رواية هل الضربة قاضية الفصل التاسع والعاشر بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
رواية هل الضربة قاضية الفصل التاسع والعاشر بقلم نهال عبد الواحد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
(الفصل التاسع) و(الفصل العاشر)
بقلم : نهال عبدالواحد
مرت الأيام وحبيبة بين عملها كنادلة وتدريبها كلاعبة ملاكمة وكمدربة لرياض، كانت كثيرًا ما تفكر في السبب الحقيقي لمجئ رياض؛ فهي تراها مجرد حجة، لكن لماذا؟
فإن كان مثل غيره يجئ ليستهزيء بها، أو ليعبث مع فتاة جميلة، أو ربما ليجرّب التدريب على يد مدربة أنثى!
إن كان السبب أي هذه الأسباب فقد وضعت نفسها في حالة من التأهب المستمر تحسبًا لأي تعدي منه لتلقنه درسًا لن ينساه.
لكن لم يحدث أي شيء من تلك التوقعات؛ فهو يتعامل معها بكامل الأدب واللياقة دون أي تعدي أو تجاوز للحدود.
بل العكس تمامًا؛ فهو لطيف للغاية، تشعر باقترابه منها لكنها تقنع نفسها أنها تتوهم، لكنه صار جزء من حياتها سواء في التمرين أو في المطعم، رغم أنها تظل محافظة على وجود حد لا يقترب منه!
أما هو فلم يختلف كثيرًا عنها، فهو يؤكد لنفسه دائمًا جمال الحرية والعزوبية وعليه ألا يتخلى عنها، مقنعًا نفسه أنها مجرد صديقة يتسلى بوجودها في حياته، مثلها مثل السابقات وستأخذ وقتها ثم تختفي وتذهب.
لكن كل ما كان يشغل حبيبة بحق هذه الأيام هو ذلك الفتور والجمود الذي يشوب علاقتها بصديقة دربها وابنة خالتها.
توترت العلاقات وتباعدت، شعرت حبيبة بذلك وحاولت التغاضي عنه، إلى أن كان ذات يوم...
كانت حبيبة عائدة صباح يوم الجمعة؛ حيث اعتادت أن تخرج للجري ثم تشتري بعض من لوازم البيت وتعود.
دخلت البيت والمفترض أن تكون هاجر قد رتبت البيت وأعدت الفطور، لكن ذلك لم يحدث هذا الصباح؛ كانت فقط جالسة مقتضبة الملامح لا تحرك ساكنًا.
بدأت حبيبة تمازحها كعادتها، فقالت لها بخفة: جوجو يا قلبي حضّرتِ الفطار ولا مستنياني نحضره سوا؟
اقتربت منها ووضعت يدها على كتفها همت أن تقبلها علي وجنتها، لكن هاجر ابتعدت نازعة يدها بقوة من فوق كتفها، ثم هبت واقفة.
كانت حبيبة تعلم تغيرها لكن كانت تدع لها فرصة لتعود أو تخبرها بحقيقة تغيرها.
فقالت محاولة استمرار مزاحها: مالك يا تحفة! ده أنا كنت هبوسك.
ثم رفعت يديها متقدمة نحوها بنتباطؤ محولة ملامحها وكأنها وحش أو مصاصة دماء قائلة: هتتباس يعني هتتباس!
فلم تتغير هاجر وظلت على موقفها، ثم قالت وهي تدفع يديها عنها باستنكار: بطلي تفاهة بأه!
فسألتها بنبرة مشفقة: مالك طيب! ريحيني.
فأجابتها بجمود: همك يعني! ولا يكون اللي بيجري ف عروقك دم لا سمح الله!
فقالت بطريقة عملية: هاتي اللي عندك يا هاجر، ومن غير غلط.
- هقول إيه ما هو الإحساس نعمة!
- أنا عملتلك إيه عشان تتقلبي عليّ القلبة دي! وده من فترة.
- ما عندكيش دم وأنانية، سايبة كل اللي إحنا فيه وبتدوري علي تمارينك وبطولاتك ولا كأننا هنترمي ف الشارع ف أي لحظة، إنتِ بتحسي إنتِ؟!
- ما تجيش عليّ يا هاجر! إنتِ عارفة موضوع البطولة مهم بالنسبة لي أد إيه.
- وتاخدي ميادليتك وتعليقهما جنب إخواتهم يا فرحتي! والقرشين اللي تاخديهم تروحي وتصرفيهم في كلية وكلام فاضي!
- التعليم مش كلام فاضي! و أنا عرضت عليكِ وإنتِ اللي رفضتِ، واطمني أنا مش ساكتة و لا ناسية الحكاية دي، دي شغلاني ليل ونهار وربنا يعلم، إن شاء الله لو جالي فلوس هننقل شقة إيجار جديد ف حتة تانية، بس بدور على حاجة تناسب إمكانياتنا، إنتِ عارفة الإيجار الجديد ده خراب بيوت.
فقالت بتهكم: موت يا حمار!
ثم قالت بنبرة حزينة: هتسافري وتسيبيني محتاسة لوحدي ومهددة أترمي ف الشارع ف أي لحظة!
فاقتربت منها حبيبة تربت عليها محاولة أن تعانقها برفق: إطمني، والله كله هيبقي تمام! ربنا مش هيسيبنا وهو وحده عالم بحالنا.
فدفعتها قائلة: ده إنتِ حتى مش عايزة تروحي تدوري على أبوكِ وأهله! من حقك يصرفوا عليكِ.
فصاحت فيها بغضبٍ حارق: لا! هو اللي هنعيده هنزيده! أنا ماليش أب ولا بعترف بالكلمة دي ف قاموسي! ولو بموت م الجوع عمري ما هذل نفسي عشان آخذ منه اللي هيحييني، فاهمة!
قالت الأخيرة بصياح أشبه بالصراخ الهيستيري.
فقالت هاجر بجمود: هي كلمة واحدة ياالتمرين والبطولة ف حياتك يا إما أنا؟
فتساءلت بصدمة: يعني إيه!
فأجابتها بنفس الجمود: لو فضلتِ مستمرة ف سكتك دي، يبقى مش عايزة أعرفك، ومالكيش بنت خالة وعيشي بطولك بأه، ما إنتِ مالكيش عزيز وما بتفكريش غير ف نفسك.
فقالت حبيبة بصوت خافت قريب من الانهيار: وأهون عليكِ يا هاجر!
- زي ما أنا هونت عليكِ.
حبيبة وقد بدأت البكاء: إنتِ عمرك ما هونتِ عليّ، أنا ماليش غيرك وعمر ما كان ليّ غيرك، ليه عايزانا نفضل محلك سر؟ ليه مش عايزة تعلي طموحك؟
- طموح إيه! كفياكِ!
تعليم واتعلمتِ! بطولة وخدتِ! إيه عايزة كل حاجة!
- إتعلمت سد خانة بس مش ده اللي كنت عايزاه، ده بدل ما تكوني جنبي، أقسملك إن موضوع البيت ده بفكر فيه ومش ناسياه!
- وأنا قولت اللي عندي وخلص الكلام! يا أنا يا بطولتك! عقلك ف راسك تعرفي خلاصك!
وتركتها وانصرفت لحجرتها، بينما ظلت حبيبة مصدومة تنتحب، ازداد بكاؤها وارتفعت شهقاتها وشعور من الضياع والوحدة اجتاحها، بينما هاجر الأخرى تنتحب في صمت وهي تسمع صوت حبيبة بالخارج.
مرت بضعة أيام والعلاقة متوترة بين الفتاتين، بل لا علاقة من الأساس، وحبيبة في أسوأ حالتها وقد شُلّ تفكيرها فهي تريدهما معًا، وقد اقترب موعد سفرها مع المنتخب الوطني بالفعل!
وذات يوم بينما كانت حبيبة تدرّب رياض وقد صارت من فترة في حالة متغيرة وغريبة معه، صحيح أنها كانت تتعامل معه بحدود، لكن كان يشعر بقربها منه أما الآن فهي شاردة دائمًا والقلق والهم يطلان من عينيها بوضوح.
كانت قد طورت من تدريبها لرياض ليكون فيه فقرة قتالية تجمعهما، وكانت ترى استجابته معها وهو أيضًا لا ينكر استمتاعه بقضاء مثل ذلك الوقت معها.
لكن اليوم يبدو أن الكيل قد فاض وفاض، فكانت وقت القتال شاردة وعنيفة لأقصى درجة، كانت تطيح بالضربات الشديدة وهو يصدها بأعجوبة ويقسم من داخله أنها لا تراه، بل لا ترى أمامها من الأساس.
وبينما هي تطيح بضرباتها العنيفة دون وعيٍ منها، إذ بطشت منها إحدى الضربات وأصابت وجهه.
كانت الضربة محتملة إلا حدٍ ما، لكنه قرر أن يبالغ فألقى بنفسه أرضًا وصرخ بشدة فانتبهت فجأة لما أحدثته ورأته ممدد أرضًا واضعًا يده على رقبته مكان اللكمة وصاح بملء صوته.
أسرعت حبيبة نحوه منزعجة مع مزيج من الحرج لما أحدثته وقد خلعت قفازيها وفكت الرباط الموجود حول رسغيها؛ فهي غير مدركة لقوة الضربة بل لم تتذكر ما حدث منذ لحظات!
وقالت في لهفة تلقائية: مالك! حصلك إيه!
فقال مصطنعًا التألم: آه! ينفع كده! آه! عايزة تموتيني!
فاقتربت أكثر وكان نائمًا على ظهره ولا زالت يده على رقبته، فجلست جواره على ركبتيها وقالت بتأثّر واضح: آسفة أوي والله سرحت! سامحني معلش.
ثم وضعت يدها مكان الضربة على رقبته تحاول تدليكها، لكنها إنتبهت لهدوءه المفاجئ ونظرته تلك المسلطة عليها، فالتفتت إليه مضيقة عينيها و كأنها قد فهمت شيئًا ما، ثم وضعت يديها على خصرها ورفعت حاجبيها قائلة: لا والله!
فجزت على أسنانها فضحك بملء صوته، فاغتاظت وانقضت عليه فأمسكت باحدى يديه وحاولت أن تمسك بالأخرى لتقيده وتلكمه ضربًا، وهو حاول التملّص من يدها وقد خلّص إحدى يديه وبدأ يدافع عن نفسه ويصد تلك الضربات وهو يضحك قائلًا: طب والله وجعتني!
واستمرت في تلكيمه بغيظٍ شديد وهي تتوعد له قائلة: ماشي يا رياض! بتشتغلني! إشرب بأه يا رياض.
وكانت هذه هي أول مرة تناديه بإسمه ، فنهض جالسًا و هو واجمًا: قولتِ إيه!
فتوقفت عن تلكيمه بتعجب قائلة: قولت إيه!
- أول مرة تقولي يا رياض، لا ومرتين في جملة واحدة!
فنظرت له بتهكم قائلة: ده إنت طلعت نحنوح بأه!
- لا طبعًا، بس عجبتني منك.
فصاحت في وجهه: طب ما تستفزنيش.
فاختل توازنها وهبطت متكئة على جانبها...
وفجأة شعرت بشيء يتلمس ذراعها بخفة، فانتابتها قشعريرة والتفتت لذراعها العاري؛ فقد كانت مرتدية ثوبها ذات نصف كم قصير، لكنها ظنت برياض السوء وأنه من تجرأ وتلمّس ذراعها بتلك الطريقة، ولِمَ لا؟! فمثله مثل غيره من الذكور لا يقتربون من فتاة إلا لغرضٍ دنئ، وبدأت تستعد وترفع درجة التعبئة العامة لجسدها للدرجة القصوي...
لكن كانت المفاجأة! إنه صرصور كبير يسير على ذراعها! فصرخت صراخًا شديدًا بشكل هيستيري وهي تقفز وتدفع ذراعها بحركاتٍ تشنجية وصاحت: إقتله! موّته!
وبدأت تقفز من مكان لآخر حتى لا تلمس الأرض، وكان رياض يحاول جاهدًا منع نفسه من الضحك، فقد تحولت قاعة تدريب الملاكمة إلى مكان مطاردة وفرار من صرصور!
تفاجأ بتلك الفتاة القوية بطلة الملاكمة النسائية مثلها مثل أي فتاة تخشى الصرصور، وظلت تقفز من هنا إلى هناك وتتشبث برياض بل تعلقت برقبته من ظهره، فقام بدوره بمراوغتها والركض خلف الصرصور بدلًا من قتله، كم تمتع بتلك اللحظات السارة! خاصةً بعد ذلك الإكتشاف المثير؛ بطلة الملاكمة النسائية تخشى الصرصور!
لكن أخيرًا قد قتله، لكنه لم يتمالك نفسه وانفجر ضاحكًا، فالتفتت نحوه مضيّقة عينيها؛ فقد اكتشفت مكره وأرادت تلكيمه من جديد لكنه أحكم الإمساك على يديها قائلًا: يا شيخة إهدي بأه فرهدتيني، لا بس جامدة! كابتن حبيبة القاضي بتترعب من الصرصار! ياللهول!
قال الأخيرة بطريقة يوسف وهبي ثم انفجر ضاحكًا من جديد، فخلصت يدها منه وأرادت أن تثأر من سخريته تلك، فسحبت كيس البودرة التي تستخدمها على يديها قبل أن ترتدي قفازيها، ثم ألقت به عليه فامتلأ وجهه، لحيته وشعره بالبودرة البيضاء، وفي تلك اللحظة فقط انفجرت ضاحكة من هيئته التي تشبه المسنين.
وجم رياض في مكانه وهو محملقًا فيها لا يصدق هذه الضحكة وجمالها، فانتبهت مجددًا لنظراته تلك المسلطة عليها، فكفت عن ضحكها لكنها لم تؤنّبه هذه المرة.
وبعد فترة قالت بطريقة عملية وهي تجمع أشياءها: دي آخر مرة هدرّبك، بعد كده يا إما كابتن إبراهيم أو إسحب باقي فلوسك.
فتساءل بفجأة: ليه يا حبيبة؟! كنت ضايقتك في حاجة؟
سكتت قليلًا ثم ابتلعت ريقها قائلة: الفترة الجاية هنشغل بالتدريب مع المنتخب عشان البطولة الإفريقية، وأنا آسفة عن شدتي في التدريب، وآسفة عن البهدلة اللي عملتهالك.
وكانت قد انتهت من جمع أشياءها فنهضت، فأمسك رياض ساعدها بجذبة خفيفة وناداها بلهفة: حبيبة...
وسكت ونظر داخل عينيها، فقالت لتنهي الموقف: مفيش مجال للنقاش، هنبدأ معسكر التدريبات ونستعد للبطولة، أشوف وشك بخير.
قالت الأخيرة وهي تمد يدها لتصافحه، فازدادت تلك القشعريرة في جسديهما معًا، ثم قالت لتنهي ذلك الموقف أيضًا: أشوف وشك بخير، خلي بالك من نفسك.
وتركته وانصرفت بينما وقف يتابعها بعينيه...
[٣٠/١٢/٢٠٢٤, ٩:٠٦ م] نهال عبد الواحد: (الفصل العاشر)
بقلم : نهال عبدالواحد
- أشوف وشك بخير خلي بالك من نفسك.
قالت الأخيرة وهي تصافحه، تتسللت تلك القشعريرة في جسديهما معًا، ثم سحبت يدها وانصرفت من أمامه.
ظل على نفس وضعيته بلا حراك شعر بشعورٍ غريب لأول مرة، شعور افتقاد، يفتقد شيئًا هام فجأة، فمثله كمثل الطفل الذي يفتقد أمه دون مقدمات.
انصرفت حبيبة من أمامه واجتاحها نفس الشعور، لكنها تجاهلته أو أوهمت نفسها أن لا شيء.
أخذت حمامها، ارتدت ملابسها، صففت شعرها، جمعت أشياءها في حقيبتها وحملتها ثم ذهبت.
وبينما كانت تسير إذ سمعت من يناديها فجأة، فالتفتت لمصدر الصوت فإذا هو رياض واقفًا جوار سيارته، نظرت إليه بتدقيق محاولة استكشاف نواياه.
فابتسم متجهًا نحوها في خطواتٍ متبخترة نوعًا ما واضعًا يديه في جيبيه، كم هو وسيم في هذه الحالة!
همست بها داخلها ثم تحدثت مظهرة تأففها: خير!
أجاب بنفس ابتسامته وهدوءه: كنت عايز آخد رأيك في حاجة، إذا سمحتِ يعني!
فزمت شفتيها قائلة: اتفضل.
- إتفضلي إنتِ معايا في العربية.
فأسرعت في اقتضاب: ليه؟!
- إنتِ لسه مش بتثقي فيّ ولا إيه؟!
فتنهدت قائلة: ممكن تنجز وتقول عايز إيه وبسرعة!
- والله ما تفهميني غلط! أنا مش قصدي أي حاجة وحشة، كل الحكاية إني مسافر وعايز آخد رأيك في كام موديل.
- وأنا مالي بلبس الرجّالة!
- ما أنا هفتح فرع حريمي قريب إن شاء الله، وبما إنك بنت فكنت عايزك تساعديني في اختيار موديلات حلوة وليها الطلب في السوق.
- ومفيش غيري يختارلك يعني؟ إفرض ذوقي ما عجبكش أو اختارت حاجة مالهاش سوق!
- بس إنتِ عمر ما ذوقك يبقي وحش أبدًا، وبعدين بصراحة ما اعرفش حد غيرك حاليًا!
فرفعت حاجبيها قائلة بتهكم: بأه ما تعرفش حد غيري!
أجابها بجدية: قلت حاليًا، بصي أنا عرفت بنات كتير صحيح، لكن كلها كانت صداقات عابرة وعمرها ما تخطت أي حدود، وأصلًا كنت أول ما أعرفهم كل واحدة فيهم يجيلها عريس وتتخطب وطبعًا تختفي بعدها وتقطع علاقتها بيّ.
فزمت شفتيها من جديد وضمت ساعديها أمام صدرها وقالت بتهكم: يا حرام! مالهمش حق!
فقال بجدية: لا طبعًا معاهم كل الحق، إزاي أي راجل يقبل إن خطيبته تتكلم مع واحد غريب ويعدّي الموضوع عادي؟!
- طيب طيب، إتفضل إنجز عشان ما أتأخرش على صاحبك.
- طب إتفضلي في العربية .
قالها وهو يشير بإحدى يديه نحو السيارة.
ثم قال: والله ما تخافي! الكاتالوجات في العربية، إتفضلي.
فلم تجد بدًا وركبت معه معلنة داخلها حالة التعبئة العامة لأقصى درجة.
ركب رياض وحبيبة وأعطاها تلك الدفاتر المصورة، تصفحت فيهم واختارت منهم بعض الأشكال، بعضهم أعجبه والبعض بدأ بمناقشته معها.
ثم قال: إيه رأيك لو اشتغلتِ في المحل ده؟ وأهو أحسن من الجرسونة.
فنظرت له باقتضاب مجيبة بحدة: ليه إن شاء الله؟! ما كله شغل شريف.
فقال بنبرة أخف: ما أقصدش والله!
- إسمعني كويس! أنا مش مكسوفة من حالي ولا من شغلي وحياتي! ولا عمري إترسمت وعيشت عيشة مش عيشتي! الشغل ما يتعبش أبدًا، وأنا مرتاحة جدًا مع مستر مصطفى ومدام دينا، بيعملونا بآدمية واحترام وتقدير، حتى لو شدوا علينا ولا حتى وبّخونا، كل ده عادي، اللي كان تاعبني هو اللبس المقندل وأهي اتحلت الحمد لله.
- أنا مش قصدي تكوني بيّاعة، أنا قصدي إنك تديري المحل.
فقالت باستخفاف: وده ليه إن شاء الله؟! وبعد كده باقي اللي بيشتغلوا يحطوني في دماغهم ويحسوا إن على راسي ريشة وتبدأ الغيرة وضرب الأسَفين.
فابتسم وقال: مش شايفة إن خيالك واسع!
- لا مش واسع، ودي حاجة حصلت معايا قبل كده، ولا تكون فاهم إن دي أول مرة أشتغل فيها! ده أنا بشتغل من صغري وعدّى عليّ شغل أشكال وألوان، اشتغلت في الأول مع أمي بنضف البيوت، اشتغلت في مشاغل خياطة وكنت بفتّح العراوي وبعد كده بأينا بنشتغل على ماكينة السرفلة الهوفر، اشتغلت في محلات كتير كبيّاعة، وزي ما قُلت كانوا بيغيروا من كفائتي ويعملوا أسَفين ويفضلوا ورايا لحد ما أمشي خالص، اشتغلت في مصانع تعبئة البقول وكنا بنقعد ننقي كل يوم أطنان من الرز والعدس والفاصوليا البيضا والفول واللوبيا ....، وحاجات كتير!
- طب ليه كده؟!
فقالت بدهشة: ليه إيه؟!
- ليه تشتغلي كل ده؟!
- مش محتاجة سؤال يعني! أكيد عشان أصرف على نفسي.
- ليه؟! فين أهلك؟!
آسف، بس أنا ما اعرفش عنك حاجة.
قال الأخيرة على استحياء.
فتنهدت ثم نظرت أمامها في شرود إلى اللاشيء قائلة بلهجة يخالطها بعض الانكسار: ماليش حد، وعيت على الدنيا لاقيتني عايشة مع أمي وخالتي وبنت خالتي... هاجر ما إنت عارفها!
فالتفتت إليه وهي تقول الأخيرة، فأومأ برأسه فأكملت: هاجر باباها اتوفي وهي عمرها سنتين، والمعاش اللي طلع كان قليل لينا إحنا الأربعة، فاضطرت ماما وخالتي يشتغلوا، يشتغلوا أي شغلة شريفة حتى لو كانت دادة في حضانة، ولا تروح تنضف لحد ولا تطبخ لحد، المهم يقدروا يعيشوا ويعرفوا يربونا، كبرنا ودخلنا مدارس حكومة على أدّنا، لحد ما وصلنا لإعدادي وجت أمي وخالتي قالوا مش هنقدر على مصاريف الثانوي ولا الكليات، إدخلوا صنايع وخدوا دبلوم واشتغلوا بيه أي حاجة، طبعًا ده مش اختيار ده أمر واقع مالهوش بديل.
ثم ابتلعت ريقها بمرراة، ارتعشت شفتاها وتلألأت عيناها تهددان بسيلٍ من الدموع، وأكملت: ماما كانت تعبانة وخبت عشان مش حمل مصاريف، لحد ما... لحد ما وقعت خالص و... وفاتت أي فرصة لعلاجها.
وبدأت دموعها تسيل وهي تكمل: وخالتي حصّلتها بعدها بسنة، وفضلت أنا وهاجر من شغلة للتانية.
تمالكت نفسها ماسحة دموعها وأكملت: وخلصّنا الدبلوم بأعجوبة، ولأننا بنتين لوحدنا حسينا إننا مطمع، فجت في بالي فكرة إننا نتعلم لعبة دفاعية، وكانت أدامنا وقتها الملاكمة فلعبنا، هاجر نَفَسها قصير ما واظبتش، أنا اجتهدت وطورت مستوايّ ودخلت بطولات من أول بطولات ودية لحد ما وصلت لبطولة الجمهورية ودخلت المنتخب وبدأت أدرب على خفيف جنب شغلي وكمان أخدت جوائز نقدية، صحيح هي مش مبالغ كبيرة، لكن قدرت أدخل الجامعة المفتوحة وأكمل وآخد شهادة، صحيح هي مش حلمي لكن أحسن من مفيش.
- طب وفين أهلك؟ فين والدك؟ إنتِ ما جبتيش سيرته أبدًا.
فتبدلت ملامحها لتتحول لأكثر قسوة وأكثر حنقًا وصاحت: أنا ماليش أب.
فاتسعت عيناه وقال بصدمة: إنتِ بتقولي إيه!
- لو أطول أقص إسمه من شهادة الميلاد كنت عملتها.
ثم قالت: سابني أنا وماما واختفى من حياتنا تمامًا وكنت لسه مولودة ما كملتش شهور، وأكتر حاجة ضايقتني إن أمي فضلت على ذمته طول السنين دي ولحد ما ماتت، مش فاهمة ليه؟ ولّا إزاي قدرت تدافع عنه كل ده؟!
- طب إنت ما حاولتيش تدوري عليه وتعرفيه وتعرفي اللي حصل! ده حقك.
فقالت بجمود ودون أي تعبير على وجهها: بس أنا اللي يبيعني عمري ما أشتريه...
ثم أكملت وهي تبكي بحرقة: لكن هاجر مقطعاني ومش عايزة تعرفني تاني، وأنا ماليش غيرها وما أقدرش أستغنى عنها، واللي مخيّراني بيه خيار صعب أوي، مش عايزاني أسافر وأبطل لعب، وأنا ماقدرش!
- طب ليه؟!
- إحنا عايشين أصلًا في شقة جدي بعد ما اتوفي صاحب البيت وافق إن أمي وخالتي يفضله ساكنين، هي إيجار قديم بمبلغ قليل، وعيشنا سنين لحد ما الراجل ده مات وجه ابنه ما عجبهوش الحال، وكل فترة يفكر في حكاية عشان يطردنا، لحد ما البيت خلاص هيقع وجابله مقاول عشان يهده ويطلع مكانه بعمارة كبيرة زي ما الناس بتعمل، ومقرر يطردنا وما يسكناش تاني! هاجر مسكت في الحكاية دي ولزّقتها في لعبتي وتدريباتي وسفري، خيّرتني بينها وبين اللعبة وقاطعتني فعلًا، بس أنا مش قادرة!
قالت الاخيرة بصوت مختنق من البكاء.
فأعطاها مناديل لتجفف دموعها قائلًا بنبرة حانية: إهدي وكل حاجة ليها حل، حبيبة إنتِ بطلة، والبطلة ما ينفعش تضعف وتنهار كده.
فقالت وهي تتصنع الثبات: أنا شايلة كتير أوي وتعبت... و الله تعبت!
فقال بنبرة فخر وتشجيع: على فكرة بأه إنتِ أجمد بنت عرفتها، قوية بجد، وأنا أكتر واحد عارف قوتك دي.
قال الأخيرة بطريقة مازحة واضعًا يده على رقبته مكان اللكمة وضحك فضحكت، فصفق بقوة وقال: أيوة بأه! صلاة النبي أحسن!
وبدأ يدير السيارة، فقالت مسرعة: إده بتعمل إيه؟!
- هوصلك قبل الشيفت بتاعك، فيها حاجة دي!
فتأففت قائلة: طب اخلص هتأخر.
فقال بأسلوب ماكر: طب مفيش طريقة أرق من كده شوية؟!
- أمال!
ثم ضمت قبضة يدها مهددة له بلكمة قوية، فصاح بخوفٍ مصطنع: خلاص خلاص! تُبت وأنَبت.
فضحك وضحكت وانطلق بالسيارة...
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا