رواية غرام الذئاب الفصل العاشر بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
رواية غرام الذئاب الفصل العاشر بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
#الفصل_العاشر
#غرام_الذئاب
#بقلم_ولاء_رفعت
الساعة تشير إلى التاسعة مساءً بتوقيت روسيا، وكان واقفًا أمام ساعة حائط ضخمة شبيهة بساعة بيج بن، لكنها نموذج مصغر منها، تتوسط أكبر جدار في غرفة مكتبه.
وقف بملامح جامدة، يداه تعبّران عن توتره؛ إحداهما في جيب بنطاله والأخرى تحمل كأسًا من النبيذ المعتق.
بدا وكأنه ينتظر شيئًا معينًا، يتمني عدم حدوثه، الصمت يملأ المكان حتى قطعه صوت هاتفه يرن، ليجيب عبر سماعته اللاسلكية بصوت مترقب
"هل من جديد؟"
أجابه المتصل بلهجةٍ تخفي ارتباكًا
"أجل سيدي، تركنا لها حرية التحرك والتسوق داخل المجمع التجاري دون قيود، كما أمرتنا"
زفر ببطء، ثم سأل بصوت هادئ، لكنه يحمل نبرة قاتلة
"وماذا بعد؟"
ردّ الآخر بسرعة
"تمكنت من التخفي والهروب، وشاهدها السائق بالخارج وهي تركب سيارة سوداء"
رفع الكأس إلى شفتيه وارتشف منه قليلاً، قبل أن يرد بهدوء جليدي
"سأرسل لك عنوانًا الآن، اذهب إليه وانتظرني هناك"
أغلق المكالمة فجأة، دون أن يمنح المتصل فرصة للرد، وعيناه كانت ثابتة على عقرب الثواني ومراقبته لحركات البندول المتأرجح يمينًا ويسارًا.
صوت دقات الساعة اندمج مع نبض قلبه المتسارع، حتى بدأت عروقه البارزة تنبض بشكل واضح.
قبضته على الكأس ازدادت قوة، إلى أن تحطم الزجاج تحت أصابعه، وتمتم بين أنفاسه المتهدجة
"اللعنة سيلينا!"
و في مكانٍ آخر بعيدٍ عن الأنظار، توقفت السيارة السوداء أمام منزل حجري عتيق، حجمه الكبير وشكله المخيف يعكسان غموض المكان.
ترجل منها رجل ضخم البنية، وجهه كالصخر، واتجه لفتح الباب الخلفي للسيارة.
هبطت منها وأخذت تتلفت حولها بحذر، وكأنها تحاول التأكد من خلو المكان من أعين رجال فلاد.
انتفضت عندما شعرت بيدٍ تربت على كتفها، ثم سمعت صوت امرأة تقول لها بابتسامة
"مرحبًا بكِ سيدتي، تفضلي من هنا"
نظرت إليها سيلينا، وعينيها تمتلئان بالقلق، شعرت بإحساس غريب ينذرها بأن هناك أمورًا خفية تدور حولها.
مشت خلف المرأة، وعندما دخلت إلى المنزل، أخذت تلاحظ نظرات العاملات وابتساماتهن الغامضة التي زادت من توترها، سألت الفتاة المرافقة لها بصوت مضطرب
"أين القيصر؟"
أجابت الفتاة وهي تمد يدها إليها بهاتف محمول
"سيدي يريد التحدث معكِ"
أخذت سيلينا الهاتف ورفعته إلى أذنها، ثم سألت بلهجة حادة تخفي مشاعر متناقضة
"أين أنت؟"
جاءها صوته هادئًا مريبًا
"عزيزتي، أعتذر لعدم استقبالي لكِ بنفسي، حدث أمر طارئ اضطرني إلى مغادرة المنزل، لكنني سأعود قريبًا، انتظريني في غرفتي، وتهيئي للقاء لن تنسيه ما حييتِ"
رسمت على شفتيها ابتسامة تخفي قلقها، وردّت عليه بنبرة مفعمة بالإغراء
"سأكون في انتظارك، وعلى أتمّ استعداد، عزيزي"
داخل غرفة واسعة تتسم بالفخامة، يغلب عليها اللونان الأسود والفضي، كانت كل زاوية تعكس ذوقًا حديثًا ومترفًا.
في وسط الغرفة، برز سرير كبير مغطى بدثار حريري أسود.
خرجت من الحمام بعد أن بدّلت ملابسها بثوب يكشف الكثير و الكثير بسخاء. وقفت أمام المرآة، رفعت شعرها الأشقر الطويل إلى الأعلى وثبّتته بمشبك الشعر، ثم تأملت انعكاسها في المرآة بشيء من الغرور.
التقطت هاتفها من فوق طاولة الزينة، فتحت تطبيقًا شهيرًا للتواصل الاجتماعي، ودخلت إلى الصفحة الشخصية الخاصة بمن يسرق من عينيها النوم لليالي بائسة. حدّثت الصورة بصوت خافت، يحمل همسات جنون الحب
"من أجلك حبيبي سأفعل كل شيء، لن يكون هناك عائق بيننا بعد القادم"
تنهدت بحرارة، وأكملت وهي تقبّل الشاشة التي تحمل صورته
"أحبك قصي"
قطع لحظاتها صوت خطوات تقترب من الغرفة، أثار دهشتها وصول القيصر بهذه السرعة!
أغلقت الهاتف و تركته علي الطاولة ثم التقطت الروب الخاص بثوبها وارتدت سريعاً.
سمعت طرقات خفيفة على الباب، فسألت بصوت مرتفع
"من الطارق؟ القيصر؟"
جاءها صوت توهمت هو مَنْ في الخارج
"أجل"
ضحكت بدلال واخبرته
"تفضل أيها القيصر الوسيم، لكن أغلق عينيك، ولا تفتحهما إلا عندما أقول لك"
جلست على حافة الفراش، التقطت كأس النبيذ الذي أعدّته سابقًا، ورفعت الكأس إلى شفتيها بابتسامة عريضة، تنتظر لحظة دخوله.
لكن ما إن انفتح الباب، وظهرت هيبته الطاغية و ملامح وجهه الحادة المخيفة حتى تجمّدت في مكانها.
جحظت عيناها من المفاجأة، وسقط الكأس من يدها على الأرض، وهي تصيح بذهول
"فلاد!"
❈-❈-❈
استفاقت على صوت رنين هاتفها، يتردد صداه في الغرفة المظلمة كناقوس يُزعزع هدوء الليل.
تململت تحت غطاءها الثقيل، تحاول انتزاع نفسها من بقايا النوم العالق بجفونها المثقلة.
اعتدلت ببطء، وقد تدلى شعرها البني كفوضى حول وجهها الشاحب.
بيدين مرتجفتين، جمعت خصلاته بإهمال وأرجعته إلى الخلف، ثم أنزلت قدميها العاريتين على أرضية باردة، شعرت بوخزها الحاد وكأنه ينذر بيوم ثقيل قادم.
خطت خطوات متثاقلة نحو الحمام، وجسدها يئن تحت وطأة إرهاقٍ خفي.
ما إن بلغت المغسلة حتى أدارت صنبور الماء، ليتدفق سيله البارد ويتراقص تحت ضوء مصباح شاحب.
مدت يديها النحيلتين أسفل الماء، فتجمدت فجأة حين وقع بصرها على معصمها، حيث ظهرت علامات حمراء داكنة مائلة إلى الزرقة، تحيط به كأنها أطواق من ألم.
رفعت بصرها ببطء نحو المرآة، لتواجه انعكاس ملامحها المنطفئة.
عينان غائرتان تتخللهما مسحة من الحزن، وشفتان مرتعشتان تحاولان كتمان سؤال يصرخ في أعماقها، كان على عنقها وكتفها آثار داكنة، دوائر متناثرة بلونٍ أحمر قاتم!
تسمرت أمام المرآة، تتأمل تلك العلامات وكأنها خارطة ألم تحكي قصصاً لا ترغب في تذكرها.
شحب وجهها أكثر، وتجمدت ملامحها في تعبير يجمع بين الصدمة والقهر. أغمضت عينيها فجأة، ولفّها شعور عارم بالإنهاك، كأن الذكرى التي حاولت دفنها قد استيقظت من سباتها، لتطاردها بلا رحمة.
ومع انغماسها في ألم اللحظة، تدفقت الصور إلى ذهنها كطوفان.
تذكرت ليلة الأمس... التفاصيل التي حاولت طمسها، الكلمات التي اخترقت روحها كالسكاكين، والأفعال التي تركت ندوباً أعمق من آثارها الظاهرة.
شعرت وكأن قلبها ينكمش، وكأن الألم يأبى إلا أن يُحيي كل ما دفنته بداخلها.
«مشهد من الأمس»
في ساعة متأخرة من الليل، كان الأرق يفتك بها كوحش شرس.
منذ رحيل زوجها، وذهنها يضجّ بأسئلة بلا أجوبة، تتكرر كأنها تُعاقب نفسها
يا ترى ماذا كان يقصد بحديثه!، هل سيعود كما كان بطباعه التي طالما كرهتها وخاصة طبع القسوة؟!، كانت فكرة عودته بتلك الخصال التي تمقتها في السابق تؤرقها، فهي تعلم أن ردود أفعاله غير متوقعة، وأن اندفاعه قد يفتح أبواباً للندم والخوف.
بدأت تشعر بوخز الندم، ينهش قلبها شيئاً فشيئاً، على أفعالها وعنادها.
لكنها سرعان ما تصطدم بصوت شيطانيّ من داخلها، يبرر لها أخطاءها، هو السبب!، هو من يحب السيطرة والتحكم، يريدني أن أكون خاضعة إلي أوامره، وطالما أنه يحبني عليه أن يتحملني، أليس كذلك؟!
لكن في مواجهة ذلك التبرير، يعلو صوت ضميرها كناقوس يحذرها من السقوط في دوامة الخطأ،يخبرها إنها على خطأ، العناد والمكابرة لن يقودا إلا إلى نتائج عكسية.
ألم يكن عليها فهم طباعه؟، إنه يحبها ويحاول إسعادها، فلمَ لا تبادله ذلك؟ بدلًا من أن تقحم حياتهما في دوامة الحزن والغم!
وبين صراع ضميرها ومبرراتها، جاءها صوت مألوف، كالرعد يخرق سكون الليل، كان صوت سيارته يتوقف أمام بوابة القصر.
شعرت بوخزة في حلقها، وابتلعت ريقها بتوتر، وجملته الأخيرة تتردد كصدى لا ينفك يقرع مسامعها
"لما أرجع بالليل، ألاقيكِ جاهزة لجوزك حبيبك"
انتفضت من مكانها كمن لسعته النار، ركضت نحو السرير كطفلة مذعورة تبحث عن ملاذ.
ألقت بجسدها على الفراش، وسرعان ما جذبت الغطاء الثقيل لتغطي نفسها بالكامل، وكأنها تحتمي من شيء مخيف. الغطاء كان أكثر سماكة مما لا يناسب أجواء الصيف الحارة، لكنه كان ضرورة لتخفي توترها.
أغمضت عينيها بقوة، ومثلت أنها غارقة في نوم عميق، فيما كان قلبها يدق بعنف كأنه يُعلن عن حضور عاصفة لا مفر منها.
وبعد دقائق معدودة، فتح باب الغرفة ودخل، كانت الإضاءة خافتة، يتسلل منها نور ضعيف ينبعث من مصباح زينة بجانب السرير.
لاحظ أن زوجته مستلقية تحت الغطاء، تغطي نفسها من قدميها حتى رأسها. ابتسم بطيف من السخرية، فقد كان واثقاً أنها تحاول التهرب منه، ومتيقناً أنها تتظاهر بالغضب.
تركها تواصل "تمثيلها"، واتجه نحو غرفة الملابس لتبديل ثيابه، قبل أن تسمع خطواته متجهة نحو الحمام.
زفرت هي بأريحية حين شعرت بابتعاده، وقررت أن تبعد الغطاء قليلاً عن وجهها لتتنفس بحرية.
فجأة صرخت بفزع عندما رأته واقفاً أمامها، واضعاً يديه في جيوبه، وعيناه تتابعانها بنظرة ساخرة.
يخبرها بنبرة هازئة
"وإنتي بقى فاكراني هصدق حركاتك القديمة دي؟!"
اعتدلت بسرعة، تُزيح الغطاء عن جسدها كأنها تزيح جبلاً يثقل صدرها، ثم وقفت أمامه متحدية
"آه، بَتهرب منك وزعلانة أوي كمان"
رفع حاجبه بسخرية، لكن الابتسامة ظلت مرتسمة على وجهه.
فجأة، أمسك بيديها بحنان وقال بهدوء
"وأنا جاي أصالحك"
ثم جذبها إليه، وأحاط خصرها بذراعيه، نظرت إليه بدهشة، إذ لم تكن تتوقع هذا التحول المفاجئ في تصرفاته.
كانت ملامحه هادئة ونظراته مليئة بالدفء، على عكس ما كان عليه قبل قليل حين بدا وكأنه لا يطيقها.
ترددت للحظة، ثم سألته بشك
"يعني إنت مش متضايق مني؟"
أمسك طرف ذقنها برفق، ومسّد شفتها السفلى بإبهامه، وقال بصوت هادئ وابتسامة تزين ملامحه
"وأنا هضايق منك ليه؟ عملتي حاجة يا حبيبتي؟!"
رغم ابتسامته، كان في نبرته شيء من السخرية، فتحت فمها لترد عليه، لكنه وضع إصبعه على شفتيها ليمنعها من الحديث
"أنا مش جاي أعاتب، خلينا نتصالح من غير عتاب"
كانت الغرفة غارقة في هدوء متوتر، تتراقص ظلال النور الخافت على الجدران، كأنها شاهدة على تلك اللحظة التي انصهر فيها الزمن بين القرب والرغبة والتوتر، عيناه تحكيان قصصًا لم تفهمها كاملة، لكن إحساسها كان ينذرها بالخطر. عندما أحاطها بذراعيه، بدا وكأنه يحتمي بها، يدفن وجهه ما بين كتفها وعنقها، كأنه يبحث عن شيء مفقود بين ملامحها وصمتها.
كانت هي واقفة بين المفاجأة والريبة، شعور غريب تسلل إليها؛ بين رقة الاحتواء التي لم تستوعبها، وبين قلق غامض ارتسم في ملامحها.
شعرت بأنفاسه الحارة تداعب عنقها، فتسللت القشعريرة إلى جسدها كنافذة تُطرق بشدة في ليلة عاصفة.
فهمت حينها نواياه؛ كان يمهد لشيء أكبر، شيء لا تشعر أنها مستعدة له، خاصة في ظل حالتها النفسية المضطربة.
حاولت الانسحاب بهدوء، تسحب جسدها بخفة من بين ذراعيه كمن يحاول الهروب من دوامة تسحبه إلى الأعماق.
همست، تحاول أن تجعل صوتها طبيعيًا رغم تسارع نبضاتها
"قصي، ممكن نخلي الموضوع ده بعدين؟ تعالي نتكلم شوية"
لم تتوقع أنه سيعاند رغبتها بهذه الصورة؛ فاجأها تمامًا، كأنه انقلب إلي شخص آخر في لحظة.
قبض على رسغيها بعنف، يجرها إلى قربه أكثر، ذراعيها مقيدتان خلف ظهرها، ووجهه قريب جدًا من وجهها، حتى صار صدره يضغط على خاصتها بقوة.
خرج صوته من بين أسنانه كزئير أسد يعلن سيطرته
"أنا اللي أقرر مش إنتي"
ارتعشت نظرتها أمام نظرته الثابتة، الخوف تسلل إلى قلبها كأنه ظلال ليل لا تُمحى.
أدركت من تلك اللحظة أن ملامحه القديمة التي اعتقدت أنها اختفت مع الزمن، عادت تفرض نفسها بقوة.
تلك النظرة المتوحشة، ذلك الطبع المسيطر الذي حاولت أن تنساه، عاد ليطفو على السطح، كأنه كان يترقب اللحظة المناسبة للظهور من جديد.
بلعت ريقها بصعوبة، تحاول أن تخفي ارتجاف جسدها، كانت تعلم أن المقاومة الآن لن تفيد.
قررت أن تسايسه، أن تحاول تخفيف هذا التوتر الذي يشبه النار المستعرة، ابتسمت له بهدوء مصطنع، وهمست بصوت مبحوح بالكاد خرج منها
"وأنا ما رفضتش يا حبيبي، بقولك بس تعالي نتكلم"
كانت كلماتها محاولة لخلق مساحة أمان بينها وبينه، لكن في أعماقها كانت تعرف أن ما حدث لتوّه ليس إلا بداية لعاصفة قد لا تهدأ قريبًا.
في ظلام الغرفة، كان السكون ثقيلًا، لا يُقطَع إلا بصوت أنفاسها المتلاحقة، انحنى برأسه، وهمس قرب أذنها، بصوت يخلو من أي رحمة
"خلص الكلام يا حبيبتي، فياريت تخلي ليلتك تعدي على خير"
لم يمهلها فرصةً للرد، باغتها بقبلة على عنقها بدأت بلطف يشوبه التحذير، لكنها سرعان ما تحولت إلى سلسلة من القبلات العنيفة، وكأنما يريد أن يُشعرها بسطوته دون أي مراعاة.
حاولت أن تتحرك، أن تُبدي اعتراضها، لكن صوتها خرج متقطعًا، مهزومًا
"كفاية... كفاية بقى!"
توقف أخيرًا، محررًا إياها من بين يديه، لكنها لم تسلم تمامًا.
رفعت يدها المرتعشة تلامس آثار شفتيه وأسنانه التي تركت ندوبًا حمراء على عنقها، قبل أن تدرك ما يحدث، باغتها بدفعة قوية جعلتها تهوي على الفراش، مستلقية على ظهرها.
أنحنى فوقها، وجهه قريب من وجهها، وكلماته خرجت صارمة، قاسية
"مش قولتلك أنا اللي أقرر؟! استحملي بقى"
لم تستوعب ما كان يقصد حتى شعرت بقبضته القوية تمسك يديها معًا، يرفعهما فوق رأسها ويضغط على معصميها بقوة. لم تكن مجرد قبضة، بل إعلان واضح عن نيته، انقض عليها كعاصفة لا تهدأ، شفتيه تتحرك بلا هوادة على وجهها، عنقها، كتفيها، ونحرها.
يده الأخرى كانت تعمل على نزع ثيابها، قطعةً بعد أخرى، دون أن يُبقي لها مجالًا للمقاومة أو الاعتراض.
تحولت اللحظة التي كانت يومًا تعني السعادة والأمان إلى جحيم يخنقها، شعرت بأنها لم تعد أمام زوجها، بل أمام شخص آخر غريب عنها، يُفرغ بها غضبًا دفينًا مكبوتًا بداخل قلبه.
وسط هذا العنف، اجتاح ذاكرتها مشهدان لم تفلح الأيام في محوهما.
الأول كان في بداية زواجهما، حين أخذ حقه منها عنوة في الطائرة الخاصة، دون أي اعتبار لمشاعرها أو ارتباكها.
أما الثاني، فهو ما حدث في القبو، حيث كرر أفعاله وكأنما يريد أن يُرسّخ قناعته بأنها ملكٌ له، بلا حق في الاعتراض أو المقاومة.
استسلمت للحظة، غير قادرة على الفكاك، وكل ما شعرت به هو مزيج من الألم والخوف والخذلان.
كانت الليلة شديدة السواد كأنما أغلقت السماء ستائرها عن الأرض، تاركةً الظلام يلفهما معًا.
كانت تنظر بعيون منطفأة إلى السقف، كيف عاد إلى هذا الطبع بعد كل هذه السنوات؟!، كيف يمكن لقصي الذي كان يومًا عنوان الأمان لها، أن يتحول إلى هذا الكابوس المخيف؟
لماذا يفعل بي ذلك؟!، سألت نفسها وصوتها الداخلي يرتعش وكأنه يخشى الإجابة.
لم تكن تدرك هل هو الغضب أم الانتقام أم مجرد قسوة باتت جزءًا من شخصيته؟
فجأة، قاطع صمت أفكارها صوته الحاد، و قبضته القوية كانت تطبق على فكها، تضغط بشدة، فأحست بألم يمتد كاللهب إلى أعماقها، عينيه صوب عينيها، نظراته تحمل ما يكفي ليزرع الرعب في قلبها، يخبرها بصوت خافت ولكنه كالسياط
"كنتي فاكراني بقولك كلام في الهوا؟!"
تهدجت أنفاسه، كانت متسارعة وكأنها انعكاس لغضبه الذي يتصاعد بلا حدود.
شعرت صبا بالعجز التام، عيناها المغرورقتان بالدموع خانتاها، فاضطرت أن تغمضهما، محاولةً الهروب من الحاضر. لكنه لم يدع لها هذا الملاذ البسيط، فصاح بصوتٍ جافٍ قاسٍ حتى شعرت برذاذ كلماته يلطخ وجهها
"افتحي عينيكي وردي عليا"
ببطء، فتحت عينيها التي باتت مثقلة بالدموع الوشيكة، وبصوت خافت يحمل رجاءً وهميًا قالت
"أرجوك كفاية يا قصي..."
ترك قبضته عن فكها، لكنها شعرت أن الألم لا يزال محفورًا في عمق عظامها، رفع حاجبه بازدراء وقال بصوتٍ لا يعرف الرحمة
"مش كفاية يا صبا، إنتي لسه ما شوفتيش مني حاجة، أنا لسه على كلامي ليكي، قصي أبو قلب حنين ده تنسيه خالص"
شهقت وألمها الداخلي والخارجي امتزجا كجرحٍ مفتوح يرفض الالتئام، جسدها الذي انهار تحت وطأة قسوته، كان يرتجف كأنه يعبر عن احتجاجه الصامت. لكنها كانت تعرف بل متيقنة، أن بكاءها لن يغير شيئًا، فهو الآن أسير غضبٍ طاغٍ يعميه عن أي شيء سوى الانتقام الذي يحرقه من الداخل.
لم يكن ما فعله حبًا، بل كان انتقامًا باردًا، يقتص من شيء ما دفين في أعماقه. ورغم ذلك، جسدها استجاب له رغمًا عن إرادتها، وكأن الألم أصبح جزءًا من كيانها.
وحين شعر بوصوله إلى غايته و ذروة متعته، قام عنها ببرود قاتل، تاركًا إياها مكسورة، في مواجهة احتياجها العاطفي والجسدي الذي صار عذابًا مضاعفًا.
سمعت صوت باب الحمام يغلق بقوة، وكأنه أغلق آخر باب بينهما.
مدت يدها، لملمت الغطاء على جسدها، واستدارت على جنبها، متخذةً وضع الجنين.
ظلّت تبكي بصمتٍ، كأن البكاء هو اللغة الوحيدة التي تفهمها في تلك اللحظة، لغة الوجع والألم!
«عودة إلي الوقت الحالي»
كانت تجلس في غرفتها، شاردة الذهن، تحاول لملمة شتات نفسها بعد أحداث الأمس التي أرهقتها نفسيًا وجسديًا، تقف أمام المرآة تنظر إلى وجهها الشاحب بعينين متورمتين من أثر البكاء.
دموعها تساقطت فجأة دون أن تشعر، تمتزج بمياه الصنبور المتدفقة في الحوض، وكأن الحوض صار شريكًا لصمتها في تحمل عبء الألم.
بعد قليل، وجدت نفسها واقفة أمام مرآة الزينة، تحاول تصفيف شعرها المتشابك بأصابع مرتجفة.
كانت عيناها تفضحان التعب والحزن رغم محاولتها تغطيتهما.
تناولت علبة مستحضرات التجميل، التي نادرًا ما تلجأ إليها، وبدأت في إخفاء آثار البكاء وانتفاخ جفونها، وهي تراقب انعكاس وجهها الباهت في المرآة.
رنَّ هاتفها فجأة، فاختطفته بسرعة وكأنها تنتظر خبرًا لا تعلم إن كان سيفرحها أم يثقل كاهلها أكثر.
"ألو؟"
أجابت بصوت متعب، جاءها صوت مساعدتها على الجانب الآخر
"مدام صبا، لازم حضرتك تيجي حالًا، فيه مشكلة كبيرة في الشركة"
"إيه اللي حصل؟"
سألت بتوتر، لكن المساعدة أجابت بارتباك
"مش عارفة أوضح أكتر في التليفون، بس لازم حضرتك تيجي فورًا"
تنهدت بعمق، ثم قالت بجدية
"ماشي، أنا جاية ولو حصل حاجة بلغيني عقبال ما أوصل"
ردت المساعدة على الفور
"أوامر حضرتك"
أنهت المكالمة، ثم أسرعت تطلب رقم زوجها.
وضعته على مكبر الصوت لتسمع الجرس يتكرر دون أن يأتيها أي رد، كررت المحاولة مرة ثانية، لكن لا رد!
زفرت بضيق، وهي تفكر في احتمال أن يغضب إن غادرت القصر دون إخباره.
كان ما حدث بينهما بالأمس كافيًا لإشعال أي خلاف جديد.
حاولت الاتصال بمكتبه، فجاءها صوت السكرتيرة وهي تبلّغها أن-سعادة الباشا- في اجتماع، ولن ينتهي قبل ساعة.
شعرت بغصة تخنقها، ولم تجد حلاً سوى كتابة رسالة قصيرة له
"فيه مشكلة كبيرة في الشركة، وأنا مضطرة أروح أشوفها، هرجع أول ما أخلص"
رمت الهاتف على الفراش، ثم أسرعت ترتدي ملابس رسمية.
استبدلت معطف الحمام القطني بفستان داكن وحذاء أنيق، بينما كانت تتابع عقارب الساعة وهي تتحرك ببطء، وكأن الزمن يثقل كاهلها أيضًا.
بينما ترتدي معطفها، جاءها صوت تنبيه رسالة جديدة، أمسكت الهاتف لترى رد زوجها
"مفيش خروج من القصر"
جزَّت على أسنانها بغضب مكتوم، كتبت له رسالة أخرى
"لازم أروح، دي مشكلة كبيرة، وهخلص بسرعة وهرجع"
انتظرت، وهي تتمنى أن يلين قلبه هذه المرة، لكنه جاءها برد قاطع ومتوقع
"أنا كلامي بقوله مرة واحدة، مفيش خروج من القصر يعني مفيش خروج"
شعرت وكأن الكلمات تضيق حول عنقها كطوق من حديد.
رمت هاتفها المحمول بعنفٍ على الأريكة، وكأنها تُفرغ فيه شحنة قهرٍ تجتاح قلبها، ثم انخرطت في بكاءٍ مرير يتخلله صراخ ممزوج بالعجز والألم.
كان صوتها الجريح كناقوسٍ مدوٍ داخل المنزل، جذب انتباه زينات التي دخلت الغرفة بخطى مترددة، وعلى وجهها علامات الخوف والقلق وهي تُلقي نظراتها هنا وهناك
"يا ستير يا رب، إيه اللي حصل يا بنتي؟"
لم تُجبها صبا، بل ما إن وقعت عيناها على زينات حتى جرت نحوها، وارتمت في حضنها، كطفلة تبحث عن ملاذٍ آمن. انهمرت دموعها بغزارة وهي تقول بصوتٍ متهدج بين شهقاتها
"ليه عايزني أكرهه يا داده؟! ما بقتش قادرة أستحمل معاملته معايا!"
ربتت الأخرى على ظهرها بحنو، تحاول تهدئة ثورتها العاطفية، وقالت بصوتها المفعم بالطمأنينة
"معلش يا حبيبتي، الشيطان بيحب يدخل بين أي اتنين"
رفعت رأسها من حضن زينات، وعيناها غارقتان بالدموع، وقالت بانفعال يكشف مرارة قلبها
"هو ما بقاش يحبني، داده! اللي بيحب حد مهما حبيبه غلط، عمره ما يقسى عليه بالطريقة دي، أنا عارفة إني غلطت وتماديت، بس أنا مش صغيرة عشان يعاملني كده، أنا مراته وأم ولاده، بيعمل فيا كده ليه؟!"
وضعت زينات كفها الحنون على خدها، تمسح دموعها وتهمس بلطف
"طيب، بطلي عياط واهدي الأول يا بنتي"
ردت بصوتٍ مختنق
"مش قادرة يا داده، أنا مخنوقة أوي، ولو معيطش ممكن يجرالي حاجة"
ابتسمت زينات ابتسامةً صغيرة تخفي قلقها
"طيب عشان خاطري، قومي اغسلي وشك وتعالي نقعد نتكلم"
أطاعت الأخرى كلامها، ذهبت إلي الحمام وغسلت وجهها، تحاول استجماع شتات نفسها.
خرجت بعد لحظات، ممسكةً بالمنشفة، تمسح بقايا الماء عن وجهها.
لم تكن قد انتهت من تجفيفه حين فوجئت بدخول قصي.
نهضت زينات فور رؤيته وقالت بلهجةٍ رسمية
"أهلاً يا قصي بيه"
أجابها باقتضاب دون أن يلتفت نحوها
"أهلاً"
كان يخلع جاكيت بدلته بحركاتٍ سريعة متوترة، فسألته زينات بحذر:
"أخليهم يحضروا الغدا؟"
رد وهو يلقي بالسترة على طرف الأريكة
"مش هنتغدى دلوقتي، اتفضلي أنتي"
استجابت لإشارته، خرجت وهي تحاول إخفاء شعورها بالإحراج، لكنها لم تستطع كتم قلقها على صبا.
ألقت نظرة خاطفة على الأخيرة قبل أن تغادر، فوجدتها واقفةً في مكانها، تنظر إلى قصي بنظراتٍ مشحونة بالحزن والغضب.
كان الصمت فرض سيطرته كضيف ثقيل، كانت صبا تقف في الزاوية القريبة من النافذة، تحاول تهدئة العاصفة التي تعصف بها من الداخل.
خرجت زينات بخطوات مسرعة، وكأنها كانت تود الهروب من توتر الأجواء، وما أن أغلق قصي الباب خلفها حتى انتفضت صبا في مكانها، كطائر جريح فزع من قفصه.
لم تنتظر طويلاً قبل أن تسأله، بصوت حاولت أن تجعله هادئاً، رغم أن اضطرابها كان واضحاً بين نبراتها
"لما كنت في الطريق ما بتردش ليه؟، وخلّيت السكرتيرة تقولي إنك في اجتماع؟، وأنت أصلاً رجعت بدري عن ميعادك من الشركة"
لم تكن تنتظر جواباً مباشراً؛ فقد كان قصي معروفاً ببروده وهدوئه اللذين يسبقانه في كل المواقف.
بدأ في خلع ساعته ببطء، ثم فكّ أزرار قميصه دون استعجال.
رفع عينيه إليها بعد لحظة، وأجابها بسؤال حاد كالسيف
"وإنتِ بقى لابسة كده ورايحة الشركة؟، مع إني باعتلك مفيش خروج؟!"
كانت نبرة صوته أشبه بإنذار، كفيلة بجعلها تقف على حافة الحذر.
حاولت أن تبدو متماسكة أمامه رغم أن قلبها كان يخفق بعنف داخل صدرها. أجابته بثبات مصطنع
"وأنا ما خرجتش، وبعدين اتصلت عليك عشان أستأذنك، وإنت عارف الباقي"
ألقى بقميصه على كرسي طاولة الزينة بلا اكتراث، ثم خطا نحوها ببطء، خطواته أشبه بوقع المطر الثقيل على أرض رطبة. تراجعت خطواتها للوراء بحذر، لكنها لم تكن تعرف إلى أين يمكنها الهروب.
فجأة، مدّ يده وأمسك بمعصمها بقوة، مانعاً إياها من التراجع أكثر.
ضغط على ساعدها وهو يسأل بنبرة فيها من الصرامة ما يكفي لتحطيم جدار ثقتها
"هو أنا كلامي ليه ما بيتسمعش؟، ولا عاجبتك المعاملة الجديدة؟"
نظرت إليه بعيون مرتجفة، ثم هزت رأسها برفض خافت، لكنها فاجأته بقولها
"بالعكس، أنا خايفة أكرهك"
ابتسم ابتسامة ساخرة، شقت طريقها ببرود على شفتيه حتى ظهرت نواجذه.
ردد كلمتها وهو ينظر إليها نظرة لم تخلو من التحدي
"تكرهيني؟!"
"آه... هكرهك لو استمريت في معاملتك ليا بالقسوة والعنف، زي ما عملت فيا امبارح، وعلى فكرة أنا عمري ما هنسي اللي حصل"
اقترب منها أكثر، أمسك بخصلة من شعرها بيده، فارتدت برأسها للخلف بخوف لا يمكنها إخفاؤه.
لف خصلة شعرها حول إصبعه بخفة مريبة، ثم تحدث بصوت خافت لكنه كان مشحوناً بالحدة
"إنتِ اللي اخترتي، الحنية واللين ما بينفعوش معاكي، وفاكرة عشان بحبك هسكتلك على غلطاتك؟"
"إنا ما عملتش حاجــــ...
حاولت أن تجيب، لكن كلماتها ضاعت بين شفتيها حين جذب خصلة شعرها بقوة، فأطلقت تأوهاً مكتوماً.
قال ببرود أشد من برد تلك الليلة
"لا... عملتي واللي عملته فيكي امبارح ده و لا حاجة، ده يعتبر... دلع"
كانت نظراتها تتوسل رحمة لم تأتِ، وكأنها عرفت في تلك اللحظة أن صراعها معه لن ينتهي بسهولة.
حاولت جذب ساعدها من قبضته، ولكنها فشلت.
وفي لحظة، دفعها بقوة ناحية الفراش، فسندت على يديها وكأنها كانت تنوي الزحف إلى الوراء، إلا أن قبضته على فخذيها منعتها من التحرك.
انحنى نحوها فجأة وسألها بنبرة مليئة بالتحدي
"مالك يا حبيبتي؟، في واحدة تخاف من جوزها حبيبها برضه؟"
نظرت إلى جانبها، تحاول أن تتجنب النظر في عينيه، امسكها من ذقنها وأجبرها على أن تحدق له مباشرة.
قائلًا بصوت هادئ قاطع
"لما أكلمك، عينيكِ تبقي في عينيا، اطمني ماليش مزاج دلوقتي"
غمز بعينه وتركها، ثم وقف أمامها متفحصًا إياها.
"المشكلة اللي عندكِ في الشركة كانت مع موظفين من مصلحة الضرائب، بعت لهم المحامي عشان يخلص معاهم الإجراءات، وحولت له المبلغ المطلوب دفعه"
وقفت فجأة، مبتعدة عنه بخطوتين، ثم قالت، وتهتز نبرتها بنبرة اعتراض واضحة
"مكنش فيه داعي تدفع لي الضرائب، ده شغلي، وأنا المسئولة عنه"
أطلق ضحكة ساخرة، وكان له وقعها العميق في قلبها، ثم قال بصوت خافت
"ضحكتيني بجد"
فأجابته بنبرة صارمة، تخفي وراءها غصة
"وإيه اللي بيضحك في كلامي، إن شاء الله؟"
"كلامك كله ضحكني بصراحة"
ردت وهي ترفع صوته بغضب، وقد تجاوزت مرحلة السكوت
"وأنا ما بقولش نكت يا قصي، بتكلم بجد و ياريت تخليك في حالك وتسيبني في حالي، ولو كنت اعتبرت سكوتي على امبارح ضعف، يبقى أنت غلطان"
تحولت ابتسامته إلى وجوم، وعيناه ضيقتا وهو يطرح السؤال بحذر، كما لو كان يستشعر القادم من العاصفة
"الكلام ده ليَّ أنا؟"
وقفت أمامه بتحدٍ، وعادت إليها ملامحها المتمردة من جديد، ثم قالت بصوت واثق، يملؤه القوة
"اه ليك، وما تقلقش، أنا مش هادخل بابي بينا تاني، بس أنا كفيلة أحل أموري بنفسي، وأخد حقي كمان"
ضاقت عينيه وهو يسألها بهدوء ساخر، يسبق العاصفة
"وهتاخدي حقك من مين بقى؟"
رفعت حاجبها الأيسر، ثم أجابت بثقة لا مثيل لها، وبنبرة تحدٍّ
"منك أنت، وحقّي منك هو إن أنا..."
ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم أكملت كلامها، وهي تكاد تخرج الكلمات من بين أسنانها
"أنا عايزة أطلق"
يتبع....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا