القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية فى حي الزمالك الفصل السادس والثلاثون والسابع والثلاثون والثامن والثلاثون والتاسع والثلاثون والاربعون بقلم ايمان عادل كامله

 



رواية فى حي الزمالك الفصل السادس والثلاثون والسابع والثلاثون والثامن والثلاثون والتاسع والثلاثون والاربعون بقلم ايمان عادل كامله



رواية فى حي الزمالك الفصل السادس والثلاثون والسابع والثلاثون والثامن والثلاثون والتاسع والثلاثون والاربعون بقلم ايمان عادل كامله


الفصل السادس والثلاثون: ألْمَاسّ🤎✨🦋


"خلاص يبقى أتصل بوالد البنت وحدد معاه معاد وكمان خلي حد يكلم الجواهرجي اللي بنتعامل معاه عشان يجهز أغلى شبكة عنده."


أعلن والد رحيم لتتسع أعين رحيم بحماس شديد تلم يجد التعليق المناسب على حديث والده لذا استقام من مقعده وانقض على والده في عناق حار ليُبادله الآخر العناق وهو يقهقه على طفولية ابنه.


"أنا هكلم أنس وهحل المشكلة وأنت شوف بقى هنقابل والد البنت أمتى، ياريت يبقى Weekend 'عطلة نهاية الأسبوع' عشان أنا عندي Meetings 'اجتماعات' طول الأسبوع الجاي."


"يووه! يعني لسه هنستنى للأسبوع الجاي؟؟" تذمر رحيم بغضب طفولي وهو يُعيد خصلات شعره نحو الخلف ليُطالعه والده بضحكة ساخرة وهو يسأله بإستنكار:


"مستعجل أوي؟ أومال لو قالك سنتين خطوبة هتعمل أيه؟"


"سنتين أيه لا طبعًا كتير أوي، هي بس تخلص جامعة ونتجوز على طول إن شاء الله."


"أنت بتقرر لوحدك؟ مش تسمع منها الأول، مش يمكن هي عايزة تطول فترة الخطوبة شوية عشان تتعرفوا على بعض أكتر؟" سأل والده ولقد كان مُحقًا لكن ذلك لم يخطر على بال رحيم بتاتًا فهو يظن أن أفنان تمتلك الحماس ذاته بشأن إتمام زواجهم في أقرب فرصة ممكنه.


"اه صح.. حضرتك عندك حق."


"متسبقش الأحداث أحنا هنروح عند الناس ونشوف هما في نيتهم أيه ومش هنختلف معاهم يعني."


"تمام حضرتك عندك حق.."


في عشية اليوم التالي جلست أفنان برفقة أبويها وشقيقتها لتناول طعام الغداء لكن قاطع ما يفعلونه صوت رنين هاتف والدها لتستقيم أفنان على الفور باحثة عنه، ضحكة ساخرة تصدر من ثلاثتهم على ما فعلته أفنان وكيف بدت ملهوفة.


"مين يا أفنان؟"


"بابا!! بابا رحيم بيتصل!" تفوهت أفنان بمزيج من الحماس والتوتر لكن باغتها سؤالًا من والدها جعل الدماء تهرب من وجهها وقد كأن سؤاله الآتي:


"أنتي حافظه رقمه؟"


"أيه؟ لا.. ده التطبيق اللي بيجيب اسم اللي بيتصل، يلا يا بابا قوم رد عليه."


"طب ما تستني يا بنتي ياكل ويكمله." علقت والدتها لتتأفف أفنان وهي تقول:


"يووه.. هو الأكل هيطير يعني؟"


"يعني وهو سي رحيم بتاعك ده هيطير؟"


"خلاص يا رانيا خلاص يا أفنان، هاتي أنا هرد عليه."


أخذ والدها الهاتف من يدها وغادر طاولة الطعام متجهًا نحو الشرفة ليتحدث بالداخل بعد أن أغلق الباب من وراءه، استقامت أفنان من مقعدها مجددًا وهي تتسلل بخطى هادئة محاولة التصنت على والدها ومعرفة الحوار الذي يدور بينه وبين رحيم لكن بعد المسافة النسبي وصوت والدها الهادئ لم يُمكنها سوى من سماع همهمه غير مفهومة.


"يا بنتي ودنك دي اللي هيخش فيها السيخ المحمي من التصنت! حرام وعيب كده اقعدي بقى." وبختها والدتها لتقلب أفنان عيناها بتملل بينما علقت ميرال ببعض الفضول:


"يا ماما ما تسيبيها تسمع عايزين نعرف."


"بس يا بنت أنتي كمان، تعالي أقعدي يا أفنان ولما أحمد يخلص هيجي يحكلنا كل حاجة." قالت والدتها لكن أفنان لم تُنفذ بل ظلت واقفة في موضعها وبمجرد أن لمحت طرف والدها أقتربت منه وهي تسأله بتوتر:


"ها يا بابا طمني؟"


"مش عارف أقولك أيه.."


"حصل حاجة ولا أيه؟ أهله مش موافقين؟ ولا هو غير رأيه ولا في أيه؟ يا بابا متخبيش عني!!!" 


"للأسف... هيجوا يوم الجمعة يا ستي، جهزي يا رانيا عشاء حلو بقى يومها عشان نعمل الواجب مع الناس."


تفوه والدها بنبرة حزينة في البداية لكن أنهى حديثه بنبرة مرحة لتقفز أفنان في موضعها ثم تنقض على والدها لتضمه بقوة وتُلثم وجنتيه ورأسه بالقبل.


"حرام عليك يا بابا وقعت قلبي!"


"لا وأنتي لسه قلبك هيقع ياختي."


"طيب يعني هو جاي مع مامته وباباه ولا أيه؟"


"هو قالي أنه هيجي مع باباه وأخوه ولا صاحبه ده اللي اسمه أنس."


"أنس تاني؟ الواد ده عامل زي القراده لازق في رحيم في كل حتة." تمتمت أفنان بصوتٍ منخفض، لم يستطع والدها تفسير ما تقوله لكن فهم أنها مُعترضة لذا علق عليها ساخرًا:


"أنتي على طول معترضة على كل الناس كده؟ ده شاب لذيذ أوي وشكله محترم برضوا."


"ما علينا، عايزين نبدأ ترويق بقى وكده."


"هنروق وهنعمل كل حاجة أنتي عايزاها وأنا هساعد معاكوا فأي حاجة تحتاجوها بس الأول خدي الفلوس دي وأنزلي أنتي وميرال هاتوا فستان جديد ليكي.. أي فستان يعجبك ولو الفلوس مكفتش خدي من ميرال وأنا هبقى أديها تاني."


"ربنا يخليك يا حبيبي شكرًا، بس ده كتير أوي يا بابا."


"هو أولًا مفيش حاجة تغلى عليكي، ثانيًا بقى رحيم قالي أنه لو اتفقنا مع باباه ممكن نقرأ الفاتحة وننزل نشتري الشبكة."


حالما سمعت أفنان ما قاله والده شعرت بنبضات قلبها تتزايد بقوة ووجنتها على وشك الإشتعال من فرط الحماس والصدمة في الوقت ذاته، عقلها يأبى استيعاب أنها حقًا على بعض خطوات من أن تكون في علاقة رسمية ذات مسمى بينها وبين رحيم.. ومجددًا وبدون وعي أطلقت أفنان زغرودة عالية ليقهقه ثلاثتهم على تصرفاتها الغير مُعتادة مؤخرًا.


"أظن بقى لازم خالتك تبقى معانا، مش معقول هننزل نشتري الشبكة من غير خالتك."


"يختاي يا ماما ملحقتش أفرح حرام عليكي، خالتو مين اللي هتيجي معانا؟ هو أحنا رايحين الصاغة اللي تحت بيتنا؟ أكيد يا ماما هنجيب دهب من حتة بعيد وهما هيخدونا معاهم بالعربية مثلًا فمينفعش نفرض عليهم إن ناس تانية تيجي معانا وبعدين أفردي مثلًا عزمونا عالعشاء ولا عملنا حاجة بعدها؟"


"أفنان عندها حق في النقطة دي، أنا عارف أنك فرحانة وبتحبي تشاركي أختك فرحتك أنا كمان طاير من الفرحة ونفسي نشارك الحبايب كلهم بس استني لما القاعدة تتم على خير ونبقى نقعد شهرين تلاتة نحتفل بالخطوبة يا ستي." أردف والد أفنان مؤيد حديثها ليتجهم وجه والدتها ثم  تقول بغضب طفولي:


"ماشي بس خليك عارف يا أحمد أنك كل مرة بتيجي عليا عشان خاطر بناتك."


"أنا أقدر برضوا يا رورو؟ طب أيه رأيك بقى إن أنا وأنتي هننزل نتمشى ونجبلك طقم جديد ما هو أنتي أم العروسة برضوا ومن حقك تدلعي."


"أيوا يا ست ماما بابا بيدلعك أهو عشان ميبقاش ليكي حجة.. ولا أيه يا ميرال معمولة Silent 'على وضع الصامت' ليه كده؟"


"مفيش نوح بيكلمني." تمتمت ميرال بنصف انتباه وهي تقرأ الرسائل التي أرسلها نوح وقبل أن تُجيبه كان قد هاتفها بالفعل، استقامت ميرال من مقعدها بحماس لتقلب أفنان عينيها بعدم رضا وهي تزفر بضيق.


بعد مرور بضع دقائق عادت ميرال للجلوس وعلى وجهها ابتسامة واسعة وهي تُردف:


"بابا ممكن بعد إذنك نوح يعدي علينا بعد بكرة آخر النهار نخرج؟ وهياخد ماما وأفنان معانا كمان وأهو بالمرة نشوف اللبس الجديد."


"ماشي مفيش مشكلة."


أردف والدها لتتسع ابتسامة ميرال في حماس طفولي، زمت أفنان شفتيها وهي تُفكر هل نوح لا يُطيق قضاء وقته مع ميرال وحدهم؟ بغض النظر عن كون جلوسهم وحدهم أمرًا صائب أم خطأ، لكنه لا يحاول حتى قضاء الوقت معها ومنحها بعض الإهتمام دون أن يُقحم أفنان بينهم، ودت أفنان أن تعترض على ما قيل لكنها علمت أن ذلك لن يُجدي نفعًا بل سيتسبب في شجار بينها وبين والدتها وشقيقتها.


"سلام عليكوا، ازيك يا خالتو.. ازيك يا أفنان، ازاي القمر اللي زعلان مني؟"


"أيه ده أنتوا زعلانين من بعض؟" سألت والدة أفنان ببعض الدهشة لتتسع أعين ميرال ثم تُخفي وجهها بيدها.


"أيه ده هي ميرال محكتش؟ أصيله يا ميرال والله هتبقي زوجة صالحة بتداري أسرار بيتك وكده." علق نوح بنبرة ساخرة ممازحًا ميرال لتنظر نحوه أفنان بإزدراء وكأنها على وشك التقيؤ.


"أيه يا ميرال أنتي لسه زعلانة بجد ولا أيه؟ ما تفكي التكشيرة الوحشة دي ده أنا حتى جايبلك هدية."


"بجد؟" سألت ميرال بحماس شديد وقد ارتسمت ملامح السعادة على وجهها وذلك ليس بسبب شراءه هدية من أجلها فميرال لا تهتم كثيرًا بالماديات بل ما جعلها سعيدة هو أنه قرر فعل شيء لمصالحتها.


"جبتلك دي." تمتم وهو يُخرج من أحدى جيوبه عُليه قطيفة حمراء صغيرة، منحها لميرال والتي أخذتها منه على استحياء لتفتحها على الفور فتجد بداخلها سلسال فضي يحمل حرف ال N وقد تشابك مع حرف ال M، أي الحرف الأول من اسمها واسمه باللغة الإنجليزية، لمعت عين ميرال وهي تتأمل الهدية بينما ينظر نحوها نوح بإبتسامة صغيرة.


"كليشية أوي." تمتمت أفنان لتضربها والدتها بخفة وهي  تُردف:


"ربنا يخليكوا لبعض يا حبيبي تعيش وتجبلها."


"ربنا يخليكي يا خالتو، ها يلا بينا؟" تمتم نوح قبل أن يدلف داخل السيارة ويتبعه ثلاثتهم.


بعد مرور ثلاثة ساعات تقريبًا من السير المتواصل والتجول داخل المحلات وجدت أفنان ما تبحث عنه، ثوب فضفاض باللون الأرجواني الزاهي يزينه حزامًا من اللون ذاته بالقرب من منطقة الخصر ووشاح للرأس يحوي أشكالًا عشوائية رقيقة مزيج من لون الفستان وبضع ألوان آخرى.


"أنا تعبت من اللف أنا هستناكوا عند العربية، وبالمرة أحط الفستان عشان ميتبهدلش مني." نبست أفنان وهي تتنهد بتعب، أومئ كل من والدتها وشقيقتها أما نوح فقرر مرافقتها وهو يقول:


"هقف معاكي عشان محدش يضايقك."


"يا عم أتنيل هو حد يقدر." همست أفنان ساخرة وهي تتجه نحو السيارة لتستند عليها بينما تنظر إلى داخل الحقيبة بإبتسامة واسعة بلهاء وهي تتخيل ردة فعل رحيم حينما يراها في هذا الثوب في ليلة الجمعة لكن اخرجها من تخيلاتها صوت نوح الهادئ والذي لا يخلو من الإستياء الواضح قائلًا:


"عمري ما شوفتك فرحانة ولا متحمسة لحاجة بالشكل ده قبل كده، حتى لمعت عينيك دي أول مرة أشوفها."


"طب الحمدلله، مش دي حاجة المفروض تفرحك يعني ولا أيه؟"


"طبعًا تفرحني، ولازم تفرحك أنتي كمان ما هو مش هتفرحي ازاي وأنتي هيبقى معاكي ڤيلا وعربية وهتاخدي لقب أفنان هانم، مش هو ده اللي كنتِ بتسعي ليه من الأول؟ مش حتة مُعيد كحيان بياخدله كام آلف آخر الشر."


بصق نوح كلماته القاسية بنبرة مزيج من الإنكسار والغرور والكِبر في آن واحد، امتعض وجه أفنان فورًا قبل أن تفتح ثغرها لتوبخ نوح لكن الأمر استغرق بضع ثوانٍ وهي تحاول الحفاظ على رباطة جئشها لكن انتهى بها الأمر وهي تنفجر في وجه نوح موبخة إياه قائلة:


"أنت ازاي بتفكر كده؟ بتحسب الأمور ازاي؟ من أمتى وأنا نظرتي مادية للأمور يا دكتور يا محترم؟ أنا طول عمري بدور عالإحترام، الأمان والتقدير في الطرف التاني وأنا عمري ما لاقيتهم غير من رحيم.. خد بالك رحيم مش انسان ساذج ولو أنا كنت طمعانة فيه ولا حاطه عيني على فلوسه كان هيقفشني من أول مرة لأن رحيم ياما اتحط في مواقف زي دي، والمعيد الكحيان اللي أنت بتقول عليه ده مينفعنيش ولا عمره كان هينفعني سواء في وجود رحيم أو عدمه."


"ليه بقى؟ فيا أيه غلط؟ فهميني!" سأل نوح مُستنكرًا لتنظر نحوه أفنان بغضب شديد بينما يحاول عقلها استيعاب تلك المحادثة التي تجري الآن..أجابته أفنان بنبرة أقرب إلى الصراخ قائلة:


"فيك أن أنت خطيب أختي! فوق بقى يا نوح فوق! أنت واعي لنفسك ولا الكِبر والغرور والأنانية عموك ولا أيه؟"


"أنتي! أنتي عميتيني!"


"وأنا كنت وعدتك بإيه أصلًا ولا عمري قولتلك أيه؟ أنت انسان مريض يا نوح وأحسنلك تبعد عن أختي يأما والله هتشوف مني وش مش هيعجبك أنت فاهم! شكل وحشك أوي القلم اللي خدته مني قبل كده." لم يكن حديث أفنان مجرد تهديد فهي قد اكتفت من هراء نوح ولن تسمح له بجرح شقيقتها واحزانها مرة آخرى.


"في أيه؟ أنتوا كويسين؟" سألت ميرال بشك فور عودتها إليهم بغتة لتنظر نحوها أفنان بصدمة وثغر مفتوح وهي لا تدري ماذا عساها تقول..


"أحنا كويسين جدًا يا روحي، أفنان بس كانت بتعاتبني عشان زعلتك وأنا وعدتها أني عمري ما هزعلك تاني ابدًا.. أنتي الحاجة الوحيدة اللي هتبقى مهمة في حياتي بعد كده أنتي وبس."


تبدلت نبرة نوح على الفور وهو يتمتم بتلك الكلمات المُزيفة، نظرت نحوه ميرال بعدم فهم وإن كانت قد رسمت ابتسامة على شفتيها بينما أخذت تُطالعه أفنان بنظرات حارقة وبوجه مُمتعض وهي لا تكاد تُصدق أذنيها كيف استطاع نوح أن يُبدل نبرته بتلك السرعة وتعابير وجهه ايضًا؟ عقلها يأبى استيعاب أن ذلك الشخص البشع الذي أمامها هو نفسه ابن خالتها الذي قضت معه طفولتها ومراهقتها بل وجزء من شبابها كيف له أن يكون بهذا السوء؟ بهذه الأنانية! كيف يسمح لنفسه بجرح شقيقتها والكذب عليها بل والزواج منها فقط لإثارة غيظ أفنان لأنها لم توافق على زواجها منه.


"أنا تعبانة وعايزة أروح، كمان ورايا جامعة بكرة الصبح بدري."


"أنا كمان تعبت من اللف وعندي شغل الصبح."


"خلاص يلا هوصلكوا عشان منتأخرش أكتر من كده."


ساد الصمت طوال الطريق عدا من بعض المحادثات الخفيفة بين ميرال ونوح والتي لم تشارك أفنان بها فلقد كان عقلها منشغلًا بالمحادثة التي جرت اليوم بينها وبين نوح وهي تُفكر هل يجب عليها اخبار ميرال؟ أم أنها لن تُصدقها.. وماذا عن والدها على سبيل المثال؟ ربما مريم شقيقة نوح...


"ياريت تبقى تجيب مريم يوم الجمعة بدري يا نوح عشان تحضر معانا قراية الفاتحة، وصلها وبعدين روح عشان دي قاعدة ناس كبيرة." أردفت أفنان فجاءة لتقطع الصمت لينظر جميعهم نحوها بإندهاش، تدعس ميرال الجالسة جانبها على قدمها لكن أفنان لم تُبدِ ردة فعل، رمقها نوح بحدة في المرآة وهو يُردف من بين أسنانه:


"أصلًا أنا مشغول يوم الجمعة، على العموم هجبهالك تبات عندكوا من الخميس."


"اه يبقى أحسن برضوا."


بمجرد وصولهم إلى المنزل دلفت أفنان إلى حجرتها بعد أن ألقت التحية على والدها وأخبرته أنها ستذهب لإرتداء الثوب الجديد كي يراه عليها.


"أنتي يا بنتي مفيش فايدة في قلة الذوق بتاعتك دي؟" بإستنكار تفوهت ميرال فور دخولها إلى حجرتها هي وشقيقتها، ساد الصمت لبرهة قبل أن تُجيبها أفنان ببرود:


"لا مفيش."


"نفسي افهم نوح عملك أيه عشان كل ده؟ وبعدين يعني نوح وخالتو ميجوش ومريم تيجي؟"


"اه، عشان مريم طول عمرها أختنا التالتة وهتزعل جدًا لو مجتش.. خالتو وماما أصلًا لو اتجمعوا مع بعض احتمال يبوظوا الجوازة فملهاش لازمة خالص خالتو تيجي وطبعًا نوح ولا أنا ولا رحيم بنطيقه."


"يا بنتي أنتي ازاي بتفكري كده؟ عيب جدًا مريم تيجي وخالتو لا مينفعش!"


"خلاص يبقى الإتنين ميجوش، ميرال أنا مش عايزة وجع دماغ أبوس إيدك." حاولت أفنان إنهاء المُحادثة وقد نجحت في ذلك بالفعل.


في صباح يوم الجمعة، اليوم المنتظر... وقف رحيم أمام مرآة دورة المياه الخاصة بحجرته وهو يُمسك بمكينة الحلاقة الكهربائية ليقوم بتهذيب خصلات ذقنه التي ازدادت طولًا عن المعتاد، قاطعه عن ما يفعله صوت طرقات على باب الحجرة لذا غادر دورة المياه وذهب ليفتح الباب ليجد أنس واقفًا أمامه وفي يده بذلة رسمية وفي اليد الآخر حقيبة ظهر يحملها في يده بدلًا من كتفه.


"اخيرًا شرفت؟"


"لو مش عاجبك هاخد حاجتي وأمشي عادي ولا يهمني."


"وأهون عليك تمشي ومتبقاش معايا في يوم مهم زي ده؟ ده أنت الوحيد اللي وقف معايا لما روحنا ل Uncle أحمد المرة اللي فاتت."


تبدلت نبرة رحيم على الفور في محاولة لإقناع أنس بالعدول عن فكرة الرحيل ولم يستغرق سوى بضع ثوانٍ قبل أن يقتنع أنس ويُردف:


"طب كويس أنك عارف يا أخويا، على الله يطمر فيك بس."


"في أيه يا أنس يا أوڤر هو أنا عمري سيبتك في حاجة؟ ما أنا على طول بقف جنبك مكنش موقف اختلفنا فيها وحتى مكنش فيه خلاف أصلًا أنت..."


"قفل السيرة دي يا رحيم من فضلك، اه على فكرة أروى عرفت أن أنت هتخطب أنا حكيتلها كل حاجة تقريبًا.. هي لسه مش بتقول جمل مفيدة ويمكن وعيها مرجعش بالكامل بس الدكتور قالي أنها سمعاني كويس."


"ربنا يقومها بالسلامة، Don't worry i am keeping her in my prayers all the time 'لا تقلق، إنها في دعائي/صلاتي طوال الوقت'."


"بسم الله ما شاء الله، لتحميل أدعية بصوت الشيخ رحيم اضغط الرقم ١." علق أنس ساخرًا وهو يقهقه ليرمقه رحيم بطرف عيناه وهو ينبس بإزدراء:


"تصدق أني غلطان أني بتكلم معاك أساسًا."


"خلاص أسف، بقولك أيه هنروح بعربيتي زي المرة اللي فاتت؟"


"لا، بعربية بابي عشان أكبر وال Driver 'السائق' هو اللي هيسوق."


"والسواق بتاعكوا هيعرف يروح؟ وبعدين ده أحنا مش محتاجين عربية الإزاز بتاعها فاميه 'أسود غير شفاف' عشان أبوك ميشوفش الطريق ده أحنا محتاجين نديله منوم."


"بلاش أوڤر يا أنس بقى، أنت عارف إن بابي زي ما بيقولوا... مش عارف بس في جملة كده معناها إنه راح كذا حتة كتير يعني."


"ابن بلد؟"


"اه هي دي."


"ده ربنا يستر في مقابلة النهاردة، ده أنا المفروض اشتغل مترجم فوري عندكوا تخيل أنت وأبوك تكلموا الراجل English وأنا أقعد اترجم كلمة كلمة."


"عارف يا أنس if you earn one 1euro each time you  translate what we say to people you would become a millionaire 'إذا ربحت يورو واحد في كل مرة تترجم فيها ما نقوله للناس فإنك ستصبح مليونيرًا'."


"تصدق فكرة حلوة، هعتمدها.. بقولك أيه أحلق هنا بقى عشان هدخل أخد Shower وألبس."


"هتلبس من دلوقتي ليه؟"


"اه يا سافل يا رينبو! أومال هقعد بالفنلة الحمالات ولا أيه؟!" نبس أنس بنبرة درامية وهو يُشدد على ثيابها ليُطالعه رحيم بإشمئزاز ثم يقذفه بإحدى الزجاجات البلاستيكية التي أمامه وهو يُردف موبخًا إياه: 


"أيه ده أنت بتقول أيه حيوان أنت! أنا قصدي هتلبس البدلة من دلوقتي ليه؟ لسه بدري أوي."


"عندك حق، بس أنا هسبقك عشان هجيب ال Chocolate والحلويات وبوكية الورد وكده."


"ايوا صحيح.. طيب please 'من فضلك' عايز حاجات تكون ال Quality 'الجودة' بتاعتها أحلر وأعلى من المرة اللي فاتت وأغلى كمان لو ينفع."


"مظنش أفنان وأهلها أكلوا في حياتهم حاجة زي اللي جبناها قبل كده عشان يكونوا منتظرين حاجة أحسن المرة دي."


"حتى ولو وأنا أصلًا مش قصدي أني أجيبهم عشان أبينلهم أنا معايا فلوس أد أيه أنا عايز أجيب بس حاجة من مقامهم بالنسبالي."


"يااه كبرت يا رحيم وبقيت تقول حكم، لسه فاكر وأنا بشيلك في حضني وأنت صغير وبغيرلك هدومك." تمتم أنس وهو يقترب من رحيم ويضع كلتا كفيه على وجه رحيم ليقلب الأخير عيناه بتملل وهو يُبعد يديه بينما يُعلق ساخرًا:


"أنس أولًا أنت مخلفتنيش ونستني، ثانيًا بقى أنا أكبر منك أساسًا."


"بهزر معاك متبقاش سِمج كده، بقولك أيه هي أفنان ملهاش أخت، أم بنت عمة بنت خالة تجوزهالي؟"


"أم؟!! أم؟!! أنت مش طبيعي والله! وغور بقى استحمى ولا شوف هتعمل أيه متجننيش!" صاح رحيم في وجه أنس وهو يدفعه بعيدًا حتى كاد الأخير أن يسقط لولا أنه تماسك في اللحظة الأخيرة، قهقه أنس وهو يسحب ثيابه ويتجه إلى دورة المياه صافعًا الباب في وجه رحيم.


في السادسة والنصف، في منزل في أفنان تجلس هي أمام المرآة بعد أنت انتهت من ارتداء ثوبها الجديد.. أخذت تنظر أفنان إلى ثوبها الهادئ والمائل إلى البساطة إلى حدٍ كبير وهي تُفكر بأنه ربما بحاجة إلى بعض اللمسات النهائية الأخيرة ولكن ماذا سترتدي من الُحلي خاصتها؟ أخذت تُفكر طويلًا حتى تذكرت السلسال الذي أهداها إياه رحيم، فلا بأس أن ترتديه اليوم بعد ما أصبح الأمر مُعلنًا أليس كذلك؟


أخرجت أفنان العُلبة التي قد خبأتها في أحد الأدراج ومن ثم أخذت السلسال لترتديه بخفة وكم جعل مظهرها النهائي مُبهرًا للغاية.


"أيه القمر ده بس؟ أحلى عروسة في الدنيا."


"حبيبتي والله يا ميرو، بس شايفة الحبوب اللي طلعت في وشي؟ ولا كأني بعيد سن المراهقة من الأول.. معرفش بشرتي عرفت منين إن النهاردة قراية فاتحتي!"


"خلاص داريها بالميك أب معلش وأكيد مش هتبقى باينة أوي في الصور."


"تفتكري؟"


"اه بس متكتريش بقى عشان بابا بيتضايق."


"حاضر."


"بنات خلصتوا لبس؟ مريم بنت خالتك وصلت."


"خليها تدخل يا بابا." صاحت أفنان من الداخل ليبتسم والد أفنان وهو يُخبر مريم بأنها بإمكانها الدخول، أقتحمت مريم الحجرة وهي تُطلق زغرودة عالية بينما تضم أفنان بقوة.


"ألف مبروك، عيشت وشوفت أفنان اللي مخوفة نص شباب الجيزة بتحب وتتخطب يا ناس!!"


"ما شاء الله سمعتي سبقاني!"


"عايزين نشوفه بقى اللي شقلب كيانك وغيرك أوي كده."


"هتشوفيه هتشوفيه متقلقيش، هو خلاص على وصول أصلًا..." قالت أفنان بتلعثم وهي تضحك ضحكات متقطعة في منتصف حديثها.


"أفنان رحيم كلمني وبيقول أنهم على وصول فخليكوا جاهزين، مريم معلش ممكن تساعدي خالتك في المطبخ؟ وأنتي يا ميرال خليكي مع أفنان عشان لما تخرجوا تسلموا سوا."


"حاضر يا عمو من عنيا."


"حاضر يا بابا."


"أنتي وشك قلب ألوان ليه كده؟" سألت مريم وهي تضحك لتأخذ أفنان نفس عميق ثم تُجيبها قائلة:


"متوترة أوي بجد.. مش عارفة أهله هيتعاملوا ازاي وهيحصل أيه.."


"متقلقيش إن شاء الله المقابلة هتعدي على خير."


"يارب.." همست أفنان وهي ترفع كفيها وتُقربهما من بعضهما البعض تعبيرًا عن الدعاء.


بعد بضع دقائق سمعت أفنان صوت جرس الباب يصدح في المكان ليزداد توترها ومن بعدها تسمع صوت الباب وهو يُفتح.


"مساء الخير." تسلل صوت رجولي رخيم إلى أذن أفنان، صوتًا غير مألوف.. ليس صوت والدها ولا رحيم وبالطبع ليس أنس لذا استنتجت أنه والد رحيم، أخذت أفنان تُدقق السمع لتعرف عدد الزوار وقد كانوا ثلاثة ولا آثر لصوت حذاء أنثوي.. أين والدته إذن؟!


"تقريبًا مامته مش معاه.." همست أفنان لميرال وهي تحاول النظر من خلال الثُقب الخاص بمفتاح باب الحجرة لكنها لم ترى بوضوح وجاءها صوت والدها المُحبب إلى قلبها وهو يُرحب بالضيوف:


"أهلًا وسهلًا اتفضلوا نورتونا."


"أهلًا بيك يا أستاذ أحمد."


"ازيك يا رحيم يا ابني؟ ازيك يا أنس."


"الحمد لله بخير."


"تحبوا تشربوا أيه؟ ساقع ولا سخن ولا تحبوا نتعشى الأول؟" عرض والد أفنان عليهم جميع الخيارات في محاولة منه لتلطيف الأجواء ليُجيبه رحيم على الفور:


"بص يا Uncle أحنا هنعمل كل اللي حضرتك تطلبه وهناكل ونشرب وكل حاجة بس نتفق الأول."


"ما أحنا هنتفق بإذن الله مفيش داعي للإستعجال."


"خير البر عاجله يا عم أحمد." تمتم أنس بإريحية شديدة ليدعس رحيم على قدمه بخفة، ساد الصمت لبرهة قبل أن يبدأ والد رحيم حديثه كالتالي:


"طيب خليني ابدأ كلامي بعيدًا عن المقدمات المبتذلة.."


"هو أبوك هيخطب ولا أيه؟" علق أنس ساخرًا ليقرصه رحيم  بخفة.


"رحيم جيه طبعًا أتكلم مع حضرتك قبل كده ولظروف عائلية خاصة مقدرتش أنا ووالدته أننا نيجي الزيارة اللي فاتت  وللأسف والدته مسافرة المرة دي كمان لكن هتقابل حضرتكوا قريب.. المهم إن رحيم كان لوحده مع أنس.. رحيم حكالي عن رد حضرتك المرة اللي فاتت وأنا حقيقي حابب أشكر حضرتك أنك موافقتش لأن اللي حضرتك عملته هو الأصول واللي خلاني مترددش لحظة أني أجي مع رحيم النهاردة عشان نطلب أيد الآنسة أفنان بنت حضرتك."


تحدث والد رحيم بصدق شديد بينما كان والد أفنان يستمع إليه في هدوء شديد مع ابتسامة صغيرة قبل أن يُعلق على حديثه قائلًا:


"ده شرف لينا يا دكتور حامد."


"الشرف لينا أحنا يا أستاذ أحمد أننا نمد فرع عيلتنا عشان يناسب ناس بأخلاقكوا وأصلكوا... لحظة هو أنا شوفت حضرتك قبل كده؟"


"ربنا يبارك لحضرتك يا دكتور حامد، اه هو أنا برضوا كنت بشبه على اسم حضرتك ولما شوفتك النهاردة اتأكدت.. حضرتك كنت بتخلص ورق للشركة وكان معصلج شوية وأنا اللي خلصته لحضرتك."


"بجد؟ سامحني مكنتش فاكر بالضبط لأن حضرتك عارف ال Business بتاعي بيخليني أشوف ناس كتير طول الوقت."


"مفهوم طبعًا ربنا يزيد حضرتك."


"طيب نرجع لموضوعنا، أحنا تحت أمرك في أي طلبات وكل حاجة الآنسة أفنان تطلبها هتتنفذ."


"العفو يا دكتور حامد احنا ملناش أي طلبات.. أنا كل اللي عايزة أن رحيم يحافظ على بنتي ويسعدها وميزعلهاش ابدًا غير كده صفر عالشمال."


نبس والد أفنان بصدق وبالرغم أن مثل تلك الجمل تُستخدم عادة كشعارات وكعبارات مُبتزلة إلا أن والد أفنان كان صادقًا فهو لا يهتم بالماديات إطلاقًا بل كل ما يريده هو الإطمئنان على ابنتيه قبل أن يرحل عن هذه الدنيا.


"متقلقش ابدًا يا عمو.. أفنان في عيني وفي قلبي، وأنا عندي استعداد أموت ولا أني أزعلها في يوم."


"بعد الشر عنك يا حبيبي، القصد أننا مش هنختلف في أي حاجة والتقسيمة برضوا مش هتفرق."


"طيب يا uncle زي ما قولت لحضرتك أنا عندي ڤيلا في الزمالك مش بعيد أوي عن هنا يعني.. الڤيلا جاهزة بس هنجيب الأوضة بتاعتنا وأوضة لل Babies 'الأطفال' ولو أفنان مثلًا عايزه تغير أي حاجة في ال  decorations 'الديكور' أو ال... اسمها أيه يا أنس..؟" أنهى رحيم حديثه بسؤال بنبرة طفولية ليخمن أنس الكلمة التي يقصدها رحيم:


"الأثاث؟"


"اه هي دي."


