رواية فى حي الزمالك الفصل السادس وعشرون والسابع وعشرون والثامن وعشرون والتاسع وعشرون والثلاثون بقلم ايمان عادل كامله
رواية فى حي الزمالك الفصل السادس وعشرون والسابع وعشرون والثامن وعشرون والتاسع وعشرون والثلاثون بقلم ايمان عادل كامله
الفصل السادس والعشرون: طَلَبٌ وَتَفْسِيرٌ 🦋✨🤎
لامعت عين أفنان وهي تقرأ ما كُتب في الورقة، طبقة بلورية خفيفة غلفت عيناها وهي تنظر حولها، نبضات قلبها تتسارع بقوة وتشعر بأن التنفس لم يعد بالسهولة ذاتها قبل كل قراءة تلك الكلمات، تقدمت أفنان بضع خطوات نحو الخارج وهي تبحث في كل مكان عنه بلهفة واضحة، غادرت الڤيلا ودققت النظر في المارة وفي السيارات لكنها لم تجده، عاودت النظر إلى الورقة الموضوعة في يدها لتجد أنها ليست مكتوبة بخط اليد بل هي مطبوعة، كان الأمر غريبًا بعض الشيء فلماذا يفعل شيء كهذا؟!
لم تفهم أفنان دلالة ذلك ولم تهتم كثيرًا في تلك اللحظة فكل ما يهم الآن هو أنه مازال يُفكر بها وأنه لم يختفي كما ظنت أنه فعل بل وأنه قريب منها قريب للغاية...
"بتعملي أيه؟ بابا بيدور عليكي."
"أنا.. مبعملش حاجة.." أجابتها أفنان بتلعثم وهي تُخفي الوردة والورقة خلف ظهرها لتُطالعها ميرال بشك وهي تسألها:
"أنتي مخبية أيه ورا ضهرك؟"
"هوريكي بس متديش رد فعل أوڤر ماشي؟" أومئت ميرال بحماس وهي تنظر نحو يد أفنان بفضول شديد وبمجرد أن رأت الوردة في يد أفنان قفزت بحماس وهي تصيح:
"وريني وريني!!!"
"بس منك لله هتفضحيني!!! يادي الوكسة أهو رحيم شافنا وجاي." وبختها أفنان بنبرة جادة ومتوترة في الآن ذاته لدرجة أنها ذكرت اسم رحيم بدلًا من نوح.
"رحيم؟" سألتها ميرال بإستنكار وهي ترفع أحدى حاجبيها لتنظر نحوها أفنان بتوتر شديد وعصبية وهي تتفوه بالآتي:
"رحيم مين؟ مين قال رحيم؟ أنتي قولتي رحيم.. أنا مقولتش أنا بقول نوح!"
"في حاجة يا بنات؟" سأل النوح الذي ظهر من اللامكان لتتنهد أفنان بضيق وتُشيح بنظرها بعيدًا عنه قبل أن تُتمتم بالآتي:
"عارف لما الإنسان بيخليه في حاله.. ربنا بيكرمه، أسيبكوا بقى مع بعض وأروح أشوف تيتا بتعمل أيه." حاولت أفنان التملص من نوح والذهاب للطاولة كي تُخبي الوردة والورقة في حقيبتها الصغيرة اللامعة وقبل أن تذهب غمزت بإحدى عينيها لميرال.
ذهبت أفنان إلى الطاولة وهي تحاول إخفاء الورقة والوردة بين طبقات الفستان خاصتها قبل أن تجلس وتضع كلاهما في الحقيبة؛ على الفور رمقتها والدتها بشك ولكن لحسن الحظ قد وصلت العروس لذا أنشغل الجميع بقدومها لتتنفس أفنان الصعداء.
كانت ريماس ترتدي فستانًا باللون الأزرق السماوي وكان يرتدي هو بذلة كُحلية اللون، كان منظرهم لطيف وكانت السعادة بادية على وجه ريماس لكن العريس كان وجهه متجهم بعض الشيء، همس لريماس بشيء في أذنها لتختفي ابتسامتها هي ايضًا لكن بمجرد أن أقترب الجميع منهم لبدء الإحتفال عاودت الإبتسام؛ وقد كانت بسمتها مزيفة إلى حدٍ كبير.
"فستانها حلو أوي ما شاء الله."
"اه لونة حلو فعلًا، بس بصي عمتك لابسة دهبها ودهب المنطقة كلها ما شاء الله." كانت تتحدث أفنان بجدية في بداية حديثها قبل أن تسخر من فعل عمتها، فهي واثقة من أنها تعمدت ارتداء كل الذهب الذي تملكه فقط للفت الإنتباه.
"متبصيش عليها بقى لا تقول أننا بنحسدها."
"على رأيك مش طالبة وجع دماغ بصراحة." قاطع ثرثرتهم صوت النوح الذي جاء من اللامكان ليقف في المنتصف بين أفنان وميرال وهو يُردف:
"العروسة حلوة أوي، مش شبهكوا." عبس وجه ميرال حينما سمعت جملته بينما نظرت نحوه أفنان بغيظ وقد رفعت أحدى حاجبيها بإعتراض وهي تسأله:
"حلوة عشان مش شبهنا؟!"
"أيه ده ده أحنا بنغير ولا أيه؟"
"غيرة؟! أيه يا عم القرف ده أغير أيه؟! هو ده منظر حد أغير عليه؟!" علقت أفنان بإستنكار وبتعابير وجه مُشمئزة لتقهقه ميرال بقوة بينما ينظر نحوها نوح بإعتراض وهو يسألها بإعتراض:
"في أيه يا بنتي هو أنتي بتكلمي واحد جربان؟"
"معرفش أنت أدرى بنفسك، فكرني تاني كده أنت أيه اللي جابك النهاردة؟"
"جيت أوصلكوا.."
"صح يعني أنت دورك النهاردة مقتصر على أنك سواق وأحنا بقى هنكرمك وهنأكلك من البوفية معانا كمان أكتر من كده ملكش حاجة عندنا ماشي؟" تفوهت أفنان بسخرية لتقهقه ميرال ثم تُضيف على حديث أفنان الآتي:
"المرة دي بقى أفنان معاها حق."
"بقى كده يا ميمي تاخدي صف أفنان مش صفي؟"
"ما أنا دايمًا في النص بينكوا وأنتوا مش بتبطلوا خناق وبعدين هي أختي وأنت..." صمتت ميرال وصُبغت وجنتيها بالحُمرة وهي لا تدري ما الكلمة المناسبة التي تصف نوح بالنسبة إليها، تمتمت أفنان بسخرية وبصوتًا منخفض:
"هي أختي وأنت شرفي."
"بتقولي حاجة؟"
"مبقولش."
"بت يا أفنان تعالي سانديني." أخترق مسامعها صوت جدتها لتتجه نحوها أفنان على الفور وتمد يدها كي تستند عليها جدتها، لم تكن جدة أفنان متقدمة في العمر بدرجة كبيرة فهي مازالت في عقدها السادس لكنها تُعاني من بضع مشاكل في قدمها.
"شايفة بنت عمتك حلوة ازاي؟ عشان بتسمع كلامي وكلام أمها، مش أنتوا يا حسرة.. أمكوا مايلت بخكتوا بإيدها." علقت جدتها لتحاول أفنان تمالك أعصابها وعدم إظهار ضيقها على تعابير وجهها، تنهدت أفنان تنهيدة صغيرة قبل أن تقول:
"لا يا تيتة أنا بختنا مش مايل ولا حاجة بس لسه النصيب مجاش."
"ما هما بنات اليومين دول كده يطفشوا العرسان ويقولوا النصيب مجاش." لم تُعلق أفنان بل اكتفت بإبتسامة مُجاملة صغيرة برغم من أنها أرادت أن تصرخ من شدة الغيظ؛ لكنها في النهاية لم تفعل لأنها تحترم كونها جدتها وكونها تكبرها في العمر بغض النظر عن أن ما تقوله يَسُم بدن أفنان.
"بت مين الشاب الحليوة اللي واقف جنب ميرال ده؟ ده مش من عيلتنا."
"ده يا تيتا ابن خالتي وجيه يوصلنا، كنت عايزاه يمشي عشان عيب والعدد وكده بس هو مرضيش."
"يمشي ده أيه يا عبيطة؟ ده أنتي تمشي وهو لا."
"ازيك يا حبيبي عامل أيه؟ منور." ألقت جدتها التحية على نوح الذي ابتسم نحوها بآدب وإحراج وهو يُردف:
"بنور حضرتك يا تيتة."
"أيه ده أنت عارفني؟"
"اه طبعًا ميرال وأفنان بيحكولي عن حضرتك كتير."
"ويا ترى بيقولوا أيه بقى؟" سألت جدتها بخبث لتتسع أعين أفنان وهي تنظر نحو نوح بنظرات مُحذرة ليبتسم هو بمكر ثم ينبس:
"كل خير طبعًا."
"طيب، المهم أيه رأيك في الخطوبة؟"
"جميلة ما شاء الله."
"عقبال خطوبتك أنت وميرال." أردفت جدتها لترتسم ابتسامة متفاجئة على وجه نوح بينما ميرال كانت تدعو أن تنشق الأرض وتبتلعها في جوفها من شدة الإحراج.
"قصدي يعني نفرح بيكوا وبأفنان وبكل اللي لسه متجوزش."
"ان شاء الله يا تيتة."
انقضى اليوم سريعًا فابالرغم من كون أفنان لا تشعر بالراحة كثيرًا وسط عائلة والدها إلا أنها أمضت الوقت في إلتقاط الصور والثرثرة مع ميرال ومشاكسة نوح وبعض الرقص بالطبع، عادت أفنان إلى المنزل برفقة أسرتها وهي لا تشعر بقدميها من شدة الآلم بسبب حذائها وطبعًا لم تخلو الليلة من المزيد من التعليقات بواسطة جدتها وعمتها وخاصة بعد فقرة ارتداء 'الشبكة' حيث ابتاع الشاب عدد كبير من الحُلي الذهبي من أجل ريماس.
"يخربيت الكعب وسنينه!!" علقت أفنان فور أن دلفت إلى داخل المنزل وهي تُلقي بجسدها على أقرب أريكة بينما تخلع حذائها بعشوائية.
"قولتلك متلبسيش كعب وبعدين كعب مين يا أفنان فوقي أنتي كنتي قالعة الجزمة نص الخطوبة أصلًا!"
"عيب على فكرة اللي بتقوليه ده." قالت أفنان ثم انتظرت حتى توجه والديها إلى حجرتهم قبل أن تُضيف أفنان بصوتًا منخفض بينما تتجه نحو حجرتها هي وميرال:
"بقولك أيه أنا هفتح واتساب بقى أكيد رحيم رد عليا." فتحت أفنان هاتفها بحماس ليُعلن عن وصول العديد من الإشعارات لكن لم يكن اسم رحيم من بينهم، ارتسمت ملامح الخيبة على وجهها وعبست قبل أن تُلقي الهاتف على السرير بإهمال.
"أنا مش فاهمة هو مش بيرد عليا ليه؟!!"
"يمكن... يمكن مشغول."
"مشغول يرد عليا بس مش مشغول يبعتلي وردة وجواب؟" سألت أفنان بخيبة أمل وعند تلك النقطة لم تجد ميرال مُبرر لأفعاله الغريبة لذا صمتت لبعض الوقت قبل أن تقول:
"عندك حق.. بصي سيبك منه بجد هو لو عايز يتكلم هيتكلم عدل لكن شغل الإختفاء ده مينفعناش، أصلًا الحوار كله مينفعناش وأنتي عارفة."
"يووه يا ميرال بقى! أنتي نوح بَهت عليكي وكلامكوا بقى واحد."
"كلامنا مش واحد، الشبه بينا أننا خايفين عليكي أحنا الأتنين وشايفين حاجات أنتي مش شايفاها أو عاملة نفسك مش شايفاها."
"خلاص يا ميرال أرتاحي أنتي ونوح مبقاش في رحيم ولا زفت خلاص وأساسًا الدراسة كلها كام يوم وتبدأ والصفحة دي هتتقفل نهائي!" صاحت أفنان بإنفعال قبل أن تأخذ هاتفها، وشاح لرأسها وحقيبتها الصغيرة وتغادر الحجرة وتذهب للجلوس في الشرفة وحيدة.
بمجرد أن جلست أفنان على الأرضية الباردة قليلًا عاودت النظر إلى هاتفها مجددًا لكن أعتلت الخيبة ملامح وجهها مجددًا... مازال رحيم لم يُجيب عن رسائلها إذًا لماذا أرسل تلك الرسالة وفعل تلك الحركة الرومانسية المُبتزلة؟ هل يقصد جعلها مشتتة أكثر؟ هل يتعمد أن يُحمسها لعودته ثم يختفي تاركًا إياها في دوامة من التفكير المُفرط...
أخرجت أفنان الرسالة وكادت أن تشقها نصفين لكنها لم تستطيع ودون أن تشعر وجدت نفسها قد شرعت في البكاء بالفعل، لقد حافظت على مشاعرها كل تلك السنوات ليأتي هو ليُبعثرها في أقل من ثلاثة أشهر؟
لعنت أفنان نفسها وهي تمسح دموعها التي لا تدري سببها، رحيم لا يعني لها أي شيء هو مجرد شخصًا قابلته عن طريق المصادفة وقامت بمساعدته على سبيل الإنسانية ثم قابلته مجددًا عن طريق المصادفة كذلك لكنه لم يكن سوى مُدير الشركة والشخص الذي يمنحها التدريب وبالنسبة إليه هي ليست سوى مُتدربة؛ حاولت إقناع نفسها بكل ذلك كي لا تشعر بالآلم... لقد كان نوح مُحق حينما قام بتحذيرها بغض النظر عن كونه وغد لكنه كان يملك نظرة صحيحة.
بعد أن كفكفت أفنان دموعها عاهدت نفسها أنها ستتوقف عن التحدث بشأن رحيم بل أنها ستمنع نفسها من أن يخطر على بالها من الأساس.
مر أسبوعًا على خطبة ريماس والرسالة، عادت الأمور إلى مجراها مجددًا الزيارات العائلية لخالتها وزيارة عمتها لتتحدث كل خمس ثوانٍ عن 'الشبكة' باهظة الثمن الذي ابتاعها خطيب ريماس من أجلها، بدأت أفنان استعدادت العودة للدراسة ومازال رحيم لم يظهر بعد وقد توقفت أفنان عن ذكر اسمه حتى وإن كان يقفز إلى عقلها من الحين للآخر، حتى وإن كانت تَشم رائحته في كل مكان وحتى وإن كانت تتذكر صوته، ضحكته، تعابير وجهه في كل ثانية.
'جاهزة للكلية؟ لو اتأخرتي بكرة عالسكشن هطردك.'
'نوح بقولك أيه أنا أساسًا على آخري وبعدين هو مفيش معيد غيرك في الكلية كلها ولا أيه؟'
'ما يمكن عشان سبحان الله المواد اللي قصدك عليها تبع قسم واحد واللي أنا متعين فيه؟! المهم متتأخريش برضوا.'
'طيب ماشي باي بقى.'
في صباح اليوم التالي استيقظت أفنان بكسل، بدلت ثيابها المنزلية إلى ثياب مُريحة نظرًا لأنها ستمضي وقتًا طويل في الجامعة، وضعت أغراضها والمعطف الطبي في حقيبتها واتجهت نحو الخارج.
"صباح الخير يا بابا صباح الخير يا ماما، ماما أعمليلي تلاتة لانشون واتنين جبنة رومي وخيارة معلش عشان مستعجلة ومتأخرة عالسكشن ومليش نفس."
"خمس سندوتشات وملكيش نفس؟ أومال لو ليكي نفس هتاكلي دراعي ولا أيه؟"
"كده يا ماما بتعدي عليا اللقمه؟ مكنش العشم بس بكرة أسيبكوا وأمشي وتبقوا بتتمنوا كده أجي أفطر معاكوا." قالت أفنان بنبرة درامية لتنظر نحوها والدتها بعدم تأثر قبل أن تُعلق بسخرية:
"ليه مهاجرة ولا أيه؟"
"شايف يا بابا بتتريق عليا ازاي؟"
"معلش يا حبيبتي حقك عليا، ما تسيبيها يا رانيا تاكل بالهنا والشفا."
"والله يعني أنت معاها عليا يا أحمد؟ ماشي."
"لا يا ماما يا حبيبتي حقك عليا هاتي بقى السندوتشات عشان مستعجلة." أردفت أفنان وهي تأخذ من والدتها الطعام وتهرول نحو الخارج.
وصلت أفنان في الموعد المحدد الثامنة والنصف وبينما تسير جهة المعمل لمحت بطرف عيناها نوح وهو يتجه نحو المعمل ايضًا مما يعني أنه إذا وصل قبلها بثوانٍ فهو سيمنعها من الدخول لذا وبدون ذرة تردد ركضت أفنان نحو الباب ودفعت نوح نحو الخلف بخفة وهي تهرول نحو الداخل.
"وصلت قبل حضرتك!" قالت من وسط أنفساها المتوقعة وهي تحاول ألا تضحك كي لا تُغضبه.
"هعديهالك المرة دي بس مش هعديلك أنك واقفة في المعمل من غير البالطو." تفوه نوح بنبرة رسمية وهو يبتسم ابتسامة سمجة لتضغط أفنان على فكها بغيظ وهي تُلقي حقيبتها على أحدى الكراسي وتُخرج منها المعطف وترتديه.
مرت ساعتين من الثرثرة المتواصلة لنوح ومن ثم تبعها ساعة من التطبيق العملي للشرح لينتهي ال "سكشن" في الحادية عشرة والنصف، تتجه أفنان مباشرة بعد ذلك لحضور محاضرة تستمر ايضًا لمدة ساعتين، تنتهي أفنان أخيرًا في الواحدة والنصف لتذهب إلى أحدى المقاعد في ساحة الحرم الجامعي لتجلس لتناول طعامها.
جلست أفنان وأخرجت الشطائر من حقيبتها وأخذت قضمه ومعها رشفة من عصير البرتقال الذي ابتاعته في طريقها إلى الجامعة، قاطع تناولها للطعام صوت أحدهم وهو يسألها بأدب:
"لو سمحتي ممكن أعرف فين شئون الطلبة؟" بمجرد أن أخترق الصوت مسامع أفنان سعلت بقوة لوقوف الطعام في حلقها قبل أن تتفوه بصدمة وسط سعالها بشيء واحد:
"رحيم!!!"
"أفنان Oh my god 'يا إلهي' أنتي كويسة؟" لم تُجيبه أفنان بل ظلت تسعل ليهرول رحيم إلى 'الكافتيريا' ليشتري لها زجاجة مياه ويمنحها إياها.
"أتفضلي Water will help 'المياه ستساعدكِ' عشان ال..."
"الشَرقة؟" سألته من وسط سعالها ليُجيبها بتوتر:
"مش عارف اسمها! بقيتي كويسة دلوقتي؟"
"اه الحمدلله... ثواني بس أنتَ أيه اللي جابك هنا؟"
"جاي اسأل عن اجراءات التقديم على تحضير Master 'ماچستير'." أجاب رحيم ببساطة شديدة وهو يضع كلتا يديه خلف ظهره، نظرت نحوه أفنان بعدم تصديق وهي تُضيق عينيها قبل أن تُعلق على حديثه بإنفعال قائلة الآتي:
"أنت هتستعبط يلا؟! ما انت معاك ماجستير!"
"هعمل ماستر كمان هو أنا لازم أحضر واحدة بس يعني؟" تحدث رحيم من وسط قهقهته فلقد أفتقدها كثيرًا وأكثر ما أفتقده هو أسلوبها المُميز وطريقتها تلك، ازدادت تعابيرات وجهها استياءًا حينما رأته يضحك.
"طيب أمشي دلوقتي يا رحيم لو سمحت، نوح لو شافنا هيعملي فضيحة في المكان كله وهنا بقى هو معيد رسمي مش شغال عندك عشان تمنعه!" أخبرته أفنان بتوتر وهي تتلفت حولها بينما نظر نحوها رحيم بلطف وهو يقول بثبات وثقة شديدة:
" طيب خليه يستجرى يعملك حاجة وقبل ما يروح بيتهم هيكون جواب فصله من الجامعة وصل قبله."
"ده أنت جامد بقى وروش."
"أنتي بتسخري مني صح؟"
"بتسخري؟ الست زينة هانم." أردفت أفنان بسخرية وقد ارتسمت ابتسامة جانبيه على ثغرها نتيجة استخدامه لفعل باللغة العربية الفصحة وأكملت سخريتها بجملة من أحدى الأفلام القديمة.
"أنا مش فاهم أنتي بتقولي أيه بس تمام طالما اللي قولته خلاني أشوف ابتسامتك." تفوه رحيم وهو ينظر إلى أفنان بنظرة حنونة لتُزيل الإبتسامة عن وجهها على الفور مُتعمدة مضايقته، ساد الصمت لثوانٍ كانت أفنان تتأمل فيها عيون رحيم الخضراء الذي زادتها أشعة الشمس جمالًا حيث جعلتها تبدو أفتح، أما عن ابتسامته فلا داعي لوصفها فلقد جعلت أفنان تذوب.
"رحيم أنت عايز مني أيه؟" سألته أفنان بجدية شديدة وهي تعقد كلتا يديها أمام صدرها، يأخذ رحيم نفس عميق قبل أن يُجيب عن سؤالها قائلًا:
"عايزك تسمعيني! عايزك تسمعيني زي ما سمعتك لما أنس شافك مع نوح، اديني فرصة أشرحلك وبعدها قرري هتسامحيني ولا لا!"
"لا مش قصدي في الموقف ده، قصدي أنت عايز مني أيه في العموم؟ مش كل اللي كان بيجمعنا التدريب وأديه خلص، أنت بقى عايز أيه دلوقتي؟"
باغتت أفنان رحيم بتلك الأسئلة، لم يتوقع قط أن تسأله أسئلة كتلك ولم تكن الإجابة حاضرة في ذهنه بالفعل لكن هي.. لقد راودتها تلك الأسئلة طوال الأيام الماضية التي لم تكن تعرف هي سر اختفاءه...
"معنديش إجابة محددة بس كل اللي أعرفه وواثق منه أني وأنا معاكي بكون أحسن version 'نسخة' من نفسي، بكون مطمن وبكون على طبيعتي... هل دي إجابات كافية بالنسبالك؟"
أجابها رحيم بصدق وبنبرته الهادئة المُعتادة التي كانت كالسيمفونية في أذن أفنان، تجنبت النظر إليه بينما كان ينظر هو إلى داخل عيناها... بالرغم من التأثير العظيم لتلك الكلمات على قلبها وبغض النظر عن تلك الرجفة التي أصابت يدها إلا أنها شعرت أن الأمر برمته خاطئ.
"رحيم أنت لازم تمشي دلوقتي، الناس بدأت تاخد بالها ما هو مش طبيعي حد يجي الكلية ببدلة سينيه!!"
"على فكرة الناس في ال Graduation party 'حفل التخرج' بيلبسوا بدلة."
"اه ما أحنا مش في حفلة تخرج ولا ده حتى وقت مناقشة مشروع تخرج فا من فضلك أمشي."
"مش همشي من غيرك، أنا عارف أنك خلصتي ال lectures 'المحاضرات' اللي عندك النهاردة So 'لذا' يلا نمشي."
كادت أفنان أن تُجادله لكنها لمحت بطرف عيناها نوح يقف على مسافة ليست ببعيدة ويتحدث إلى بعض الطلاب، تتسع عيناها على الفور وهي تُلملم أغراضها ثم توجه نظرها نحو رحيم وهي تُردف:
"طيب ماشي يلا بسرعة بس، أمشي قدامي أسبقني."
"مينفعش أمشي قدامك Ladies first 'السيدات أولًا'."
"لا مش وقت جنتله خالص وحياة الست الوالدة." تمتمت أفنان وهي تُسرع من خطواتها لكن رحيم لم يقتنع بحديثها وجعلها هي تتقدمه أثناء السير، وقد فعل ذلك لأنه شعر أنه بحاجة لحمايتها ومراقبة جميع من حولها.
"تحبي نقعد فين؟" سألها رحيم فور أن غادروا مقر الجامعة لتُجيبه أفنان على الفور:
"أي مكان، أقولك بينا عالزمالك في قهوة بلدي هناك جنان."
"أفي، أفي أحنا هنقعد في restaurant 'مطعم' تمام؟"
"أي حتة يا رحيم خلينا نخلص."
"تمام هطلبلك عربية توصلك."
أومئت أفنان بحسنًا ولم تُعلق بالمزيد، بعد ثلاثة دقائق جائت سيارة بالفعل، تأكد رحيم من سلامتها ثم اتجه إلى سيارته ليسير خلفها، كانت أفنان طوال الطريق تُفكر في كم هي مستاءة من رحيم لكن ظهوره الغير متوقع وكلماته المعسولة جعلتها تتناسى غضبها الشديد الذي كانت تكتمه داخلها في الأيام الماضية، بعد عشرون دقيقة توقفت السيارة أمام المكان المنشود.
وكالعادة أخذها رحيم إلى مطعم فاخر، لم يكن المكان مزدحمًا نظرًا لأن الوقت مازال مُبكرًا، دلفت أفنان نحو الداخل بعد أن قام رحيم بفتح الباب من أجلها بنُبله المعتاد.
