طب أهدي وقولي هديت ..
فتدخل هيثم لاعبًا بالنار بوجه أخيه بفظاظة :
-هي مش قالت لك كلامك معاي وبس يا حضرة العمدة !!
كتمن الكل الضحك على المأزق الذي وضع به هارون وهو يشد قامته أمامهم ليردف بتحدٍ متقبلًا لعبتها الطريفة :
-خليه هو يقول لك هتصوري فين بالمرة …..
يتبع
************
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا