القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غرام الذئاب الفصل السابع والثامن والتاسع بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )

 رواية غرام الذئاب الفصل السابع والثامن والتاسع بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )





رواية غرام الذئاب الفصل السابع والثامن والتاسع بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )


#الفصل_السابع

#غرام_الذئاب

#بقلم_ولاء_رفعت


أنا مُتعب كوطن أرهقه الإحتلال... كـ بيت قديم أوشك على الإنهيار... وهناك وهناك بأقصى يسار الصدر كدمات وندبات تنعي بعضها بعضاً. 


كانت تغفو وولدها يغفو أيضاً بين ذراعيها، يصل إلي أذنها صوت خرير مياه تنهمر بقوة تخرج من صنبور تالف، ضيقت ما بين حاجبيها وتنصت جيداً إلي مصدر الصوت، انسحبت من جوار ابنها بهدوء كي لا يستيقظ، و ما أن وضعت قدميها علي الأرض، غمرتهما المياه، شهقت وركضت إلي المطبخ لم تجد شيء، ذهبت إلي الحمام فوجدت المياه تتدفق من صنبور الحوض الذي امتلأ وفاضت منه المياه التي اغرقت الممر و الغرف و الردهة، بحثت سريعاً عن المحبس الرئيسي وقامت بغلقه فتوقفت المياه، قامت بشد غطاء مصرف المياه الصغير داخل الحمام فبدأت المياه تُصرف من خلاله. 


لملمت السجاد المبتل سريعاً و ألقت به علي سور الشرفة ثم عادت إلي الداخل، قامت بخلع العباءة القطنية المبتلة من حملها للسجاد وأصبحت بالقميص القطني القصير ذو الحمالات، ظلت تزيح المياه بالممسحة وتجفف الأرض خلفها بقطعة قماش من القطن، قاربت علي الانتهاء و لم يتبق سوي الردهة، كانت تجثو علي ركبتيها وتجفف وتزيح خصلاتها الحرة إلي الوراء بظهر يدها، لم تشعر بمرور الوقت أو الانتباه إلي صاحب الحذاء الأسود، قد دخل بعد أن فتح باب الشقة بالمفتاح الذي أخذ نسخته من صاحب العقار. 


سار بخطى واثقة حتي توقف أمامها، انتفضت لدى رؤيتها للحذاء، رفعت رأسها فشهقت عندما رأته يقف أمامها!


تركت ما في يدها ووقفت علي الفور تسدل قميصها القصير ثم تراجعت إلي الوراء، تبتلع ريقها خوفاً لكن نظرة عينيه الثاقبة تعكس نقيض ما داخله من غضب ضاري، بل كان الإشتياق والعشق ينضحان من حدقتيه، و داخلهما سؤال يتردد في عقله ويتلفظ به قلبه وهو -لماذا؟- لماذا تركتيني بعد أن امتلكتي قلبي وروحي وجسدي، لماذا كلما أصبح بقربك فتلجأين إلي الفرار! 


بينما هي لم تدرك معني تلك النظرة و قد ظنت أن صمته القاتل ليس سوي الهدوء ما قبل العاصفة، لم تعد زوجة شقيقه المتوفي كالسابق، فهي -زوجته-


"أحمد أنا كنت...

بتر كلماتها وأخلف كل توقعاتها الواهية، بخطوة واحدة اختطفها بين ذراعيه ليعانقها بقوة و افرغ صدره براحة يتبعها قوله بنبرة تغدق من العشق أطناناً

"لو كنتي تحت سابع أرض برضه كنت هلاقيكي"


ابعدها قليلاً لينظر صوب عينيها، يمسك بطرف ذقنها ويسطرد 

"لأنك روحي، و محدش يقدر يبعد عن روحه ولو ثانية" 


افترقت شفتيها وكادت تتحدث فأوقفها بوضع طرف سبابته لتصمت وهو يخبرها بألحان العشق التي تعزف علي أوتار فؤادها النابض لأجله

"محدش بيحبك و لا هيخاف عليكي و علي ابنك و ابن أخويا غيري أنا، أنا أمانك و محدش في الدنيا دي كلها يتجرأ يبصلك حتي بنظرة طول ما أنا موجود" 


يصدقه قلبها لكن لديها هاجس يوسوس داخل رأسها اليابس بأن تلك خدعة وربما لعبة من ألاعيبه الملتوية حتي يضمن عودتها معه و يتمكن من معاقبتها علي هروبها. 


انتشلها صوته وحركات يديه من الصراع الذي يدور داخل سمعها بأن تصدقه أو لا تصدقه. 


"شايف في عينيكي كلام كتير و نظرة خوف مني، وأنا بقولك ما تخافيش يا روحي، و كل حاجة هتَّم زي ما أنتي عايزه، بس عايز وعد منك إنك متكررهاش تاني وتهربي، اوعديني" 


كانت في موقف ضعف للغاية لاسيما وهي قابعة بين ذراعيه، يغمرها الشوق ولعاً، رائحته التي ضربت أنفها حتي وصلت للأعماق جعلتها أسيرة حضوره الطاغي، تعشقه بكل حواسها، ترتجف شفتيها تياماً وتطوق عشقاً لإلتقام خاصته وتخبره عبر قبلاتها كم هي تعشقه إلي حد الثمالة و الإدمان. 

كان لا يقل حاله عنها فلديه ذات الشعور وأضعاف اضعافه لذا لم يتحمل أكثر من ذلك، و لبي رغبتها نظيرة رغبته، ألتقم شفتيها باجتياح عاشق متيم. 

لم تشعر بالزمان والمكان و قامت بمبادلته طقوس الحب من قبلات وعناق اضرم بينهما نيراناً حيث ظل يدفعها برفق نحو الحائط ومازال يقبلها حتي انقطع الهواء عنهما فترك شفاها وأخذ يلتقط أنفاسه

"أنتي وحشاني أوي" 


تلتقط أنفاسها وتجيب بنظرات غائبة عن الواقع

"و أنت كمان واحشني أوي، بس... 

لم تكمل وابتلعت ريقها بتردد، لم يمهلها إكمال جملتها، فقام بالإطغاء عليها بفعله الذي يجعل الحديد ينصهر بين يديه فما بال حالها هي، حيث دنا بشفتيه علي عنقها وأخذ يقبله إنشاً إنشاً، يهمهم من بين قبلاته يحثها 

" بس إيه؟، قولي يا روحي أنا سمعك"


تسمع كلماته ومازال الصراع قائم داخل عقلها، تتذكر حديثه مع والدته و كيف وجودها ووجود ابنها داخل تلك العائلة يكون خطراً كبيراً، وساوس تنهش سمعها وتزداد كلما خضعت واستسلمت إلي حديثه وهمساته و لمساته و ما يفعله للتو و ما هو يوشك أن يفعله لاسيما يداه التي مدت نحو حمالات قميصها لإزاحاتهما مع قبلاته المندرجة من الترقوة متجهة نحو الأسفل، فإذا بها تدفعه بكل قوة اوتيت بها صارخة

"لاء يا أحمد" 


يحدق إليها بصدمة علي ما فعلته للتو و كانت الطامة الكبري حينما ألقت علي مسامعه الآتي

"مش هرجع تاني أعيش أنا وابني تحت خوف و تهديد سواء من شيريهان هانم و لا منك، قلبي بيقولي اصدق كلامك لكن عقلي بيحذرني منك، و للأسف كل اللي فات و خصوصاً بعد ما سمعت كلامك مع مامتك و أنك بتضحك عليا عشان تضمنوا ابني تحت وصايتكم، كل ده يخليني أقولك لاء، مش عايزه ارجع معاك و لا أكمل" 


كلماتها كالسهام المتراشقة في قلبه كلما يستوعب ألم سهم يتلقي الأخر ليزيد من أوجاعه أضعافاً

يسألها بصدمة نكراء

"بعد كل اللي قولته لك ووقفتي جمبك ووعودي ليكي، لسه مش مصدقاني و عايزه تبعدي؟!" 


ابتلعت ريقها و رسمت علي وجهها الصلابة حتي لا تظهر له ندمها و مشاعر نحوه 

"ايوه، البُعد أسلم حل لابني، بعيد عن شركم" 


"شرنا!" 

ردد اتهامها الآثم له وفي تلك اللحظة تحول الشعور بالصدمة إلي شعور آخر وهو استيقاظ شيطانه الكامن داخله، لكنه يحاول السيطرة علي نفسه خوفاً عليها. 


لم تدرك حالته التي إذا علمت بها لفرت من أمامه في الحال، ما زالت تتشدق بحماقة و دون وعي

"شركم أنت والهانم مامتك، مش أنت ابنها برضه!، و مصلحتكم واحدة، معقول يعني هاتسيب مملكة عيلتكم من جاه ومال يروح لابن حتة واحدة كانت بتشتغل خدامة عند أخوك؟!" 


صاح بتحذير حاسم

"اخرسي" 


و بصياح مماثل و قوة تحسد عليها

"لاء مش هاخرس، و بقولهالك لآخر مرة، أنا و لا ابني مش عايزين حاجة منكم، و أنا كفيلة أربي ابني وأراعيه في جو نضيف بعيد عن الخداع والشر والطمع اللي مالي قلوبكم" 


اقتربت منه بهدوء ولا تبالي لهذا البركان المنفجر أمامها لتلقي عليه طلبها دون الاكتراث أو الاحتراس لردة فعله إثر قولها 

"طلقني يا أحمد" 


لم يشعر بكفه سوي وهو يهوي علي خدها بلطمة قاسية جعلتها وقعت علي الأرض أمام حذائه، لن يكتفي بهذا بل جذب خصلاتها بقبضته الحديدية ليجبرها علي النظر إليه من وضعها المزري هذا ولأول مرة تري كم هذا الجبروت والقسوة في عينيه وخاصة عندما أخبرها 

"قدامك اختيارين مالهمش تالت، الأول تروحي تحضري شنطتك و تغيري هدومك انتي وابنك و نروح كلنا نعيش في الفيلا وهو يتربي تحت رعايتي أنا وجدته وأنتي طبعاً بس دورك كأم و بس، أو الاختيار التاني هحقق لك رغبتك في الانفصال لكن بشرط أنك تنسي ابنك خالص وبرضه أنا وجدته اللي هنربيه، ها هتختاري إيه؟" 


                       ❈-❈-❈


لا أعلم مَنْ أنا و أجهل مَنْ تكون أنت، لكن أدرك جيداً بأن القدر قد دبر لقائنا حتي  نكون لبعضنا البعض الملجأ والسكون أو ربما كلانا همزات الوصول إلي دروبنا الصحيحة.


و بالتحليق إلي عروس البحر و داخل مشفى استثماري، يقوم الطبيب بإنهاء الفحص الطبي للتأكد من عدم اصابتها بكدمات، رفع يده أمام عينيها يسألها ويراقب استجابتها جيداً

"دول كام؟" 


تمسك بالغطاء الذي يدثر نصف جسدها عندما تذكرت هذا المشهد المتكرر حينما فاقت في المستشفى بدون أن تتذكر مَنْ تكون و من أين جاءت، خرج صوتها الخافت غير مدركة لمنقذها الذي يقف في الزاوية يتابع الفحص ليطمئن عليها


"تلاتة" 

أخذ يدون عدة ملاحظات حتي جاءت الممرضة وتمد يدها إليه بملف ورقي كبير الحجم يحتوي علي تقرير وصورة من آشعة. 

"اتفضل يا دكتور دي الآشعة و معاها التقرير" 


قرأ التقرير بعناية و يهز رأسه في حالة رضا بشبه ابتسامة حتي اختفت ابتسامته عند ملاحظة استوقفته قليلاً، استدار علي الفور إلي زميله في المهنة واخبره 

"دكتور رحيم عايز حضرتك خمس دقايق"


قابل الأخر طلبه بقلق وخوف و ليس خوفاً من المسئولية بل خوفه علي تلك الفتاة التي يبدو أنها بلا حولا و لا قوة، تلتزم الصمت منذ أن فاقت من الإغماء. 


نظر رحيم إليها ثم إلي الطبيب 

"مع حضرتك، اتفضل" 


ذهب رحيم معه إلي غرفة المكتب، وقف الأخر خلف مكتبه وقام بإضاءة اللوح المضئ اللذي تعلق عليه الآشعة قائلاً

"اطمن يا دكتور، هي بخير و مفيش أي إصابات و الإغماء نتيجة من الخوف و رهبة الموقف أن العربية كانت هتخبطها" 


تنفس رحيم الصعداء بطمأنينة

"الحمدلله" 


حتي استرسل الطبيب حديثه ويعلق الصورة علي اللوح المضئ 

"تقرير الآشعة المقطعية اللي عملنهولها برضه عشان نطمن إن كان حصل نزيف لا قدر الله بيقول مفيش الحمدلله أي إصابة، لكن" 


نظر علي اللوح و تبعه الأخر بالنظر إلي اللوح أيضاً، فأردف الأول كلماته

"تعالي حضرتك قرب وشوف النقاط الغامقة بتقول إن الآنسة عندها فقدان ذاكرة بسبب تضرر اجزاء من خلايا المخ و غالباً أنها اتعرضت لحادث طريق واضح آثاره من ندوب جروح قديمة في منطقة الراس و الكتف" 


كان يستمع إلي حديث الأخر ويدقق بالنظر في الآشعة وقد أدرك الحالة جيداً، فهذا مجال عمله كطبيب مختص في علاج المخ والأعصاب، بدى علي وجهه علامات الحزن علي حالة تلك المسكينة. 


"و للأسف حالتها مالهاش علاج غير التعايش بجانب الرعاية النفسية و الصحية" 


عقب رحيم بثقة دون أن يلتفت إلي الأخر

"ليها عملية بس مش هنا" 


"بس نسب نجحها شبه ناجحة و ممكن المريضة تصاب بسكتة دماغية" 


و في تلك الحين ألتفت الأخر إليه يخبره

"مفيش حاجة مستحيلة طول ما أنت مؤمن بالله و السعي أنك توصل لعلاج حالات فقدت الأمل، يمكن ربنا جعلنا سبب نرجع لهم الأمل وحياتهم من جديد" 


"و نعم بالله يا دكتور، بس الحالات اللي شبه حالة الآنسة تمت العملية ليهم و انتهت بالفشل و النتيجة كانت الشلل الكلي يا شلل نصفي يا الموت" 


اقترب من الطبيب معقباً بثقة بالغة

"لو كان كل الدكاترة خافوا من الفشل  مكنش الطب اتقدم و لو خطوة واحدة" 


أومأ الطبيب بأسف

"حضرتك عندك حق" 


تأهب الأخر للذهاب للإطمئنان علي تلك القابعة في الغرفة المجاورة و لكن قبل أن يغادر 

"في كل الأحوال القرار الأول و الأخير ليها" 


عاد إليها وجد الممرضة تزيل من ظهر كفها حقنة المحلول الذي فرغ لتوه، لاحظت أميرة وجوده فشعرت بالحرج، نظراته إليها تربكها و تشعرها بالتوتر وربما الخجل لذا سألت الأخرى بصوت يبدو علي نبرته الوهن

"هو أنا ينفع أمشي؟" 


كادت تجيب الممرضة لكنه قاطعها موجهاً حديثة إلي صاحبة العيون ذات لون العسل الصافي

"ممكن طبعاً بس بعد ما الدكتور يكتب التقرير ويقدمه في المحضر" 


عقدت ما بين حاجبيها تسأله بقلق

"محضر إيه؟" 


أجاب بنبره شبه جادة

"المحضر اللي هتقدميه ضدي عشان خبطك بالعربية" 


اتسعت عينيها من حديثه، توقعت أن يطلب منها العفو ألا تقوم بالابلاغ عنه

"بس حضرتك مكنتش تقصد، أنا، أنا اللي كنت بجري علي الطريق من غير ما أبص وأخد حذري من العربيات" 


ابتسم من برائتها الجذابة فاقترب منها و احتفظ بحد مسموح بينهما قائلاً

"بس أنا عايز تعمليلي محضر" 


فطنت مزاحه فأجابت بتحفظ

"و أنا مسامحة" 


نهضت فجأة فداهمها شعور الدوران، كاد يختل توازنها و تقع، أمسك بساعدها

"خدي بالك" 


رفعت عينيها نحو خاصته و عبير عطره اقتحم حاسة الشم لديها، ضربت حمرة الخجل خديها، جذبت ساعدها برفق من يده وتنظر نحو أسفل

"أنا كويسة، حسيت بدوخة خفيفة" 


سألها باهتمام 

"الموضوع ده بيحصلك علي طول و لا النهاردة بس؟" 


"بيحصل معايا كل فترة" 


"خلاص خليكي مرتاحة و لو حبيتي تتصلي بحد من أهلك أو معارفك تطمنيه عليكي" 


هنا أثرت الصمت لكن عينيها تحكي الكثير و الكثير، فماذا عساها أن تخبره! 


فطن من نظرة الشجن التي في عينيها ما لا تستطع البوح به 

"آسف لو كلامي ضايقك، بس أنا مش عارف حاجة عنك اكتر من اسمك اميرة من بطاقتك الشخصية اللي كانت معاكي في شنطتك و كمان لسه عارف أنك... 


حمحم بحرج فاكملت بدلاً منه

" فاقدة الذاكرة"


اطلقت تنهيدة واسطردت 

"أنا صحيت في يوم لاقيت نفسي في مستشفي وعرفت أن كنت في حادثة علي الطريق ودخلت عمليات و بعدها دخلت في غيبوبة صحيت منها و أنا معرفش أنا مين و لا جيت منين، مالقتش حد وقف جمبي غير ماما خيرية الله يرحمها كانت بتشتغل في المستشفي، خدتني عيشت معاها لحد...


تذكرت الأحداث التي مرت بها خلال الأربعة وعشرون ساعة السابقة، غلبتها دموعها رغماً عنها

"لحد ما تعبت و مكنتش اتوقع أنها هاتمشي و تفارقني وهاتسيبني لوحدي" 


انهمرت دموعها وصوت بكائها اهتز له جدران فؤاده، فقام بمواساتها ببضع كلمات 

"ربنا يرحمها ويغفر الله، هي راحت لمكان. أحسن بكتير من الدنيا اللي إحنا عايشين فيها، و واضح من زعلك و كلامك عليها أنها كانت طيبة و اسم علي مسمي وبإذن الله هايكون جزائها الجنة" 


أخذ من فوق الكمود علبة المحارم الورقية واعطاها إياها، تناولت محرمة وأخذت تجفف دموعها وسيل انفها وتردد

"الله يرحمها، الله يرحمها" 


نظرت إليه فوجدته يحدق بها عن كثب و علي وجهه إمارات الحزن أيضاً

"آسفة، شيلتك همومي و تعبتك معايا" 


أدرك الحرج و الخجل البادي علي وجهها، أراد أن يخطتف منها الحزن و يلقي به بعيداً ويرسم علي شفتيها ابتسامة تبث داخلها الفرح في القلب والوجدان. 


"ما تقوليش كده، ده واجب عليا، و بشكر الصدفة اللي خلتك تطلعيلي مرة واحدة قدام العربية، هو حد يطول يقابل القمر؟!" 


ابتسمت بخجل فضحك واخبرها

"علي فكرة أنا بهزر لا تفتكريني بعاكس و لا حاجة" 


نظرت علي استحياء وقالت بتوتر

"و لا يهمك، أنا، أنا الحمدلله بقيت كويسة وممكن أمشي دلوقتي" 


ألقي نظرة علي ساعة يده

"هتروحي فين في الوقت ده، إحنا بقينا بعد نص الليل" 


"هدور علي أي فندق لحد ما أدبر أموري"


"هتروحي فندق إزاي وأنتي معكيش فلوس حق ليلة واحدة"


نظرت بضيق فقام بتفسير الأمر إليها

"بعتذر طبعاً، أنا كنت بدور في شنطتك علي أي إثبات شخصي ليكي و مالقتش معاكي غير محفظة فيها مبلغ صغير وبطاقتك و معاهم تليفون قديم فاصل شحن" 


أمسكت بحقيبتها الصغيرة وهمت بالذهاب

"ربنا كبير، عن إذنك" 


أمسك رسغها مزامنة مع أمره

"استني" 


نظرت إليه ثم إلي قبضته علي رسغها، فتركها علي الفور

"أنا ممكن أساعدك لحد ما أمورك تتظبط، أنا عندي فيلا العيلة في كفر عبده، ممكن تيجي تقعدي هناك" 


عقدت ما بين حاجبيها بامتعاض، و قبل أن تجيب بتوبيخه فأخبرها 

"ما تفهمنيش غلط، ربنا يعلم بعتبرك زي أختي و بقدملك المساعدة من باب الواجب و الإنسانية، و بعدين الفيلا هناك عم دسوقي السكيورتي ومراته و عياله، و أنا طول اليوم هاكون في المستشفي بحكم شغلي كدكتور يا دوب هاجي علي النوم، و ما تقلقيش هاكون ضيف خفيف مش هتحسي بيا خالص" 


يا له من موقف حرج للغاية، مهما تعددت الأسباب فهو بالنسبة إليها مجرد رجل غريب لا تعلم عنه سوي اسمه رحيم كما ناداه الطبيب منذ قليل، كما الظروف الحالية ليست بالوضع الجيد، فهي تكاد تملك أجرة سيارة تقلها داخل نطاق المحافظة فأين ستمكث و أين تذهب؟!  


قرأ الأخر ما يدور داخل رأسها، يبدو عليها فتاة محافظة و لن ترضي بطلبه فأسرع بإلقاء عرض آخر

"عشان تطمني أكتر، أنا هوصلك هناك و هروح المستشفي هناك مخصصين مكان للبيات حتي علي الأقل هبقي في قلب شغلي، و لو محتاجة أي حاجة هديكي رقم تليفوني تكلميني في أي وقت، و عم دسوقي هيجيبلك كل طلباتك" 


حمحمت بحرج 

"معقولة هخليك تسيب بيتك و تبات في شغلك، معلش مش هقدر أقبل بكده، مش هينفع خالص، كفاية وقفتك جمبي" 


                       ❈-❈-❈

وبعد قليل... 

تقف علي الجانب الآخر من الطريق في انتظار سيارة أجرة بعد إصرارها علي رفض عرض هذا الوسيم، ما الذي يضمن لها أن مقصده الخير من وراء ما يقدمه لها، ثقتها في جنس الرجال أصبحت منعدمة يكفي ما كان سيحدث لها علي يد محمود ابن السيدة خيرية. 


سيارة تلو أخرى تنطلق بسرعة فائقة أمامها، الوقت متأخر بالفعل و لا يوجد علي الطريق سوي بعض الرجال العائدون من اعمالهم و البعض الآخر شباب متسكع في الشوارع، و هذا آخر ما ينقصها، اقتراب سيارة ملاكي يشرأب من نافذتها رأس رجل ذو نظرات ذئب جائع، ألقي طلبه الذي يخلو من الأدب تماماً بجرأة سافرة

"إيه يا جميل، مصلحة و لا مروحه؟" 


رمقته باشمئزاز و ابتعدت حيث بدأت بالسير فتبعها بسيارته بالتوازي لخط سيرها

"يعني مشيتي وماردتيش عليا، مش تسألني هدفعلك كام، ده أنا هبسطك، العشا ولزوم الليلة و المُكنة كلهم عليا، استني بس أنا هابسطك، يا مزة، طب يا... 

اهتزت سيارته بعنف أثر اصطدام سيارة توقفت أمامه مباشرة، شهقت أميرة حينما رأت الذي ترجل من سيارته وتوجه نحو صاحب السيارة الأخرى الذي نزل وألقي نظرة علي مقدمة سيارته التي تضررت بالفعل، صاح بغضب جم

" هار أبوك أسود، ما تفتح يا جدع، العربية عليها أقساط الله يخربيتك"


قبض رحيم علي ياقة قميصه و نظرات آتية من قعر الجحيم يحرقه بها

"أحمد ربنا أن وشك اللي مكنش مكان عربيتك دلوقتي، أنت مالك و مالها" 


نظر الرجل إلي أميرة التي تتابع الموقف بخوف ثم إلي القابض علي تلابيبه، ابتسم ساخراً

"اه، هي المزة طلعت تبعك؟!، لا مؤاخذة يا أستاذ، أنا كنت فاكرها بتلقط رزقها قولت أنفعها و ابسطها و... 

لكمة سددها الأخر له بقوة في أنفه، تراجع علي إثرها الرجل، وضع يده علي أنفه النازف للتو، رفع رحيم سبابته يحذره بحزم

" كلمة كمان وهاخدك من قفاك علي أقرب قسم ونقدم فيك محضر تحرش"


رفع يده الأخري وتقهقر إلي الوراء

"قسم إيه يا هندسة، و تحرش إيه بس، ده أنا غلبان و بجري علي أيتام، حد الله ما بيني و بين دخول القسم، حقكم عليا و اعتبروني مش موجود، و آسف للمزة" 


نظر لأميرة ثم لرحيم الذي تأهب لضربه مرة أخري 

"قصدي الآنسة أو المدام" 


"غور من هنا" 

صاح بها رحيم مما جعل الرجل يفتح باب سيارته سريعاً وجلس خلف المقود ثم انطلق خوفاً من تهديده له، و بعد أن رحل ألتفت رحيم إليها وجدها قد تسمرت في مكانها و في حالة خوف، بدل الغضب علي وجهه إلي ابتسامة ليبث إليها الشعور بالأمان نقيض ما يسيطر عليها الآن. 


"خليتهولك يجري زي الفار المبلول، خايفة ليه؟" 


ابتلعت ريقها وبدأت تهدأ قليلاً، اكتفت بكلمة واحدة

"شكراً" 


ذهب نحو سيارته وفتح باب المقعد المجاور لمقعد القيادة، يخبرها بروح الدعابة

"عزيزتي العميلة مازال العرض مستمر، للتأكيد اضغط واحد و للرفض خليكي مكانك و أنا مش مسئول" 


ابتسمت رغماً عنها و ذهبت للدخول إلي السيارة فتبعها بالجلوس علي المقعد المجاور، يهز رأسه ضاحكاً

"ما كان من الأول"


                        ❈-❈-❈


مكثت داخل شرفة حجرتها المطلة علي بوابة المنزل، تحتسي القهوة بهدوء نقيض ما داخلها من نار الفضول، فهي تترقب إلي عودة ابنها ومعه زوجته وحفيدها كما علمت من أحد رجال الحراسة الذي شهد علي تهديد ابنها لعم صابر ليقر علي مكان زوجته و ابنها. 


وها هي الآن تنتهي من قهوتها و تبتسم لأنها تعلم جيداً أن ابنها لم يمرر هروب زوجته مرور الكرام، و إذاً كما توقعت رأت البوابة تنفتح علي مصراعيها و يهبط ابنها منها و علي وجهه إمارات الغضب الكاسر، وقفت تراقب في الظلام ما يحدث. 


بينما في الأسفل بعد أن نزل من السيارة وقف ينتظر زوجته الجالسه في حالة جمود كالتمثال، يتمسك بها ولدها الخائف ويردد جملة واحدة

"ماما، حمزة خايف" 


وذاك المنتظر قد فقد صبره فتقدم نحو النافذة المجاورة لها، كاد يوبخها لكنه رأي الخوف في أعين الصغير فتهادي قليلاً و دنا بالقرب من سمعها بنبرة تهديد من بين أسنانه ساخراً

"هي البرنسيسة مستنية ليه عندها، و لا تحبي اجرك قدام ابنك و الخدم، أو قدام شيري هانم اللي مستنية الحدث العظيم؟!" 


لم تكلف نفسها عناء الرد عليه واكتفت بنظرة ازدراء ومضض جعلت قلبه يهتز مرة أخرى، زفر بنفاذ صبر و غضب ففتح باب السيارة و أشار إليها لتنزل، أذعنت إلي أمره وقبل أن تتحرك همس إليها و تعمد احاطت ظهرها ليجدها تنتفض وتحاول ابعاد ذراعه عنها

"خليكي هادية أحسن لك، أنا مش مقرب منك حباً فيكي أنا حبيت انبهك إن أي حركة هتعمليها أو محاولة مجرد هتفكري فيها هتلاقيني منفذ الاختيار التاني، إلا إذا بقي لو مش همك ابنك" 


نفضت ذراعه عنها بازدراء وأخبرته 

"و أنا كل اللي يهمني ابني وبس" 

ضغطت علي الكلمة الأخيرة كرسالة صريحة إليه أنه لن يعد في دائرة اهتمامها، ألقت كلماتها وتركته متجهة نحو باب المنزل، وإذا بقدمها تطأ داخل البهو يتشبث بيدها صغيرها، لاحظت وجود حماتها تقف في أعلي الدرج، تقف بشموخ و غرور متأصل في خصالها. 


"سبق وقولت لك قبل كدة كلامي هو اللي بيتنفذ، لأن أنا هنا صاحبة المكان و الآمر و الناهي، و كنتي فاكرة لما تبعدي و تاخدي حفيدي بعيد عني يبقي كده الحكاية خلصت، أنتي هنا مجرد ضيفة وحفيدي هيبقي تحت رعايتي أنا" 


تلقت علا كلماتها وشعرت أنها قد وقعت في التهلكة أو سجن يصعب التحرر منه، فالكل مستغل لنقطة ضعفها، صغيرها الذي تعيش وتحارب العالم من أجله. 


رفعت وجهها لأعلي تجيب علي عنجهية تلك المرأة الطاغية

"أنا فعلاً ضيفة، و ضيفة مجبرة تعيش في مكان عمرها ما حبته و لا طايقة تقعد فيه دقيقة واحدة، و اللي جايبني هنا ابنك اللي قولته له كل واحد فينا يروح لحاله وهو رافض، إما بالنسبة لحمزة فهو ابني أنا و مش هسمح لحد يقرب منه سواء أنتي أو عمه" 


لن تكن تدرك أن حديثها يستمع إليها الذي يقف خلفها و تزداد نيران غضبه أكثر فأكثر، فعليها تتحمل ردود فعله شديدة القسوة. 


مر بجوارها فوقف أمامها و هنا تقسم بأن الذي ينظر إليها ليس زوجها بل إبليس بذاته، يضع يديه في جيوب بنطاله ويلقي عليها أوامره الصارمة

"أولاً لما تيجي تتكلمي أو تردي علي شيريهان هانم التزمي أدبك لأنها لو اتكررت هعلمك بنفسي الأدب وأصول الرد علي اللي أكبر منك في السن والمقام، ثانياً ابن أخويا إحنا لينا فيه أكتر منك و جدته ليها حق تربيه، ثالثاً وأخيراً موضوع الانفصال قصاده تمن لو هتقدري تدفعي التمن ده أنا معنديش مانع" 


لن تصدق أذنيها، هل هذا الرجل مَنْ كان يعانقها و يغدقها عشقاً وهياماً بين ذراعيه؟!، أين هذا الحب والوعد الذي ابرمه لها؟! 


كانت في حالة أقرب إلي القهر وهذا ما يراه الأخر في عينيها الآن، لكنه لم يكترث بل تعمد عدم الإهتمام ليذيقها آلام قلبه التي اقترفتها. 

هبطت دمعة علي خدها سرعان قامت بمسحها و حاولت التماسك أمامه هو ووالدته، يكفي ضعفاً وهواناً أمامهما، ارتدت قناع القوة الزائف 

"أنا عارفة الأدب والأصول كويس جداً يا أستاذ أحمد، مش محتاجة تعلمهم ليا" 


كاد الأخر يتحدث فسبقه الصغير في الحوار الدائر 

"ماما، حمزة خايف و عايز ينام" 


نظرت إليه بحنان وربتت علي يده، ترسم بسمة علي وجهها رغماً عنها ليشعر صغيرها بالطمأنينة

"حمزة حبيبي راجل قوي ما بيخافش، صح و لا لاء؟" 


هز رأسه بالإيجاب ثم عانقها بذراعيه الصغيرين أمام مرأي ومسمع عمه وجدته

"بحبك ماما" 


وقف أحمد يتأمل هذا المشهد ويحارب قلبه اللائم له علي ما اقترفه معها، بينما كبريائه يدفعه نحو إتخاذ المعاملة القاسية غير رحيم بها، انتبه من شروده علي صوت والدته وتنادي أحدى الخادمات


"انتصار" 


جاءت الخادمة بخطى سريعة 

"أمرك يا شيري هانم" 


"خدي الولد و طلعيه أوضته" 


"أمر حضرتك" 

تقدمت نحو حمزة ومدت يدها نحوه فابتعد عنها ومازال يتمسك بوالدته

"لاء، حمزة عايز ماما" 


تخشي علا أن تعاند مع جدته فتتلقي ما لاتحمد عقباه، انحنت نحو صغيرها واخبرته

"حبيبي روح مع الناني عشان تنام وأنا جاية وراكم" 


هز رأسه برفض تام

"لاء" 


اقترب أحمد نحوه وجلس علي عقبيه أمامه

"حمزة حبيبي، اسمع كلام ماما ونناه، عشان هاخدك بكرة و نروح الملاهي زي المرة اللي فاتت" 


تحولت ملامح الصغير من الرفض والتذمر إلي السعادة البالغة

"نركب الحصان و القطر؟" 


"هنركب كل الألعاب" 


وثب فرحاً ثم عانق عمه

"حمزة بيحبك يا عمو" 


"و أنا كمان بحبك يا روح عمه" 

كان يعانقه بحب و حنان غامر، تراه الواقفة جوارهما، و داخل رأسها أفكار كيف يتحول من وحش كاسر إلي رجل حنون! 


قام بتقبيل رأس ابن أخيه وانسحب الصغير فذهب مع الخادمة، كادت علا تذهب خلفهما فاوقفها زوجها بالقبض علي ساعدها، نظرت إليه بسخط لتعود الأجواء المشحونة مجدداً، بالأحرى لنقل عاد هو إلي جانبه المظلم 


"رايحة علي فين؟، احنا لسه مخلصناش كلامنا" 


"أنا هاطلع علي أوضة ابني" 


"و أنا بقولك لاء، و مكانك أنا اللي هقول عليه" 


نظرت إليه تارة و تكبت دموعها ثم ألتفتت إلي والدته رأت ابتسامة النصر و الشماتة تزين محياها، فصاحت في وجهه بشجاعة واهية 

"لو قصدك أننا هنرجع ننام في أوضة واحدة، فبقولهالك إن أنا عندي أنام في أوضة الشغالين و لا إن يجمعني بيك مكان واحد" 


انتهت من صياحها وقلبها يخفق بقوة خوفاً من رد فعله المفاجئ لها، فوجدته يبتسم ليست ابتسامة تنم عن الفرح بل ابتسامة زادت من خوفها، اصابتها رجفة، نظرت مرة أخرى إلي والدته التي قالت بسخرية

"تصبحوا علي خير" 


وذهبت إلي غرفتها محلقة ويغمرها الفرح، فهذا ما أرادته و ها هو يحدث حالياً، فقد رأت في عينيه عودة نجلها الذي تعرفه قبل أن يغيره الحب. 


وبالعودة إلي علا وأحمد الذي يحدق صوب عينيها بصمت مخيف، تخبره بقوة بائسة

"و يكون في علمك مش عايزه أي حاجة منكم، أنا من بكرة هدور علي شغل إن شاء الله حتي أرجع اشتغل خدامة" 


يكفيه استماعاً لهذا الحد فتخلي عن صمته وتفوه بنبرة جادة

"و أنا مش هقولك لاء" 


ثم قام بمناداة أحدى الخدم فجاءت إحداهن ركضاً

"أمرك يا أحمد بيه" 


"خدي الهانم وصليها علي الأوضة اللي جمبك" 


اتسعت عينان الخادمة بتعجب فسألته للتأكد

"دي يا بيه أوضة نوال اللي كانت بتشتغل معانا و لما مشيت شيري هانم قالتلنا نخليها مخزن للكراكيب" 


كانت نظرات علا لم تقل عن نظرات الخادمة حيث التعجب والدهشة، و مازال هناك من الصدمات لاسيما بعد أن أخبر الخادمة أمامها

"ما هي من الليلادي هتبقي أوضة علا هانم"


و نظر إلي علا، و كانت الخادمة تراقب تبادل نظراتهما وقالت بطاعة أمره

"تمام يا أحمد بيه، ممكن تديني ساعة زمن أوضبها للهانم" 


و كانت علي وشك الذهاب فاوقفها

"روحي أنتي علي أوضتك و علا هي اللي هتوضبها" 


ألقي نظرة للخادمة بأن تذهب ففعلت علي الفور، ليتمكن من إخبار زوجته و يلقي عليها المزيد من المفاجآت الغير سارة علي الإطلاق

"مالك؟، شايفك مصدومة، مش كنتي بتقولي هترجعي تشتغلي خدامة؟!، اديكي هتبدأي شغلك، و بدل ما هتخدمي عند الأغراب اخدمي في بيت حماتك وجوزك أحسن، و أديكي شايفة بنعامل الشغالين احسن معاملة و بنديهم أحسن المرتبات" 


"ياه، مش مصدقة نفسي إزاي كنت غبية لما صدقتك، كان لازم أفكر نفسي كل يوم بأول لقاء بينا وأنك في الأول و الأخر أنت أحمد بيه ابن الأكابر وأنا البت الشغالة اللي حملت من أخوك بعد ما اعتدي عليها" 

حمقاء عندما تلفظت و ذكرته بهذا الحدث الذي يمقته، اصطكت اسنانه من الغيظ، أمرها بنهي

"أقسم بالله يا علا لو لسانك نطق تاني بحوار أخويا معاكي لهخليكي تلعني اليوم اللي شوفتي وشي فيه، اتقي شري لأن أنا لحد دلوقتي حايش نفسي عنك بالعافية، أنتي لسه معرفتيش مين هو أحمد الشريف، احذري من وشي التاني لأن بقلب وقتها لأقذر بني ادم ممكن تشوفيه في حياتك" 


يمر أمام عينيها اللحظات السعيدة والقليلة التي عاشتها معه وتقارنها بما يحدث الآن، فما بها سوي أن تشعر وكأنها قد ملكت كنز من الذهب وتحول في يوم وليلة إلي حبات من الرمال وليست أي نوع من الرمال بل هي حبات تحرق الذي يتمسك بها، فقربها منه أصبح احتراقاً. 


"و هو لسه فيه أكتر من كدة يا أحمد؟"

سؤالها يكون اقرب للعتاب أكثر من التهكم، فاسرع بالاجابة وببرود قاتل محترف يخبرها

"اللي عملته ما يجيش نقطة في بحر من اللي أنتي لسه ماشفتهوش مني" 


كان هناك زوج من العيون و أخرى من الأذن تسمع و ترى الحوار الجاري، و قبل أن يراها ابن سيدتها، تجنبت شره وصعدت إلي السيدة شيريهان التي تتمدد علي الفراش وتستمع إلي سيمفونية شهيرة من الأوبرا الروسية. 


طرقت انتصار الباب فأتاها رد شيريهان

"اتفضل" 


فتحت وألقت نظرة في الخارج قبل أن تغلق الباب ثم ذهبت إلي تلك الممددة 

"في إيه يا إنتصار؟" 


"ده فيه حاجات و حاجات يا شيري هانم، أحمد بيه سمعته بينادي للبت شادية بيقولها تحضر لعلا هانم الأوضة اللي حاطين فيها الكراكيب، و كانت لسه هتروح هتوضبها للهانم فالبيه قالها الهانم هي اللي هتوضبها وبصلها عشان تمشي و كمل كلامه مع الست علا قالها مش كنتي عايزه تشتغلي خدامة اهو بيت جوزك و حماتك اولى بيكي من الغريب، لاء و كمان هي اللي هتوضب الاوضة اللي هتقعد فيها" 


استمعت شيريهان إلي الخبر بصدر رحب بل بسرور وحبور وصل لديها إلي عنان السماء

"اسمعي يا إنتصار أول و أخر مرة اسمعك بتقولي عليها هانم، مفيش هانم هنا غيري أنتي فاهمة؟" 

اومأت لها بايجاب، فاكملت الأخرى

"و بالنسبة للي أنتي قولتيه دلوقتي لو طلع صح، يبقي دي مهمتك بما أنك مديرة الخدم عايزاكي تتوصي بيها علي الأخر" 


"طب وأحمد بيه؟" 

سألتها بخوف وتردد، فاجابت الأخرى

"ما تقلقيش، ابني وأنا فاهماه كويس، و الأيام جاية هعرف بنفسي إن كان هو فعلاً قلب عليها وهيعرفها مقامها الحقيقي و لا ده مسلسل بيعملوه قدامي عشان خايف عليها مني" 


"و هتعرفي إزاي يا هانم؟" 


ابتسمت إليها بفخر وزهو بذاتها

"أنتي نسيتي أنا مين و لا إيه؟!" 

نظرت أمامها صوب مرآة الزينة وكأنها تتحدث مع صورتها المنعكسة في المرآة

"إن كان هو ورث الذكاء والدهاء مني، فأنا برضه الأصل وما تخلقش لسه اللي يضحك علي شيريهان الشريف" 


"و حضرتك ناوية تعملي إيه؟" 


ألتفتت إليها وأجابت بغموض

"أنا عندي كارت من ضمن كروت كتير، و أهو جه الوقت اللي هستخدمه فيه" 


كانت تستمع لها الخادمة وتنظر إليها بدهشة وتردد داخلها دون صوت مسموع

"جيب العواقب سليمة يارب" 


                        ❈-❈-❈


"يا سعدية، أنتي يا بت يا سعدية" 

كان صياح صوتاً غليظاً تبعه رد حانق 

"حاضر، حاضر" 


كانت صاحبة الرد امرأة ذات قدَّ ممتلئ يهتز مع خطواتها المسرعة، لتلبي نداء هذا الرجل ذو الشارب الكث، ينفث دخان الأرجلة، يضع ساق فوق الأخرى متفاخراً بكلسونه الأبيض أسفل جلبابه الرمادي،  وكانت الأخرى تتمتم بصوت خافت

"يخربيت سعدية و اللي جابوها" 


أنزل ساقه وترك عصا الأرجيلة علي المنضدة أمامه 

"بتبرطمي بتقولي إيه يا وليه؟" 


"ما بقولش، نعم عايز إيه؟" 


أجاب ببرود يجعل جبل الجليد ينفجر منه بركان هائل

"تعالي غير لي حجر الشيشة" 


جزت علي أسنانها بغيظ و قد فاض بها الكيل 

"بقي يا راجل يا للي معندكش دم عمال تنادي لي و أنت عارف أن طالع عيني في تنضيف الفيلا عشان رحيم بيه زمانه علي وصول و أنت قاعد هنا زي اللوح عمال تشربلي شيشة و عايزني بعد ما اتقطم وسطي في الشغل أجيلك اغيرلك الحجر؟!" 


نهض واقترب منها فتراجعت خوفاً لتأمن غدره، رفعت سبابته بتحذير

"عارف لو قربت مني هفتح دماغك زي المرة اللي فاتت كان بقالب الطوب" 

دنت نحو الأرض ألتقطت صخرة صغيرة ملساء واكملت تهديدها

"و المرة دي بالزلطة دي" 


رفع كفه و هي رفعت يدها بالصخرة استعداداً بقذفها علي رأسها فاوقفهما صوت تنبيه سيارة رحيم، اخفت سعدية الصخرة خلفها و زوجها تراجع علي الفور و ذهب ليفتح البوابة مُهللاً بترحاب

"يا مرحب يا مرحب بالبيه الدكتور" 


فتح البوابة وعبرها الأخر بسيارته إلي الداخل وتوقف ثم هبط منها ليصافح الحارس

"ازيك يا عم دسوقي عامل إيه؟" 


بادله المصافحة بفرح

"في نعمة يا حضرة البيه الدكتور" 


واقتربت سعدية 

"يا أهلاً و سهلاً يا بيه، نورت الفيلا" 


"تسلمي يا سعدية" 


"يسلمك من كل شر يا غالي يا ابن الغاليين، أنا أول ما عرفت حضرت جاي مسكت الفيلا من أول الروف فوق لحد الجنينة تحت و خليتهالك فلة، و أوضتك علي نفس النظام اللي حضرتك بتحبه، و حضرتلك العشا قوام لما ترتاح هايكون جاهز علي السفرة" 


"تسلم ايديكي يا سعدية، بس أنا ماشي و جيت عشان أوصيكم علي ضيفة هي اللي هاتقعد معاكم" 


نظر نحو زجاج السيارة الأمامي فانتبه كلا الحارس وزوجته إلي التي تهبط من السيارة، اكمل رحيم حديثه ليتجنب النظرة التي ظهرت للتو داخل أعين دسوقي وسعدية و يتجنب أيضاً سوء الظن لديهما. 

حمحم فاخبرهما

"آنسة أميرة تبقي بنت عمي و جاية تقضي الاجازة معانا، عايزكم تاخدوا بالكم منها و أي طلبات كلموني علي طول و أنا هابقي أجي كل يومين أطل عليكم" 


"أهلاً و سهلاً يا أميرة هانم" 

قالتها سعدية بترحاب، فاجابت الاخري بحرج

"أهلاً بيكي" 


"سعدية ابقي حضري لأميرة هدوم من دولاب ماما" 


اتسعت عينيها بتعجب فهي تحفظ خصال ربة عملها جيداً و من بين تلك الخصال أنها تكره أي شخص يلمس مقتنياتها أو ممتلكاتها فما بال ثيابها! 

هزت رأسها بإذعان وبابتسامة زائفة

"أمرك يا بيه، اعتبره حصل" 


تبع دسوقي زوجته لكي يخفي الأرجيلة سريعاً، اقترب رحيم من أميرة

"أظن كدة مفيش أي سبب يخليكي تخافي أو تقلقي، أديني سايبلك الفيلا تقعدي فيها براحتك و معاكي سعدية لو احتاجتي أي حاجة، بس خدي بالك دي رغاية أوي هتاكل ودنك لحد ما ترفعلك الضغط" 


بسمة رقيقة ملأت ثغرها الفاتن 

"مفيش داعي أنك تسيب بيتك عشاني" 


"أنا كده كده أصلاً مكنتش هاقعد هنا غير يومين، عشان مكان شغلي بعيد عن هنا، فخدي راحتك واعتبري المكان مكانك" 


"جيميلك ده عمري ما هنساه أبداً" 

رد بابتسامة و ظل ينظر إليها في صمت وهدوء، و كان علي الجانب الآخر النقيض تماماً، حيث كانت والدته تجول ذهاباً و إياباً، تمسك بجوالها والقلق ينهش قلبها علي ابنها الذي لم يجب إلي الآن علي إتصالها منذ أن ترك المنزل. 

"ما بتردش ليه يا رحيم، يارب يكون بخير، أنا ماليش غيره يارب، هو سندي واللي طلعت بيه من الدنيا" 


و إذا بهاتفها يتلق إتصالاً وارداً من خادمتها، تجلي الحبور علي وجهها فقد أوصت الخادمة أن تخبرها فور مجئ ابنها، تنفست الصعداء واجابت

"ألو يا سعدية، وصل؟" 


ردت الأخرى وهي تقف داخل الغرفة الخاصة بسيدتها وأمام الخزانة المليئة بثيابها

"وصل بالسلامة يا رجاء هانم، بس، بس" 


ضرب القلق صدرها فسألتها 

"بس إيه؟، هو بخير؟، حصله حاجة؟" 


"هو جه و معاه موزمازيل حلوة أوي قالنا اسمها أميرة و بنت عمه" 


"بنت عمه!!، بنت عمه مين، عمه معندهوش غير ولد وحيد و عايش في انجلترا" 


"والله يا رجاء هانم زي ما قولتلك، و الغريبة بقي أنها معهاش شنطة سفر و رحيم بيه طلب مني أطلع لها هدوم من هدوم حضرتك" 


"نعم!!" 

صاحت الأخرى وصدي صوتها قد تردد في الأرجاء


"و ياريت علي كده و بس يا هانم، ده قالنا هي اللي قاعدة وهو ماشي باين هيبات برة، يعني أنا يطلع عيني في تنضيف الفيلا من النجمة لرحيم بيه و تيجي الهانم اللي معاه هي اللي تقعد، يا قطمة وسطك يا سعدية" 


"الله الله يا سي رحيم، هو ده الشغل اللي سايب مامتك عشانه"

انتبهت أن مازالت الأخرى علي الهاتف

"سعدية خدي بالك من البنت دي عقبال ما أجي كلها كام ساعة و اول ما النهار يطلع هاجي أشوف حكاية البت دي إيه، و لو حصل أي حاجه تبلغيني فوراً"  


انهت المكالمة دون إنذار للأخرى، زفرت سعدية بضيق وتنظر للهاتف

"و بتتخلق عليا أنا ليه و أنا مالي" 


و بالعودة إلي رجاء التي وصل الغضب لديها إلي الحلقوم، استدارت إلي خزانة الصحون الخزفية حيث يعلوها إطارات تحتوي علي صورة تجمعها بابنها و آخر يحتوي علي صورته هو فقط، تتمعن بها بغضبٍ مستطير 

"والله عال يا دكتور رحيم ياللي الكل بيحسدني علي أدبك و أخلاقك، بقي دي اخرتها؟!، و ليه عشان معرفتش تتجوز اللي هاتموت عليها؟!" 


رفعت يديها في وضع الدعاء وصاحت بحرقة بدعائها المُعتاد

"منك لله يا رودينا يا بنت شاهيناز، اللهي ما يرتاح قلبك و لا تشوفي يوم راحة زي ما قلبتي حياة ابني الوحيد" 


                       ❈-❈-❈


نسمات الصباح الباردة يتخللها صوت زقزقة العصافير ورائحة أوراق الريحان تتسلل من الشرفة إلي أنف هذه النائمة، تتقلب علي جانبها رويداً رويداً، تتحرك مقلتيها من أسفل جفنيها فهي علي وشك أن تستيقظ، فتحت عينيها علها تسترق لحظات من التأمل في وجهه وهو نائم بدلاً من حرمانها النظر إليه وهو يقظ. 


يكفيها ما تجده منه من تجاهلها وذلك بعد ليلة الزفاف القاتمة، رغم اعتذاره منها واعطاها وعداً بمحاولة التقرب من بعضهما البعض، فكيف ذلك وهو يسهر إلي ساعات متأخرة عن عمد ما بين مشاهدة التلفاز أو تصفح الإنترنت دون هدف، و كأنه يعيش بمفرده وليس هناك زوجة لها من الحقوق والواجبات ومعاملة من الود والرحمة عليه أن يلتزم بكل ما سبق. 


نهضت بجذعها، فتحت فمها لتتثائب، لملمت خصلات شعرها المبعثرة بعشوائية، نهضت لتقضي روتينها الصباحي لكن اوقفها ذبذبة هاتفها النقال، نظرت في شاشته وجدت المتصل والدتها، زفرت بضيق حينما تذكرت تجاهل الرد علي مكالمات والدتها حتي لا تعكر صفوها، يكفي ما تلقته في ليلة الزفاف وآثاره مازالت علي شفتيها و عنقها ورسغيها! 


وجدت لا مفر من عدم الرد فأجابت واستمعت إلي توبيخ أمها المعتاد

"مش عايزة تردي علي مامتك يا ست رودينا؟!، و لا من لقي أحبابه نسي أهله و ناسه!" 


"معلشي مامي Sorry " 


"براحتك يا رودي، علي العموم أنا كنت عايزه اطمن عليكي، عاملة إيه و جوزك عامل معاكي إيه؟" 


نهضت وتتحدث في الهاتف، تقف لدي باب الشرفة

"بخير يا مامي، i'm so happy" 


عقبت والدتها بسخرية

"فرحانة أوي!، واضح أوي من صوتك يا حبيبة مامي" 


ابعدت الهاتف قليلاً وأطلقت زفرة ثم عادت لتخبرها

"مامي أنا لسه صاحية من النوم و طبيعي صوتي هايكون مش في المود يعني" 


"خلاص يا رودي روحي كملي نومك، أنا كنت بطمن عليكي وبقولك إن أنا وباباكي هنيجي نزوركم علي المغرب، فقولت ابلغك لتكونوا خارجين و لا مسافرين للـ honey moon  زي أي اتنين عرسان" 

استشفت السخرية من حديث والدتها مما جعلها شعرت بالحنق والغيظ، فكلمات الأخرى علي حق وهي أكبر همها إلفات نظر زوجها! 


"أوك، تيجوا تنورونا أنا و ياسو مرهقين من يوم الفرح و مش قادرين نتحرك لأي مكان" 


"مرهقين، قولتيلي بقي، امم"


"اه مُرهقين يا مامي، هو احنا مالناش نتعب زي الناس؟!"  


انتهزت شاهيناز الفرصة وألقت سؤالها مباشرة دون إيضاح مُفصل

"هو حصل؟" 


لن تفهم ماهية سؤال والدتها

"هو إيه يا مامي؟" 


رددت شاهيناز بصوت خافت

"ليه ياربي رزقتني ببنت غبية" 

ثم أجابت بصوت مسموع جيداً

"اللي بيحصل بين أي اتنين متجوزين يا قلب مامي" 


وقع السؤال كافياً بجعلها تلتفت خلفها وتنظر إلي السرير الذي شاهد علي ما حدث لها عنوة، كما دارت عينيها علي الجدران التي تردد بينها صدي صوت صرخات توسلها، شعرت بالاختناق لمجرد الذكرى. 


جاء نداء والدتها لها عبر الهاتف

"رودي، رودي، روحتي فين؟" 


"أنا مستنياكم، و سلميلي علي داد، عن إذن حضرتك، باي" 

و انهت المكالمة في الحال وذهبت إلي الحمام. 


وبعد مرور وقت قليل... تقف أمام مرآة الزينة وتقوم بتجفيف شعرها بمجفف الهواء الساخن ثم شرعت بتمشيطه وتركت بعض الخصلات القصيرة علي جانبي وجهها لتعطيها مظهراً رقيقاً وجذاب، ذهبت إلي الخزانة لتبدل معطف التجفيف القطني بثياب منزلية، ارتدت ثوب أحمر داكن تنتشر علي أطرافه دوائر صغيرة بيضاء، ذو حمالات رفيعة، و قبل أن تغادر الغرفة، نثرت من عطرها علي ثوبها وامسكت بقلم الحمرة ووضعت القليل منها ثم خرجت باحثة عن آسر فؤادها. 


كان ممدد علي الآريكة في سبات عميق، وشاشة التلفاز تعرض فيلماً أجنبياً، امسكت جهاز التحكم وقامت بكتم الصوت وجلست جواره، أخذت تتأمل ملامحه، مدت أناملها الممشوقة تلمس خصلات شعره الأشقر الداكن، لمساتها تتحرك ببطئ من شعر ثم ذقنه فعنقه حتي صعدت مرة أخرى إلي شفاه، تلمسها بأطراف اناملها، تلعق شفتيها بتوتر ثم تغمض عينيها، تتمني أن يبادلها الحب بمشاعره حين يحبها من قلبه. 


و كان هو يتمدد فوق عشباً أخضر ويبتسم، يمد ذراعيه إليها فارتمت فوقه وتضحك كالطفلة، فسألها ويداعب خصلاتها الذهبية المتناثرة علي وجهه

"بتحبيني؟" 


اجابت بعشق

"و ده سؤال محتاج إجابة؟" 


"ما أنا بحب اسمعها من بين شفايفك، أصل كل مرة بيبقي ليها طعم تاني عن المرة اللي قبلها" 


وضعت اصبعها علي خدها تتظاهر بالتفكير فسألته بمشاكسة

"و يا تري طعمها بيبقي إيه؟" 


"قربي مني و أنا هقولك عن الطعم و هخليكي تدوقيه معايا" 

احاط خديها بين كفيه وألتقط شفتيها المتيم بتذوقها مراراً وتكراراً، يشعر بملمسها وكفيها علي رأسه من الخلف وأناملها تتخلل خصلاته، كان يغمض عينيه ليستمتع بتلك اللحظة وبصوتها وهي تردد اسمه مع كلمات العشق المتناغمة، لن يصدق نفسه هل هو في حلم أم حقيقة، ترك نفسه قليلاً حتي بدأ يفتح عينيه ويقع من فوق العشب الأخضر ليجد نفسه علي أرض الوادي المظلم أو الواقع الصادم. 


انتفض وابتعد عنها، ينهض بجذعه، نهضت من جواره ووقفت أمامه بخجل

"so sorry " 


ظل ينظر إليها ثم إلي مكان حوله، يستوعب الحقيقة وتذكر الحلم الجميل للتو و ما يعادله في الواقع، تحسس شفتيه وأدرك ماذا كان تفعل به وهو نائم. 


اقتربت منه وجلست بالقرب منه

"أنت مانمتش جمبي ليه امبارح؟" 


تزحزح قليلاً إلي الوراء يتجنب ملامستها

"مكنش جايلي نوم وحبيت اتفرج علي الـ Tv"


"أومال ليه أنا حاسه أنك بتتجاهلني طول الوقت، رغم وعدك ليا أن كل واحد فينا هيدي للتاني فرصة نقرب من بعض ونفهم بعض، إزاي هيحصل كل ده وأنت بعيد؟"  


قبل أن يجيب ألتقطت عيناه آثار ما اقترفت يديه وشفتيه بها ليلة الزفاف الماضية

"أنا وعدتك، بس خايف أقرب أؤذيكي ومش عايز أعيد اللي حصل أول ليلة تاني" 


وضعت يدها علي خده واخبرته

"اللي حصل ده كان غصب عني و عنك، أنت كنت تحت تأثير الشرب و مكنتش عارف بتعمل إيه" 


"أنتي لو كان جرالك حاجة مكنتش هسامح نفسي" 


"خايف عليه يا ياسين؟" 

سؤالها الظاهر واضح بينما الإجابة التي تريدها ليس مستعد لها بعد، فاكتفي بتقبيل جبهتها 

"آسف مرة تانية" 


وضعت كفها الثاني علي خده الأخر وحدقت إلي عينيه بعشق وهيام

"أنا عمري ما زعلت و لا هزعل منك أبداً، ياسين أنا لحد Now مش قادرة أصدق أنك بقيت ملكي، أنا مؤمنة بأن اللي بيسعي لتحقيق حلمه لازم يستحمل ويعافر ويتحمل أي عقبة، و أنا اتحملت وهاتحمل كمان لحد ما تبقي ليا بقلبك كمان" 


"رودينا أنا... 

قاطعت حديثه بوضع كفها علي فمه 

" عارفة اللي هتقوله، وهفضل مستنية قلبك حتي لو أخر يوم في عمري، كل اللي عايزاه نقضي مع بعض وقت حلو من غير ما نفكر في اللي فات أو اللي جاي، نعيش اللحظة"


ابعدت كفها عن فمه وترددت قليلاً قبل أن تكمل

"ياسين أنا بعشقك، مش عايزة أي حاجة من الدنيا غيرك، بحبك بمميزاتك و عيوبك، في أي مود أنت فيه، أنا... 


انتهي ترددها بقيامها إلتقام شفتيه بخاصتها، كانت مفاجأة لديه جعلته يتسمر في مكانه، تعانقه بعنفوان فوقع علي ظهره، حاول أن يبعدها قليلاً ليلتقط انفاسه ويخبرها أن تتمهل حيث هذا الأمر يحتاج إلي تهيئة نفسية وهو ليس في الحالة المزاجية لذلك. 


كيف تدرك كل هذا وكل من القلب والرغبة كليهما يسيطران عليها. 

أخيراً اعطته فرصة للتنفس لكن كانت تلك البداية 

"رودينا اصبري، رودينا استنـ...

لا فائدة من الحديث فيديها سبقت كلماته نحو تلابيب قميصه فتطايرت أزراره! 


يتبع..


#الفصل_الثامن

#غرام_الذئاب

#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب

#بقلم_ولاء_رفعت


واشتياق... وروح تراق

وقلبٌ تمزقَ بعد الفراق

لأن هواكَ عذابٌ أليم

وإنَّ التعلق فيكـ... احتراق!!

-عطر الربيع-


يغمض عينيه مع حركات شفتيه أسيرة خاصتها، فالمشهد من بعيد يبدو إنه الفاعل لكنه في الحقيقة كان المفعول به!


تعانقه بتملك وشغف عاشقة وصل بها الحب إلي حد التيام، لن تكترث إلي رد فعله البارد كالثلج فعزمت أن تجعله ينصهر بين ذراعيها، تتعمد الانتقال بشفتيها من خاصته إلي عنقه و ما بين كتفه و جيده و يد تتخلل شعيرات صدره الشقراء المتناثرة ويدها الأخرى تتداعب خصلات شعره ذات الملمس الحريري، تبعثرها كما يبعثرها وجوده دائماً وفي حضرته. 

هيهات وهيهات وبدأ بالفعل جبل الجليد ينصهر بين ذراعيها الدافئة كشمس الربيع، فمهما قام بمقاومة رغباته كرجل أمام لمسات وأفعال زوجته فلن يتحمل الأمر طويلاً، فقد وصل لديه الشبق إلي العنق، وفي لحظة أصبح الوضع رأساً علي عقب، كانت أسفله تنظر إليه بقلق، يقبض علي عضديها وينظر صوب عينيها، ابتلعت ريقها بخوف وكادت تفتح فمها لتتحدث فاسكتها بالانقضاض علي شفتيها في قبلة يشوبها القليل من العنف، انفصل عنها عندما شعر بتحركها للحاجة إلي التنفس، لم يمهلها سوي ثوان، مد يديه إلي مقدمة ثوبها وقام بتمزيقه مما افزعها فشهقت وتذكرت الليلة المنصرمة، صرخت وتلملم في ثوبها

"لاء يا ياسين" 


تراجع علي الفور ونهض من فوقها، صدره يعلو و يهبط عندما أدرك ما قد أوشك علي فعله للمرة الثانية، و هنا بكامل وعيه، نهضت واخبرته بعينين تملؤها الدموع

"أنت ليه بتعمل كده؟" 


اجاب وكأنه لم يقترف شيئاً كان بمثابة إهانة لها

"مش أنتي كنتي عايزه كده!، و لا أنا فهمت غلط؟!" 


لن يكتفي باجابته الحادة فقط بل سخر منها أيضاً، حاولت الثبات امامه وألا تعط لدموع عينيها المجال للنزول، وقفت بقوة و ثبات يخفيان خلفهما قلب يبكي دموعاً علي حاله 


"علي فكرة أنا مراتك، و مش عيب و لا حرام اعبر لك عن حبي، العيب بقي رد فعلك، واسلوبك معايا اللي بتحاول توصلي من خلاله أن أنا أبعد عنك بالذوق أحسن لي بدل ما هتكرهني في القرب منك، مش كدة و لا أنا اللي غلطانة؟!" 


تفاجئ بكشفها لنواياه وتذكر أن هذا ليس أمراً خارقاً بحكم مجال عملها كاخصائية للعلاج النفسي فهذا منطقي للغاية؛ لذا ولي ظهره إليها واجاب بمراوغة 

"بطلي اوهام، كل الحكاية زي ما طلبت منك تديني وقت لحد ما اتأقلم علي وضعنا الجديد، أنتي اللي بتنسي الظروف النفسية اللي بمر بيها" 


تحركت بضع خطوات لتقف امامه و تواجهه ومازالت تمسك بمقدمة ثوبها 

"مش ناسية يا ياسين، لأن ظروفك النفسية مش هتنتهي غير بالعلاج، وعلاجك بكسر الحواجز اللي أنت مصمم تحطها بيني و بينك، وأول خطوة في العلاج الاعتراف بالأمر الواقع وحياتك الجديدة مع واحدة بتحبك، واحدة بتتمني رضاك" 

اقتربت منه وقد خفضت من نبرة صوتها واردفت

"الواحدة دي من روح بتعشقك للأبد و قلب بيدق بُحبك" 

و خلال برهة تحولت نبرتها من الهدوء والوداعة إلي التذمر والحنق 

"أنا الحاضر يا ياسين، أنا الحياة اللي رجعتلك من جديد، لكن أم بنتك هي الماضي، مجرد ذكريات حابس نفسك فيها" 


رفع سبابته كاشارة تحذير لها

"أول وآخر مرة تجيبي سيرتها علي لسانك" 


"أنا ما غلطتش فيها، أنا بسمعك الحقيقة اللي أنت مش متقبلها و معذب نفسك بين الأطلال و بتعذبني معاك" 


"و أنا ماخدعتكيش يا دكتورة، و قولتلك علي وضعي من غير كذب وخداع" 


"وأنت وعدتني أنك هاتتغير وطلبت مني فرصة أساعدك، و كل ما أحاول اساعدك ألاقيني قدام حيطة سد" 


رفع حاجبيه يسألها ساخراً

"وعايزاني أتغير في يومين!" 


"عايزاك تديني فرصة أساعدك" 


"بس كدة من عينيا" 

وذهب إلي باب غرفة النوم و قام بفتحه وأشار بيده نحو داخل الغرفة 

"يلا اتفضلي" 


نظرت إليه بدهشة وتعجب، فاكمل يخبرها بوقاحة

"مش طلبتي مني اديكي فرصة تساعديني؟!، يلا أول فرصة هتبقي علي سرير أوضة النوم" 


حدقت إليه بازدراء واتجهت إلي غرفة أخرى وألقت عليه بالمحظور قوله

"كان عندها حق أنها تطفش منك وترتاح منك للأبد" 

ليتها ما تفوهت بتلك الكلمات التي اضرمت به النيران وأحيت عذابه مجدداً، تحول في لحظات إلي وحش كاسر، اختبأت منه وسرعان أوصدت الباب من الداخل قبل أن يصل إليها، يصيح بهياج غول متوحش و يده تطرق الباب عليها بقوة ارعبتها وجعلتها تتراجع إلي الوراء، تضع كفيها علي أذنيها حتي لا تسمع صياحه 

"أنتي مين اللي قالك؟، و مين سمحلك تتكلمي عنها؟!، افتحي بقولك بدل ما أكسر الباب فوق دماغك" 


لم تطعه وجاء رنين الهاتف المنزلي لإنقاذها من براثنه، ذهب وحاول أن يهدأ ليجيب علي الإتصال، فكانت شقيقته التي اخبرته بما كان ينقصه

"ألو يا ياسين، بتصل علي الفون بتاعك و فون رودي و محدش فيكم بيرد" 


نظر نحو هاتفه النقال الموضوع أعلي المنضدة فقال لها

"معلش مكنتش سامع، أنتي بخير والبنات وياسمينا؟" 


"ياسمينا كل يوم بالليل تقعد تعيط و تنادي علي مامتها الله يرحمها وهي نايمة و كل مرة اخدها في حضني واهديها، النهاردة يا حبيبتي صاحية منهارة من العياط وعايزة تفتح الباب وعماله تصرخ وتقول أنا عايزة أروح لمامي" 


❈-❈-❈


حين يغمرني الحنين إليكِ... اتخم عقلي بالأفكار والأفكار

واشغل وقتي بالأعمال والأسفار... بعيداً بعيداً... فيما وراء البحار...

ليرسل رسائله العشقية الجنونية فأنا بحالة عشقك فاقد للصواب... يامن بعثرث مشاعر القلب وجعلت قلبي ينبض مثل أمواج البحار.


تتقلب علي جانبها الأيمن وتهمهم بأريحية حيث تشعر بنعيم الدنيا بين ذراعيه وفوق الطاولة داخل المطبخ، تسمع صوت طرق علي الباب ومعه صوت يناديها علي استحياء، ارهفت السمع جيداً وعلمت هوية المنادي، فتحت عينيها قليلاً لتستوعب أين هي وكيف غفت في هذا المكان، و حين أدركت أنها تنام بين ذراعي زوجها فوق الطاولة، نهضت لتكتشف انهما عاريا ولا يسترهما سوي قطع ثياب داخلية، نزلت من فوق الطاولة تبحث عن ثيابها لترتديها علي عجل من امرها وتوكز زوجها تزامناً مع طرق المربية علي باب المطبخ من الخارج

"قصي، قوم ألبس هدومك بسرعة" 


امسك يديها ومازال في غفوته، وضع كفها أسفل خده، يخبرها بنبرة يغلب عليها النوم

"سيبيني شوية يا حبيبتي" 


"اسيبك إيه بس، إحنا في المطبخ وداده زينات برة بتخبط" 


مرر الكلمات داخل رأسه فتذكر علي الفور ما حدث بالأمس، ففتح عينيه ونظر من حوله، وجدها تقف امامه مرتدية ثيابها وهو فوق الطاولة يرتدي قطعة واحدة فقط، نهض وانتبه إلي طرق الباب ونداء زينات علي صبا. 


"هاتيلي هدومي" 


"ياريت تلبس بسرعة" 

قامت بلملمت ثيابه واعطتها إليه، وبعد أن انتهي كادت هي تذهب لتفتح الباب، فاوقفها 

"استني" 


وبعد دقيقة، فتحت ووجدت زينات تحمل مدللة والدها، تنظر بغضب إلي والدتها وتسألها 

"قافلة الباب ليه و فين بابي؟" 


سبق قصي صبا في الإجابة ويقف أمام ماكينة القهوة

"انا هنا يا زوزو" 


تحولت تعابير وجهها من الغضب إلي السعادة، صاحت وتنزل من بين يدي زينات

"بابي" 


فتح ذراعيه لتعانقه وبادلها الحضن 


" Buongiorno, papà " 


"Buongiorno, mia piccola principessa " 


عقبت صبا بسخرية ومزاح 

"علي أساس أن أنا مش هفهم أنكم بتتكلموا بالإيطالي يا ست زوزو، وبالنسبة لمامي مفيش أي حاجة؟"


همس قصي في أذن صغيرته

"روحي صبحي علي مامي واديها حضن وبوسة كبيرة" 


نظرت بمكر وابتسامة فاخبرته 

"أوك، بس قولي الأول أنت و مامي كنتوا قافلين باب المطبخ عليكم ليه؟" 


نظر إلي صبا التي سمعت سؤال ابنتها وغرت فاها تعجباً من سؤال صغيرتها الماكرة، ضحكت زينات رغماً عنها فكبتت ضحكتها خجلاً فهي قد فطنت سبب وجودهما هنا، بينما قصي عاد بالنظر إلي ابنته ووجد لا مفر من الإجابة أو تأليف قصة منطقية لإقناع صغيرته لذا اجاب بجدية زائفة 

"أنا ومامي كنا بنتعشا إمبارح هنا، فسمعنا صوت فار صغير بيتحرك، قفلنا الباب عشان ما يطلعش بره وقعدنا نجري وراه لحد مالاقيناه وبعدها حسينا بالتعب ونمنا غصب عننا هنا" 


كانت تنصت إليه وتتأمل وجهه، مدت اصبعها الصغير تشير نحو بصمة شفاه بلون الحمرة علي خده الأيسر، سألته

"هو الفار النوتي ده اللي عمل في وشك كده؟" 


وضع يده علي خده ونظر إلي صبا، حمحم بحرج 

"لاء يا حبيبتي، دي، دي، وأنا بدور علي الفار اتخبطت" 


ربتت عليه بحنان وبنبرة عطف حيزبون صغيرة 

"معلش يا بابي" 

وقامت بتقبيل أثر حمرة شفاه والدتها واردفت

"كده مش هتوجعك تاني يا حبيبي" 


عقبت صبا بحنق

"يارب صبرني" 


ألتفت إليها ابنتها وركضت نحوها فألقت تحية الصباح وفتحت ذراعيها لتدنو منها صبا وتبادلها العناق، فاخبرتها الصغيرة ببراءة علي نقيض مشاكستها معها دائماً

"بليز مامي، ما تتأخريش تاني في الشغل، عايزاكي تنامي جمبي و تحكي لي حدوتة زي اللي كنتي بتحكيهالي قبل كدة" 


كان قصي يتناول فنجان القهوة وينظر إلي زوجته التي تهربت من نظراته وقالت لصغيرتها

"حاضر يا قلب مامي، مش هتأخر تاني، وهرجع كل يوم بدري نتعشا مع بعض واحكيلك حدوتة قبل النوم، اتفقنا؟" 


هزت زينب رأسها بالإيجاب 

"اتفقنا" 

وقامت بتقبيل خد صبا التي عانقتها مرة أخرى

"يلا روحي مع داده زينات وصحوا مالك عقبال ما أنا اطلع أخد شاور وهنزل عشان نفطر كلنا مع بعض" 


"يلا يا مامي و أنا هستناكي" 

ربتت صبا علي رأس صغيرتها مبتسمة ثم ذهبت إلي الخارج، همّ زوجها باللحاق بها فاوقفته ابنته

"رايح فين يا بابي؟" 


"طالع أغير هدومي يا حبيبتي وهاجي تاني عشان نفطر مع بعض" 


وفي الأعلي داخل غرفة تبديل الثياب، كانت تفك أزرار قميصها أمام المرآة الطويلة ذات الإطار الذهبي، انتبهت إلي زوجها الذي دخل للتو ويخلع قميصه، ينظر إليها بصمت وتعلم مغذى تلك النظرة جيداً


"لو عايز تقولي حاجة قولها بدل ما أنت عمال تبصي لي كأني عملت مصيبة" 

ألقت بقميصها داخل سلة الثياب المتسخة وهو أيضاً فعل المثل في قميصه ثم عقب علي حديثها

"لو اتكلمت كلامي مش هايعجبك" 


عقدت ساعديها أمام صدرها 

"كل ده عشان كلمتين قالتهم بنتك؟!، ما أنا قولتلك امبارح مش هتأخر تاني ولو عندي شغل كتير هجيبه هنا و هخلصه و أنا في بيتي" 


"أنا نظرة عتابي ليكي بقولك شوفتي وصلتي بنتك الصغيرة إنها تحس بإيه" 


ولت ظهرها إليه وتزفر بضجر وهي تشرع في خلع كنزتها، امسك يدها ليجبرها علي الالتفات والنظر إليه مباشرة 

"لما أكلمك ما تدنيش ضهرك وتقعدي تنفخي يا هانم، و لا عشان الكلام مش جاي علي هواكي" 


جذبت يدها من قبضته واخبرته بمضض

"شكلك نسيت اتفاقي معاك إمبارح وواضح إننا رجعنا لنقطة الصفر من تاني"


"لاء مانستش كل كلمة قولتيها، و لا رجعنا لنقطة الصفر زي ما فهمتي، أنا كل قصدي انبهك لنتيجة أفعالك علي مشاعر ولادنا" 


"و أنت شايفني غبية للدرجدي!، ما أنا رديت علي بنتك وقولتلها مش هتأخر وهاقعد معاها زي كل يوم واحكيلها حدوتة، عايز مني إيه اعمله تاني اكتر من كده؟، و لا أنت غاوي نكد علي الصبح" 


و ها هي عادت إلي طبيعتها من جديد، فالتمرد و الجدال دون جدوى من شيمها مهما حاولت التأقلم علي خصال التريث والهدوء في المناقشات معه. 


جز علي فكه وهو ينظر إليها 

"مفيش فايدة، مهما حاولتي تمثلي أنك اتغيرتي للأحسن، يجي طبعك يغلبك في الأخر" 


"و أنا معنديش وقت و لا طاقة للجدال، لأن بتعب من كتر الكلام معاك" 

اقتربت منه واكملت 

"وبصراحة كلامك بقي يرفعلي الضغط ويحرق دمي وأنا واحدة محتاجة صحتها للشغل ولتربية الأولاد، عن إذنك" 


تركته وذهبت لتأخذ ثياباً استعداداً للذهاب إلي عملها بلا مبالاة او اكتراث لهذا الذي يتابعها بعينيه وهو مازال يقف مكانه، لا تنكر داخلها أنها شعرت بالقلق حيال صمته المريب، فهي تعلم إذا ألتزم الصمت في تلك المواقف فهو من المؤكد لن يمرر حديثها وستتلقي الرد لاحقاً. 


❈-❈-❈


يجلس هذا المحامي خلف مكتبه داخل شقة في بناء قديم يقع في حي الأزريطة بمحافظة الإسكندرية، يرتشف الشاي ويبدو إنه ينتظر احدهم، طرق مساعده الباب ثم فتح ليخبره

"استاذ رشدي، ولاد الحاجة خيرية وصلوا بره" 


"معاهم واحدة اسمها أميرة؟" 


"لاء يافندم هم التلاتة بس" 


"و أنا بحاول اوصلها من إمبارح مش لاقيها" 

ترك الكوب بعد أن انهي علي ما به ولم يتبق سوي حبيبات الشاي، وأمر مساعده

"خلاص خليهم يدخلوا"


ولج كلا من محمود و مأمون ووليد و بسمة أمل تملأ وجوههم، سيكون المنزل ملكهم و سيقوموا ببيعه إلي رجل الأعمال ليحصلوا منه علي ط المبلغ المالي والذي سيحقق لهم أحلامهم دون عناء الغربة والشقاء. 


ألقوا التحية وقام رشدي بردها ثم أشار إليهم ليجلسوا الثلاثة علي المقاعد الجلدية

"اتفضلوا يا أساتذة" 


بدأ محمود الحديث 

"أنا وأخواتي بعد ما حضرتك اتصلت بينا امبارح بخصوص إعلان الوراثة قولنا نيجي لحضرتك" 


حمحم الأخر ثم اخبرهم

"بعتذر طبعاً أن كلمتكم من تاني يوم لوفاة الحاجة خيرية الله يرحمها ويغفر لها، بس هي وصتني أن أجمعكم علي طول بعد ما يتم دفنها" 


"الله يرحمك ياماه" 

ردد ثلاثتهم بحزن لا يصدقه المحامي فهو يعلم عنهم كل شىء ما اخبرته به والدتهم 


"هي جاتلي من سنة و عملتلي توكيل بإعلان الوراثة وتوزيع نصيب كل واحد فيكم من البيت ووديعة في البنك وخلافه" 


حاول ثلاثتهم اخفاء السعادة والتظاهر بالحزن الزائف، فقال مأمون

"لا البيت و لا ألف وديعة تقدر تعوضنا عن أمنا" 


عقب رشدي والذي يدرك غايتهم و ما داخلهم جيداً

"معلش يا أستاذ... 


اخبره الأخر

" مأمون يا متر"


"معلش يا أستاذ مأمون دي سُنة الحياة، كلنا هنموت واللي بيفضل عايش اعمالنا الصالحة" 


أمسك بملف ورقي وظرف أصفر كبير واردف

"ندخل في الموضوع علي طول عشان ما أخدش من وقتكم، الوصية الأولي كانت للحاجة خيرية قبل ما نتكلم علي أي حاجة لازم تكون أميرة موجودة" 


" نعم؟، أميرة مين؟" 

صاح بها ثلاثتهم، فأجاب رشدي 

"الآنسة أميرة اللي كانت عايشة مع والدتكم أخر سنتين" 


صاح محمود بغضب

"و دي إيه اللي دخلها في موضوع الورث، دي كانت حتة بت أمي لاقتها ولمتها من الشارع و بتعطف عليها" 


عقب رشدي بكل هدوء أثار حنق وغضب المدعو محمود

"والله دي وصية الحاجة خيرية، إن الوصية ما تتفتحش غير في وجودها، و انا بحاول أوصل ليها من وقت ما كلمتكم و مش عارف هي فين و لا أي رقم أتصل بيها عليه"


فسأله وليد مستنكراً لما تفوه به المحامي

"يعني لازم نلاقيها عشان نستلم ورثنا و لا إيه؟"


" بالظبط، لازم تدوروا عليها و أنا كمان هحاول بعلاقاتي أدور عليها، معايا صورة من بطاقتها اللي كانت مديهالي والدتكم"


نهض محمود بوجه من قاع الجحيم فسأله شقيقه

"أنت رايح فين؟"


أجاب بعد أن عزم علي أمره

" رايح أدور علي البت دي و مش راجع غير لما ألاقيها حتي لو مستخبية في سابع أرض"


❈-❈-❈


كان يجلس علي رأس المائدة، وصغيريه علي يساره يتشاكسا معاً كالعادة


"خد الطبق بتاعي و هات طبقك يا لوكا"


هز شقيقها رأسه بالرفض قائلاً

"لاء، و داده قالتلك إن الكورن فليكس فروتس طعمه مش هايعجبك وصممتي تاخديه" 


"و أنت مالك" 

صاحت بها بتذمر و هنا قال لهما والدهما

"و بعدين يا مالك أنت وزينب، مش قولت ناكل وإحنا ساكتين" 


أجاب ابنه

"يا بابي هي عايزة الكورن فليكس بتاعي اللي بطعم الشوكيلت وتديني بتاعها عشان بطعم الـ fruits، و داده زينات قالتلها قبل ما تحضر لها الطبق طعمه مش حلو وهي صممت تاخده" 


زحزح الكرسي الجالس أعلاه إلي الوراء قليلاً وأشار لابنته بأن تأتي إليه

"تعالي يا زوزا" 


نزلت من الكرسي و ذهبت إليه فربت علي فخذه

"تعالي اقعدي" 


ترددت قليلاً وخشيت أن يوبخها، ابتسم لها فركضت في الحال وجلست علي فخذيه

"حبيبتي مش عايزه تاكلي الكورن فروتس ليه؟" 


اخبرته بشفتيها المضمومة بتذمر 

"طعمها يكي" 


"حرام يا زوزو نقول علي نعمة ربنا وحشة" 


"خلاص مش هقول كده تاني" 


"برافو، شطوره، وأنا هعملك بنفسي أحلي توست بالمربي والقشطة" 

أخذ قطعة خبز وقام بدهنها بالمربي والقشدة واعطاها لها، تناولتها واخذت تلوكها في فمها بمتعة 

"thanks daddy" 

وقامت بتقبيل خده


وعلي الدرج كانت تنزل وتتحدث في الهاتف، وذلك بعد أن أرتدت ثياباً رسمية لسيدة أعمال أنيقة

"قوليلهم ما يعملوش أي حاجة غير لما أجي بنفسي وأشرف علي الـdesigns" 

................. 

"أوك، بس زي ما قولتلك، و أنا نص ساعة وهاكون في الشركة، يلا باي" 


وصلت إلي المائدة وجذبت الكرسي الخاص بها ثم جلست تلقي تحية الصباح 

"صباح الخير يا لوكا أنت وزوزو" 


"صباح الخير يا مامي" 


وأجابت أيضاً ابنتها علي تحيتها، تناول أمامها قطعة خبز ووضعت عليها شريحة من الجبن وشرائح الزيتون ثم وضعت قطعة خبز أخري فقامت بتقطيع تلك الشطيرة إلي قطع بالسكين وأخذت تتناول قطعة قطعة بالشوكة. 


تراقب تعابير وجه زوجها من طرف عينيها فوجدته يتناول طعامه في هدوء ودون أن ينظر لها ولو بنظرة واحدة، فقالت داخل رأسها

"أحسن برضه، خليني أروح الشركة و دماغي رايقه من غير صداع ونفسيتي مرتاحة من غير نكد" 


انتهت من تناول الشطيرة وتبعتها بفنجان من خليط الشاي والحليب، وتنظر في ساعة الهاتف كل حين والآخر حتي انتهت من المشروب وتركت القدح

"حبايب قلب مامي مش عايزه أي شقاوة و أنت يا مالك جهز نفسك الساعة 3 العصر عشان عندك تمارين السباحة، داده زينات هاتروح معاك و أنا هاجيلك علي هناك وأنا راجعه" 


"أوك، مامي" 


نهضت وتمسك حقيبتها تهم بالذهاب وكأن هذا الجالس لا وجود له


"يلا باي باي يا حبايبي" 

وأرسلت إلي صغيريها قبلات في الهواء، ارتدت النظارة الشمسية وحملت يد الحقيبة علي ساعدها وسارت خطوة تلو الأخرى 


"استني عندك" 

تخلي عن صمته فجأة، ألتفت إليه تنظر بتعجب و حنق في آن واحد، سألته باقتضاب وعلي مضض

"نعم؟" 


أجاب بهدوء يناقض أسلوب إلقاء أوامره الصارمة

"اطلعي غيري هدومك، مفيش شغل النهاردة" 

ثم أمر ابنه الذي انتهي لتوه من تناول طعامه

"مالك خد أختك وروحوا ألعبوا بره في الجاردن" 


أمسك الصغير بيد شقيقته وذهبا إلي الحديقة في الخارج، بينما صبا 

عقبت باستهزاء علي أوامره السابقة لها

"هو حضرتك مكنتش سامعني وأنا بتكلم مع السكرتيرة؟!" 


أعاد أمره وكأنه لم يسمعها

"اطلعي علي فوق" 


حدقت إليه من خلف النظارة الشمسية بحنق، تحاول جاهدة ألا تندفع في الرد حتي لا تجد ما لا تحمد عقباه، فأجابت بهدوء مماثل له

"أنا ورايا مليون حاجة مهمة مستنياني في الشركة، عن إذنك" 

سارت و وجهتها باب القصر، و قبل أن تخطو خارج محيط غرفة المائدة أوقفها صوته بتهديد يبدو أنه لا يمزح علي الإطلاق

"رجلك لو خطت بره باب القصر هاتكوني طالق" 


وقعت من يدها الحقيبة فخلعت نظارتها ولم تصدق ما ألقاه عليها للتو، أيعقل ما تفوه به؟! 


"أنت واعي للي بتقوله؟" 


"زي ما سمعتي كده بالظبط" 


تعترف داخل نفسها أنها غير قادرة للوقوف أمامه وتحديه حيث قام بوضع عائق أمامها لن تتوقعه يوماً، هي تحبه وتعشق بيتها وابنائها وإذا سارت خلف صوت كبريائها وعاندت فستخسر كل ما سبق لا محالة. 


أطاعت أمره بالصعود إلي الأعلي بخطي أشبه بالركض، ومجرد أن دخلت الغرفة أغلقت الباب وأخذت تبكي بدموع إلي حد الاحتراق، وانتابتها حالة من الهياج العصبي، تركل كل ما يقابلها حتي هدأت وتذكرت أمر ما، بحثت عن حقيبتها وتذكرت أنها تركتها في الأسفل، نظرت نحو الهاتف المنزلي الخلوي أعلي الكمود، أمسكت به وقامت بالنقر علي عدة أرقام بعد أن هدأت قليلاً من البكاء و انتظرت الرد حتي أتاها صوت والدها

"بابي أنا عايزاك تجيلي دلوقتي حالاً" 


❈-❈-❈


ونعود مجدداً إلي عروس البحر المتوسط... 

مازالت تغفو إلي الآن فالساعة تكاد تقترب علي الحادية عشر وقت الظهيرة وذلك بسبب ما اصابها من الأرق، فهي داخل منزل شخص لا تعرفه سوي الأمس، و رغم رفضها لمساعدته تكراراً لكن موقفه النبيل حيث ترك لها المنزل الكبير هذا لتشعر بالأمان ويرفع الحرج عنها لقبولها البيات في منزل أسرة هذا الطبيب الوسيم الأعزب. 


فُتح الباب بتؤدة وظهرت سعدية تحمل علي يديها ثياب مطوية، دخلت دون إصدار صوت و تحدق نحو تلك النائمة التي ترتدي عباءة قطنية بيضاء ذات أكمام تعود إلي ثياب السيدة رجاء. 


لن تبرح عينيها عنها و تتسحب دون أن تنتبه للمنضدة الصغيرة، أهتزت ووقعت من فوقها مزهرية خزفية، وقعت وتحطمت، أصدرت صوتاً أيقظ أميرة فقد اصابها الفزع، نهضت في التو، تضع كفها علي صدرها والذعر يرتسم علي وجهها، ابتسمت سعدية إليها واخبرتها

"آسفة يا موزمازيل أميرة، أصل أني أخدت هدومك وغسلتها و جففتها وكويتها وقولت أطلعهالك؟" 


"شكراً يا... 

حاولت تذكر اسم الأخرى فأكملت الثانية

"سعدية يا موزمازيل أميرة"


"شكراً يا سعدية تسلم إيدك" 


أجابت الأخرى بمكر ودهاء بعد أن تأكدت من السيدة رجاء بالأمس أن أميرة لا تمت لهم بصلة قرابة 

"العفو يا موزمازيل، ألا بصحيح هو حضرتك موزمازيل و لا مؤاخذة مدام؟، أصل دكتور رحيم لما عرفنا عليكي ماقلناش حاجة غير أنك بنت عمه وبس"


شعرت أميرة بالحرج فهي تدرك تلك النظرة التي تراها الآن في أعين هذه المرأة الماكرة، ابتلعت ريقها وبدأت تخبرها بتردد

"أنا، أنا بصراحة يعني معرفش" 


تعجبت الأخرى و لم تفهم شيئاً 

"هو إيه اللي ما تعرفيش، هقولك أني بقي عارفاكي كويس أوي، البيه مالهوش بنات عم، و هتلاقيكي واحدة من إياهم وبتضحكي عليه وعاملة نفسك مش عارفة و لا فاكرة حاجة" 


نهضت الأخرى من فوق الفراش، اصابتها الصدمة من حديث تلك المرأة، فصاحت بإنكار و دفاع

"أنت بتقولي إيه يا ست أنتي!" 


"بقول الحقيقة يا ختي" 


رفعت اصبعها اشارة تحذيرية لها

"ما اسمحلكيش تتكلمي معايا بالطريقة دي أحسنلك، واتفضلي اطلعي بره عشان هغير هدومي" 


ألقت سعدية الثياب علي الفراش ونظرت إليها بازدراء وكادت تتحدث، سبقتها الأخرى بصياح حاسم

"بره" 


"ما براحة علي نفسك يا حلوة" 


دفعتها أميرة إلي الخارج و أغلقت الباب بقوة، استندت علي الباب من الداخل وانتابتها حالة من البكاء، فهي منبوذة من الجميع واليد الوحيدة التي انتشلتها من الضياع جعلها صاحبها في موقف سئ للغاية كما شعرت بالخوف من ما هو آت و من المجهول الذي لا تعلمه بعد! 


و ها هي الآن تنتهي من ارتداء ثيابها ووشاحها، تبحث عن حقيبة اليد خاصتها فاخذت تتلفت من حولها علها تجدها، سمعت صوت تنبيه سيارة يتبعه صوت الحارس

"أنا جاي أهو يا رحيم بيه" 


ذهبت نحو الشرفة لتلقي نظرة، وجدت سيارته تعبر البوابة التي فتحها الحارس، صف سيارته جانباً ثم نزل ويخبر الأخر وهو يلقي إليه مفاتيح السيارة

"لو سمحت يا عم دسوقي هات الحاجات اللي في شنطة العربية وخلي سعدية تطلعها" 


"أمرك يا بيه" 


كانت تتابعه وهو يمسك بهاتفه ويبدو أنه يتابع شيئاً ما علي الشاشة، يخلع نظارته السوداء و علقها علي مقدمة قميصه، انتهي من المتابعة وأغلق الشاشة، انتبه إلي التي ظلت تراقبه من خلف زجاج الشرفة، رفع رأسه مبتسماً إليها ولوح بيده بتحية، اكتفت بالإيماءة يخالطها طيف ابتسامة ثم عادت للداخل بعد أن عزمت علي ترك هذا المنزل في الحال، و عليها أن تخبره بذلك. 


دخل واتجه إلي المطبخ، رأته سعدية فتركت ما بيدها من الحقائب التي جلبها معه، ركضت خلفه

"عشر دقايق والفطار هايكون جاهز يا بيه" 


"روحي أنتي يا سعدية، طلعي الشنط لأميرة فوق" 


وقفت في مكانها دون حراك تتابعه يفتح البراد ويخرج منه معلبات وطبق البيض، سألها دون أن ينظر إليها

"أنت لسه واقفة عندك بتعملي إيه؟" 


"ها؟!، حاضر يا بيه أنا طالعة أهو" 


وذهبت تتحدث بصوت خافت

"و كمان بيعملها الفطار بنفسه، ده شكل الموضوع وراه حوار كبير أوي، لما ألحق أكلم رجاء هانم وأقولها علي اللي بيحصل" 

اهتزت فجأة عندما اصطدمت بها أميرة التي نزلت للتو، فصاحت الأخرى

"ما تفتحي ياختي و لا دي كمان ماتعرفهاش؟!" 


حدقت إليها بازدراء و تقزز دون أن تعقب علي أسلوبها المنفر، تابعت سيرها تبحث عنه حتي سمعت صوت موسيقي آتية من المطبخ يصاحبها صوته، يغني تزامناً مع صوت فيروز

"نسم علينا الهوى من مفرق الوادي" 


توقفت لدي مدخل الباب وظلت تستمع إليه وتتأمل ما يفعله، يقف أمام الموقد ويقوم بإعداد البيض المقلي ثم تقديمه علي طبق من الخزف. 


"صباح الخير" 

انتبهت لإلقاءه عليها تحية الصباح فأجابت

"صباح النور" 


فتح الصنبور ليغسل يديه، يخبرها بمزاح

"يارب يا فندم تكون الغرفة عجبت حضرتك وقدرتي تنامي كويس، أصل في فندقنا المتواضع شعارنا أهم حاجة راحة الضيوف" 


ابتسمت رغماً عنها حيث نجح في تبديد شعور الحزن لديها، لكنها لم تنس كلمة أو إهانة من تلك السعدية سليطة اللسان، لذا اخبرته بجدية وامتنان

"دكتور رحيم، أنا بشكرك جداً علي وقوفك جمبي، و جميلك عمري ما هنساه، فبستأذنك أنا مضطرة أمشي لأن ما ينفعش أقعد هنا أكتر من كدة" 


اقترب منها ووقف أمامها يسألها

"فيه حد ضايقك هنا؟، سعدية و لا عم دسوقي؟" 


تهربت من النظر إليه مباشرة وأنكرت فهي لا تريد إخباره بما قالته سعدية حتي لا تتسبب لها الأذي في عملها

"محدش عملي حاجة، الحكاية و مافيها إنه، إنه.... 


"أومال فيه إيه؟" 


"فيه إنه ما ينفعش أقعد هنا، أنا لا أقربلك من قريب و لا بعيد، و مش مستريحة فمعلش ممكن تسمحلي أمشي هاروح أدور علي مكان من غير أي مشاكل ليا و لا أي حد"


"معلش أنتي يا أميرة، مش هاينفع أسيبك لوحدك أولاً بسبب حالتك المرضية، ثانياً أنتي ما تملكيش المال اللي يساعدك تلاقي مكان تقعدي فيه، و الدنيا بره مفيش أمان، و أديكي جربتي بنفسك لما خرجتي من المستشفي وأتعرضلك الراجل إياه" 


"أرجوك أنت سيبني علي راحتي، مش عايزة أعملك مشاكل مع اللي حواليك" 

حرصت أن لا تخبره، لكنه فطن بالطبع سبب رفضها للإقامة هنا، أطلق زفره يستعين بالصبر حتي لا يستسلم للغضب


"استنيني هنا، راجعلك تاني" 


صعد الدرج وسار نحو الغرفة التي بها سعدية، فهي تتحدث في الهاتف

"والله زي ما بقولك كدة يا رجاء هانم" 


فتح الباب فجأة، شهقت سعدية وخبأت الهاتف خلف ظهرها، دخل ورمقها بانزعاج بائن علي ملامح وجهه، تقدم نحوها ومد يده يحركها طلباً منها أن تعطيه الهاتف، ابتلعت ريقها ورفعت الهاتف علي أذنها

"معلش يا هانم أنا... 

اختطف منها الهاتف و لوح لها بيده أن تترك الغرفة فامتثلت لأمره في الحال، بينما هو تحدث في الهاتف

" أظن عيب أوي يا ماما لما تخلي سعدية تتجسس عليا وتنقلك كل أخباري"


"و ليك عين تتكلم يا حضرة الدكتور المحترم!" 


"حضرتك فاهمة غلط، أنا هابقي أكلمك بعدين وهافهمك كل حاجة، بستأذنك مضطر أقفل دلوقتي، سلام" 


"هاتقفل عشان تروح للهانم اللي جايبها من الشارع... 

أنهي المكالمة دون تردد حتي لا يدخل في أحاديث لا نهاية لها، و عاد إلي المطبخ فلم يجد أميرة، خرج وبحث عنها في البهو حتي رآها عبر الباب الزجاجي المطل علي الحديقة في الخارج. 


ترص الأطباق بعناية وجاءت تلتفت إلي يسارها فوجدته أمامه، شهقت بفزع

" بسم الله الرحمن الرحيم"


ضحك من عفويتها وقال

"ما تقلقيش، عمر العفاريت ما بتطلع للملايكة" 


اصابها بالخجل بعد أن أدركت غزله الغير مباشر والعفيف، فأجابت دون النظر إليه

"أنا كملت اللي كنت بتحضره وحطيته هنا، أصل لاقيت الجو جميل و فيه نسمة هوا حلوة أوي" 

همت بالذهاب فاعترض طريقها وسألها

"علي فين؟" 


"طالعة أجيب شنطتي عشان ماشية" 


رأي في عينيها إصرارها الحريص علي المغادرة، تنهد واخبرها بهدوء وإقناع

"أنا مش هاجبرك علي حاجة، بس ممكن تتفضلي نفطر مع بعض، و بعدها هاخدك بنفسي و هوديكي لأوتيل قريب من هنا، عشان أبقي قريب منك و أقدر أطمن عليكي" 


وقعت في حيرة بدت علي نظراتها، جلس و أعد حاله لتناول الطعام

"يلا اقعدي عشان بعد ما نخلص المشوار ده، هنطلع علي المستشفي نبدأ الفحوصات وأطمن علي حالتك قبل ما نمشي في إجراءات العملية" 


جلست علي الكرسي المقابل، سألته باهتمام بالغ

"عملية إيه؟" 


"عملية تخلي ذاكرتك ترجعلك" 


"بجد يا دكتور؟" 


ابتسم وشعر بالسعادة لما يراه في عينيها من أمل، هيهات واخبرها ما جعل بريق الأمل انقشع في لحظة

"بجد، لكن حالتك اللي هاتحدد هل العملية ممكن تنجح أو العكس" 


"حضرتك تعرف حد عملها قبل كده و نجحت؟" 


"كنت في مؤتمر طبي واتعرض فيه تقرير عن حالة مشابهة لحالتك، لكن... 


أثر الصمت و تذكر حديث الطبيب له عن ضعف نجاح العملية نظراً إلي أثارها الجانبية


" العملية فشلت، صح؟، طب هقولك علي حاجة و ما تستغربش، أي حد مكاني بيبقي بيتعلق في قشاية تقدر ترجعه يفتكر أي حاجة و خصوصاً أهله و ناسه، أنا بقي خايفة"


نظرت نحو الأزهار واسطردت

"خايفة لو رجعتلي الذاكرة، اكتشف أن حياتي كانت مآساه أو أهلي هم اللي يكونوا السبب في اللي وصلت ليه، خايفة ليكون ماليش حد في الآخر ووقتها مش هايفرق وجود الذاكرة أو عدم وجودها" 


"و ليه تظني الوضع السئ مش يمكن حياتك القديمة أحسن، و يمكن ليكي أهل و عيلة بيحبوكي و زعلانين عليكي" 


ابتسامة ساخرة يشوبها الشجن فاخبرته بما تبوح به لأول مرة عن ما كانت تخبر به دائماً نفسها

"تفتكر لو كان ليا أهل و عيلة بيحبوني إيه اللي خلاهم ما يسألوش عني؟!، إيه اللي خلاهم ما حاولوش يدوروا عليا و يبلغوا كل جهة مسئولة تقدر توصلهم بيا"


"الله أعلم، بس إحساسي بيقولي... 


" ليك حق طبعاً تقفل السكة في وشي يا حضرة الدكتور" 

كان صياح والدته الذي قاطع حديثه، نهض واقترب من والدته التي تحدق في أميرة بنظرات قاتلة من أسفل إلي أعلي


"تعالي يا ماما نتكلم جوه" 

أمسك يد والدته فجذبت يدها منه بعنف وأكملت وصلة الصياح والتوبيخ

"مش رايحة في أي مكان، غير لما تقولي مين البت دي و بتعمل إيه في الفيلا؟، و قال أنا اللي رافعة راسي لسابع سما وعماله أفتخر بيك وبأخلاقك، ده الناس كانوا بيقولوا لي يا زين ما ربيتي يا رجاء، ابنك راجل من ضهر راجل و متربي سبع مرات"


"ماما لو سمحت تعالي نتكلم جوه أحسن" 

محاولة بائسة باتت بالفشل و كان تعقيبها لازعاً وحاداً

" اخرس، لما اتكلم ما تقطعنيش، بقي كدة يا دكتور؟!، كل ده بسبب بنت خالتك اللي راحت لغيرك قومت عشان تنساها روحت جايب لي واحدة من الشارع ومقعدها في الفيلا بتاعتنا، لاء و كمان خليت سعدية تطلع ليها من هدومي، ما كنت خليها تورثني أحسن بالحيا!" 


"والله العظيم حضرتك فاهمة غلط، أميرة محترمة جداً بس هي ظروفها صعبة شوية" 

في تلك الأثناء كانت أميرة تبتعد رويداً رويداً، تضع كفها علي فمها، تمنع حالها من البكاء وخاصة بعد أن قالت رجاء أقسي الكلمات من صفات و نعت ظالم لها


"ظروف إيه اللي تخلي واحدة زيها لا تعرفك و لا تعرفها و تيجي تبات في الفيلا معاك، إلا لو واحدة من البنات الشمال و ما صدقت لاقت صيد ابن ناس زيك تقدر تضحك عليه" 


أصبحت علي مسافة بعيدة تبكي و تهز رأسها بالرفض، ترفض تلك الإتهامات الظالمة، لذا قررت الابتعاد بل الرحيل من هذا المكان، ركضت نحو البوابة وفي ذلك الحين كانت مفتوحة علي مصراعيها بعد دخول سيارة السيدة رجاء منذ قليل. 


رآها دسوقي الحارس فأخذ ينادي

"يا آنسة؟، رايحة فين؟" 


لم تلتفت خلفها و استمرت في الركض بكل ما أوتيت من قوة، ذهب دسوقي بعد فشله للحاق بها إلي رحيم


"يا دكتور رحيم، إلحق يا دكتور" 


يلتقط أنفاسه، ألتفت إليه الأخر وتابعته والدته بالاهتمام، فسأله بقلق

"في إيه يا دسوقي؟" 


أكمل لاهثاً 

"بنت عم حضرتك لاقيتها بتجري علي بره، فضلت أنادي عليها ماردتش عليا ومالحقتهاش" 


لم يمتلك وقت للرد فركض هو أيضاً، صاحت والدته بالنداء

"رايح فين؟، يا رحيم؟، رحيم؟" 


❈-❈-❈


تضغط متابعة لأحدى الصفحات علي موقع التواصل الإجتماعي الشهير، فتلك الصفحة تعرض مقاطع من البرامج الحوارية، فانتبهت إلي عنوان شيق قد جذبها و كان بعنوان

«جوزي بيحب جارتي و عايز يتجوزها قولولي اعمل إيه؟» 


ضغطت علي تشغيل المقطع و استمعت إلي متحدثة في الهاتف و تستمع إليها مذيعة شهيرة تستقبل تلك المشكلات الناتجة عن العلاقات كالزواج و الخطوبة والزواج في منزل عائلة الزوج و خلاف ذلك. 


كانت مشكلة المتصلة تشبه كثيراً ما تمر به شيماء التي انصتت لكل حرف وتهز رأسها وتتبدل تعابير وجهها كل حين و آخر كلما تسرد الأخرى تفاصيل أكثر و أكثر حتي انتهي حديثها بمقولة 

«و للأسف يا أستاذة لما واجهته بعلاقته مع جارتنا قالي بكل جرأة بحبها وعايز يتجوزها و لو مش عاجبك هاطلقك» 


شهقت شيماء وضغطت إيقاف المقطع 

"هار أبوه أسود، يخربيتك أنت و كل اللي زيك يا راجل يا عره، بس الحق مش عليه، الحق عليكي يا غبية، و أدي تعليق عشان تفوقي أنتي و كل واحدة غبية، ما أنا لازم أنصحكم قبل تتغفلوا وأديكم عصير خبرتي" 


فتحت مستطيل التعليقات و قامت بكتابة الآتي

«لو جوزك عاوز يتجوز عليكي يبقي أنتي ما بذلتيش المجهود الكافي في أنك تكرهيه في صنف الستات كلها... ستات خايبة 😏» 


ضغطت علي إرسال التعليق بابتسامة تصل إلي أذنيها و بكل فخر واعتزاز تقول 

"الله عليكي يا شوشو، عليكي حِكم تتكتب في التاريخ ويدرسوها للعيال في المدارس" 


سمعت صوت فتح باب المنزل، رفعت عينيها عن شاشة الهاتف فوجدته زوجها الذي تعمد هجرها والنوم في غرفة أخرى، و ذلك منذ أن تلقي لكمة في عينه علي يد شقيق الجارة الحسناء، مما تسببت له في كدمة تميل إلي الأزرق حول عينه، و حينما عاد إلي منزله أختلق مشكلة دون داع حتي لا تري الذي حدث له وتبدأ التحقيق معه. 


"ما ترمي السلام يا أستاذ نادية لطفي في فيلم النضارة السوداء"


و بدلاً أن يذهب إلي غرفته عاد إليها و علي مسافة لا يمكنها كشف ما يخبأه اخبرها بتهديد

"لأخر مرة بحذرك يا شيماء، لو ما بطلتيش أسلوب التلقيح ده معايا هاتشوفي مني وش هخليكي تهربي أول ما مجرد تلمحيني" 


حركت شفتيها يميناً و يساراً و لم تبالي لتهديده فعقبت

"هو أنا شايفة منك حاجة غير نضارة الشمس اللي مصدرهالي كل ما اشوف خلقتك، و تدخل الأوضة تقفل علي نفسك، ليه يعني، كل ده عشان عملت الرز حبة و حبة مش بشعرية زي ما بتحبه" 


"يا سلام!، هو ده سبب خناقي معاكي برضه!، و لا نسيتي طبق الشوربة المولعة لما دلقتيها عليا بالقصد!" 


نهضت ووضعت يديها علي جانبي خصرها واخبرته بإنكار

"هو أنا هدلق عليك الشوربة قصد ليه إن شاء الله، كنت حارق دمي مثلاً و لا بتعمل حاجة من ورايا!، ما قولتلك مكنش قصدي اتكعبلت في كرسي السفرة، كفرت يعني و لا أذنبت" 


"لاء يا شيماء، أنا اللي أذنبت يوم ما فكرت أتجوزك، بقت عيشة تقرف" 

ألقي كلماته و ذهب مسرعاً نحو غرفته، لكنه وجد يد تقبض علي قميصه من الخلف تجبره علي الإلتفات إليها 

"أنت قد الكلام اللي أنت قولته؟" 


رأي في عينيها نظرة قد رآها من قبل في أعين القاتلة ريا والتي أدت دورها ببراعة الفنانة عبلة كامل، ابتلع ريقه بخوف لم يظهره لها

"عايزه إيه يا شيماء؟" 


"عايزاك تعقل يا حبيبي و ترجع تنام في فرشتك جمب مراتك حبيبتك، لأن بيقولوا الراجل المتجوز اللي بينام لوحده كتير، اللهم احفظنا ويجعل كلامنا خفيف عليهم بيبقي مطمع ليهم، يعني هتلاقي نسوان الجن يكراشو عليك و لو واحدة فيهم عشقتك يا حبيبي يبقي علي الله حكايتك، وأخرتك العباسية جمب أخواتك المجاذيب" 


"و مين بقي اللي افتي لك الفتوى المتخلفة زي افكارك دي يا حبيبتي؟" 


"هو أنت ما تعرفش؟، عمي الشيخ سالم الله يرحمه زارني في المنام و فضل يقولي يا شيماء خدي بالك من طه، فيه واحدة منهم بتلوف عليه حذريه وقوليله اللي أنا قولته لك من شوية كدة بالظبط" 


افترقت شفتيه بابتسامة صفراء واخبرها بسخرية

"طب ياريت يا شوشو لما يزورك أبويا الله يرحمه تاني، بلغيه سلامي وقوليله ابنك بقي بيكفر عن سيئاته اللي فاتت و اللي جاية و البركة فيكي يا حبيبتي" 


أبعد يدها ونفضها عنه وأكمل تحت نظراتها النارية

"و كمان قولي له إن ابنك عنده العيشة مع ستات الجن أرحم بكتير مع العيشة معاكي" 


و كاد يفتح باب الغرفة فاوقفته

"يعني ده أخر كلام عندك يا طه؟" 


أجاب بإصرار وحسم

"أيوه، و لو مش عاجبك أبقي روحي اشتكيني لأبويا في تربته" 


شرعت في رفع أكمام ثوبها وقد عزمت علي أمر تمنعت عنه مراراً قبل ذلك 

"أنا كده عداني العيب و أزح، خد دي يا قلب شوشو" 


"ااه، يا مجنونة" 

آهه أطلقها بألم وهو يتلقي منها لكمة هشمت النظارة و أصابت عينه المصابة سابقاً بل و تسببت بفتح جرح صغير في نهاية حاجبه. 


شهقت بخوف عندما رأت خط دماء رفيع ينزل جانب عينه، صاحت بنواح

"يا لهوي أنا هببت إيه، فقعتي عين جوزك يا شيماء" 


اقتربت منه وأخذت تربت عليه 

"أنا آسفة يا حبيبي، تتقطع إيدي اللي ضربتك" 


"غوري من وشي يا شيماء، كل حاجة مكنش قصدك، من يومين تحرقي فخادي بالشوربة و المرة دي كنتي هتفقعي لي عيني بالبونية، روحي يا شيخة منك لله"


ابتعد عنها ودخل إلي الغرفة ثم أغلق الباب خلفه بالمفتاح، أسرع نحو المرآة ليطمئن علي عينه و يتفحص جرح حاجبه


"منك لله يا بعيدة، عيني كانت هاتضيع" 

و إذا به تتحول تعابير وجهه من الألم إلي ابتسامة 

"الحمدلله إنها جت علي جرح صغير، كدة بقي مش هلبس النضارة تاني و أخاف تسألني مين اللي ضربك في عينك، و دي بومة لو عرفت اللي حصل ممكن ترميني و أنا و روميساء من سطح البرج" 


عادت إلي الردهة وتبكي علي ما اقترفت يدها في عين زوجها، جلست تنعي حظها حتي انتبهت إلي هاتفه الذي وقع منه و لم يشعر به، كان يضئ برسالة واردة من روميساء عبر تطبيق الدردشة، دنت وأمسكت به لتجد جزء كبير من نص الرسالة يظهر علي شاشة القفل و كان فحواها

«عامل إيه يا طه... أنا من وقت ما كنت عندي و...... 

لم تستطع معرفة الرقم السري للهاتف، قامت بتجربة عدة أرقام و كل تجربة تنتهي بعدم الفتح، زفرت بنفاذ صبر وقالت بوعيد

"يعني إحساسي طلع صح و طلعت بتروح لها كمان يا سي طه، و قال أنا اللي عماله أعيط علي عينك اللي باظت، ده أنا ما بقاش شيماء لو ما فقعتلك عينيك الاتنين و خليتك بدل ما أنت طه البحيري تبقي طه حسين" 


يتبع


#الفصل_التاسع_الجزء_الأول

#غرام_الذئاب

#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب

#بقلم_ولاء_رفعت


أيا دموعًا من الحزن مُرّت شجونهَا،

أَخبِريني، أتبكي العينُ أم تدمع الجفونُ أمانيا؟

ويا قلبًا يحمل في الضلوع وزرًا أثقلتهُ،

ألستَ أنت من اختار ذات يوم طريق السّرايا؟


تنظرُ إلى الحياةِ من نافذةٍ كالسّراب،

كأنّ كلّ ما عبرت، خيالٌ أو خُطى الهَاربين.

تبحثُ في الضباب عن معنى أو جواب،

لكن الصدى في قلبها يقول، أيّ مصيرٍ تنتظرين! 


تنظر إلي الطريق من خلف نافذة باب السيارة، تذرف عينيها دموعها الحارقة تزامناً مع دموع قلبها اللائم لها علي كل ما هي مقبلة عليه، فكانت منذ قليل لدي المحامي الذي عثرت عليه خلال رحلة من البحث و التصفح علي الإنترنت، و عندما قرأت العنوان شعرت بالراحة يكفي أنه يبعد عن منطقة نفوذ زوجها، هكذا ظنت فبمجرد أن ذكرت اسم زوجها بالكامل شحب لون وجهه و.... 


«مشهد سابق» 

داخل مكتب المحامي.. 

ابتلع ريقه بتوتر لم يظهره أمامها بعد سماعه اسم زوجها فسألها

"حضرتك متأكدة أنك عايزة ترفعي علي جوزك قضية خلع؟" 


اومأت وأجابت بحزن مرير

"لو مكنتش متأكدة، مكنش زماني قاعدة قدام حضرتك دلوقتي" 


"حضرتك مش فاهمة قصدي، هو الموضوع.... 


" أنا فاهمة قصدك كويس أوي، واضح لما قولتلك علي اسمه بالكامل وشك أصفر، و عارفة أن جوزي ليه علاقات و نفوذ كتيرة و أنت خايف منه"


اعتدل من وضع نظارته الطبية

"أنا بـ... 


"أنا هادفعلك المبلغ اللي هاتقول عليه، بس ياريت الموضوع يخلص بسرعة لأني ما بقتش استحمل أعيش معاه اكتر من كده، و عندي أسباب كافية تخلي القاضي ينطق بحكم الخلع من أول جلسة"


«العودة إلي الوقت الحالي» 


"معلش يا مدام دنيا أنا مضطر أقف بالعربية علي الناصية، حضرتك زي ما أنتي شايفة الحارة ضيقة و مش هاينفع أكمل" 


انتبهت إلي حديث السائق و دون أن تطلب بأن يعيد عليها كلماته مرة أخرى، نظرت من حولها و علمت بوصولها لهذا المكان مرة أخرى! 


نزلت من السيارة وسارت بضع خطوات ووقفت تتذكر الزيارة السابقة لها في هذا المكان وخاصة في مكتب الطبيبة بالأعلي


«مشهد سابق» 


تنظر الطبيبة إلي شاشة جهاز السونار ثم نهضت

"كيس الحمل في أفضل حال، ممكن أعرف ليه عايزه تجهضي؟" 


وقع السؤال عليها كوقع الماء المثلج فوق رأسها رغم مجيئها هنا بكامل إرادتها لكن ضميرها و قلبها يخبراها أن ترحل و تتراجع عن هذا الجُرم، و بعد تفكير قليل واستسلامها إلي وساوس إبليس أجابت كذباً

"عندي أسبابي المرضية" 


"معاكي شهادة طبية أو تقرير فيه نوع التعب اللي عندك؟" 


ضجرت من أسئلة الطبيبة والتي استشفت من خلالها الاتهام و عدم تصديقها، لذا اختارت اللهجة الأخرى و التي اكتسبتها من زوجها حديثاً

"بصي يا دكتورة من الآخر كده و من غير لف و دوران، أنا قبل ما اجيلك سألت عليكي ناس معرفة و هم قالولي أنك بتعملي العمليات ديه غير العمليات الشمال اللي بترجعي فيها البنت من واحدة ست لبنت بنوت، فياريت بلاش بقي الأسئلة اللي مالهاش لازمة وفلوسك و هتاخديها مقدم" 


شعرت الأخرى بالتوتر والخوف، خشيت أن خلف تلك المرأة خدعة من الشرطة 

"مش عايزه حاجه و فلوسك خليهالك، روحي لمعارفك خليهم يدلوكي علي حد غيري" 


نهضت دنيا و ازاحت الدثار من فوقها و نزلت لتذهب خلف الطبيبة و لم تجد مفراً من الإجابة البديلة و التي خططت لها من قبل المجئ، حاولت تذكر كلمات زوجها من إهانة وتهديد و كيف كان يعاملها حتي وجدت دموعها تنهمر، اكملت هذا المشهد التمثيلي ببراعة

"ارجوكي يا دكتور، أنا جوزي مهددني لو حملت هيطلقني، يرضيكي بيتي يتخرب، غير إنه مفتري و ظالم، ده ممكن يموتني فيها" 


شعرت الطبيبة بالعطف عليها، فاخبرتها بملامح تحمل الحزن عليها

"خلاص يا مدام دنيا، كفاية عياط، و معلشي سامحيني، أنا شكيت فيكي ليكون حد زقك عليا، و لا تكوني تبع البوليس" 


اعطتها محرمة ورقية و سكبت لها كوباً من الماء و قدمتها إليها

"أنا هعملك اللي عايزاه، بس خدي بالك العملية دي مش سهلة زي ما أنتي مفكره، دي بيبقي فيها خطر علي حياتك" 


«عودة» 

كانت تتردد قبل أن تدلف إلي فناء المبني، وصوت داخلها يذكرها بأن ما ستفعله جريمة لدي القانون و حرام في الشرع والدين.


وجدت ساقيها تتحرك حتي وصلت إلي البوابة و كادت تعود إلي السيارة لكن هناك إتصال من الطبيبة لتذكرها بموعد العملية، فالموعد بعد نصف ساعة. 


و في مكان آخر... يتعانق انعكاس لون السماء مع لون أوراق الريحان بين اهدابه التي ترف كل حين و الآخر، وهناك ضباب رمادي ناتج عن حرق التبغ من اللفافة المحترقة بين أصابعه، فذلك الدخان يقف حائل بينه و بين الحائط الزجاجي، يقف أكثر من ساعة في حالة تفكير ضاري لم يعرف الرحمة، ينهش عقله و قلبه أيضاً، فهو سؤال واحد يتردد داخل رأسه، لماذا أصبحت الحياة بينهما تنحدر إلي الهاوية! 


صار يقضي معظم يومه داخل مكتبه الشركة الخاصة به و يعود في وقت متأخر مساء حتي لا يلتقي بها، رغماً من يقينه أنها لا تغفل عن وجوده حينما يعود ويدخل إلي غرفة مكتبه لينام ويستيقظ صباحاً في اليوم التالي و يبدل ثيابه ثم يذهب إلي عمله من جديد، فهذا الوضع الرتيب منذ آخر ليلة تمت خلالها مواجهة و نقاش حاد وعادت الأمور بينهما إلي نقطة الصفر. 


صوت اهتزاز هاتفه أعلي سطح المكتب جعله يلتفت نحوه و بطرف عينيه لمح هوية المتصل فاسرع بالإجابة وتلقي صوت أحد رجاله يخبره 

"كنان بيه، المدام نزلت من البيت من حوالي ساعة زمن، خدت أوبر ونزلت المعادي في شارع 9 قدام عمارة قديمة من أربع أدوار مفيهاش حد غير مكتب محامي، طلعت وراها و فضلت واقف بره لحد ما دخلت للمحامي، روحت علي طول سألت المساعد مكنش عايز يقول حاجة غير لما غمزته بقرشين فقالي أن المدام واخده ميعاد قبل ما تيجي و جاية في قضية خلع" 


كان الآخر يستمع إليه ويجز علي أسنانه حتي برزت عظام فكه من فرط رياح غضبه العاتية التي تموج في صدره الآن، يبدو أنها كانت تخطط منذ فترة إلي ما تفعله وانتظرت ريثما تمتلك ما يجعل قدميها ثابتة علي أرض صلبة لتنفصل عنه دون الوقوع تحت رحمة سطوته و تهديده السابق لها وهو عدم الطلاق بتاً و سيأخذ ابنائه ويجعلها تعيش في نيران الحرمان من رؤيتهم مرة أخرى. 


اتحسب أنها تمتلك الذكاء لتتحداه، كم هي حمقاء فهو الذي يمتلك الدهاء و المكر  و بإمكانه أن يفعل بها ما يجعلها تركع أمامه ذليلة لكي يرحمها. 


أطلق زفرة طويلة اخترقت أذن هذا المنتظر الرد من سيده، عقب قائلاً بهدوء نقيض حالته

"هي لسه عند المحامي؟" 


"عشر دقايق و خرجت علي طول و رجعت تركب مع العربية اللي كانت فيها، و بعدين طلعت علي منطقة اسمها المعصرة، فضلت وراهم بالعربية لحد ما نزلت علي ناصية الحارة وراحت لدكتورة النسا اللي كانت عندها من تلات أيام" 


شعر الآخر علي الفور بأن هناك خطب ما و سبب وراء تلك الزيارة الثانية خلال وقت قصير، و ما جعل الشك يدق ناقوس الخطر داخل رأسه عندما تذكر أن زوجته كانت تتابع حملها حتي الولادة مع طبيب تقع عيادته في حي مجاور للمنطقة، فلماذا ذهبت إلي طبيبة أخرى و في تلك الحارة العفنة و إلا أنه يوجد سبب كما يخبره حدسه، تذكر سريعاً عندما عاد في الأمس لاحظ ظرف كبير مدون عليه اسم أحد المعامل الشهيرة، فإذا صدق حدسه فلا أحد يلومه علي ما سيفعله بها! 


"كنان باشا" 


انتبه إليه بعد أن فاق من تفكيره القاتل، صاح بصوت وصل إلي القاصي والداني

"خليك مكانك و ماتتحركش و أنا مسافة السكة و هاكون عندك" 

أنهي المكالمة علي الفور، امسك بمفتاح سيارته و سترة البدلة يرتديها علي عجل وذهب ليمنع تلك الحمقاء من الكارثة التي علي وشك الحدوث. 


                      ❈-❈-❈     

يتسابق مع الزمان و المكان مزدحم بالسيارات و المارة، يريد اللحاق بها قبل أن تفعلها، قام بمخالفة كل الإشارات المرورية و لم يكترث إلي الردارات التي ترصد سيارته و تسجل كل مخالفة يفعلها، لا تهمه العواقب قدر اهتمامه، فيجب عليه الوصول في أسرع وقت. 


و ها هي و بعد صراع مع قلبها وصوت ضميرها الذي تأبي سماعه، تتمدد علي سرير عمليات الولادة، تشاهد الطبيبة و برفقتها سيدة تحل محل الممرضة، تحضر أدوات طبية من مبضع الجراحة و مقصات مختلفة الأحجام و خيط طبي، هذا المنظر المريب و المخيف يكفي لجعل الدماء تهرب من الوريد ويكاد القلب يتوقف عن الخفق، تغمض عينيها، تكاد تبكي بل وسيطر الآن عليها الشعور بالندم، 

أفزعها صوت الطبيبة

"جاهزة يا مدام دنيا؟" 


و كانت الطبيبة تمسك بالإبرة الممتلئة بالمادة المخدرة، ألتقطت قطنة غمرتها في المعقم و قامت بمسح رسغ دنيا التي ارتعشت بخوف لامسته الأخرى و أحست به

"بلاش توتر وخوف، ضغطك هايرتفع و ده مش في صالحك" 


نظرت إلي الطبيبة تارة و تارة أخرى تنظر نحو الباب، منفذ الهروب الوحيد من قرارها الظالم، امسكت الأخرى يدها و تستعد لغرز إبرة المخدر بها، انتفضت دنيا 

وهيهات قلبها توقف عن النبض عندما فتح الباب علي مصراعيه بصوت هادر يناديها

"دنيا" 

وقعت الإبرة من يد الطبيبة التي تسمرت في مكانها و كذلك المساعدة التي وقع ما بيدها من الفزع و هول الموقف، ورؤية هذا الوحش الكاسر و عينيه تلمع بغضب يحرق الأخضر و اليابس!


                      ❈-❈-❈

دخان كثيف منتشر في أرجاء غرفة المكتب داخل القصر، ذلك الدخان ناتج عن إحتراق لفافة التبغ العاشرة و ربما العدد أكثر من ذلك، فكلما يصبح في حالة مزاجية سيئة يلجأ إلي التدخين بشراهة، تلك الوسيلة ينفث من خلالها غضبه بدلاً من الاستسلام إلي أفكاره السوداء، هو يحبها بل و يعشقها لايريد إيذائها كسابق عهده في أول عام من الزواج، تلك البلهاء العنيدة لا تعلم حقاً قيمتها و مكانتها داخل قلبه و عقله، يعشقها حد الجنون، متيم بها و هائم في بحور عشقها، و يالها من عنيدة مدللة، ضمنت حبه و كيف هو أصبح يتحلي بالصبر نقيض ما كان عليه في السابق، فمن أجل عينيها يفعل المستحيل، و لما لا؟!، فهي صبا القلب والروح. 


دق الباب ثم فتحت أحد الخادمات لتخبره 

"عابد بيه جه بره و عايز يقابل حضرتك" 


انتهي من تدخين اللفافة التي بيده ثم أطفأ بقاياها داخل المطفأة الكريستالية، ذهب ليستقبل والد زوجته الذي كان ينتظره في البهو وكأن شيئًا لم يحدث منذ قليل، مبتسمًا ابتسامة رسمتها الاحترافية لا العاطفة، وهو يعلم جيدًا سبب هذه الزيارة، حينما عانق حماه بترحاب

"أهلاً وسهلاً عابد بيه"


بادله الأخر العناق بحرارة، لكن بعين الأب التي تحمل عتابًا دفينًا

"اسمها بابا عابد، ولاّ أنت مش معتبرني زي والدك الله يرحمه؟"


ابتسم قصي بتلك الابتسامة التي تخفي وراءها طبقات من المشاعر المتداخلة، ورد سريعًا يشوبه القليل من المزاح

"طبعًا حضرتك زي والدي، بس أنا مش عايز أكبرك"


ضحك حماه ورد ممازحًا

"مين ده اللي كبر؟!، أنتم اللي كبرتوا وعجزتوا"


اجاب الأخر بمزاح ساخر

"معلش بقى يا عمي، كل سن ليه أحكامه، تعالَ اتفضل نقعد في المكتب"


دخل الاثنان غرفة المكتب، حيث جلس عابد براحة على الكرسي الجلدي الفخم، مستندًا بذراعيه على مسندي الكرسي. أخذ يتأمل محتويات الغرفة بدقة، ثم علّق بنبرة مليئة بالحنين

"نفس ديكور مكتبك اللي كان في قصر رسلان العزازي، نفس الأثاث، حتى المكتب"


كان الأخر يقف عند بار صغير يحضر فنجانين من القهوة بماكينة الإسبريسو الخاصة به، وأجاب مبتسمًا

"الله يرحمه، كان ذوقه متفرد وكأنه ملك من العصور الوسطى، طبع جوايا نفس الذوق وحب كل ما هو متميز وفريد"


مدّ عابد يده إلى صندوق خشبي على الطاولة أمامه وفتحه ليكشف عن لوح شطرنج فاخر.

بدأ يرص القطع بعناية، ثم قال دون أن يرفع عينيه عن اللوح بنبرة ذات مغزى مقصود

"وعلمك كمان إن القسوة عمرها ما تجيب نتيجة غير إنها تولّد الجفا في القلوب"


وضع الأخر صينية القهوة أمام حماه وقال بثقة مشوبة بالهدوء

"اطمّن يا عمي، مفيش حد بيقسى على اللي بيحبهم إلا لو كان خايف عليهم"


أمسك حماه بقطعة شطرنج، ووضعها بحركة مدروسة على اللوح، ثم قال وهو يختبر رد فعل صهره

"تفتكر لما قلت لك ليلة فرحكم إني مطمن عليها معاك، ليه أنا قولت كده؟"


ابتسم صهره بخفة، وأمسك قطعة شطرنج ليعترض طريق القطعة التي وضعها حماه، ثم قال بنبرة واثقة

"عشان كنت عارف إني بحبها وعمري ما هأذيها"


حرك عابد قطعة أخرى ثم عقب قائلاً

"و عرفت إنه حصل ما بينكم حوارات كتير لا داعي لذكرها لأن في الأول و الأخر دي خصوصيات و ما ينفعش اتدخل ما بين راجل و مراته اللي هي بنتي"


ترك الأخر القطعة التي كان يمسك بها، واستند بظهره إلى الكرسي، ثم قال بلهجة فيها رسائل خفية

"وأنا مقدّر موقفك يا عمي، ومهما حصل أو هيحصل بيني وبين صبا، هايكون بيني وبينها بس، وأقولها لك تاني، اللي بيحب حد عمره ما بيقسى إلا لو خايف عليه"


ارتشف حماه قهوته قليلًا ونهض بابتسامة مرهقة

"أتمني ما يجيش اليوم اللي هضطر اتدخل فيه، و بعدين أنت اكتر واحد حافظ بنتي و فاهمها كويس، عمرها ما بتيجي بالشدة و القسوة، خد بالك منها"


هزّ صهره رأسه يطمأنه

"ما تقلقش يا عمي"


عند الباب، وضع حماه يده على كتفه وقال بنبرة مفعمة بالجدية

"أسيبك تطلع تطيب خاطرها بكلمتين حلوين، مش عايز أسمع عنكم إلا كل خير"


رد قصي مبتسمًا

"بإذن الله، حضرتك مش عايز تقعد معانا  تقضي اليوم؟"


ضحك حماه د بخفة وربّت على ذراعه

"هجيلكم في يوم تاني إن شاء الله ومعايا جيهان، نقضي معاكم الويك إند"


رد الأخر وهو يودعه عند السيارة

"بيتكم يا عمي تنوروا في أي وقت" 


و بعد ذهاب حماه عاد إلى الداخل، يخطو خطوات ثابتة، رغم النار التي تشتعل في صدره. 

آخر ما توقعه أن تجرؤ صبا على الحديث مع والدها عمّا جرى بينهما.

وقف أمام باب غرفة النوم، ودعا الله أن يلهمه الصبر، ثم دخل.

و قد انتفضت حينما رأته يدخل فجأة، وقفت متوجسة، لكنها لم تكن تتوقع ما سمعته:

"كلمة واحدة، ومش هعيدها، أقسم بالله لو الحركة اللي عملتيها دي اتكررت، هتكون النهاية بيني وبينك"


تركها وذهب إلى غرفة الملابس ليبدّل ملابسه، لحقت به، ووقفت عند المدخل تقول بتحدٍّ متألمة من تهديده الذي تكرر للمرة الثانية اليوم

"أنت السبب! نسيت اللي قلته لي تحت؟"


أشار بسبابته أمام شفتيه، كأنما يأمرها بالصمت، وقال بصرامة

"مش عايز أسمع أي كلمة، اللي أقولك عليه يتنفذ من غير نقاش"


كان قد ارتدى ثيابًا أنيقة، ثم أكمل بتهكم

"واضح إني كنت غلطان لما كنت بهاودك و اعدي الأمور بمزاجي، و نسيت إنك ما بتيجيش غير بالطريقة التانية، استعدي بقى واستحملي لأن قصي القديم رجع"


ارتدى سترته، ثم وضع يديه على كتفيها وقال بلهجة آمرة

"لما أرجع بالليل، ألاقيكِ جاهزة لجوزك حبيبك"


غمز بعينه وربّت على كتفها بعنف خفيف، ثم تركها واقفة في حالة من الصدمة والندم.


                        ❈-❈-❈   


يقود السيارة و لم يرى أمامه الطريق سوي حمم بركانية و جمرات مشتعلة بنيران كالمندلعة داخله، ود أن يمسك برأس هذه الجالسه جواره و يحطمها، يخشي عليها من نفسه، بل يخاف عليها من شيطانه الأعمى. 


كان الحال لديها خليط من المشاعر، خوف و رعب يشوبه راحة، الراحة بعدم فقد ما تحمله داخل أحشائها، اغمضت عينيها وحينما سمعت صوته ويتحدث في هاتفه

"أرجع أنت علي الشركة"


أنهي المكالمة وألقي هاتفه بعنف خلف عجلة القيادة، نظرت إليه و ليتها ما نظرت، يكفيها نظرة من طرف عينيه ارتعدت منها أوصالها، ابتلعت ريقها لاسيما عندما نظرت أمامها فوجدت الطريق الصحراوي، طريق يخلو من معالم الحياة، صحراء علي اليمين و علي الجهة الأخرى أيضاً، هنا شعرت بالرعب، سألته بحذر

"أنا عارفة ماليش حق أنطق بحرف بس ممكن تقولي إحنا رايحين فين؟" 


ألتزم الصمت و لم يهتم لها و لو بنظرة واحدة، فعادت تستند ظهرها مسند الظهر للمقعد،  لحظات و اهتز جسدها بفعل توقف السيارة بعد أن ضغط علي المكابح فجأة، فتح السيارة وهبط منها، ذهب في خطى سريعة و فتح الباب بعنف حتي كاد يخلع في يده

"انزلي" 


تراجعت بخوف وتهز رأسها بالرفض و الخوف يملئ عينيها، لم يكترث لكل هذا  و علي حين غرة جذبها بقوة من ذراعها ، شعرت بألم في مفصل المرفق وكأنه كاد ينخلع كما انخلع قلبها من الذعر. 


وقف أمامها يضع يديه علي جانبي خصره، يحدق نحوها دون شفقة، يجز علي شفته السفلي، يتذكر كل ما أخبره به الحارس المراقب لها. 


"أقسم بالله ما كنت هنزله و... 


رفع يده لتتوقف عن الحديث 

"بلاش تحلفي كذب عشان ما تسقطيش من نظري أكتر من كده، ده أنا لو كنت أتأخرت عشر دقايق كان زمان العملية خلصت"


كلماته كالرصاص الذي يقتلها بدم بارد 


"أنا عمري ما حلفت كذب، و أنت عارف طبعي، اه صح نسيت هاتعرف طبعي إزاي وأنا مكنتش في دماغك أصلاً من وقت ما اتجوزنا" 


"مش عايز تبرير و لا حجج فارغة" 

صاح بها مما افزعها اكثر و كادت تهرب من أمامه، أسرع في إمساك يدها

"ما تتحركيش من مكانك"

دفعها نحو سيارته فاصطدم جسدها بعنف، اكمل بوتيرة صياحه الهادر 

"عايزه تهربي مني؟!،  زي ما عينيكي شايفة مفيش غير صحرا و لو عديتي الصحرا هاجيبك في الأخر" 


لم تستطع الاحتمال أكثر من ذلك فاطلقت صراخاتها بل ما يحمله صدرها من كلمات حبيسة فافرجت عنها 

"أيوه ههرب و هابعد عنك، لأن ما بقتش قادرة استحمل أعيش في ذل و إهانة و مع واحد عمره ما حبني، واحد كنت مجرد ليه أم لعياله مش أكتر من كده" 


تبدلت تعابير وجهه من الغضب إلي ابتسامة ساخرة 

"إيه هتخلعيني مثلاً؟" 


جحظت عينيها من الصدمة فادركت أنه علم بأمر المحامي، سألته من خلف دموعها التي كونت غشاوة علي عينيها وتأبى نزولها

"أنت معين عليا جواسيس يمشوا ورايا يا كنان؟" 


اقترب ببضع خطوات منها واخبرها بفخر و تباهي

"معلش بقي يا أم قصي، جوزك صاحب أكبر شركة أمن و حراسة في مصر، يعني يرضيكي نأمن الغريب و نحرسه وأسيب مراتي أم ولادي من غير أمن أو حراسة، ده حتي تبقي عيبة في حقي" 


"و ده من أمتي؟" 


"من وقت الليلة الجميلة اللي قضنيها مع بعض و طلبتي مني مبلغ يأمنك ويوقفك علي رجلك عشان تقدري تروحي تقومي محامي و تخلعيني، لكن حساباتك باظت لما حصل حمل، الحمل اللي روحتي تنزليه قال يعني لو نزل مفيش بيني و بينك تلات ولاد" 


وضع يديه علي كتفيها و مازال مبتسماً بسخرية فقابلته بنظره بغض و كراهية، بينما هو اسطرد

"أنا هاحقق لك طلبك من غير محامي و لا محاكم بس علي شرط"


اقترب من أذنها، يريد عقابها بأشد طلب يعلم من المستحيل أن توافق عليه، لذا اخبرها 

"تسيبي ولادك وتنسيهم خالص" 


ابعدت يديه من فوق كتفيها 

"ده في أحلامك، و ولادي عمري ما هفارقهم غير في حالة واحدة لما أموت يا كنان" 


جن جنونه، بدل من أن تبكي ندماً علي فعلتها و ترجوه أن يسامحها فها هي تقف أمامه بتحدى سافر، و تتظاهر بالقوة وهو يري في عينيها حالة من الضعف لم يراها من قبل، لكن عندما تذكر أمر المحامي و الطبيبة و ظنت أنه غافل عن ما يحدث، عاد إلي غضبه الضاري، لم يشعر بحاله وهو يسحب من خلف ظهره سلاحه، قام بشد أجزائه و صوبه نحوها

"إيه؟، خوفتي؟" 


اقترب منها ولم تتوقع منه هذا الجنون و الهراء، هل حقاً يريد قتلها! 


وضع فوهة السلاح علي رأسها و ابتسم بسخرية ويري الخوف واضحاً في عينيها و تلاشت تلك القوة الزائفة

"إحساسك إيه وأنتي بين إيديا و برصاصة واحدة أخلص عليكي" 


رفعت وجهها لتتقابل سهام الأعين، و يرى مدي القهر الذي تشعر به منذ سنوات وهي تخبره

"هو نفس إحساسي من أول يوم جواز، كنت كل يوم تموتني بنظراتك البارده، تجاهلك ليا كان بيدبحني، كل ما كنت أحس أني مجرد سد خانة و كنت بتتخيلني مراتك الأولي اللي مش قادر تنساها مهما أنكرت وأوهمت نفسك، بحس أنك جايب حبل مشنقة و عمال تلفه حوالين رقبتي وبتخنقني بالبطىء" 


شهقة خرجت من حلقها يتبعها دموعها التي سقطت رغماً عنها و بغزارة، ترجوه ببكاء مرير

"اقتلني، اقتلني لأن ما بقتش استحمل و لا قادرة اسامحك، عارف، لو فضلت معاك هاموت من القهر و لو بعدت عنك هاموت برضه، في كل الحالات أنا ميتة، ارحمني و خلصني من العذاب اللي أنا فيه، اقتلني يا كنان" 


اطلقت دموعها وصوت نحيب بكائها للعنان، ارتجف جسده من هول ما يرى، فهو من أوصلها إلي تلك الحالة المزرية، اسقط السلاح علي الرمال و جذبها بين ذراعيه، يعانقها بقوة، لم يمتلك اعصابه فشاركها البكاء أيضاً، فهي تبكي إلي حد الإحتراق حتي شعر بدموعها اخترقت نسيج قميصه و لامست صدره، يشعر بالوجع والألم والندم الشديد، أدرك كم كان حقيراً ووغداً ليجعلها تصل إلي هذا النحو. 

أخذ يربت عليها بعد أن كف عن البكاء حتي هدأت هي أيضاً واكتفت من البكاء واصيبت برجفة تصاحبها شهقة كل حين و الآخر. 


اخرج من جيبه محرمة، يمسح خديها من الدموع، تنظر له و يحدق صوب العينين التي يستعد أن يقدم عمره فداء لها. 


ظل كليهما في هذا الهدوء و تبادل النظرات في صمت، اقترب بشفتيه نحو جبهتها و ترك قبلة استغرقت ثوان ثم ابتعد قليلاً ليخبرها

"أنا عمري ما أحرمك من ولادنا، و أوعدك عمري ما هوصلك للحالة اللي أنتي وصلتيلها دي تاني"  


عانقها بقوة، و عناق أقرب للوداع، قام بتقبيل خدها ثم أخذ يقبل كل أنش في وجهها، تغمض عينيها لتشعر بتلك اللحظات متناسية كل ما حدث اليوم بل كل ما حدث منذ سنين، مازالت تغمض عينيها تستمتع بلمسات شفتيه علي وجهها، ختم تلك القبلات المتناثرة بقبلة  اقتنص خلالها شفتيها بقوة وكأنه يريد الاحتفاظ بهذه اللحظة و تُحفر في ذاكرته مهما طال الزمان. 


ترك شفتيها ليلتقط أنفاسه و هي أيضاً، توقفت عن التنفس فجأة وهو يخبرها

"أنا بحبك أوي، أنتي طالق" 


يتبع...

#الفصل_التاسع_الجزء_الثاني

#غرام_الذئاب

#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب

#بقلم_ولاء_رفعت


كانت تغفو في سريرها، تتقلب بين أحضان الكوابيس، تهذي بكلمات مبعثرة لا رابط لها.

فجأة، جاءها صوت طرقات الباب ليقطع حلمها المرعب ويعيدها إلى واقعها البائس.

فتحت عينيها بتثاقل، واحتاجت للحظات قليلة لتدرك أين هي وتسترجع أحداث الليلة الماضية، ألقت نظرة على الساعة المعلقة على الحائط، بينما استمر صوت الطرق يتزايد بإلحاح ورافقه صوت أنثوي تذكرت صاحبته التي تنادي

"علا، يا علا"


قامت بتثاقل وفتحت الباب، لتجد انتصار، مدبرة المنزل، كانت واقفة أمامها تحمل على ذراعيها بعض الملابس المطوية. 

لمحت علا الجدية في ملامح وجهها فسألتها بقلق

"حمزة صحي؟" 

ردت الأخرى بجمود

"صحى من بدري، والناني فطرته وقاعدة معاه في الجنينة، أنا جاية أديلك اليونيفورم اللي هتلبسيه"


ألقت الملابس بين يديها ببرود، مما جعل الأخيرة تسأل بذهول

"يونيفورم؟" 


ابتسمت الأخرى ابتسامة ساخرة وأجابت "أحمد بيه اللي وصانا عليه ليكي مخصوص، خدي بالك، شيري هانم بتحب الانضباط في الشغل والمواعيد جدًا، آه، واعملي حسابك، من بكرة هتصحي من الساعة ستة الصبح، نظام الخدمة عندنا كدا"


شعرت علا أن كلمات انتصار كجليد يتساقط بقوة فوق رأسها، متوالية في قسوتها وبرودها. 

وبينما كانت لا تزال تحاول استيعاب ما يحدث، أكملت انتصار

"عشر دقايق تكوني جاهزة وتحصّليني على المطبخ عندنا ضيفة زمانها علي وصول"


وفي مكان آخر من الفيلا، تجلس شيري في قاعة الصالون الفاخرة، تقرأ كتابًا وتعلو وجهها ابتسامة راضية.

بدت وكأنها تتلذذ بما يحدث لعلا، كأن هذه الأخيرة قدمت لها فرصة ثمينة على طبق من ذهب لتنفيذ مخططاتها. 

اقتربت منها انتصار وهمست في أذنها كلمات خفية. 

لم تلبث الأخرى أن أومأت برأسها بارتياح، قائلة

"برافو يا انتصار، ولسه ياما هتشوف، اللي زيها لازم تعرف مكانها كويس، حتى لو كانت أم حفيدي أو مرات ابني، في الآخر، هي مجرد خدامة"


قاطعت كلماتها خطوات ابنها الذي نزل من الطابق العلوي وسأل باستغراب

"مين دي يا شيري هانم؟" 

نظرت إليه انتصار بتوتر، ثم استأذنت "عن إذنك يا شيري هانم، هروح أخليهم يحضروا السفرة"

انسحبت سريعًا، تاركة أحمد ينظر نحو والدته في محاولة لفهم ما يجري، أجابته والدته بابتسامة ماكرة

"نسيت أقولك، في ضيفة معزومة عندنا على الغداء، زمانها جاية"

لم يمر وقت طويل حتى اخترق صوت أنثوي مائع الأجواء

"هاي"


نهضت شيري بلهفة لاستقبال ضيفتها، قائلة بحفاوة مبالغ فيها

"أهلًا أهلاً يا دودو"

لم يتفاجأ أحمد كثيرًا، إذ أدرك على الفور أن والدته تريد اختبار ما حدث بينه وبين علا، أرادت أن تتأكد أنه قطع معها كل أحبال الوصال، وأحضرت دودو، المرأة الوحيدة التي تعرف تمامًا كيف تقهر علا.


اقتربت هذه المدللة منه ومدت يدها قائلة بدلال مفرط

"هاي ميدو!،لاقيتك ما بتردش عليّ؟، قولت طيب أجيلك بنفسي!، I miss you   too"

لم تكتفِ بالمصافحة، بل سارعت بمعانقته دون أن تنتظر رده، و في تلك اللحظة، ظهرت علا حاملة صينية يعلوها كؤوس العصير.

توقفت قدماها عن السير عند رؤية ذاك المشهد أمامها، وسرعان ما أفلتت الصينية من يديها، لتسقط الكؤوس وتتناثر شظاياها على الأرض.


استدارت شيري نحوها بغضب وصاحت "إيه اللي هببتيه ده؟!" 

كانت علا واقفة كأن الزمن توقف بها، تحدق صوب أحمد الذي أبعد ذراعي دودو عنه، نظراتها تحمل اتهامات عديدة، بينما كانت نظراته، تحمل ألف معنى، موجهة لعلا وحدها خاصة بعد ملاحظته لما ترتديه من ثياب العمل الرسمية، و هي قميص ابيض من الأعلي و بنطال اسود، محتفظة بالوشاح الأبيض يخفي أسفله شعرها. 


"اتفضلي روحي هاتي حاجة ولمي اللي وقعتيه وامسحي مكانه"

كان صياح شيري بصوت صارم، أفاق عليه كلا من ابنها و زوجته التي انتظرت دفاعًا منه كعادته، لكنها صُدمت بصمته. 

لم تنبس شفتاه بحرف، وكأنه يوافق على كل ما يحدث، بلعت ريقها وهي تشعر بمرارة الإهانة، وردت بصوت مبحوح "أمرك يا طنط"


قاطعتها حماتها بحدة

" اسمي شيري هانم، زي ما زمايلك الشغالين بينادوني"


ابتلعت علا كلماتها المُرة، ولملمت ما تبقى من كبريائها المنكسر قبل أن تسرع بالذهاب من أمامهم. 

لم تتجه نحو المطبخ، بل هرولت إلى الغرفة التي أصبحت مأواها الجديد، أغلقت الباب خلفها وجلست تبكي بحرقة. لم تكن تتخيل يومًا أن أحمد سيخذلها بهذه الطريقة، بدلًا من الدفاع عنها كما فعل سابقًا، وقف يتفرج على إهانة والدته لها دون أن ينبس ببنت شفة.


لم يمضِ وقت طويل حتى فُتح باب الغرفة. 

رفعت رأسها لتجده هو ذاته واقفًا أمامها، لن توجد ذرة من الندم علي ملامحه، بل على وجهه ابتسامة تحمل كل معاني الشماتة. 

بصوت منكسر، صاحت 

"إنت إيه اللي جابك؟ جاي عشان تشمت؟ ولا عشان تكمل إهانتك أنت والست الوالدة؟"


تمنت داخليًا، ولو بنسبة ضئيلة، أن يكون جاء ليعتذر أو ليخفف عنها.

لكن ابتسامته كانت كفيلة بأن تخبرها أنه لا يحمل سوى المزيد من الإهانة، أجابها ساخرًا

"ليه يا مراتي يا حبيبتي بتقولي كده؟ مش إنتِ اللي قولتيلي تفضّلي تنامي في أوضة الشغالين بدل ما تجمعك أوضة بيا؟ أنا مالي؟ إنتِ اللي اخترتي!، و أنا مابحبش أجبرك علي حاجة، خصوصاً لما لاقيتك حنيتي لشغلك القديم، مش كنتي برضو قولتيلي هتنزلي تشتغلي حتي لو هترجعي خدامة؟، بيت ابنك و جوزك و حماتك أولى بيكي، و لا رجعتي في كلامك؟!" 


تسمعه اذنيها و يكذبه فؤادها، كيف تحول في يوم و ليلة من عاشق متيم إلي جلاد و قاسي، يستلذ برؤية الألم في عينيها، اجابت بصعوبة من بين شفتيها

"أنا لسه عند كلامي، ما رجعتش فيه، هتحمل أي حاجة عشان ابني، حتى لو البعد عنك نار و قربي منك هو النعيم، هختار البُعد برضه"


اصابت كلماتها للمرة المائة قلبه، و داخله اعلن إنها قد انتصرت عليه مرة أخرى في وجعه و ألمه، حتي في حالة انكسارها مازالت قوية وذات كبرياء لا ينحني. 


رد عليها بكل ما أتى في المعجم من مفردات القسوة و الجبروت

"و أنا اوعدك يا علا مش هاسيبك في حالك غير و انتي جيالي راكعة تطلبي إن ارحمك من اللي هاتشوفيه علي إيديا" 


ردت بشموخ انثي مجروحة

" عشم إبليس في الجنة يا ابن شيريهان"


لا تنكر داخلها إنها تري الآن في عينيه لهيب إذا طالها لن يتركها سوي رمادًا منثورًا، يكفي سماعها لصوت طقطقة عظام فكه و اصتكاك اسنانه،  قبضتيه اللتان علي استعداد تكسير رأسها اليابس و انفها المرفوعة إلي أعلى بشموخ كلما تقف أمامه بكل تحدٍي سافر. 

و لكي يفرغ و لو قليلاً من طاقة غضبه القاتل، أمسك كوب الماء الفارغ وقذفه علي المرآة مما سبب لها الذعر و الخوف بل و الابتعاد من أمامه، رمقها بنظرة من الجحيم ثم تركها تنعي حظها العسير الذي جعلها قد وقعت بين براثن أشواك دربه! 


                        ❈-❈-❈


عندما استبد الغضب به أخذ يطرق الباب بعنفٍ كأنما ينوي اقتلاع المفاصل الحديدية التي تربطه بإطار الغرفة، علا صوته صاخبًا كالرعد

"افتحي الباب يا شيماء، افتحيه قبل ما أكسره فوق دماغك!"


من داخل الغرفة، جاء ردّها صارخًا مليئًا بالحنق والتحدى 

"مش فاتحه! ومالك مسعور على الموبايل كده؟ تكونش عامل مصيبة وخايف أكتشفها؟! لتكون بتلعب بديلك مع السافلة الرخيصة اللي ساكنة جنبنا!، يا خاين يا غشاش، يا بتاع روميساء!"


صفع جبهته بكفه في محاولة يائسة لإيقاف دوامة الانكشاف التي أطاحت بأسراره.

لقد وقعت الكارثة، وانكشف أمره أمام زوجته التي كانت دائمًا تراقب كل صغيرة وكبيرة، أخذت شيماء من خلف الباب تصبّ جام غضبها على الجارة الحسناء التي لم تكفّ عن التودد لطه، حتى صارت كالأفعى تتربص بالفريسة.

توقفت أخيرًا بعد أن أصابها الإجهاد، فسألها ساخرًا بعد دقائق من السباب الذي كاد يثقب أذنيه

"خلصتي وصلـة الردح؟"


ردّت، دون أن تترك له مساحةً للحديث

ــ "ده لسه ولسه! والله لأفضحها في كل حتة! هنزل بوست طويل عريض على الفيس بوك والإنستغراب والتوك توك!"


كتم ضحكته على خطأها اللفظي، وردّ بتهكم

"إنستجرام وتيك توك، يا جاهلة، وإياكِ تعملي الهبل ده أحسن لك!"


فأجابته بغيظٍ واضح

"جاهلة أحسن ما أكون خاينة زيك، ولا واحدة بتلف على الرجالة المتجوزين، فاكرني هخاف منك؟ طب هقولك إيه، مش هديك الموبايل، عندك حيطان الشقة، اخبط رأسك في أكبر واحدة فيها!"


احمرّ وجهه غضبًا، وضرب بقبضته على الباب

"بقي كده يا شيماء! خديه واشبعي بيه! أنا هسيبلك البيت ومش هتشوفي وشي تاني"


ردّت بلا مبالاة متعمدة

"روح يا أخويا! بس ما تنساش تقفل الباب وراك عشان ما يدخلش دبان من اللي ملموم على الزبالة اللي ساكنة جنبنا"


سمعت صوت الباب يُغلق بعنف، فاهتزت نوافذ المنزل وتبعه صمتٌ ثقيل، نادت من الداخل بصوتٍ يائس

"يا طه! يا طه! أنت طفشت؟ أومال هفش غلي في مين دلوقتي؟"


انتظرت طويلًا، حتى شعرت بمللٍ شديد وحاجة مُلحّة لدخول الحمام، فتحت الباب بخطى مسرعة، لكن فجأة، شعرت بيدٍ تشدها بقوة من قفاها، صرخت 

"يا نهار أسود! أنت عاملي كمين؟!"


نظر إليها بسخرية

"سمّعيني كده، كنتِ بتبرطمي جوه وبتقولي إيه؟!"


ترجته بلهجةٍ متوسلة

"سيبني الأول أروح الحمام زي بقية الناس"


ابتسم ابتسامة ساخرة

"أنا عايزك تعمليها على نفسك عشان تتعلمي الأدب!"


صرخت بتذمر

"مش لما انت تحترمني الأول؟! بتخوني مع أم أفخاد اللي عايزة الحرق؟!"


ردّ بنبرة جادة

"والله ما بخونك! الحكاية وما فيها كنت بشوف حد بيتهجم عليها في شقتها مش من الرجولة أسيبها وأمشي"


ضحكت بسخرية

"وأنت والشهاده لله، منبع الشهامة والرجولة، باتمان زمانك و أوانك"


زجرها بنظرةٍ نارية، فصاحت بتوسل

"خلاص! ما تبصليش كده! ما أنت اللي بتحرق دمي بعمايلك السودة، بتخليني اخرج عن شعوري و أنا ست مؤدبة و في حالي"


جز باسنانه علي شفته السفلي من فرط الغيظ

" اعمل فيكي ايه يا شيخة، ادعي عليكي بس ما تهونيش عليا و عشان خاطر ولادنا الغلابة اللي محتاجين وجودك معاهم، اتجوز عليكي و اقهرك؟! "


اتسعت عينيها و سرعان ما تراخت جفونها حينما أكمل

"اتجوز إيه بس و أنتي كرهتيني في صنف الحريم كلهم"

اشاحت وجهها جانباً لاخفاء ابتسامتها  لانتصارها عليه واوصلته لما تريد، عادت تنظر إليه مرة أخرى 

"ركز معايا أنت و بس و هخليك ترجع تحب الصنف، قصدي الحريم، يووه قصدي تحبني أنا و بس" 


تركها من قبضته و ذهب ليجلس على أقرب كرسي، وأخذ نفسًا عميقًا، قائلًا بلهجة مليئة بالمرارة

"عايزاني ارجع معاكي زي الأول ازاي و أنتي مخلياني أخر اهتمامتك، اتحايلت عليكي اجيبلك اللي يشيل عنك شغل البيت رفضتي، اديتلك الفيزا و قولتلك اشتري و اتدلعي وروحي بيوتي سنتر، روحتي اخترعتيلي من دماغك صبغة خلت شعرك شبه سلك المواعين المولعين فيه بالنار" 


رمقته بصدمة، فاكمل

"ما تبصليش كده، أيوه انا تعبت من عمايلك اللي كلها من دماغك و تفكيرك اللي هيوديكي لسكة مقفولة ما بينا، انتي اللي هتجبريني أبص بره غصب عني" 


صرخت بانفعال

"يعني ده مبرر لخيانة؟!"


وضعت يديها علي جانبي خصرها

"اه، قولتلي بقي الحجة و لا الشماعة اللي هتبرر لنفسك بيها خيانتك" 


صاح بانكار

"برضه هتقوليلي خيانة!"


ردت باصرار مؤكد

"ايوه خيانة، رقمها بيعمل ايه عندك و عمال تبعتلها و تبعتلك رسايل، ده أنا ياللي اسمي مراتك بتشوف رسايلي و ما بتردش، لكن هي لو بعتتلك ايموشن ترده لها عشرة، خيانة دي و لا مش خيانة يا ابن الشيخ سالم" 


تريث قليلاً قبل أن يجيب و شعر بالندم، فهي علي حق، مهما كانت الأسباب لديه.


اقترب منها و قام بتقبيل رأسها

"حقك عليا ما تزعليش" 


نظرت بعيدًا، لكنه أمسك بذقنها بلطف، و

اخبرها بصدق رأته داخل عينيه

"والله بحبك، ولو مليون واحدة زي روميساء مش هيملوا عيني زيك"


رفعت زاوية فمها بتهكم 

"فاكرني هبلة و عبيطة اصدق الكلمتين اللي بتضحك بيهم عليا دول؟!" 


جز علي فكه بحنق و حاول مرة أخرى بصدق

" أنتي و لا هبلة و لا عبيطة، انتي اطيب قلب و ست الحلويين"


رمقته بعينين نصف مغلقة

"لو عايزني أصدقك بجد تعمل حالًا بلوك لوحل البرك اللي اسمها روميساء، ولو لمحتها في أي مكان تغض بصرك، لو لاقيتها ماشية في الشارع لف أنت من الشارع التاني، و لو لاقيتها بتولع أو بتفرفر و بتطلع في الروح إياك تبص حتي عليها" 

هز رأسه بطاعة ربما تكون صادقة

"حاضر يا حبيبتي" 


"يحضرلك الخير يا أخويا"


نهض وامسك يديها، جذبها إلي صدره قائلاً

"جري إيه يا شوشو، بقولك يا حبيبتي، تقوليلي يا أخويا؟!، أخوكي إزاي طيب، أومال الواد سالم ابننا ده جه منين!" 


تلفت من حوله و سألها

"هم العيال فين؟"


أدركت مراده و رمقته بدلال و اجابت

"أختك كلمتني عشان هتاخدهم النادي مع ابنها، وخدتهم من الصبح و مش هايرجعوا غير علي العشا" 


هلت السعادة علي محياه، لكزها في ذراعها

"مش كنتي تقولي من الصبح، يلا قومي حضري لنا قعدة من بتوع أول الجواز، وأنتي بقي فاهمة الباقي" 


اطلقت ضحكة

"عينيا يا سي طه" 

ذهبت بالفعل لتنفذ ما يريده، و كالبلهاء قد نست ما حدث! 


                         ❈-❈-❈


في غرفة خافتة الإضاءة، كانت رودينا تجلس إلى جوار الصغيرة ياسمينا، تمسك بيدها قطعة قماش قطنية مبللة، تعصرها برفق فوق طبق صغير، ثم تضعها على جبين الطفلة التي تهذي بصوت خافت، بالكاد مسموع، وهي تردد بضع كلمات متقطعة

"ماما... ماما تعالي... ماما"


نظرت إليها الأخرى بحزن غامر يعكس زوبعة مشاعرها، وكأنها تشعر بالعجز أمام هذا المشهد المؤلم. 

عيناها تلمعان بتأثر وهي تراقب الصغيرة، لم تلحظ للحظة أن هناك شخصاً يقف عند باب الغرفة، كان ياسين الذي كان يطمئن على ابنته المريضة. 

حيث ذهب مسرعاً بمجرد أن تلقى مكالمة من شقيقته تخبره أن ابنته في حالة سيئة، تبكي وتصرخ تريد والدتها، وهي عاجزة عن تهدئتها.


لم يتردد لحظة؛ ذهب إلي شقيقته وحمل ابنته فوراً، استدعى الطبيب في منزله وقال له بلهجة صارمة ومباشرة

"البنت عندها التهاب حاد في الحلق، وحالتها النفسية متدهورة. يمكن تحتاجوا لمساعدة أخصائي نفسي"


و بعد انتهاء الفحص ذهب الطبيب، و منذ تلك اللحظة، تولت رودينا الاهتمام بالصغيرة، لم تكن تنتظر طلباً منه إن تقوم بذلك.

جلست بجانب ابنته، تعتني بها كأنها طفلتها.

حينما توقفت الصغيرة عن الهذيان وغطت في نوم عميق، زفرت رودينا براحة، وضعت كفها على خد الطفلة بحنو، تمتمت بشكر الرحمن

"الحمد لله، الحرارة نزلت"


أزاحت قطعة القماش عن جبينها، وأخذت منشفة قطنية، تمسح وجهها بلطف.

و قبل أن تنهض، انحنت وقبّلت رأسها بحب، ثم قامت متجهة نحو الباب، تحمل الطبق في يدها.


لكن ما إن استدارت حتى تفاجأت به أمامها، واقفاً، يراقبها بصمت. 

شعرت بالارتباك، وتجنبت النظر في عينيه. 

حاولت المرور من جواره، لكنه أمسك بذراعها بلطف، نظر إليها نظرة ممتنة، وقال بصوت منخفض

"شكراً"


رفعت عينيها نحوه ببطء، عتابها واضح، قالت بصوت يحمل شجنًا دفينًا

"مفيش داعي للشكر، ياسمينا زي بنتي"


ظل يحدق بها، عاجزاً عن النطق، كأن كلماته تأبى الخروج. 

أشارت بيدها نحو يده التي تمسك بذراعها، فتحرّج وأفلتها فوراً. 

مضت في طريقها، بينما عاد هو إلى ابنته. جلس بجانبها، أمسك بيدها الصغيرة، وضعها على خده، وقبّلها برفق، ثم أخبرها بقلب ملتاع

"أنا آسف يا ياسمينا، عارف إنها وحشاكي ومحتاجاها، زي ما هي وحشاني أنا كمان، هي سابتنا، راحت مكان أحسن، بس أنا حاسس بيها، بروحها حوالينا، لسه بتحضني كل ما أنام، ولسه عايشة معايا في أحلامي زي ما كانت عايشة معايا في الحقيقة"


تنهد بعمق، تمدد بجوارها على السرير، مغمض العينين، يحتضن ألم قلبه. 

من ينظر إليه في هذه اللحظة يظنه هو المريض، وليس ابنته! 


خارج الغرفة، كانت رودينا تقف خلف الباب الموارب، تستمع لكل كلمة ينطق بها. كلماته كانت كسكين تغوص في صدرها ببطء، لكنه ألم تختلط فيه مرارة الحب بشعلة أمل، ولو صغيرة، لعله يلتفت يومًا ما إليها! 


                        ❈-❈-❈


صدحت أنغام الموسيقى الشعبية في أرجاء الشقة، كأنها تُشعل المكان بحماسةٍ هوجاء. 

أطلق طه صيحةً مفعمة بالبهجة، قائلاً وهو يصفق بحماس

"أيوه بقى، يا شوشو يا جامد"


وفي تلك اللحظة، انفتح باب الغرفة، لتخرج شيماء مرتدية عباءة رقصٍ ضيقة، تحتضن تفاصيل جسدها كأنها رسمت عليها.

تخفي شعرها التالف أسفل شعر مستعار أسود طويل ينسدل على كتفيها، يتماوج مع كل حركة، كأنها تحاكي مشهداً من عالم السينما المثير.

بدأت تهز خصرها وتتراقص بخفةٍ وتناغمٍ مع إيقاع الأغنية، تتمايل كأفعوانٍ يجذب الأنظار بلا هوادة.


بينما الأخر، فقد تسمرت عيناه عليها لوهلة، ثم كتم ضحكته بصعوبةٍ حين لمح الشعر المستعار، كان يشبه إلى حدٍ كبير شعر روميساء! 


اقترب منها بخفةٍ وبدأ يشاركها الرقص، محاولاً أن يبث في الجو مرحاً يُنسِيه أعباء الليالي السابقة. 

كان الهاتف المحمول الخاص به مُلقىً على الطاولة القريبة، صامتاً لكنه يرسل إشارات متتالية من رسائل واردة. 

ووسط هذه الإشعارات المتكررة، ظهر اسم المتصل، ليكسر اللحظة ويعيده إلى واقعه المتوتر.


التقط الهاتف بحركةٍ سريعة، وفي غفلةٍ عن شيماء، فصل الاتصال دون أن يصدر أي صوت، ثم أطفأ الجهاز تماماً.

بدا عليه التوتر، لكنه كان مصمماً على الحفاظ على هدوء الليلة بأي ثمن. 


عاد ليشارك زوجته الرقص، ولكن شيئاً في داخله كان يُشبه النار الكامنة تحت الرماد. 

                       ❈-❈-❈


ما إن همّت بالانشغال في تحضير الغداء حتى باغتتها رنّة جرس الباب.

رفعت رأسها متأففة وكأنها قد أُخرِجَت من غفلة.

تركت صحن الماء الذي كانت تغسله على رخام المطبخ، وتوجهت بخطى سريعة نحو الباب.

وقفت برهة تتأمل الفتحة الصغيرة، فرأت وجهَيْ والديها.

ارتسمت على ملامحها تعابير ضيقٍ ممزوجة بحرج، ثم ضربت جبهتها بكفها، وقد تذكرت أنها نسيت ترتيبات قدومهما.


أزاحت شعرها إلى الخلف، وتأكدت أن الوشاح الصغير يغطي جيدًا عنقها. راجعت هيئتها سريعًا أمام مرآة الزينة، ورتبت خصلات شعرها بعناية، ثم فتحت الباب وابتسمت

ـ"أهلًا مامي، أهلًا بابي، اتفضلوا"


كان والدها أول من استقبلها بحضن دافئ قائلاً

"أهلًا يا حبيبة قلب بابي"


لكن والدتها لم تبادلها نفس الحماس؛ بدت نظراتها فاحصة، ترصد أي تغيّر على ملامح ابنتها. 

لاحظت رودينا ذلك، فتعمدت التهرب من عيني أمها، آملة أن لا تُفتَضَح مشاعرها المضطربة.


جلست الأسرة في غرفة الصالون، أشارت  إلى والدها

"اتفضل يا بابي"

ثم التفتت إلى أمها وفعلت المثل


جلست والدتها في مكانها بصمت متوتر، بينما ابنتها سألتهما بابتسامة مترددة

"تشربوا إيه؟ ولا أقولكم، أحنا هنتغدى سوا"


أمسكها والدها بلطف من يدها 

"اقعدي، ما تعمليش حاجة، إحنا مش جايين نتضايف، إحنا جايين نطمن عليكي وعلى ياسين"


ابتسمت ابتسامة خافتة قائلة

"حبيبي يا بابي، أنا وياسين بخير الحمد لله، هاروح أقوله إنكم وصلتوا، أصله مريح جنب ياسمينا شوية، كانت تعبانة و..... 


قاطعتها والدتها وقد رفعت حاجبًا

"مش بنتُه المفروض كانت عند عمتها؟"


تلعثمت وهي تعي مقصد أمها

"هي فعلًا كانت عند ملك، بس لما تعبت أوي وما عرفتش تعمل إيه، ياسين جابها عشان نرعاها"


اكتست ملامح الأم بسخرية واضحة قائلة

ـ"قصدك أنتي اللي تاخدي بالك منها"


لم يمنحها زوجها الفرصة للمزيد من السخرية؛ وخزها بلطف على ذراعها وهمس بانزعاج

"وطي صوتك، إيه الكلام ده؟!، دي طفلة صغيرة محتاجة رعاية، وإحنا عارفين ظروف الراجل"


لكن والدتها لم تردع نفسها، فقالت بشيء من الحدة

"عارفين، بس برضه بنتي عروسة، من حقها تقضي شهر العسل، مش تبقي ناني لبنته!"


لم تحتمل رودينا أكثر، كفاها ما تتحمله من زوجها، فكيف بها تُضاف أعباء تعليقات أمها؟ بصوت حاولت أن تكبح فيه رجفتها قالت

ـ"مامي، بالله عليكِ كفاية كلام بقي، أنا قبلت ياسين بظروفه، وبنته هي بنتي، احنا اتجوزنا و الموضوع خلص و بقي واقع"


ثم نظرت نحو والدها واستطردت

"كلامي غلط، يا بابي؟"


هزّ رأسه موافقًا بحنان

"لأ، يا بنتي، كلامك صح، بس نعمل إيه في دماغ أمك وتدخلاتها؟"


رمق زوجته بنظرة غاضبة، لكنه آثر الصمت عندما همّت ابنته بالانصراف لتخبر زوجها بوجود والديها.


دلفت بهدوء إلى غرفة الصغيرة، فوجدت زوجها مستلقيًا وقد أحاط ابنته بذراعيه. بقيت تتأمله للحظات، ثم اقتربت وربتت على كتفه برفق

"ياسين، ممكن تصحى؟ بابي ومامي بره، عايزين يسلموا عليك"


أجاب بصوت ناعس

"روحي أنتي اقعدي معاهم و أنا جاي وراكي"


في الصالون، كان حديث جانبي يدور بين والديها قالت والدتها بإصرار

"بكرة تندم أنت وبنتك، وتشوف كل كلمة قولتها كانت صح"


رد زوجها بنبرة مملوءة بالضيق

"ويمكن يحصل العكس، بطلي بقى تكسير مجاديف البنت، هي عارفة ظروفها وراضية بيها، مالك إنتِ ومالها؟!"


قطعت كلامهما خطوات ياسين الذي أطلّ مرحبًا

"يا أهلًا وسهلًا، البيت نوّر بيكم"


رد حماه مبتسمًا

"إزيك يا بني؟ معلش عاملنا لك إزعاج"


ابتسم ياسين بحرج 

"ابداً والله، ده بيتكم في أي وقت تشرفوا"


ثم أدار نظره نحو حماته ومد يده مصافحًا

"إزيك يا طنط؟"


نظرت إليه ببرود وسلمت على مضض، كان يعلم جيدًا أنها لا تطيقه، فقد كانت أكثر الناس فهمًا أنه لا يحب ابنتها.


جلس في المقعد المقابل، بينما دخلت رودينا تحمل صينية عامرة بكؤوس العصير وقطع الحلوى.

وضعتها على الطاولة ووزعت على الحاضرين أكوابهم، حينما مدت الكوب لوالدتها، تسمرت الأم فجأة.


وقعت عينها على عنق ابنتها، وقد انزاح الوشاح عنه، فكشفت آثاره عن كدمات خافتة.

ثم لاحظت رسغها الذي ظهرت عليه علامات مماثلة. 

نهضت فجأة، وبتوتر واضح أمرت ابنتها

"تعالي معايا عايزاكي دقيقتين"


ارتبكت رودينا وهمست

"فيه إيه، يا ماما؟ اهدي، الموضوع مش زي ما انتي فاكرة"


لكن والدتها احتدت نظراتها، قالت بصوت حازم

"بقولك قدامي، دلوقتي"


                      ❈-❈-❈


داخل غرفة النوم، دفعَت والدتها يدها بحزم لتجلس على الأريكة، ثم بدأت بفك الوشاح الذي التفَّ حول عنقها، قائلةً بصوت يشوبه التوتر

"استني بس يا مامي، بتعملي إيه؟"


قاطعتها والدتها بلهجة صارمة

"اسكتي إنتي"


كشفت عن عنقها لترى الكدمات التي شوهته، ثم رفعت أكمام ثوبها دون اكتراثٍ لاعتراضاتها، لتكشف عن مزيدٍ من الآثار المروعة.

صمتت لوهلة ثم دفعتها باتجاه المرآة، وأشارت بيدها نحو انعكاس جسدها المتضرر، صارخة

"إيه ده؟!"


رفعت ابنتها رأسها لتقابل عيني والدتها عبر المرآة بخجلٍ وارتباك، محاولةً تخفيف حدة الموقف

"خلاص بقى يا مامي، عريس وعروسة بقى، وحضرتك فاهمة"


لكن كلماتها لم تُجدِ، إذ رفعت والدتها حاجبيها بتعجب وقالت بنبرة مشوبة بالغضب

"لأ يا حبيبة مامي، ده مش تعامل طبيعي، المنظر اللي قدامي بيقول إن ده عنف، هو عمل فيكي إيه؟"


ابتلعت الابنة ريقها وقد وجدت نفسها في مواجهة حائط سدٍّ، فهي كانت تعلم أن ذكاء والدتها وقوة ملاحظتها لن يسمحا لها بالتمويه بسهولة. 

حاولت التهرب مجددًا وهي ترفع صوتها

"هو ليه إنتي مش مصدقاني؟ بقولك عريس ومراته، يا ماما، خلاص بقى، دي كمان هتعمليلي عليها مشكلة؟!"


هزت والدتها رأسها ببطء، وقالت بلهجة ملؤها العتاب

"أنا عشان بحبك وخايفة عليكي أبقى بعملك مشاكل؟ ده لو كان عملك سحر مكنش ده بقي حالك"


دفعت الابنة الهواء من بين شفتيها بضيق، وحسمت الحديث بنبرةٍ حادة

"لو سمحتي يا مامي، ياريت ما أسمعش منك كلمة تاني عن جوزي ولا عن حياتي، كفاية بقى، أنا تعبت من كلامك وانتقاداتك سواء ليا أو لجوزي"


ظهرت الصدمة على وجه والدتها، لكن ملامحها سرعان ما تجمدت، وقالت بلهجة تحمل ألمًا عميقًا

"بقي كده يا رودينا؟! تمام، مش هتعبك تاني ولا هتكلم معاكي أصلاً، وبيتك ده أول وآخر مرة أجيلك فيه"


ألقت كلماتها كسهامٍ في صدر ابنتها، ثم اتجهت إلى الخارج بخطى غاضبة. 

شعرت رودينا بالعجز، فركضت خلفها معتذرة، لكنها توقفت فجأة عندما سمعت صوت والدتها يخاطب ياسين بلهجةٍ تفيض ازدراءً وتعجرفًا

"وأنت فاكر بقى إن من الرجولة إنك تاخد حقك الشرعي من بنتي بالغصب؟!"


شهقت رودينا، بينما توسعت عينا ياسين غضبًا واندلعت نظراته كالنيران نحوها

ردت والدتها بتحدٍّ

"بصلي أنا اللي بكلمك! ما تقلقش، أنا مش بحاسبك ولا بعاتبك، لأنك ما تستاهلش الواحد يحرق دمه معاك، بس أنا حذرتك قبل كده وقولتلك، لو أذيت بنتي بكلمة، أنا اللي هقفلك"


صرخت رودينا بتوسل

"مامي، بليز كفاية، مفيش حاجة حصلت، حضرتك فاهمة غلط"


تدخل والدها بحيرة واضحة

"إيه اللي بيحصل؟ ما تفهموني؟"


أجابته زوجته وهي تهم بالخروج

"خلي البيه يقولك عمل إيه في بنتك، أصله فاكر نفسه اشترى جارية يعمل فيها اللي هو عايزه"


جذب ياسين يد رودينا برفق، ووضع ذراعه حول كتفيها بابتسامة باردة وقال لوالدتها

"رودي حبيبتي مش جارية، دي مراتي وجوه عينيا وفوق راسي، وبالتأكيد حضرتك فاهمة غلط، معلش بقى يا طنط، مش هقدر أفهمك لأن حضرتك من الجيل القديم اللي عايش على الفطرة، أنا ورودي لسه شباب وبنجرب كل جديد عشان ما نحسش بملل ولا زهق"


ألجمت وقاحته لسان والدتها، فاختنق وجهها بالغضب حتى احمرَّت وجنتاها. نظرت إلى زوجها وأمرت بحزم

"ابقي حصّلني"


كان الأب في موقف لا يُحسد عليه، ألقى السلام بتوتر ثم لحق بزوجته، تاركًا ابنته وزوجها وسط معركة صامتة.


ما إن أغلق ياسين الباب حتى التفت إليها، وعيناه تشعان غضبًا كاد يحرق الأخضر واليابس.

تراجعت بخوف واخبرته بسرعة

"والله يا ياسين ما قولتلها حاجة، هي لما شافت رقبتي وإيديا، جه في بالها إنك اعتديت عليا، صدقني، ما قلتلهاش حاجة"


صرخت فجأة حين قبض على ذراعيها بقوة، وهدر من بين أسنانه

"بصي عشان مش هعيد الكلام تاني، أمك دي ما تجيش هنا طول ما أنا في البيت، عايزة تشوفيها، روحيلها، وكبيرك ساعة زمن وترجعي، وماتجيش تقوليلي على أي مناسبة تجمعني بيها، أنا ما رضتش أتكلم عشان خاطرك وخاطر أبوكي، ها وصل الكلام؟"


هزت رأسها برعب، فصرخ بها ليعيد التأكيد

ــ "ما سمعتش؟"


ردت بصوت أعلى

"أه، أه، فهمت"


ترك ذراعيها وأغمض عينيه للحظة كأنه يحاول كبح جماح غضبه، ثم قال بلهجة تحذير

"وعلى فكرة، أنا ما نستش الكلام اللي قولتيه قبل ما أروح أجيب ياسمينا، لسه هحاسبك عليه، بس مش دلوقتي، وأتمنى ما أسمعش حاجة زي دي تاني، و لا تجيبي سيرة مراتي الله يرحمها و لا بخير و لا بشر، لأنك ساعتها هتشوفي وش عمرك ما هتتمنيه حتى لألد أعدائك"


يتبع....


تكملة الرواية من هناااااااا

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا




تعليقات

التنقل السريع