"طب وأحنا كده هنجيب أيه يا ابني؟ مينفعش منجبش حاجة." أردف والد أفنان وهو يعتدل في جلسته ليُعلق رحيم على حديثه على الفور:

"لا يا Uncle أنا بس عايز أفنان تيجي بهدومها بس أو حتى من غير..."


"قصده أن هو ممكن يتكفل بالهدوم وبكل حاجة هي ممكن تحتاجها!" صحح أنس سريعًا جملة رحيم التي بدت مُريبة إلى حدٍ كبير كي لا يُسئ والد أفنان فهمه فذلك الأحمق ذو اللغة العربية الرديئة يتسبب في وضع نفسه في مواقف حرجه.


"وبعدين يا حضرتك عارف يا أستاذ أحمد إن في الأصل العريس هو اللي بيجيب الجهاز كله ولكن عشان ظروف المعيشة الصعبة الناس بتقسم الحاجة بينها بس بما إننا عندنا المقدرة أننا نجهز كل حاجة فمفيش داعي إن حضرتك تكلف نفسك."


"يبقى على بركة الله، يا رانيا تعالى قدمي الحاجة الحلوة."


توجهت والدة أفنان نحو الخارج وبرفقتها مريم لتقديم الحلوى والمشروبات وقامت بإلقاء التحية على الجالسين قبل أن يُقاطع والد أفنان التعارف وهو يقول:


"مش هتندهي العروسة تسلم على خطيبها وحماها ولا أيه؟ عايزين نقرأ الفاتحة."


"حاضر من عنيا." استغرقت والدة أفنان دقيقتين تقريبًا لتُحضرها من الحجرة.


"تعالي يا عروسة سلمي على عريسك وحماكِ."


نبس والدها بنبرة ودودة وهنا انقسم المكان لشقين، شق يخص مشاعر رحيم والآخر لأفنان ولنبدأ برحيم أولًا.. بمجرد أن أقتحمت تلك الكلمات أذنه أعتدل في جلسته وشدد يديه على معطف بذلته الرسمية ببعض التوتر يشعر بنبضات قلبه تتسارع وكأنها خيولًا عربية أصيلة في سباق وقد أوشكت على كسر حواجز النهاية.. عيناه تلمعان كما لم تفعلا من قبل..


وقعت عيناه عليها، تلك التي سحرته منذ اليوم في الأول في ذلك الزقاق المُظلم.. الفتاة الجسورة ذات الرأس الصلب التي استطاعت أن تُوقعه في شباك الغرام والحب الذي كان قد أقسم لنفسه أنه لن يخطوه مرة آخرى فأصبح عليه كفارة للقسم الآن، الإبتسامة الرقيقة ذاتها والحُفرة في وجنتها والبشرة الشاحبة حتى تلك الحبوب المُحمرة التي حاولت إخفائها جاهدة بمساحيق التجميل وتمنى رحيم لو لم تجعل تلك الأشياء تمس بشرتها الطبيعية المُحببة إلى قلبه.


أما عن أفنان فمبجرد أن فتحت باب الغرفة أقتحمت أنفها رائحة عطر رحيم الثقيل التي تسرقها إلى عالمٍ آخر، تسير بخطوات بطيئة وبأقدام مُرتعشة، تتأمل عيناها على إستحياء ذلك الشاب الوسيم ذو البذلة الرسمية التي أضفت عليه المزيد من الوسامة، ملامحه الرجولية الهادئة ولحيته المُهذبه حديثًا على ما يبدو، لا تدري ماذا تفعل.. أقتربت لتقف إلى جانب والدها الذي استقام من جلسته.


استقام رحيم من مقعده في المُقابل وهو يُعدل من بذلته ويمد يده ليصافح التي أمامه والتي أرتبكت لتنقل عدوى الإرتباك للذي أمامها فيُعيد يديه إلى موضعها بتوتر مُتذكرًا أنها لا تُصافح أي ذكر أجنبي عنها، يضع يده أمام قلبه كتحية لها مع إنحناءه بسيطة لتبتسم له في خجل ممتزج بالإمتنان.


"أهلًا بحضرتك يا عمو.."


"عمو بس؟ مفيش ازيك يا رحيم؟" سأل أنس مُتعمدًا زيادة  خجل الأثنين لتضحك أفنان وقد صُبغ وجهها بالحُمرة وهي تُتمتم:


"ازيك يا رحيم."


"بقيت كويس.. دلوقتي بقيت كويس." تفوه رحيم بنبرة حالمة وهو يتأمل أفنان بمشاعر مفضوحة، حمحم والد أفنان بغيرة ليفيق رحيم من شروده في عين أفنان ويعاود الجلوس، يقطع الصمت المُريب صوت والد أفنان الحنون وهو يقول:


"طيب يا رانيا مش تجيبي ميرال تسلم عالضيوف عشان نقرأ الفاتحة بقى."


"حاضر يا حج."


"مين ميرال؟" سأل أنس هامسًا ليهمس له رحيم في المُقابل دون أن يبعد ناظريه عن أفنان:


"أخت أفنان."


"اه صحيح دي ليها أخت." تمتم أنس حينما تذكر تلك المرة حينما مرضت شقيقتها في عملها واضطر أنس للذهاب لإحضارهم ومن ثم إيصالهم إلى المنزل.


رفع أنس عيناه نحوها ثم أخفضها ثم رفعها سريعًا مجددًا، مشاعر مختلطة عصفت بقلبه في تلك اللحظة ونسمة هواء باردة لفحت وجهه، قشعريرة غلفت جسده وهو يفكر كيف للصدفة أو القدر ربما أن يجمعه بتلك الفتاة التي رأها منذ أسبوعًا واحدًا.. كانت تبكي بإنهيار والآن هي تقف إلى جانب أفنان وتبتسم ابتسامة واسعة؟! كان على وشك أن يقترب منها يسألها عن اسمها أو ربما يجثو على ركبتيه ويطلب الزواج منها لولا أن لوحت بيدها فظهر ذلك الخاتم الذهب الذي حاوط بإصبعها البنصر فكان بمثابة خنجر يطعن في قلبه!


لم تنتبه ميرال له كثيرًا فلم تكن لتُدقق في ملامح أي شخص أمامها وخاصة إن كان شابًا، جلست إلى جانب والدها ووالدتها بينما وقفت أفنان بحيرة لا تدري أين تجلس.


"أنس تعالى جنبي وخلي أفنان تقعد جنب رحيم." طلب والد رحيم لتتسع ابتسامة رحيم على الفور وتتوتر معالم أفنان أكثر لتخطو ببطء لتجلس إلى جانب رحيم وقد صُبغ وجهها باللون الأحمر.


"معلش استنوا ثواني.." أردفت ميرال ثم هرولت نحو الحجرة لتُحضر قالب خشبي مُزين بالورود قد نُقش عليه عبارة 'قرينا الفاتحة' وقد نُقش عليه كذلك الحرف الأول من اسم رحيم والأول من اسم أفنان باللغة الإنجليزية، لمعت عين أفنان بسعادة وتفاجئ قبل أن تنقض على شقيقتها وهي تضمها غير مهتمة بمن حولها.


"ده حلو أوي يا ميرال بجد! أنتي مقولتليش أنك هتجبيها."


"قولت أعملها مفاجأة، يلا بقى اقعدي عشان نقرأ الفاتحة." 


عاودت الجلوس إلى جانب رحيم مع ترك مسافة مناسبة بينهم بالطبع، بدأو جميعًا في قراءة الفاتحة، والتي كان الجميع يتلوها في صلاتهم يوميًا لكن تلك المرة كانت ذا اثر مُختلف على قلوب الجميع وبشكلًا خاص أفنان ورحيم، كان رحيم يختلس بعد النظرات نحو أفنان أثناء القراءة لتُلاحظ هي فتبتسم خجلًا.


"أنتِ عارفة أننا بنقرأ الفاتحة كل يوم ١٧ مرة؟ بس المرة ال ١٨ ليها شعور مُختلف!"


همس رحيم لتضحك أفنان بخفوت وهي تضع يدها أمام ثغرها بخجل ويتأمل ضحكتها هو في صمت وكأنها أجمل ما خُلق في الكون وأثمن ما وقعت عليه عيناه.. قاطع اللحظات الرومانسية صوت أنس وهو يحمحم لينتبه رحيم أنه أطال النظر إليها، يأخذ نفسٍ عميق ثم يُردف:


"طيب لو حضراتكوا معندكوش مانع ممكن ننزل نختار الشبكة."


"د.. دلوقتي؟" سألت أفنان بتلعثم شديد بالرغم من أنها كانت  تعلم نيتهم في فعل ذلك من قبل مجيئهم اليوم لكن سماعها للجملة قد جعلها تضطرب كثيرًا.


"مش عايزة ننزل النهاردة؟"


"لا عادي أنا بسأل بس.."


"طيب نخلي العشاء قبل ولا بعد الشراء؟" سألت والدة أفنان بود ليُجيبها والد رحيم:


"نشتري وبعدها نتعشى، مش لازم تتعبوا نفسكوا أحنا هنتعشى برا."


"لا لا مينفعش ده رانيا محضرة أكل كتير أوي عشانكوا."


"طيب خلاص طالما الهانم أتكرمت وعملت عشاء فلازم نتعشى."


"طيب هنروح كلنا بعربية Uncle حامد مش لازم حضرتك تتعب نفسك وتسوق."


"وهي العربية هتكفي يا ابني؟" سألت رانيا بعدم اقتناع ليمنحها رحيم ابتسامة حنونة وهي يُجيبها قائلًا:


"العربية فيها ٣ كنبة يا Auntie متقلقيش."


"ما هو كده مش هيبقى في كمان ليا يا أنا يا السواق بقى."


"طيب خلاص ممكن نخلي السواق يروح وهسوق أنا وخلاص."


"تمام ده حل كويس."


بعد بضع دقائق كان جميعهم داخل السيارة ولسوء الحظ لم تستطع أفنان الجلوس إلى جانب رحيم فلقد كان جالسًا إلى جانب أنس في الأمام.


"ده طلع قمر أوي يا أفنان عندك حق بصراحة!"


"بت لمي نفسك أنا بغير!!"


"خلاص ياختي أنا أسفة."


"وأنتي يا ميرال سرحانة في أيه؟"


"نوح." انساب الإسم من فم ميرال دون تفكير ليرمقها كلًا من أفنان ومريم بإبتسامة خبيثة.


توقفت السيارة أمام محل مجوهرات فاخر يحوي كل أنواع المجوهرات تقريبًا بمختلف أنواعها لكن كان يطغى على المكان المجوهرات الماسية والذهب الأبيض، غادروا جميعهم السيارة وسار رحيم بخطوات بطيئة في انتظار أفنان لتصبح إلى جانبه وبمجرد أن فعلت سألته بصوتٍ منخفض:


"رحيم هي مامتك مجتش ليه؟"


"هقولك بعدين، متركزيش في أي حاجة دلوقتي غيرنا."


"صح عندك حق أنا مالي بأمك أصلًا."


"أيه رأيك في ده؟ أو ده؟" كان رحيم يُشير إلى عدة خواتم  في وقتٍ واحد ليُزيد من حيرة أفنان، كانت مشاعرها مختلطة وكانت هذه أصعب مرة قد وُضعت فيها في موضع الإختيار فهي لا تقوم بشراء زوج من الجوارب بل تشتري خاتم الزواج الذي سترتديه طوال العمر إن شاء المولى عز وجل كما أنه باهظ الثمن بل ثمنه يفوق كل الأشياء التي ابتاعتها في حياتها كلها.


"أنا مش عارفة.. أنا احترت.. اختارلي أنت حاجة واللي هتختاره لو المقاس مضبوط هناخده."


"ده حلو أوي ومُختلف.. زيك." تمتم رحيم بصوتٍ مسموع  لكنه همس في الكلمة الأخيرة، يُزين ثغرها ابتسامة صغيرة بينما يمنحها 'الجواهرجي' الخاتم الذي اختاره رحيم.. خاتم من الألماس يحوي ثلاثة فصوص فص كبير في المنتصف يحاوطه فصين أصغر في الحجم من اليمين واليسار.. كانت الفصوص دائرية بما يسمح بإرتداء 'دبلة' من الذهب أسفلها، على أي حال كان رحيم سيكتفي فقط بخاتم الزواج لكن أنس قام بتنبيهه أن خواتم الزواج الماسية ليست منتشرة في مصر والوطن العربي وأن المُتعارف عليه هو 'الدبلة' المصنوعة من الذهب لذا قرر رحيم شراء الإثنين من أجل أفنان فلا شيء ثمين مقارنة بها عنده.


"حلو أوي بجد.. ربنا يخليك يا رحيم بجد."


"تعيش وتجبلها يا حبيبي." تمتمت والدتها قبل أن تُطلق زغرودة عالية وتُشاركها مريم، تُزيين ابتسامة واسعة ثغر رحيم وأفنان بينما يُقهقه والد رحيم من لُطف الموقف والأجواء المُبهجة التي قد افتقدها منذ زمن بعيد.


"ألف مبروك."


"عقبالك يا أنس وأخلص منكوا أنتوا الإتنين مرة واحدة."


"إن شاء الله يا Uncle..." نبس أنس بإبتسامة يشوبها بعض الحزن وقد رفع عيناه نحو ميرال بيأس.


"كده يا حامد بيه Total الحساب ٧٨ ألف جنية و ٩٠٠ ده طبعًا بعد الخصم علشان حضرتك Special cliten 'عميل مميز'." أعلن الرجل ببساطة شديدة وأخرج رحيم بطاقته  الإئتمانية بكل سهولة وهو يسأل أفنان:


"أفي مش عايزة تزودي حاجة تانية؟ أي حاجة أنتي عايزاها." ساد الصمت لبرهة ولم تُجيبه أفنان فلقد كان عقلها يحاول ترجمة الرقم الذي قاله البائع قبل قليل، كيف لرحيم أن يبتاع لها شيئًا باهظ الثمن بتلك الدرجة الرهيبة بل ولم يبدو عليه التأثر عند سماع المبلغ وكأنه سيقون بدفع بضع جنيهات فقط.


"أفي أنا بكلمك أنتي سمعاني؟" 


"سمعاك سمعاك.. وبعدين أعوز أيه بس بالرقم اللي أتقال ده؟!! ده أنت هتقسط فيه طول حياتك!" ضحك رحيم ساخرًا على ما قالته فلقد كانت جملتها تنم عن كم هائل من السذاجة التي لم يعهدها في أفنان.


"أنتي بتقولي أيه بس يا أفي؟ وبعدين مفيش حاجة تغلى عليكي."


"ايوا يا رحيم بس ده تمنه غالي أوي مش الأحسن كنت جبت دبلة ومحبس والموضوع أتلم في ٧٠٠٠ ولا  ٨٠٠٠  جنية!"


"لو أنتي بتحبي الGold 'الذهب' يعني ممكن نجيب برضوا بس الرقم اللي أنتي قولتيه قليل أوي وطالما أنا قادر اجيب حاجة قيمة أكتر يبقى ليه لا؟"


"أما أنتوا يا أغنياء عليكوا حاجات." همست أفنان ساخرة لكن رحيم استطاع سماع ما تقوله ليضحك ضحكة هادئة كانت كفيلة بجعل أفنان تذوب لولا أن نبهتها مريم أنها أطالت التحديق لذا حمحمت أفنان وهي تسأل رحيم الآتي:


"طيب رحيم هو أحنا من هنجبلك دبلة؟"


"رحيم مش بيلبس خواتم اصلًا مش بيحبها." أجاب أنس سريعًا لتلتفت أفنان نحو رحيم بنبرة نارية مُتسائلة ليحمحم رحيم بتوتر وهو يقول:


"بس هلبس طبعًا الدبلة بتاعت أفي، بس أنا مظنش أن هيبقى عنده خواتم فضة هنا."


"طب خلاص أنا هجبلك أنا الدبلة هي أصلًا بتبقى هدية من العروسة."


"الله هدية من أفي!"


"أيه السعادة دي؟ دي دبلة تمنها ميزدش عن ٢٥٠ جنية شوف أنت دافع كام قصادها."


"ما هي مش بالفلوس يا أفي، هي بغلاوة الشخص اللي بيقدم الهدية مهما كانت بسيطة."


"لا لا يا رحيم تو ماتش مشاعر ورومانسية في يوم يوم واحد أنا كده ممكن أفطس منك."


"عندك حق والله يا أفنان، ما كفاية نحنحة بقى ده عمو أحمد فاضله ثانية ويجي يضربك."


قاطع محادثتهم أو لنقل شجارهم البسيط صوت رنين هاتف أنس، نظر إلى الرقم لكنه لم يُجيب بل جعل الهاتف على وضع الهزاز ومن ثم وضعه في جيب بنطاله ولكن بعد مدة قصيرة دق هاتفه مجددًا وتجاهل الأمر مجددًا لكن هاتفه استمر في الرنين خمسة مرات على التوالي تقريبًا، اضطربت معالم وجهه حيث يبدو أن الأمر جاد.. ابتعد عن الجميع وغادر المكان ليُجيب على الإتصال الطارئ على ما يبدو.. لم تستغرق المكالمة سوى دقيقة واحد زُف فيها الخبر كالصاعقة على أذن أنس، أنهى المكالمة بعد أن تفوه بكلمة واحدة تقريبًا ثم ابتسم ابتسامة واسعة وهو يغلق الهاتف ومن ثم دلف إلى الداخل وعاود الوقوف إلى جانب رحيم وكأن شيئا لم يكن.


"كنت فين يا أنس؟"


"كان معايا مكالمة.. مش يلا ولا أيه؟"


"اه يلا.. هي الشبكة المفروض تكون مع مين؟" سأل رحيم بحيرة وبادلته أفنان تعبيرات الوجه ذاتها لتُجيب والدتها عن السؤال مُردفة:


"مش هتفرق يا حبايبي، خليها عندك يا رحيم وجيبها معاك يوم الخطوبة."


"أيه ده ثواني.. بابا أحنا متفقناش على ميعاد الخطوبة!"


"اه عشان أنا طلبت أننا نأجلها لأجازة نص السنة عشان تكوني خلصتي امتحانات." أجاب والد أفنان ببساطة شديدة  ليعبس وجه رحيم على الفور، تومئ أفنان بعد سماعها للإجابة ثم تعاود السؤال مجددًا:


"ايوا صح.. طب وهنعملها فين؟"


"يا حبيبتي لما نتفق على ميعادها هنبقى نتفق هنعملها فين." أردف والدها مجددًا ويسود الصمت مرة آخرى لكن يقطعه رحيم وهو يسأل


"أنس أنت كويس؟"


"اه، هستناكوا في العربية تمام؟"


"تمام."


انتهى رحيم من عملية الشراء وأخذ العُلبة وتوجه إلى السيارة التي كان أنس يجلس بداخلها صامتًا على غير المُعتاد، توقع رحيم منه أن يتذمر لتأخرهم لكنه لم يُعلق ايضًا، بداخل السيارة كان الجميع يثرثرون في مواضيع شتى وقد حاول رحيم فتح حوارات جانبية مع أنس ولكنه كان يكتفي بقول كلمة أو اثنتين على الأكثر وفجاءة أثناء انشغالهم بالحديث وضحك الفتيات دعس أنس على مكبح السيارة بقوة شديدة وفجاءة ولولا أنه يرتدي حزام الأمان لكان رأسه ارتطم بقوة في عجلة القيادة..


شهقات صدرت من الجميع ولم يُعلق أنس بحرفًا واحد بل قاد السيارة بالقرب من أحد الأرصفة وتوقف ليأخذ نفس عميق قبل أن يشعر بسخونة بالقرب من أنفه.. قرب سبابته من أنفه ليستشعر وجود سائل دافئ لزج يسيل من أنفه.


"أنس أنت كويس؟"


"ممكن تسوق مكاني؟"


"ممكن، حطلي بس ال Location بتاع المكان." اومئ أنس وهو يضع منديلًا ورقيًا بالقرب من أنفه سريعًا لكي لا يُلاحظ أحد أنفه الدامي، غادر السيارة وقام بتبديل المقعد مع رحيم ومن ثم اعتذر على الفور من الجميع بحجة أنه شرد أثناء القيادة وكاد يصطدم بالسيارة التي كانت أمامه.


"يلا اتفضلوا يا جماعة أنتوا مش حد غريب." تمتم والد أفنان بلطف وهو يدعوهم إلى الجلوس إلى طاولة الطعام، جلس والد أفنان على رأس المائدة وعلى يمينه والد رحيم إلى جانبه رحيم ثم أنس وعلى الجهة الآخر جلست الفتيات ووالدة أفنان.


استقامت والدة أفنان وبدأت في وضع الطعام في الأطباق والذي كان متنوعًا بين أطباق مصرية شهيرة أو عربية بشكل عام مثل الملفوف، الدجاج المشوي، الأرز وطاجن المعكرونة.


"رحيم هو أنت بتاكل أيه من الحاجات دي؟"


"مش عارف.. أي حاجة أنا هدوق كله."


"أيوا أنا عايزاك تدوق أكلي وتقول رأيك بصراحة وخد بالك بقى أفنان هي اللي عاملة البانية والسلطة والباقي أنا وميرال." داعبت والدة أفنان رحيم والتي بدأت تعتاد عليه وقد كان رحيم لطيفًا يضحك على مُزاحها ويُحاول اجراء محادثات مع الجميع، لقد كان منزل زوجته المستقبلية مُبهجًا ودافئًا كذلك على عكس قصره الكبير الواسع حيث يقطن مع والديه.


"أنس أنت مش بتاكل ليه الأكل مش عاجبك؟"


"لا لا ده حلو أوي تسلم ايديك.."


"حلو أيه أنت ممدتش ايدك أصلًا، استنى." علقت ميرال بعبوس ومن ثم استقامت لتضع المزيد من الطعام في صحن أنس والذي حاول جاهدًا أن يُقنعها بألا تفعل لكنه استسلم لها في النهاية، وبينما كانت تفعل ميرال شعرت بأن ملامح أنس مألوفة بالنسبة إليها لا بل هي واثقة أنها رأته في مكان ما لكن لا تتذكر أين وكانت على وشك أن تسأله لولا أن سبقها هو بسؤال والدها عن مكان دورة المياه.


"عمو هو ممكن بعد إذنك اروح ال Toilet 'دورة المياه'."


"اه طبعًا يا حبيبي اتفضل، آخر الطرقة دي.. استنى هقوم معاك."


"لا لا مفيش داعي أنا هعرف أروح." أردف أنس وهو يستقيم من مقعده بصعوبة غير ملحوظة، أخء يسير بخطى بطيئة حتى وصل إلى دورة المياه.


"ميرال معلش ممكن تجيبي مياه من المطبخ؟"


"حاضر يا بابا من عنيا."


قالت ميرال ومن ثم غادرت الطاولة وذهبت لإحضار المياه وهي في طريقها إلى الداخل كادت أن تصطدم بأنس الذي غادر دورة المياه للتو، وقفت هي في موضعها بصدمة وتوقعت أن يبتعد هو لكنه لم يفعل بل ظل ينظر إليها بأعين غائمة لثوانٍ قبل أن يُغلق عسليتاه ويختل توازنه ومن ثم يسقط ارضًا...


__________________________________


(تذكره:  يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني  كله ولا تكلني إلي نفسي طرفة عين.)

الفصل السابع والثلاثون: عَزَاء🤎✨🦋


"حاضر يا بابا من عنيا."


قالت ميرال ومن ثم غادرت الطاولة وذهبت لإحضار المياه وهي في طريقها إلى الداخل كادت أن تصطدم بأنس الذي غادر دورة المياه للتو، وقفت هي في موضعها بصدمة وتوقعت أن يبتعد هو لكنه لم يفعل بل ظل ينظر إليها بأعين غائمة لثوانٍ قبل أن يُغلق عسليتاه ويختل توازنه ومن ثم يسقط ارضًا...


"يلاهوي! أنس!!" صاحت ميرال التي أحتضنت رأس أنس وجزء من نصفه العلوي بين ذراعيها كي تحمي رأسه من الإصطدام لكن باقي جسده قد ارتطم بالأرضية بقوة..


"حد يلحقني!!" هرول الجميع نحو ميرال نتيجة لصراخها والصوت المُرتفع الذي تسبب فيه سقوط أنس، جاء رحيم وأفنان ووالدها مهرولين نحو ميرال والتي كان أنس بي ذراعيها ولولا أنهم يعرفون ميرال جيدًا وكون أنس فاقدًا للوعي لأساء الجميع فهم المشهد.


"أيه اللي حصل؟" سأل رحيم بفزع فور رؤيته لصديقه الفاقد  للوعي بين ذراعي ميرال، نظرت نحوه ميرال بأعين دامعه وهي تُجيبه بتلعثم:


"معرفش.. معرفش هو وقع فجاءة كده.. هو عايش طيب ولا أيه؟"


"رحيم هو حصله كده قبل كده؟" سألت أفنان ليُجيبها رحيم بثبات نسبي:


"مش عارف.. ميرال معلش ابعدي كده.." أمسك رحيم بأنس بدلًا من ميرال التي استقامت وذهبت لتقف إلى جانب أفنان.. بدأ رحيم في ضرب أنس ضربات خفيفة على وجهه بأيدي مُرتشعة في محاولة منه لجعله يسترد وعيه لكنه لم يستجيب، تنهد رحيم ثم صاح قائلًا:


"بابي.. تعالى شيل أنس معايا."


في خلال دقائق كان رحيم في داخل السيارة برفقة والده وأنس الفاقد للوعي ووالد أفنان بعد أن تركوا الفتيات على أحر من جمر في المنزل، قاد والد رحيم السيارة بينما جلس رحيم في المقعد الخلفية وقد أسند رأس أنس على قدمه وأخذ يضغط على أنفه ضغطات قوية ولم يستغرق الأمر سوى بضع ثوانٍ قبل أن يستجيب أنس ويفتح عيناه ببطء ثم يُعاود إغلاقهم مجددًا.


"أنس أنت شايفني؟ طب لو سامعني حاول تفتح عينك." سأل رحيم وبالفعل استجاب أنس لمطلبه وحاول أن يفتح عيناه مجددًا.


"بسرعة شوية يا بابي من فضلك!" طلب رحيم من والده الإسراع وهو يشعر بقلبه على وشك أن يغادر قفصه الصدري من شدة قلقه على صديقه، لطالما كان أنس مُهملًا في صحته وقد وبخه رحيم عدة مرات بسبب ذلك وبالرغم من توقع رحيم لحدوث ذلك يومًا ما إلا أنه شعر بالهلع والإستياء في الوقت ذاته.


بعد مدة ليست بطويلة توقفت السيارة أمام أحدى المستشفيات الخاصة، استغرق الطبيب بضع دقائق بالداخل بينما كان رحيم ينتظر في الخارج وقد توقع بالفعل ما سيقوله الطبيب لكنه أراد أن يطمئن.


"خير يا دكتور؟ طمنا من فضلك." استفسر والد أفنان فور رؤيته للطبيب يُغادر الحجرة حيث وُضع أنس، أقترب رحيم من الطبيب كذلك والذي أردف بإيجاز:


"المريض ضغطه كان عالي جدًا اتخطى ال ٢٠٠ وده اللي سببله الإغماء، أحنا علقناله محاليل والمفروض أن ضغطه هينزل وأنا برضوا هكتبله على أدوية للضغط ياريت يلتزم بيها وطبعًا لازم يتابع مع دكتور."


"تمام شكرًا لحضرتك." تمتم رحيم وهو يُعيد خصلات شعره  نحو الخلف بقوة بينما يزفر بضيق، هناك شيئًا خاطئ يحدث مع صديقه الوحيد وهو لم ينتبه لإنشغاله بالإحتفال مع أفنان، ياله من شخصًا أناني وأحمق! سب رحيم نفسه قبل أن يستأذن الطبيب في رؤية أنس.


دلف رحيم إلى داخل الحجرة ليرى صديقه النائم على الفراش بينما اتصل بذراعه محاليل طبية، سحب رحيم الكرسي الذي وضع في الحجرة وقربه من السرير.. انتبه أنس لوجود رحيم فقام بفتح عيناه وحاول الجلوس لكن رحيم ربت على كتفه وهو يُردف:


"خليك زي ما أنت متتعبش نفسك."


"أنا بقيت كويس."


"أيه اللي حصل يا أنس؟ أنت فيك حاجة مش مضبوطة." سأله رحيم بهدوء على عكس مشاعره القلقة المضطربة، قلب أنس عيناه بتملل وهو يُجيبه ساخرًا:


"لا لماح أوي اسم الله عليك."


"يا ابني هو أنت مبتعرفش تتكلم زي الناس المحترمة؟ قولي في أيه؟"


"مفيش، فريد مات." نبس أنس بهدوء شديد قبل أن يبدأ في نوبة من الضحك الهستيري.. طالعه رحيم بنظرات هادئة وهو ينتظر أن يفرغ أنس من نوبة الضحك خاصته كي يُخبره أن ذلك النوع من المزاح غير مقبول، بعد مرور دقيقة تقريبًا توقف أنس عن الضحك وهو يفرك عيناه التي امتلأت بالدموع من فرط الضحك.


"بتبصلي كده ليه؟" سأل أنس وهو يُطالع رحيم الذي تجمد الدم في عروقه، نظر رحيم نحو أنس لبرهة قبل أن يسأل بتقطع وبنبرة مُرتعشة:


"أنس.. هو أنت.. بتتكلم جد؟ أنس؟"


"هي الحاجات دي فيها هزار؟ جاله جلطة ومات من تلات ساعات كده.. جاله جلطة بعد ما عرف أني حبسته ورفعت عليه قواضي.. أنت ساكت ليه؟" كان أنس يتحدث بثبات شديد وهو ينظر إلى داخل أعين رحيم، لم يُعلق رحيم على حديث أنس بل استقام من مقعده وجذب أنس في عناقًا قوي وفي تلك اللحظة انفجر أنس في البكاء وهو يُردف بصوت مبحوح:


"أنا بكرهه يا رحيم.. بكرهه.. أنا.. أنا مبسوط أنه مات! لا.. أنا مش مبسوط." كانت الشهقات تتخلل حديث أنس المُبعثر، شدد رحيم على العناق أكثر وهو يلعن نفسه أسفل أنفاسه، كيف لم يلاحظ اضطراب أنس من بعد اجراءه لتلك المكالمة، كيف كان أناني للدرجة التي جعلته لم ينتبه قط لصديقه.


"أنا جنبك يا أنس.. أنا جنبك.."


"أروى.. أروى هتفرح أوي.."


"ششش! بس يا أنس كفاية."


مرت بضع دقائق من الصمت وقد سكن أنس قليلًا وانتظمت أنفاسه داخل أحضان رحيم، ابتعد الأخير قليلًا حينما أدرك أن أنس قد غفى.. وضع رأسه على الوسادة وعدل من نومته قبل أن يُغادر الحجرة، كان والده ووالد أفنان ينتظرون في الخارج على أحر من جمر ينتظرون خروج رحيم كي يطمئنهم على صحة أنس.


تقدم رحيم منهم بخطوات بطيئة وقد غلفت الصدمة والحُزن تعابير وجهه، كان حامد قد جلس على أحدى الكراسي إلى جانب والد أفنان لكنه استقام فور رؤيته لتعابير وجه رحيم.. اقترب رحيم بهدوء وهو يُردف:


"بابي.. Uncle فريد.. تعيش أنت.."


"لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون." تمتم والد أفنان بحزن شديد بالرغم من عدم معرفته لوالد أنس لكنه انسان وقد رحل عن عالمنا.


"لا إله إلا الله.. ده حصل أمتى الكلام ده؟ ازاي محدش  يبلغني؟!"


"أنا لسه عارف من أنس دلوقتي.. هو ده السبب اللي تعبه ووصله للحالة دي." قال رحيم وهو يتحاشى النظر نحوهم حيث كانت الدموع قد تجمعت داخل عيناه تأثرًا بوضع صديقه، ساد الصمت البرهة قبل أن يعاود والده السؤال مجددًا:


"طيب هو فين فريد دلوقتي؟ هيتدفن أمتى وأيه الإجراءات  اللي المفروض تتم؟"


"أنا مش عارف أي حاجة وأنس نام."


"نام؟" سأل حامد بتعجب ليتنهد رحيم قبل أن يُجيبه بنبرة  خالية من الحياة: 


"اه، تأثير الخبر مكنش هين عليه يا بابي، على العموم أنا هكلم المُحامي بتاع أنس وأخليه يشوف النظام أيه."


"تمام."


"أنا أسف جدًا يا عمو عاللي حصل ده وأن حضرتك اضطريت تيجي معانا هنا وكده.. بس الظروف.."


"على أيه يا ابني بس؟ ده قضاء ربنا أهم حاجة أن أنس يقوم بالسلامة وتخلصوا الإجراءات المطلوبة."


"إن شاء الله.. أنا هكلم السواق يوصل حضرتك للبيت."


"مفيش داعي أنا هعرف اروح لوحدي."


"لا لا مش هينفع." أصر رحيم على موقفه وبالفعل جعل السائق يحضر لإيصال والد أفنان إلى المنزل بينما بقي هو في المستشفى برفقة والده وهما يفكرون فيما عليهم فعله في الخطوات التالية.


بالعودة إلى منزل أفنان وقبل وصول والدهم، جلست ميرال على الأريكة في صدمة وتوتر كلما تذكرت ما حدث قبل قليل وجلست إلى جوارها أفنان التي بادلتها نفس الشعور وإن كان شعور ميرال يختلف لأنها رأت ما حدث لأنس أمام عيناها.


"يعني أنا مش فاهمة برضوا أيه اللي حصل؟ يعني أنتي لاقيتيه عالأرض وبعدين خدتيه في حضنك ولا أيه؟ ولا هو مثلًا أشتكى من حاجة في الأول؟"


"تاني يا أفنان؟ هنعيد نفس القصة من أولها تاني؟ قولتلك  أنا كنت رايحة.. كنت رايحة اجيب حاجة.. لاقيته خارج في وشي فجاءة من الحمام بصلي ثانيتين قبل ما يقع من طوله فجاءة.. وأنا كنت قريبة منه يعني فحاولت ألحقه بسرعة عشان دماغه متتخبطش في الأرض."


سردت ميرال ما حدث للمرة العاشرة تقريبًا وفي كل مرة يزداد خجلها مما حدث، وكانت أفنان تعلم ذلك جيدًا ولم تتوقف عن مضايقتها حيث علقت أفنان على حديثها قائلة:


"يا حنينة!"


"أفنان أنتي شايفة الموضوع يستحمل هزار أو استظراف  يعني؟"


"أنا مقولتش حاجة على فكرة، أنتي اتصرفتي تصرف طبيعي وتلقائي جدًا.. هو مكنش صح يعني اللي حصل أكيد بس أنتي مكنش قصدك حاجة غلط."


"ايوا طبعًا مكنش قصدي.. مريم.. بت يا مريم!" صاحت ميرال على غير العادة حينما انتبهت لوجود مريم والتي بالطبع ستنقل كل ما حدث الآن لأخيها، جاءت مريم والتي كانت تتناول الطعام في المطبخ وهي تسأل بقلق:


"في حاجة ولا أيه؟"


"أوعي تقولي لنوح عاللي حصل! هو أصلًا محصلش حاجة يعني.. بس أصل نوح هيعملي حوار."


"قصدك عالكتكوت اللي فطس مننا ده؟ لا متقلقيش." علقت مريم ساخرة لتقلب ميرال عيناها بتملل وهي تُتمتم: 


"طيب.."


بعد مرور مدة من الوقت تسلل إلى أذن أفنان صوت خطوات والدها المميزة لتقفز من موضعها لتفتح الباب من قبل أن يطرقه.


"حمدلله عالسلامة يا بابا.. ها طمني أيه اللي حصل؟"


"يا بنتي أدي أبوكي فرصة ياخد نفسه ويرتاح من السلم." وبختها والدتها لتتنهد أفنان وهي تبدأ حديثها بصوتٍ مسموع ثم تنهيه بهنس مُردفة:


"حاضر يا ماما.. ها يا بابا قولي."


"مفيش يا دكتورة ضغطه كان عالي جدًا وهو اللي سببله  الإغماء كده."


"طب وأيه اللي رفعله ضغطه أوي كده؟"


"أصل.. والد أنس في ذمة الله.. الخبر جاله وهو معانا النهاردة.."


"لا حول ولا قوة إلا بالله.."


"يعني باباه مات وهو فضل عادي قاعد معانا وبيكمل شراء الشبكة؟ لا وراجع يتعشى عادي؟ غريبة دي.." تسألت ميرال بحيرة لتنظر نحوها أفنان بنظرات تأييد قبل أن تُعلق بنبرة لا تخلو من السخرية:


"تصدقي يا ميرال أول مرة تقولي حاجة صح في حياتك."


"الله أعلى وأعلم بقى ممكن من الصدمة مقدرش يدي رد فعل على طول.. يمكن مكنش عايز ينكد على رحيم ويبوظ  اليوم."


"حتى لو يا عمو مش منطق برضوا." أردفت مريم لتُعلق أفنان مؤيدة لحديثها قائلة:


"أكيد في حاجة غلط.."


"ملناش دعوة بقى.. عمتًا أحنا هنروح وهنعمل الواجب وهنعزي ميخصناش حاجة أكتر من كده."


"طيب بابا هو ينفع ابقى أكلم رحيم اطمن عليهم؟"


"ينفع، بس بلاش رغي واستعباط ها."


"حاضر يا بابا." أردفت أفنان بآدب وهدوء وبمجرد أن دلف والدها إلى حجرته قفزت في موضعها بحماس لأن والدها سمح لها اخيرًا بمهاتفه رحيم وهذه المرة هي لن تفعل ذلك سرًا.


"خليكوا هنا بقى هدخل أتكلم في التليفون وأجيلكوا."


"ماشي يا ستي الله يسهلك." قالت مريم بمزاح وهي تغمز بإحدى عينيها لتنظر نحوها أفنان بإزدراء وهي تُردف ساخرة:


"ما هو النبر ده اللي جايبنا ورا.. الراجل مات ياستي."


أغلقت أفنان باب الحجرة وسط ضحكات مريم وميرال، ذهبت لتتمدد على السرير ومن ثم هاتفت رحيم والذي أجاب على الفور وقبل أن ينبس بحرف سبقته أفنان وهي تطمئن عليه بلهفة:


"أيه يا رحيم طمني عليكوا أنتوا تمام؟ اه صحيح البقاء لله."


"ونعم بالله، أنس كويس.. نايم يعني.. وأنا وبابي بنشوف  أيه الإجراءات المطلوبة."


"أيه ده أنا عطلتك ولا أيه؟ أنا أسفة خلاص روح شوف اللي  وراك."


"لا ولا يهمك.. تمام هخلص وهكلمك.. Uncle أحمد وصل صح؟"


"اه وصل من شوية."


"تمام حمدلله على سلامته." أنهت أفنان المُكالمة سريعًا فمؤكد أن رحيم منشغلًا بإنها ما يعجز صديقه عن إنجازه نظرًا لصدمته بوفاة والده وحالته الصحية المتوعكة حاليًا.


في صباح اليوم التالي أخذت ميرال تبحث عن شيء مناسب لترتديه أثناء ذهابها إلى العمل وفي الوقت ذاته تُريد ثوبًا أنيق خاصة وأن نوح ينوي زيارتهم اليوم هو وخالتها، بعد تفكير طويل قررت ميرال ارتداء الثوب ذاته من ليلة أمس.. أمسكت ميرال بالثوب وهي تتفحص كونه نظيف ومن ثم قربته من أنفها لكي تستنشق رائحته، مرت بضع ثوانٍ وهي في ذهول شديد من الرائحة.. فتلك الرائحة لا تخصها بل بمعنى أدق هنالك رائحة عطرٍ آخر اختلطت بخاصتها.. عطر رجولي ثقيل؛ رائحة عطر أنس على سبيل المثال!!!


"يا نهار أبيض عليا وعلى سنيني! أفنان أصحي كده.." صاحت ميرال وهي تُحرك جسد أفنان بخفة لتُقظها.


"صباح الخير يا ميرال.. في أيه بتندبي ليه عالصبح؟"


"شمي ريحة الفستان دي كده!" أخذت أفنان الثوب بأعين نصف مغلقة وقربته من أنفها ثم أردفت:


"مالها؟ ما ريحته جميلة أهو."


"جميلة أيه بس! ديه ريحة اسمه أيه ده اللي كان مع رحيم!"


"وريني كده.. اه صح، هي الريحة لحقت تلزق فيكي في الثانيتين دول؟"


"مش عارفة أيه ده؟!! اعمل أيه أنا دلوقتي متأخرة عالزفت الشغل ومش لاقيه حاجة تانية ألبسها.."


"ألبسيه وخلاص وحطي برفان من بتاعنا يا ميرال، وبعدين ما هو ورحيم كانوا مستحمين بالبرفان تقريبًا أما جيوبنا الأنفية كانت بتصوت إمبارح."


"طيب افرضي حد شمها وعلق."


"في أيه يا ميرال الأوڤر ده؟ الريحة مش نفاذة للدرجة يعني."


"طيب خلاص." تمتمت ميرال وفي الوقت ذاته دلفت مريم إلى الحجرة وهي تسير بأعين ناعسة وعقل يعمل بنصف كفاءة.


"كويس أنك صحيتني عشان أكلم رحيم أشوفهم هيعملوا أيه في الدفنة وكده.. وهشوف بابا لو رايح يعني هروح معاه."


"ما شاء الله يا أفنان على حظك، أنا أعرف لما واحدة بتتخطب جديد خطيبها بياخدها مثلًا أول فرح بيجي في العيلة بعدها.. بياخدها تجمع عائلي.. لكن أول مرة أشوف واحدة بتروح مع خطيبها عزاء."


"ما بلاش سخافة ما أنتي عندك نوح أهو معندوش حالة وفاة بس معيشك في كآبة وقرف من ساعة ما اتخطبتوا."


"أفنان أنتي ملاحظة أنك بتتكلمي عن أخويا ولا الموضوع مش واصلك؟" أقتحمت مريم الحوار وهي تسأل بإستنكار لتُطالعها أفنان بسخرية وهي تسأل في المُقابل:


"طب أنا راضية ذمتك أخوكي ده حد يرتبط بيه؟"


"بصراحة لا."


"أهو شوفتي."


"دمكوا تقيل أوي على فكرة أنتوا الإتنين، يلا أنا هنزل بقى عشان متأخرش."


وهنا انتهى الحوار بمغادرة ميرال للحجرة وعودة مريم للنوم بينما بقيت أفنان جالسة في حجرتها كما هي لكن سرعان ما تذكرت أن رحيم قد ترك عُلبة 'الشبكة' خاصتها هنا حينما حدث ما حدث.. توجهت أفنان نحو الخارج لتُحضر العلبة الفاخرة، فتحتها ببطء وحذر وهي تتأمل ما في داخلها.. ذلك الخاتم اللامع الذي سيربطها برحيم إلى الأبد، لقد بدى الخاتم جميلًا لكن لا شيء أجمل منه في الواقع وكل ما يأتي من طرفه يكتسب بعضًا من جماله.


"بتعملي أيه يا أفنان؟"


"بسم الله الرحمن الرحيم خضتيني يا ماما!"


"خضتك ده أيه ما أنا بتكلم عادي أنتي اللي سرحانة."


"بتفرج عالشبكة اللي رحيم نسيها هنا.."


"كويس عشان لما خالتك وعمتك وجدتك يجو يتفرجوا  عليها."


"بصي.. اعملي اللي أنتي عايزاه أنا معنديش طاقة أجادل بصراحة، أنا هروح احضر الفطار." أردفت أفنان في هدوء تام غير معتاد فبعد الأحداث الغريبة من ليلة أمس لا طاقة لها للشجار.


بعد مرور ساعة آخرى وبالإنتقال إلى المستشفى فتح رحيم عيناه ببطء شديد وبمجرد أن حاول أن يتحرك أحتل جسده الألم في مواضع متفرقة من جسده فالنوم على تلك الأريكة غير مُريح بتاتًا.


"أنس! أنت رايح فين؟"


"رايح استلم الجثمان.. كلمتهم عشان يجهزوا المدفن، عايز كل حاجة تخلص بسرعة."


"طيب أروى.. هنقول لأروى؟"


"لا طبعًا.. حالتها متسمحش بخبر زي ده ولو أنه مش هيفرق معاها كتير لكن ظروفها الصحية تحتم عليا أني أخبي عليها في الوقت الحالي."


"طيب.. مامتك يا أنس عرفت؟"


"مش مهتم أعرف بس أكيد الخبر وصلها."


كان أنس يتحدث بجمود.. نظرات عيناها شاردة خالية من الحياة وكأنه إنسان آلي وليس بشري من لحمًا ودم أو ربما كان أقرب إلى الجثة الخالية من الروح.. نظر نحوه رحيم بآسى شديد.. لا يُصدق كيف تبدل الحال بصديقه من السعادة الغامرة بالأمس إلى هذا الوضع المُحزن الآن.


بالرغم من أن رحيم يثق تمامًا في مدى كُره أنس لوالده إلا أن الأمر لا يزال صادمًا خاصة وأن سبب الوفاة يتعلق بأنس وشقيقته بشكلًا غير مُباشر.


"أتكتب في التقرير الطبي سبب الوفاة؟"


"جلطة، مستحملش أني رفعت عليه قضية وحبسته.. كان فاكر أني هسيبه حُر طليق وهو كان هيموتني أنا وأختي البجح."


"أنس! الميت له حرمه!" وبخه رحيم بإندفاع لينظر نحوه أنس بطرف عيناه قبل أن يُعلق على جملته ببرود تام قائلًا بإستنكار:


"والعايش ملوش؟ عالعموم بلاش نتكلم في حاجة دلوقتي  يا رحيم، معنديش أي طاقة."


"عندك حق.. أظن المفروض نتحرك دلوقتي هيبقى قدامنا يوم طويل."


"جدًا، وياريت تكلم المحامي عايزين نعمل إعلام وراثة في أسرع وقت." كان رحيم ينظر إلى أنس بحيرة وحزن شديد، فهو لا يُصدق أن أحدهم قد علم منذ وقتًا قصير بأن والده قد توفى يهتم كثيرًا بإجراءات الميراث.. بالطبع هو حقه تمامًا لكن من المفترض أن يكون الحزن قد أخذ منه نصيبًا لا بأس به لكن نظرًا لوضع أنس وعلاقته بوالده فالأمر منطقيًا تمامًا.


"اللي أنت عايزه كله هنعمله، المهم هي مامتك وصلها الخبر؟"


"أكيد وصلها وزمانها جايه تنوح وتصدعني بإني السبب." قال أنس وهو يتجه إلى خارج الحجرة لكنه سمع تأفف رحيم لذا توقف واستدار ليواجه رحيم وهو يُردف بنفاذ صبر: 


"لو مش عاجبك كلامي ممكن تمشي على فكرة."


"عاجبني ومفتحتش بوقي على فكرة، يلا خلينا نمشي." اختار رحيم عدم الجدال فهو يعلم أن أنس ليه في وعيه تمامًا وغير مدركًا لما يقوله ويفعله.


بعد مدة ليست بطويلة وصل رحيم برفقة أنس ووالده إلى المستشفى حيث يوجد جثمان والده، كان أنس يسير بثبات شديد حتى وصلا إلى المكان حيث يُحفظ الموتى قبل أخذهم لدفنهم.


"المحامي مستني عشان تخلص تصاريح الدفن."


"عايز اشوفه الأول.."


"هدخل معاك."


"لا، محتاج أكون لوحدي من فضلك.. استناني برا."

اومئ رحيم بإستسلام قبل أن يُربت على كتف صديقه ثم يغادر تاركًا إياه وحيدًا داخل المشرحة، بمجرد أن دلف إلى الداخل شعر بإنقباض شديد في قلبه.. كانت المشرحة باردة للغاية تمامًا كمشاعر أنس تجاه والده.. جاء الممرض ليُخرج الجثمان كي يراه أنس.. رجفة قوية اجتاحت سائر بدنه تسببت في انتشار شُعيرات جسده، تسارعن نبضات قلبه حينما اخرج الممُرض الجثمان، طلب منه أنس أن يتركه وحيدًا لبعض الوقت لكن الأخير أخبره بأن ذلك غير مسموح لكنه سيكتفي بالوقوف بعيدًا بالقرب من الباب.


بأنامل مُرتعشة وباردة كالثلج تمامًا كتعابير وجه أنس ابعد الملاءة البيضاء عن وجه أبيه لينكشف له.. ذلك الوجه الذي يُشبه خاصته عدا من بعض التجاعيد، الخصلات البُنية ذاتها لكن الفارق أنها اختلطت ببعض الشيبه، يتأمل أنس ملامح الرجل الذي تسبب في تعاسته منذ اليوم الأول وقد نمت على ثغره ابتسامة ساخرة ونظرات لا تخلو من الشماتة ربما؟ لم تكن تلك الخصلة من خصال أنس قط لكنه لا يدري لماذا خالج ذلك الشعور صدره..


تحسس بيده وجه ويد الجسد الخالي من الروح المُمدد أمامه وكاد أنس أن يفتح ثغره للتفوه ببعض الكلمات الذي كانت حبيسه صدره لوقتًا طويل لكن الكلمات حُشرت في فمه كخناجر طاعنه فلم يصدر منه سوى صوت أقرب للحشرجة قبل أن يشعر بحرارة في عينيه تليها عبرات دافئة تنهمر على وجهه وهو يتمتم بضعف:


"كان نفسي تبقى أب كويس.. كان نفسي أكون زعلان عليك دلوقتي مش شمتان فيك.. شايف يا فريد شايف ازاي أنا  بقيت قوي دلوقتي وقادر أعمل فيك اللي أنا عاوزه وأنت مجرد جثة.. جثة من غير روح متقدرش حتى تاخد نفس! كل الناس بيحسوا أن ضهرهم اتكسر لما أبوهم بيموت لكن أنا الوحيد اللي حاسس أني اتحررت؛ اتحررت من سجن أنت حبستني فيه سنين!"


كان أنس يتحدث من بين شهقاته، لا يستطيع كبح نفسه الآن عن البوح بكل ما يجول في خاطره وكل ما يشعر به، أخذ نفس عميق وهو يكفكف دموعه بعنف قبل أن يُتابع:


"دلوقتي أنت هتمشي وهنرتاح من قرفك ومشاكلك، ومراتك.. أمي هرميها في المصحة اللي كانت فيها من سنين وكل الفلوس هتبقى ليا أنا وأروى هنتمتع بيها وهشتغل وهكبر وحقق كل اللي نفسي فيه وهساعد الناس وهعمل كل  حاجة كويسة منعتني منها، وأنت مش هتلاقي حتى اللي يترحم عليك!"


كان أنس يبصق كلماته تلك والتي لم يقوى يومًا على قولها بصوتٍ مسموع، فلو فعل لم يكن والده ليتردد في تحطيم فكه أو قطع لسانه فلقد كان مخبولًا، وبالرغم من قسوة حديث أنس إلا أن ذلك لم يمنع كونه يشعر بالحزن والإنكسار.. فهو لم يعرف يومًا معنى الأبوة وحتى عند موته لم يستطع أنس أن يشعر بالآسى سوى لكونه لم يحظَ بأبٍ جيد يومًا فليس حزنه يتعلق بفريد لشخصه، ألقى أنس نظرة أخيرة عليه قبل أن يُغطي وجهه بالملاءة البيضاء للمرة الأخيرة قبل أن يهمس:


"مع السلامة يا.. بابا."


كان رحيم ينتظر أنس في الخارج على أحر من جمر وكما توقع لقد جاء أنس بزوج من الأعين المُحمرة والخصلات المبعثرة.. سحبه رحيم في عناق قوي لكن أنس لم يبكي لكن في الوقت ذاته لم يفصل العناق فهو بحاجة إلى الدعم النفسي، بعد مدة كافية فصل رحيم العناق وهو يُردف:


"يلا عشان نخلص الإجراءات.. لسه اليوم طويل، هنصلي  الجنازة وبعدها ندفن وبعدين العزاء بليل."


"عايز العزاء في قاعة كبيرة، حاجة تليق بفريد."


"بابي ضبط الموضوع متقلقش خالص، المهم بس مش عايزين نتأخر عشان متسبش أروى لوحدها هي دلوقتي  بقت مدركة للوضع حواليها."


"حاضر."


قطع الصمت السائد صوت هاتف رحيم وقد كان المتصل والده، أجاب رحيم على الفور وقد كانت المكالمة عبارة عن جملة واحده أو هي أقرب إلى الأمر:


"خد أنس واتحركوا من عندك بسرعة، مرات فريد عرفت بالخبر وهي على وصول." كانت الرسالة واضحة تمامًا، لم ينبس رحيم بحرفًا واحد وأغلق الخط قبل أن يأخذ أنس للتحرك من أمام المشرحة.


بعد مدة لا بأس بها من الوقت كان كل شيء قد تم على أكمل وجه، رافقهم والد أفنان لأداء صلاة الجنازة وما يلي ذلك ثم عاد إلى المنزل بعد أن اتفق معهم على العودة في المساء برفقة ابنته لأداء واجب العزاء، حاول رحيم إقناع أنس بالعودة إلى المنزل أو الفندق للحصول على قسط من الراحة لكنه رفض وانتهى به الأمر وقد غفى على المقعد الخلفي في سيارة والد رحيم.


في ذلك الوقت هاتفت أفنان رحيم وكانت الساعة تقريبًا الخامسة والنصف وكانت المحادثة كالآتي:


"ازيك يا رحيم أنت كويس؟ وأنس عامل أيه دلوقتي؟"


"أحنا كويسين الحمدلله، أنس نايم في العربية برا وأنا قاعد في Cafe بشرب قهوة."


"ربنا يعينكوا والله أكيد مُرهقين أوي.. ده أنتوا محتاجين تناموا سنة بعد كل ده."


"إن شاء الله هنام ونستريح ونعمل كل حاجة نفسنا فيها  بس اليوم ده يخلص على خير."


"إن شاء الله."


"أفي أنا بجد أسف.. كان نفسي نحتفل باليوم بطريقة أحسن من كده لكن أنس بيه كان له رأي تاني و Uncle فريد طبعًا منقدرش نقول حاجة ده أمر الله." أردف رحيم بحرج  لتبتسم أفنان من لُطفة وتُعلق على حديثه قائلة:


"مش مهم كل ده قدر يعني، المهم أنه كويس دلوقتي.. وبعدين لو اليوم كان مشي حلو كان هيبقى في حاجة غريبة أصل أنا مينفعش يعدي عليا يوم كويس من أوله لآخره."


"الأيام الحلوة جاية كتير إن شاء الله Don't worry 'لا تقلقِ'."


"إن شاء الله المهم بس أنك متسيبش أنس خالص في الظروف ديه."


"لا اسيبه أيه بس ده أخويا شِقي زي ما بيقول." تفوه رحيم محاولًا تقليد نبرة أنس لتنفجر أفنان ضاحكة دون إرادة منها قبل أن تُردف بنبرة مرحة نسبيًا:


"بجد أنس ده سرسج أوي معرفش أنتوا الأتنين صحاب ازاي بصراحة بس جدع."


"سرسجي دي يعني صايع صح؟" سأل رحيم بنبرة طفلًا صغير مازال يتعلم الكلام لتعاود أفنان الضحك وهي تؤكد حديثه قائلة:


"اه، صايع.. بيئة.. شوارعي حاجة في الرينچ ده."


"عادي، الفكرة بس إن أنس بيتعامل مع كل الناس وكل الطبقات وكان بينزل يسهر في الشارع مُشرد يعني لكن أنا مامي عمرها ما كانت بتوافق أني اعمل كده."


"أنت فعلًا مختلف أوي عن كل الشباب اللي شوفتهم في حياتي، أنا عمتًا مليش اختلاط بالجنس الآخر غير بابا ونوح بس تقريبًا وابن عمتي اللي مشوفتوش يجي من خمس ست سنين كده بس عمتًا الولاد اللي كنت بشوفهم في الدروس والجامعة مختلفين خالص عنك." تحدثت أفنان بصدقٍ شديد وقد شعرت بالسعادة تغمر قلبها لأنها أصبح بإمكانها التحدث مع رحيم بإريحية أكثر دون إخفاء الأمر عن والديها.


"ودي حاجة حلوة ولا وحشة؟"


"حلوة، يا عم الحج أي حاجة منك حلوة بس الفكرة إنها مختلفة.. أكيد الناس بتحكم عليك وبتسخف عليك عشان طريقتك."


"مش عارف متعرضتش لمواقف زي دي كتير عمتًا يعني ال community اللي أنا فيها معظمها أجانب أو عرب متربيين برا فمعظمهم شبهي."


"قولتلي، يلا خير خير.. أنا هقوم بقى عشان اجهز وهقابلك  في العزاء إن شاء الله."


"يااه مكان Romantic 'رومانسي' جدًا." تمتم رحيم ساخرًا لتُجيبه هي ايضًا بالسخرية ذاتها في بداية حديثة لكنها أنهته بعبارة. وإن كانت ساخرة ولكن نبرتها كانت حادة قليلًا:


"أهو اللي موجود، ويلا اقفل بقى وكفاية نحنحة ده احنا  عندنا حالة وفاة اتقِ الله!"


"صح أنا أسف، خدي بالك من نفسك."


"وأنت كمان، مع السلامة."


أنهت أفنان المكالمة مع رحيم واستقامت من مقعدها واتجهت نحو خزانة الملابس، طالعتها ميرال ببعض الإرهاق وهي تسألها:


"بتعملي أيه يا أفنان؟"


"بشوف حاجة سوداء ألبسها عشان أروح العزاء."


"أجي معاكي؟"


"هو فسحة؟ ولا أقولك تعالي معايا أنا معرفش حد هناك وهبقى قاعدة لوحدي."


"طيب أوعي بقى من عند الدولاب وأنا هطلع حاجة نلبسها."  قالت ميرال لتنفذ أفنان ما قالته وتبتعد.


بعد ساعة تقريبًا كانت تجلس أفنان وشقيقتها ووالدها داخل السيارة التي أرسلها رحيم من أجلهم لتوصلهم إلى المسجد حيث العزاء، ابتسمت أفنان ابتسامة صغيرة لتلك الفكرة.. فكرة أن رحيم يتذكرها ويهتم بشأنها حتى في أصعب الأوقات وأكثر ضغطًا، فابالرغم من انشغاله مع أنس والتجهيزات إلا أنه لم ينسى أفنان.


"البقاء لله." تمتمت أفنان فور رؤيتها لرحيم وأنس الواقفين في الخارج لإستقبال القادمين لأداء العزاء، قامت أفنان بالتعزية وتلتها ميرال.. كانت ميرال تنظر بمزيج من الشفقة والآسى نحو أنس الذي وقف كالجماد وأي شخصًا آخر كان ليقول أنه انسان بارد المشاعر لا يهمه فراق والده لكن لسببٍ مجهول شعرت هي بكم الحزن والهم الذي غلف قلبه هي لا تعرفه جيدًا لكنها تتمنى لو بإمكانها التخفيف من حزنه ومن حزن جميع من تعرض للفقد.


توجهت أفنان برفقة ميرال للجلوس في القاعة المخصصة للنساء، انبهرت أفنان من هيئة النساء هناك.. بعضهم يضعون مساحيق التجميل ويرتدون ثياب سوداء اللون لكنها تليق أكثر بالذهب إلى حفل أو قضاء أمسية لطيفة وليس الذهاب لتقضيه واجب العزاء.


"أيه المجتمع ده؟" سألت أفنان ميرال ساخرة وهي تحاول تجنب حقيقة أن الجميع يحدقون بهم بتعجب فلقد بدت هيئتهم مُختلفة كثيرًا عن من حولهم وكأنهم مخلوقات فضائية.


"أڤ.. Hello 'مرحبًا'." اخترق صوت أنثوي رقيق مسامع أفنان ومن اسم التدليل المُستخدم استطاعت أفنان توقع صاحبة الصوت ومن سواها؟ ميا.


"ميا! ليكي واحشة والله.. أنتي تعرفي أنس؟"


"بس يا أفنان وطي صوتك أيه الفضايح دي!" وبخت ميرال أفنان وهي تضربها بخفة لتتجاهلها أفنان وتذهب للترحيب بميا وضمها.


"أعرفه أيه بس؟ He is my best friend 'إنه صديقي المُقرب'."


"أيه ده بجد؟ طب وكنتِ تعرفي المرحوم؟"


"أجل بكل تأكيد 'Yes of course'."


قاطع الهدوء السائد في المكان عدا من صوت قراءة القرآن العذب صوت بكاء هو أقرب للنواح قادم من جهه المكان المُخصص للنساء، انتفض أنس بإستياء شديد فهو لا يكره شيء في حياته أكثر من العويل والنحيب.


"في أيه مين اللي بيصوت كده؟"


"فريد مات يا أنس!! أنت اللي موته حرام عليك!" صرخت والدة أنس التي ظهرت من اللامكان والتي اتضح أنها صاحبة صوت البكاء المُرتفع، جذبت أنس من ثيابه بقوة لينظر نحوها هو بجمود تام وهو يحاول إبعاد يدها بهدوء تحت أنظار الجميع.


"أنا عمري ما هسامحك! أنت السبب أني جوزي وحبيبي يروح مني.. منك لله!!!"


"متسامحنيش."


"فين أختك تيجي تشوف اللي بتعمله؟ فين بنتي ولا هتاخدها مني هي كمان؟"


"خلاص خلاص اهدي يا طنط.. وحدي الله." تمتمت ميرال بتوتر شديد وهي تحاول بمساعدة أفنان وميا إبعاد والدة أنس عنه.


"لا إله إلا الله.. منك لله يا أنس.. منك لله."


كان أنس يراقب ما يحدث بتحفذ شديد وكاد أن يفقد أعصابه وينقض على والدته بعنف كما يفتك الوخش بفريسته لولا أن تدخل رحيم وقام بإبعاده من المكان كله، أجبره رحيم على السير بعيدًا حتى وصلا إلى خارج المسجد.


"اهدأ يا أنس..She's mentally ill and you know it 'إنها مريضة نفسيًا وأنت تعلم ذلك' متاخدش على كلامها."


"جايه تفضحني في العزاء وسط الناس! بتدعي عليا.. بتدعي عليا أنا؟! أنا مخي مش قادر يستوعب المهزلة دي." صاح أنس مستنكرًا فعلتها ليحاول رحيم تهدأته مُردفًا:


"خلاص بقى أفنان وميرال خدوها بعيد، خلي اليوم يعدي على خير وبعدين صفوا حسابكوا سوا."


"ماشي، معاك سيجارة؟" سأل أنس بنفاذ صبر ليحمحم رحيم وهو يُشيح بنظرة بعيدًا عن رحيم قبل أن يهمس:


"لا.. أصل أفنان مش بتحب التدخين."


"ولا بلاش... استغفر الله العظيم يارب، امشي من وشي يا رحيم لو سمحت."


بعد مرور ساعة تقريبًا وبعد أن هدأت الأجواء، حان موعد رحيل أفنان.. أشارت إلى رحيم بهدوء ليتبعها نحو الخارج ويودعها هي ووالدها وميرال والذان ذهبا إلى السيارة بينما وقفت أفنان تثرثر مع رحيم لثوانٍ قليلة.


"أفي أنا أسف طبعًا أننا مش عارفين نعرف الناس بموضوع قراءة الفاتحة دلوقتي.. الوضع حساس طبعًا، I am so sorry.. promise i will make it up to you 'أنا أعتذر بشدة، لكن أعدكِ سأعوضكِ عن ذلك'."


"يا رحيم بجد مفيش داعي للإعتذار خالص وبعدين كده كده أنا قربت ابدأ امتحانات وهبقى مشغولة أوي ومفيش وقت للإحتفال اساسًا.. أنا بس هعرف خالتو وتيتة وكده بس لحد ما نحدد الخطوبة إن شاء الله."


"إن شاء الله يا حبيبي." شعرت أفنان بنبضات قلبها تتضاعف حينما قال هو لفظة 'حبيبي'، شعرت بوجنتها تشتعل حمرة وحاولة تغير مجرى الحديث..


وبعد مرور بضع دقائق وتبادل العبارات القصيرة ودع رحيم أفنان وهو ينظر نحوها بمزيج من الحب والإرهاق فهو لم يحصل على قسط كافي من النوم منذ أن وصلهما الخبر.. كانت أفنان تنظر نحوه بحنان وهي تتمنى لو بإمكانها أن تُخفف عنه آلمه لكن كلاهما لم يُدركا وجود تلك المرآة الشقراء داخل السيارة على الجانب الآخر من الطريق وهي تراقبهما بسخط شديد، فكيف لفتاها الوحيد أن ينوي الزواج من فتاة كتلك؟!!


لقد وصلت والدة رحيم إلى ساحة المعركة ولكن لحسن الحظ لقد تحركت السيارة التي تحوي بداخلها أفنان ووالدها وشقيقتها قبل أن تُهاجمهم والدة رحيم بسُم لسانها.


"أهلًا بحضرتك يا مامي."


"ازاي محدش يبلغني بخبر زي ده؟" بعبارات لائمة وبعربية قد سحقها القطار وبخته والدته، زفر رحيم بإرهاق شديد وهو يُجيبها بآدبه المعتاد:


"عشان كل حاجة حصلت بسرعة يا مامي، وبعدين خلاص حضرتك عرفتي وجيتِ.. على فكرة مامت أنس هنا."


"تمام."


فور عودة أفنان وميرال المنزل هاتف نوح ميرال بعد أن علم بالأحداث كلها عن طريق شقيقته مريم التي عادت إلى المنزل في صباح اليوم، لم تكن تعلم مريم بذهاب ميرال إلى العزاء برفقة أفنان ووالدها ولكنها توقعت ذلك ونقلت توقعها إلى نوح.


"أيه يا ميرال بكلمك من بدري مش بتردي عليا ليه إن شاء  الله؟"


"أيه ده في أيه متعصب عليه؟ كنت برا البيت والتليفون كان صوته واطي." سألته ميرال بنبرة حنونة في محاولة منها لإمتصاص غضبه لكن الأمر لم يزيده سوى غضبًا فوق غضبه وهو يسألها بحنق:


"كنتِ في عزاء أبو الواد الصايع ده صح؟"


"أولًا هو مش صايع، ثانيًا اه كنت في العزاء مع بابا وأفنان  فين المشكلة؟"


"فين المشكلة؟ أنتي بجد بتسألي؟ أنتي تروحي العزاء ده بتاع أيه يعني إن شاء الله؟ قريبك ولا صاحبك ولا أخوكي  وأنا معرفش؟"


"هو أيه الأسلوب اللي بتتكلم بيه ده يا نوح؟ أنا عمري ما حد قالي أنت رايحة فين وجايه منين غير بابا ومحدش ليه الحق اصلًا، وأنا بقولك كنت مع بابا وأفنان هو أنا كنت لوحدي يعني؟"


"ياستي أنا خايف عليكي وغيران عليكي وهو ده أسلوبي لو مش عاجبك خلاص!"


"يا نوح بطل تتكلم بالإسلوب ده من فضلك.." تحدثت ميرال ببعض الإنفعال بينما شعرت أنها على وشك البكاء فنوح يوبخها بنبرة حادة وهي لم تُخطئ في أي شيء وكل ذلك الشجار لمجرد ذهابها فماذا إن علم بما حدث مع أنس.. انقضت أفنان على ميرال لتسحب منها الهاتف وتُحدث نوح بدلًا منها، أمسكت أفنان الهاتف وسألت نوح بنبرة مُشمئزة مُستنكرة:


"أنت يالا عامل غاغة ليه ومصدعنا؟ عايز تتقمص اتقمص وغور في داهية مش ناقصين!"


"أنتي ازاي تتكلمي..." لم تدعه أفنان يُنهي جملته وأنهت المكالمة ثم نظرت نحو ميرال بعتاب وهي تُردف:


"أنا مش عارفة المفروض أقول أيه، أنتي هيجي يوم وهتتعبي من قرفه وهتُدركي إن الحب مش كل حاجة وأتمنى أن اليوم ده يجي قريب وميبقاش فات الآوان." تحدثت أفنان بهدوء شديد وحاولت قدر الإمكان انتقاء كلماتها فهي لا تُريد جرح مشاعر شقيقتها في النهاية، يكفي ما فعله بها ذلك الأخرق.. أنهت أفنان جملتها وغادرت الحجرة تاركه ميرال تنفرد بحزنها ودموعها المُنهمرة.


في منطقة بعيدة نسبيًا وبعد مرور مدة زمنية ليست بقصيرة عاد أنس ورحيم إلى الفندق فلقد فضل رحيم تجنب والدته تمامًا فهو لم ينم منذ ليلة أمس ولا طاقة له للشجار، تمدد أنس بثيابه كاملة على السرير وألقى رحيم بجسده إلى جانبه، أغمض أنس عيناه بإرهاق شديد وهو يشعر بآلم شديد يجتاح رأسه وكأن أحدهم قد حطم رأسه بمطرقة معدنية، كان الصمت يُغلف المكان قبل أن يقطعه أنس وهو يسأل رحيم:


"هو أيه اللي حصل عند أفنان في البيت؟ أنا مش فاكر حاجة.. آخر حاجة فاكرها أني كنت في الحمام وخرجت لاقيت أخت أفنان في وشي."


"لاقيتها في وشك وبس؟" سأل رحيم وهو يحاول كتم  ضحكاته ليطالعه أنس بحنق وهو يسأله:


"اه وبس.. أيه اللي بيضحك يعني مش فاهم؟"


"أنس هو literally 'حرفيًا' أنت كنت واقع في حضن البنت، قابلتها في وشك أيه بس."


"بنت مين؟!" سأل أنس وهو ينتفض بإنتباه شديد ويقترب من  رحيم ليكون في مواجهته.


"أكيد مش أفنان يعني، أنا قصدي ميرال.. ميرال أخت أفنان." نبس رحيم بتوتر قبل أن يصيح أنس بصدمة:


"يا خبر أسود!!!" قال أنس وهو يستقيم من السرير كمن لُدغ  من حية وهو يضرب كفيه ببعضهم البعض بينما يسب أسفل أنفاسه، ألم يجد شخصًا أفضل ليفقد الوعي في أحضانه بدلًا من الفتاة التي يشعر بالإنجذاب نحوها؟! ما نوع التعويذة السحرية التي أُلقيت عليه لينال كل هذا الحظ السيء.


"في أيه اهدأ ما أنت كنت تعبان هو أنت كنت قاصد يعني؟ وبعدين هي لحقتك عشان كانت خايفة راسك تتفتح لو اتخبطت في الأرض."


"كانت سابتها تتفتح أحسن!!! ياربي عالإحراج.. أودي وشي منها فين بعد كده؟!"


"وأنت هتشوفها تاني فين أصلًا؟ آخرك يعني هتشوفها في  الخطوبة وابقى اعمل نفسك مش واخد بالك منها."


"لا طبعًا مش هينفع أيه قلة الذوق دي؟ صحيح أنت هتعمل الخطوبة أمتى؟" سأل أنس ليُصدم رحيم من سؤاله الأخير.. فلقد كان رحيم ينوي تأجيل الخطبة لمدة كافية بسبب ما حدث، ظل رحيم صامتًا لبرهة لينظر نحوه أنس بتعجب منتظرًا رده.


"مش عارف..  Probably after 3 months or maybe more, I don't know 'في الغالب بعد ثلاثة أشهر أو ربما أكثر من ذلك، لا أدري'."


"أنت أكيد مش ناوي تأجل عشان موضوع فريد صح؟ ملكش دعوة بيا ولا بيه."


"مش هينفع يا أنس.. قبل ما تتخانق معايا كده كده أنا  مستني أفنان تخلص الترم ده وبعدها نعمل ال Engagement party 'حفلة الخطبة' في الاجازة."


"تمام يا رحيم على راحتك."


مر شهرًا ونصف على ليلة العزاء تلك.. لم ترى أفنان رحيم سوى مرة واحدة في زيارة إلى منزلهم لم تستمر أكثر من ساعة ونصف حيث جاء بناءًا على طلب والدها كي يأخذ 'الشبكة' ويبقيها في حوزته.. مازال أنس يحاول التعافي من تلك الليلة ومن الأحداث الصعبة التي مر بها، بدأت حالة أروى في التحسن التدريجي وبدأت في جلسات العلاج الطبيعي كي تسترد قدرتها على التحرك مجددًا ومازال أنس لم يُعلمها بوفاة والدهما أو خروج والدتها من مستشفى الأمراض النفسية والعقلية.


عاود رحيم الإختفاء النسبي خاصته مجددًا لكن أفنان لم تملك الرفاهية للشجار فلقد كانت منشغلة في اختبارات الجامعة والتي حرص نوح على جعلها أكثر صعوبة بقدر الإمكان وفي الوقت ذاته كان حريصًا على أن يبتاع الكثير من الأشياء من أجل عش الزوجيه الخاص به هو وميرال بالرغم من أنه قد اتفق مع والدها في السابق أن يقوموا بتجهيز المنزل على مهل إلا أنه بعد خبر ارتباط أفنان صار في موضوع المنافسة مع رحيم.


في صباح اليوم الأخير لإختبارات أفنان، استيقظت هي بحماس مفرط بالرغم من عدم حصولها على قسطٍ من الراحة سوى لثلاثة ساعات ونصف تقريبًا، فلقد قضت الليل بأكمله في المذاكرة.. لم يكن حماسها مقتصر على كونها ستُنهي اختباراتها اخيرًا بعد شهور من العذاب بل لأن رحيم كان سيقضي اليوم في منزلهم وسيتناولون الغداء سويًا.


في تمام الحادية عشر أنهت أفنان الإختبار واتجهت مباشرة إلى المنزل كي تساعد والدتها في تجهيز الغداء والتأكد من نظافة المنزل ولكن في طريقها استوقفها رسالة وصلت إلى هاتفها وكان محتواها كالتالي:


"هل تظنين حقًا أنه يُحبكِ وأنه يُخبركِ بكل شيء؟ إذًا عليكِ أن تسأليه عن محادثتنا ليلة أمس''Do you really think  that he loves you and that he tells you everything? Then you should ask him about our conversation last night'."


___________________________________


(تذكره: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ الفقرِ، والقلَّةِ، والذِّلَّةِ، وأعوذُ بِكَ من أن أَظلِمَ، أو أُظلَمَ.)

الفصل الثامن والثلاثون: لِقَاء الْعَمَالِقَة 🦋✨🤎


في تمام الحادية عشر أنهت أفنان الإختبار واتجهت مباشرة إلى المنزل كي تساعد والدتها في تجهيز الغداء والتأكد من نظافة المنزل ولكن في طريقها استوقفها رسالة وصلت إلى هاتفها وكان محتواها كالتالي:


"هل تظنين حقًا أنه يُحبكِ وأنه يُخبركِ بكل شيء؟ إذًا عليكِ أن تسأليه عن محادثتنا ليلة أمس'Do you really think that he loves you and that he tells you everything? Then you should ask him about our conversation last night'."


تعلقت عين أفنان بالهاتف لبضع ثوانٍ بينما يحاول عقلها استيعاب ما قد قرأته، رحيم قضى ليلته يتحدث إلى؟ إليها.. من تكون هي من الأساس؟ وتُشكك في مشاعر رحيم تجاهها؟!


على الفور هاتفت أفنان رحيم لكنه لم يجيب، حاولت أفنان مهاتفه مجددًا لكنه لم يُجيب كذلك في المحاولة الثالثة أجاب رحيم بصوتٍ ناعس:


"أفي.. Good morning 'صباح الخير'."


"صباح النور."


"عارفة يا أفي، مفيش حاجة ألطف من أني اصحى من النوم على صوتك."


تفوه رحيم بكلماتٍ معسولة وبنبرة تُذيب الحجر لكن توتر أفنان وغضبها من تلك الرسالة لم يجعلها تنتبه لما يقوله لذا تجاهلت حديثه وسألته الأسئلة الآتية بشك:


"كل ده نوم؟ كنت سهران ولا أيه؟"


"يعني."


"يعني أيه يعني؟ يا اه يا لا." علقت أفنان على حديثه بحنق واضح ليتعجب رحيم فمنذ بدء المحادثة لم يتفوه بحرفٍ واحد قد يُزعجها لذا سألها بقلق:


"أفي أنتِ كويسة؟ صوتك مش مضبوط."


"مفيش.. أنا بس عايزة اعرف أنت نمت امبارح أمتى؟"


"بس كده؟ طيب يا ستي أنا نمت يعني nearly 3 AM 'ما يقرب من الثالثة صباحًا'."


"كنت بتخلص شغل ولا سهران مع أنس عادي؟"


"أنا مش فاهم سر الأسئلة الكتير دي.. عمتًا كان معايا مكالمة.. بنت كانت زميلتي في الجامعة، كانت بتسألني على حاجات ليها علاقة بال Master 'ماچيستير' هنا في مصر."


"اه وهي زميلتك وبس؟" كانت رائحة الغيرة تفوح من حديث أفنان وقد أسعد ذلك رحيم لكن في الوقت ذاته شعر بالتوتر يتخلل قلبه ليُجيبها بتلعثم:


"لا.. قصدي حاليًا اه بس.. أنا مش فاهم حاجة، هو في أيه؟"


"ممكن تجاوب على أسئلتي من فضلك؟"


"طيب.. أيه رأيك نتقابل ونتكلم في الموضوع ده براحتنا؟"


"كلم بابا استأذنه، مع السلامة."


زفر رحيم بضيق وهو يُعيد خصلات شعره نحو الخلف، لا يدري ما خطب أفنان لكن يبدو أن هناك شيء ما يُزعجها.. ولماذا قامت بفتح تحقيق معه بشأن سهره ليلة أمس بل ومن أين علمت ذلك من الأساس؟! فلقد غفت باكرًا ليلة أمس من أجل الإستيقاظ في موعد الإختبار.


بعد عشرة دقائق تقريبًا هاتف رحيم والدها وظل يقنعه لمدة لا بأس بها أن يصطحب أفنان للجلوس في أحدى المقاهي العامة وقد وافق والدها بعد أن وضع عدة شروط.


في الخامسة والنصف وبعد أن استيقظت أفنان من القيلولة أو الغيبوبة فلا قيلولة تستمر لخمسة ساعات والتي حصلت عليها بعد عودتها من الجامعة.


بدلت ثيابها سريعًا إلى ثياب أنيقة فابالرغم من غضبها إلا أنها ارادت أن تبدو بمظهر مُرتب يليق بزوجها المُستقبلي.


"أفنان أنتِ جهزتي؟"


"اه يا حبيبي خلاص هنزل أهو."


"طب تعالي أتكلم معاكي شوية."


"حاضر."


"أنا مش هطول عليكي عشان متتأخريش على رحيم، بصي يا حبيبة بابا أنا عايز بس انبهك لحاجة صغيرة، أنتي ورحيم مخطوبين أو في حكم المخطوبين اه بس مش متجوزين."


تفوه والدها لتنظر نحوه أفنان بتعابير وجه خالية قبل أن تُطالع والدها في بلاهة وهي تُردف:


"ايوا أنا ما أنا عارفة أكيد.. لا ثواني أنا مش فاهمة حاجة؟"


"يعني ميفعش مثلًا مثلًا أنه يمسك ايدك ولا يمشي قريب منك ولا الهبل اللي بيتعمل ده!" كان نبرة والدها تحوي في طياتها الغيرة والإستياء فقط من التفكير فيما يقوله، ضحكت أفنان ضحكة صغيرة قبل أن تقول بجدية:


"لا طبعًا يا بابا هو لو فكر يعمل كده هكسرله ايده عامًة."


"وكمان ميصحش تسهروا تتكلموا لوقت متأخر ولا تعملولي فيها حليم وشادية أظن أنتي فهماني، كل سنة ولا سنة ونص وتتجوزوا إن شاء الله ابقوا حبوا في بعض براحتكوا."


"تحت أمرك يا حبيبي.. حاجة تاني؟"


"لا سلامتك، اه أنا هعدي عليكي بالعربية أروحك."


"تمام."


في تمام السادسة والنصف كانت السيارة تنتظرها أسفل المنزل كي تصطحبها إلى المطعم حيث ينتظرها رحيم الذي أوشك دوامه على أن ينتهي، وصلت أفنان إلى المكان في خلال ساعة تقريبًا.. كان مطعم فاخرًا كالمعتاد، جاء رحيم وعلى وجهه ابتسامة مُشرقة حينما رأى أفنان في حين أنها قابلته بوجه متجهم.. عقد حاجبيه وهو يُردف:


"مساء الخير أفي، Why are you looking so mad 'لماذا أنتِ غاضبة لهذه الدرجة'؟"


"مين البنت اللي كنت بتكلمها إمبارح؟ اسمها أيه؟ وتعرفها منين؟ وليه كلمتها أصلًا.. وليه هي بعتتلي  Message 'رسالة' زي دي؟" سألته أفنان عدة أسئلة متتالية دون أن تترك ولو ثوانٍ بين السؤال والذي يليه.


"لحظة لحظة.. First of all calm down 'قبل كل شيء.. اهدأي'، و بعدين ثواني.. Message 'رسالة' أيه؟"


حاول رحيم تهدأتها لكن في المُقابل أخذت أفنان تُحرك قدمها بحركات متتالية دلالة على التوتر، أخذت نفسًا عميق قبل أن تُردف:


"جاوب على أسئلتي أنا الأول."


"حاضر، أنا مش هتضايق من أسلوبك الهجومي اللي بتتكلمي بيه عشان أنا مُقدر أنك غيرانة ولكن من فضلك افتكري إن لما أنس جيه قالي أنه شافك قاعدة مع نوح أنا متعصبتش وجيت كلمتك بهدوء."


"أولًا أنا مش غيرانة أساسًا أنا بس بسأل.. ثانيًا بقى أنت وقتها مكنتش خطيبي ومكنش في علاقة تجمعنا فمكنش من حقك تغير."


"مش مضبوط، الكلام ده كله مش مضبوط.. أنتِ غيرانة، It's so obvious 'إن الأمر واضح للغاية' أصلًا، وبعدين أحنا اه مكناش مرتبطين بس  I had feelings for you at the time 'لكنني كنت أكن المشاعر تجاهكِ في ذلك الوقت'."


"بقولك أيه متاخدنيش في دوكة وفهمني كل حاجة من طقطق لسلامو عليكوا." قالت أفنان بغيظ شديد لينظر نحوها  رحيم بثغرٍ مفتوح وقد ضيق عيناه تعبيرًا عن عدم فهمه لكل ما قالته تقريبًا عدى أن يُفهمها كل شيء..


"طيب البنت اللي كنت بكلمها اسمها ناتالي، وناتالي دي كانت زميلتي في الجامعة.. هي اتصلت بيا امبارح زي ما قولتلك عشان بتسألني على اجراءات تحضير ال  Master 'رسالة الماجستير' في مصر، اللي أنا مش فاهمة بقى أنتِ عرفتي منين؟ كلمتيني ولاقيتيني مشغول؟ بس مش منطق لأنك المفتىض نمتي من بدري."


"ثواني ثواني.. أنا حاسه أنك قاطع حتة كده في النص.. قولي علاقتك بيها أيه تاني كده؟ ومن غير كدب وتحوير."


"حاضر.. طيب من غير عصبية ولا خناق.. She is my ex girlfriend 'إنها خليلتي/حبيبتي السابقة'."


"كنت مصاحبها!! سهران تتكلم مع واحدة كنت مصاحبها يا رحيم! لا لحظة واحدة كده عشان لو اللي في بالي طلع صح هيبقى سواد عليك.. هي دي اللي كنت حاضنها في الصورة؟!!"


صاحت أفنان بإنفعال شديد وهي تشعر بالنيران تحرق قلبها، لم تُدرك أفنان أين هي وبرفقة من كل ما تعرفه هو أنها غاضبة وبشدة، رمقها رحيم بحدة نسبيًا وهو يُردف بحنق:


"أفنان! وطي صوتك أحنا في مكان عام! You can't talk to me in that tone 'لا يمكنكُ التحدث إلي بهذه النبرة'!"


"ماشي أنا أسفة، فهمني بقى." أعتذرت أفنان على الفور عن غير اقتناع وهي تعقد كلتا يديها أمام صدرها ليتنهد رحيم وهو يسألها:


"افهمك أيه؟ ,I told you everything, and now it's your turn 'لقد أخبرتكِ بكل شيء والآن حان دورك'."


"في رسالة اتبعتتلي امبارح بليل.. بس أنا شوفتها وقت لما كلمتك، اتقالي فيها أنك كنت سهران تحب في التليفون مع واحدة وأنك مش بتحبني." تمتمت أفنان بنبرة هادئة عكس  التي كانت تتحدث بها قبل قليل وقد بدى أنها قد تٱثرت كثيرًا بما كُتب في تلك الرسالة، زفر رحيم في ضيق قبل أن يُردف بجدية:


"وريني ال Message من فضلك، عايز أشوف الرقم كمان."


"تعرف الرقم؟"


"لا، اللي باعت ال Message مش ساذج للدرجة، بس أنا هعرف ده رقم مين.. عالعموم متشغليش بالك باللي اتكتب، ده كله مش صح."


"مشغلش بالي ازاي يعني؟"


"أفي، حبيبي.. This is staged 'هذا مرتب' الأمر واضح جدًا، حد عايز يوقع بينا.. حد عارف أني كنت بكلم ناتالي امبارح.. حد عارف أني غالبًا مش حكيلك عنها.. حد زي ناتالي نفسها أو.."


"أو مين؟" استفسرت أفنان وقد عقدت حاجبيها ليزفر رحيم بضيق شديد قبل أن يهمس:


"مامي.."


"أمك؟! وهي هتعوز توقع بينا ليه؟ هي مش موافقة عالجوازة صح؟ أنا قلبي اتقبض برضوا من وقت ما عرفت أنها عايشة.." عادت أفنان لإنفعالها وقول كلمات غير مناسبة تمامًا، اضطربت معالم رحيم مجددًا وهو يُردف مستنكرًا:


"أفندم؟"


"قصدي يعني أنك لما جيت مع باباك وأنس بس افتكرت أنها بعد الشر يعني متوفية لكن لما عرفت أنها عايشة ومجتش قلقت."


"هي كانت مسافرة أصلًا وقتها."


"وهو ده السبب يعني؟ مش أنها مش موافقة مثلًا؟ " سألت أفنان بغتة ليحمحم رحيم وهو يتحرك في مقعده بعدم راحة، يتحاشى النظر إلى عيناها فهو لن يقاوم رغبته في الإفصاح عن كل ما يدور في خاطره إن قام بعمل تواصل بصري معها.


"بص في عيني ورد عليا يا رحيم من فضلك."


"أفي أنتِ عايزة تضايقي نفسك وخلاص؟" سألها رحيم بضيق لتجاوب على سؤاله بسؤال كذلك:


"أنتَ ليه مش صريح معايا؟"


"أنا صريح، الفكرة إن مش طول الوقت ينفع احكيلك كل حاجة.. أوقات بتبقى حاجات متهمكيش أصلًا."


"متهمنيش ازاي يعني؟ وبعدين من المفترض أننا هنتجوز يعني هنبقى واحد.. يبقى تخبي عليا ليه؟"


"لا يا أفي مش هنبقى واحد، هنفضل اتنين عادي.. كل واحد هيفضل ليه شخصيته وأسراره وحاجات خاصة مش بيشاركها مع حد."


"أنا أول مرة اعرف إن الجدال معاك مُرهق أوي بالشكل ده." تحدثت أفنان بنبرة جادة وهي تزفر بضيق وكانت تنتظر أن يرد رحيم فعل على ما قالته لكنه بدلًا من ذلك ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يُخرج قلم من جيب معطفه و 'note.. نوتة' صغيرة ليدون فيها أرقام ما وما إن نظرت أفنان طويلًا حتى أدركت أنها ليست مجرد أرقام بل تاريخ.


"هو أنت سايبني أهاتي مع نفسي وبتكتب أيه؟"


"تاريخ النهاردة.. أول خناقة أو argument 'جدال' يعني من أول ما ارتبطنا." تمتم رحيم مع ابتسامة جانبية جذابة كاشفًا عن أسنانه لتشرد أفنان في وجهه الذي كان شبيه باللوحات الزيتية فائقة الجمال.


"رحيم أنت.. أنت بتلغبطني.." نبست أفنان بصدق وبدون تفكير، فرحيم دائمًا ما يجعلها مشتتة، لُطفة المُبالغ فيه حتى أثناء تلك المواقف السيئة بينهم تجعلها تذوب في حُبه أكثر وأكثر..


قاطع شرودها في التفكير في الجالس أمامها صوت رنين هاتفه، على الفور انتفضت أفنان وهي تحاول اختلاس النظر نحو المتصل، حرك رحيم رأسه مرتين يمينًا ويسارًا بإستياء وهو يقلب الهاتف تجاهها لكي يسمح لها برؤية المتصل والذي استشفت أفنان أنه كان أنس فما كان رحيم ليُطلق اسم 'My little bro 'أخي الأصغر' على شخصًا آخر غير أنس.


"ألو.. اه أنا مع أفي، ده صوت أروى؟ سلم عليها وقولها أني هاجي اطمن عليها لما اخلص مع أفي.. تمام مع السلامة."


"نهارك أبيض! بتتغزل في بنت تانية عيني عينك؟! يا بجحتك يا رحيم.. يا نيلة بختك يا أفنان!!" بنبرة درامية ثرثرت أفنان بهذه الترهات وما كان على رحيم فعل شيء سوى أنه قام بحشر قطعة من الخُبز في فم أفنان لكي تصمت لبعض الوقت.


"بس بقى شوية!! دي أخت أنس، ضوأحنا متربين سوا وهي تعبانة شوية وأنا هروح المستشفى ازورها!"


"أيه ده بجد؟ ألف سلامة عليها.. أنا أسفة مكنتش أعرف.."


"حصل خير يا أفي حصل خير.."


بالإنتقال إلى مكان آخر.. داخل حجرة كبيرة ومُتطورة داخل أحدى كُبرى المستشفيات في مصر يجلس أنس على الأريكة في انتظار استيقاظ شقيقته من قيلولتها وفي الوقت ذاته كان أنس يعبث في الأوراق التي أمامه، كان يُحاول رسم تلك الملامح التي يتذكرها والتي قفزت إلى عقله بصورة لا إرادية.. حينما أدرك أنس لمن تنتمي تلك الملامح قام بتشويه الرسمة بصورة عشوائية بواسطة القلم، فلا يجب عليه الإنخراط وراء تلك المشاعر الهوجاء.. أجل لقد كان الأمر برمته رومانسيًا.. مقابلتهم بالقرب من النيل، ومن ثم إنقاذها له في المنزل أو بالآحرى سقوطه بين أحضانها..


أليس ذلك المشهد غاية في الرومانسية بل ويليق بأفلام السبعينيات؟ بالطبع مع فارق أن البطل هو الذي من المفترض أن يحمل البطلة وليس العكس ولكن على أي حال لقد أفسد كل ذلك خاتم الزواج الذهبي الأحمق الذي ترتديه حول إصباعها ويا تُرى لمن يعود ذلك الخاتم..


مهلًا.. لقد تذكر أنس لمن ينتمي وكاد أن يُفرغ ما في معدته من شدة التقزز.. نوح؟! هذا الملاك اللطيف ينوي الزواج من كتلة اللزاجة تلك؟!


هو لا ينكر أن نوح انسانًا ناجحًا على المستوى العملي لكنه يملك شخصية من أسوء الشخصيات التي قابلها أنس في حياته يومًا، وهو واثق أنه سيء جدًا في التعامل مع النساء وبشكل خاص فتاة كميرال.


"أنس.. أنت.. كويس؟"


"اه يا حبيبتي.. صباح الفل، معلش مخدتش بالي أنك صحيتي." قال أنس بعد أن فاق من شروده وقد رسم ابتسم بلطف لتُبادله أروى الإبتسام وهي تُردف:


"ولا.. يهمك، شكلك مشغول."


"لا.. يعني، في كام حاجة كده ساحلة دماغي."


"بتحب؟" سألت أروى لتضطرب معالم أنس وهو يضحك  ضحكة بلهاء مُستنكرًا ما قالته بينما يُردف بتلعثم:


"لا لا طبعًا، أحب أيه بس؟ هو أنا بتاع الكلام ده برضوا؟" ساد الصمت لثانية بعد تلك الجملة قبل أن يُضيف أنس:


"بصراحة أنا واقع جامد." ضحكات لطيفة مُنهكة صدرت من  أروى وهي تُغلق عيناها ببعض الآلم كردة فعل على جملة أنس، فلقد كانت تعلم أنه يكذب وكانت تنوي مصارحته بذلك لكنه عدل جملته من تلقاء نفسه دون أي جهدًا منها.


شرد أنس لثوانٍ في ضحكة شقيقته الرنانة التي أدخلت الدفء على قلبه بعد ليالي الزمهرير الطويلة، ابتسامة ملائكية زينت ثغرها وبالرغم من إمارات التعب والمرض التي ماتزال بادية عليها بنسبة إلا أنه كان يراها أجمل فتاة في هذا الكون بأكمله.


"احكيلي.. كل حاجة."


"مفيش حاجة تتحكي، ولا أقولك.. أنا بحب بنت، أجمل بنت في الدنيا.. رقيقة وعينيها عسلي كده وشعرها طويل.. واسمها أروى." تمتم أنس بلطف وهو يضحك لتبتسم أروى وهي تحاول أن تضربه بخفة لكن لا تقوى على ذلك، تنظر نحوه ببعض الغيظ وهي تُتمتم:


"أنا بتكلم بجد."


"بعدين بعدين هبقى أحكيلك."


"أنس.. هو.. مامي.. ليه مجتش تشوفني؟ ولا بابي كمان.." سألت أروى بغتة ولا يدري أنس لما خطر ذلك السؤال على رأسها؟ أو ربما لأنه من الطبيعي أن يكون الوالدين إلى جانب ابنتهما في ظروفًا كتلك.. هذا بالطبع إن كان الأم والأب أشخاصًا طبيعية سوية.. وكيف يكون والدهما شخصًا سوي وهو من تسبب في ذلك من الأساس؟!


لا يدري أنس مقدار ما تتذكره أروى عن يوم الحادث المؤسف.. ولا يدري كيف سيُخبرها بأمر رحيل والدهما عن الحياة؟! فمهما طال إخفاء الأمر سيصلها الخبر يومًا ما.. حتى أن هناك بعض الإجراءات الخاصة بالميراث ونقل الملكية مُعطلة لعدم قدرة أروى على الحضور وإنهاء الإجراءات بنفسها، فحالتها النفسية والجسدية لا تؤهلها لذلك.


"طب ثواني وجايلك، نبقى نشوف الموضوع ده." غادر الحجرة وذهب للقاء الطبيب وبعضًا من أفراد الطاقم الطبي المسئول عنها قبل أن يعود وهو يُردف:


"حبيبي اجهزي بقى عشان هنبدأ تدريبات المشي تاني." أمتعضت تعابير وجهها قليلًا، فإن تلك التدريبات مؤلمة كثيرًا وبحاجة إلى الكثير من الجهد لكن وجود شقيقها إلى جانبها يساعدها على تحمل الآلم بل ويقوم بتحميسها على المضي قدمًا.


بعد مرور ساعتين تقريبًا جاء رحيم ليقضي بعض الوقت برفقتهم في المستشفى، وفي أثناء رحيلهم تمتم رحيم:


"ما شاء الله أروى اتحسنت."


"اه الحمدلله، بس لسه المشوار طويل يعني.."


"متقلقش كل حاجة بتعدي.."


"علينا، بتعدي علينا حرفيًا، مالك شكلك متضايق."


"لا مفيش، مرهق بس." تمتم رحيم وهو يُخرج علبة السجائر من أحدى جيوبة ويقوم بإشعال واحده ليرمقه أنس بسخرية وهو يُردف:


"الله! ما أنت بتشرب سجاير أهو، أومال لما كنت بسأل قبل كده كنت بتعملي حوار ليه؟"


"مش وقته سخافة."


"هات دي كده.. أنت بتشربها وأنت مضغوط أو متوتر، قولي أيه اللي حصل أسهل." قال أنس وهو يجذب لفافة التبغ من يد رحيم ويُدخنها هو بدلًا منه.


"أنا جعان، تعالى نرجع عالبيت عندك ونطلب حاجة ناكلها." اقترح رحيم ووافق أنس على الفور واتجه كلاهما إلى منزل أنس الذي انتهى من توضيبه حديثًا بعدما حدث في السابق بسبب والده.


فور ذهابهم إلى المنزل، جلس رحيم في هدوء شديد بينما يسترجع أحداث اليوم وبما فيها شجاره مع أفنان أثناء تناولهم وجبة الغداء، وبالرغم من أن الحديث لم يشتد بينهم لمدة طويلة إلا أنه أدرك أنه ربما يوجد بعض الجوانب من شخصية أفنان التي لم يراها من قبل وكذلك الوضع نفسه عنده..


هو قد اعتاد على أفنان المنفعلة المتسرعة ولكن الوضع قد اختلف قليلًا الآن كما أنه لم يراها مستاءة إلى تلك الدرجة، الدرجة التي لا تجعلها تنتبه إلى من تتحدث وأين.. فهو لم يعد شخصًا غريبًا عنها يمكنها توبيخه طوال الوقت دون وعي منها.. هو أصبح شريك حياتها بشكلًا أو بآخر، كذلك لقد اخطأ حينما أجاب على مكالمة ناتالي فهي لم يعد لها وجود في حياته، لكنه لم تكن في نيته أي شيء سيء هو فقط يعتبرها مجرد مرحلة عابرة وصديقة قديمة ربما..


وبلا شك هو مُخطئ في إخفاء بعض الأمور عنها، لكنه اعتاد على أن إخفاء بعض الأمور قد يكون مفيدًا في معظم الحالات لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لأفنان لذا من الواجب عليه أن يُغير تلك الخصلة.


بعد تفكيرًا عميق توصل رحيم إلى أنه بالرغم من الخلاف الذي حدث اليوم والذي في الغالب قد يتكرر مجددًا فهو لا مشكلة عنده في محاولة الوصول إلى وجهة نظر مشتركة أو على الأقل إلا نقطة إلتقاء بدلًا من قضاء الوقت في الشعور بالإستياء والشجار.. فهو يُحب أفنان وعلى استعداد للتضحية بكل شيء يملك من أجلها وهو يأمل أن تفعل المثل.. فلقد تعب من تقديم الكثير من المشاعر، الإهتمام، التضحية والحب للجميع ومن ثم يحصل على لا شيء في المقابل.


"أيه يسطا؟ يا ابني أنت.. فقدت النطق ولا أيه؟" سأل أنس رحيم وهو يلوح بيده أمام وجهه فلقد كان يتحدث إلى رحيم منذ دقيقتين تقريبًا ولكن الآخر كان شارد تمامًا حتى أنه لم يُجيب على عبارة أنس بل سأله سؤالًا لا علاقة له بما كان يقوله أنس.


"أنس.. أنت شايف الإختلاف في العلاقة حاجة حلوة ولا وحشة؟"


"أيه السؤال المُريب ده؟! فوق يسطا أنت قاعد معايا مش مع أسامة منير." سخر أنس من رحيم ليقذفه الأخير بزجاجة  مياه بلاستيكية وهو يصيح بغيظ:


"تصدق أنا غلطان! غور يلا."


"بص بص بتيجي عليا ازاي أكمني يتيم وأمي في مستشفى المجانين وأختي عيانة." تفوه أنس بنبرة درامية وهو يُعيد خصلات شعره نحو الخلف لينظر نحوه رحيم بإزدراء وهو يُعلق ساخرًا:


"أيه ده أيه ده في أيه؟! أنت هتشحت عليا يا ابني!"


"بص بصراحة أنا الأول كنت شايف الإختلاف حاجة وحشة، ومن غير ذكاء يعني أنت بتسأل عشانك أنت وأفنان.. أنا في الأول كنت شايف أنك تاخد واحدة شبهك.. شبهنا وبعدين أدركت إن التماثل شيء مُمل حتى ولو كان مُبهر في الأول أننا شبه بعض لكن في الواقع إن الإختلافات دي عاملة زي البهارات كده للعلاقة، بتخلي دايمًا في تجديد ومُغامرة وخناق.. حتى الخناق أوقات بيكون ليه مُتعة مختلفة."


"ولو فرضًا إن كلامك صح، مش هاجي برضوا بعد فترة وهزهق من الإختلافات اللي بينا وأحس أني مرهق."


"بص هي العلاقات كلها تزهق وتقرف والواحد اصلًا مستحمل نفسه بالعافية، بس عمومًا يعني اللي أقصده إن يبقى اختلاف في بعض الحاجات مش اختلاف جذري وتام في كل حاجة يخليكوا بتتخانقوا كل ٣ ثواني.. قولي بقى اتخانقتوا ليه؟"


"في الواقع What Happens between me and Afnan stays between me and Afnan 'ما يحدث بيني وبين أفنان يبقى بيني وبين أفنان'."


قال رحيم بجدية مع ابتسامة صغيرة ليُبادله أنس الإبتسام وهو يُردف:


"عجبتني، بس خليني أتوقع برضوا.. حاجة ليها علاقة بالنس.."


"بالبنات يا أنس! اسمها بالبنات يا حبيبي." قاطع رحيم أنس  وهو يستخدم مصطلح أرقى بكثير مما كان أنس على وشك أن يستخدمه.


"تاء مربوطة، حاجة ليها علاقة بتاء مربوطة."


"هو اه بس مش دي بس المشكلة، المشكلة أنها نوعًا ما عرفت أن مامي مكنتش موافقة عليها.. الموضوع كله ملغبط أنا مش فاهم حاجة، أنا محتاج أكلم ناتالي."


"نعم يا أخويا؟ بقى بعد ما قريت الفاتحة وجايب شبكة ب almost ٨٠ ألف جنيه تقولي هتكلم ناتالي!"


"أنت مش فاهم حاجة يا بني آدم أنتَ، هعمل مكالمة وهاجي أشرحلك كل حاجة."


"ها فاهمني بقى."


"طيب ببساطة كده، ناتالي عرفت بطريقة ما أني هخطب أفنان وقررت تيجي تكلمني بأي حجة.. لما قفلت المكالمة معايا اتصلت بمامي تقولها أن هي ازاي مصدومة أني تخطيتها تمامًا وأني بحب واحدة غيرها، مامي اتفقت معاها أنها تبعت مسدچ لأفنان تقول فيها بقى أني مش بحبها وأني سهران أحب في واحدة في التليفون."


"دماغ شيطاني بصحيح!"


"أنا تعبت من الدراما بصراحة، عايز ارتاح شوية."


"لا انشف كده أحنا لسه في أول السكة وأنت كنت عارف أن ده هيحصل من الأول."


"الجملة اللي أنت بتقولها دي هي آخر حاجة أنا محتاج اسمعها دلوقتي، صحيح.. أنت هتقول لأروى أمتى على كل حاجة؟ أنت مأجل الموضوع بقالك كتير وهي من حقها تعرف وعشان كمان تشوفوا الدنيا هتمشي ازاي."


"حاضر.. يومين بس.."


في صباح اليوم التالي قام والد رحيم بالإتصال به وقد طلب منه الحضور على العشاء في المنزل لكي يتناولوا الغداء سويًا برفقة والدته، أبتلع رحيم الغصة التي في حلقه ووافق تجنبًا لحدوث أي جدال، وفي مساء ذلك اليوم وصل رحيم إلى المنزل في الموعد المحدد، كانت طاولة الطعام قد جُهزت بالفعل ووالديه جالسين بإنتظاره.


"مساء الخير."


"أنتَ في الموعد الصحيح 'You're right on time'." أردفت والدته بنبرة هادئة ليقترب منها رحيم ليُقبل يديها ومن ثم يذهب لتقبيل رأس والده قبل أن يذهب للجلوس في مقعده بينما يُعلق والده مع ابتسامة واسعة:


"رحيم متربي على الإلتزام من صغره."


"الإلتزام بالمواعيد وخرق القوانين التانية."


"في مقولة كده قرأتها حلوة أوي بتقول 'القوانين خُلقت لتُخترق'."


قال رحيم بنبرة واثقة ليقهقه والده بينما تُطالعه والدته بغيظ شديد، ساد الصمت لبرهة من الوقت فيما عدا صوت الملاعق والسكاكين قبل إن تُقرر والدة رحيم أن تكسر حواجز الصمت وتباغته بطلبها الغير متوقع:


"رحيم، أنا عايزة اقابل خطيبتك وعائلتها، مش معقول أكون بقالي شهر ونص في مصر ومقابلتهمش لسه."


"مامي لو..."


"متقلقش، أنا بس عايزة أشوفهم، ونحدد ميعاد ال Engagement party 'حفل الخطبة'، مش كده يا حامد؟"


"تمام، هشوفهم فاضيين أمتى ونروح نزورهم أو نتفق على مكان برا."


"هنا، عايزاهم يزورونا هنا، it will be more comfortable than the restaurant 'سيكون الأمر أكثر راحة من المطعم'."


"مامي أنا فاهم حضرتك بتحاولي تعملي أيه كويس، عالعموم أنا معنديش مشكلة ابدًا وحضرتك لازم تكوني واثقة أني هتجوز أفنان بأي حال من الأحوال إن شاء الله فأي محاولات هتبقى useless 'بدون جدوى'."


"تفتكر."


"لو حضرتك مش مقتنعة اسألي ناتالي كده."


تعمد رحيم إلقاء تلك العبارة في وسط جدالهم لكي يُرسل إلى والدته رسالة غير مباشرة بأنه علم بأمر ناتالي والرسالة، تبدلت معالم وجه والدته على الفور قبل أن تُحمحم وهي تستقيم من مقعدها بينما تنبس بالآتي:


"يوم الجمعة مناسب، Tell them that we will be waiting for them 'أخبرهم بأننا سنكوت بإنتظارهم."


"أيه موضوع ناتالي ده؟ مش كانت سيرة البنت دي اتقفلت خالص؟"


"إيڤيلين هانم كان ليها رأي تاني يا حامد بيه، ولكن مش مشكلة أنا حليت الموضوع."


بالعودة إلى منزل أفنان جلست الأسرة كلها تتناول الطعام برفقة نوح وأسرته، كانت تتخلل الثرثرة تناولهم للطعام مع بعض الضحكات العابرة بينما جلست أفنان شاردة تفكر في رحيم وما حدث، لقد كان واضحًا الإستياء والتيه على معالم وجهها.


"أيه يا أفنان هو النكد بدأ من دلوقتي؟ ده أنتوا لسه بدري عليكوا." سألها نوح متعمدًا إثارة غيظها ليمتعض وجهها وهي تُعلق مستنكرة:


"أعوذ بالله نكد أيه؟ أنا دماغي مشغولة باللي هببته في الإمتحانات."


"لا يا شيخة، هحاول أصدقك."


"إن شاء الله عنك ما صدقت!" همست أفنان من بين أسنانها وهي تُحرك قدمها بعشوائية نحو الأعلى والأسفل، وضعت ميرال يدها على ركبة أفنان وهي تُردف:


"حرام عليكي اتوترت!!" كادت أفنان أن تتشاجر هي وشقيقتها لكن قاطع ما يحدث صوت رنين هاتف والدها والذي بالمصادفة كان إلى جانبه.


"مين يا أحمد؟"


"ده حامد، والد رحيم."


"خير إن شاء الله، أنتي عارفة بيتصل ليه؟"


"لا مش عارفة رحيم مجابش سيرة لحاجة."


قالت أفنان بتوتر لينظر نحوها نوح بإبتسامة ساخرة، مرت دقيقتين تقريبًا قبل أن يعود والدها ويجلس إلى مقعده وقد ارتسمت على وجهه ابتسامته الدافئة المعتادة وهو يُعلن الآتي:


"مفيش حاجة أنتوا قلقانين كده ليه؟ ده والدة رحيم رجعت من السفر وهما عازمينا عالغداء عندهم في البيت يوم الجمعة إن شاء الله."


"عازمينا؟ في بيتهم؟!"


"اه فين المشكلة؟ مش ماما وبابا عزموهم مرتين تقريبًا عالعشاء الدور عليهم بقى." تمتمت ميرال بسهولة، لم يُدرك أحدهم ما تُدركه أفنان وقد تعجب الجميع من تعبيرات وجهها والذي هربت منه الدماء فور سماعها لجملة والدها، فلا أحد منه يعلم أن والدته ترفض هذه الزيجة..


"العروسة شكلها مش مبسوطة.."


"ها؟ بتكلمني يا نوح؟"


"اه بكلمك، مش لسه بدري عالتوهان ده ولا أيه؟"


"يا نوح قولتلك مية مرة شوفلك دكتور تجميل."


"وده ليه إن شاء الله؟"


"عشان مناخيرك دي اللي كل شوية ألاقيها في حياتي، حطها في وشك بقى."


تجهم وجه الجميع وقد كان الإحراج واضحًا على معالم نوح، حمحمت والدته وحاولت تلطيف الأجواء والتطرق إلى موضوع آخر لذا وجهت حديثها لوالد أفنان وهي تسأله:


"طيب يا أحمد هنجيب الأجهزة أمتى؟"


"أيه وجه الإستعجال مش أحنا اتفقنا على سنتين؟"


"أصل نوح بيشطب حاجات في الشقة وممكن بعدها نبدأ نجيب الحاجة.. أنت عارف التجار بيغلوا جامد."


"اه أنا عارف، بس أنتي عارفة أن خطوبة أفنان هتبقى قريب وهتحتاج مصريف."


"اه في دي عندك حق، بس يعني أحنا ممكن نجيب حاجة حاجة على مهلنا يعني بس نبدأ."


"بس يا عمو أنا عايز نقلل المدة تبقى سنة ونص بدل سنتين.. ولو في أي حاجة أنا عندي استعداد أشيل عن حضرتك المهم أن أنا وميرال نبقى في بيت واحد."


"بعد إذن الحب، أنت يا نوح هتجيب منين؟ أنت أصلًا وراك هم كبير.. متستعجلش وتدبس نفسك في حاجة أنت مش قدها."


علقت أفنان ساخرة، لقد كان حديثها منطقيًا لكن أسلوبها لم يكن الأفضل فلقد كان في حديثها سخرية واضحة من نوح والذي انتهز الفرصة لجلب رحيم إلى الحديث مجددًا وهو يُعلق:


"طبعًا ما أنتي خطيبك يقدر يشتري اللي هو عايزه من بكرة الصبح."


"أعوذ بالله! أنت شاغل نفسك بخطيبي ليه؟ وبعدين رحيم مش حرامي واللي هيشتريه هيفرق معاه برضوا لأن زي ما أنت بتجيب أغلى وأحسن حاجة على حسب مرتبك هو هيعمل نفس الكلام فبرضوا هيتكلف جامد."


"صحيح يا رانيا أحنا مشوفناش الشبكة قبل ما ياخدها."


"البت أفنان معاها صورة، هو عمتًا جايب دبلة وخاتم."


"بس؟ مش بتقولوا أنه مرتاح؟" سألت خالة أفنان بتعجب وكادت أفنان أن تُجيبها لولا أن سبقتها مريم وهي تقول:


"لا يا ماما ما أنا قولتلك ده خاتم ألماظ."


"اه صحيح بسم الله ما شاء الله."


مرت الأيام سريعة بالنسبة لأفنان وكلما اقترب وقت المقابلة كلما شعرت أفنان بإنقباضه في قلبها وآلم في معدتها وتقريبًا المرة الأخيرة التي شعرت فيها بالشعور ذاته كان وقت اختبارات الثانوية العامة وربما وقت اختبار نهاية التدريب.


جاء اليوم الموعود، ارتدى الجميع أفضل ثيابهم وكانوا يشعرون ببعض الحماس لكن أفنان.. كانت تشعر بأن قلبها على وشك مغادرة صدرها، كان من الواضح أن ذلك المكان الذي يقطن به رحيم هو مخصص للطبقة المخملية وأن كل شيء سيكون باهظ الثمن لدرجة لا تصدق، الأجواء كلها ستكون مُغلفة بالتوتر..


لم تكن أفنان من النوعية التي تهتم بالمظاهر والأموال ولكن بداخلها كانت واثقة أن والدته قد أصرت على ذهابهم لزيارة منزلهم كي تقوم بإيصال رسالة إلى أفنان بكم هي ضئيلة وعديمة القيمة هي وأسرتها مقارنة برحيم وعائلته..


كانت السيارة التي أرسلها رحيم من أجلهم تسير داخل شوارع فخمة لم تزورها أفنان من قبل في حي الزمالك، كانت القصور و 'الڤلل' تنتشر في المكان ومن حولها مئات الأشجار والمساحات الخضراء وأخيرًا توقفت السيارة أمام.. قصر؟! رحيم يسكن في قصر!!


"هولي شييت!!" تمتم أفنان وهي تصفع نفسها داخليًا بينما  اقتربت منها ميرال لتهمس لها:


"هو خطيبك ساكن في القصر بتاع كرتون سندريلا ليه؟"


"إن شاء الله ده مكان غلط وهو مش ساكن هنا ولا حاجة.."


"لا هو، رحيم واقف عالباب أهو، ولابس بدلة هو أحنا هنتعشى في قاعة مؤتمرات ولا أيه؟" سألت ميرال ساخرة لتقهقه أفنان بصوتٍ منخفض بينما تُجيبها:


"هو ده لبس الأغنياء."


"وطوا صوتكوا وبطلوا فضايح ها!" حذرت والدة أفنان  ابنتيها لتنظر أفنان نحوها وتُشير إلى أنها ستغلق فمه.


"أحنا هندخل بعلبة الحلويات دي؟"


"مالها إن شاء الله أنتي عارفة مدفوع فيها كام دي؟ دي أغلى علبة حلويات اشتريناها في حياتنا أساسًا، على الله يطمر." قالت أفنان بنبرة هجومية لتضربها ميرال بخفة وهي تسألها بإعتراض:


"يا بنتي هو أنتي داخلة حرب؟ أنتي رايحة تقابلي أهل خطيبك."


"أنتي مش فاهمة حاجة.. هي حرب فعلًا."


توقفت السيارة أخيرًا بعد أن قطعت مسافة لا بأس بها داخل الممر المؤدي إلى المنزل والذي انتشرت أنواع الأشجار والورود المُختلفة من حوله.


"تصدقي أنا عرفت رحيم ساكن فين.. حديقة الأزهر."


"أيه يا بت الخفة دي؟"


"اتفضلوا.. نورتوا المكان.. أهلًا بحضرتك يا Uncle أهلًا بحضرتك يا Auntie."


"مفيش أهلًا يا أفنان؟"


"كنت لسه هرحب بيكي أنتي وميرال والله.. اتفضلوا."


"أهلًا أهلًا أستاذ أحمد، المكان نور.. اتفضلوا."


"دادة خدي منهم الحاجة وشوفي يشربوا أيه."


جاءت المُربية خاصة رحيم ونفذت ما طُلب منها، ذهبوا جميعهم ليجلسوا في 'الصالون'، كان المكان غاية في الأناقة ولو أنه اتخذ طابع عتيق قليلًا وكأن المكان أشبه بمتحف أوربي، كانت الأرائك والمقاعد باللون الذهبي بالإضافة إلى نقوش رقيقة على القماش، جلست أفنان على أحدى المقاعد بينما جلس والديها وميرال على الأريكة.. جلس رحيم ووالده أمامهم ولكن لم يكن هناك وجودًا لوالدته.


"إيڤيلين نازلة حالًا." أردف والد رحيم ببعض الرسمية لترتسم ابتسامة جانبية على فم أفنان، فما توقعته كان صحيحًا تمامًا والدته لن تستقبلهم مباشرة فهي ستنتظر لبعض الوقت لتقوم بدخول سينمائي درامي، مرت بضع دقائق من الترحيبات والعبارات المُبتذلة قبل أن يتخلل أذنهم صوت كعب حذاء أنثوي ورائحة عطر أنثوية اختلطت مع خاصة رحيم ووالده.


رفعت أفنان عيناها جهة الباب الذي أقتحمته امرأة في بداية عقدها الخامس، شقراء ترتدي ثوب باللون الأحمر القاتم كشف جزء بسيط من ساقيها الرشيقتين، بغرور تام وبخطوات واثقة اقتربت لتُمد يدها وتُسلم على والدة أفنان وشقيقتها أما عن والد أفنان فقد وضع يده أمام صدره بإحترام شديد كي يُعلمها بأنه لا يُسلم، في النهاية رفعت عيناها التي تُشبه خاصة رحيم لتمنح أفنان ابتسامة غير مُريحة بتاتًا قبل أن تقترب من أفنان لتضمها في عناقٍ جاف بارد وفي الوقت نفسه تهمس في أذنيها بنبرة وإن كانت تبدو ودودة إلى أن أفنان لم ترتاح لنبرتها بتاتًا.


"مرحبًا بكِ في عائلتنا 'Welcome to our family'."


"شكرًا.."


منحت أفنان ابتسامة صفراء ومن ثم ذهبت لتجلس، تضع قدمًا فوق الآخرى وتجلس بثقة وتحدٍ واضح.. توترت أفنان أكثر ولاحظ رحيم ذلك ولكن لم يدرِ ما العمل في ذلك الموقف.


"أنتِ بقى أفنان؟" سألت والدة رحيم بإستهزاء لترمقها والدة  أفنان بحدة لكن ميرال تضع يدها أعلى يد والدتها كي تجعلها تهدأ.


"اه يا مامي هي دي أفنان مراتي المستقبلية ودي أختها الكبيرة ومامتها وباباها."


"أهلًا وسهلًا." رحبت بهم بنبرة زائفة وبلغة عربية شبه سليمة، قاطع الأجواء المتوترة قدوم أحدى الخدم والتي قامت بتقديم المشروبات لهم.


"طيب يا أستاذ أحمد طبعًا أحنا مأجلين موضوع الخطوبة ده مؤقتًا عشان الظرف بتاع والد أنس وكده لكن دلوقتي أظن مفيش داعي للتأجيل."


"اه طبعًا.. بس برضوا مش لازم نستعجل أوي يعني أسبوعين تلاتة كده نرتب حالنا."


"متشيلش هم أي حاجة، أحنا هنتكفل بكل حاجة ليها علاقة بالخطوبة والفرح متشغلش بالك.. أهم حاجة عروستنا وعريسنا يتفقوا ويشوفوا اللي هما عايزينه."


تحدث والد رحيم بلطف شديد وبنبرة هادئة لكن زوجته أقتحمت حديثه بنبرة غير مُريحة وهي تسأل بسخرية قائلة:


"أيه يا حامد هو مش في مصر برضوا بتكون الحفلة دي عالعروسة؟"


"وهي دي الحاجة الوحيدة اللي عرفتيها من مصر ياختي."  همست أفنان من بين أسنانها وهي تبتسم ابتسامة زائفة قبل أن يعلق على حديثها والد أفنان مؤكدًا ما قالته:


"فعلًا الخطوبة عالعروسة، معندناش أي مشكلة طبعًا."


"وناوين تعملو ال Engagement party 'حفلة الخطبة' فين بقى؟ أني Hotel 'فندق' يعني؟"


"مامي بتسأل حضرتك.." كاد رحيم أن يقوم بترجمة ما قالته والدته لكن والدة أفنان قاطعته وهي تتحدث بإبتسامة زائفة بعد أن وضعت أحدى قدميها فوق الآخر تمامًا كوالدة رحيم مُردفة:


"أنا بفهم إنجليزي يا حبيبي، ولا أحنا مش هنعمل ال engagement party 'حفلة الخطبة' في أوتيل يا مدام إيڤلين، بما إن الخطوبة علينا أحنا فأحنا هنعملها في المكان اللي نختاره واللي على أد إمكانيتنا."


"والمكان اللي تختاروه ده اللي هو فين؟ في الحارة بتاعتكوا؟" سألت بإزدراء ليكسو الغضب تعابير وجه أفنان لكن والدتها تمنحها نظرة مُطمئنة قبل أن تُعلق بنبرة واثقة متعمدة إثارة غيظ المرأة التي أمامها:


"والله نعمله في الحارة ولا فوق السطوح أحنا حريين في اختيار المكان وساعة الليلة الكبيرة أنتوا كمان حريين في اختيار المكان واللي مش عاجبه ميجيش."


"مامي متقصدش يا طنط.. عمومًا المكان اللي حضرتك هتختاريه أنتي و Uncle أحمد أحنا موافقين بيه.. ها نخلي الخطوبة أمتى؟" سأل رحيم لكن لم يُجيب أحد من جهة أفنان، حمحم والد رحيم ببعض الحرج وهو يقترح عليهم الآتي:


"الشهر الجاي مناسب؟"


"بعد ٣ أسابيع.. يوم ٢٣ في الشهر.. يوم عيدميلاد رحيم.."


قالت أفنان فجاءة مقاطعة حديثهم لينظر جميعهم نحوها، ابتسامة مشوبة بالدهشة ترتسم على ثغر رحيم وبريق يُزين خضراوتاه، هو لم يكن يدري أن أفنان تعرف تاريخ ميلاده ولم يتوقع أن تهتم لفعل شيء بهذه الرومانسية، حمحمت هي بإحراج حينما أدركت ما اقترفته.. تواصل بصري مع رحيم جعل الفرشات الحمقاء تُحلق بأجنحتها داخل معدتها.. كم كانت تسخر هي منزذلك التعبير قبل أن تُقابل رحيم لكن الآن باتت تعرف معنى ذلك الوصف المُبتذل الذي يتم استخدامه على الدوام في الروايات الرومانسية.


"أحنا معندناش مشكلة، يوم ميلاد رحيم يوم مميز جدًا بالنسبالنا وبكده هيبقى مميز أكتر كمان، أنا بقول نكمل كلامنا عالعشاء.. السفرة جاهزة اتفضلوا." أعلن والد رحيم مع ابتسامة واسعة محاولًا أن يعمل على تلطيف الأجواء التي عكر صفوها زوجته العزيزة.


"مكنتش عارف أنك تعرفي ميعاد عيدميلادي.. مكنتش متوقع أنك هتركزي أصلًا في حاجة زي كده."


"عيب عليك يا رحيم أنا عارفة كل حاجة.. أنا حافظة كل تفاصيلك وحركاتك من اللي شوفته معاك طول المدة اللي فاتت، وعلى فكرة مش معنى أني أبان جامدة ودايمًا بتريق عالحبيبة أني مش رومانسية.. لا أنا زيي زي كل البنات عادي عندي حتة دلع ورومانسية كده مدكناها للحبايب."


جلس جميعهم ليتناولوا العشاء وسط بعض العبارات البسيطة التي تبادلها والد أفنان ووالد رحيم، كان رحيم يتأمل كل تحركات أفنان البسيطة.. ابتسامتها الصغيرة، أناملها المُرتجفة، ردة فعلها على ما يُقال.. كل تلك التفاصيل الصغيرة كانت تُدفء قلبه.. كانت تجعله يغرق أكثر وأكثر في بحر العشق الذي كان قد أقسم أن يبتعد عنه..


"مش بتاكل ليه يا رحيم؟"


"باكل أهو.. أنا بس مش مصدق أنك هنا.. في بيتنا وقاعدة معايا على ترابيزة واحدة قدامهم كلهم، مفيش حاجة نخبيها."


"ولا أنا.. حقيقي الحاجة لما بتتعمل صح وبالإصول بيبقى أحساسها أحلى بكتير."


"اتفق."


بعد انتهاءهم من تناول الطعام استأذن رحيم في أن يأخذ أفنان وميرال في جولة حول المنزل، في الحديقة الأمامية والخلفية وربما سيتناولون الحلوى بالقرب من حمام السباحة، فور أن استقاموا من مقعدهم وقبل مغادرتهم للردهة لاحظت أفنان العديد من الصور الفوتوغرافية صورة تجمع والد ووالدة رحيم في زفافهم، صورة كبيرة لكل منهم بمفرده وصورة في المنتصف لرحيم في الغالب في يوم تخرجة من الجامعة، وأعلى الكومود الذهبي عدة صورة صغيرة داخل لرحيم.


"ده أنت وأنت صغير؟"


"أنتِ شايفة أيه؟" سألها بمراوغة وهو يُمسك بالصورة التي  تقصدها بين يديه، تجذب الصورة من يده وهي تُردف:


"بلاش رخامة! شعرك باين في الصورة أفتح من دلوقتي.. شكلك كان أجنبي خالص، يا ترى أنا كنت بعمل أيه في الوقت ده من حياتي."


"كنتِ زيجوت يا أفي! حبيبي أنا كان عندي في الصورة دي أربع سنين تقريبًا يعني أنتِ مكنتيش أتولدتِ أصلًا." قال  رحيم ساخرًا من حديثها وهو يضحك لتشاركه الضحك ومن ثم تنتقل لصورة آخرى لرحيم وهو في سن الثانية تقريبًا.


"يالهوي بتهزر! ده أنتَ؟! كان عندك خدود جميلة أوي."


"يا أفي أنا معنديش أخوات والله فأي صورة بيبي هتبقى أنا، ما عدا دول." أردف رحيم وهو يُشير إلى صورتين  أحداهما لرحيم وأنس والآخرى لرحيم وأنس وأروى.


"ده أنس صح؟" صدر هذا السؤال من ميرال التي كانت تقف  بالقرب منهم ليومئ رحيم بالإيجاب ثم يُضيف:


"واللي جنبه أروى أخته اللي قولتلك أنها تعبانة."


"أيه ده هو أنس ليه أخت؟ مكنتش أعرف مشوفناهاش في العزاء." تفوهت ميرال ببعض الدهشة لترمقها أفنان بسخرية وهي تُعلق على جملتها قائلة:


"ده على أساس أنه ابن أختك هتبقى عارفة عنه كل حاجة."


"أصل.. هي كانت عاملة حادثة ومش بتتحرك لسه فمكنش ينفع تيجي."


"ربنا يقومها بالسلامة."


"عيلة مخلعة، ربنا يشفيهم والله هي تعبانة ومش بتتحرك وأنس كان بيفطس عندنا في البيت."


"أيه يا أفنان أنتي بتدعيلهم ولا بتذليهم؟"


"مش قصدي بجد."


"أفي.. أنا بعتذر جدًا عن الحوار اللي دار من شوية.. أنا هعتذر من مامتك وباباكي برضوا.. بجد حقك عليا، أنا كنت بحاول أخليكي تتجانبي مامي عشان كده بس صدقيني اللي حصل مش هيتكرر تاني."


كان رحيم يتحدث بصدقٍ شديد ولو أن نبرته كان مشوبة بالحرج والتوتر.. كان يحك مؤخرة ععنقه كثيرًا أثناء تحدثه، وصل شعوره إلى أفنان والتي على الفور حاولت طمئنته وهي تقول بلطف: 


"متعتذرش عن حاجة أنت مش السبب فيها.. أحنا لسه في أول السكة والطريق طويل وأنا كنت عارفة أن ده هيحصل من الأول، ده حتى كليشية أوي في كل الأفلام والمسلسلات."


"صدقيني أنا عندي استعداد أقف في وش أي حد عشانك، المهم متزعليش بس."


"مش زعلانة."


مر ما تبقى من الزيارة في سلام تام تقريبًا، في أثناء توديع رحيم لأفنان وأسرتها اعتذر منهم مرارًا هو ووالده عما قيل في الداخل وقد كان والد أفنان مُهذبًا ومتسامحًا كثيرًا ليقبل اعتذراهم، وبمجرد أن تأكد رحيم من تحرك السيارة بسلام دلف إلى داخل المنزل بغضب شديد وكأنه أشبه بعاصفة على وشك أن تبتلع كل شيء بداخلها، كانت والدته تجلس في ثبات شديد بالداخل في انتظار قدومه.


"مامي! هو ده اللي حضرتك اتفقتِ عليه معايا أنا وبابي؟ بتحرجيني قدام الناس؟ بتحريجي الناس في بيتنا؟ ليه؟ ليه كل ده حرام عليكِ!"


"لما تتكلم معايا تتكلم معايا بأدب يا ولد."


"أنا اتخنقت بجد! I am tired of this shit mum 'لقد تعبت من هذا الهراء يا أمي'."


"رحيم خلاص أنا هتصرف معاها."


"لو هتعملي كده في الخطوبة يا مامي يبقى الأحسن إن حضرتك متجيش."


بصق رحيم كلماته بقسوة لم يعهدها، صدمت كلماته والديه.. أخذ هاتفه ومفاتيح سيارته متجهًا نحو الخارج غير مباليًا بنداء والده، كان رحيم يشعر بقلبه على وشك مغادرة صدره من كثرة الضيق.. لم يرغب في حياته أن يتحدث إلى والدته بتلك الطريقة البشعة لكن لم يكن أمامه خيارًا آخر من وجهه نظره.. تحرك بالسيارة وصولًا إلى منزل أنس والذي قرر المكوث فيه حتى موعد الخطبة.


مر أسبوعان على تلك المُقابلة بين أسرة رحيم وأسرة أفنان وقد بدأ الجميع في الإستعداد من أجل خفلة الخطبة، وفي يوم من منتصف الأسبوع هاتف نوح ميرال يطلب منها أن تُقابله للذهاب لإحدى معارض الأثاث ليبدأو في اختيار بشكل مبدأي ما يُريدون.


"مش لسه بدري يا بنتي عالكلام ده؟ أنا مش فاهم نوح مستعجل ليه كده."


"ما تسيبهم يا أحمد عايزين نفرح بيهم."


"نفرح بيهم يا رانيا بس بالعقل، أنا قولتله أننا هنبقى مشغولين دلوقتي مع أفنان وهو أصلًا ظروفه مش أحسن حاجة."


"لا ما أنا عرفت أن كان في قرشين كده في البنك من الفلوس اللي كان أبوه سايبهم ليه."


"يا ستي ربنا يزيد ويبارك بس ليه يزنق نفسه برضوا؟ عالعموم انزلوا شوفوا العفش اللي أنتوا عايزينه وناخد فكرة عن الأسعار برضوا."


"تمام يا بابا ربنا يخليك."


في مغرب اليوم التالي قابل نوح ميرال واتجهوا نحو منطقة بها العديد من معارض الأثاث، كان الأمر مُرهق بعض الشيء لكن حماس ميرال جعل الأمر يسير بشكلًا جيد.


"نوح بس ده حلو أوي."


"بس لونه فاتح أوي مش هيتبهدل مننا؟"


"اه صح.."


" طب بصي.. أيه رأيك في ده يا أفنان؟" سأل نوح بحماس شديد وهو يُشير إلى أحدى الآرائك، نظرت نحوه ميرال بجمود وهي تبتلع الغصة التي في حلقها ثم تُردف:


"أنا ميرال.. أنا ميرال يا نوح..."


____________________________________


(تذكره: لا إله إلا أنت سبحانك أني كنت من الظالمين.)



الفصل التاسع والثلاثون: حَفْلٌ دِرَامِيٌّ🦋🤎✨


 

"طب بصي.. أيه رأيك في ده يا أفنان؟" سأل نوح بحماس  شديد وهو يُشير إلى أحدى الآرائك، نظرت نحوه ميرال بجمود وهي تبتلع الغصة التي في حلقها ثم تُردف:


"أنا ميرال.. أنا ميرال يا نوح.."


طالعها نوح بذهول وثغر خاوي يكاد يصل إلى الأرض من شدة الصدمة، ازدرد ما في فمه بصعوبة وهي يدعو بداخله أن تنشق الأرض وتبتلعه.. هو لم يقصد حقًا، لم يقصد ذكر اسم أفنان ولم ينوي قط أن يُحزن ميرال.


"أنا.. احم.. أنا أسف جدًا، أنا اتلغبط بس عشان أنتِ كنتِ بتكلميني عن خطوبة أفنان من شوية ف.." كان يتحدث نوح بتلعثم شديد وهو لا يعلم ماذا عليه أن يقول لكي يُصلح ذلك الموقف فهذه المرة هو لن يستطيع 'قلب الترابيزه' كما يفعل في كل مرة.


"لا عادي حصل خير، بس لما تعرف أنت مع مين وبتكلم مين أبقى تعالى كلمني." بصقت ميرال كلماتها بإنكسار شديد وهي تحاول مغادرة المكان سريعًا قبل أن تنهمر دموعها أمامه، وقف نوح مصدومًا لثوانٍ قبل أن يتبعها سريعًا وهو يحاول جذب ذراعها لكنها تصيح مُبتعدة عنه قائلة:


"متلمسنيش أنتَ اتجننت!"


"أنا أسف.. أنا أسف مش قصدي، ميرال أنتِ بجد هتسبيني وتمشي عشان ذلة لسان؟ قولتلك مكنش قصدي اتلغبطت! وبعدين أنا مقولتش اسم حد غريب ولا اسم بنت بكلمها عليكي مثلًا! ده اسم أفنان أختك.. اللي هي بنت خالتي، ما أنا ساعات بتلغبط وبقولك يا مريم، أيه اللي حصل المرة دي يعني؟"


"أنتَ عارف الفرق كويس يا نوح، بطل تستغباني ها!" علقت ميرال وهي تبتسم بإنكسار، احكم نوح قبضة يده وأمتعضت تعابير وجهه وهو يُلقي باللوم عليها قائلًا:


"وأنتِ بطلي تكبري المواضيع."


"طيب روحني من فضلك."


"لا يا ميرال مفيش مرواح، أحنا هنكمل اليوم عادي."


"كمله مع نفسك بقى." تمتمت وهي تُشير إلى سيارة أجرى وتدلف بداخلها سريعًا تحت أنظار نوح المندهشة، لعن أسفل أنفاسه بغضب وهو يسب حظه السيء ويسب اليوم الذي قرر فيه أن يتقدم لخطبها وسب أفنان التي من وجهة نظره هي سببًا لكل المتاعب التي يعيشها.


عادت ميرال إلى المنزل باكرًا عما توقعوا، كان ثلاثتهم يتناولون الطعام حينما جائت هي.. ألقت التحية على والديها وشقيقتها بهدوء شديد قبل أن تدلف إلى كهفها أو بمعنى آخر حجرتها هي وأفنان دون أن تتفوه بحرفًا آخر.


"أفنان.. قومي شوفي أختك فيها أيه."


"حاضر يا ماما."


استقامت أفنان من مقعدها واتجهت نحو الغرفة وقبل حتى أن تدلف إلى الداخل استطاعت سماع صوت شهقات ميرال المكتومة، كما توقعت تمامًا فالطالما كانت ميرال تفعل ذلك من الصغر، كلما أحزنها أحد عادت إلى الحجرة وأخفت وجهها في الوسادة سامحه لعبراتها بالهطول ومحاولة إخفاء صوت نحيبها بواسطة الوسادة.


"ميرو.. أيه اللي حصل؟ أنتِ كويسة؟ قوليلي مين زعلك وأنا أكسرهولك." سألت أفنان وهي تقترب من شقيقتها بهدوء قبل أن تجذبها لترفعها عن الوسادة كي ترى وجهها، أعين ووجه مُحمر ودموع تنهمر بغزارة، بمجرد أن رأت أفنان شقيقتها على هذا الحال جذبتها في عناقًا قوي وهي تشعر بقلبها يحترق من أجل شقيقتها الوحيدة.


"بس يا حبيبتي اهدي.. كل حاجة هتبقى كويسة، أنا هجبلك حقك من اللي زعلك.. حقك عليا أنا." كانت تتمتم أفنان بتلك الكلمات بصدق شديد فهي لن تتردد في تحطيم من قام بإيصال شقيقتها إلى تلك الحالة والتي لم تبذل مجهودًا لتعرف من هو.


"نوح زعلك في أيه؟ قوليلي بس وأنا هخلي بابا يمرمط بكرامته البلاط."


"مفيش.. احنا بس شدينا مع بعض، أنا بس اتحسست زيادة عن اللزوم وهو اتضايق.."


"ميرال للمرة المليون أنا بقولك مفيش أي حاجة تجبرك تكملي في علاقة زي دي ولكن خدي بالك يا ميرال لو كملتي فأنتِ المسئولة مترجعيش تشتكي لما تنفصلوا ويبقى بينكوا عيل ولا اتنين."


صقت أفنان كلماتها والتي قد تبدو قاسية ولكنها فعالة، فوضع ميرال يحتاج إلى الحزم وليس الحنان، ساد الصمت لبعض الوقت بينما تُفكر ميرال فيما قالته أفنان.. فعلى هذه الحال ستعود ميرال إلى منزل والديها غاضبة كل بضعة أيام وماذا إن حظت بطفلًا منه؟ كيف سيكون وضعه حينما يرى شجار والديه المستمر ولكن في الوقت ذاته هي لا تستطيع تخيل حياتها بدون نوح.. لا يمكنها تخيل زوجًا آخر مكانه..


"أنا هنام شوية، لو ماما وبابا سألوكي قوليلهم شديت مع نوح عادي."


"حاضر." تمتمت أفنان وهي تُقبل شقيقتها ومن ثم تتجه نحو الخارج، كان القلق باديًا على وجه والديها منحتهم هي ابتسامة صغيرة وهي تطمئنهم لكن لم يبدو على والدها الإقتناع بما تقول لذا بمجرد انتهائهم من العشاء طلب منها والد أن تعد له قدحًا من الشاي وأن تجلس مع بالشرفة.


"أيه اللي حصل مع ميرال؟ أنا عارف أنك مش عايزة تحكي قدام ماما."


"بص يا بابا بصراحة نوح بيزعل ميرال كتير أوي وهي بتخبي عليكوا."


"بيزعلها ازاي؟ وأيه اللي مخليها تخبي علينا أصلًا؟" سأل والدها بقلق حقيقي، لتبتلع أفنان الغصة التي في حلقها وهي تُجيبه مُردفة:


"عشان هي بتحبه يا بابا.. عشان هي كبرت مشافتش غيره قدامها."


"أنا هتكلم معاها، أنتِ عارفة أني عمري ما أجبرت واحدة فيكوا على حاجة.. أنا هنصحها وهي حرة."


"لا يا بابا! أجبرها.. أجبرها تسيبه.. أنا مش هينفع أشوفها بتدمر حياتها واسكت.. لو حضرتك مش هتاخد ردة فعل أنا هضطر اتصرف." بإنفعال شديد قالت أفنان كلماتها قبل أن تستقيم تاركة المكان ومتجهة نحو حجرتها تحت أنظار والدها المستاءة.


في صباح اليوم التالي توجهت أفنان إلى الجامعة لإنهاء بعض الأوراق والإستفسار عن موعد ظهور نتيجة الفصل الدراسي الثاني وفي أثناء زيارتها للجامعة توجهت إلى المكتب حيث يجلس نوح ولحسن الحظ كان نوح فقط من يجلس في الداخل لذا استطاعت توبيخه كما يحلو لها وبمجرد أن رأت وجهه اقتربت قليلًا وهي تصيح:


"أنت يا بني آدم أنت! لو مبطلتش تزعل أختي هتشوف مني وش عمرك ما شوفته يا نوح.. هدمرك! صدقني هعمل أي حاجة ممكن اعملها وهخلي حياتك سواد."


"أيه الجنان ده يا أفنان؟! أحنا في الكلية!" أردف نوح بحنق وبصوت منخفض نسبيًا وهو يستقيم ليغلق الباب، تنظر نحوه بوعيد وهي تُردف مستنكرة:


"هو أنت لسه شوفت جنان؟"


"هو في أيه بس اهدي عليا! هي ميرال حكيتلك أيه بالضبط؟" سألها ببرود نسبي وهو يحاول امتصاص غضبها لكن ذلك لم يفيد في أي شيء بل جعلها تغضب أكثر لتُعلق قائلة:


"مش هتفرق، أنا وصلتلك الرسالة.. أحسنلك تفسخ الخطوبة دي يا نوح وتريح وتستريح."


"أنا بحب ميرال ومش هسيبها." أردف نوح بحزم متعمدًا  إثارة غيرة أفنان وبالطبع لم ينجح فلقد أثار غيظها وليس غيرتها، فأفنان لا تهتم بنوح بتاتًا بل كل ما يهمها هو شقيقتها الوحيدة.


"أنتَ كداب! أنتَ مبتحبش ميرال ولا حتى بتحبني.. أنتَ مبتحبش غير نفسك يا نوح، أنا ماشية" بصقت أفنان كلماتها القاسية والصادقة في الوقت ذاته قبل أن تذهب تاركة نوح يصرخ بحنق موبخًا إياها.


عادت أفنان إلى المنزل وقد أحضرت أنواع مختلفة من الحلوى من أجل شقيقتها ولكن بمجرد أن دلفت استقامت ميرال من مقعدها بإستياء وقد عقدت كلتا ذراعيها أمام صدرها.


"مالك يا ميرال في أيه؟"


"أنتِ روحتي لنوح الكلية؟" سألت ميرال بنبرة أشبه بالتحقيق لتتنهد أفنان ثم تُردف ساخرة:


"كنت رايحة اخلص ورق وعديت عليه اه، هو لحق حكالك."


"أفنان أنتِ روحتي تتخانقي مع ابن خالتك في الجامعة قدام الناس؟ أنا مش متخيلة قلة الأدب توصل بيكي لكده!" وبختها والدتها لتتسع أعين أفنان بينما تُطالع والدتها وشقيقتها بصدمة كبيرة ثم تقول بإستياء:


"ماما ده كداب! مكنش في حد غيرنا أصلًا! أحنا كنا في المكتب.. مكتب بيبقى فيه أكتر من معيد مع بعض وأحنا اتخانقنا اه بس مكنش في حد."


"يعني كنتي قاعدة معاه لوحدك؟"


"شوفي أنا بتكلم في أيه وأنتِ بتتكلمي في أيه؟! مالك يا ميرال أنا أفنان.. أختك.. فوقي!"


"أختي اللي بتحاول تفرق بيني وبين الشخص اللي بحبه؟" بصقت ميرال كلماتها الصادمة والتي سقطت كالصاعقة على رأس أفنان، شعرت الأخيرة بالمكان يدور من حولها.. نبضات قلبها تتسارع وتشعر بالغضب يحتل كيانها كاملًا.


"أنا يا ميرال؟ أنا! حرام عليكي والله العظيم.. حرام عليكي.. من النهاردة أنا مليش علاقة بنوح ولا بعلاقتكوا ببعض.. أولعوا ببعض يا ميرال."


قالت أفنان بنبرة يفوح منها الخذلان وهي تقذف بحقيبة الحلوى على الأريكة بينما امتلئت عيناها للدموع وهو شيء ليس بالهين فليس من عادة أفنان البكاء أثناء الشجار..


دلفت أفنان إلى الحجرة ودفنت وجهها بالوسادة مُطلقة العنان لشهقاتها، لقد استطاع ذلك الوغد التفرقة بينها وبين شقيقتها! وليس ذلك فحسب بل استطاع معرفة الطرق التي تناسب ميرال ليُقنعها بوجهة نظره وليُشعرها بالذنب بل ويقلبها ضد أفنان! لا تدري كيف فعل ذلك بهذه السرعة والإحترافية؟ لقد استطاع جعل ميرال تنقلب ضدها في ثوانٍ وليست ميرال فقط بل ووالدتها كذلك..


لم تُغادر أفنان حجرتها في ذلك اليوم، لم تتناول الطعام ولم تستقم من سريرها سوى لأداء الفروض والذهاب لدورة المياه.. ولسوء الحظ قد تأخر والدها في العمل ومن ثم ذهب للمتجر لذا عاد متأخرًا فلم يدرِ بما حدث.


في مساء اليوم التالي جاء رحيم لإصطحاب أفنان ووالدها وميرال للذهاب لرؤية أحدى المقاهي التي تطل على نهر النيل والتي قاموا بحجزها مُسبقًا لإقامة حفل الخطبة، كان المكان متوسط المساحة ولكنه يكفي لعائلة أفنان والتي ليست بكبيرة وعائلة رحيم التي لن يأتي معظمها.. منذ أن رأى رحيم أفنان شعر بأنها ليست على ما يرام ولكنه لم ينبس بحرفًا لوجود والدها وميرال.


"أفي بصي.. هما عايزين ال.. اسمها أيه اللي بنقعد عليها."


"الكوشة؟"


"اه، نحطها هنا عشان كل الناس يبقوا شايفنا وكده." أردف رحيم وهو يُشير إلى منطقة ما، لتُتمتم أفنان بذهن شارد:


"اه حلو.."


"أنتِ مش مركزة معايا خالص.."


"متخانقة مع نوح وميرال."


"البني آدم ده لو زعلك تاني ولا جيه جنبك أنا بجد هزعله."  قال رحيم بنبرة حادة وقد تجهم وجهه لتنظر نحوه أفنان بأعين متسعة وهي تُعلق بسخرية:


"يا ماما أنتَ هتتحول ولا أيه؟"


"أنا عملت أيه؟"


"تعبيرات وشك كده وأنتَ بتتكلم عن نوح، المهم خلينا في اللي أحنا فيه.. المكان هنا هيكفي صح؟"


"أفي Baby 'حبيبتي' أنا معظم صحابي في England 'إنجلترا' مش هيقدروا يحضروا وعائلتي كمان معظمها مش هنا فالمكان هيكفينا متقلقيش."


"تمام.. حلو أوي."


بعد مرور ساعة تقريبًا انتهى رحيم وأفنان من الترتيبات وذهبوا جميعًا لتناول الطعام في أحدى مطاعم الوجبات السريعة.


"الأكل على حسابي يا رحيم عشان أنا في مقام بابا ها."


"مش هقدر اكسر لحضرتك كلمة يا Uncle 'عمو'." أردف رحيم بلطف مع ابتسامة صغيرة، ساد الصمت لثوانٍ قبل أن يقطعه صوت حمحمت ميرال ومن ثم قالت:


"عن أذنكوا أنا هخرج اتكلم في التليفون."


"خديني معاكي يا ميرال اقوم اطلب الأكل."


بعد ابتعاد كلاهما وجه رحيم نظره لأفنان وهو يسألها بنبرة هادئة ولكن لا تخلو من بعض الحماس:


"أفي أحنا هننزل نجيب الفستان أمتى؟"


"مين أحنا؟ أنا هنزل مع ميرال ومريم." أجابته ببساطة وهي تضحك فلم تتوقع قط أن يطلب منها رحيم مرافقتها لشراء الفستان.


"مينفعش أجي معاكي؟"


"ينفع بس كنت عايزاك تتفاجئ."


"ما أنا هتفاجئ برضوا بس عايز اختار معاكي الفستان برضوا.. وبعدين على الأقل اقابلك اديلك ال  Credit card 'البطاقة الإئتمانية' بتاعتي تجيبي اللي أنتِ نفسك فيه."


"شكرًا يا رحيم بس كل حاجة في الخطوبة المفروض عالعروسة أنت عارف."


"اه أنا عارف بس خدي بالك بقى أنا سألت وعرفت إن عادي اجيبلك أنا الفستان كهدية يعني."


"ربنا يخليك ليا، بس الفكرة أني مش هبقى مرتاحة وأنتَ كل شوية تكلف نفسك عشاني وتدفع في آلافات.. وبعدين أنا في المقابل مش هعرف اعمل معاك نفس الحاجة."


أردفت أفنان بصدق شديد وهي تعبث في أصابعها، كانت تتحاشى النظر إلى رحيم ولكن بعد أن انهت جملتها رفعت عيناها لتُقابل خاصته، توترت معالمها بينما نبس هو بلطف:


"قولي تاني كده.."


"هنهزر؟! اعيد الجملة كلها من الأول؟" أردفت أفنان بحنق  شديد ليقهقه رحيم ثم يوضح مقصده قائلًا:


"لا، أول تلات كلمات بس."


"يا رحيم مش وقته.. ربنا يخليك ليا مبسوط كده؟"


"أهو أنا كده مبسوط أكتر من مليون هدية، المهم مقولتيش برضوا هننزل أمتى؟"


"بص هو نوح جايلنا يوم الخميس وأنا مش طايقه أشوف وشه اساسًا فممكن ننزل الخميس."


"طب ما كده ميرال مش هتعرف تيجي معانا."


"لا ما هو بص أنا هاخد مريم.. أخت نوح وميرال تيجي معانا شوية ولما البيه يشرف تبقى تروح."


"متأكدة أنك هتبقي مرتاحة كده؟ مش عايز العلاقة بينك أنتِ وميرال تتوتر أكتر."


"متقلقش يا رحيم الإخوات مهما زعلوا من بعض بيرجعوا تاني.. ده الناس الطبيعية يعني."


"خلاص على راحتك، بس لو البتاع ده زعلك تاني أنا مش هسكتله."


في مساء تلك الليلة وبعد أن عادوا إلى المنزل، جلست أفنان تعبث في الحاسوب المتنقل خاصتها متجاهلة ميرال تمامًا كما فعلت طوال اليوم وبالأمس ايضًا، كادت ميرال تنفجر من شدة الإستياء والغيظ.. فلم تعتاد هي الخصام مع أفنان لتلك المدة والتي أجل ليست بطويلة لكن بالنسبة إليهم إنها كذلك، ففي كل الشجارات السابقة كان ينتهي الأمر بينهم في خلال سويعات.


"هتفضلي مخصماني لحد أمتى؟"


"أيه مخصماكي دي؟ هو أحنا في تالتة أول ولا أيه؟!"


"بلاش استظراف بقى، أنا مش فاهمة مين اللي المفروض يبقى زعلان من مين بصراحة؟!!"


"ميرال حلي عن دماغي أنا مشغولة بترتيبات الخطوبة دلوقتي." تمتمت أفنان بلا مُبالاة دون حتى أن ترفع عيناها عن الحاسوب، ساد الصمت لبرهة قبل أن تسألها ميرال الآتي:


"طيب أحنا هننزل نجيب الفستان أمتى؟"


"الخميس إن شاء الله، وعشان تبقي عارفة أنا اتفقت مع رحيم عالميعاد ده ومش هغيره.


"ازاي؟ ما أنتِ عارفة إن نوح بيجي الخميس يا أفنان.. ولا أنتِ يعني بتقوليلي مجيش معاكي بس بالذوق؟"


"تفتكري؟ أنا لو مش عايزاكي تيجي هقولك متجيش يا ميرال.. أنا بقولك أحنا اتفقنا عالميعاد وهنتقابل عالساعة خمسة إن شاء الله يعني قبل ما الشملول ما يجي."


"طيب يا أفنان، وعلى فكرة أنا لسه زعلانة منك."


"ازعلي." قالت أفنان بلا مُبالة وهي تستقيم من مقعدها تاركة  الغرفة وذاهبه للجلوس في مكانًا آخر.


في مغرب يوم الخميس احضر رحيم سيارة لتصطحب أفنان وميرال ومريم، بعد ساعة ونصف تقريبًا كانت السيارة قد توقفت داخل مرأب ٱحدى المجمعات التجارية 'Mall' والذي اعتادت أفنان على التسكع فيه برفقة شقيقتها أو أصدقائها القدامى لكنها لم تكن قط تشتري أي ثياب منه وبالطبع لم تشتري فساتين السهرة والتي بالطبع سعرها يبلغ أضعاف الثياب العادية.


"تعالى المكان ده في Dresses 'فساتين' حلوة أوي، أنا شوفت ال Collection 'مجموعة التصاميم' قبل ما أجي."


"بجد؟ مقولتش يعني."


"مش لازم أقول كل حاجة، المهم يلا نبدأ بقى ولا أيه؟"


"يلا بينا." تمتمت أفنان بحماس شديد بينما لمعت عيناها وهي تتأمل الفساتين الكثيرة التي أمامها، كلها باهظة الثمن.. أغلبها ذو ذوقًا رفيع، ألوانًا مُبهجة.. بعد مرور بضع دقائق من التأمل وجدت أفنان ثلاثة فساتين قد أعجبوها لذا أشارت لرحيم كي يقف إلى جانبها ليساعدها في الإختيار.


"أيه رأيك في ده؟ أو ده؟"


"كلهم حلويين.. كلهم هيبقوا حلويين عليكي.. ممكن تشوفي ال pink 'زهري' ده؟"


"تمام."


بعد خمسة دقائق تقريبًا توجهت أفنان نحو الخارج وهي ترتدي الفستان وقد وضعت وشاحها ليُغطي رقبتها وشعرها، نظر رحيم نحوها بإنبهار لبعض ثوانٍ فلقد كان الثوب جميلًا بحق لكن سرعان ما تبدلت معالم وجهه وهو يُردف:


"هو حلو أوي بس.. ممكن نشوف حاجة تانية."


"ليه؟ ده عاجبني."


سألته أفنان بعبوس ونبرة لا تخلو من التعجب وهي تنظر إلى انعكاسها في المرآة، جاءها رد رحيم سريعًا يحمل بي طياته نيران الغيرة ولكن في الوقت ذاته استطاع التحكم في نبرة صوته لتبدو هادئة قدر الإمكان مُردفًا:


"طيب وبالنسبة للحتة اللي باينه من رجلك دي أيه؟ مش من ضمن الحجاب يعني؟!"


"أيه ده مخدتش بالي."


"بصي ممكن نشوف design 'تصميم' قريب منه بس يبقى ولا شفاف ولا قصير." علق رحيم لتقلب أفنان عيناها ثم  أردفت:


"دي حاجة صعب نلاقيها في المحلات اللي أنتَ مدخلهلنا دي يا رحيم."


"ولا صعب ولا حاجة، أنتِ اقعدي زي ال princess 'الأميرة' كده وأنا هختار كام فستان وأخليهم يحطوهم في ال fitting room 'غرفة القياس'."


"تمام ماشي." تمتمت أفنان ليمنحها رحيم ابتسامة صغيرة قبل أن يستقيم من مقعده، اقتربت منها مريم وهمست في أذنها بخبث:


"بقى ده اللي كنتي بتقولي أنا لما ارتبط لو قالي حاجة هتخانق معاه وعمري ما هسيبه يعلق على حاجة."


"دي نقرة ودي نقرة يا مريوم، وبعدين الأسلوب بيفرق وكمان هو بيتكلم صح.. هو مش مُتحكم يعني أو قاصد يضايقني هو فعلًا الفستان مش مناسب لوحده محجبه."


أجابتها أفنان بصدق وهي تضحك وبداخلها شعرت بسعادة كبيرة لا تدري سببها ربما لأنها لم ترى هذا الجانب الغيور من رحيم من قبل؟ ربما لكن هذا لا يهم المهم هو السعادة التي تشعر بها حينما تكون إلى جانبه بغض النظر عن السبب.


"ماشي ياختي."


بعد مرور بضع دقائق أشار رحيم لأفنان أن تذهب إلى غرفة تبديل الملابس وبالفعل بدأت في تجربة الفساتين التي وقع عليها اختيار رحيم، ارتدت أفنان أحدى الفساتين واتجهت نحو الخارج لتسأل رحيم عن رأيه:


"رحيم بص ده؟"


"يا الله! You look like a princess 'تبدين كالأميرة'."


"بجد حلو؟ يعني مشوفش واحد تاني؟"


"براحتك طبعًا حتى لو هتجربي ال Store 'المتجر' كله، بس أنا شايف ده حلو أوي."


"خلاص طالما عجبك يبقى نشتريه.. هو سعره كام؟"


"أفي Sweetie, don't worry about this 'حلوتي، لا تقلقِ بشأن هذا'."


فور عودة رحيم إلى المنزل وجد أنس هناك جالسًا على سريره، اقترب منهم رحيم ليتمدد بجانبه وهو يسأله:


"أيه يا أنس كنت فين طول اليوم؟"


"كنت بعمل Shopping."


"يا ندل نزلت تشتري ال Suit 'البدلة' من غيري؟"


"لا طبعًا، نزلت اجيب حاجة تانية.. بس مش هقولك أيه هي، هخليها مفاجأة."


"لا قولي مفيش أسرار بينا."


"يعني في أسرار بينك أنت وأفنان عادي وأنا وأنتَ لا؟" سخر منه أنس ليقلب رحيم عيناه بتملل، تنهد أنس قبل أن يُردف:


"طيب Fine 'حسنًا'.. كنت بشتري فستان لأروى."


"هي هتقدر تيجي؟"


"مش عارف.. لسه مقولتلهاش أصلًا مستني اتأكد من الدكتور."


"هتبسط أوي لو جت بجد.. هحس إن كل حاجة رجعت زي زمان.."


"ما عدا إن طنط إيڤيلين هتخوفنا زي زمان عادي." علق أنس ساخرًا ليقذفه رحيم بإحدى الوسادات.


مرت الأيام بسرعة لا تُصدق ولم تدرِ أفنان لما على اللحظات السعيدة أن تنقضي بهذه السرعة؟ فلقد كانت الأيام التي تسبق حفل الخطبة من أجمل الأيام التي مرت عليها من وقت ولادتها تقريبًا، بعيدًا عن ما حدث بينها وبين ميرال، وبعيدًا عن شجار أفنان مع والدتها وأختها وابنة خالتها كل خمس ثوانٍ لأسباب تافهة تعزي إلى التوتر والقلق من اليوم الموعود.


استيقظت أفنان في ذلك اليوم باكرًا عن المعتاد، هذا إذا افترضنا أن النوم لخمسة ساعات فقط يُحسب نومًا، كان اليوم هو يوم الجمعة.. غادرت أفنان حجرتها وذهبت إلى 'الراديو' لتقوم برفع صوت القرآن قليلًا والذي لم يكن صوته ينقطع من منزلهم من الأساس، أشعلت عودًا من 'البخور' وذهبت للجلوس في الشرفة لإحتساء كوبًا من الشاي ومحاولة تصفية ذهنها قليلًا.


"صباح الفل يا عروسة، ياخوفي بتاع الدي چي يشغل أغنية مش على هواكي تقومي تضربيه."


"صباح الخير يا مامتي، وبعدين أيه الكلام ده؟ عيب كده.. من أمتى وأنا بتخانق مع الناس؟"


"لا طبعًا عمرك، ده أنتِ الهدوء والأدب كله فيكي، المهم عايزاكي النهاردة تبقي مبسوطة وتنسي أي حاجة وأي حد ممكن يزعلك سواء حد من عائلة أبوكي، مشاكلك مع نوح وميرال، حماتك."


"حماتي؟ ده حماتي دي لوحدها كفيلة توتر وتضايق بلد، وبعدين أيه حماتي دي؟ تحسي الكلمة مش راكبة على طنط كاميرون دياز دي."


"سيبيهالي أنا، خليكي في رحيم وأختك وصحابك."


"حاضر."


أردفت أفنان بإبتسامة صغيرة لتضمها والدها في حنان وهي تُقبل وجنتيها ورأسها قُبل مُتفرقة بينما تُتمتم:


"مش مصدقة أن كتكوتي الصغيرة كبرت وبقت عروسة، الحمدلله أني عيشت لحد أما شوفت اليوم ده."


"حبيبتي يا مامتي ربنا يخليكي لينا يارب ويديلك الصحة وطول العمر وتشيلي ولاد ولادنا، وبعدين أيه يا حجة رانيا الأوفر ده هو أنتي عندك ٩٠ سنة؟"


"تصدقي الحق عليا أني بقولك حاجة."


"خدي هنا يا ماما رايحة فين؟"


"هروح اصحي أحمد." أجابتها والدتها لتومئ أفنان وتعاود تأمل السماء لولا أن قاطعها صوت إشعار من هاتفها مُعلنًا عن وصول رسالة على تطبيق 'الواتساب' وكما توقعت لقد كان المُرسل رحيم.


'صباح الخير على عيون أحلى أفي الدنيا، نفسي الوقت يعدي بسرعة  Cause i can't wait to see you tonight 'لأني ليس بوسعي الإنتظار كي اراكي الليلة'.'


قرأت أفنان الرسالة بإبتسامة واسعة زينت ثغرها بينما كانت نبضات قلبها تتسارع، كيف له أن يكون بهذا اللطف؟


'صباح الفل، أنا كمان متحمسة جدًا لليوم، بس متوترة برضوا.. إن شاء الله اليوم يعدي كويس ونتبسط.'


أرسلت الرسالة ومن ثم تركت هاتفها وذهبت للبحث عن شيء تأكله مؤقتًا لحين عودة والدها من صلاة الجمعة كي يتناولوا الفطار جميعًا سويًا.


في تمام الساعة الرابعة والنصف، وقف رحيم أمام مرآة حجرته الكبيرة والتي تُعكس صورته كليًا أي يستطيع رؤية نفسه بشكل كامل من خلال وفي تلك اللحظة جاءه صوت طرقات على باب الحجرة.


"اتفضل يا أنس."


"أنا مش أنس، ينفع اتفضل ولا مش هتسمحلي؟"


"اتفضلي طبعًا يا مامي."


"تبدو وسيمًا للغاية 'You look so handsome'، كان نفسي أكون مبسوطة في يوم زي ده أكتر من كده."


"مامي حضرتك ممكن تبقي مبسوطة، وتحتفلي أن ابنك الوحيد found his soulmate 'وجد توأم روحه'، لكن حضرتك مصممه تضايقي نفسك." قال رحيم ببرود تام وهو يقوم بتعديل رابطة عنقه أمام المرآة.


"أنت شايف إن لما ابني الوحيد يعصى أمري ده شيء ميضايقش؟"


"لا يا مامي، عشان أنا مش باخد أوامر من حد، أنا كبير كفاية أني أخد قراراتي بنفسي من غير ما أرجع لحد."


"أنتَ اتغيرت جدًا يا رحيم." تفوهت والدته بحزن شديد ليسود الصمت لبعض الوقت قبل أن يُعلق رحيم على حديثها بشرود قائلًا:


"فعلًا، وأظن حضرتك المفروض تسألي نفسك مين السبب في ده، على أي حال هذا ليس الوقت المناسب لمثل هذه المحادثة  Anyway that's' not the right time to have this conversationn'."


"الليلة ليلة هنا وسرور.. وكوبيات في صواني بتدور.." صاح أنس بصوتٍ عالٍ وهو يُغني ألحان أغنية شعبية قديمة كانت تُنشد في الأفراح، ساد الصمت لبضع ثوانٍ.. تعبيرات أنس المصدومة وهو يحمحم بإحراج ونظرة والده رحيم المُندهشة ورحيم الذي يود صفع نفسه داخليًا من حماقة صديقه التي لا تناسب الأجواء المتوترة التي غلفت الأجواء قبل بضع ثوانٍ.


"أنا شكلي جيت في وقت غير ملائم."


"تعالى يا أنس ادخل، في حاجة ولا أيه؟"


"لا كنت جاي أشوفك خلصت ولا لسه وأقولك أني جبت الورد وأروى ومستنيناك تحت."


"تمام أنا خلصت ونازل حالًا."


"تعالي يا إيڤيلين يا قمر أنتِ أقولك كلمتين." أردف أنس وهو يصطحب والدة رحيم نحو الخارج ومن ثم يغمز لرحيم بإحدى عينيه بمعنى أنه سيتدبر أمرها.


بالإنتقال إلى منزل أفنان، ارتدت أفنان فستان الخطبة خاصتها والذي ابتاعه رحيم من أجلها، كان الفستان باللون 'البيچ' يُغطي ساقيها بالكامل وتكاد تصل إلى الأرضية ولكن بسبب الحذاء ذو الكعب العالي كان طول الفستان مناسبًا، كان الجزء السفلي من الفستان مصنوع من خامة 'التُل' والجزء العلوي من 'الستان' وقد زُين بتصميم لورود رقيقة بها لمعة بسيطة، جاءت صديقة مريم المُقربة والتي كانت خبيرة في وضع مساحيق التجميل لذا قامت بضبط وشاح أفنان ووضع مساحيق التجميل من أجلها مع حرصها على اختيار 'لوك' رقيق.


"شكلي حلو؟ حاسه شكلي غريب بالميك أب."


"قمر يا روحي أنتي بس عشان مش متعودة."


"ميرال أيه رأيك؟ أيه ده بتعيطي ليه؟"


"مش مصدقة أنك كبرتي وبقيتي عروسة." أردفت ميرال من بين دموعها وهي تحاول كفكفتها سريعًا كي لا تُفسد مظهرها.


"يا روحي.. بس بقى الميك أب بتاعنا هيبوظ أحنا دافعين فلوس."


"استني رحيم بعتلي مسدج.. بيقول أنه تحت البيت، يلاهوي أنا متوترة أوي بجد.."


"متتوتريش ياستي مفيش حاجة، أحنا هنركب معاكوا عشان ال photo session 'جلسة التصوير' صح؟"


"اه، بس مش هينفع أنتوا الإتنين تركبوا معانا.. أنس هيبقى قدام غالبًا وأنا ورحيم ورا فمش هينفع."


"طب هقولك على حاجة حلوة، خليكي أنتِ مع رحيم وأنا ومريم هنركب مع نوح."


"نوح هيجي معانا هناك ليه إن شاء الله؟"


"مش وقته سخافة على فكرة، هيجي عشان هو خطيبي وابن خالتنا مثلًا."


"أوف.. اعملوا اللي تعملوه." تذمرت أفنان وهي تُغادر الحجرة لتقابل والديها ليبدأ كلاهما بالثناء على مظهرها المُبهج واللطيف، لقد بدت وكأنها هاربة من أحدى الأفلام الكارتونية للأميرات.


"أفنان، مش محتاج أكرر التعليمات تاني أنتِ عارفة."


"عارفة يا بابا يا حبيبي متقلقش، دي صور للخطوبة يعني لازم حدود لما نبقى نكتب الكتاب نبقى نتصور صور الفرح براحتنا."


"براڤو عليكي."


بمجرد أن غادرت أفنان مدخل العمارة ووسط أصوات الزغاريد التي أتت من المنزل وربما مجاملة من أحدى الجيران.. فُتح باب سيارة رحيم في الوقت ذاته فتح نوح باب سيارته، اقتربت أفنان بخطى متوترة من رحيم والذي عدل بذلته وأغلق أحدى أزرارها بينما ينظر نحوها بثغرٍ مفتوح وأعين مُنبهرة.. لم يكن يعلم أنه يمكن لبشرية أن تكون بمثل هذا الجمال والبهاء..


"أنتَ ساكت ليه؟ شكلي مش حلو ولا أيه؟"


"شش أفي، مش عايز أضيع اللحظات دي في الكلام، عايز اتأملك وبس."


"يعم النحنوح هنتأخر والشمس هتروح مش هتلحق تتصور صور عدلة!"


"اه يلا فعلًا نتحرك." أردفت أفنان وهي تنظر نحو نوح بإزدراء قبل أن تدلف إلى داخل سيارة رحيم لتكون تلك المرة الأولى تقريبًا التي تكون أفنان داخل سيارته، جلست بعيدًا عنه بمسافة كافية والفضل يعود للفستان خاصتها الذي شغل بعض المساحة.


"مرحبًا 'Hello' أنا أروى أخت أنس."


"يا روحي عالقمر، أنا مكنتش أعرف إن أنس ليه أخت حلوة كده.. أصل أحنا بنصطبح بخلقته دي يعني على طول."


"ومالها خلقتي ياختي؟ ما تلم خطيبتك يا رحيم."


"أيه يلمني ده؟ شايفني متبعترة؟!"


"لا بص أنا ممكن أقلب العربية بينا عادي ولا يهمني." صاح أنس متذمرًا بينما ضحك رحيم بخفة على العبث الذي يحدث، لكن وجه أروى قد تجهم قليلًا لما قاله أنس.


توقفت السيارة أمام أحدى القصور القديمة والتي تعد مزار سياحي وكان هذا المكان الذي وقع عليه اختيارهم لجلسة التصوير، دلف الجميع إلا الداخل وبدأ أفنان ورحيم في التجول برفقة المصورة لتلتقط لهم بضع صور.


"ما شاء الله مجايبك كلها بنات، مفيش فايدة."


"هتتبسطي يعني لما يكون ولد اللي بيصورنا؟"


"أنا مقولتش كده، أنا بقول أن كل محيطك وكل حاجة بتعملها داخل فيها بنات."


"مش لسه بدري على فقرة النكد دي ولا أيه يا حبايبي؟ افردوا وشكوا كده واتصوروا خلينا نخلص." صاح نوح متذمرًا ليومئ كلاهما ويعاودوا الإبتسام، وبالإنتقال إلى وضعيات مختلفة من الصور والتي كانت في جميعها المسافة بين أفنان ورحيم كافية وبالطبع لم يلمسها فيها، أمسك رحيم يد أفنان وكان على وشك وضع يده الآخرى على كتفها لولا أن انتفضت هي مُبتعدة وهي تصيح:


"أيه ده أيه ده؟ بتعمل أيه؟ ايدك لتوحشك يا حبيبي!!"


"أيه يا أفي؟"


"أحنا مش اتفقنا مفيش لمس؟ اتصور من بعيد يا حبيبي مش لازم تلزيق عشان تبقى الصور حلوة."


"تمام As you like 'كما تُحبين'."


وصل أفنان ورحيم إلى المكان المنشود، تتسارع نبضات قلبها وتُحكم قبضة يدها على ذراعه في توتر شديد، تشعر بأنها على وشك فقدان الوعي لكن رائحة رحيم الفواحة جعلتها تفيق، صوت الزغاريد مُختلطًا بصوت المُسيقى يتخلل أذنيها.. يقترب منهم الجميع ليُرحب بهم وتُسلم أفنان على الجميع ولكن بعقل نصف شارد.. بدا الأمر وكأنه حُلم، حُلمًا جميل تمنت أفنان ألا تستيقظ منه ابدًا.. لقد كان المكان مزدحم أكثر مما توقعت ولكن ذلك الأمر لم يُزعجها مطلقًا بل أسعدها لأن معظم أصدقاء طفولتها الذي قامت بدعوتهم قد حضروا وهذا ما لم تكن تتوقعه هي، بالإضافة إلى عدة أشخاص كان من السهل استنتاج أنهم من جهة رحيم.


بعد مرور بعض الوقت من الرقص واللهو جاء موعد ارتداء خواتم الخُطبة، كان الجميع متشوقون لرؤية ما ابتاعه رحيم لأفنان وبالطبع كانت نظرات الغيرة والحقد تشع من عمة أفنان وجدتها ناهيك عن ريماس التي كانت تحاول جاهدة أن تبدو سعيدة من أجل أفنان لكن بداخلها كانت تشعر ببعض الغيرة.


بأيد مُرتعشة قليلًا اخرج رحيم خاتم الزواج ليضعه بإصبع أفنان، تتلامس يداهم فترتجف يدها وقشعريرة تسري في سائر جسدها، تُبعد يدها قليلًا في توتر وهي تقوم بضبط الخاتم قبل أن تفعل المثل وتقوم بإلباسه خاتمه بأنامل مُتجمده وعلى وجهها ابتسامة واسعة وزوج من الأعين اللامعة ولكن قاطع هو ما تفعل وهو يُردف:


"أفي عايز أقولك على حاجة."


"نعم؟ على صوتك شوية الدنيا دوشة." صاحت أفنان وهي تقترب من رحيم قليلًا ليُعيد هو ما قاله مجددًا.


"بقولك عايز اقولك على حاجة مهمه.."


"وده وقته؟ قول يا سيدي."


"بحبك." تمتم رحيم ببطء وهو ينظر إلى داخل عين أفنان، ابتسمت هي بخجل شديد وهي تشعر بوجهها يشتعل وقد صُبغ بالحمرة، أخذت نفس عميق قبل أن تُردف:


"أنا كمان.. بحبك."


"مبروك يا ولاد، ألف مبروك يا حبايبي."


"الله يبارك في حضرتك يا عمو."


"مُبارك 'congratulations' أفنان، أتمنى أنك تكوني كويسة في تقدير الفرص وتقدري تستغلي فرصة جوازك من رحيم كويس."


"مامي!" همس رحيم من بين أسنانه لكن والدته تجاهلته وتابعت توجيه حديثها لأفنان مُردفة:


"احضرت هدية صغيرة من أجلكِ 'i brought you a little giftt'."


تفوهت والدة رحيم قبل أن تُشير إلى المُساعدة خاصتها التي ترافقها في معظم الأماكن، فهمت الفتاة مقصد والدة رحيم لتقترب منها وتُخرج عُلبة زرقاء من القطيفة من حقيبة صغيرة، تُمسك والدة رحيم العُلبة وتناولها لأفنان تحت أنظار الجميع.. بيد مُرتجفة أمسكت أفنان العُلبة، فتحتها ببطء لتجد بداخلها سلسال وسوار وخاتم من الذهب، فتحت أفنان ثغرها وهي تتأمل الهدية باهظة الثمن بدهشة شديدة.


"دي هدية مني ليكي، هدية صغيرة.. 'أنا في العادة لا ارتدي أشياء مصنوعة من الذهب لكن الأشخاص مثلكِ في العادة يفعلون'  I don't usually wear stuff that made of gold but people like you probably do."


تحدثت والدة رحيم بثقة شديدة وبنظرات مُتحدية، ابتلعت أفنان الغصة التي في حلقها وهي تشكر والدة رحيم بتكلف قبل أن تمنح العُلبة لوالدتها كي تضعها في حقيبتها، حاول رحيم إخفاء ملامح الإستياء والغضب كي لا تتوتر الأجواء أكثر لكن بداخله كان ينوي الشجار مع والدته فور عودتهم إلى المنزل.


كان البعض يرمقون أفنان بحسد، انبهار ولربما تمنت فتاة أو اثنين أن يكونا في موضع أفنان لكن لم يدرِ أحد منهم حقيقة الوضع وكيف أن تلك الهدية ليست سوى للإهانة واستصغار أفنان..


"أفنان بقولك أيه.. قومي بقى نهيص شوية.. يلا يا رحيم." أردفت مريم في محاولة منها لتلطيف الأجواء بعد ما فعلته والدة رحيم.


"لا هو غالبًا رحيم مش عارف الأغاني دي، أكيد أنس الصايع عارفهم.. إلا هو فين؟ وفين ميرال؟"


"معرفش هتلاقيهم جايين دلوقتي، قومي يلا."


استقامت أفنان من المقعد المخصص لها هي ورحيم ليقترب منها صديقاتها ويبدأون في تحيتها ومن ثم سحبها لتشاركهم الرقص والإحتفال، كانت تعبيرات وجه أفنان ولغة جسدها تنم عن سعادة حقيقية، كان رحيم يراقبها بوجه مُبتسم سعيد وإن كان يشعر بالغيرة من فكرة رؤية أحدًا آخر لها وهي بهذه الحالة، ومن فكرة أن يراها أحد بنفس الجمال، أن ينظر نحوها شخصًا كنوح مثلًا كما  يفعل الآن ليرمقه رحيم بحده فيلاحظ نوح فيمنح رحيم ابتسامة ساخرة قبل أن يُدير وجهه للجهة الآخرى.


"ألف مبروك يا حبيبة عمتو." جاء هذا الصوت من وسط الفتيات، استطاعت أفنان تميز صاحبة الصوت بالفعل لذا ابتعدت قليلًا عن صديقاتها وهي تُعلق على حديث عمتها قائلة:


"الله يبارك فيكي يا عمتو، شكرًا."


"عشت وشوفتك بتتخطبي يا أفنان، والله الواحد فرحان إن عدوة الرجالة وأم لسان طويل لقت راجل.. مبروك." علقت جدة أفنان ساخرة لتبتسم أفنان ابتسامة مُزيفة وهي تُردف:


"الله يبارك في حضرتك يا تيتا، أهو النصيب لما بيجي الدنيا كلها بتمشي."


"طب مش هيجي يسلم علينا والله ولا أنتي بقى مستعرة مننا؟"


"أيه يا عمتو الكلام ده ازاي يعني؟ ثواني."


"رحيم.. تعالى سلم على عمتي وتيتا وبنت عمتي، عدي أي كومنت سخيف هيقولوه." منحته أفنان التعليمات بينما يتوجهوا نحو عمتها وجدتها، رمقها رحيم بطرف عيناه وهو يسألها:


"حاضر، شكلك متضايقة.. بسبب مامي صح؟"


"لا أنا زي الفل، معكش بوق مايه ابلع الكلمتين السم اللي لسه سمعاهم؟" قهقه رحيم على حديثها الساخر وإن، كان شعر بالضيق لفكرة أن يُحزنها أحدهم بحديثه.


"مساء الخير، أهلًا بحضراتكوا."


"أهلا يا حبيبي.. اسم الله، عريسك قمر يا أفنان."


"شكرًا.. ده من ذوق حضرتك."


"ألف مبروك يا ابني، هو ده بقى يا ست أفنان اللي كنتِ بترفضي العرسان عشانه؟"


"أحم.. اه يا تيته، رحيم."


"مبروك يا أفنان فرحتلك أوي بجد، ربنا يتمم على خير.. مش هو ده اللي كان واقفلك في خطوبة مير.." لم تدعها أفنان تُكمل الجملة بل سحبتها في عناق قوي كي تجعلها تصمت، ضحك رحيم على ردة فعل أفنان وإن كان لم يسمع ما قالته الآخرى بشكل واضح.


"بقولك أيه يا ريماس تعالي كده نهيص كلنا ها واقفلي بوقك ده شوية."


تمتمت أفنان وهي تسحبها بعيدًا، عادت أجواء الإحتفال كما كانت وسط سعادة الجميع لكن بعد مدة شعرت ميرال بالإرهاق لذا قررت أن تذهب إلى الخارج قليلًا وبعيدًا عن الجميع لتحدى بلحظة من الهدوء، بالفعل فعلت ذلك وفي طريقها قابلت أنس الذي وقف يُدخن لفافة تبغ.


"ازيك يا أنس عامل أيه دلوقتي؟" بمجرد أن جاءه صوت ميرال انتفض من مكانه، فلقد كان شاردًا وأفاق من شروده على صوتها، رفع عيناه نحوها بدهشة كبيرة وهو يُلقي بلفافة التبغ أرضًا ثم يجيب على سؤالها بسؤال لم يعقل كلماته:


"أنا؟ دلوقتي ولا قبل دقيقة؟"


"مالك يا ابني أنت تعبت تاني ولا أيه؟" سألته ميرال وهي تضحك على تعبيراته المُريبة وحديثه الغير مفهوم.


"أروى متعرفش بوفاة فريد.. بابا يعني فمتجبيش سيرة قدامها من فضلك."


"ازاي يعني متعرفش؟"


"حالتها الصحية مكنتش تسمح أني أبلغها بخبر زي ده! أنا عارف أن الموضوع Weird 'غريب' بس.." قاطع حديث أنس صوت اصطدام الكرسي المتحرك بشيء ما يتبعه صوت شقيقته وهي تصيح مُردفة:


"أيه ده؟! Watch out 'احترس'."


"أنا أسف مخدتش بالي." جاء صوت نوح مُعتذرًا محاولًا إعادة الكرسي لموضعه والتأكد من سلامة الفتاة الجالسة عليه لكن الآوان قد فات لذلك حيث هرول أنس نحوه وهو يقترب منه ويُطالعه بحده قائلًا:


"ما تفتح يا أعمى أنتَ!"


"ما تهدى على نفسك يا عم أنس قولنا مشوفتهاش!"


"لا أنت تتكلم معايا بإسلوب أحسن من كده بدل ما أطربق المكان كله على دماغك."


"أتكلم على قدك يا بابا، مبقاش إلا عيل خرع زيك يكلمني كده!" تفوه نوح وهو يدفع أنس بعيدًا من صدره.


"خرع؟ لا بقولك أيه ميغركش البدلة النضيفة دي، أنا أساسًا شوارعي."


"أنس بس خلاص محصلش حاجة.." نبست أروى محاولة إنهاء الشجار لكن لم ينتبه أنس لما تقوله فلقد أعماه غضبه.


"وأنتِ كنتِ واقفة معاه بتعملي أيه أنتِ كمان؟" صاح نوح  مُتسائلًا موجهًا حديثه إلى ميرال والتي توترت ملامحها كثيرًا وهي تُجيبه بتلعثم قائلة:


"مفيش أصل.." تمتمت ميرال قبل أن تستدير وتبتعد عنه متجهة نحو الخارج لرؤية نوح بهذه الحالة قد دب الرعب في قلبها، فهي لم تراه بهذا الغضب من قبل.. اتجه نوح نحوها بخطى سريعة وهو يجذبها من ذراعها قائلًا بحده:


"خدي هنا."


"سيب ايدي يا نوح أنت اتجننت ولا أيه؟"


"لا لا أنا تمام، أنتِ كويسة؟"


"أهو الحمدلله.. صحيح أنا عرفت أن ليك أخت، هي مجتش ولا أيه؟"


"لا لا جت، هجيبها وأجي ثواني." نبس أنس بتوتر قبل أن يهرول نحو أروى ثم يُردف بحماس:


"أروى في حد عايز يسلم عليكي."


"حد مين؟"


"أخت.. أخت أفنان."


"قولتلي بقى، ماشي خدني ليها." قالت أروى بحماس ليومئ أنس ويدفع الكرسي نحو ميرال والتي وقفت بإبتسامة واسعة تنتظر اقترابهم.


"ميرال دي أروى أختي، أروى دي ميرال أخت أفنان."


"أهلًا بيكي يا قمر وألف سلامة عليكي." تمتمت ميرال بلطف شديد، لتبتسم لها أروى وهي تقول:


"الله يسلمك تسلمي، ما شاء الله أنتي وأفنان زي القمر.. بس مش شبه بعض أوي."


لكن سرعان ما تبدلت ملامح أروى وتلاشت ابتسامتها نسبيًا حينما لاحظت خاتم الخطبة في يد ميرال، هل فقد شقيقها عقله؟ يقع في حب فتاة على وشك الزواج من شخصًا آخر؟! على ما يبدو أنها قد غابت عنه لمدة طويلة تكفي لجعله لا يقوى على التفكير بشكل سليم.


"أنتي وأنس بقى نسخة من بعض."


"كل الناس بيقولوا كده مع أني أكبر منه بشوية صغيرين كده يعني."


"ربنا يخليكوا لبعض، مبسوطة أوي أني قابلتك بجد نورتينا والبقا.." كادت ميرال أن تتفوه بشيء لا يجب عليها التفوه به لذا قاطعها أنس على الفور وهو يطلب منها الآتي:


"بقولك أيه يا ميرال معلش ممكن أقولك كلمة؟"


"اه طبعًا.. بعد إذنك يا أروى." استأذنت ميرال بآدب وهي تحاول اخفاء شعور القلق الذي تسرب إلى داخلها، وبمجرد أن ابتعدت بمسافة كافية هي وأنس عن أروى قام بشرح سبب فعلته تلك قائلًا:


"هو أنت محدش رباك أن ايدك متتمدش على واحدة وصوتك ميعلاش عليها؟" تسأل أنس ساخرًا وهو يجذب ذراع نوح بقوة ليُجبره على ترك ذراع ميرال.


"مبقاش إلا واحد صايع زيك ابن المدمن هو اللي هيعلمني الآدب." بمجرد أن تخللت تلك الكلمات المُهينة أذن أنس هرول  نحو نوح ولم يتمالك نفسه بل شرع يلكم نوح بقوة في وجهه ليسقط الآخر أرضًا على آثر تلك اللكمة، يقترب أنس من نوح الذي أمسك أنفه بألم وكاد أن يحاول التحرك لولا أنس الذي ركله في قدمه، أنحنى أنس على ركبتيه وهو يقترب من المدد أرضًا ليُباغته نوح بلكمه لم تكون قوية كفاية لكنها كانت كفيلة بجعل أنس يستشيط غضبًا ويلكمه مجددًا.


"أنس.. أنس Stop this shit please 'أوقف هذا الهراء من فضلك'." صاحت أروى في هلع حقيقي بينما اغرورقت عيناها بالدموع، لم يكن أنس يستمع لما تقوله من الأساس لكن ميرال اقتربت منه وجذبه من معطف بدلته وهي تصيح:


"أنس لا لا! بس كفاية!! خلاص سيبه.. نوح أنتَ كويس؟ حرام عليك يا أنس!"


"بجد والله؟ بتطمني عليه بعد كل اللي حصل؟ حرام عليا أنا؟ تصدق أنك تستاهلي فعلًا أنه يمشيكي في الشارع معيطة بسببه ويحرجك قدام الناس." بصق أنس كلماته بحنق شديد قبل أن يُعيد خصلات شعره نحو الخلف ومن ثم يعيد ضبط ثيابه ويتوجه نحو الداخل وقد رسم ابتسامة زائفة على وجهه وكأن شيئًا لم يكن.


دفع أنس الكرسي بأروى وتوجه نحو الداخل برفقتها، كان الصمت سائدًا بينهما لم تنبس أروى ببنت شفه واكتفت بالبكاء أما أنس فقد أخفى مشاعره داخله كما يفعل دائمًا، لمحهم رحيم بطرف عيناه واستشعر بأن هناك شيء خاطئ.


"أفي ثواني وجاي."


"في حاجة ولا أيه؟ وفين ميرال؟"


"مش عارف.. هروح أشوف في أيه." تركها رحيم في حيرة واتجه نحو أنس وبمجرد أن اقترب ازداد قلقه وهو يسأل:


"أنس أنت كويس؟ أروى بتعيطي ليه؟ 'هل أنتِ بخير' Are you okay؟"


"اتخانق.. مع واحد برا وضربوا بعض.." همست أروى بضعف وضيق شديد ليقلب أنس عيناه، رمقه رحيم بصدمة وحِدة وقبل أن يتفوه رحيم بحرفًا واحد جاءه صوت أنثوى بالقرب من مدخل المكان ونظرًا لكون الموسيقى هادئة في تلك اللحظة كان الصوت مسموع نسبيًا:


"مُبارك لكَ عزيزي رحيم Congratulations Rahim, my darlingg."


____________________________________


(تذكره: حَسْبِـيَ اللّهُ لا إلهَ إلاّ هُوَ عَلَـيهِ تَوَكَّـلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظـيم.)



 الفصل الأربعون: اعْتِرَافٌ 🦋🤎✨


 

"مُبارك لكَ عزيزي رحيم Congratulations Rahim, my darlingg."


"الله! قابل يا معلم!" همس أنس في أذن رحيم، استقامت أفنان من مقعدها واقتربت بينما ارتسمت معالم الصدمة والغضب على وجهها.


على الفور تحرك رحيم نحو ناتالي بإستياء شديد، كانت ترتدي الأخيرة ثوب باللون الأحمر كاشف عن ساقيها كاملة تقريبًا وقد كان منزوع الأكمام كذلك وقد تركت خصلات شعرها الشقراء منسدلة على كتفيها، كان مظهرها مُلفتًا للأنظار لدرجة كبيرة بل صارخًا!


"'ماذا تفعلين هنا ناتالي، هل فقدتِ عقلكِ' What the... What are you doing here Natalie have you lost your mind؟!!"


سألها رحيم بنبرة أقرب إلى الصراخ، نبرة لم تعتاد ناتالي أن تصدر من رحيم لكنها لم تتأثر كثيرًا والفضل في ذلك يرجع غالبًا إلى زجاجة الكحول التي تجرعتها كاملة قبل قدومها إلى هنا، رمقت رحيم بإبتسامة سمجة وهي تُردف الآتي بينما تحاول وضع يديها في وجه رحيم لكنه ابتعد على الفور:


"لقد جئت هنا لأهنئك I came here to congratulate youu."


"يجب عليكّ الذهاب من هنا الآن You should leave noww."


تمتم رحيم من بين أسنانه محاولًا تمالك أعصابه وفجاءة جاءت أفنان لتقف إلى جانبه وهي تنظر نحوه بإبتسامة تحمل في طياتها الوعيد والغضب بينما تتفوه بالآتي:


"الله الله، مقولتليش ليه يا حبيبي أنك عازم الحرباية دي هنا؟"


"رحيم مرحبًا، مرحبًا ناتالي لما لا نذهب لنتحدث بعيدًا لدقيقة  Rahim hello, Hi Natalie.. Why don't we go away to talk for a minute." صدرت هذه الجملة من ميا والتي ظهرت من اللامكان فلم تتذكر أفنان رؤيتها اليوم، نظر نحوها رحيم بإمتنان شديد وهو ينبس بالآتي:


"ايوا ميا، خديها من فضلك." أومئت ميا وهي تسحب ناتالي بعيدًا بينما تتحرك الأخيرة بصعوبة، زفر رحيم بضيق ثم ألتفت ليواجه أفنان والتي كانت ملامحها أكثر هدوءًا مما توقع.


"أفي صدقيني أنا مكنتش أعرف.. حقيقي أنا.."


حاول رحيم إصلاح الموقف سريعًا والذي لم يكن خطأه على أي حال بينما يصطحب أفنان للجلوس على المقاعد المخصصة لهم، لكن أفنان علقت بجملة لا تمت بصلة لما يحدث حيث علقت مُردفة:


"بقولك أيه أنا جعانة، ينفع نطلب حاجة ناكلها؟"


"اه أكيد.. Anything you want 'أي شيء تُريدينه'."


"حلو، نشوف المنيو بقى." تمتمت بجدية لينظر نحوها رحيم وهز يُضيق عيناها بتعجب بينما غادرت تنهيدة شفتيه قبل أن يسأله بجدية محاولًا التأكد من سلامة قواها العقلية قائلًا:


"أفي أنتِ كويسة؟"


"اه.. بقولك أيه مشوفتش ميرال؟"


"مش عارف.. هخلي أنس يشوفها، Give me a minute and i'll be back 'أمهليني دقيقة وسأعود إليكِ'."


"تمام يا حبيبي."


استقام رحيم من مقعده واتجه نحو أنس الذي كان يقف إلى جوار أروى، اقترب رحيم من أنس وجذبه بعيدًا عن أروى قليلًا وهو يسأله:


"أنس هو حصل أيه؟"


"أنت عملت أيه في حوار ناتالي الزفتة دي؟"


"معرفش زي ما أنت شوفت ميا خدتها برا.. معرفش حاجة.."


"ربنا يستر، الحركات دي متجيش غير من أمك بصراحة، بس مش وقته.. عدي اليوم على خير وبعدين ابقى شوف حل للمشكلة دي."


"أفنان مش هتعدي الحوار ده بسهولة وهندخل في مشاكل ملهاش لازمة.. لو بس مامي تسيبني افرح يوم وأمشي الدنيا زي ما أنا عايز.."


تذمر رحيم وهو يعيد خصلات شعره نحو الخلف والتي كانت مرتبة ولكنها حركة لا إرادية يفعلها دائمًا، وضع أنس يده على كتفة وهو يُطمئنه قائلًا:


"خلاص بقى افرد وشك كده وكل حاجة هتبقى كويسة." أومئ رحيم وكان على وشك العودة لأفنان لولا أنه لاحظ كدمة في وجه أنس ليسأله بقلق:


"أنس هو أنت وشك.. محمر كده ليه؟"


"مكسوف منك." علق أنس ساخرًا وهو يتحسس موضع الضربة بيده ليُشيح رحيم يده وهو يفحص وجهه بينما يُردف بنبرة جادة:

" لا، أنا اتحدث بجدية No, i am talking for real، أيه اللي حصل؟"


"أنا ونوح ضربنا بعض، أنا شلفطت وشه يعني بس هو عرف يضربني برضوا ابن ال..."


أردف أنس بحنق وكاد أن يسب نوح لكن قاطعه رحيم وهو يوبخه بضيق شديد قائلًا:


"اعمل فيك أيه يا أخي؟ هو اليوم ناقص يا أنس؟ ناقص؟"


"ده خبط أروى كان هيوقعها من عالكرسي، وبيعايرني بأبويا! لا والبيه كمان بيمد ايده على أخت أفنان!"


كان رحيم يستمع إلى مبررات أنس بعدم اقتناع لكن فور أن أدرك ما يقوله أنس شعر بنيران الغضب تشتعل بداخله ليعلق مستنكرًا:


"ده اتجنن ده ولا أيه؟ لو مش عارف الأدب نعلمه."


"لا يا أخويا الطيب أحسن، أنا قومت بالواجب بشكل مؤقت.. لكن لو شوفت وشه تاني بعد الخطوبة دي مش هحله!"


"أنا اه مش بحب العنف وشغل الغجر ده، بس المرة دي معاك حق."


"بصراحة يوم سيء من أوله.. اه مش يوم عيد ميلادك؟ لازم يبقى كده طبعًا.. أوبا ألحق أفنان واقفة مع ميا وناتالي!!"


كان أنس يتحدث بسخرية في بداية حديثه لكنه اتخذ منحنى جاد حينما لاحظ تقدم أفنان من ناتالي وميا، لقد استغلت ذهاب رحيم للثرثرة مع أنس كي تذهب للشجار مع الفتاة على الأرجح، وقد جرت المحادثة كالآتي:


"بقولك أيه يا قطة أنا عارفة أنك فهماني.. If you don't stay away from my fiance i will make you see the stars in the afternoon 'لو لم تبتعدي عن خطيبي، سأجعلكِ تشاهدين النجوم في عز الضهر'."


"هل فقدتِ عقلكِ، كيف تجرؤين على التحدث إلى بتلك الطريقة  Have you lost your mind, how dare you talk to me like thatt؟!!"


"لا بقولك أيه أنا كل ده محترماكِ لكن صدقيني لو مبعدتيش عن رحيم، هوريكي أيام أسود من قرن الخروب، أنتِ يا بت يا مايعة أنتِ ترجميلها اللي بقوله."


بصقت أفنان جملتها بتحذير حقيقي قبل أن توجه حديثها لميا التي كانت ملامح الذعر مُرتسمة على وجهها تمامًا كناتالي، رمقتهم أفنان بحدة من الأعلى للأسفل قبل أن تتجه نحو الداخل عائدة إلى مجلسها وقد رسمت على وجهها ابتسامة مُزيفة ولكن قبل أن تفعل قابلها رحيم في منتصف الطريق والهلع بادي على وجهه فلقد كان يتوقع أن ينقلب حفل الخطبة إلى مسرح جريمة.


"بقولك أيه، مش هنتصور تاني ولا أنت زهقت من الصور ولا أيه؟"


"مزهقتش طبعًا.."


"مشوفتش ميرال؟" كررت أفنان السؤال مجددًا ولكن في هذه المرة كان رحيم يعرف الإجابة لكنه لم يدرِ هل يجب عليه أن يخبرها بما حدث في الخارج أم لا..


"لا.. مش عارف." اضطربت معالم رحيم قليلًا لأنه يعرف أنها على الأغلب برفقة نوح الذي تشاجر مع أنس قبل قليل والذي قام أنس بتشويه وجهه في الغالب وإذا علمت أفنان بما حدث فقد ينشب شجار بين الجميع.


"طيب أنا هروح أشوفها."


"ما تخليكي معايا هنا."


"هشوفها بسرعة وأجي." تمتمت أفنان وهي تسحب فستانها كي تستطيع السير بسهولة، كان رحيم يُراقبها وهي تبتعد بينما يزفر بضيق.


بالإنتقال إلى الخارج وقفت ميرال بالقرب من نوح الذي كان يقف بصعوبة بينما كان يُعيد رأسه نحو الخلف محاولًا جعل النزيف يتوقف، رمق ميرال بحده ولوم وهو يسألها مستنكرًا:


"مبسوطة كده؟ كله ده بسببك على فكرة."


"أنا ذنبي أيه يا نوح طيب؟ خد حط المنديل ده على مناخيرك." نبست من بين دموعها وهي تمنح نوح منديلًا ورقيًا وتحاول تقريبه من أنفه لكنه في المقابل يُشيح بيديها بعيدًا عنه وهو يصرخ:


"أوعي ايدك، ابعدي عني."


"يا نوح والله أنا مليش ذنب، أنتوا الأتنين اتعصبتوا على بعض وكلمتوا بعض وحش.."


قاطع جملة ميرال قدوم أفنان التي كانت تسير نحوهم ببطء ولكن بمجرد ما رأت ما حدث هرولت نحوهم وهي تستفسر بقلق:


"هو في أيه؟ يا خبر أبيض أيه اللي في وشك ده يا نوح؟"


"مفيش حاجة أنا كويس.." تمتم نوح وهو يحاول اخفاء  ابتسامته كي لا تظهر سعادته لإهتمام أفنان به.


"كويس أيه بس؟ ارفع وشك وريني في أيه؟"


قالت أفنان وهي تحاول فحص وجه نوح دون أن تلمسه ولكن المسافة بينهم كانت قليلة، جاء رحيم من اللامكان ليقف في المنتصف بينهم فتبتعد أفنان نحو الخلف تلقائيًا، ينظر نحوهم رحيم بدهشة مصطنعة وهو يستفهم قائلًا:


"ماله يا أفنان حصل أيه؟"


"مناخيره بتجيب دم.. معرفش في أيه؟"


"طيب Stay away 'ابقي بعيدًا' أنا هتصرف." تمتم رحيم  بهدوء لا يتناسب مع نظرة عيناه الحارقة قبل أن تمنحه أفنان المناديل الورقية وتبتعد ليقترب هو من نوح ونظرًا لفارق الطول بينهم يجذبه رحيم ببعض العنف ثم يدس المناديل الورقة في أنفه ويضغط عليها قليلًا لكي يوقف النذيف.


"ما تبراحه يا عم أنتَ."


"وأنتَ استرجل ها." همس رحيم من بين أسنانه وهو مازال  يضغط بقوة على أنف نوح ليبتعد عنه الأخير قليلًا ويهمس هو ايضًا بخبث وتهديد:


"على فكرة أنا ممكن أقول لأفنان وأولع الدنيا بس أنا عايز الليلة تتلم."


"بتتحامى في أفنان؟ Seriously 'بجدية'؟! لو عايز تقولها قولها بس قبل ما تعمل كده فكر لثواني هي هتكون في صف مين فينا."


كان رحيم يراوغ محاولًا الضغط على نوح، رمقه نوح بسخرية وهو يُعلق بثقة:


"أكيد أنا، متنساش أني ابن خالتها وفي مقام أخوها ومش بس كده لا أنا خطيب أختها كمان."


"وأنا جوزها المستقبلي وحبيبها، واللي اتضرب ده أخويا واللي حصل ده مش هيعدي بالساهل بس أنا مش عايز ابوظ اليوم أكتر ما هو بايظ."


قال رحيم من بين أسنانه، طالعتهم أفنان بشك وحيرة وهي تشعر بأن الأجواء بينهم مُشتعلة لتقترب على الفور منهم وهي تستفسر بعد ارتياح:


"هو أنتوا بترغوا في أيه؟ نوح الدم وقف؟ وبعدين أيه اللي عمل في وشك كده؟"


"اتخانق مع واحد كان بيعاكس ميرال." كذب رحيم لكي لا تزداد المشكلة، أومئت أفنان بهدوء قبل أن تسأل مُستنكرة:


"ده بجد؟ أومال أنتِ بتنوحي ليه؟"


"أصلي خفت على نوح أوي وحسيت بالذنب.."


"طب بطلي عياط خلاص.. وأنت خليهم يجيبولك تلجة من جوا عشان وشك ميورمش أكتر من كده."


وإلى هنا انتهت الدراما في هذا اليوم، عاد الجميع إلى الداخل وألتقط المصور بعض الصور لهم وسار الأمر بطريقة جيدة، وفي وقتًا متأخر من تلك الليلة وفور عودة أفنان إلى المنزل وبعد انتهاء هذا اليوم المُرهق، ألقت بجسدها على السرير بإهمال ثم أمسكت هاتفها وهي تدعو بداخلها ألا يكون رحيم قد أرسل إليها رسالة فهي تريد أن تسبقه وبالفعل تحققت دعوتها.


'مش عارفة هتشوف المسدچ أمتى بس كنت عايزة أقولك، إنك أجمل صدفة في حياتي وإني بجد مش مصدقة أن القدر جمعنا ببعض وقدرنا نوصل للي وصلناله.. أحنا وصلنا لنص السكة سوا ودلوقتي قصة حبنا بقى يشهد عليها العائلة والصحاب ومش قادرة استنى اليوم ابقى فيه Yours 'لكَ' رسمي ويبقى ربنا والشهود وكل الحضور شاهدين على قصة حبنا.'


في صباح اليوم التالي وبمجرد أن استيقظت أفنان استشعرت خاتم الخطبة في يدها، ابتسامة واسعة ارتسمت على وجهها.. فهي لا تكاد تصدق أن هذا قد حدث بالفعل.. لقد أصبحت علاقتها برحيم شبه رسمية يكفي فقط أن يُعقد قرانهم ويُصبح كلًا منهما جزءًا من الآخر.. تنصهر الحواجز بينهم فيذوب كليهما ليُصبحا كيانًا واحد، اتسعت ابتسامتها أكثر لتلك الفكرة وشعرت بدغدغة في معدتها.. أهذا هو طعم السعادة التي يحكي عنها الجميع؟ ربما..


أمسكت بهاتفها وأرسلت عدة رسائل لرحيم لا تحوي شيء سوى اسمه أو بعض الوجوه المرسومة تحاول تنبيهه لكن على ما يبدو أنه مازال نائمًا.


"صباح الخير على عيون أحلى أفي."


"صباح الفل عالفل، طبعًا اليوم امبارح كان رائع.. ومعرفناش نحتفل بعيد عيد ميلادك في وسط الخطوبة والدوشة والخناقات واللغبطة دي، فقولت نخرج النهاردة يعني لو فاضي."


"أنا افتكرتك نسيتي أصلًا.." تمتم رحيم بنبرة ناعسة زادت صوته الرجولي جمالًا فوق جماله، ابتسمت أفنان لا إراديًا وهي تُردف مستنكرة:


"انسى ازاي يعني وأنا أساسًا اللي اخترت اليوم عشان هو يوم عيدميلادك؟"


"في دي عندك حق بصراحة، ها هتودينا فين النهاردة؟"


"بعتلك location 'موقع جغرافي' بتاع مكان حلو كده تعالى على هناك."


"تمام حاضر."


وصل رحيم إلى المكان المُتفق عليه، مقهى ومطعم في منطقة 'مدينة نصر' تعجب رحيم قليلًا من اختيار المكان فهو عادة ما يرافق أفنان إلى أي مقهى أو مطعم في الزمالك أو بالقرب من مقر الشركة في السابق، دلف رحيم إلى الداخل وأخذ يبحث بعيناه عنها حتى وجدها تقف بالقرب من طاولة صغيرة تكفي لفرديين قد زينتها بالورود الحمراء المُجففة والتي تناثرت عليها بالإضافة إلى شموع حمراء اللون كذلك، وعلى أحدى أطراف الطاولة وضعت صندوق هدايا باللون الأسود متوسط الحجم.


ابتسامة واسعة زينت ثغر رحيم.. سعادة غامرة احتلت كيانه فهو لم يظن ولو لوهلة أن أفنان قد تفعل شيء كهذا فهي كما يبدو له ليست من النوع الرومانسي بتاتًا، وهو الذي أحضر لها باقة من الورد فقط..


"أفي.."


"رحيم.. كل سنة وأنت طيب!" أردفت بسعادة شديدة وهي تمنحه الهدية بينما كانت عيناها تلمع من فرط الحماس، كم تمنى لو يستطيع أن يمنحها عناقًا دافئًا يُعبر عن امتنانه وسعادته ولكن لا بأس في الإنتظار قليلًا حتى تصبح خاصته وحلاله بشكلًا رسمي.


"أفي You didn't have to do this 'لم يكن عليكِ فعل هذا'."


"عيب يا رحيم متقولش كده أحنا أهل."


"أنتِ بتقولي أيه بجد؟" سأل رحيم وهو يقهقه قبل أن ينتبه أنه لم يمنح أفنان باقة الزهور لذا مدّ ذراعه مانحًا إياها الباقة.


"الله! حلو أوي بجد.. بيتنا بقى كله ورد، على فكرة أنا بحتفظ بيه حتى لما بيدبل بشيله عندي، وبعدين يا رحيم ده عيدميلادك أنتَ يعني مينفعش أنتَ تجبلي حاجة."


"دي حاجة بسيطة يا أفي."


"لا مش بسيطة ولا حاجة، الحاجات اللي من وجهة نظرك دي صغيرة بتكلف جامد وأحنا محتاجين كل قرش عشان الجواز وكده." قالت أفنان بنبرة جادة ليضحك هو لبرهة ثم تعود ملامحه الهاظئة مجددًا وهو يتفوه بالآتي:


"حاضر، صحيح عايزين نروح نشوف البيت بتاعنا، ولو مش عجبك نشوف مكان تاني."


رمقته أفنان بتعابير بلهاء ليعقد حاجبيه متعجبًا منها وقبل أن ينطق بحرف سبقته هي بنبرة درامية بينما تُضيق عيناها قائلة:


"نروح البيت؟ وتشربني حاجة صفراء والكلام ده؟ لا يا رحيم أنا أسفة العنوان غلط."


"أيه يا أفي اللي أنتِ بتقوليه ده؟ مين قالك أن كل الكحوليات لونها أصفر أصلًا؟ في ألوان تانية كتير السينيما بس هي اللي مصدرة الفكرة دي."


أوضح رحيم وهو يضحك ساخرًا من حديثها، فما تقوله كان يحدث في بداية الألفينات أو ربما قبل ذلك فلم تعد الفتيات ساذجة، صمتت هي لبرهة قبل أن تعُلق بصوتٍ خفيض مُردفة:


"ما طبعًا ما أنتَ خبرة بقى."


"أفي، أفي بس شوية.. أحنا هنروح مع أسرتك عشان نشوف البيت وكده، هحدد ميعاد ما Uncle أحمد وهشوف مواعيد الشغل وكده."


"تمام ظلمتك كالمعتاد، المهم مش هتفتح الهدية بقى؟" أومئ لها رحيم قبل أن تناوله الصندوق فيأخذه منها بحماس شديد، يفتح الصندوق ليجد بداخله عُلبة طويلة سوداء من القطيفة، توقع رحيم ما بداخلها واتسعت ابتسامته.. لقد كان سلسال من الفضة يحوي الحرف الأول من اسم أفنان متداخل مع الحرف الأول من اسم رحيم.


"تحفة يا أفي بجد، Wait 'انتظري.." تمتم رحيم وهو يفتح الزر الثالث من قميصه  لتُشيح أفنان بنظرها بعيدًا عنه على الفوى، ومن ثم مد يديه حول عنقه لينزع السلسال الذي يرتديه ويضع مكانه خاصة أفنان.


"شكلها حلو أوي عليك، المهم في هدية تانية عبيطة كده بس بصراحة مكنتش عارفة أجبلك أيه."


تمتمت أفنان وهي تُخرج الهدية الآخرى من العلبة والتي كانت 'مج' حراري، باللون الأسود وقد نُقش عليه اسم رحيم، لم ينبس بحرف بل أخذ يتأمل هديتها الثانية اللطيفة بينما تابعت هي حديثها:


"أنا كنت بلاحظ أيام التدريب أنك على طول بتشرب قهوة أو نسكافية أو حاجات سخنة يعني فقولت اجبهولك.. بصراحة أنت كل الحاجات اللي بتجيبها غالية وأنا مكنتش هعرف اجبلك حاجة بنفس ال Quality 'الجودة' فكرت لجبلك لبس وبعدين افتكرت أنك بسم الله ما شاء الله مكررتش ولا طقم من يوم ما قابلتك يعني فقولت مش هيبقى ليها لازمة."


"أفي كام مرة هقولك أن الهدية مش بتمنها؟ الهدية بغلاوة الشخص اللي جابها أنتِ لو جبتيلي لبانة هتبسط صدقيني."


"والله أنت بتحرجني بأخلاقك دي، المهم مش هنطلب ولا أيه؟ أنا واقعة من الجوع.. صحيح أحنا مش هنتأخر أوي وبابا أصلًا عند واحد صاحبه قريب من هنا فهيعدي عليا يروحني معاه."


"تمام يا حبيبي."


بعد مرور يومان هاتف رحيم والدها واتفق معه على القدوم لتناول الغداء في منزل أفنان ومن ثم يذهب جميعهم لرؤية المنزل، كان كل شيء يسير على ما يرام حتى جاء اتصال من نوح لأفنان أو بمعنى أدق كانت ميرال تتحدث إلى نوح في الهاتف وقد طلب منها أن تقوم بفتح مُكبر الصوت وقد جرى الحديث كالتالي:


"أيه يا ست أفنان عاملة أيه؟ مسمعناش صوتك من وقت الخطوبة."


"مفيش مشغولة مع رحيم والترتيبات وكده." أجابت أفنان  بلا مبالاة، ساد الصمت لبرهة قبل أن يُعلق نوح على حديثها ساخرًا:


"والله؟ ربنا يوفقكوا.. ياريت بس تأجلوا الفرح لحد ما وشي يخف ولا ناويين تضربوني تاني في الفرح ولا أيه؟"


"أيه؟ أنا مش فاهمة حاجة."


"مش فاهمة أيه؟ اه هو البيه لسه مفهمك أني اتخانقت مع واحد في الشارع؟ كدب عليكي يعني ومقالكيش أن أنا وأنس ضربنا بعض.. ضربني بمعنى أصح؟"


سأل نوح بدهشة مصطنعة فهو واثق من أن رحيم لم يُخبرها وأراد إثارة الأمر بطريقة تجعلها تشعر بالغضب تجاه رحيم، نجحت خطته بالفعل فلقد سألت أفنان بإنفعال شديد:


"أيه الهبل ده؟ أنت بتألف ولا أيه؟ وبعدين رحيم هيكدب عليا ليه أصلًا؟"


"والله لما تشوفيه اسأليه، بس واضح أنه شخص أناني بيفرق معاه اللي منه وبس وميفرقش معاه عائلتك ولا منظرك قدام الناس."

كان نوح يدس السم في حديثه متعمدًاإثارة غيظ وغضب أفنان، حاولت هي الحفاظ على رباطة جأشها لذا تمتمت بلا مبالاة مُصطنعة:


"أنا مش هعلق ولا هقول حاجة غير لما اسمع من رحيم."


"رحيم لو كان عايز يقولك كان قالك من بدري."


لقد كان نوح محقًا تلك المرة، فرحيم يخفي العديد من الأشياء عن أفنان ولقد تسببت تلك الخصلة في العديد من الجدالات وسوء التفاهم بينها وبين رحيم، زفرت أفنان بضيق وساد الصمت لبرهة قبل أن تنبس بالآتي:


"اطلع منها أنت يا شُعلة وكل حاجة هتبقى كويسة."


"هطلع منها يا أفنان بس ياريت تبقى تتكلمي معاه في موضوع أنه بيخبي ده، مظنش دي أول مرة يخبي عنك حاجة."


بصق نوح كلماته اللاذعة لتُلقي أفنان بالهاتف في يد ميرال وتبتعد عنها تاركة الحجرة بأكملها، أنهت ميرال المكالمة وتبعت أفنان نحو الخارج وهي تُردف:


"عشان تعرفي أنك طول الوقت بتظلمي نوح، وأنس هو اللي غلطان أصلًا وطبعًا رحيم خد صفه."


"مش عشان موقف حصل رحيم غلطان فيه يبقى نوح كان صح طول الوقت، وبقولك أيه يا ميرال أنتِ وخطيبك السُكر ده تبعدوا عن رحيم خالص."


حاولت أفنان إنهاء الحوار بينها وبين ميرال فزيادة الحديث في هذا الأمر قد يُزيد من حدة النقاش، كذلك لم تُرد أفنان أن تُثير الجدل بينها وبين رحيم ولم تُرد كذلك أن تبدأ الشجار لذا قررت الإنتظار حتى قدوم رحيم إلى منزلهم لكي تسأله بهدوء قدر الإمكان عما حدث، ستحاول جاهدة أن تُخفي الغضب والإستياء نحو ما حدث.. وبالفعل جاء موعد زيارة رحيم، استقبله والد أفنان على الباب مرحبًا به.


"مساء الخير، أهلًا بحضرتك يا Uncle."


"أهلًا بيك يا حبيبي اتفضل، برضوا كلفت نفسك؟ لا مش هينفع كده يا رحيم يا ابني."


"دي حاجة بسيطة مش من مقامكوا."


"ازيك يا رحيم عامل أيه؟ أيه ده الله جايبلنا جاتوه؟"


"لا تورتة بالفراولة.. أنتِ قولتي قبل كده أنك بتحبيها."


"يا نهار أبيض ده أنا بعشقها، أحلى حاجة ممكن الواحد ياكلها بجد."


ضحك رحيم وهو يراقب تعبيرات وجه أفنان وهي تتحدث بحب وشغف عن الكعكة وكم تمنى رحيم لو تُظهر له مقدار قليل من هذا الحب، بعد تبادل بعض الجمل بينهم طلبت أفنان من رحيم أن يجلسوا في الشرفة لكي يتحدثوا قليلًا.


"رحيم كنت عايزة اسألك على حاجة."


"خير.. أنا مكنتش مرتاح برضوا للقعدة في ال Balcony 'الشرفة'."


"هو في حاجة حصلت في الخطوبة أنا معرفهاش؟"


سألت أفنان بمراوغة وهي تراقب تعابير وجه رحيم لكن عكس ما توقعت لم يتوتر بتاتًا بل حافظ على تعابير وجهه الهادئة المعتادة وهو يُعلق على حديثها بثقة شديدة:


"مش فاهم السؤال، لو عندك سؤال صريح عن موقف معين قوليه."


"وأما أنت بتحب الصراحة أوي كده مش صريح معايا ليه؟"


"في أيه يا أفي؟"


"من غير لف ودوران يا رحيم أنت عارف قصدي."


"حصل Miss understanding 'سوء تفاهم' بين أنس ونوح."


تمتم بهدوء شديد وقد طفح كيل أفنان عند تلك النقطة من هدوء رحيم المبالغ فيه والذي قد وصل إلى مرحلة البرود بالنسبة إليها لتستقيم من مقعدها بإنفعال وهي تسأله بتأنيب:


"سوء تفاهم؟ دول ضربوا بعض! أنس ضرب نوح وأنت مقولتليش؟"


"اقعدي يا أفنان من فضلك، اسمعيني.. مكنش في أي داعي أني اقولك."


اتسعت أعين أفنان جراء سماع تلك الجملة بعد أن جلست في مقعدها لكن جلوسها لم يُغير أي شيء في ثورتها حيث عاودت الجدال مجددًا بإستياء شديد وقد تفوهت بجملة كانت تدور في عقلها منذ بداية العلاقة بينهم:


"مش من حقك تقرر أيه اللي ليه داعي وأيه اللي ملوش يا رحيم! أنت ازاي تخبي عليا حاجة زي كده أصلًا؟ شكلك ناسي أنه قريبي."


"واللي اتخانق معاه ده يبقى أخويا يا أفنان، فاهمة يعني أيه أخويا؟ وبعدين لو كنت قولتلك إمبارح كنتِ هتعملي أيه؟ هتضربي أنس مثلًا؟! مكنش في لازمة نبوظ اليوم."


"نبوظ اليوم؟ اليوم باظ يا رحيم.. سواء من كلام مامتك ولا تعليقات عمتي وتيتا، وطبعًا الزيارة الغير متوقعة من الست هانم بتاعتك ومينفعش اليوم يخلص عادي طبعًا لازم نختمه بخناقة لنوح وأنس! الجوازة باينة من أولها.."


"أنتِ بتلوميني أنا ليه؟ أنا ذنبي أيه في كل ده؟"


"أنا مقولتش أنه ذنبك.. بس دي مامتك وده صاحبك، ودي كانت صاحبتك ولا أيه؟"


"هو أنتِ بتتكلمي بجد؟ طب اللي حضرتك متعرفيهوش إن مامتي دي أنا وقفت قصادها علشانك، وصاحبي ده اتشتم واتهانت كرامته واتعاير بحاجة هو ملوش ذنب فيها كل ده دفاعًا عن أخته وأختك، والبنت اللي بتتكلمي عنها أنا طردتها من المكان وأصلًا مليش علاقة بيها وفعلًا عندك حق الجوازة باينة من أولها، عن إذنك."


بصق رحيم كلماته بخذلان شديد وبضيق واضح، استقام من مقعده مغادرًا المكان ومتجهًا نحو باب المنزل لكن استوقفه صوت والدة أفنان وهي تسأله:


"على فين يا رحيم يا ابني؟"


"أنا مضطر أمشي بعد إذن حضرتك.. واعتذري ل Uncle أحمد بالنيابة عني."


"يا رحيم استنى.. يا رحيم.."


"في أيه اللي حصل يا بنتي؟"


"أفنان أنتِ كويسة؟" سألت ميرال وهي تجذب ذراع أفنان  برفق لكن أفنان أشاحت بيدها بعيدًا عنها ثم صاحت بإستياء شديد:


"ابعدي عني بقى، يارب تبقي مبسوطة أنتِ ونوح يا ميرال!"


نظرت نحوها ميرال بصدمة قبل أن تُطالع ميرال والدتها بالحيرة ذاتها، دلفت أفنان إلى حجرتها وأخذت تُلقي بالإغراض خاصتها على الأرضية بعنف ومن شدة غيظها وضيقها لم تستطع أن تبكي، أبت عيناها أن تذرف الدمع لذا ذهبت لتتمدد على السرير محاولة النوم وتخطي ما حدث.


قاد رحيم عائدًا إلى منزل أنس، كان يقود رحيم بإستياء شديد لا يُصدق المحادثة التي جرت بينه وبين أفنان، انتبه رحيم لما فعله وأنه يُعد قلة احترام لوالد أفنان فلقد غادر دون أن يُخبره لذا اتصل به رحيم ليعتذر منه ويخبره بإختصار بأن هناك خلاف بين أفنان ورحيم، وصل رحيم إلى منزل أنس وطرق الباب لكن الأخير لم يُجيب انتظر رحيم لبضع ثوانٍ لكن لم يجد رد لذا قرر أن يستخدم النسخة التي منحها إياه أنس من قبل.


دلف رحيم بهدوء وهو يبحث عن أنس لكن لم يجده لكنه لمح طيفه يتحرك في الحديقة الخلفية.


"ممكن بعد إذنك تأكدي الحجز مع الدكتورة؟ بكرة الساعة ٨.. تمام مناسب جدًا.."


"أنتَ فين بدور عليك.. بتكلم مين؟"


"مفيش مش بكلم حد، أنتَ جيت أمتى؟" حاول أنس تشتيت رحيم لكن الآخر قلب عيناه بتملل وهو يسأله مجددًا بإصرار:


"لا أنا مش أطرش على فكرة، أنتَ كنت بتحجز مع دكتور! أنت تعبت تاني ولا أيه؟ شكلك وقفت أدوية الضغط.. قولتلك مية مرة يا أنس.."


"بس بس في أيه البلاعة دي؟! أديني فرصة أرد.. أيه بالع راديو؟!"


"قولي طيب تعبان فيك أيه؟"


"مفيش مش تعبان قولت، وبعدين خد هنا هو أنتَ بتتصنت عليا ياض؟"


"بتصنت أيه بس؟ ده أنت صوتك جايب آخر الكومباوند!"


"لا في دي عندك حق بصراحة، مفيش أنا كنت بحجز عند  psychiatrist 'طبيب نفسي'."


"أوه.. بجد؟" سأل رحيم بنبرة لا تخلو من الإنبهار ليومئ أنس بإبتسامة صغيرة قبل أن يقوم بإيضاح الأمر بصدق قائلًا:


"اه.. أنا عارف أني مش طبيعي، يعني مش مريض أوي بس شوية عقد نفسية على كلاكيع على طفولة مشوهة كده.. أنا عايز احب وادخل في علاقة جد يا رحيم وحرام أظلم انسانة معايا وادخل معاها في علاقة وأنا مش سوي.. فلازم أصلح ده قبل ما أدور عالحب يعني."


"أنس أنت أجمل انسان شوفته في حياتي بجد، ربنا يكملك بعقلك."


"هو أنت ليك مزاج تطلع فيزا لكندا ولا أيه؟ أنت مش مضبوط ياض."


"أنا مش هرد عليك، عشان مش قادر ادخل في Argument 'جدال' تاني بصراحة."


"ليه في أيه؟ ثواني كده.. أنتَ مش كنت هتاخد أفنان وأهلها تشوفوا البيت؟"


"عرفت عن خناقتك أنت ونوح، قبل ما تبص كده أنا محكتلهاش اللي حصل وهو طبعًا قالها وأكيد زود كلام من عنده و اتخانقنا ونزلت من عندهم.."


سرد رحيم ما حدث بإختصار ليمتعض وجه أنس ليزفر بضيق ثم يُعلق ساخرًا:


"نوح ده محتاج يتنفي بجد، وجوده خطر وقرف عالبشرية."


"أنا مقدر غضبها عشان هو ابن خالتها بس أنت بردوا أخويا."


"بص والله وأعلم مش ده اللي فارق مع أفنان، غالبًا اللي فارق معاها أنك مش صريح يا رحيم.. أنت بتخبي كل حاجة عنها من منطلق أن الحاجة مش مهمة أو هتضايقها فأحنا منقولهاش خالص.. وده مينفعش يا رحيم، أفنان دي مش واحدة عابرة في حياتك ولا واحدة صاحبتك.. دي خطيبتك ومراتك المستقبلية لو الجوازة الشؤم دي تمت على خير يعني."


"عندك حق..بس رد فعل أفنان كان سيء أوي، أنا أول أحس أني متضايق منها كده بجد وأحساسي ده نفسه مضايقني جدًا."


"عادي يا رحيم هي دي فائدة فترة الخطوبة تتعرفوا على بعض أكتر وتتخانقوا وتشوفوا رد فعلكوا وقت الغضب والزعل والبعد مش مجرد وقت لللڤلڤة وبس."


"عندك حق، عمتًا أنا هسيب الموضوع يهدى يومين وبعدين هروحلها ونتكلم."


في مساء اليوم التالي جاء موعد زيارة الطبيبة والتي قد قام أنس في السابق بحجزه، كان يقود السيارة بتوتر غير معهود.. وصل أنس إلى العيادة في أحدى أحياء منطقة مصر الجديدة.. داخل أحدى الشوارع الهادئة وتحديدًا داخل 'ڤيلا' صغيرة كانت عيادة الطبيبة المنشودة، انتظر أنس قليلًا بالداخل حتى سمحت له المُساعدة بالدخول.


"مساء الخير."


"مساء الخير يا أنس اتفضل."


"طيب مبدأيًا أنا متوتر وحاسس أني مش مرتاح وبعيدًا عن أني جاي بمزاجي ولكن الوضع كله مريب بالنسبالي."


"ده طبيعي جدًا خاصة لأول أول مرة تزور فيها طبيب نفسي، أنا عايزاك تاخد نفس عميق و Relax خالص.. أنا النهاردة مش هقول حاجة خالص أنا عايزة اسمع منك بس."


"المفروض احكي من أول فين؟ يعني من قدام لورا ولا من ورا لقدام؟"


"من النص لو حابب، لو عايز تبدأ من أول ما دخلت هنا براحتك."


"هحاول أقول اللي يجي في دماغي.." نبس أنس بتوتر وهي  يعبث بأعصابه مُتجنبًا النظر إلى زوج الأعين الخضراء المشوبة بالصفرة والتي تنظر إليه بإهتمام وتفحص شديد.


"طبعًا حضرتك.. عرفاني، أنا أخو أروى اللي بتابع معاكي.. معرفش هي حكتلك أيه أو هي فاكرة أيه أصلًا.. أنا أنس.."


بدأ أنس في سرد بعض المعلومات البديهية عن نفسه، كانت الطبيبة تستمع إليه في هدوء وربنا تمازحه بكلمة أو اثنتين ومن ثم  ساد الصمت لبرهة قبل أن يبدأ أنس حديثه عن النقطة الأكثر إيلامًا.. عند النقطة التي لم يظن قط أنه قد يذكرها لأحد غير رحيم..


"فريد.. يعني أبويا البيولوچي.. أبويا اللي في البطاقة بالإسم، مات من قريب.. بيقولوا أني كنت السبب في موته، مع أنه مات بجلطة وحضرتك دكتورة وعارفة.. الجلطات أسبابها كتير لكن والدتي أصرت أني السبب، أنا السبب بعيدًا عن كل الأسباب زي السن، التدخين، الشرب، الإدمان وأي عوامل تانية ممكن تكون دمرته.. اختارتني أنا عشان أشيل مسئولية موته.. أيوا فريد كان مدمن.."


بصق إنس كلماته بصدق وحنق في الوقت ذاته، غضب كبير كان يفوح من كلماته المُبعثرة وجمله المتقطعة، كان يتخلل حديثه عده زفرات من الغضب والإستياء بينما كانت الأخيرة تستمع إلى كل ما يقوله في هدوء تام وسكينة عدى من بعض الإماءات وتدوين ملاحظة أو اثنتين.


"فريد.. فريد مش بس آذى نفسه يا دكتور لا.. فريد آذاني وآذى أختي الوحيدة وحتى أمي اللي أنا بكرهها، أحنا كنا مسافرين.. من سنة وكام شهر تقريبًا، كنا في الڤيلا بتاعتنا في الساحل.. كان سايق العربية.. هو قدام وجنبه أمي وأنا وأختي.. أروى راكبين ورا، كان سايق على سرعة جنونية كان شارب ومبلبع من الهباب اللي كان بياخده.. كان في حالة مش طبيعية وقبلها كنت متخانق أنا وهو، صوتنا علي في الطريق وكان بيزعق ومتعصب، كان بيبصلي في المراية بغضب شديد واحتقار.. فجاءة كل حاجة سكتت.."


غلف الصمت المكان بمجرد أن شعر أنس بحرارة تكسو وجنته، انهمرت دموعه دونًا عن إرادته.. كفكف دموعه سريعًا قبل أن يُتابع:


"لحظة وقف عندها الزمن، معرفش ده حصل ازاي بس أنا فجاءة بقيت مقلوب جوا العربية، دم نازل من رأسي وآلم فظيع في جسمي كله.. وأروى.. أروى مكنتش جنبي كانت مرمية عالأرض غرقانة في دمها.. أنا.. بعد إذنك أنا لازم أمشي."


استأذن أنس قبل أن يستقيم من مقعده على الفور مغادرًا المكان قبل أن تستطيع الأخيرة اللحاق به أو التفوه بكلمة، لقد أباح بما يدور في عقله ويحرق قلبه ولم يتوقع أن يفعل، وربما شعر بالإستياء من نفسه لأنه فعل فلقد تعهد لنفسه بعدم فضح مشاعره أو النبش في طيات الماضي التي يحاول جاهدًا أن يمحيها.


بعد مرور يومان من الهدوء بين جميع الأطراف، لم تتحدث أفنان إلى رحيم ولم يفعل هو المثل.. في تمام الساعة التاسعة كان رحيم داخل مكتبه بالشركة يُنهي بعض الأوراق الخاصة بصفقة هامة، جالسًا على المكتب خاصته مُرتدي!ا بذلة رمادية اللون وفي يد يمسك ببعض الأوراق في الآخرى 'المج' الخاص بأفنان وداخله قهوته، طرقت المساعدة خاصته الباب لتُخبره بوجود ضيفة في الخارج تطلب مقابلته، زفر رحيم بضيق شديد.. مؤكد أنها ناتالي وربما ميا.


"رحيم ينفع ادخل؟" سألت أفنان بنبرة خجولة وهي تعبث في خاتم الزواج خاصتها، انتفض رحيم من مقعده على الفور بلهفة شديدة وهو يُردف الآتي موجهًا نصف حديثه لأفنان والنصف الآخر للمساعدة.


"أفي؟! اتفضلي طبعًا.. خلاص تقدري أنتِ تتفضلي."


"وحشتني.. قصدي وحشني كلامنا مع بعض، أو يعني.. رحيم أنا أسفة، أنا أسفة بجد عشان اتعصبت عليك وأسفة عشان مش بركز أنا بقول أيه وبتصرف ازاي بس أنتَ بجد مش عارف أي حاجة ليها علاقة بنوح بتوترني ازاي.."


كان لرحيم ردة فعل مختلفة على كل كلمة تفوهت بها أفنان، كان يود التعليق على ما تقوله لكنها لم تسمح له حيث أنها استرسلت في حديثها غير تاركة مجال للمقاطعه، تزايدت نبضات قلبه واتسعت ابتسامتة حينما اخبرته بتلعثم وخجل أنها قد اشتاقت له، أو لوجوده أو لحديثهم.. أيًا كانت الصيغة التي تحاول إيصال الأمر بها فقد وصلت بالفعل إلى داخل قلب رحيم وكأن هناك رابط بينهم لقد تفوهت بما كان على وشك أن يقول.. أنه اشتاق إليها، كان كل شيء على ما يرام حتى ذكرت اسم ذلك الوغد وهنا شعر رحيم بنفسه يضغط تلقائيًا على أسنانه لتصبح عظام فكه أكثر وضوحًا.


"أنا خلاص مش زعلان منك، مش زعلان منك من قبل ما تقولي ولا حرف، الزعل كله راح لما مهنتش عليكي ولو مكنتيش جيتي كنت هجيلك أنا عشان مش فارقة مين يصالح مين المهم أننا نتصالح."


"ربنا يخليك ليا بجد.. عارف الحمدلله أن أنا وأنت عكس بعض، تخيل لو أحنا الإتنين لاسعين زيي كده؟ كانت هتبقى كارثة."


"ده حقيقي فعلًا، المهم بقولك أيه Uncle و Auntie في البيت؟"


"مش عارفة بابا فين بس ماما في البيت اه."


"طب يلا بينا نروح نشوف البيت، وناخد ميرال كمان معانا."


"أيه الجنان ده؟ أنت مش عندك شغل؟" سألته أفنان وهي تضحك ليصمت لبرهة متأملًا ضحكتها قبل أن يُردف:


"اه صح.. طيب بصي، اسبقيني عالبيت وأنا ساعة وهحصلك إن شاء الله."


"تمام اللي تشوفه."


في مساء ذلك اليوم اصطحبهم رحيم إلى المنزل المنشود، عُش الزوجية الذي من المفترض أن تستقر بداخله حكاية الحُب التي نمت بين عصفوريين من سلالتين مختلفتين تمامًا لكن شاء القدر بطريقة ما أن يجتمعا، كان أغرب شعور شعرت به أفنان يومًا حماس يعصف بفؤادها، نبضات قلب تتسارع وأرجل ترتجف.. أنامل باردة وسعادة ممزوجة بقلق واضطراب.


كان المنزل يقع في التجمع الخامس، في 'كمباوند' كان المنزل أو بمعنى أدق 'الفيلا' تتكون من طابقيين وحديقة أمامية وخلفية، كان المكان ذو ألوان هادئة بلون الكراميل والذي قد غلفه الخضرة من جميع الجوانب بأنواع مختلفة من الأشجار والورود ولكنها كانت بحاجة إلى التقليم والترتيب.


"العمال هيضبطوا الزرع وكل حاجة متقلقيش، هو بس في عيب واحد هو إن ال Pool لسه مش جاهز."


"بول ايه يا رحيم؟ هنعطل الجوازة عشان حمام سباحة؟ هو أنت متجوز رانيا علواني أنا مبعرفش أعوم أساسًا!" سخرت أفنان ليقهقه رحيم قبل أن يشرح وجهة نظره قائلًا:


"بس هو شكله هيبقى حلو أوي، تعالوا اتفضلوا نشوف باقي البيت."


"المكان هنا حلو أوي، بس كنت فاكرة أننا هنسكن في الزمالك قريب من بيتنا يعني وكده وقريب من بيتكوا برضوا."


"أنا عندي شقة هناك بس المكان هنا أوسع، ممكن نبقى نوضب الإتنين ونقعد شوية هنا وشوية هناك."


"ما بدل البعزقة دي يا ابني نساعد حد مش عارف يتجوز وأهو ربنا يكرمنا في الجوازة."


"عندك حق، خلاص وعد نشوف حد محتاج مساعدة بجد ونتكفل بمصاريف جوازه."


"بجد؟"


"بجد." تمتم رحيم لتشعر أفنان بسعادة غامرة، فماذا أفضل من بدء حياة جديدة بفعل الخير؟!


أكمل الجميع جولتهم وتم الإتفاق فيما بينهم على بعض الأشياء ومن ثم قام رحيم بإيصالهم إلى المنزل مجددًا.


بعد مرور شهر على ما حدث، عادت الأمور إلى الإستقرار النسبي مجددًا، رحيم وأفنان بدأو في النقاش حول حياتهم المستقبلية وما ينون فعله في المنزل خاصة بعد الذهاب ورؤيته، سمح الطبيب لأروى بإكمال فترة التأهيل والعلاج في المنزل لذا عاد رحيم للمكوث في منزل والديه مغادرًا منزل أنس.


لم يكرر أنس الذهاب إلى الطبيبة وحاول تناسي الأمر تمامًا، عاود نوح الثرثرة حول تقديم موعد زفافة على ميرال وفي أحدى الأيام اصطحب نوح والدي أفنان وميرال وأفنان للذهاب لرؤية أثاث المنزل والإتفاق عليه قبل أن يأتي هو بمفرده مجددًا لشرائه ونقله إلى عش الزوجية.


وفي أثناء تجولهم شعرت أفنان بالإرهاق لذا قررت الإنتظار بجانب السيارة أمام أحدى المعارض لحين انتهاء أسرتها من اختيار الأثاث ولكن أثناء وقوفها فوجئت بنوح الذي غادر المعرض واقترب ليقف أمامها، عقدت حاجبيها وهي تسأله بتعجب:


"في حاجة ولا أيه؟"


"عايز اتكلم معاكي شوية."


"عايز أيه يا نوح؟ خلص."


"أيه الأسلوب ده؟ وبعدين أيه المشكلة لما نقف ونتكلم هو مش أنا قريبك برضوا ولا أيه؟"


"المشكلة إن مفيش كلام بينا والمشكلة أني مخطوبة ورحيم هيتضايق جدًا من كلامنا مع بعض."


"يا خسارة وأنا اللي كنت فاكرة Open minded 'مُنفتح'."


"هو ده مفهومك عن التفتح؟ ربنا يعينك عالمهلبية اللي في دماغك، عمتًا رحيم مش متضايق أكيد أني بتكلم مع ابن خالتي في المُطلق طالما بحدود وآدب رحيم متضايق منك لشخصك وهو عنده حق عمتًا."


"وماله شخصي بقى إن شاء الله؟"


"متلفش وتدور يا نوح عايز أيه؟ وانجز قبل ما ميرال ما تيجي." سألته أفنان ليأخذ نفسًا عميق قبل أن يُفصح عما يدور في خاطرة منذ زمنًا بعيد:


"أفنان أنا هقولها بصراحة ووضوح.. أنا بحبك، بحبك وعايز اتجوزك يا أفنان.. أفنان دبلتي المفروض تكون في إيدك أنتِ.. مكان الخاتم ده، أنا كنت جاي اتقدملك أنتِ مش ميرال لكن أنتِ احرجتيني ولاقتني بقول اسمها عشان اخرج من الموقف الزفت اللي اتحطيت فيه ده.. أفنان أنا مش قادر اتصور حياتي من غيرك.. ولكن لو اضطريت هكمل في الجوازة، هتجوز ميرال عشان ملهاش ذنب قلبها يتكسر وعشان على الأقل اقدر ألمحك حتى ولو من بعيد.."


كانت أفنان تستمع إليه بنصف عقل، الصدمة جعلت عقلها يتشتت.. نيران الغضب تشتعل داخل قلبها وتتمنى لو بإمكانها دفن نوح حيًا الآن، ما هذه الكارثة التي حلت على رأسها؟ ذلك الوغد الوقح يتفوه بكلماته تلك بكل صراحة وجرأة دون حياء أو خجل من فعلته تلك، لا تدري أفنان كيف لتلك السُمية أن تتجسد في شخصًا واحد؟! لم تُجب أفنان، هربت كل الكلمات الغاضبة من فمها، عجز لسانها عن الحركة وحُشرت الكلمات في جوفها لم تستطع فعل شيء سوى أن ترفع يديها عاليًا وتهوي بكف قوي على وجنة نوح ابتعد بضع خطوات للوراء على آثره.


_____________________________________


(تذكره: اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ودعاء لا يُسمع ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع.)


تكملة الرواية من هنااااااا

لمتابعة  باقى الرواية زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله اضغط من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هناااااا



تعليقات

التنقل السريع