"نجيب ال Menu 'قائمة الطعام' دلوقتي ولا نستنى شوية؟"
"أنا جاية لا أكل ولا أشرب يا رحيم، قول الكلمتين اللي عندك عشان أروح لو سمحت عشان مش المفروض أصلًا أني أكون قاعدة معاك دلوقتي." قالت أفنان بحزم شديد لينظر نحوها رحيم بحيرة قبل أن يسألها:
"ليه غلط؟ أحنا في مكان عام وفي ناس حوالينا وأحنا مش في وقت متأخر."
"كل دي مش مبررات، غلط عشان مينفعش أقعد مش شاب غريب وكمان بدون علم أهلي عالعموم مظنش أنك جايبني هنا عشان تناقشي في معتقداتي وأفكاري." كانت أفنان تشعر بذنب شديد لجلوسها مع رحيم بل وتحدثها معه من الأساس.
"طيب أنا هطلب عصير لينا أحنا الأتنين وبعدها هشرحلك سبب اختفائي وهخليكي تمشي عشان متتأخريش."
"قولتلك مش عايزة أشرب حاجة."
"طيب عايزة أيه؟"
"أطلبلي نص فرخة." أردفت أفنان بسخرية مُقتبسة تلك الجملة من أحدى الأفلام الكوميدية، وبعد العديد من المناوشات حول ماذا سيكون طلبهم انتهى بهم الأمر وهو يتناولون طبقًا رئيسي 'Main dish' ، ساد الصمت لبعض الوقت بينما تُطالع أفنان رحيم بإستياء بينما ارتخت تعابير وجهه.
"أفنان أنا كنت مسافر England 'إنجلترا' كان لازم أسافر ضروري ومكنش في وقت اقولك."
"ويا ترى أيه اللي خلاك تسافر ملهوف كده إن شاء الله؟" سألت أفنان بحنق شديد وهي تضع أحدى يديها على خصرها، يضحك رحيم حينما يرى ردة فعلها ثم يُغمض عيناه لثوانٍ ويتنهد ثم يُكمل:
"طيب ممكن تديني فرصة أشرحلك من غير ما تقاطعيني؟" أومئت أفنان بهدوء ظاهريًا بينما في داخلها كاد الفضول يقتلها.
"أنا كنت المفروض هقابلك ونقعد شوية بعد الحفلة كنت هخلص معاكي وأطلع عالمطار على طول، أنا عارف أن أسلوبي في الرد عال Message 'رسالة' بتاعتك مكنش حلو بس أنا كنت مضغوط جدًا، المهم أني في طريقي للمطار التليفون وقع مني في العربية وما أكتشفتش ده غير لما سافرت."
"وهناك في بلاد برا مفيش تليفونات يعني ولا أيه؟ عايشين في العصر الحجري." سألته أفنان بمزيج من الحنق والسخرية لكن رحيم لم يتأثر كثيرًا بل نظر نحوها بهدوء تام وهو يرتشف من كوب الماء الذي أمامه ثم يُحمحم ثم يُجيبها بالآتي:
"لا في تليفونات بس أنا مش حافظ رقمك وأنا أصلًا كنت مشغول جدًا لدرجة مكنش في وقت حتى للأكل والنوم."
"اه أومال أنت ازاي بعتلي وردة ورسالة على مكان الخطوبة بقي إن شاء الله؟" سألته أفنان بحنق ليضحك رحيم على أسلوبها حيث بدت غاية في اللطف وهي مستاءة.
"عشان أنا قبل ما أسافر كنت Already 'بالفعل' متفق مع حد أنه يبعتلك مسدچ وورقة على مكان الخطوبة."
"وأنت عرفت مكان الخطوبة منين؟ وعرفت منين أصلًا أن في خطوبة؟ أيه ممشي ورايا مُخبر؟"
سألته عدة أسئلة متتالية وهي واثقة من أنه لا يملك إجابة مقنعة فكيف له أن يُرسل تلك الأشياء دون أن يُحضرها هو بنفسه؟! استطاع رحيم قراءة تعابير وجهها والتي لم تبدو مقتنعة كثيرًا بإجابته السابقة، ارتسمت ابتسامة جانبية على ثغره وهو ينبس بالإجابات خاصته والتي بدت منطقية إلى درجة كبيرة.
"سمعتك في يوم بعد تدريب بتكلمي ميرال على الفستان وبعدين ال Location 'الموقع الجغرافي' مفيش أسهل منه، أفنان literally 'حرفيًا' كان في حد عاملك Tag 'إشارة' بمكان وميعاد الخطوبة."
"يعني أنت مكنتش موجود يومها؟"
"لا."
"طيب ممكن أعرف أنت سافرت ليه أصلًا؟ ممكن ولو لمرة واحدة تديني مبرر مقنع لإختفائك المفاجئ."
"كل ديه مش أسباب كافية؟" سأل رحيم بإندهاش شديد لتُحرك أفنان رأسها ب 'لا' ثم تُضيف:
"عايزة أعرف كنت مسافر ليه."
"أول مرة تبقي فضولية، عمرك ما سألتي."
"عندك حق أنا مش المفروض اسأل أصلًا، سلام." نبست أفنان بضيق وهي تأخذ حقيبتها وتهم بالرحيل ليجذبها رحيم برفق بواسطة حقيبتها
"استني بس استني... أنا مش هينفع أقولك عشان هي حاجة متخصنيش أنا."
"أومال تخص مين إن شاء الله؟"
"أنس، والموضوع كبير وملهوش علاقة ببنات متقلقيش." زفرت أفنان براحة حينما سمعت، كانت نبرة رحيم صادقة وعلى أي حال هو ليس بحاجة للكذب.
"بس كده؟"
"لا كان عندي اجتماع مع شركة هناك في شغل بينا وبينهم وبما إن بابي مكنش فاضي وأنا كنت هناك أصلًا فخلصت الشغل." كانت تسمع أفنان بإهتمام لكن بمجرد أن قال رحيم لفظة 'بابي' انفجرت أفنان ضاحكة حتى دمعت عيناها بينما نظر نحوها رحيم بحيرة وهو لا يدري ما المُضحك في حديثه إلى تلك الدرجة؟!
"هو أنت بجد بتقول لباباك يا بابي؟"
"اه... فين المشكلة مش فاهم؟"
"توتو فعلًا توتو." علقت أفنان بسخرية وهي تقهقه بقوة لينظر نحوها رحيم بحيرة وهو يسألها بعد فهم:
"توتو؟ أنتي بتقولي أيه؟ أنا مش فاهم."
"خلاص متزعلش أنا أسفة بس أصل الموضوع غريب أوي بجد."
"ليه هو أنتي بتقولي ل Uncle 'عمو' أيه؟"
"بقوله بابا أو ساعات يا حج ساعات بندهله بإسمه، وممكن أدلعه أقوله يا حمادة كده يعني."
"لا لا wait a second 'انتظري لثوانٍ' أنتي بتقولي لباباكي بإسمه وبتدلعيه؟!" سأل رحيم وقد كانت الدهشة بادية في نبرته لتضحك أفنان في البداية ثم تُدرك أنه حقًا مُنبهر بما تقوله.
"هو أنت مش بتعمل كده؟"
"لا عشان It's not polite 'ليس من الآدب' أني أعمل حاجة زي كده." قام رحيم بإيضاح وجهه نظره لتنظر نحوه أفنان بإبتسامة صغيرة لا تخلو من التعجب، مرت بضع دقائق من الصمت بينما يتناول كلاهما طعامه لم تُنهي أفنان طعامها لذا نظر نحوها رحيم وهو يُردف:
"هخلي ال Waiter ياخدلك باقي الأكل takeaway 'تأخذ الطعام للمنزل'."
"لا لا مش هينفع أروح ببقيت الأكل هما أصلًا في البيت ميعرفوش أني خرجت بعد الجامعة." أردفت أفنان التي نظرت إلى الساعة في هاتفها وقد كانت تقرب من الخامسة مساءًا.
"حطيه في شنطتك محدش هياخد باله يا أفنان."
"أنت ناوي تعملي مصيبة بجد..."
"لا لا مفيش مصايب ولا حاجة Don't worry 'لا تقلقِ'."
"طيب رحيم أحنا مش هنتكلم تاني صح؟"
"هستناكي في الشركة عشان تيجي تاخدي الشهادة بتاعتك." أجاب رحيم على سؤالها إجابة لا تمت بصلة للسؤال خاصتها، نظرت نحوه أفنان بإبتسامة جانبية قبل أن ينظر رحيم إلى ساعة يده الفخمة ثم يُردف:
"أظن المفروض نتحرك عشان متتأخريش."
"اه يلا بينا." تمتمت بينما أخذت تتأمل ساعة رحيم الفاخرة، قبل أن تستقيم من مقعدها وتغادر المكان، كان كل شيء على ما يرام عدا أن أفنان لم تنتبه أنها جعلن هاتفها على وضع الصامت.
"أشوفك قريب يا أفي، مش هحسب مقابلة النهاردة لأني ملحقتش أقعد معاكي."
"ربنا يسهل يا رحيم.. شكرًا عالغداء وعلى الرسالة والوردة.. وكل حاجة."
"صدقيني دي أقل حاجة ممكن أعملها عشانك بس عمومًا عفوًا يا ستي."
قام رحيم بطلب سيارة لتقوم بإيصال أفنان إلى المنزل، لوحت له أفنان مودعة إياه من داخل السيارة بينما وقف هو ينظر نحوها بإبتسامة لطيفة بينما يضع يده اليمين داخل جيب بنطاله وهو يلوح بيده الآخرى.
وصلت أفنان إلى منزلها في خلال نصف ساعة تقريبًا وقد كانت الساعة قد وصلت إلى الخامسة والنصف تقريبًا، كانت أفنان ستطرق باب المنزل لكنها قررت أن تستخدم المفاتيح خاصتها بدلًا من ذلك، فتحت أفنان الباب ببطء وبمجرد أن خطت نحو الداخل أخترقت أنفها رائحة عطر رجولي، لم تدري أفنان لمن تلك الرائحة فتلك ليست رائحة والدها ولم تمر سوى بضع ثوانٍ قبل أن تكتشف أفنان صاحب الرائحة...
لقد كان نوح يجلس على الأريكة يرتدي بذلة رسمية سوداء اللون بينما يجلس إلى جانبه والدها وعلى الأريكة الآخرى جلست خالتها ومريم إلى جانبها بينما وُضع أمام نوح على الطاولة عُلبة شيكولاتة فاخرة وباقة زهور، لم يستطيع عقل أفنان إستيعاب ما يحدث وكادت أن تسأل الجميع لكن قبل أن تفعل قاطعها صوت نوح وهو يقول الآتي بنبرة لا تخلو من التودد:
"طبعًا يا عمو أحمد حضرتك اللي ربتني بعد وفاة بابا الله يرحمه وكان ليك فضل كبير جدًا عليا وعشان كده أنا النهاردة اتجرأت وجيت عشان أطلب من حضرتك طلب."
"طبعًا يا حبيبي أتفضل." عقب والد أفنان بسعادة شديدة ليبتسم نوح بتوتر وخجل قبل أن يُحمحم ويُردف:
"عمو أحمد أنا طالب القرب من حضرتك."
___________________________________
(تذكره: اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.)
الفصل السابع والعشرون: قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ 🤎🦋✨
"عمو أحمد أنا طالب القرب من حضرتك." تفوه بها نوح ليسقط فك كلًا من أفنان وميرال، نظرت أفنان
نحو نوح برعب شديد... بذلة رسمية، باقة زهور، علبة شيكولاتة فاخرة ويطلب القرب من والدها!!!
هل فقد عقله للدرجة التي تجعله يأتي إلى هنا ويفعل شيء كهذا؟! وبهذه الطريقة السخيفة؟ لقد كانت برفقته في الجامعة بل وكانت تتحدث إليه كثيرًا وتراه أكثر في الفترة الماضية ولم يُفكر ذلك الأحمق أن يُلمح لها ولو تلميحًا بسيطة بنيته السوداء تلك.
"يا نهارك أبيض!!! أنت البجاحة وصلت بيك أنك تعمل كده يا نوح؟ لعلمك بقى أنا مش موافقة شوفت أحرجت نفسك وأسرتك معاك ازاي؟!"
"مش موافقة على ايه؟ مش تسمعي الي هقوله؟"
"سيبك منها يا نوح يا ابني وكمل وفرح قلبي." اردفت والدتها بحماس ليحمحم نوح وهو ينظر إلى أعين أفنان الغاضبة وأعين ميرال التي اغرورقت بالدموع.
"يكمل أيه يا ماما؟ أنا بقولك مش موافقة."
"أنت مالك أصلًا توافقي ولا متوافقيش بتاع أيه؟"
"مالي ازاي يعني؟ هو مش زمن الجواري انتهى وكده ولا أنا فاهمة غلط."
"اصبري يا أفنان خليه يخلص كلامه الأول، قول يا نوح يا ابني."
"أنا جاي النهاردة يا عمي عشان اطلب ايد ميرال."
هنا تضاعفت الصدمة ولم تكن أفنان وحدها من تشعر بالصدمة بل الجميع، فلقد نطق نوح بإسم غير متوقع بتاتًا، نظر الجميع نحو نوح بصدمة لكن أفنان كانت تنظر نحوه بصدمة، شك، غضب وتوجس... لقد كان الأمر برمته خاطئًا قدومه إلى هنا بتلك الطريقة وتحدثه إلي والديها مباشرةً متجاهلًا إياها وثم طلب الزواج من ميرال؟!!
"م... ميرال؟" سألت والدتهم بدهشة وتلعثم فطوال حياتها تقول أن أفنان لنوح ونوح لأفنان؛ متى ظهرت ميرال في الصورة؟
"اه يا خالتو ميرال، أنا بصراحة مُعجب بيها جدًا و.. هي شخصيتها مناسبة لشخصيتي وطبعًا أن لو لفيت الدنيا كلها مش هلاقي في أدب ولا أخلاق بنت من بنات خالتي."
تفوه نوح بثقة بدت مُريبة قليلًا إلى أفنان، ولما قال 'بنت من بنات خالتي' لما لم يختص ميرال في حديثه؟ كان هذا السؤال يدور في مخيلة أفنان.
أما عن ميرال فقد اختلطت مشاعرها ولكن الغالب كان الصدمة؛ صدمة جعلتها لا تنبس بحرفًا واحد بل تراقب ما يحدث وكأنها تُشاهد فيلمًا وليست مُشتركة في الأحداث بل هي البطلة الرئيسية الآن، بدأ عقلها في ترجمة ما يحدث ببطء شديد لكن كل ما تعرفه الآن هو أن حلمها يكاد يُصبح حقيقة، سيكون نوح من نصيبها أخيرًا، سيصبح زوجها ولن يبتعد عنها مجددًا مطلقًا... ابتسمت ميرال ابتسامة واسعة من الأذن للأذن وهي تُطالع نوح.
"تعالي يا ميرال يا حبيبتي تعالي في حضني هنا." قال والدها بهدوء وحنان وهو يُحاول إخفاء الإرتباك الذي يشعر به، على الفور نفذت ميرال وبأرجل مُرتجفة ذهبت لتجلس إلى جانب والدها بخجل.
"أنتي سمعتي اللي نوح قاله؟" سأل والدها لتومئ ميرال بنعم بينما تُراقب أفنان ما يحدث بأعين يتطاير منها الشرار.
"طب وأيه رأيك يا حبيبة بابا؟"
"أعتقد أنه المفروض نديها فرصة تفكر يا بابا ولا أيه؟" سألت أفنان بجملة بدت خبرية أكثر من كونها سؤال لتنظر نحوها مريم بنظرة ذات مغزى قبل أن تُعلق مؤكدة على كلام أفنان قائلة:
"أفنان بتتكلم صح وبعدين ده أحنا زيتنا في دقيقنا يعني ومفيش حد غريب يفكروا براحتهم وبعدين يردوا علينا."
"بس أظن أني عارف رد ميرال." علق نوح بثقة وهدوء لترمقه أفنان بحده وغيظ، ذلك الأحمق يقول أن شقيقتها 'مدلوقة عليه' كما يقولون، حتى وإن كان ذلك صحيحًا فلن تقبل أفنان أن يُصرح به.
"حتى ولو ده مش قرار ميرال لوحدها ده قرار أسرة كاملة فأظن المفروض نسيبهم يتناقشوا وياخدوا راحتهم يعني." أردفت مريم من بين أسنانها وهي تضرب نوح في كتفه بخفة دون أن يلاحظ أحد.
"طيب يا نوح مش هتقول لعمو إمكانياتك أيه وكده عشان تبقى كل حاجة على نور ويفكروا براحتهم."
"أيه الكلام ده بس؟ ده أنتي أختي وده ابني اللي مخلفتوش ولو لفينا الدنيا كلها مش هنلاقي عريس زيه."
"لا يا خالتو ماما بتتكلم صح، بص يا عمو أنا عندي شقة في أكتوبر مساحتها ١٢٠ متر وتلات أوض."
"أول مرة يعني نعرف أن عندك شقة." قالت أفنان بسخرية لينظر نحوها نوح بإستهزاء ثم يُردف:
"بابا كان شاريها عشاني وأنا بدأت توضيب فيها، وطبعًا حضرتك عارف يا عمو أن مُرتب الكلية مش كبير عشان أنا لسه في البداية بس أنا بدي كورسات وتدريبات في شركات كبيرة وده بيدخلي مبلغ كويس الحمدلله."
لم ترد أفنان على حديثه لكنها كانت تُنصت بإهتمام حتى صدح في المكان صوت رنين هاتفها لتنتفض من موضعها وهي تنظر نحو الإسم، ذلك الأحمق لما يتصل بها الآن؟! ألم تكن برفقته منذ ساعة!! كانت الأنظار كلها موجهه نحو أفنان التي حاولت أن تتصرف بهدوء دون أن تتسبب في المزيد من لفت الإنتباه، أنهت أفنان المكالمة ثم أرسلت له رسالة على تطبيق الواتس أب قائلة:
'عندنا ضيوف مش هعرف أرد عليك دلوقتي.' أغلقت أفنان الهاتف ووضعته في جيب البنطال خاصتها ثم عاودت النظر نحوهم ليحمحم والدها ثم يُعلق على حديث نوح السابق مُردفًا:
"كويس جدًا بس أنت عارف يا نوح أن الماديات طبعًا مش فارقة معانا المهم الأصل وأنك تشيل بنتي في عينيك."
"أنا عارف طبعًا يا عمو وأنا لو عليا أجيب تُقل ميرال دهب، عمتًا أنا تحت أمر حضرتك في أي طلبات وكمان الشبكة يعني..."
"لا مش هنتكلم في الشبكة دي هديتك لميرال وتجيبها حسب إمكانياتك."
"أنا شايفة أنه بدري شوية عاللي بتتناقشوا فيه ده أحنا اصلًا مقولناش موافقين ولا لا." علقت أفنان بحدة وهي تعقد يديها بإستياء أمام صدرها لتتوجه نحوها أنظار الجميع بإندهاش من نبرتها تلك بل ومن حديثها بشكل عام.
"أفنان معاها حق، طيب نستأذن أحنا بقى يا عمو وهستنى الرد بتاع ميمي... احم قصدي ميرال."
"لا تستأذنوا فين بس استنوا هنتعشى سوا."
"لا يا رانيا خلي العشاء لقراية الفاتحة إن شاء الله."
"ماشي يا حبيبتي نورتونا، الودودي ازغرط بس ملحوقة المرة الجاية إن شاء الله."
بمجرد أن غادر الجميع ساد صمت غريب على المكان لا أحد يدري ماذا يقول، هل يبدأو في المباركة لميرال أم يتناقشوا في الحدث الصادم الذي حدث قبل قليل، لم تعي أفنان بنفسها سوى وهي تسحب ميرال إلى حجرتهم ثم تدفع بها على السرير لتجعلها تجلس غصبًا.
"ميرال هو أنتي موافقة عاللي بيحصل ده؟"
"يا ماما أنتي مال وشك عامل كده؟ هتتحولي ولا أيه؟"
"ميرال أنا مش بهزر! أنا سألت سؤال وعايزة رد اه ولا لا؟"
"أفنان أنتي بتسألي بجد ولا بتهزري؟ أفنان؛ أفنان أنتي مستوعبة اللي بيحصل؟ حلم حياتي بيتحقق ونوح اللي بحبه من وأحنا عيال صغيرة جاي يتقدملي، بيحبني وجاي يتقدملي!!"
تفوهت ميرال بحماس شديد وقد لمعت عيناها، كانت تعبث ميرال في خصلات شعرها السوداء وهي تتحدث بشغف عن الأمر بينما كانت تُطالعها أفنان بحيرة ممزوجة بالشفقة.. نوح لا يُحب ميرال هذه حقيقة مُطلقة لكن أفنان لا تدري كيف تُخبر ميرال بذلك فهي لا تُريد أن تُفسد فرحتها لكن في الوقت ذاته أفنان تعلم جيدًا أن تلك السعادة هي مجرد سراب..
"ميرال هو أنتي متأكدة أن نوح بيحبك؟" سألت أفنان بطريقة مُباشرة ليُصبها الندم فور عبوس ميرال، لكن لا بأس فلتحزن ميرال قليلًا الآن بدلًا من أن تحزن ما تبقى من عمرها، ساد الصمت لبرهة قبل أن تتفوه ميرال بالآتي:
"لو مش بيحبني هيتجوزني ليه؟ وبعدين عادي يعني في ناس كتير اتجوزوا من غير حب وحبوا بعض مع الأيام والعشرة ولا أنتي شايفة أني مستحقش أتحب يا أفنان؟"
"والناس دول كانوا أجوازتهم بيحبوا أخواتهم برضوا يا ميرال؟!" بإستنكار وحنق شديد طرحت أفنان سؤالها؛ نظرت نحوها ميرال بصدمة شديدة فهي لم تتوقع قط أن تتفوه شقيقتها بجملة كتلك، دمعة تهرب على الفور من أعين ميرال وهي تنبس بالآتي:
"نوح مش بيحبك يا أفنان نوح متأثر بكلام ماما وخالتو وأنا عمري ما أتخيلت في حياتي أنك تقوليلي حاجة زي كده!! شكرًا جدًا يا أفنان.. يا أختي يا اللي المفروض تفرحيلي وعلى فكرة بقى أنا هروح أقول لبابا أني موافقة!"
صاحت ميرال في وجه أفنان لتجفل الأخيرة في صدمة من نبرة شقيقتها التي لم تُحدثها بها من قبل، لقد كانت ميرال غاضبة؛ غاضبة لدرجة قد أعمتها عن الحقائق التي تفوهت بها شقيقتها فكل ما يستوعبه عقلها هو أن شقيقتها الصغرى تحاول تخريب سعادتها وهي لا تدري لماذا؟ ربما لأن أفنان أعتادت أن تحصل على كل الإهتمام، الحب، التشجيع ودائمًا ما كانت الأختيار الأول للجميع؛ ربما عقلها لم يستطع تقبل فكرة أن نوح قد أختار ميرال بدلًا منها، هذا ما كان يدور في خاطر ميرال.
"ميرال لا!" تفوهت أفنان بمزيج من الترجي والإستياء وهي تجذب ميرال من ذراعها بلطف لتدفع ميرال يدها بعنف وهي تُعلق قائلة:
"دي حاجة متخصكيش يا أفنان.."
في غرفة والدي أفنان جلست والدتها على الأريكة بجانب زوجها بينما يحتسي كلاهما الشاي، كان والد أفنان جالسًا يُفكر في صمت فمازال عقله مشتت بما حدث قبل قليل، قاطعت زوجته الصمت وهي تتحدث بسعادة قائلة:
"مش مصدقة نفسي، أخيرًا يا أحمد هنطمن على بنت من بناتنا لا وأيه مع واحد أنا اللي مربياه على ايدي يعني عمره ما هيزعلها."
"والله يا رانيا أنا مش عارف هنطمن عليها ولا قلبنا هيتوجع عليها.." تحدث زوجها بينما يتنهد بضيق، هو حقًا لا يدري ما الصواب وما الخطأ في ذلك الأمر.
"أعوذ بالله يا أحمد أيه الفال الوحش ده؟!! لا طبعًا هنطمن عليها إن شاء الله، نوح عمره ما هيزعلها."
"رانيا هو أنتي بجد مش مستوعبة اللي حصل؟"
"وأيه اللي حصل؟ أنت شكلك يا أحمد متضايق عشان اللي هتتجوزه يبقى ابن أختي، عمرك ما نسيت مشاكل العائلة زمان."
"والله عيب عليكي يا رانيا بعد العمر ده كله لما تفكري فيا كده! زمان أيه ومشاكل أيه اللي هفكر فيها دلوقتي! أنا بتكلم في أن نوح طول عمره بيحب أفنان والكل كان بيقول أن أفنان ونوح لبعض بغض النظر أن الموضوع ده عمره ما جيه على هوايا وأني دايمًا كنت بتخانق معاكي عشان مينفعش تسمعي الولاد وهما صغيرين الكلام ده، لكن اللي أنا مش فاهمه ازاي نوح طول السنين دي بيلمح لأفنان وفجاءة كده عايز يخطب ميرال!"
"أديك قولت ده كان كلام عيال وهما صغيرين، أكيد هو أنجذب لشخصية ميرال عشان شاف فيها الزوجة العاقلة الراسية أما بنتك التانية دي دماغها ضاربة ومتعرفش تفتح بيت."
"بالعكس يا رانيا؛ بالعكس... أفنان دي لفت وشافت وعندها خبرة في الحياة وبتعرف تجيب حقها أما ميرال دي غلبانة يعني لو هو جيه عليها عمرها ما هتشتكي."
"أنا بصراحة بقى شايفة أنك أنت وأفنان مكبرين الموضوع ورد فعلكوا النهاردة مكنش مضبوط وكان في فيه إحراج ليهم وليا أنا كمان، أنا بصراحة شايفه أننا نسمع رأي ميرال في الأول والآخر هي اللي هتتجوز و..."
قبل أن تُكمل رانيا الجُملة أُقتحم الباب من قِبل ميرال التي وقفت تنظر إلى والديها بثبات شديد قبل أن تفتح ثغرها وتقول:
"بابا أنا موافقة أتجوز نوح." ساد الصمت لبرهة بينما ينظر نحوها والدها في حيرة شديد لكن رانيا استقامت من جلستها بسعادة وهي تُطلق زغرودة تأتي أفنان على آثرها مهرولة نحو الغرفة وهي تُبادل والدها نظرات الحيرة والإضطراب.
أما عن نوح فكان يقود سيارته عائدًا إلى المنزل برفقة والدته وشقيقته، ساد الصمت في المكان لكن عقلهم لم يخلو من الصخب وضجيج الأفكار المُشتتة؛ حتى كاد نوح أن يكسر الإشارة مرة أو اثنتين أثناء القيادة.. وصلوا إلى منزلهم بعد وقتًا قصير وبمجرد أن دلف نوح إلى داخل المنزل اتجه نحو غرفته هاربًا من أي نقاش، هم ليُغلق باب حجرته لكن مريم أدخلت قدمها فمنعته من ذلك.
"مش قادر أتكلم."
"مش قادر تتكلم دلوقتي وكنت عامل زي البغبان هناك ما شاء الله! أنا مشوفتش في برودك يا أخي والله."
"عايزه أيه يا مريم الساعة دي؟"
"عايزة أعرف أيه اللي أنت عاملته النهاردة ده؟ نوح هو انت جرا لعقلك حاجة؟!!"
"عملت أيه؟ مش أنتي كنت دايمًا بتنصحيني أسيب أفنان وارتبط بميرال؟ مش ده اللي أنتي كنتي عايزاه؟"
"نوح متصيعش عليا! أنا كنت بقول كده على أنكوا بتحبوا بعض ولعب عيال وشغل مراهقين لكن لما الموضوع يدخل في الجد ويبقى جواز يبقى لازم تحدد كويس أنت عايز مين، فمتجبش الموضوع فيا أنا." صفعت مريم الحقائق في وجهه بنبرة غاضبة لكنه اكتفى بالنظر نحوها بتعابير وجه باردة بينما يخلع رابطة عنقه، أخذت مريم نفسًا عميق ليسود الصمت لثوانٍ قبل أن تُكمل حديثها بسؤالًا هام:
"أنا بس عايزة أعرف هو أنت مُدرك اللي أنت عاملته النهاردة ولا مش واصلك؟"
"اه طلبت أيد ميرال." نبس نوح بلا مُبالاة بينما كانت تتمنى مريم لو تُمسك برأسه وتدفع به في الحائط كي يسترد وعيه ويُدرك حجم الكارثة التي قد فعلها.
"طلبت أيد ميرال بعد ما فهمتنا أنك هتطلب أيد أفنان، يا أخي ده أنا كنت شايفة حرف الألف وهو بيخرج من بوقك وفجاءة كده بقى ميم سبحان الله."
"ما تسيبي أخوكي في حاله يا بت أنتي، وبعدين أنا أساسًا مكنتش موافقة على أفنان هي أه بنت أختي وبحبها بس هي شخصية صعبة ومكنتش هتريح ابني." علقت والدتها التي دلفت إلى ظهرت في الحجرة من اللامكان لكنها جاءت غالبًا حينما سمعت صوت شجار مريم ونوح، وكالعادة قد أخذت صف نوح بدلًا من مريم، ضحكت مريم بسخرية على حديث والدتها المتوقع قبل أن تُردف بالسخرية ذاتها الآتي:
"لا وأنتي يا ماما اسم الله على ابنك مُريح أوي، نوح حبيبي بابا.. مينفعش تكسر قلب ميرال عشان تغيظ أفنان، أفنان مستفزة وقليلة الذوق أنا عارفة لكن ميرال ملهاش أي ذنب."
"أنتي بجد يا مريم فاكرة أني ممكن أطلب أيد ميرال بس عشان أغيظ أفنان؟"
"اه."
"يبقى متعرفنيش كويس."
"يارب يا نوح؛ يارب مكونش عارفاك كويس والنهاية متبقاش غم على دماغنا ونخسر خالتنا وبناتها اللي ملناش غيرهم."
"اطلعي منها بس أنتي وأفنان ومحدش هيخسر حد، ولو سمحتي اطلعي برا بقى عشان عايز أغير هدومي."
"ماشي يا نوح." قالت مريم وهي تسحب والدتها ويتجه كلاهما نحو الخارج تاركين نوح غارقًا في دوامة من الأفكار لا نهاية لها.
لم يستطع أحد أن ينام في تلك الليلة وكأن النوم أقسم ألا يخطو عتبة تلك العائلة، ما حدث اليوم لم يكن بالأمر الهين بالنسبة للجميع بل وبالنسبة لنوح نفسه المتسبب في كل ذلك، كانت أفنان متمددة على سريرها وقد أشاحت بوجهها عن سرير ميرال، كانت دموع أفنان تنهمر في صمت بينما يرفض عقلها تصديق أن ميرال تحدثت إليها بتلك الطريقة اليوم ومن أجل من؟! نوح المُغفل..
لكن كل ذلك لم يُهم أفنان الآن بل كل ما كان يهمها هو أن عليها إيقاف تلك الزيجة بأي ثمن أو ليثبت لها نوح حسن نواياه ويُثبت حقيقة مشاعره تجاه ميرال، فحتى ولو لكان القرار النهائي يعود لميرال فأفنان ستحاول إقناعها بشتى الطرق بإنهاء ذلك الأمر قبل أن يبدأ.
في صباح اليوم التالي استيقظت أفنان ونظرت إلى سرير شقيقتها لتجده فارغ على ما يبدو أنها ذهبت للعمل، غادرت أفنان سريرها واتجهت نحو الخارج بكسل لتجد والديها يتناولوا طعام الإفطار.
"صباح الخير، ميرال راحت الشغل؟"
"اه أنتي مش رايحة الكلية؟"
"لسه السكشن الساعة 12، صحيح يا بابا أنت منزلتش الشغل ليه؟"
"حسيت أني مرهق فا اخدت النهاردة أجازة، أيه رأيك أوصلك للجامعة ونتكلم؟"
"أيه ده هي العربية أتصحلت؟" سألت أفنان بحماس شديد ليومئ والدها بنعم لتقفز هي في موضعها بسعادة ثم تنظر نحو والدتها بإمتنان فهي من استطاعت أن تُقنعه بأن يأخذ الأموال دون أن يعرف بالطبع أنها خاصة أفنان، تناولت أفنان طعامها ومن ثم قامت بتجهيز أغراضها وبدلت ثيابها سريعًا.
"بابا أنا جاهزة."
"وأنا كمان يلا بينا."
داخل سيارة والد أفنان ساد الصمت لبضع دقائق بينما تزاحم عقل أفنان بالأفكار لكن فجاءة خطرت على بالها فكرة مُرعبة؛ ماذا إن قرر رحيم أن يُفاجئها وينتظرها أمام الجامعة وهي برفقة والدها اليوم؟!!
أكثر ما يُخيفها في الأمر أن رحيم ساذج وقد يذهب لإلقاء التحية على والدها بكل إريحية دون أن يُدرك نتائج ذلك ففي النهاية نحن في القاهرة ولسنا في لندن.
"أفنان كنت عايزة أتكلم معاكي بخصوص موضوع نوح وميرال وبعيد خالص عن رانيا."
"أتفضل يا بابا."
"أنا عارف أنك رافضة وكان باين عليكي جدًا من أول ما بدأ كلام، أنا بس عايز أعرف سبب إصراراك على الرفض.. هل أنتي شايفاه مش مناسب لأختك ولا..."
"مفيش ولاَ يا بابا، أنا مش بحب نوح لو ده اللي حضرتك بتحاول تلمح ليه، نوح ده بالنسبالي أخويا وأخ رخم كمان؛ أحنا مش بنعرف نتفاهم مع بعض خالص ولا نقعد دقيقتين على بعض من غير خناق."
"طيب فين المشكلة؟" سأل والدها بحيرة لتأخذ أفنان نفس عميق بينما تحاول ترتيب أفكارها قبل أن تتحدث.
"المشكلة يا بابا في كذا حاجة، أولًا نوح فضل سنين بيلمحلي أنه بيحبني وفي الآخر غير رأيه على آخر لحظة وطلب أيد ميرال، ثانيًا ميرال بتحب نوح جدًا يا بابا.. بتحبه لدرجة أنها امبارح اتخانقت معايا جامد لأول مرة عشانه؛ هو ليه تأثير كبير عليها وثالثًا بقى أن نوح شخصية ملهاش أمان يعني ممكن يفضل يحب في حد طول الوقت ومع أول خلاف يسمعه كلام زي الزفت."
"أنا بصراحة مش موافق عالجوازة دي ومش مرتاح للموضوع كله." عقب والدها على حديثها لتبتسم أفنان بإنتصار لكن سرعان ما تختفي تلك الإبتسامة حينما يُكمل والدها حديثه مُضيفًا:
"بس أنا عمري ما أجبرتكوا على حاجة، أنا ربيتكوا أنكوا تختاروا كل حاجة بنفسكوا طالما أنكوا عارفين أنكوا الشخص الوحيد اللي هيتحمل نتيجة الأختيار ده."
"يعني أنت يا بابا هتسيبها تتجوز نوح؟"
"مقدرش أجبرها يا أفنان أنا بس هنصحها وهي حرة."
صمتت أفنان عند هذا الحد بغيظ شديد؛ والدها صادق هي لم تعتاد أن تُجبر على أي شيء وبالفعل معظم قررات أفنان منذ أن كانت صغيرة كانت تتخذها بنفسها لكن في هذا الموقف تحديدًا تمنت لو أن والدها يُجبر ميرال أن ترفض؛ لكن المشكلة تكمن في أنه لا أحد منهم يُدرك كم الأذى الذي سيلحق بميرال إن وافقت غير أفنان...
"أحنا وصلنا، خلي بالك من نفسك ومتتأخريش."
"حاضر يا حبيبي، شكرًا عالتوصيلة."
لمحت أفنان بطرف عيناها نوح يغادر المبني ويتجه إلى الجهة الآخرى منه لتهرول هي لاحقة به، كانت تلك المنطقة خاوية من الطلاب لذا لم يوجد أحد سواهم، أقتربت أفنان منه وجذبته من حقيبته بقوة حتى كاد أن يتعثر ويسقط.
"أنا عايزة أفهم أيه اللي أنت هببته إمبارح ده؟"
"أيه ده؛ أيه ده في أيه؟! أنتي اتجننتي يا أفنان ولا الغيرة كلت دماغك؟!"
"غيرة مين يا أبو غيرة؟ ده أنا غير على عم محمد بتاع كشك السجاير اللي على أول الشارع ولا أني أغير عليك."
"طبعًا ما أنا مش أد المقام زي ناس تانية."
"نوح حبيبي بابا، أنت مدرك أنت عاملت أيه كويس؟"
"اه، اتقدمت للبنت اللي عايز أكمل معاها حياتي."
"طيب بص يا نوح هقولك كلمتين تحطهم حلقة في ودنك، لو الزفت اللي أنت بتحاول تعمله ده كمل وإرتبطت أنت وميرال وفكرت؛ مجرد فكرة بس أنك تزعلها مش هخلي الدكتور يعرف يخيط فيك غرزة أمين؟"
"أنتي نسيتي نفسك يا دكتورة ولا أيه؟! احترمي نفسك وأنتي بتتكلمي معايا."
"والله ده أسلوبي ولو مش عجبك حولني مجلس تأديب."
أردفت أفنان بلا مبالاة وهي تغادر المكان ليتمتم هو بمزيج من الغيظ والرهبة:
"ده أنتي محتاجة تروحي القسم مش مجلس تأديب."
اتجهت أفنان إلى أحدى المعامل حيث سيبدأ 'السكشن' الخاص بها، ولأول مرة تقريبًا منذ أن بدأت مسيرتها التعليمية في الجامعة أن تجلس شاردة لتلك الدرجة فلم يكن هناك متسع في عقلها لإستقبال المعلومات التي يتم شرحها.
"أفنان أنتي كويسة؟" سألت بصوت أقرب إلى الهمس فتاة تجلس إلى جانب أفنان والتي كانت تُعدي روميساء وهي زميلة أفنان في الجامعة.
"مصدعة شوية، لما نيجي نشتغل عملي فهميني هنعمل أيه."
"حاضر، متكتبيش حاجة هكتب أنا وابعتلك."
شكرتها أفنان بإمتنان فهي بالفعل لا تقوى على التركيز ولا الكتابة، انتهى اليوم الطويل أخيرًا وعادت أفنان إلى المنزل في السادسة والنصف مساءًا لتجد أن ميرال قد عادت بالفعل وهي تساعد والدتهم في طهو الطعام، أخرجت أفنان تنهيدة طويلة وهي تُغلق الباب من خلفها بخفة ثم تتجه نحو حجرتها دون أن تنبس بحرفًا واحد.
"مش اللي داخل البيت ده بيقول السلام عليكوا حتى؟"
"والله؟ بقيت أنا دلوقتي اللي غلطانه؟"
"متزعليش مني، أنا اتعصبت عليكي جامد إمبارح مكنش قصدي بس أنا يا أفنان بحب نوح ومش هضيع الفرصة دي من ايدي وحتى لو هزعل بعدين مش مهم طالما هفرح دلوقتي."
"أنا مش عارفة أنتي بتفكري ازاي بجد! ربنا يهديكي يا ميرال ويكتبلك الخير ويبعد عنك نو.. الشر يبعد عنك الشر كله."
"آمين يارب، على فكرة ماما كلمت خالتو وقالتلها أني موافقة وهيجوا يوم الجمعة عشان نقرأ الفاتحة فا شوفي بقى هتلبسي."
"هلبس أيه؟ هو أنا لسه هلبس؟ ما لبسنا كلنا خلاص يا ميرال يا حبيبتي."
"أنا مبسوطة أوي بجد!! أفنان أنتي متخيلة أننا خلاص كبرنا وحد فينا هيتجوز."
قالت ميرال بحماس شديد وهي تصفق بيديها بطفولية قبل أن تنقض على أفنان وتضمها ولم يكن بيد أفنان حيلة لذا بادلت شقيقتها العناق وهي تسب نوح من دخلها فبسبب ذلك الوغد لا تستطيع أن تعيش مشاعر السعادة التي تشعر بها أي فتاة ستتزوج شقيقتها.
"وأنا كمان مش مصدقة، المهم عايزين ننزل بقى نجيب زينة والبالونة اللي مكتوب عليها قرينا الفاتحة والحاجات الهايفة الجميلة دي."
"اه طبعًا وكمان عايزه انزل اشتري فستان جديد بس مش عارفة الفلوس هتضبط معايا ولا لا، ومش هعرف أخد من ماما حاجة عشان هي لسه هتنزل تجيب أكل كتير وكمان طقم صواني جديد." نبست ميرال بحماس شديد بينما لمعت عيناها في حين أن أفنان كانت تنظر نحوها بتملل وبرود قبل أن تُعلق على حديث ميرال بمزيج من السخرية والإنفعال قائلة:
"طقم صواني جديد ليه إن شاء الله؟ وأنتي متقدملك مهند؟ ده نوح، ما يطفح في أي صنية وخلاص."
"بطلي رخامة بقى وركزي معايا في الترتيبات." ساد الصمت لثوانٍ وأفنان تفكر في أمر المال الذي تحتاجه ميرال قبل أن تتذكر أنها قد تبقى معها أربعمائة جنيهًا من ثمن الجائزة، إنها آخر مدخراتها لكن لا بأس فشقيقتها أولى منها.
"بصي خدي دول خليهم معاكي وهاتي الفستان اللي يعجبك."
"يا روح قلبي ربنا يخليكي ليا بجد، بس خليهم معاكي أنتي أحنا كده كده هننزل سوا ولو احتاجتهم هبقى أخدهم منك، وشوفي أنتي هتلبسي أيه أو لو هتجيبي طقم جديد."
قالت ميرال وهي تعانق أفنان مجددًا، لم تكن تنوي أفنان شراء ثياب جديدة بل كانت تنوي ارتداء أحدى ثيابها التي لم ترتديها كثيرًا فهي لا تُريد أن تكون ظاهرة بجانب شقيقتها ففي النهاية شقيقتها هي العروس.
"أفنان هو أنتي اتخانقتي مع نوح النهاردة في الجامعة؟"
"يا فتان! هو لحق قالك؟"
"لا مقاليش بس أنا متوقعة، عشان خاطري أنا يا أفنان متضايقهوش وحاولي تتجاهليه خالص."
"حاضر يا ميرال حاضر!"
تمتمت أفنان بنفاذ صبر قبل أن تنتقل لتجلس على سريرها، تُمسك بهاتفها تبدأ في تفقد الإشعارات والرسائل ثم تترك الهاتف لثوانٍ وهي تحاول أن تتذكر شيئًا ما وهي تهمس لنفسها:
"أنا حاسه أني ناسيه حاجة... يالهوي رحيم!!!"
لقد تذكرت أفنان أنها لم تتحدث إليه بعد أن أغلقت الإتصال ولم تُجيبه لأن نوح كان في منزلهم، تذكرت أفنان أنها قد بعثت له برسالة وقتها وأنه بالتأكيد قد أجاب على رسالتها وبينما كانت تبحث بين الرسائل عن خاصته نفذت بطارية هاتفها.
"ده أنت عيل فقر، أبقى أرد بكرة بقى إن شاء الله."
"على مين؟ نوح؟"
"خليكي في حالك يا قطة، ولا مش نوح."
في الأيام التالية انشغلت أفنان كثيرًا في الصباح في الجامعة وفي المساء تذهب للتسوق برفقة ميرال ووالدتها لشراء بعض الأغراض من أجل يوم الجمعة، لم يكن هناك متسع من الوقت بالنسبة لأفنان كي تعبث بهاتفها أو حتى تُجيب على أي رسائل.
في مساء يوم الخميس وبينما تقوم أفنان بتنظيف الشقة بمساعدة شقيقتها ووالدتها صدح صوت إشعار من هاتفها مُعلنًا عن وصول رسالة، تركت أفنان 'الزعافة' من يدها وأمسكت بالهاتف لتتذمر والدتها على الفور وهي تقول:
"مش وقته لعب في التليفون ويلا خلصي تزعيف السقف عشان تلمعي النجفة."
"في أيه يا ماما هو أحنا هنضايف خالتو فوق النجفة يعني؟ معرفش مالكوا مهتمين بالسقف ليه النهاردة؟!"
"بلاش لماضة وخلصي عشان ورانا شغل كتير."
تنهدت أفنان بضيق وهي تبحث عن الرسالة الجديدة لتجد أن المُرسل هو رحيم!!! ولم تكن رسالة واحدة بل العديد من الرسائل وكانت كالتالي:
"أفنان.. Why are you ignoring me 'لماذا تتجاهليني' ؟"
"أفي... مش بتردي ليه؟ مشغولة طيب؟"
"طيب tell me are you okay 'أخبريني هل أنتِ بخير' ؟"
"أنتي بتعاقبيني عشان قعدت أكتر من أسبوعين مش برد وأنا مسافر صح؟"
"أفي.."
"أفنان على فكرة it's not funny anymore 'لم يعد الأمر مضحكًا'."
ابتسمت أفنان ببلاهة وهي تقرأ الرسائل لتنظر نحوها ميرال بشك وهي تُضيق عينيها وبمجرد أن تراها أفنان تبعتد عنها وهي تُخبئ شاشة الهاتف بيدها.
"مش بتجاهلك أكيد أنا مش بعمل زي ناس كده، أنا بس كنت مسحولة في حوار كده هحكيلك عليه بعدين عشان لازم اسيب التليفون دلوقتي."
أجابت أفنان وهي تهرب من المحادثة سريعًا حينما رأت أن رحيم قد قرأ الرسالة في نفس الدقيقة التي أرسلتها بها، أغلقت أفنان الهاتف ورفعت رأسها لتجد ميرال، والدتها، ووالدها يحدقون فيها بريبة لتحمحم أفنان ثم تسألهم بتوتر:
"هو في أيه؟"
"مفيش بنشوف أيه اللي شاغلك أوي كده في التليفون."
"بكلم روميساء يا ماما زميلتي في الكلية بتبعتلي اللي كتبناه في المحاضرة النهاردة." كذبت أفنان كما اعتادت أن تفعل مؤخرًا وقد فاقم ذلك من شعورها بالذنب فبدلًا من كونها تُخفي بعض الأمور عن والديها فقط أضافت إلى ذلك واحدة من أسوء الخٍصال؛ الكذب.
"أممم قولتيلي."
"روحي بقى شوفي بتعملي أيه."
قالت أفنان ثم وضعت هاتفها على الطاولة وعاودت التنظيف برفقة والدتها وشقيقتها بينما تبتسم لا إراديًا كل خمس ثوانٍ حينما تتذكر رسائل رحيم فلقد ظنت أنه لن يهتم بإختفائها.
في مساء اليوم التالي وتحديدًا في السادسة مساءًا، كانت أفنان تشعر بمزيج من المشاعر المختلفة فهي بالتأكيد تشعر بالسعادة لأن شقيقتها أصبحت عروس لكن ما أفسد فرحتها هو أنها ستتزوج بذلك الأحمق، نفضت أفنان تلك الأفكار من رأسها ورسمت ابتسامة على ثغرها وهي تتجه إلى الحجرة مجددًا؛ حيث تستعد ميرال وقد ارتدت ثوبها الجديد ذو اللون الزهري، لون نوح المُفضل، كانت ميرال تستعد في حجرتها هي وأفنان وبرفقتهم صديقتين لميرال منذ الجامعة؛ ملك وياسمين.
"ياسمين الميك أرتست الجميلة بتاعت الشلة حطي بقى لميرال ميكب خفيف وهادي كده عشان بابا ميضربناش كلنا، وأنتي يا ملوكة يا قمر تعالي معايا نصور الزينة اللي برا قبل ما نوح بيه يشرف." ألقت أفنان التعليمات لتومئ كلتاهما بينما تُعلق ياسمين بالآتي بمزاح:
"حاضر يا ست أفنان على الله يطمر بس."
"كلمة كمان يا ياسمين وهحرمك أنتي وملك وميرال من العشاء." هددت أفنان بنبرة جديه لتنظر نحوها ملك برعب وهي تسأل بإستنكار قائلة:
"الله!! هو أنا فتحت بوقي أصلًا؟!"
"سيبكوا منها وخلصوا أبوس ايديكوا نوح خلاص نازل من البيت."
أوميء ثلاثتهما وبدأت كل واحدة منهم في القيام بالعمل الذي طُلب منها، ألتقطت أفنان بضع صور ثم اختارت واحدة لتضعها كحالة على تطبيق 'واتساب'.
غادرت أفنان التطبيق واتجهت لتطبيق آخر خاص بالصور وهو تطبيق 'الإنستجرام' ولسبب ما خطر على بالها أن تبحث عن حساب رحيم، لم تستغرق سوى محاولتين تقريبًا حتى استطاعت الوصول إلى حسابه والذي كان يحمل اسم: Rahim El Bakry.
كانت صورته الشخصية عبارة عن صوراه وهو يبتسم بينما يرتدي نظارة شمسية وقد كانت تظهر مياه البحر الزرقاء من خلفه وكان يظهر في الصورة عنقه الذي زُين بسلسال فضي، قطعت أفنان تأملها بتلك الصورة وأخذت تتأمل في الصور التي نشرها لكنها عن طريق الخطأ اتجهت إلى الصور التي تم الإشارة له بها لتجد أن هناك فتاة قد أشارت له في صورة لهم معًا، كانت الفتاة شقراء ولون عيناها قد سرق من السماء لونها؛ لقد بدت آية في الجمال ولكن كل ذلك لا يهم بل ما يهم هو أنها كانت تضم رحيم بودٍ شديد وقد قربت وجنتها نسبيًا من خاصته.
نظرت أفنان نحو الهاتف بأعين يتطاير منها الشرار، شعرت بنيران تحرق صدرها ولم تجد لذلك سببًا مقنعًا، ودت لو تمتد يدها إلى داخل الهاتف لتجذب تلك الفتاة من خصلات شعرها الشقراء التي تطايرت على وجه رحيم وتُمزق وجنتها التي لامست خاصته ولا داعي لذكر المزيد من التفاصيل بل يكفي قول أنها كانت أقرب إلى كونها قاتلة متسلسلة وليست طالبة بكلية الصيدلة.
أغلقت أفنان التطبيق وعادت إلى محادثتها هي ورحيم وهي تستعد لكتابة موشح من اللوم والسباب بسبب تلك الصورة لكن رحيم قد سبقها وأرسل إليها الآتي:
'بقى هو ده اللي أنتي مشغولة بيه يا أفنان هانم؟!!'
___________________________________
(تذكره: اللهم إني أسألك عيشة نقية وميتة سوية ومرداً غير مخزٍ ولا فاضح.)
الفضل الثامن والعشرون: حَجَّرَ القَمَرُ 🤎🦋✨
'بقى هو ده اللي أنتي مشغولة بيه يا أفنان هانم؟!!'
نظرت أفنان إلى رسالة رحيم ببلاهة، لم تفهم ما الذي يتحدث عنه، هي غاضبة منه والآن هو من يعاتبها؟!
فتحت أفنان الرسالة لترى ما الذي يتحدث عنه رحيم، لتجد أنه كان ردًا على الحالة التي قامت بنشرها والتي ظهرت فيها عبارة 'قرينا الفاتحة'
وبعض الزينة واسم نوح لكن الصورة لم تتسع لإظهار اسم ميرال كذلك.
'أنت بتقول أيه أنت؟'
'معقول العروسة فاضية ترد عليا بنفسها ولا حد هو اللي بيكتبلك؟'
كانت السخرية تفوح من حديث رحيم، حدقت أفنان في الشاشة لثوانٍ وقد استوعب عقلها أخيرًا ما يحدث، رحيم يظن أنها العروس؛ ذلك المُغفل ظن أنها ستتزوج نوح بالرغم من أنه يعرف تمامًا مدي استياء أفنان منه وأنه لا تعتبره سوى أخ؛ أخًا أخرق، تنهيدة غادرت فم أفنان قبل أن تُرسل له الآتي:
'عروسة أيه وجاموسة أيه اديني فرصة أشرحلك يا بني آدم أنت؟'
'أنتي شايفة أن الموضوع محتاج شرح؟'
'رحيم هعملك بلوك.'
'اتفضلي قوليلي هتقوليه أيه مُبرر يعني؟'
'مبدأيًا اسمها هتبرري ازاي، وبعدين يا مُغفل أنتَ أنا فعلًا مشغولة بقراية الفاتحة النهاردة.'
'وبتقوليلي عادي بكل سهولة كده؟'
'في أيه هو أنت كنت كاتب عليا؟ وبعدين أصلًا دي قراية فاتحة أختي ميرال!!'
'أنتي بجد شايفه أن الموضوع ينفع تكدبي فيه؟'
'أكدب في أيه يا ابني! أنا مش بكدب.'
'واسم نوح اللي مكتوب ده ايه؟ ولا أنا اتعميت؟!'
'لا إله إلا الله، ما طبيعي اسمه يبقى مكتوب عشان هو العريس، أختي هتتقري فتحتها على نوح النهاردة.'
'خلاص خلصت خناق وأقتنعت؟ خليك بقى في البت الصايعة اللي أنت متصور معاها دي.'
أرسلت أفنان الرسالة ليقرآها رحيم في نفس الثانية، أخذ بعض الوقت لإستيعاب عما تتحدث هي لكن قبل أن يجد ردًا على حديثها سبقته أفنان وقامت بحظر رقمه على تطبيق 'واتس أب' ، لم تمر سوى دقيقة واحدة قبل أن تجد أفنان رحيم يهاتفها، تسارعت نبضات قلبها ولم تدري ماذا تفعل؟ هل تُجيبه في الخفاء داخل الشرفة أم تتجاهله؟ حتى وإن أجابت فإن نوح قد يصل في أي لحظة؛ استغرقت بضع ثوانٍ قبل أن تقرر الرد على مكالمته وتوبيخه، لكن لماذا ستفعل من الأساس؟ فما فعله لا يخصها بتاتًا.
"أفنان Did you really block me 'هل حقًا قمتِ بحظري' ؟!"
سأل رحيم بنبرة مستنكرة لكن أفنان لم تهتم كثيرًا بما قاله فلقد ذابت بالفعل بسبب نبرته صوته وتلك الكلمات الإنجليزية التي تنساب من بين شفتيه، ساد الصكت لبرهة قبل أن تُيجبه أفنان بإنفعال وهي تضع يدها أمام فمها كي تُخفض من صوتها قليلًا وهي تُردف:
"اه عملتلك بلوك مش عاجبك ولا أيه؟"
"لا مش عاجبني، ممكن أعرف ليه بقى؟" تحدث رحيم بهدوءه المعتاد ولكنه زفر بضيق في نهاية حديثه، لكن أفنان تحدثت إليه بإنفعال نسبي وهي تسأله بإستنكار:
"أنت هتستهبل يالا؟ نازل تحقيق معايا في حوار نوح وأنت عامل كارثة أكبر."
"كارثة أيه اللي عملتها؟ أنا مش فاهم حاجة خالص."
"بص خلاص فكك يا رحيم أنا كده كده مليش دعوة أصلًا، ربنا يوفقك في حياتك يلا غور بقى."
"أفنان! لو سمحتي فهميني أيه اللي حصل؟ على فكرة عيب أوي أفضل اسألك بأدب كده وأطلب منك تفسير وأنتي تردي عليا بالإسلوب ده."
نبس رحيم بنبرة مستاءة لم تسمعها أفنان من قبل، عضت على شفتيها لشعورها بالذنب فهي دومًا ما تتحدث إلى رحيم بالإسلوب ذاته وبنفس النبرة الساخرة وكان يتقبل هو ذلك لكنها لم تدري لما لم يفعل الآن؟ لم تُعلق أفنان على ما قاله لأنه لا يوجد رد من الأساس، تنهد هو بصوتًا مسموع قبل أن يقول:
"أنا أسف لو كنت أنفعلت.. عمتًا لو مش عايزة تتكلمي براحتك أنا مش هجبرك على حاجة أكيد."
"متتأسفش أنا اللي زودتها شوية، عمتًا أنا كنت هعلق على حاجة كده وبعدين أدركت أنها حاجة متخصنيش من الأساس، معلش يا رحيم أنا لازم أقفل عشان نوح جيه."
تفوهت أفنان بصدق وهدوء غير مُعتاد منها لكن سرعان ما تحولت نبرتها إلى نبرة متوترة حينما لمحت سيارة نوح تقترب لتقف أسفل منزلهم، أنهت المكالمة سريعًا مع رحيم والذي بالرغم من أنه أصبح على درايه تامة أن نوح سيقوم بخطبة شقيقتها إلا أنه أصابه الغيظ حينما قالت 'لازم أقفل عشان نوح جيه'.
أطلقت أفنان زغرودة عالية ليرفع نوح رأسه نحو الشرفة ويمنحها ابتسامة واسعة قبل أن تفعل مريم المثل وتُزغرد هي ايضًا كي يعلم الجيران وأهل المنطقة أن هناك احتفالًا عندهم، غادرت أفنان الشرفة لتجد والدها في وجهها مباشرة ينظر نحوها نظره هادئة لكنها بدت غير مُريحة بالنسبة إليها.
"كنتي بتكلمي مين؟"
"أنا.. كنت.. طيب ممكن نأجل كلام في الموضوع ده بعد قراية الفاتحة عشان هما خلاص عالسلم؟"
"ماشي يا أفنان، ياريت متتهربيش بس."
أومئت أفنان وهي تشعر بأن قلبها على وشك أن يتوقف، ستعترف لوالدها الليلة بأمر رحيم وستُخبره بالتفاصيل كاملة لكن لتنهي أولًا زيارة نوح وأسرته وأحتفال اليوم، قام والدها بفتح الباب ليبدأ سيل من الترحيب والمباركة ينهمر على الجميع، كان نوح يخطف بعض النظرات نحو أفنان التي كانت ترتدي تنورة طويلة باللون الأسود وكنزة باللون الأسود كذلك مع وشاح رأس باللون الوردي الزاهي، لقد بدت جميلة في نظره؛ لاحظت مريم ما يحدث فنكزت نوح في كتفة بخفه لينتبه لنفسه ويحمحم ثم يسأل:
"أومال فين العروسة؟"
"طب مش تستنى لما نخلص اتفاقات ونقرأ الفاتحة؟"
"ما أحنا هنتفق يعمو مش عايز حضرتك تقلق خالص."
"خلاص قومي يا رانيا هاتي العروسة تسلم على عريسها."
أومئت والدة أفنان بسعادة قبل أن تتجه نحو الحجرة لتُحضر ميرال بينما بقيت صديقتيها بالداخل لحين الإنتهاء من الإتفاقيات التي ستتم، كانت يد ميرال باردة ترتجف من شدة التوتر وهي تحترق شوقًا لرؤية تعابير وجه نوح حينما يراها في ذلك الثوب وبالفعل بمجرد أن وقعت عيناه عليها لمعت عيناه البُني واتسعت ابتسامته وهو يُلقي عليها التحية.
"أنا بقول نخليه كتب كتاب على طول."
أردف نوح ممزاحًا ليضحك الجميع عدا أفنان التي أكتفت بإبتسامة مُصطنعة وهي تنظر نحو نوح بعدم إرتياح، بينما ابتسمت ميرال بخجل شديد وهي تتحاشى النظر إلى نوح الذي تحول فجاءة من ابن خالتها وبمثابة أخًا لها إلى حبيب وزوج مستقبلي.
بعد مرور بضع دقائق طلب والد أفنان من الثلاثة فتيات أن يذهبن إلى حجرة أفنان وشقيقتها كي يتسنى للكبار الإتفاق ووضع الشروط، كان نوح مُطيعًا في كل ما قيل وفي الوقت ذاته لم يطلب والد ميرال العديد من الطلبات فهو لم يكن شخصًا يهتم كثيرًا بالماديات لكن أكثر ما يهمه هو سعادة وراحة ابنته في النهاية، فما الإستفادة من منزلًا فخم وأثاث راقي داخل بيت هش خالي من الحب والتفاهم؟!
"رانيا نادي عالبنات من فضلك عشان نقرأ الفاتحة."
"معلش يا عمو ممكن استأذنك لما نخلص قراية الفاتحة أخد طنط وأفنان وميرال عشان ننزل نجيب الشبكة النهاردة بالمرة."
"تمام يا حبيبي زي ما تحبوا لو ميرال معندهاش مشكلة وأنت تعرف صايغ كويس يبقى خير البر عاجله."
انتهت مراسم الإحتفال سريعًا وقد توجه الجميع لمحل صائغ في منطقة قريبة منهم لشراء الذهب لكن والد ميرال وصديقتيها لم يرافقهم، كانت ميرال تشعر بالحيرة اثناء أختيارها لخاتم الزواج بل وسائر الحُلي فهي شخصية مترددة بشكل عام وقد ازداد ترددها أضعافًا مضاعفة في هذا الموقف، في النهاية ابتاع لها نوح خاتم الزواج 'دبلة' ومحبس وسلسلة رفيعة.
"معلش يا ميمي كان نفسي أجبلك أكتر من كده بس أنتي عارفة الظروف."
"متقولش كده أنا مبسوطة أوي بالحاجات اللي جبتها وكفاية أنها منك، وبعدين أنا أصلًا مش بحب الدهب أوي."
"ما أنا عارف." علق نوح بثقة لتنظر نحوه أفنان وقد ارتسمت ابتسامة جانبية على شفتيها، ففي الغالب نوح لم تكن عنده تلك المعلومة لكنه قال ذلك كي لا يبدو سيئًا أمام ميرال.
"كان نفسي نخرج سوا النهاردة بس الوقت يعتبر اتأخر بس هعدي عليكي بكرة إن شاء الله عشان نقضي اليوم سوا."
"تمام بس نستأذن بابا الأول."
"أكيد طبعًا."
عادت أفنان أخيرًا إلى المنزل بعد أن قام نوح بإيصالهم، لقد كان يومًا طويل وشاق، لم يتذكر والد أفنان في ذلك اليوم أن يسألها عن مُكالمتها المُريبة بل وتصرفاتها المُريبة بشكل عام في الآونة الأخيرة.
مرت ثلاثة أيام من الهدوء التام، نوح لا ينفك يتحدث إلى ميرال حينما تكون في المنزل وقد أخذها في موعد مرة واحدة، كانت أفنان منشغلة بالجامعة ولحُسن حظها أنها لم ترى نوح في تلك الأيام، لم تتحدث إلى رحيم منذ أن أخبرته أن يُنهي المكالمة لم يُحزنها الأمر كثيرًا بسبب الجامعة فهي تلتهم وقتها وصحتها؛ كان ذلك حتى يوم الخميس حيث أُرسلت رسالة على المجموعة الخاصة بالتدريب:
"مساء الخير يا شباب، الشهادات جاهزة ممكن تشرفوا في أي وقت تستلموها."
قرأت أفنان الرسالة التي أرسلها رحيم وشعرت بغصه في حلقها، إنها تفتقده كثيرًا لكن في الوقت ذاته لا تود رؤيته ومؤكد إن كانت ستذهب إلى الشركة بنسبة تسعة وتسعون بالمئة ستراه هناك، كما إنه إن كان متفرغًا لكتابة تلك الرسالة فلما لم يُرسل لها ولو كلمة 'مرحبًا'.
أما عن رحيم فقد أرسل الرسالة ثم أغلق هاتفه ليرى في شاشته إنعكاس الفضولي الذي كان ينظر نحو هاتفه، يبتسم رحيم بسخرية وهو يُردف:
"تحب تكتب أنت مكاني طيب؟ أو أوقولك اتفضل الموبايل خالص لو مثير أوي بالنسبالك."
"كرفتلها أنت صح؟ جدع."
"أنا مش عارف معنى الكلمة بس حاسس أني عملت اللي أنت تقصده ده، هي آخر مرة أتكلمنا كانت طريقتها غريبة ومفهمتش منها حاجة وهي محاوتش تفسر فقفشنا."
"طب كويس، الحاجات دي بتعمل suspense 'تشويق' كده بين المرتبطين."
"أحنا مش مرتبطين!" تمتم رحيم بصوت منخفض نسبيًا وهو يحك ذقنه التي قد ازدادت طولًا مؤخرًا وأصبحت بحاجة إلى التهذيب، ساد الصمت لبعض الوقت قبل أن يقطعه أنس وهو يسأل رحيم الآتي:
"مفيش أخبار عن أروى؟"
"لا، بس إن شاء الله هتتحسن متقلقش المستشفى دي كويسة جدًا والدكاترة المسئولين عن حالتها كانوا صحابي."
"طيب ممكن أعرف ليه بيدوك أنت ال updates 'التحديثات/المقصود هنا آخر الأخبار' ؟"
"عشان لو حصل حاجة أنت هتنهار أو هتندفع بزيادة وفي الحالتين مش هتعرف تتصرف لكن أنا هتصرف بحكمة أكتر."
أجابه رحيم بسلاسة وهدوءه المُعتاد ليلتفت إليه أنس بقلق وهو يسأل بتردد خشية سماع الإجابة:
"هو في حاجة وحشة هتحصل؟"
"هندعي أنه لا، لكن أنت عارف كل شيء وارد."
"الهدوء بتاعك في موضوع زي ده مش في محله."
"الهدوء هو الحل الأنسب لكل المواقف وكل الأوقات يا أنس، المهم أونكل فريد عرف اللي حصل؟"
"مش دريان بحاجة، هو واعي لنفسه أصلًا لما هيركز مع أروى؟ من يوم الحادثة وهو راميها في المستشفى وعمره ما فكر يزورها.. ما علينا، غير الموضوع بقى."
تمتم أنس بضيق قبل أن يتمدد على الاريكة بتملل لينظر نحوه رحيم بآسى ثم يرسم ابتسامة صغيرة على فمه وهو يسأله الآتي:
"حاضر.. صحيح أنت شوفت الصورة اللي أتعملي Tag 'إشارة' فيها؟"
"شوفت، أنا مش عارف أنت ليه وافقت تقعد معاها لا ومش قاعدة بس دي خدتك حضن مطارات يا ابني." علق أنس ساخرًا لينظر نحوه نوح وهو يضيق عيناه بعدم فهم ليزفر أنس بضيق قبل أن يُردف:
"حضن كأنك وحشتها أوي يعني."
"مش يمكن أكون وحشتها فعلًا؟"
تفوه رحيم ليرمقه أنس بحده وهو يستقيم من نومته على الأريكة ويقترب من الجالس على السرير بينما يضع كلتا يديه على كتفه وهو ينظر إلى داخل عيناه مُردفًا:
"رحيم.. أبوس أيدك فوق وركز معايا! اللي حصل زمان ده مينفعش يتكرر تاني! وبعدين مش أنت دلوقتي عندك قطة جديدة."
"قطة؟ مامي مش بتسمح نربي قطط عشان مش بتحبهم بس عندي puppies 'جراء'." صفع أنس نفسه وهو يلعن أسفل أنفاسه اليوم الذي قرر فيه أن يُرافق فتى لا يستطيع فهم جملة واحدة كاملة باللغة العربية.
"أنا بتكلم عن أفنان، مش أنت مُعجب بيها وعاشق ولهان والحب ولع في الدرة وكده."
"مُعجب بيها اه، عاشق؟ مش شايف أنه لسه شوية على الكلمة دي؟ وبعدين أفنان حاجة و.. ناتالي حاجة تانية خالص." نبس رحيم بهدوء وقلق من ردة فعل أنس الذي نظر نحوه بضيق قبل أن يُردف بنبرة حادة:
"حتى لو مش معجب بأفنان، نحط أفنان على جنب بس ناتالي لا يا رحيم لا، بس صاحبة ناتالي اه عشان جامدة بصراحة."
كان يتحدث أنس بجدية وحزم لكن سرعان ما تحولت نبرته إلى المُزاح ليقلب رحيم عيناه بتملل قبل أن يُعلق ساخرًا:
"يا ابني هو أنت كنت مسافر عشان أروى ولا عشان تصيع مع أي بنت تقابلها؟!"
"أكيد عشان أروى، بس بصراحة بنات أوروبا وحشوني."
"كنت فكراك بتحب الملامح العربية زيي."
"اه ما أنا بحبها برضوا، بحب الأتنين وبحب أي تاء مربوطة، وبعدين ثواني ملامح عربية أيه اللي أنت بتحبها دي؟ أومال ناتالي دي أيه إن شاء الله؟ وليان؟ وكارلا؟ و..."
"بس خلاص!!! كده هنخلص السجل كله، وبعدين أنت بتتكلم في حاجات قديمة."
"ناتالي حاجات قديمة؟"
"بقولك أيه يا أنس روح شوفلك حاجة تعملها وسيبني في حالي دلوقتي... ثواني كده! أنا عرفت أفنان متضايقة ليه."
"ليه يا عم المفتش كونان؟"
"أكيد شافت صورتي مع ناتالي واتضايقت وكانت هتتخانق معايا بس لقت أن ملهاش دخل أصلًا بالموضوع فسكتت."
"ما شاء الله عليك بتكتشف الغامض والمثير، لا ثواني الغامض بس عشان المثير قاعد قدامك."
"أنت فعلًا مثير، بس للشفقة." علق رحيم بسخرية ليقذفه أنس بُعلبة المناديل الورقية، تأتي الخادمة لتُخبرهم أن موعد الغداء قد حان فيطلب منها رحيم أن يتناولا الغداء وحدهما في حجرة المعيشة.
"أنا مش عارف غداء أيه ده اللي الساعة 2 الضهر!"
"أنس كُل وأنت ساكت، على أساس بيفرق معاك مواعيد أوي ما أنت كده كده بتفضل تاكل!"
"بصلي بقى اللقمة اللي بتطفحهالي! وبعدين ما أنا ياما أويتك في بيتي وأكلتك وشربتك على حسابي يا ناكر الجميل!"
"بعيدًا عن العبث اللي أنت بتقوله ده، عايز اسألك سؤال وتجاوب عليا بجد."
"استر يارب، اطربني."
"أنس عمرك فكرت تتجوز؟" سأل رحيم سؤال غير متوقع تمامًا ليسعل أنس بقوة نتيجة ابتلاعه الطعام بطريقة خاطئة، يمنحه رحيم كوب الماء بينما ارتسمت على ثغره ابتسامة جانبيه فلقد توقع ردة فعل صديقه تلك.
"لا طبعًا! وأنت فكرت يا سي رحيم؟"
"اه."
"كداب، أنت رافض تتجوز."
"أنا رافض طريقة الجواز اللي مامي عايزاني اتجوزها، رافض العروسات اللي مامي بتجبهم لكن فكرة الجواز والإستقرار مش مرفوضة بالنسبالي."
فسر رحيم بجدية لينظر نحوه أنس بإنتباه لكنه ينفجر ضاحكًا حينما يقول رحيم كلمة 'عروسات' لينظر نحوه رحيم بضيق فيحمحم أنس ثم يُردف:
"بغض النظر عن عروسات دي، بس أنا بصراحة عمري ما فكرت في حوار الجواز ده خالص."
"مش كنت هتتجوز مونيكا؟" سأله رحيم بسخرية ليبتسم أنس ثم ينبس بالآتي:
"يعم كنت بصيع عليك، أنا بصراحة إنسان مهمل ومتهور ومش بحسبها مقدرش أتجوز واحدة وأربطها بيا وأنا أساسًا مش مستقر."
"عندك حق، لكن أنا شايف أنك محتاج يبقى عندك بيت وواحدة تهتم بيك، أنت مفتقر للحنان يا أنس."
"أيه يعم رحيم الذُل ده؟ وبعدين أيه نبرة الصعبنه دي محسسني أني بعرج قدامك."
قهقه رحيم على حديث أنس قبل أن ينتقل بالحديث إلى موضوعًا آخر وهو يقول:
"بقولك أيه، عرفت آخر الأخبار؟"
"خير إن شاء الله."
"عارف الدكتور اللي اسمه نوح، اللي محدش طايقه ده، معرفش بصراحة ال HR 'موظفو الموارد البشرية' قبلوه ازاي."
"اه الواد الكِلح ده! مش ده اللي بيخرج مع القطة بتاعتك؟ ماله؟"
"بالضبط كده، نوح ده يبقى ابن خالة أفنان وهو على طول بحسه بيحاول ي Flirt 'يغازلها' وعلى طول متضايق من تعاملي معاها."
"ما هو باين أوي أنه بيرسم عليها، مش محتاجة ذكاء."
"فعلًا، I totally agree with you 'اتفق معك تمامًا' ، لكن نوح ده عمل حاجة غريبة جدًا، راح خطب أخت أفنان."
سرد رحيم ما حدث بينما كان أنس يرتشف من كوب المياه الموضوع أمامه، يسعل أنس بقوة قبل أن يسأل بإستنكار:
"أفندم؟! أيه العك ده؟"
"مش عارف! أنا الأول اتعصبت جدًا عشان كنت فاكر أنه بيخطبها هي ولكن طلع بيخطب أختها!"
"الحوار ملغبط خالص، بقولك أيه ما تطلع نفسك من أفنان وحوارتها دي.. أنا عارف أنها مبهرة بالنسبالك عشان مختلفة عن كل البنات اللي اتعاملت معاهم لكن الإبهار ده شوية وهيخلص فمدخلش نفسك في دوشة."
"تفتكر؟" سأله رحيم وهو يُريح ظهره على الأريكة بينما يُعيد خصلات شعره السوداء نحو الخلف بينما يُفكر، هل حقًا مشاعره تجاه أفنان هي مجرد إنبهار وفضول؟ أي أنه لو استمر في التحدث إليها فإنه سيُصاب بالملل وتصبح علاقتهم فاترة؟! لم يجد إجابة عن أسئلته لكنه قرر أن يُقابلها مجددًا على أي حال فإن حياته هادئة وساكنه للغاية دون صخبها.
في صباح يوم الثلاثاء استيقظت أفنان على صوت والدها العالي نسبيًا وهو يتحدث في الهاتف، فهمت من مجرى الحديث أنه يتحدث إلى عمتها والتي بالطبع غاضبة بسبب إخفاءهم لأمر قدوم نوح لطلب ميرال للزواج، وبكل تأكيد جدتها ايضًا غاضبة كذلك لأنهم يظنون أن على أسرة أفنان أن تُشاركهم في كل شيء لأنهم فعلوا المثل، لكن ما لم يستطيعوا فهمه هو أنهم يحبون الثرثرة ومشاركة العالم كله أخبارهم وذلك يخصهم وحدهم وألا ينتظروا من أسرة أفنان فعل المِثل.
"صدقيني الموضوع جيه فجاءة أنا لاقيت الولد جاي ومعاه مامته وأخته وعايزين يقرأو الفاتحة، المفروض أطردهم يعني؟ وبعدين أنا كنت قايل للحاجة... هو أنا هاخد الإذن منك يعني؟ تمام سلام."
غادرت أفنان حجرتها بهدوء وهي تقف خلف والدها الجالس على الأريكة وهو يتنهد بحنق، رفعت أفنان رأسها لتنظر نحو ساعة الحائط لتجد أن الساعة السابعة صباحًا، هل هناك شخصًا عاقل يُعاتب أحدهم في السابعة صباحًا!!!
"صباح الخير يا بابا."
"صباح الخير يا حبيبتي، ممكن تجبيلي علبة الدواء بتاعتي من جوا وكوباية ماية من فضلك."
"من عنيا يا حبيبي، أنت تعبان ولا أيه؟"
سألت أفنان وهي تهرول نحو الحجرة ثم تعود سريعًا لتمنح والدها دوائه وهي تسب من داخلها عمتها وجدتها وأي شخص يؤثر على صحة والدها! كان الحزن باديًا على وجه والدها والتعب كذلك، أقتربت منه أفنان لتعانقه عناق دافئ وهي تُردف:
"معلش يا بابا، أنا عارفة أن كل الناس بتضغط عليك بس صدقني مفيش حاجة مستاهلة أنك تزعل عشانها وتسيبها تأثر على صحتك."
"حاضر يا حبيبتي، أنا كويس متقلقيش.. يلا قومي شوفي وراكي أيه عشان متتأخريش على الكلية."
أومئت أفنان وطبعت قبلة على رأس والدها قبل أن تتجه لتُبدل ثيابها، ترتدي أول ثوب يقع في يدها دون أن تهتم كثيرًا لتناسق الألوان فلن ترى أحدًا اليوم سواء زملاء الجامعة والذين يأتون بنفس هيئتها تلك فلقد أتلفت الكيمياء آخر خلايا عقلهم، وصلت أفنان الجامعة متأخرة خمسة دقائق لم تُتعب نفسها وتركض ففي الغالب نوح لن يسمح لها بالدخول، اتجهت نحو المعمل بخطوات هادئة تمامًا لينظر نحوها بطرف عيناه وقبل أن يتفوه بحرفًا واحد تقاطعه هي:
"خلاص يا دكتور من غير ما تتعب نفسك أنا خارجة تاني."
"لا أتفضلي يا دكتورة، النهاردة استثناء عشان المترو كان عطلان."
دلفت أفنان نحو الداخل بإنبهار شديد، نوح يتعامل اليون بلطف وهدوء شديد على غير المعتاد! مؤكد أن هناك شيئًا خاطئ في الأمر، لم تشغل أفنان بالها كثيرًا واتجهت للجلوس في أول مقعدًا فارغ تجده أمامها، أنهت أفنان يومها في الثالثة عصرًا وأثناء سيرها جهه باب الجامعة أوقفها صوت نوح وهو يُردف:
"لو مش وراكي حاجة تاني تعالي أوصلك للبيت."
"لا شكرًا وفر البنزين ده لخطيبتك هي أولى بيه."
قالت أفنان بنبرة ساخرة وهي تُغادر سريعًا قبل أن يُلح نوح عليها، كانت الشوارع مزدحمة لذا قررت أفنان أن تسير من شارع مختصر حتى تصل إلى مكان 'الميكروباصات' التي تمر بالقرب من منزلها.
"لا بس روعة ال Technicolor 'كانت موضة يتم فيها ارتداء ثياب بألوان مختلفة سويًا'."
تمتمت أحدهم بصوت رجولي بالقرب من أفنان لتلتفت وهي تنوي ركل أيًا كان ذلك الشخص لكن قبل أن تفعل أدركت أنه لا أحد يضع كلمات إنجليزية في كل كلمة يتفوه بها سواه هو... رحيم!
ذلك الأحمق يسخر من عدم تناسق ألوان ثوبها، لقد اختار أكثر يوم تبدو غير مُرتبة فيه ليظهر لها مجددًا.
"بسم الله الرحمن الرحيم! أنت طلعت منين يا عم أنت؟"
"مبتسأليش فقولت اسأل أنا."
"محسسني أننا مهاجرين، أحنا لسه مهزقين بعض في التليفون من كام يوم."
"في الواقع أنتي اللي هزقتيني."
"صح، أنت كده كده معندكش ال Option 'خيار' ده."
"اه عشان أنا مؤدب ومش بتكلم مع البنات بإسلوب tough 'شديد/عنيف'."
"ما علينا أيه اللي جابك برضوا؟ وأيه اللي موقفك في الشارع كده فين عربيتك؟"
"ما أنا قررت النهاردة أني أتخلى عن العربية وأتمشى معاكي."
"ءأيه ده هتروح مواصلات زيي؟!"
"مواصلات أيه بس! لا طبعًا ال Driver 'السائق' هيجي ياخدني بالعربية لما نخلص تمشية."
"أنا قولت برضوا، ما علينا ها أرغي."
"تعالى نتمشى طيب بس في شارع برا بدل ما نتسرق."
"قصدك بدل ما تتثبت زي المرة اللي فاتت."
"صحيح يا أفنان أنا ملاحظ أن ال Self defines 'الدفاع عن النفس' عندك كويس جدًا، أنتِ أتعلمتي فين؟"
"أقولك ومتضحكش عليا؟"
"على حسب."
"لا ما هو هتضحك هكسرلك صف سنانك! المهم بص يا سيدي وأنا صغيرة أنا وميرال بابا جيه في فترة وكانت ظروفنا المادية كويسة فبابا قرر يشتركلنا في نادي وسأل كل واحدة فينا عايزة تدرب أيه وكده، ميرال اختارت بالية وأنا اختارت كاراتيه."
"عدوانية من وأنتي طفلة؟ Impressive 'مثير للدهشة'."
"اه يا روش، وبعدها بفترة وقفنا التدريبات وكده، وبعدين لما كبرت شوية في ثانوي تقريبًا كنت بتعرض لمعاكسة كتير أوي ورخامة وكده فقررت أحوش من مصروفي وانزل أتعلم Boxing، بس كده هي دي الحكاية."
"أنا حقيقي منبهر وفخور بيكي، بغض النظر أني كنت هضرب يعني قبل كده بس شيء لطيف أنك يكون عندك القدرة على الدفاع عن نفسك؛ يعني مش مستنية حد يدافع عنك، بس صدقيني طول ما أنا جنبك مش هسمح لأي حد يقولك كلمة ولا حتى يبصلك بصة مش حلوة، همحيه من على وش الأرض."
"يا عم بقى ده أنت كنت متثبت."
"أنتي بتشكي في قدرتي على حمايتك؟"
"أيه ده أنت قفشت ولا أيه؟ أنا بهزر."
"لا مش بتهزري، أظن في فرق بين أن يكون في حرامي ماسك pocketknife 'مطواة' وموقفني في مكان فاضي في حتة معرفهاش وبين أني أكون معاكي وواحد يفكر يعاكسك، للدرجة دي شايفاني ضعيف؟"
"أنا مش قصدي والله أنا كنت بهزر بجد، وعارفة أنك هتدافع عني قصاد أي حد عشان أنت عملت كده أكتر من مرة فعلًا."
"خلاص سامحتك عشان أنا قلبي كبير."
"اه طبعًا ويساع من الحبايب ألف مش كده؟"
"قصدك أيه؟"
"مقصديش."
"صحيح أنتي قولتيلي أن أختك هتتخطب لنوح ده."
"اه، عملنا قراية فاتحة كده وجبنا الشبكة."
"يعني كده اتخطبت ولا أيه مش فاهم؟"
"لا كده اتفقنا عالتفاصيل ولسه هنعمل حفلة خطوبة بقى."
"طب وأنتي مش هتعزميني على ال Engagement party 'حفل الخطوبة' دي؟! ده حتى عيب يعني."
"أنت عبيط يا رحيم ولا أيه؟!! أعزمك فين!! وبعدين Engagement party محسسني أننا هنعملها في الهيلتون، ده أحنا هنعملها في صالة بيتنا!!"
"يعني مش هتعزميني؟"
"لا يا رحيم لا، قال أعزمك قال! أحنا فين هنا؟ في لندن!"
"شكرًا أوي على ذوقك، هي أمتى أصلًا؟"
"كمان أسبوعين إن شاء الله."
"طب أنتي هتيجي تستلمي الشهادة أمتى؟
"مش هعرف اجي خالص الاسبوعين دول عشان هبقى مشغولة في الكلية ومع ميرال وماما، ما تستجدع معايا وتجبهالي أنت بما أنك رايح جاي عالكلية."
"لا تعالي خديها انتي؟"
"ليه السماجة طيب؟"
"عايز اشوفك تاني، أظن أن دي حجة مناسبة عشان نتقابل."
"أيه ده؟ أيه ده؟ مين قال أني بتحجج عشان نتقابل!"
"مش أنتي، أنا."
"اه أصل مفيش حاجة بينا تخليني أتحجج عشان أقابلك، أنت اللي كل شوية تنطلي زي الفرقع لوز كده."
"أنتي شايفة كده يعني؟"
"اه."
"تمام." قال رحيم وهو يبتسم ابتسامة جانبيه ثم يُخفض رأسه قليلًا وهو يسير إلى جانبها قبل أن تقطع هي الصمت الذي ساد لدقيقة تقريبًا وهي تسأله الآتي:
"إلا قولي يا رحيم، أيه الصورة الجميلة اللي أنت متصورها دي؟"
"صورة أيه؟"
"متستعبطش! الصورة بتاعت الإنستجرام."
"اه مالها؟"
"مش أنت قولت أن أنت مش بتحب عرايس باربي؟ رايح تحضن واحدة شقراء ليه؟"
"هو مش أنتي لسه قايلة مفيش حاجة بينا بتسأليني ليه؟"
"فضول."
"طيب هي عمتًا هي مش شقراء هي Brunette 'شخص ذو شعر داكن' وصابغة شعرها."
برر رحيم بنبرة مُستفزة لتنظر نحوه أفنان بغيظ قبل أن تسأل مُستنكرة:
"ده مبرر يعني يعني عشان تحضنها؟"
"أنتي عايزة أيه؟" سأل رحيم بمراوغة لتلتفت نحوه أفنان وتصيح في وجهه بحنق سائلة:
"عايزة أعرف مين دي؟ وبتحضنها ليه؟ ازاي أصلًا تحضنها!!"
"أنا مش فاهم فين المشكلة؟"
"المشكلة أنه حرام وعيب يا رحيم."
"أفنان I told you i was in london 'لقد أخبرتكِ أنني كنت في لندن'!"
"الحرام حرام يا رحيم سواء هنا أو في كوالالمبور، بلاش استعباط."قالت أفنان بحده ولكنها صمتت لبرهة من الوقت وهي تستوعب ما تفوهت به قبل أن تُضيف:
"أنا أصلًا مينفعش ابقى معاك دلوقتي ولا المفروض أكلمك أساسًا.. أنا ماشية."
نبست أفنان بنبرة تفوح بالندم قبل أن تُقرر بحزم أنها سترحل، تُمسك بحقيبتها وتسبق رحيم بعدة خطوات تاركة إياه خلفها واقفًا في صدمة وعدم فهم، لحق بها رحيم لفترة لكنها كانت تسير بخطوات واسعة لذا توقف رحيم عن ملاحقتها بيأس، في ذلك اليوم قررت أفنان أنها ستتوقف عن محادثة رحيم وأنها سترفض مقابلته، لن تستطيع تحمل شعورها الدائم بالندم أنها تُخفي أمر رحيم عن والديها وبشكل خالص والدها.
في يوم الجمعة، لا تدري أفنان كيف مر أكثر من أسبوعين بهذه السرعة منذ أن كانت برفقة رحيم، الآن هي تجلس في حفل خطبة ميرال داخل شقتهم الصغيرة نسبيًا، ترتدي ميرال فستان باللون السماوي بينما ترتدي أفنان فستان باللون الوردي الزاهي لكنه لم يكن 'منفوشًا' كي تبدو ميرال مميزة وقد كانت بالفعل، فلقد كانت أجمل عروس قد رأتها أفنان يومًا.
كان أكثر ما يُميز ميرال في ذلك اليوم هي تلك الإبتسامة الواسعة الصافية الناجمة عن سعادة حقيقة حتى وإن كان في باطنها زيف من جهه نوح إلا أنه بدا سعيدًا هو ايضًا، كانت عبارة "Got engaged" تُزيين المكان بالإضاءة الساطعة خاصتها مع المصابيح التي اتخذت شكل شموع.
"أيه القمر ده؟ هو اللون مخليكي باهتة شوية بس الفستان حلو."
"ربنا يخليكي يا ريماس شكرًا، أهلًا بيك نورتنا."
"بنورك." علق الواقف بجانب ريماس والذي من المفترض أن يكون زوجها المستقبلي وهو ينظر نحو أفنان بنظرات لم تُريحها لكنها تجاهلت الأمر.
"أفنان تعالي عشان تطلعي أنتي ورانيا الشبكة."
"حاضر يا بابا جايه."
"هي دي بس الشبكة؟" علقت ريماس بمزيج من السخرية والإستعلاء فور رؤيتها لميرال وهي تَمد يدها بخاتم الخطبة وإلى جانبها يد نوح، تتخلل جملتها تلك إلى أذت أفنان لتنظر الأخيرة نحوها بإستياء قبل أن تقترب منها وتدعس على ثوبها بقوة حتى كادت أن تسقط الآخرى قبل أن تُعلق أفنان بإصطناع:
"أسفة يا ريماس مشوفتكيش."
"شوفتي لما أختك سمعت كلامي ربنا كرمها وفرحت ازاي؟ عقبال ما تسمعي كلامي أنت كمان."
تفوهت جدتها لتبتسم أفنان ابتسامة مصطنعة قبل أن تقول لجدتها:
"إن شاء الله يا تيته."
"ماما بصي زي ما اتفقنا نص ساعة كده ولا حاجة وهنتحرك نكمل سهرتنا في كافية برا."
"قولتي لريماس وخطيبها؟."
"كله عارف يا ماما متقلقيش بس إن شاء الله محدش هيجوا معانا مش ناقصة وجع دماغ."
بعد ساعة ونصف تقريبًا كانوا جميعهم يجلسون داخل أحدى المقاهي والتي تطل على نهر النيل، كان المكان مُغلق وقد قاموا بحجزه بالكامل، جلست أفنان تثرثر مع أصدقائها هي وميرال وبعض أفراد العائلة ولكن قطع حديثها صوت رنين هاتفها.
"أفي Hello, where are you 'مرحبًا أين أنتِ'؟"
سأل رحيم الذي اتصل من رقمًا مجهول بالنسبة لأفنان لتُصعق الأخيرة لكن سرعان ما تذكرت أنها قد حظرت رقم هاتفه، أخذت تنظر حولها بقلق وهي تدعو ألا يكون صوته ظاهر من الهاتف.
"معلش يا جماعة بعد إذنكوا ثواني." استأذنت بأدب من الجالسين أمامها نظرًا لأن المكالمة قطعت حديثهم.
"عايز ايه؟"
"ممكن تطلعي برا المكان اللي انتي قاعدة فيه؟"
طلب رحيم لتقلب أفنان عيناها بتملل وهي تتجه نحو الخارج ثم تُردف:
"طلعت برا خلاص."
"يا نهار ابيض!!! انت ايه اللي جابك هنا انت اتجننت؟"
صاحت أفنان بأعين متسعة وهي تنظر بصدمة نحو رحيم الذي ظهر من اللامكان وهو يرتدي بذلة رسمية سوداء اللون مع قميص أسود اللون كذلك، أقتربت أفنان بضع خطوات نحوه وقبل أن تنبس ببنت شفة سبقها رحيم قائلًا:
"مقدرتش امنع نفسي من أني أجي، كان لازم أشوفك.."
"رحيم انت لازم تمشي بسرعة ممكن اي حد يشوفنا."
"أنتي عارفة أنك أجمل حاجة شافتها عيني؟ طب عارفة أن شكلك النهاردة كأنك هربانة من قصص الأميرات بالفستان ده؟"
نطق رحيم وهو ينظر إلى داخل أعين أفان ثم تنتقل عينه لينظر نحو ثوبها المُبهر بالنسبة إليه بالرغم من بساطته، نظرت نحوه بثغرًا مفتوح ثم أخذت تعبث في أصابعها بتوتر وهي تتمتم:
"شكرا.. انا مش عارفة المفروض ارد اقول ايه بصراحة.."
"شكرًا أيه وبتاع أيه؟ بس عارفة يا أفي ال Outfit 'الطقم/الملابس' ناقصها حاجة."
"حاجة ايه ان شاء الله؟" سألته أفنان بحنق بينما تلتفت حولها كل ثانية، يسود الصمت لثوانٍ بينما يعبث رحيم في الجيب الداخلي لبذلته الرسمية قبل أن يُخرج عُلبة باللون الأزرق الداكن ويفتحها ليظهر منها سلسال من الفضة يحوي حجرًا كريمًا باللون الأبيض وله إنعكاس بسيط يميل إلى اللون الأزرق الزاهي، وقد كان ذلك الحجر يُطلق عليه اسم حجر القمر، أخذ الحجر شكل بيضاوي بينما كا مُحاط بإطار من معدن الزركون الأبيض.
"ده." تمتم رحيم وهو يُخرج السلسال من العُلبة الفخمة ويمنحه لأفنان، لترتسم على ثغرها ابتسامة واسعة قبل أن تسأله ببلاهة:
"ده.. عشاني؟"
"معمول عشانك اه، اتفضلي إلبسيها عشان مش هينفع ألبسهالك أنا."
أمتدت يد أفنان المُرتجفة لتُمسك بالسلسال بأعين لامعة ونبضات قلب متسارعة قبل أن تنبس بالآتي:
"بس.. ده شكله غالي أوي يا رحيم مقدرش أقبل هدية زي دي.."
"لا متهزريش يا أفي، أنا جيت كل ده عشان في الآخر تقوليلي أن مش هينفع تاخديها؟ طب بصي لو مش عايزه تلسبيها دلوقتي حطيها في العلبة بتاعتها وألبسيها بعدين."
"أنا مش عارفة أقولك أيه بجد.. ده حلو أوي حقيقي ربنا يخليك يا رحيم."
"أيه ده؟ أنتي بتتكسفي؟ Omg you look like a tomato 'إلهي تُشبهين ثمرة الطماطم/ دلالة على أحمرار وجهها نتيجة شعورها بالخجل'."
تفوه رحيم بتلقائية شديدة وهو يبتسم ابتسامة واسعة جعلت من عيناه الخضراء تنغلق نسبيًا فتظهر تلك التجاعيد البسيطة أسفل عينيه، تُبادله أفنان الإبتسام عدا أنا خاصتها كانت خجولة للغاية بينما تحاشت النظر إلى عيناه مباشرةً لكن فجاءة اختفت ابتسامته، أقترب منها قليلًا وهو يُردف بجديه وهدوء:
"أفنان هقولك حاجة بس Please don't panic 'من فضلك لا تهلعِ'."
"في أيه؟"
"هو.. Someone is watching us 'أحدهم يراقبنا'."
ألتفتت أفنان على الفور بفزع لتجد ريماس تقف على مسافة بعيدة نسبيًا تراقب أفنان بأعين ثاقبة وقد لمعت أسنانها بإبتسامة خبيثة.. تُصعق الأخيرة وتتفوه بنبرة أقرب إلى الهمس قائلة:
"وي أر إن ديب ديب شيت!!!"
__________________________________
(تذكره: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلي نفسي طرفة عين.)
الفصل التاسع والعشرون: الرِّسَالَة الْأَخِيرَة 🤎🦋✨
"وي أر إن ديب ديب شيت!!!"
نبست أفنان بنبرة أقرب إلى الهمس وهي تشعر بأن قلبها على وشك أن يتوقف، تلتفت لرحيم الذي توتر هو الآخر بالرغم من أنه ليس من نوعية الأشخاص الذين يُصابون بالتوتر أو القلق بسهولة لكن لغة جسد أفنان نقلت إليه ذلك الشعور، نظر نحوها بهدوء تام وهو يهمس لها بالآتي:
"بصي Calm down & act normal 'اهدأي وتصرفي بطريقة طبيعية'." أومئت هي على الفور بدون تفكير وهي لا تدري ماذا ينوي أن يفعل لكن لا خيار لديها على أي حال، لذا أخذت تدعو ان يستطيع أن يُنقذها من ذلك المأزق.
"يعني ديه مش ال Birthday party 'حفل عيد الميلاد'؟" سأل رحيم بصوتًا مسموع إلى حدٍ ما كي يصل إلى ريماس لتُجيبه أفنان بجديه وبنبرة الصوت ذاتها وهي تُردف:
"لا حضرتك أحنا حاجزين المكان هنا لخطوبة أختي."
"تمام، I am so sorry 'أنا أسف'، واضح أن ال GPS مهنج."
"حصل خير يا فندم." علقت أفنان قبل أن تبتعد لترحل ويفعل رحيم المثل، كانت ريماس تراقب المشهد عن كثب وهي تضع أحدى يديها على خصرها وتبتسم نصف ابتسامة تقترب منها أفنان وهي تُخفي العُلبة خلف ظهرها.
"في حاجة يا ريماس؟"
"أنتي فاكرة التمثيلية الخايبة اللي أنتوا عملتوها دي هتخيل عليا؟"
"تمثيلية أيه؟ وأنا ومين أصلًا؟" سألت أفنان بمراوغة وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها.
"الشاب الحلو اللي كان واقف ده، عارفة الحاجة الوحيدة اللي ممكن تخليني أصدق أنك متعرفيهوش هو أنه شكله ابن ناس أوي عن أنه يصاحب واحده شَلق زيك، أنتي آخرك تبقي خدامة عنده."
قالت ريماس بنبرة مُستفزة للغاية، في البداية حاولت أفنان أن تتحكم في أعصابها لكن مع تزايد كلمات ميرال المُهينة لم تشعر أفنان بنفسها سوى وهي تجذب ميرال من خصلات شعرها البنية بقوة لتصرخ الآخرى بآلم بينما تقول أسنان من بين أسنانها:
"أنتي لو اتكلمتي عني كده تاني يا ريماس محدش هيعرف يخلصك من ايدي أنتي سامعة!!"
"ابعدي يا مجنونة أنتي! وعلى فكرة بقى أن هكلم خالو أحكيله عاللي شوفته وهو هيتصرف معاكي."
صاحت ريماس وهي تحاول الإفلات من قبضة أفنان بينما وقعت عين أفنان بالصدفة عالبقعة الزرقاء التي اتخذت موضعًا على ذراع ريماس، كانت ريماس تنظر نحو أفنان بتحدٍ شديد.
"بابا عارف عني كل حاجة، أنا مش بخبي عنه حاجة." كذبت أفنان ولكن نبرتها كانت ثابتة نوعًا ما لكن الآخرى قهقهت بسخرية وهي تُردف بثقة:
"هتصل ونشوف الكلام ده سوا بقى!"
"اتصلي، وأنا برضوا هكلم باباكي وأقوله على فلوس المحل اللي أمك بتلهفها مننا كل أول شهر، تعب أبويا وشقاه اللي أنتوا بتاخدوه من ورا أبوكي."
اضطرت أفنان إلى استخدام البطاقة الأخيرة التي في صالحها، فوالد ريماس لا يعرف الكثير عنهم بحكم سفره الدائم وكانت أفنان واثقة تمام الثقة أنه لا يعرف أن زوجته تحصل على ورث شقيقها ظُلمًا.
"هي.. ماما بتعمل كده بجد؟"
"بطلي تمثيل يا ريماس ما أنتي أكيد عارفة متعمليش فيها ملاك برئ، عمتًا براحتك كلمي بابا وأحرجي نفسك واستحملي بقى المشاكل اللي هتحصل بين باباكي ومامتك."
ازدادت نبرة أفنان ثقة وهي تراقب الإضطراب البادي على ملامح ريماس، ابتسمت أفنان ابتسامة جانبية وقد شعرت بأن إنهاء تلك المشكلة أصبح أمرًا وشيكًا لذا أضافت على حديثها السابق الآتي:
"وبعدين تفتكري أني لو في بيني وبينه حاجة هجيبه لحد هنا وكل الناس موجودين؟ أنا مش مغفلة للدرجة دي."
صدقت أفنان فما كانت لتفعل شيئًا غبيًا كهذا، ولكن كل ذلك حدث بسبب المُغفل الآخر الذي يظن نفسه يعيش داخل أحدى قصص أميرات ديزني الرومانسية أو أحدى المسلسلات التركية وها هو قد رحل الآن بعد أن حلت الكارثة على رأس أفنان.
"ولو برضوا مش هتعرفي تخليني معملش كده، برضوا هكلم خالو."
"ريماس أنتي فين؟ كل ده بتشوفي قريبتك!!!"
صاح خطيب ريماس بحنق والذي جاء من اللامكان لتنتفض كلتاهما بفزع، تنظر نحوه ريماس ببعض الإضطراب قبل أن تُردف:
"كان معاها تليفون فكنت مستنياها تخلص." نظرت أفنان نحو ريماس ببعض الدهشة، فهي لم تتوقع أن تكذب من أجلها بل توقعت أنها ستُخبر كل من تراه بما حدث قبل قليل.
"طيب يلا ادخلوا بدل ما حد يضايقكوا."
"اسبقوني أنتوا وأنا هحصلكوا."
حاولت أفنان التملص منهم كي تستطيع مهاتفة والدها قبل أن تفعل ريماس لكنها فوجئت بريماس تنظر نحوها بترجي نوعًا ما وهي تقول:
"لا، تعالي معايا عايزاكي في كلمتين جوا." نظرت نحوها أفنان بتعجب قبل أن تومئ بهدوء وتتجه نحو الداخل برفقتها.
"أنتي كنتي فين وسايباني لوحدي؟"
سألت ميرال وهي تجذب أفنان لتجلس بجانبها بينما يجلس نوح في الجهه الآخرى، دنت أفنان من أذنها وهي تُفسر لها بهمس:
"في كارثة، رحيم عملي سربرايز زي وشه وجه لحد هنا ابن المجنونة، لا متتخضيش كده الكارثة مش هنا، الكارثة أن ريماس شافتني معاه وعايزه تقول لبابا."
"يا خبر أبيض!!! طب وهتعملي أيه؟" سألت ميرال بفزع وبصوت مسموع نسبيًا لينظر نحوها نوح بقلق فتنظر نحوه أفنان بإبتسامة سمجة وهي تنبس:
"خليك في حالك ها."
"سيبك من نوح وخليكي معايا، هتعملي أيه؟"
"مش عارفة.. أنا والله كنت هقوله أصلًا لأني مش هقدر اخبي عليه أكتر من كده، بس هي لو فتحت بوقها وكلمته هي هتخرب الدنيا خالص."
"طيب قومي اتصلي بيه دلوقتي وقوليله أنك لما نروح هتحكيله حاجة مهمة، عشان حتى لو ريماس نفذت تهديدها يبقى أنتي سبقتيها وحكتيله قبلها."
"عندك حق، أنا هخرج أكلمه."
غادرت أفنان المكان مجددًا واتجهت نحو الخارج لتحاول الإتصال بوالدها نظرًا لأنه لم يكن معهم بالطبع فلقد كان ذلك الإحتفال شبابي، أجاب والدها سريعًا بنبرته الحنونة المعتادة لتشعر أفنان بغصة في حلقها، تُحمحم بصعوبة ثم تُردف:
"بابا أنا عايزة احكي لحضرتك حاجة مهمة، حاجة كان المفروض حضرتك تعرفها من بدري.. مش هينفع نتكلم في التليفون لازم لما أشوفك بس أنا قولت أعرفك عشان لازم تسمع مني أنا، خوفت حد يسبقني ويوصلك الموضوع غلط..."
كان والدها صامتًا يستمع إلى حديثها حتى ظنت أنه أغلق الخط لتسأله هي بنبرة مُرتجفة:
"بابا أنت سامعني؟"
"سامعك، أنا مستنيكي لما ترجعي عشان ندردش براحتنا يلا روحي خليكي مع أختك متسيبهاش لوحدها."
"حاضر يا بابا.."
أنهت أفنان المكالمة وتنهدت بحزن وقلق قبل أن تعود نحو الداخل مجددًا، حاولت أفنان جاهدة أن تبتسم وألا تُفسد احتفال شقيقتها لكن من داخلها كاد قلبها أن يهرب من موضعه هلعًا مما ينتظرها في المنزل، بالرغم من أنها تعلم أن والدها ليس بشخصًا عنيف أو شيئًا من هذا القبيل لكن غضبه منها ونظرة الخذلان في عيناه تكفي لجعلها حزينة مدى الحياة...
بعد ثلاثة ساعات توقفت سيارة نوح أسفل المنزل، ودع ميرال بكلمات مُبتذلة لم تستمع لها أفنان جيدًا فلقد كانت شاردة الذهن، لاحظت ميرال أن يد أفنان ترتجف أثناء صعودهم للسُلم لتقترب منها ميرال وتُمسك بيدها وهي تطمئنها قائلة:
"متخافيش يا أفنان، بابا طول عمره متفهم هو بس هيزعل منك شوية بس صدقيني لو خبيتي عليه ومخدتيش الخطوة زعله هيكبر أكتر والمشكلة هتكبر أكتر وأنا جنبك متخافيش."
"شكرًا يا ميرال وبجد أسفة أني خليتك تشغلي دماغك بالموضوع ده في يوم زي النهاردة.."
"قدري بقى أنك تبقي أختي الصغيرة هعمل أيه بس؟ حكمة ربنا."
نبست ميرال بمزاح وهي تضحك بلطف في محاولة منها لتلطيف الأجواء وجعل أفنان تهدأ قليلًا، طرقت أفنان الباب بخفة ليفتحه والدها على الفور وهو يبتسم لهم ابتسامة لطيف بينما يضم كلتاهما وهو يتمتم:
"وحشتوني لما غبتوا عني كام ساعة، أومال لما تتجونوا وتسيبوني أيه اللي هيحصل؟"
تمتم والدهم بنبرة حنونة لتنظر نحوه أفنان بقلبٍ مفطور لكن يقطع المشهد المؤثر قدوم والدتهم وهي تشكو لهم من والدهم مُردفة:
"ده أبوكوا جنني كل شوية يقولي اتصلي بيهم شوفيهم بقوا فين، الوقت اتأخر والساعة عدت عشرة.. ده حتى كان واقف قرب الباب من قبل ما تخبطوا."
"ربنا يخليك لينا يا حبيبي وميحرمناش منك." قالت ميرال ولم تجرؤ أفنان على التفوه بحرف، ألتفت نحوها والدها وهو يُخبرها الآتي:
"أفنان أنا هعملنا كوبايتين شاي وهجبلنا كحكتين من الأمك عملاهم ونقعد نتكلم في البلكونة على رواقة."
"ماشي يا حبيبي.."
بدلت أفنان ثيابها سريعًا ثم غادرت الحجرة لتلمح والدها يجلس على كرسي داخل الشرفة وأمامه كرسيًا آخر وفي المنتصف طاولة صغيرة وُضعت عليها صينية، أقتربت بخطى بطيئة نحو الداخل قبل أن تجلس أمامه وهي تعبثت بأصابعها في توتر، يقطع والدها الصمت المُوتر وهو يقول:
"قولي يا أفنان أنا سامعك."
"أنا.. مش عارفة ابتدي منين.." تفوهت أفنان بتلعثم وهي تفرك كلتا يديها بقوة لينظر نحوها والده بتعابير هادئة وهو يضع يده أعلى يديها لطمئنتها ثم يقول:
"اتكلمي يا أفنان متخافيش."
"أنا هقولك بصراحة كل حاجة، أنا اتعرفت على شاب.. وبكلمه. مش بكلمه يعني.. بص هو الموضوع لما أنا كنت ماشية في الشارع و.. وكان في واحد متثبت وأنا ساعدته.. هو بعدها طلع اللي بيدربني في الشركة وكده.."
"وبعدين؟"
كان والدها يستمع إليها بإهتمام، بينما كانت تشعر أفنان بأن الكلمات كخناجر تجرح حلقها كلما حاولت التحدث، كانت تعابير والدها هادئة في البداية حتى وصلت أفنان إلى تلك النقطة حيث تطور حديثهم وتحديدًا عند المرة الأولى التي وافقت هي على الجلوس معه في المقهى.
"أحنا كنا في مكان عام والله، وطبعًا أنا مركبتش معاه العربية ولا عمره لمس أيدي ولا أي حاجة والله العظيم يا بابا، أنا عارفة أني غلطانه واتماديت في الغلط بتاعي.. هو بعدها احنا اتقابلنا مرتين كمان.. هو جيه النهاردة.. وأنا قولتله يمشي وكده.. أنا أسفة.."
"أسفة على أيه؟" سألها والدها بإستنكار وبنبرة منفعلة لم تعهدها أفنان من قبل، تتجمع الدموع في عينيها وهي تُردف بنبرة مُرتجفة:
"عشان خذلتك، عشان ضيعت الثقة اللي أنت اديتهالي.."
"كويس أنك مدركة كويس يا أفنان، أنا عيشت طول حياتي بدافع عنكوا وعنك بالذات قصاد أي حد وبقول أن بنتي حبيبتي عمرها ما تخبي عليا حاجة بس أنتي خذلتيني يا أفنان! أنا واثق أنه ملمسشي ايدك وواثق أنكوا مقعدتوش في مكان لوحدكوا لكن ده ميلغيش كون اللي عملتيه غلط ومش مقبول! وبعدين ما هي بتبدأ كده.. كلام ومقابلات وتنازلات صغيرة عن مبادئك وأخلاقك وواحدة الموضوع بيكبر."
كان والدها يتحدث تارة بإنفعال وتارة بهدوء بينما جلست أفنان تستمع إلى حديثه وهي تعلم أنه لا يوجد تبرير مقبول لما فعلته لذا أخذت تدعو الله أن يعفو عن ذنبها وأن يُسامحها والدها... ساد الصمت لبرهة قبل أن تُعلق أفنان:
"أنا عارفة أني غلطانه والله، أنت عندك حق يا بابا.. أعمل فيا اللي أنت عايزه.. أنا أصلًا عملتله بلوك على كل حاجة ومش هكلمه تاني حتى بص حضرتك لو مش مصدقني خد تليفوني.."
"مش عايز أشوف حاجة، ولا حتى عايز أتكلم معاكي تاني، لسانك ميخاطبش لساني يا أفنان وأنا مش هاخد تليفونك عشان خلاص أنتي مبقتيش عيلة صغيرة عشان أعمل كده وأعملي حسابك أني هوصلك وأجيبك من الجامعة ما هو أنا مش عارف أنتي بتروحي فين من ورايا."
أعلن والدها بحزم لتنظر نحوه أفنان بأعين مُحمرة ليُشيح بنظره بعيدًا عنها فتتنهد هي بحزن قبل أن تُردف بترجي:
"يا بابا أنا أسفة والله.. اعمل فيا اللي أنت عايزه بس متخاصمنيش أنا مش هستحمل اليوم يعدي عليا وأنت مش بتكلمني.."
"أنا قولت اللي عندي، ولو كلمتيه تاني من ورايا يا أفنان مش هيعجبك اللي هيحصل."
"طب بص يا بابا خد التليفون وأنا مش هروح في حته من غيرك ووعد بجد مش هكرر اللي حصل ده تاني بس متعملش كده.."
"تصبحي على خير يا أفنان."
تركها والدها غارقة في دموعها والندم يحرقها حية، أعادت خصلات شعرها نحو الخلف وهي تحاول كتم شهقاتها، لم يضربها والدها، لم يصرخ في وجهها بقوة لكن نظرة اللوم في عيناه، الخذلان في نبرته وكونه سيتجاهلها في الأيام القادمة كان ذلك كافيًا لجعلها تتمنى أن تختفي من الوجود، لعنت رحيم أسفل أنفاسها ولعنت نفسها ألف مرة أنها انساقت وراء كلامه المعسول وجاذبيته، فأين هو الآن بعد أن تسبب في جزء مما حدث؟!
دلفت أفنان إلى حجرتها لتدفن وجهها في وسادة سريرها وتُطلق العنان لدموعها بينما نظرت نحوها ميرال بحزن شديد قبل أن تقترب من وتضمها حتى تغفو أفنان بتعب بعد مرور ساعة من البكاء المتواصل.
أما عن رحيم فبعد أن ترك أفنان أخذ يتجول بسيارته بلا هدف، تمكن الضيق منه فأصبح يقود السيارة بطريقة جنونية لولا أن انتبه أنه قد تخطى السرعة المسموح بها وأنه قد يتعرض للمسألة أو مُخالفة، حاول أنس مهاتفته عدة مرات لكن رحيم لم يُجيب وقرر الإنتظار حتى يعود إلى المنزل فأنس يمكث هناك على أي حال.
"عجبتها السلسلة؟ أكيد عاجبتها دي غالية أوي، أيه ده مالك قالب وشك كده ليه؟!"
"هحكيلك بس من غير تهزيق.." نبس رحيم وهو يُلقي بسرتة بذلته الرسمية على السرير بعشوائية، سرد رحيم ما حدث لأنس لتتسع أعين الأخير بإستياء وهو يصيح بتوبيخ:
"يا خبر أبيض!!! أنت أيه اللي أنت هببته ده يا رحيم؟!"
"أنا حاسس بالذنب أوي.. أنا مكنش قصدي أسببلها مشكلة بس ده اللي حصل.." نبس رحيم بصدق وهو يمسح وجهه بيده بضيق لينظر نحوه أنس بطرف عيناه وهو يُردف بعتاب:
"أنا قولتلك مليون مرة تبعد عنها، حرام عليك يا أخي!"
"أنا بس كنت عايز أعملها مفاجأة وأفرحها..."
"مشكلتك يا رحيم أنك مش مستوعب أنت فين وبتعمل أيه مع مين، وعشان كده أنا قولت من البداية أن الموضوع كله غلط... أحنا في مصر يا رحيم وأفنان بنت من أسرة متوسطة ومتدينة، حياتها وتربيتها وعيشتها غيرنا خالص... أنت مش في England 'إنجلترا' عشان تعمل حركة رومانسية وتروح تفاجئ حبيبتك... ده على اعتبار أن أفنان حبيبتك أساسًا، اللي أنت عملته ده مش مقبول إطلاقًا وربنا يستر بقى وأبوها ميضربهاش ولا يمنعها من الخروج."
أفصح أنس عن ما يجول في صدره منذ أن علم بعلاقة أفنان ورحيم، كانت كلمات أنس صادمة بالنسبة لرحيم ولربما بدت طريقته عنيفة بعض الشيء لكنه كان صادقًا في كل حرف تفوه به، أتسعت أعين رحيم برعب وهو يسأل أنس الآتي:
"هو بجد ممكن يعمل كده؟ لا أنت أكيد أوڤر، محصلش حاجة تستاهل أنه يعمل كده!!"
"أنت نسيت فريد كان بيعمل أيه معانا يا رحيم؟ الظاهر أن كتر السفر والعيشة برا نسوك المجتمع هنا عامل ازاي، بص يا رحيم.. أنت تنسى أفنان دي خالص ولا كأن مر عليك حد بالإسم ده."
"مقدرش يا أنس... أنا ما صدقت لاقيتها!" نبست رحيم بقلة حيله ونبرة هادئة لينظر نحوه أنس بإمتعاض وهو يقول:
"الموضوع ده آخرته هتبقى غم عليكوا أنتوا الإتنين، براحتك بقى."
"ليه كل حاجة صعبة كده؟ ليه مش متاح ليا اختار الحاجة اللي بحبها والموضوع يمشي زي ما أنا عايز؟"
"رحيم أنت نظرتك سطحية أوي، أفنان مش حاجة أنت بتحبها أو نفسك فيها، دي إنسانة وعندها مشاعر، شخصية وكيان وليها أهل مش مجرد حاجة أنت شبطان فيها عشان أهلك طول عمرهم بيتحكموا فيك."
"أنا مش قصدي كده.. أنت فاهمني غلط، محدش قادر يفهمني! هي الوحيدة اللي كنت بحس أني مرتاح وأنا بتكلم معاها، مكنتش بحتاج أزيف ابتسامة أو أقول كلام مش عايز أقوله.. أنا تايه يا أنس."
"وأنا جنبك يا رحيم وهفضل جنبك لحد أما نشوف الموضوع هيمشي ازاي، بس أبوس دماغك يا أخي سيبها في حالها على الأقل لحد أما تاخد قرار."
"حاضر.."
في صباح اليوم التالي استيقظت أفنان بإرهاق شديد وسرعان ما تذكرت أن عليها الذهاب للجامعة اليوم بالرغم من أنها لا تذهب إلى الجامعة عادة في يوم السبت، فور اعتدال أفنان من نومتها أجتاحها آلم شديد في الرأس وشعرت بعدم الإتزان، قفز إلى رأسها ما حدث بالأمس وحديثها مع والدها، كلماته الحزينة، بكاءها المُستمر وعناق ميرال ثم لا شيء...
"أنتي عملتي ايه مخلي ابوكي مش بيكلمك كده؟"
سألت والدتها بفضول وهي تُعد الفطور لتتنهد أفنان بضيق ثم تُردف بإنفعال:
"لو سمحتي يا ماما سيبيني في حالي انا مش قادرة اتكلم في حاجة."
"هو في أيه محدش طايقلي كلمة في البيت ده ليه النهاردة؟"
"هو بابا قالك حاجة؟"
"لا مقالش حاجة، هو أنتي عاملة حاجة؟"
"لا، أنا نازلة عشان الجامعة، سلام."
"استني عندك أنا قولت هوصلك بالعربية." بنبرة حازمة أعلمها والدها لتومئ دون أن تنبس ببنت شفة.
مرت الأيام متشابهة على أفنان من بعد ذلك اليوم، مر ما يقرب من الأسبوعان ووالدها يتجاهلها تمامًا بالكاد يتفوه بكلمه أو اثنتين معها، حاولت ميرال إصلاح الوضع لكن والدها نهرها ومنعها من التدخل سواء هي أو والدتها.
"أفنان الغداء جاهز."
"مش جعانة يا ماما."
"أحمد.. ما تشوف بنتك اللي مبقتش تاكل دي؟"
"سيبيها على راحتها يا رانيا أحنا مش هنتحايل على حد."
تحدث والدها بنبرة حازمة وبصوتٍ مُرتفع متعمدًا أن يصل حديثه إلى أفنان، زفرت بضيق بينما أقتحمت ميرال الحجرة وهي تُشجع أفنان قائلة:
"ما تيجي تتغدي معانا يا بنتي."
"قولتلك مليش نفس وسيبيني في حالي بقى."
أمسكت أفنان أحدى كتابها متجاهلة ميرال التي أقتربت لتجلس أمامها وهي تسألها بفضول بينما تعبث في خاتم الخطبة خاصتها:
"هي ريماس كلمت بابا وحكيتله؟"
"لا، غالبًا لا يعني لو كان حصل حاجة زي كده كانت ماما هتيجي تهزقني."
"اه تمام، طب هو... رحيم مكلمكيش تاني؟" سألتها ميرال بالمزيد من الفضول لتنظر نحوها أفنان بحدة قبل أن تُجيبها بتملل:
"أنا وعدت بابا أني مش هكلمه ولا هو محاولش حتى يكلمني، خرب الدنيا وأختفى."
"أفنان هو أنتي كنتي واخدة موضوع رحيم ده جد ولا أيه؟"
"مش عارفة... هو أنا منكرش أن كان في إنجذاب... رحيم مش زي أي حاجة أو حد أن شوفته قبل كده واتعاملت معاه، هو چنتيل جدًا، لطيف، مُتفاهم وابن ناس في نفسه كده."
"طب وده ملفتش نظرك لحاجة؟ مفيش حد فيه المميزات دي كلها أكيد في حاجة غلط... يالهوي هيطلع في الآخر تاجر مخدارات ولا أيه؟!!"
"تاجر مخدرات أيه بس؟ في تاجر مخدرات في الدنيا هيقول بابي ومامي؟ استحالة يعني."
"لا ثانية واحدة هو بيقول بابي ومامي؟"
"اه أومال هيقول أيه؟ الواد أبوه مدير شركة وهم متعلم برا مصر، رحيم ده عايش في كوكب موازي حرفيًا، ولو كنتي بتسألي عن الغلط اللي في الموضوع فالموضوع كله على بعضه من الأول غلط من كل النواحي."
بدأت أفنان حديثها بنبرة حالمة لكنها انتهت باليأس حينما عادت إلى أرض الواقع وتذكرت ما حدث وكيف انتهت علاقتها هي ورحيم قبل أن تبدأ.
"عشان خبيتي على بابا يعني؟ طيب ولو كان رحيم ده جيه اتقدملك كنتي هتوافقي؟"
كان سؤال ميرال مُباغت بالنسبة لأفنان، لم تُفكر في ذلك السؤال من قبل فهي لم تتخيل ولو لمرة أن علاقتها برحيم قد تصل إلى ذلك الحد أو ربما تخيلت مرة أو اثنتين لو أنها في علاقة رسمية مع رحيم لكن في تخيلاتها تلك لم تُفكر قط في مدى صعوبة الأمر واقعيًا، فأولًا: رحيم لا يبدو عليه أنه شخص يسعى للإرتباط الرسمي، ثانيًا: هناك اختلافًا كبير بين العالم الذي ينتمي إليه رحيم والعالم الذي تنتمي إليه أفنان، ثالثًا: مؤكد أن عائلة رحيم سترفض شيئًا كهذا فابالرغم من أن أفنان لم تراهم من قبل لكنها واثقة من ذلك فلقد رأته في العديد من الأفلام العربية القديمة.
"بقولك أيه قفلي عالسيرة دي خالص، أنا قايمة أذاكر." حاولت أفنان الهروب من الحديث بشأن رحيم ومحاولة تشتيت تفكيرها عن ما حدث لكن هناك شيء ما قفز إلى عقلها فجاءة، لما لم تُهاتف ريماس والدها وتُخبره بما رأت؟ فهذه الفرصة لا تعوض.. أم أنها تحدثت إليه ولم يُخبرها والدها بالأمر؟ لكن مؤكد أنه كان سيعاتبها لأن الأمر قد وصل إلى أحد أفراد العائلة، كان هناك شيئًا خاطئ في الأمر لكن ذلك لم يهم أفنان كثيرًا في الوقت الحالي فكل ما يهمها هو أن تُصلح علاقتها بوالدها وأن تحظى على العفو والمسامحة منه..
في صباح اليوم التالي في منزل حامد البكري، استيقظ رحيم باكرًا على مكالمة هاتفيه ليهرول نحو الآخر النائم على الأريكة على معدته وخصلات شعره مُبعثره، يُحاول رحيم أن يوقظه بهدوء لكنه لم يستجيب.
"أنس اصحى في حاجة مهمة، يا ابني أنت!!" صاح رحيم على غير المُعتاد لكن الآخر لم يستجيب كذلك لذا لم يجد رحيم خيارًا آخر سوى دفع أنس من أعلى الأريكة ليسقط على الأرض بقوة.
"أيه في أيه البيت بيقع ولا أيه؟!!"
"اه في زلزال، قوم يا أنس خد Shower 'استحم' وألبس حاجة مُريحة عشان مسافرين."
"نعم يا أخويا؟ مسافرين فين إن شاء الله؟"
"هنرجع London ضروري."
"طيب لندن أيه الساعة عشرة الصبح؟ ممكن تفهمني في أيه؟" سأل أنس بغيظ وهو يُبعد خصلات شعره عن عيناه ويقوم بتعديل وضع السلسة الفضية خاصته.
"هفهمك لما نوصل، بسرعة عشان منتأخرش ال Tickets 'التذاكر' اتحجزت لينا بصعوبة عشان نعرف نسافر النهاردة."
"رحيم هو أروى حصلها حاجة؟ متخبيش عليا لو في حاجة قولي.. هي حالتها بقيت أسوء طيب؟"
سأل أنس عدة أسئلة متتالية وقد أغرورقت عيناه وهم بالبكاء بدون سابق إنذار ليقترب رحيم منه وقد كوب وجه أنس بين يديه وهو يُردف:
"بس Calm down she is fine 'اهدأ إنها بخير' أحنا مسافرين عشان هي أتحسنت، كلكوني من هناك وال Assistant 'المساعدة' بتاعتي هناك أول لما عرفت الكلام ده إمبارح خلت حد يحجزلنا تذاكر."
"بجد؟ اتحسنت ازاي طيب؟ فهمني؟ أنت ليه مش بتقولي كل حاجة مرة واحدة بتنقطني معلومة معلومة!"
"ما هو أنت مش مديني فرصة أتكلم يا أنس!!! اصبر ثواني وأنا هقولك، الدكتور بعتلي مسدچ قالي أنهم لاحظوا تحسن في إيقاع المخ وفي إستجابة بشكل مبدأي."
"يعني هي كده هتفوق؟"
"قريب إن شاء الله، أنا حجزتلنا Tickets 'تذاكر' عشان نسافر النهاردة نطمن عليها بنفسنا."
أوضح رحيم وقد نمت على شفتيه ابتسامة صغيرة حينما قدم المشيئة لا إراديًا لأنه اعتاد أن يسمع أفنان تقول 'إن شاء الله' في كل جملة تقولها تقريبًا، انتبه رحيم إلى الحماس والتوتر البادي على وجه أنس الذي تركه وهرول ناحية دورة المياه ليُبدل ثيابه دون أن يتفوه بحرفًا واحد.
"أنا جاهز."
"وأنا كمان بس ثواني الدادة بتجهزلنا هدوم."
"مش مهم نبقى نشتري من هناك يلا بس عشان منتأخرش."
"لسه بدري على ميعاد الطيارة يا أنس، عمتًا أحنا مش هناخد حاجات كتير هي شنطة واحدة لينا أحنا الأتنين ونجيب اللي نحتاجه من هناك."
"أنا خايف تفتح عينيها ومتلاقينيش جنبها، عايز أكون أول حد تشوفه لما تصحى."
"متقلقش هنوصل على طول إن شاء الله، خلاص كفاية تأثر بقى عشان مشاعري رُهيفة." تفوه رحيم بنبرة ساخرة وهو يبتسم نصف ابتسامة ليُلقي عليه أنس أحدى الوسادات وهو يتمتم:
"لا بس حلوة رُهيفة دي عرفتها منين؟"
"فيلم غالبًا، واستنتجت معناها، يلا كفاية رغي وتعالى نشوف الدادة خلصت التحضيرات ولا لا."
في مساء ذلك اليوم وصل رحيم وأنس إلى وجهتهم بعد رحلة طيران دامت لخمسة ساعات بالإضافة إلى ساعتين تقريبًا للوصول إلى المستشفى، كان رحيم قد طلب من أنس أن يذهبوا إلى الفندق أولًا كي يرتاح أنس قليلًا من السفر لكن أنس رفض رفضًا تامًا حتى أنه لم يضع شيئًا في فمه منذ أن استيقظ لذا رحيم كان يخشى أن يفقد وعيه.
"أنس أنا عايزك تتصرف بهدوء متنساش أننا في مستشفى وهي Still 'مازالت' مريضة."لم يُعلق أنس لكنه أومئ بهدوء، ترك أنس رحيم وذهب برفقة الممرضة كي ترشده إلى الغرفة حيث توجد شقيقته.
دلف أنس إلى الحجرة بخطواتٍ بطيئة وأقدام مُرتعشة، كانت نائمة هي على السرير الأبيض الذي يُشبه نقاء قلبها تمامًا، ملامحها الهادئة التي تُشبه إلى حدٍ كبير خاصة أنس عدا أن خصلات شعر أنس كانت داكنة أكثى من خاصتها، كانت بشرتها التي تميل إلى السمار شاحبة كثيرًا وكانت هناك آثار لبعض الندوب التي شُفيت لكنها قد تركت علامة، دنى أنس منها وبدأت عبراته في الإنهمار لا إراديًا راسمة خطوط متعرجة على وجنتيه، قبل أنس يد شقيقته لتهرب شهقه من فمه وهو يدعو الله بداخله أن تستيقظ شقيقته، أن تضمه مرة آخرى، أن تُطربه بصوتها الحنون وأن يسمع أسمه من بين شفتيها مجددًا.
"وحشتيني أوي يا أروى.. أنا وحش أوي من غيرك.. أنا ولا حاجة أصلًا من غيرك، العالم مكان وحش أوي ومُخيف بس أنتي كنتي دايمًا بتحميني، أنا محتاجلك تحميني دلوقتي يا أروى.. بس مش من العالم، من نفسي..."
قامت أروى بتحريك أصبع السبابة خاصتها، حركت جفونها ببطء شديد لكن دون أن تفتح عيناها بصورة فعلية، لكن ذلك كان كافيًا بالنسبة لأنس لتنتابه حالة من البكاء والضحك الهستيري وهو يُقبل رأس شقيقته بينما يتمتم:
"أنتي سمعاني صح؟ أنا عمري ما هبعد عنك أبدًا، أنتي نور عيني يا أروى.. أنا هفضل هنا جنبك لحد ما تخفي ونرجع بيتنا سوا."
قطع تلك اللحظات المؤثرة دخول أحدى الممرضات وقد طلبت من أن أنس أن يرحل نظرًا لإنتهاء الوقت المُحدد للزيارة، كفكف أنس دموعه واتجه نحو الخارج ليجد رحيم قد غفى على الكرسي أثناء انتظاره لأنس، كان رحيم قد أسند رأسه على الحائط وقد ضم كلتا يديه إلى صدره بينما تبعثرت بعضًا من خصلاته على وجهه.
نظر نحوه أنس بمشاعر مختلطة، ربما الذنب لأنه قد أصر على رحيم أن يأتوا إلى هنا دون الحصول على قسطًا من الراحة أو ربما لأنه جعل رحيم يغادر مصر في رحلة ليست بقصيرة مرتين في فترة متقاربة، لكن الشعور الذي كان يغلب على قلب أنس هو الإمتنان والشُكر.. فهو لا يدري إن لم يكن رحيم بجانبه ماذا كان سيحدث له أو لشقيقته؟ لولا وجود رحيم لم يكن أنس ليصمد يومًا واحد في حياته البائسة تلك ولولا رحيم ما كان أنس ليحاول الإقلاع عن شرب الخمر، ابتسم أنس ابتسامة صغيرة قبل أن يُقبل كتف صديقه بإمتنان قبل أن يهمس:
"رحيم.. رحيم أصحى يلا عشان نروح."
"أنت كويس؟ فيك حاجة؟"
"أنا تمام متخافش، أنت بس راحت عليك نومة وأنت قاعد حقك عليا."
"الحمدلله أنك بخير، let's go home 'لنذهب إلى المنزل'."
تفوه رحيم ليومئ أنس ويغادر كلاهما المكان متجهين إلى منزل عائلة البكري، فور وصولهم أخذ رحيم يتأمل المكان بينما زينت وجهه ابتسامة صغيرة، فهو لم يأتي إلى هذا المنزل منذ مدة طويلة فحينما جاء في المرة السابقة برفقة أنس كان قد قام بحجز جناح في أحدى الفنادق لكن هذه المرة كرر المكوث في المنزل فهو لا يدري كم يومًا سيلبث هنا حتى يُقرروا العودة إلى مصر.
كان الطقس باردًا في لندن مقارنة بمصر، لذا قرب رحيم ثوبه على جسده مُستشعرًا بعض الدفء بينما يُلقي نظرة شاملة على المنزل، ذلك المنزل المبني على الطراز الإنجليزي حيث قضى معظم أوقات طفولته هنا.
"ولا يا رحيم فاكر حفلات أعياد الميلاد اللي كنا بنعملها هنا."
"فاكر طبعًا هي دي حاجة تتنسي؟ وال Balloons 'البالونات' اللي كنا بنحطها في الPool 'حمام السباحة' والزينات بقى، كانت حاجة مُبهرة جدًا وقتها."
تحدث رحيم بحماس شديد وهو يلتفت حول نفسه كطفلًا صغير ليتمتم أنس بسخرية:
"كانت أيام حلوة.. يارب ما نعيش زيها تاني."
"أنت مجنون يا ابني ولا أيه؟"
"لا أصلي افتكرت النكد اللي فريد كان بيعمله بس على الأقل كنت لسه صغير ومش فاهم حاجة."
"خلاص سيبك من السيرة دي خالص وشوف أي Menu 'قائمة طعام' وأطلبلنا حاجة ناكلها."
"اشطا ماشي."
قال أنس وذهب لتنفيذ ما طلبه رحيم منه بينما اتجه رحيم نحو المطبخ ومنه إلى الباب الزجاجي الجرار الذي يؤدي إلى الحديقة الخلفية والمسبح، أخرج هاتفه وقام بالإتصال بذلك الرقم الذي قد حفظ أرقامه لا إراديًا، جرس.. اثنين.. ثلاثة...
كانت أفنان تستعد للخلود إلى النوم لكن قبل أن تفعل قاطعها صوت رنين هاتفها برقم دولي مجهول، عقدت حاجبيها وهي تنظر نحو الهاتف بكسل قبل أن تُجيب وهي تُردف بتملل:
"ايوا مين معايا؟"
"أفي ده أنا.. رحيم، أنا أسف جدًا على اللي..."
لم تستمع أفنان لحرفًا آخر، فبمجرد أن استوعب عقلها من المتحدث أنهت المُكالمة على الفور وقامت بحظر الرقم، نبضات قلبها تسارعت وشعرت بالدموع تُحارب كي تتجمع في عيناها بينما قاومت هي جاهدة، قامت بفتح تطبيق 'الواتساب' وألغت الحظر عن رقم رحيم ثم أرسلت له الآتي بأصابع مُرتجفة وأنامل باردة:
"بعد إذنك متكلمنيش تاني وياريت تمسح رقمي وتنسى أنك كنت تعرفني، أنا معنديش أي استعداد أعمل حاجة غلط تاني وشكرًا على كل حاجة عملتها عشاني، ودي آخر رسالة هبعتهالك."
__________________________________
(تذكره: اللهم صلّ صلاة كاملة وسلّم سلاما تاماً على سيدنا محمد النبي الأميّ الذي تنحل به العقد، وتنفرج به الكرب، وتُقضى به الحوائج، وتنال به الرغائب وحسن الخواتم، ويستسقى الغمام، وعلى آله وصحبه عدد كل معلوم لله.)
الفصل الثلاثون: تَعْنِيف 🤎🦋✨
"بعد إذنك متكلمنيش تاني وياريت تمسح رقمي وتنسى أنك كنت تعرفني، أنا معنديش أي استعداد أعمل حاجة غلط تاني وشكرًا على كل حاجة عملتها عشاني، ودي آخر رسالة هبعتهالك."
أرسلت أفنان الرسالة ثم ألقت بهاتفها بعيدًا قبل أن تجلس وتضع رأسها بين كلتا يديها وهي تُعيد خصلات شعرها نحو الخلف بقوة قبل أن تجش في البكاء لا إراديًا، لا يمكنها تخيل ردة فعل رحيم على تلك الرسالة..
لم يعد يهم ذلك الآن فلقد قطعت صلتها به بصورة نهائية لكن هناك جزء بداخلها كان يتمنى أن يحزن رحيم لقراءة تلك الكلمات؛ يحزن رحيم فيتحرك خطوة نحوها.. يقترب أكثر ولكن بالطريقة الصحيحة، صفعت أفنان نفسها داخليًا وهي تحاول جعل نفسها تفيق من الأوهام فمؤكد أن رحيم لن يهتم، سينساها بكل تأكيد، سوف ينشغل وسيجد فتاة غيرها بلا شك.
قطع بكاءها صوت رنين هاتفها لتمسكه بضيق ظنًا منها أنه رحيم يحاول من رقمًا آخر لكنها صُدمت حينما رأت أن المتصلة ريماس! لم تهاتف ريماس أفنان منذ عام ألفان وعشرة حينما حصلت كلتيهما على هاتف محمول لأول مرة! عقدت أفنان حاجبيها وهي تزفر بضيق بينما تُتمتم بحنق:
"مش فايقالك دلوقتي خالص يا ريماس." قامت أفنان بكتم صوت الرنين لكن ريماس لم تنفك تتصل بها، قامت أفنان ب 'كنسلة' المكالمة لكن ريماس اتصلت مجددًا لتشعر أفنان بأن هناك شيئًا خاطئ، بغض النظر عن كون اتصال ريماس مُريبًا في حد ذاته لكن إصرارها جعل الأمر أكثر ريبة.
تنهدت أفنان وقد سلمت أمرها إلى الله وقررت أن تعاود الإتصال بريماس وقبل أن تتفوه بحرفًا واحد جاءها صوت ريماس مرتجفًا مذعورًا من الجهه الآخر وهي تُردف بنبرة مُترجية:
"أفنان ممكن تنزلي تقابليني دلوقتي من فضلك؟ أنا محتاجة حد جنبي.."
"مال صوتك أيه اللي حصل؟" استفسرت أفنان بقلق فصوت ريماس لم يكن مطمئنًا بتاتًا.
"بصي أنا هبعتلك Location 'موقع جغرافي' كافية نتاقبل فيه واطلبي أوبر متتأخريش عليا وأنا هديكي حقه."
"أيه يا بنتي الهبل ده؟! أنا جايه بس يارب بابا يوافق.. أكيد هيوافق لما يعرف أني هقابلك."
"لا يا أفنان أوعي تقوليله أي حاجة..."
"طيب حاضر.. حاولي تهدي شوية لحد أما أجي."
"رايحة فين يا أفنان؟" سألها والدها حينما رأها تبحث عن وشاح رأسها على الأريكة، توترت هي على الفور وأجابته بتلعثم:
"هقابل صاحبتي.."
"اسمها أيه؟ وتعرفيها منين؟ وهتتقابلوا فين وهترجعي أمتى؟"
باغتها والدها بعدة أسئلة متتالية لتجفل هي لدقيقة قبل أن تسأله بعبوس:
"أنت يا بابا عمرك ما سألتني كل الاسئلة دي... للدرجة دي مبقتش تثق فيا؟"
"أثق فيكي ازاي بعد ما كدبتي عليا وخبيتي عني موضوع الشاب ده."
"يا بابا أنا أسفة والله ووعدتك أني مش هعمل حاجة زي دي تاني.."
"أنا قولت اللي عندي."
"طيب.. أنا نازلة أقابل ريماس."
"يعني مش صاحبتك ولا حاجة.. يعني كنتي هتكدبي تاني! شكلك اتعودتي عالكدب بقى." وبخها والدها بنبرة لائمة لتقوس أفنان شفتيها قبل أن تُفسر له بصدق:
"والله صدقني ريماس هي اللي طلبت مني مقولش لحد أنها عايزة تقابلني."
"هو في حاجة حصلت ولا أيه؟ عمتك بخير؟" سأل والدها بلهفة لتبتسم أفنان ابتسامة صغيرة، كيف لوالدها أن يقلق بتلك الدرجة على عمتها بالرغم من كل ما فعلته.
"لا عمتو بخير غالبًا يعني.. أنا مش فاهمة حاجة، هعرف في أيه وهطمن حضرتك."
أومئ والدها بهدوء وسمح لها بالذهاب، بعد خمسة وأربعون دقيقة تقريبًا كانت أفنان تجلس داخل المقهى الذي قامت ريماس بإرسال موقعه، دلفت نحو الداخل لتجد ريماس جالسه في سكون تحتسي من كوب القهوة الذي أمامها بحركة أشبه بالإنسان الآلي، كانت ترتدي نظارة شمسية كبيرة بالرغم من أن الشمس تكاد لا تصل إلى داخل المقهى، لم تهتم أفنات كثيرًا فربما فعلت هي ذلك على سبيل التفاخر كعادتها، أقتربت منها أفنان وهي تُردف بحنق:
"ريماس أنتي كويسة؟ الله! ما أنتي زي القردة أهو يا شيخة كنتي هتقطعيلي الخلف بسبب المكالمة دي!"
صاحت أفنان بنبرة توبيخ وهي تُطالع ريماس بغيظًا شديد لكن ريماس لم تتفوه بحرفًا واحد بل قربت ثيابها من عنقها ومن ثم قامت بجذب أكمام قميصها، شعرت أفنان بالريبة وسرعان ما تبدلت ملامح وجهها للقلق وهي تسأل ريماس بصوتًا خافت:
"ريماس هو.. أنتي.. فيكي أيه؟" بمجرد أن سألت أفنان خلعت ريماس نظارتها الشمسية الكبيرة لتظهر كدمه كبيرة بنفسجية بالقرب من عيناها، ومن ثم قامت بفتح الزر الأول من قميصها لتظهر آثار خربشة على عنقها، تقوم بعد ذلك بفك أزرار أكمام قميصها وتزيحه لتظهر علامات زرقاء داكنة في مناطق متفرقة من يدها، تنهمر دموع ريماس لا إراديًا وهي تُردف بثبات لا يتناسب مع حالتها:
"عرفتي فيا أيه؟"
لم تشعر أفنان بنفسها سوى وهي تستقيم من مقعدها وتجذب ريماس في عناقًا قوي، لا تتذكر أنها عانقتها عناق مثله منذ أن كانوا أطفالًا صغار، تركت ريماس العنان لشهقاتها لتصدر من جوفها مُفصحة عن كم الآلم الذي قد كتمته في صدرها، بعد مدة فصلت أفنان العناق وقد كوبت وجه ريماس بينا يديها وهي تسألها:
"مين اللي عمل فيكي كده؟ قوليلي وأنا هطلعلك عين أمه!"
"فريد." نبست ريماس بصوتًا خافت لتتسع أعين أفنان وهي تصيح بغضب غير مصدقة ما تسمعه من الصدمة:
"نهار أبوه أبيض!!! أتجنن ده ولا أيه؟ بيضربك! بيضربك وأنتي ساكتاله يا ريماس؟!"
"هو بيحبني... أنا ساعات بعصبه بس هو وعدني هيتغير... أنا قولت لماما وهي قالتلي أن كل الرجالة كده وأني لو سمعت كلامه هيبطل يضربني."
كانت تتحدث ريماس بتلعثم وهي ترتجف بينما تنهمر دموعها بغزارة، طالعتها أفنان بأعين متسعة وفمًا يكاد يصل إلى الأرض من الدهشة والإستنكار، لا تصدق أن الحماقة والقسوة قد وصلت عند عمتها للحد الذي يجعلها تُفرط في صحة وكرامة ابنتها من أجل المال والمظاهر.
"طيب وباباكي؟ احكيله هو أكيد هيربي الحيوان ده وهيخليه يفسخ الخطوبة."
"بابا؟ هو فين بابا ده؟!" سألت ريماس بمزيج من الإستنكار والسخرية بينما نظرت نحوها أفنان بحيرة وشفقة، لا تدري بماذا تُعلق فقد وُضعت فهي في موقف لا تُحسد عليه، أمسكت ريماس بكوب المياه الموضوع أمامه وكاد أن يسقط من يدها الضعيفة لولا تدخل أفنان لتُمسك به بدلًا عنها وتساعدها في شرب كمية صغيرة من المياه لتُبلل شفتيها المُتشققة، تنهدت ريماس قبل أن تنبس بالآتي:
"عارفة يا أفنان، هقولك على حاجة.. لأول مرة في حياتي هتكلم معاكي بصراحة، أنا أغنى منك، اه أغنى منك متندهشيش كده." علقت ريماس ساخرة حينما لاحظت تعابير وجه أفنان المستاءه لما تقوله، تأففت أفنان لكن ريماس تجاهلت ذلك وتابعت حديثها مُردفة:
"وبابا مدلعني دلع مفيش حد في العيلة كلها اتدلع ولا هيدلع زيه، بيصرف عليا فلوس كتير، مش كده وبس لا أنا أحلى منك شكلًا كمان... ودخلت الكلية اللي على مزاجي وهعرف أشتغل بمرتب أضعاف مرتبك، العيلة كلها في صفي ومحدش بيكلمني نص كلمة..."
كانت ريماس تتحدث بفخر وتعالي لا يليق مع بريق عينيها بسبب الدموع التي غلفتها، استمعت أفنان بحديثها بتركيزًا وحيرة وهي تسأل نفسها ما غرض ريماس من قول ذلك؟ لكنها فهمت حينما أضافت الآخرى:
"بس طز في كل ده، كل ده ولا يفرق لأني عمري ما هيبقى عندي أسرة زي أسرتك، عمري ما هحس بالدفى في بيتنا الكبير الواسع، عمري ما هيبقى عندي أب حنين عليا وبيحبني أكتر من أي حاجة في الدنيا زيك... عمري ما هيكون عندي أم متفاهمة وراحتي أهم حاجة عندها مش المصلحة... عمري ما هيكون عندي أخت صاحبتي وبتهتم بيا، ده أنا يا حاسرة عندي أخ واحد ومسافر طول الوقت ومش بيسأل فيا... عارفة يا أفنان طول الوقت بنقعد نقول أنك بتحسدينا ونفسك في اللي معانا... بس الحقيقة أني أنا اللي بحسدك... أنا اللي بتمنى أكون مكانك..."
كانت نبرة ريماس صادقة لأول مرة، كانت تنهمر دموعها بغزارة وهي تتفوه بتلك الكلمات، أخذت تنظر نحوها أفنان بحيرة شديدة فكيف للفتاة التي كانت تتحدث بغرور وكِبر قبل ثوانٍ أن تبكي بتلك الطريقة وتتفوه بتلك الكلمات، لم تصدق أفنان أن ريماس التي كانت دائمة التنمر عليها وعلى شقيقتها تتحدث عن حياتها بهذا الشكل! لكن بالرغم من كل الغضب الذي كان داخل أفنان تجاه ريماس إلا أنها شعرت بقلبها يحترق من أجلها ففي النهاية وبالرغم من الخلافات مازالت تجمعهم صلة دمٍ وقرابة وقبل كل ذلك هي فتاة مثلها مثل أفنان.
نهضت أفنان من مقعدها بدون تردد وجذبت ريماس في عناقًا دافئ طويل، أخفت ريماس وجهها في كتف أفنان وأطلقت العنان لشهقاتها، كان الجميع من حولهم ينظرون إليهم بتعجب وفضول لكن أفنان لم تهتم كثيرًا، حاولت تهدأه ريماس قدر الإمكان وهي تتمتم:
"خلاص أهدي مفيش حاجة، محدش هيأذيكي تاني أنا جنبك وكلنا جنبك... أقعدي أشربي شوية مايه." أومئت ريماس بهدوء ليسود الصمت لبرهة وأفنان تحاول أن تفكر في حلًا لذلك المأزق الذي وضعت فيه ريماس قبل أن تُتمتم بقلة حيله:
"بصي مظنش حد هيعرف يساعدنا في الموقف اللي أحنا فيه ده غير بابا... بس أنا عايزة أعرف المشكلة دي بدأت من أمتى وازاي؟"
"لا لا متقوليش لخالو! مينفعش حد يعرف..."
ارتسمت تعابير التوتر والفزع على وجه ريماس حينما اقترحت أفنان أن تُخبر والدها، لم تود أفنان تُزيد من الضغط الواقع عليها؛ فلقد توقعت أفنان أن فكرة 'لوم الضحية' تُسيطر على عقل ريماس، هي الضحية هنا لكنها تظن أنه سيتم لومها على تعنيف فريد لها بالرغم من أنها المجني عليها وليست الجانية لكن ذلك الأسلوب مُتبع من قِبل عمتها بلا شك، لذا قالت أفنان بلطف وهي تضع يدها فوق خاصة ريماس:
"يا بنتي أهدي بس، طيب خلاص سيبك من موضوع بابا دلوقتي وأحكيلي."
"بصي هو.. هو لما جيه اتقدم وكده بعدها خرجنا مرة وكان لطيف أوي بس في واحد عاكسني وهو بدل ما يتخانق معاه اتخانق معايا أنا وقالي لبسك ضيق... في الأول فرحت بصراحة وأفتكرت أن دي غيرة عادي."
"كملي ياختي." تفوهت أفنان وهي ترفع أحدى حاجبيها بإعتراض، حمحمت ريماس ثم تابعت:
"وبعدها اختلفنا في كام نقطة، خلافات بسيطة والله... وفي مرة أتعصب جامد وضربني بالقلم على وشي.."
"إلهي يتشك في أيده البعيد!!"
"أنا عيطت واتصدمت جدًا... قعد يعتذرلي وباس ايدي وقالي أن دي غلطة ومش هتتكرر، اتكرر الموضوع طبعًا بقى يضربني على وشي ويشد دراعي جامد ويزغدني... طبعًا أنا قولت لماما وكان ردها زي ما قولتلك، بقيت أحط ميكب وألبس بكم عشان ميبانش آثار الضرب..."
"نهار أبوكي أبيض يا ريماس! دي مش ريد فلاجز، دي عواميد نور يا حبيبتي! وبعدين؟"
وبختها أفنان وهي تشعر أن عقلها قد توقف عن العمل فعقلها لا يستطيع استيعاب أن ما تسمعه يتم سرده بواسطة فتاة من فتيات عائلتها!
"كمان حاول قبل كده يقرب مني... وضربته بالقلم وسبته ومشيت..."
"يالهوي!!! أنتي ازاي ساكتة على حاجة زي كده؟! حصل أمتى وفين ده انطقي؟!!"
"يوم خطوبة ميرال تحت البيت عندنا، كنا في العربية بتاعته..."
"البجح الحقير! ده أنا هخرب بيته!" صاحت أفنان بغضب شديد وهي تُفكر في حلًا لردع ذلك الوغد فمهما صدر عن ريماس فهي مازالت لا تستحق ما يحدث معها، لا أحد يستحق شيء كهذا على أي حال.
"بقولك أيه... تعالي نمشي أنا عايزة أروح."
تمتمت ريماس بإرهاق، ثم قامت بطلب الحساب من النادل والذي لبى طلبها على الفور، وأثناء ما كانت تضع المال قاطعها أحدهم وهو يجذب ذراعها بقوة بينما يُردف مستنكرًا:
"أنتي ازاي تخرجي من غير ما تقوليلي؟! مش قولت مية مرة مفيش حاجة تتعمل بدون أذني!"
كانت تُطالعه ريماس بخوف وهي تُقرب يدها من وجهها كحماية كي لا ينهال عليها بالضرب، تستقيم أفنان من مقعدها على الفور وتحاول جذب ريماس من يده وهي تصرخ مُستنكرة:
"سيب ايديها أنت مجنون ولا أيه؟"
"أبعدي أنتي ومتدخليش يا شاطرة!" بصق كلماته بحنق وهو ينظر نحو أفنان ساخرًا قبل أن يعاود النظر نحو ريماس بإستياء، تتنهد أفنان بضيق وهي تُتمتم بهدوء في بداية حديثها:
"اه انت فاكرني بنت ناس بقى وكده، أوعي يلا بقولك بدل ما أعملها معاك!"
صاحت أفنان في نهاية حديثها وحاولت جذب ريماس بالقوة ليدفعها ذلك الأخرق بعيدًا من كتفها قبل أن يرفع يده وينهال بكفه على وجه ريماس لذا وبدون وعي رفعت أفنان ذراعها وهي تمسك بكوب الماء الزجاجي قبل أن تهوى على رأس فريد بقوة ليفقد إتزانه، تسحب يد ريماس وتجذبها وتجذب حقيبتها لتركض كلاهما بذعر شديد خارج المقهى بينما تُردف بأنفاس متقطعة:
"تعرفي يا ريماس أن الجري نص الجدعنة؟"
بعد مدة من الركض المتواصل جلست أفنان على أحد الأرصفة وهي تضع يدها على صدره بآلم محاولة تنظيم أنفاسها التي اضطربت بسبب كثرت الركض، همست لنفسها بسخرية:
"يارب مفيش في مرة حد ينقذني؟ أنا كل مرة اللي بنقذ الناس ولازم نجري ويتقطع نفسنا!"
كانت تُشير بحديثها إلى مُقابلتها الأولى مع رحيم حيث انتهى بهم الأمر وهو يهرولون بنفس الطريقة لكن الفارق أن ذاك السارق كان هزيل البنية وكان فاقد للإتزان بأي حال، لم يكن يُشبه عمود الإضاءة في طوله ولا باب الثلاجة في عرضه.
"أنا مش عارفة أشكرك ازاي بجد يا أفنان... أنتي خاطرتي بحياتك عشاني."
"لا هو أنتي لازم تشكريني فعلًا لأن البتاع اللي أنتي مخطوباله ده كان أحتمال يضربني أنا كمان!" سخرت أفنان لتنظر نحوها ريماس بعبوس وبشعور بالذنب بالرغم من أنه لا ذنبًا لها بطريقة مباشرة، رفعت أفنان رأسها لتنظر نحو الآخرى وهي تُردف:
"متزعليش أنا بهزر، وبعدين اتنيلي أقعدي جنبي بقى خيالتيني!"
"لا مش هينفع أقعد البنطلون لونه أبيض هيتبهدل أوي وبعدين أنتي مش شايفة الرصيف عامل ازاي؟" كانت ريماس تتحدث بجدية وهي تنظر بإشمئزاز نحو الأرصفة التي كساها الأتربة لتظهر ابتسامة جانبية على ثغر أفنان فلقد ذكرتها ريماس للمرة الثانية بأحدهم.
"طيب خليكي واقفة، أطلبيلنا عربية بقى تروحنا البيت."
"حاضر." ساد الصمت لثوانٍ قبل أن تقطعه أفنان وهي توبخ ريماس قائلة:
"ريماس أنا مش متخيلة ازاي ارتبطتي بالبني آدم ده، ده على اعتبار أنه بني آدم أصلًا، ده خطر جدًا يا بنتي!"
"أهو اللي حصل بقى.."
" لازم نصلح اللي حصل، أنتي لازم تفسخي خطوبتك معاه فورًا ولو فضل بينطلك في كل حتة كده نعمله محضر عدم تعرض."
"عدم تعرض أيه يا أفنان أحنا اللي ضربينه!"
صاحت ريماس بإنفعال لا يخلو من السخرية لتنظر نحوه أفنان بإزدراء وهي تُعلق على حديث ريماس قائلة:
"ما هو كان بيعتدي عليكي بالضرب يا ذكية! وبعدين أنتي مش محتاجة كشف طبي أساسًا ده لو حد اعمى هيشوف الضرب اللي على جسمك."
"العربية وصلت، هوصلك البيت وأرجع على بيتنا وهشوف هعمل أيه وهكلمك..."
"لا! أحنا هنوصلك أنتي الأول عشان اطمن عليكي وبعدين هبقى أتصرف وأروح أنا."
اضطربت مشاعر أفنان وكأنها في حاجة إلى ذلك! فلقد كان يكفيها اضطراب المشاعر الذي تسبب فيه رحيم وما حدث مع والدها، لكن لا مجال للتراجع الآن فإن ريماس تعتمد عليها في إيجاد حلًا للمشكلة التي وقعت بها.
"منك لله يا ريماس نكدتي عليا هو أنا ناقصة!!"
عادت أفنان إلى المنزل والذي كان هادئًا على غير المعتاد، في العادة من يتسبب في الضجيج هي أفنان ذاتها لكن على أي حال كان الفراغ يعم في المكان.
"ماما؟" نطقت أفنان بنبرة أقرب إلى السؤال لكن لا تتلقى إجابة وقبل أن تتحرك خطوة آخرى نحو الداخل وجدت أحدهم يضع يده على كتفها لتشهق بقوة وهي تصيح:
"بسم الله الرحمن الرحيم! حرام عليكي يا ماما حد يخض حد كده؟!"
"ما أنتي اللي داخله تتسحبي زي الحرامية وبعدين أنا شوفتك وأنتي تحت وفضلت أندهلك بس أنتي دماغك مش فيكي."
"مسمعتش معلش.. بابا فين؟"
"نايم شوية، ما تقوليلي أنتي وأبوكي مخبين أيه عليا؟"
سألتها والدتها بشك وهي تُضايق عينيها لتضمها أفنان بلطف وهي تُردف:
"مفيش حاجة يا مامتي يا حبيبتي، أنا داخلة أريح شوية."
جلست أفنان على سريرها وهي تتنهد بإرهاق وضيق، أمسكت بهاتفها وقامت بفتح تطبيق 'الواتساب' وأخذت تقرأ رسائلها هي ورحيم وكيف كان حديثهم لطيف ثم تصل إلى تلك الرسالة القاتمة حيث انتهى كل شيء، تُلقي الهاتف بجانبها بضيق ويقفز إلى عقلها شيء آخر لتحمل همه، ريماس! إن وضع ريماس كارثي وأفنان تشعر بالحزن من أجلها والذنب في الوقت ذاته لأنها لم تلحظ من قبل آثار الضرب أو حتى لم تلحظ هلع ريماس الواضح حينما تكون بالقرب من خطيبها، وماذا عن ميرال التي بدت مُريبة مؤخرًا بالتحديد من بعد خطبتها هي ونوح..
ووالدها.. آهٍ من والدها، لقد طال عِقابه ولم تعد أفنان تتحمل.. لا تدري كيف مرت تلك الأيام وهي لا تتحدث إلي والدها، كيف له أن يُعاقبها لكل تلك الأيام؟! وكيف له ألا يهتم بعدم تناولها الطعام أو ذبول وجهها في الأيام الماضية نتيجة لقلة التغذية واضطرابات النوم..
شعرت أفنان في تلك اللحظة بثِقل العالم كله يجثو فوق صدرها، حاولت التنفس بهدوء لكن ذلك كان صعبًا للغاية وبدون وعي منها انهمرت دموعها بغزارة وأخذت تُتمتم بضعف:
"يارب!" كانت هذه الكلمة الوحيدة القادرة على مغادرة فمها، كانت تعلم تمامًا أن الخلاص من عند الله وحده، لذا أخذت تدعو بداخلها أن تنصلح الأوضاع فما عاد قلبها قادرًا على تحمل المزيد من الحزن والضغط، فلقد أعتادت أفنان أن تُخفي كل المشاعر داخلها وأن تبني حائط من الثلج أمام الجميع لكن الكيل قد طفح ولم تعد تحتمل التظاهر مجددًا..
أخرجها من شرودها صوت باب حجرتها وهو يُفتح بهدوء بعد أن قام من فتحه بطرق الباب بخفة أولًا، علمت أفنان من صوت الطرقات المميزة وصوت الخطوات من يحاول الدخول لكن عقلها رفض التصديق.. والدها!
"بابا؟"
"وحشتيني أوي." تفوه والدها لتقفز أفنان من موضعها لتضمه في عناقًا دافئ ثم تجهش بالبكاء بين أحضانه بينما يربت هو على كتفها بلطف محاولًا تهدأتها.
"وحشتني أوي يا بابا! أهون عليك كل الأيام دي تتجاهلني وتحرمني من حضنك وحنيتك عليا؟"
"غصب عني يا أفنان، اللي حصل مكنش سهل برضوا."
"أنا أسفة يا بابا... أنا بجد أسفة وعارفة أني مهما اتأسفتلك مش هيبقى كفاية..."
"خلاص حصل خير يا حبيبتي حصل خير، أهدي." نبس والدها وهو يفصل العناق لكن أفنان جذبته مجددًا رافض فصل العناق ليقهقه والدها وهو يُعلق:
"أنتي عارفة أنك كنتي بتعملي الحركة دي من وأنت في الحضانة؟"
"حركة أيه؟" سألت أفنان بعفوية وهي تكفكف دموعها بأكمام ثوبها كالأطفال ليبتسم والدها قبل أن يُجلسها على السرير بلطف ويجلس أمامها بينما يُردف:
"كنت بحضنك وأنا ماشي من الحضانة وبعد ما ببعد بتشديني تحضننيني تاني، بصراحة دي كانت ألطف حركة بتعمليها وأنتي طفلة بس خلاص كبرتي وبقيتي بعيدة عن بابا وبتخبي عليه حاجات."
"يا بابا أنا..."
"أنا مش بتكلم معاكي دلوقتي عشان أقطمك، أنا بتكلم دلوقتي عشان نتناقش في اللي حصل، نعرف أحنا غلطنا في أيه عشان منكررش الغلط تاني."
تحدث والدها بنبرة جادة حازمة نسبيًا لكن لا تخلو من الحنان كذلك، زينت ابتسامة صغيرة ثغر أفنان وهي تعقب على حديث والدها قائلة:
"تمام يا بابا أنا عايزة اسمع كل اللي عند حضرتك."
"طيب مبدأيًا كده أنا كنت عارف كل حاجة ولا أنتي فكراني نايم على وداني؟" أفصح والدها لتتسع أعين أفنان بصدمة وتستقيم من مقعدها وهي تسأل والدها بإستنكار:
"نعم؟!! حضرتك عارف من الأول؟!!!"
"طبعًا! مش صعب عليا بعد العمر ده كله أني أخد بالي أنك متغيرة ومش صعب عليا برضوا أني أفهم أنه بسبب شاب، سألت ميرال أختك وأنتي عارفة هي من أول قلم بتعترف، يدوبك قولتلها هو في حاجة بين أفنان والولد اللي في التدريب حكتلي كل حاجة."
فسر والدها ما حدث وهو يضحك في نهاية حديثه لتُضيق افنان عيناها بغيظ وهي تهمس قائلة:
"اه يا ميرال الكلب!!"
"بنت عيب أختك الكبيرة! وبعدين اللي عملته مكنش غلط هي كانت خايفة عليكي، أنا اتأكدت من الموضوع من فترة مش بعيدة وكنت منتظر أنك تيجي تحكيلي لكنك خبيتي عليا وده خلاني أحس بالخزلان أوي يا أفنان"
"بس أنت يا بابا عقابك كان قاسي أوي... بس أنا عارفة أني غلطانة من ساسي لرأسي حقك عليا."
"عارف، عقابي كان أغلبه عشان أنتي خبيتي عليا مش عشان التصرف نفسه، أنتي غلطتي لكن لو كنتي جيتي عرفتيني على طول يمكن مكنتش هخاصمك لكن أنتي قررتي تداري وتبني بيني وبينك سور عمره ما كان موجود."
"أنا مكنش قصدي يا بابا... بس أنا أول مرة اتحط في موقف زي ده، أن ولد يلفت نظري يعني.. واتلغبطت ومكنتش عارفة أتصرف ازاي.."
"أنا عارف أنك كبرتي ومش كل حاجة بقى ينفع تتكلمي معايا فيها وحتى مراعاة لمشاعري كأب لكن كان ممكن تتكلمي مع مامتك مثلًا." تحدث والدها بنبرته المتفهمة المُعتادة لتبتسم هي بآلم فمازال شعورها بالذنب يحرقها من الداخل.
"يا بابا أنا لو حكيت لماما هصحى ألاقي أمة لا إله إلا الله كلهم عارفيين بالموضوع وأولهم خالتو وعيالها."
سخرت أفنان لكنها كانت محقة نوعًا ما ليقهقه والدها ثم يعاود التحدث بجدية مُردفًا:
"طيب سيبيك من اللي حصل وخلينا في اللي جاي، أنا مش عايزك تخبي عني أي حاجة تاني وأنا هدعمك في كل قرار وخطوة في حياتك طالما مفهاش حاجة تغضب ربنا أو حاجة تضرك."
"ماشي يا حبيبي وعد أني مش هخبي عليك، على فكرة أنا بعتله مسدچ قولتله أني مش هينفع أكلمه تاني وأن اللي حصل الفترة اللي فاتت كان غلط وعملتله بلوك وحتى الشهادة مش هروح أستلمها..."
"بصي يا أفنان، لو هو شاريكي فعلًا ومُعجب بيكي هيحاول بكل الطرق أنه يبقى معاكي بس الأهم أنه يحاول بالطرق اللي تصلح ليكي أنتي، بمعنى أنه أنتي مش من نوعية البنات اللي بتتصاحب على شباب فهو مش قدامه حل غير أنه يتقدملك."
"يتقدملي؟!!!" سألته أفنان بإستنكار فهذه المرة الثانية في مدة قصيرة التي يذكر فيها أحدهم أمر طلب رحيم ليديها! وهي تستنكر تلك الفكرة فهي واثقة أن رحيم لن يُقدم على خطوة كتلك، فالأمر لن يسير على نحو جيد بأي حال من الأحوال بالإضافة إلا أن رحيم سيمنعه كبريائه من التحدث إليها مجددًا بعد الرسالة الأخيرة.
"أيه الغريب في الموضوع؟"
"أصل أحنا منعرفش بعض كويس.. موصلناش للمرحلة دي يعني.."
"هو لازم يعني تعرفوا بعض كويس في الخباثة؟ مينفعش تعرفوا بعض أكتر وأنتوا مخطوبين والناس عارفة أن في ارتباط رسمي؟" سألها والدها بنبرة لا تخلو من الإستنكار وقد كان كلامه منطقيًا وصحيحًا.
"لا في دي عندك حق يا بابا... بس أصل رحيم مختلف أوي عننا، هو من عيلة كبيرة وأصلًا مش متربي في مصر والموضوع كله ملغبط..."
"لو هو حاسس بحاجة نحيتك يا أفنان هيتحدى كل الظروف والإختلافات دي عشان يبقى جنبك، وموضوع الشهادة ده سيبيه على جنب دلوقتي ممكن أبقى أبعتك مع نوح تاخديها."
"حاضر يا بابا، بس شكلي كده عمري ما هشوفه تاني طالما في تحدي ومواجهة وحركات.."
"لو نفسك في حاجة يا أفنان أتوضي وصلي ركعتين وأدعي ربنا باللي نفسك فيه وأنتي عندك يقين أن ربنا هيستجيب واللي فيه الخير ربنا يقدمه."
"ربنا يخليك ليا يا حبيبي حاضر هعمل كده... بابا في موضوع كده..."
"تاني يا أفنان؟!"
"لا مش أنا المرة دي... دي ريماس..."
على الجانب الآخر داخل المنزل الفاخر في بريطانيا، كان رحيم جالسًا على الأريكة ينظر إلى الرسالة التي وصلته من أفنان، كانت يده ترتجف بقوة؛ بسبب موجة الغضب والإستياء التي أحتلت كيانه قبل أن يستقيم من مقعده ويُلقي بهاتفه أرضًا بقوة غير مُبالي بهاتفه الذي تدمر تقريبًا، هرول أنس نحو الخارج لينظر نحو صاحبه الذي كان الحزن مُتملكًا من وجهه بصورة لم يراها هو من قبل، لقد كان رحيم غاضبًا، مُستاءًا ولكن ليس من أفنان ذاتها بل إلى كيف صارت الأمور بينهم وربما أصابه الضيق من عدم توضيحها لأسبابها أو ربما فعلت لكنه لم يستوعب بشكل كامل..
"أفنان.."
"مالها؟" سأل نوح بتملل فلقد أعتاد حديث صديقه حول أفنان لكن كان هناك شيئًا مختلف هذه المرة.
"لقد انتهينا 'We are over'."
"أيه اللي حصل؟" لم يُجيبه رحيم بل جلس على الأريكة وقد أخفى وجهه بيديه وهو يزفر بضيق بينما هرول أنس نحو هاتفه ليجد الهاتف يعمل بأعجوبة بغض النظر عن الشاشة التي تدمرت بشكلًا كبير، استطاع أنس بصعوبة أن يقرأ كلمات أفنان التي بدت قاسية من وجهه نظرة لكنها كانت منطقية وصادقة وهذا ما كان أنس قد حسب حسابه منذ البداية لكن رحيم لم يكن ليستمع له قط.
"أنس أنت عارف العربي بتاعي وحش.. أنا أكيد فهمت غلط صح؟ Is this a freaking joke 'هل هذه مزحة لعينة'؟!"
"رحيم أهدى هي أكيد عندها عذرها، أنا قولتلك من الأول أن ده هيحصل!" حاول أنس أن يُهدئ من روع رحيم لكن المحاولة فشلت، نظر نحوه رحيم بضيق وهو يزفر بحنق.
"أنس.. أنس! It's not the right time to blame me about anything 'أنه ليس الوقت المناسب لكي تلومني على أي شيء'."
صاح رحيم بنبرة موبخة ليتنهد أنس ثم يصمت، يُعيد رحيم خصلات شعره نحو الخلف بعصبية قبل أن يزفر بضيق ثم يسأل أنس الآتي:
"أنس أنت طلبت الأكل؟"
"أفندم؟"
"زي ما سمعت."
"أنت ليك نفس تاكل بعد المسدج دي؟ عمومًا لا لسه مطلبتش حاجة."
"كويس أنا هخرج أسهر مع ناتالي وغالبًا هتعشى معاها." تحدث رحيم دون ذرة تردد ليبدأ أنس وصلة 'ردح' وهو يسأله بصدمة:
"نعم ياخويا؟!! ناتالي مين؟! أنت بتستهبل يا رحيم؟!"
"اطلب أكل لنفسك ونام عقبال ما أجي، سلام."
تمتم رحيم بلا مبالاة وهو يتجه نحو الباب تاركًا أنس ينظر نحوه بإستياء شديد، غادر رحيم المنزل ثم هاتف ناتالي والتي رحبت بفكرة مقابلته وقضاء الليلة سويًا في أحدى الملاهي الليلية.
جلس رحيم أمام ناتالي فائقة الجمال، كان الجميع من حولهم يلتفت نحوها فلقد كان ثوبها كاشفًا نوعًا ما، فستان باللون الأزرق متماثلًا مع لون عيناها، طلبت من النادل إحضار كأسيين من الخمر لكليهما، لم يعترض رحيم حتى منحهم عامل البار كؤوسهم أخذ ينظر إلى الكأس بين يديه، شعر بغصه في حلقه.. أفنان كانت لتغضب منه كثيرًا إن رأته يحتسي الخمر وبالإضافة إلى أنه فعل محرم بغض النظر عن أنه شيء مُباح هنا، أطال رحيم النظر نحو الكأس بينما نظرت نحوه ناتالي بقلق.
"هل أنت بخير 'Are you okay'؟!"
"نعم، لكن لا رغبة لي في الشُرب، أنتِ تعلمين أنني لا أشرب مشارب كحوليه ''yes, but i don't feel like drinking, you know i don't drink alcoholl'."
"لقد ظننت أنكَ تغيرت 'i thought that you've changedd'."
"لقد فعلت، لكن للأحسن.. أظن 'i did, to the better.. I guesss'."
تفوه رحيم وقد تذكر كم التغير الذي طرأ على شخصيته منذ ظهرت أفنان في حياته، لقد نبهته إلى الكثير من الأشياء المُحرمة والخاطئة التي كان يفعلها عن جهل ولم تُبذل هي الكثير من الجهد في ذلك بل صححت مفاهيمه وهي تتحدث على ساجيتها، وضعت ناتالي يدها على وجه رحيم لينتفض الآخر مُبتعدًا فتُضيق حاجبيها بإستنكار.
مرة آخرى قفذ إلى رأس رحيم كيف أنه لم يلمس أفنان قبلًا وكيف كانت تترك مسافة بينهم، رفع عيناه ينظر إلى ناتالي، عيناها زرقاء وليست داكنة كخاصة أفنان، عيناها ضيقة وليست كعين المها مثل أفنان، بشرتها ساطعة البياض وليست باهتة كخاصة أفنان، ناتالي تمزح بكل إريحية ولا حياء عندها مثل أفنان..
لم يريد رحيم أن يسمع اسمه من فم التي تنطق بصعوبة نظرًا لوجود حرف 'الحاء' بل يُريد أن يسمع اسمه وهو ينساب من فم الفتاة التي أنقذته في مقابلته الأولى لها.
"ناتالي أنا أعتذر أنا متعب للغاية، سأقلكِ إلى المنزل ''Natalie i am sorry i am really tired, i will drive you home'."
حاولت الآخرى إقناعه بالبقاء لكن محاولاتها فشلت لذا انتهى بها الأمر وهي تطلب منه هو الرحيل بينما ستبقى هي مع أصدقائها في الملهى الليلي، كان رحيم في ذلك الوقت يقود بلا وجهه محددة ولقد تأخر الوقت بالفعل ولم يدري بنفسه سوى وهو يتوقف أمام مسجد شهير في لندن، أعتاد والده أن يصحبه إلى هذا المسجد في الأعياد والمناسبات الدينية حينما كان صغير، خطى رحيم خطوته نحو الداخل بتوتر شديد فكيف له أن يدلف إلى مكان بهذا الطهر وقد كان منذ دقائق في مكانًا مُدنس!
ذهب يبحث عن الجزء المخصص للوضوء وتوضأ سريعًا ثم عاد إلى منطقة الصلاة، شعر رحيم بثقلًا شديد على كاهله، الأمور تتعقد بشكلًا مؤلم، والدته تضغطه من ناحية ووالده من الآخرى بسبب العمل، ويشعر بالذنب والضيق من ناحية أفنان ولا يمكنه أن يشكو لأحد، لأن الوحيد الذي قد يستمع إليه هو أنس وأنس منشغلًا بالفعل في حياته المُبعثرة كذلك، الآن أدرك رحيم من الذي سيستمع لشكوته بل وقادر على حلها.. جثى رحيم على ركبتيه أرضًا وهو ينبس:
"يارب..." كانت هذه الكلمة الوحيدة القادرة على مغادرة فمه، كان يعلم تمامًا أن الخلاص من عند الله وحده...
بعد ساعة تقريبًا عاد رحيم إلى المنزل، دلف بهدوء لكي لا يوقظ أنس لكنه فوجئ بأنس نائمًا على الأريكة لا في الغرفة وبمجرد أن شعر أنس بحركة رحيم استيقظ على الفور وهو يسأله:
"أنت كويس؟"
"اه أنا كويس.. أيه اللي نايمك هنا؟"
"كنت مستنيك ترجع عشان اطمن عليك ولو نمت في الأوضة هسحب جامد في النوم."
فسر أنس ليذهب نحوه رحيم ويعانقه عناقًا صغير قبل أن يفصل أنس العناق وهو يستنشق رائحة رحيم وقد عقد حاجبيه ثم استفسر منه مجددًا:
"غريبة! هو مش أنت كنت مع ناتالي في Bar 'ملهى ليلي' غالبًا؟"
"اه كنت معاها."
"أومال لا ريحتك خمرة ولا ريحتك بيرفيوم حريمي يعني!"
"اه ماهو أنا محضنتهاش يعني.. وكمان مشربتش، أنت عارف أني مش بشرب." فسر رحيم بينما لم تختفي علامات التعجب من على وجهه.
"اه أنا عارف بس بصراحة توقعت منك أي حاجة بعد اللي حصل مع أفنان، أصلك مشوفتش نفسك.. أنت عينك كانت بتطلع شرار."
"أنس أنا كنت فاكر أني مُنبهر بأفنان... هي شخصيتها مُبهرة فعلًا، افتكرت الموضوع هيعدي يعني وحتى النهاردة قولت لنفسي أيه المشكلة أنها هتبعد؟ في بنات غيرها كتير بس لا... في غيرها كتير بس مفيش زيها!"
"أنت شكلك وقعت جامد أوي يا رحيم.."
"أنس أنا حرفيًا بحاول أشغل نفسي عنها بس هي مستحوذة على دماغي، كل ده وأنا أعرفها من كام شهر أومال لو قضينا سنين مع بعض كان هيحصل فيا أيه؟ أنا هتجنن عشان بقالي أسبوعين معرفش عنها حاجة..."
"ده أنت حالتك صعبة أوي! طيب قولي أيه أكتر ميزة في أفنان أو أيه اللي مخليك مرتاح ليها أوي كده؟"
"ببقى على طبيعتي معاها، بتحسسني أني انسان كويس... بتحسسني أني مقبول في الوقت اللي كل الناس بترفضني فيه... حاسس أني جنبها بكون شخص أحسن، خلتني أشوف في نفسي جوانب أنا مكنتش واخد بالي منها، أنا مُشتت جدًا بس هي قادرة تقلل جدًا تشتتي وتخليني مركز في حاجة واحدة."
تحدث رحيم بكل صدق وقد أطلق العنان لمشاعره للمرة الأولى، كان يتحدث بدون تفكير؛ كان ينطق بكل ما يخطر على باله، كان ينظر نحوه أنس بتعابير مُرتخية لكن جزء صغير داخله كان يشعر بالسعادة لأن صديقه المُقرب قد وجد الفتاة التي يُمكن أن تُصلح جروح الماضي.
"أيه هي الحاجة دي؟"
"هي..."
"رحيم هو أن واخد موضوع أفنان ده جد ولا أيه؟" سأله أنس بمراوغة يود أن يعرف إلى أين وصل به الهيام.
"أكتر حاجة أخدتها جد في حياتي، أنس أنا قررت أتهور..."
"رحيم أوعى تكون بتفكر في اللي جيه في دماغي!!!"
____________________________________
(تذكره: ربي إنك تعلم مافي نفسي وتعلم ماهو خير لي فأنت سبحانك علام الغيوب ربي قد فوضت لك أمري كله ، فدبرني احسن تدبير فأنت حسبي.)
لمتابعة باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله اضغط من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا