رواية غرام الذئاب الفصل الثالث عشر 13بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
رواية غرام الذئاب الفصل الثالث عشر 13بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
#الفصل_الثالث_عشر
#غرام_الذئاب
#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب
#ولاء_رفعت
ما زالت تائهة بين موج وموج
تسأل عن ماض يطاردها
عن كوابيس تحاصرها
عن حقيقة تخشى أن تخرج للنور فتوجعها
وهو هناك بين الصبر. والرجاء
يحملها بنظراته بحنانه
يهمس لها لا تخافي أنا معكِ
وكأنه قسم من قلب لا يعرف الجفاء
على مشارف مدخل محافظة القاهرة، كان منطلقًا بسيارته بعد أن قرر العودة، أو ربما أدرك أن المغادرة باتت ضرورة، لا من أجله بل من أجل تلك التي تجلس إلى جواره، تحدق عبر النافذة بشرود، تغوص في لجُة مصيرها المجهول.
منذ اللحظة التي عرض عليها الزواج، تبعثرت مشاعرها، رغم يقينها بدوافعه الخفية خلف هذا الطلب كان الجواب ثقيلًا على لسانها، لا تدري أترفض أم تقبل؟، لم ترغب أن تكون عبئًا عليه، فهي كما ترى مجهولة الهوية، فاقدة للذاكرة، لا تعلم من تكون ولا أين تنتمي.
بينما هو طبيب ينتمي إلى عائلة ثرية، ينتظره مستقبل مشرق، وحين يفكر في الزواج، فلا بد أن يختار امرأة تليق به، لا امرأة تائهة في متاهات النسيان.
كانت هذه الأفكار تعصف بذهنها، وانعكاسها بدا جليا على ملامحها التي يغلب عليها الحزن والهموم.
لم تلحظ عيناه التي تراقبها بطرف خفي، يتابع تقلب تعابير وجهها؛ تارة يغمرها التوتر، وأخرى يغلب عليها الأسى.
كل يوم يكتشف فيها صفة أصدق وأنبل من سابقتها، يكفي أنها حين طلب منها الزواج، أبت ورفضت على نقيض أي امرأة لو كانت في ذات الظروف التي مرت بها، لكانت قبلت دون تردد سيما أنه يجسد أحلام الفتيات في فارس أحلام مكتمل الصفات.
لكنه أيقن سبب رفضها؛ فقد أدرك أنها شعرت بأن مطلبه هذا لم يكن سوى ضرب من الشفقة، وهي رغم قسوة ما تمر به، تأبى أن تكون محل شفقة أو تُجرح كرامتها بتوبيخ ومعايرة، كما فعلت والدته معها.
و بعد مرور وقت...
داخل حي مصر الجديدة، حيث المنازل ذات التراث العريق والمباني التي تحكي قصص الزمن الماضي، توقفت السيارة أمام مبنى قديم.
لاحظت أميرة توقف السيارة، فاعتدلت في مقعدها ونظرت إليه متسائلة، وقد شاب نبرتها بعض التوجس
"إحنا وصلنا؟"
ابتسم رحيم ابتسامة خفيفة، كأنما يحاول انتشالها من أفكارها المثقلة بالحزن، ثم رد بمزاح خفيف
"لأ، لسه في إسكندرية"
تسللت شبه ابتسامة إلى ثغرها، ولمعت عيناها ببريق صاف أشبه بالذهب المصقول.
أردفت
"طيب، إحنا وقفنا هنا ليه؟"
لكن سؤالها تلاشى مع صوت قادم من ناحية بوابة المبنى.
كان حارس العقار، رجل من الوجه القبلي يرتدي جلبابًا بسيطًا، تقف على وجهه علامات الطيبة والخبرة التي نحتها الزمن
"أهلًا وسهلًا بالدكتور الغالي، ابن الغاليين"
ارتسمت على وجه رحيم ابتسامة دافئة وهو يرد
"الله يكرمك يا عم ربيع"
"الله يبارك لك يا دكتور رحيم، أنا جيبتلك واحدة نضفت الشقة وخليتهالك فلة"
أخرج رحيم محفظته وأخذ منها بضع أوراق نقدية، ثم مد يده بها إلى الرجل
"تسلم يا عم ربيع"
لكن الحارس وقد بدا عليه الامتناع، لوح بيده مستنكرًا
"وعليا الطلاج ما هاخد چنيه واحد، يا بيه، خيرك سابق، ده أنا لحم اكتافي من خيرك وخير البيه الوالد الله يرحمه"
قطب رحيم حاجبيه وهو يرد بلطف حازم
"ما تحلفش لأزعل منك، دي حاجة بسيطة"
ازدادت ملامح عم ربيع إصرارًا وهو يقول بابتسامة ودودة
"خلاص يا بيه، يرضيك أطلج الچماعة بتوعي؟!"
ضحك الأخر وهو يهز رأسه قائلاً
"لا طبعًا، ربنا يبارك ما بينكم"
ثم اقترب الحارس منه بعض الخطوات، كمن يحمل سرا، وهمس إليه
"بقولك إيه، زي ما اتفقنا، أوعي والدتك تعرف إن قريبة البيه الوالد الله يرحمه هنا"
هز رحيم رأسه، وقد علت وجهه نظرة فهم ممتزجة بالحنين
"عيب يا بيه سرك في بير، البيه والدك الله يرحمه كان بيچي هنا يقعد بالأيام، كل ما يزهق من الدنيا والناس، ده غير إن والدتك فاكرة إنه باع الشقة دي من زمان"
ألقى رحيم بنظره إلى الأمام، كأنما يرى أطياف ذكريات قديمة، مشاهد من طفولته عندما كان يشهد شجار والديه المتكرر، وكانت والدته لا تكف عن توبيخ والده، متهمة إياه بأنه طيب إلى حد السذاجة، يقوم الجميع باستغلاله
أغمض عينيه، راغبًا في طرد هذه الذكريات بعيدًا عن ذهنه، ثم زفر ببطء وقال للحارس
"تمام يا عم ربيع روح أنت، ولو فيه أي حاجة هاكلمك، بس مش هوصيك، آنسة أميرة أمانة في رقبتك طول ما أنا مش هنا"
أشار الحارس إلى عينيه، في لفتة تدل على الوفاء والاطمئنان
"العين دي قبل العين دي يا دكتور، وطلباتها أوامر"
"تسلم يا عم ربيع"
حينما التفت رحيم إلى أميرة، وجدها تنظر أمامها في استحياء، وكأنها تخشى التقاء نظراتهما.
تأملها للحظة قبل أن يقول بصوت هادئ
"يلا ننزل؟"
فتحت الباب ونزلت، وهو أيضًا، ألقت نظرة على المبنى، وإذا بألم مباغت يداهم رأسها، فتهاوت الصور في ذاكرتها كالأمواج المتلاطمة، مستحضرة ماضي بعيد لمبنى حديث شاهق الارتفاع وبدلًا من رحيم، كان هناك رجل آخر ذو ملامح مبهمة، لكنها رأت فمه وابتسامته بوضوح، يمد يده نحوها في دعوة صامتة.
ارتعش جسدها رغمًا عنها، وتناهى إلى مسامعها صوت بعيد
"أنتِ كويسة؟"
ضيقت عينيها لتتبين صاحب الصوت غير أن الرؤية ازدادت تشوشًا، واختلط صوتان مختلفان في أذنها؛ أحدهما يناديها "أميرة!"، والآخر يردد "ياسمين!"
قبل أن تسقط أرضًا، كان رحيم قد لحق بها وحملها بين ذراعيه بثبات.
من بعيد لمح الحارس المشهد فأسرع إليهما وسأله بقلق
"مالها الهانم؟ ألف سلامة عليها"
أجابه رحيم وهو يسابق الخطى نحو المبنى
"معلش يا عم ربيع، اسبقني على فوق وافتح باب الشقة بسرعة"
هز الرجل رأسه بإذعان
"أمرك يا دكتور"
صعد الدرج متجهًا إلى المصعد العتيق، الذي لا يزال محافظًا على طرازه القديم، بينما رحيم كان يحدق في وجهها، يراقب ارتجاف جفونها وهذيانها بكلمات غير مفهومة، تفتح عينيها لوهلة ثم تغلقهما من جديد.
ناداها برفق محاولًا إعادتها إلى وعيها
"أميرة؟ سامعاني؟"
حين وصل إلى الطابق المطلوب، وجد الباب مفتوح على مصراعيه.
دلف إلى الداخل ولا تزال بين ذراعيه، فاستقبلته رائحة الماضي العتيق، تلك التي لطالما التصقت بجدران المنزل العريق، الذي شُيد منذ خمسينات القرن الماضي.
سقف عال، أكثر من أربع غرف وردهة فسيحة تكتظ بالأثاث العتيق.
اتجه مباشرة إلى إحدى الغرف، حيث وضعها فوق الفراش بحذر.
ما إن تأكد من أنها مستقرة، حتى غادر الغرفة بخطوات مسرعة متجهًا نحو غرفة أخرى بدت كمكتب خاص.
فتح خزانة صغيرة، وأخذ يتمتم لنفسه بقلق
"يارب يا بابا متكونش اتصرفت في أي حاجة من حاجات جدي"
وجد ضالته أخيرًا، حقيبة جلدية مهملة في زاوية خفية، كأنها تنتظر من ينفض عنها الغبار ويعيد إليها الحياة.
فتحها بعجلة، فلمع بريق سماعة فحص طبية تحت ضوء المصباح الخافت، يجاورها جهاز لقياس الضغط وبعض الأدوات الأخرى، أغلق الحقيبة بحركة سريعة وعاد إلى حيث ترقد أميرة، جسدها يرتجف تحت الغطاء كزهرة تذبل تحت وطأة الصقيع.
أمسك بمعصمها، أنامله تتحسس نبضها الواهن ثم التقط جهاز الضغط، وضعه حول ذراعها، وضغط على المضخة في توتر حتى ظهرت القراءة… منخفض.
انقبض قلبه فالتقط هاتفه على الفور وأجرى مكالمة سريعة، صوته يتشابك بين الحزم والاستعجال
"اطلع يا عم ربيع، هبعتلك ورقة فيها أسماء أدوية، تجيبها من أقرب صيدلية وتيجي بسرعة"
أنهى المكالمة ودون الأسماء في خط ثابت لا يعرف التردد، ثم ناول الورقة للحارس، وعاد بخطوات مسرعة إلى أميرة.
كانت ملامحها مكفهرة، وكأنها تغوص في كابوس يوشك على ابتلاعها.
جلس على عقبيه بجوار الفراش، اقترب منها بحذر كمن يقترب من غصن هش يخشى أن ينكسر بين يديه، ثم ناداها بصوت خافت حتى لا يفزعها
"أميرة؟"
ظل يردد اسمه كمن يحاول انتشالها من أعماق اللاوعي، حتى ارتعشت جفونها وداهمها طيف مشؤوم، وجه محمود ابن السيدة خيرية، يلوح أمامها ضاحكًا بخبث وشر متربص يتغلغل في ملامحه.
ارتعش جسدها كمن أصابته صاعقة، فجأة انتفضت جالسة بفزع، صرخت بصوت مرتجف
"لأ"
صدرها يعلو ويهبط بسرعة، أنفاسها متلاحقة كأنها عادت من الموت للتو. راحت تنظر حولها في ذهول، كأنها تحاول التمسك بشيء مألوف ينقذها من دوامة الذعر التي تلتف حولها.
إلى أن وقعت عيناها على رحيم، كان جالسًا إلى جوارها، يراقبها بعينين تفيضان بالهدوء ثم ابتسم في رفق، وبمزاح خفيف قال
"حمدالله على السلامة"
كانت كلماته كموجة دافئة ارتطمت بساحل روحها المتعبة، لكن قلبها ما زال يترنح بين الماضي والواقع، بين الخوف والحقيقة.
حدقت إليه بعدم فهم، كأنها تائهة بين الحلم واليقظة، تبحث عن إجابة لسؤال لم تدركه بعد.
شفتاها ارتجفتا بغير وعي، قبل أن تهمس بصوت واهن
"هو حصل إيه؟، آخر حاجة فاكرها لما نزلنا من العربية، حسيت بدوخة ومش فاكرة أي حاجة بعدها"
نهض وجلس إلى جوارها، متكئًا على حافة السرير، عيناه مسكونتان بقلق دفين، لكنه حاول إخفاءه وهو يجيبها بنبرة هادئة
"كل اللي حصل إنك عشان مابتاخديش علاجك بانتظام وماكلتيش كويس بقالك كام يوم، طبعًا ضغطك نزل وجالك تشنجات وشبه حالة إغماء"
ازدردت ريقها بصعوبة، بينما عيناها امتلأتا بأسى واضح، كأنها تلوم نفسها أكثر مما يلومها هو.
أطرقت برأسها قليلًا و رفعتها بحرج ثم همست بصوت خفيض
"أنا مش عارفة أعتذرلك عن إيه ولا إيه... أ...
كفه ارتفعت بإشارة حاسمة ليقطع حديثها، وعيناه ثبتتا عليها بحزم
"مش إحنا اتفقنا مفيش بينا الكلام ده؟ وإنك من هنا ورايح مسئولة مني؟ حتى لو موافقتيش على طلب جوازي منك، برضه مش هتخلي عنك مهما حصل"
صمتت، لكن عينيها أفصحتا عن أشياء كثيرة لم تنطقها، كأن كلماته لامست شيئًا خفيًا بداخلها، شيئًا يرفض التصديق لكنه يتمنى أن يكون حقيقة.
ابتسمت وتلألأ وجهها كالقمر ليلة اكتماله.
شرد في ملامحها التي سحرت عينيه رغمًا عنه، وكأنها تغزلت في روحه قبل أن تلامس نظره.
لم يدرك أنه تحدث بصوت مسموع حتى فاجأته كلماته نفسها
"ضحكتك حلوة أوي، زي القمر"
تغضنت وجنتاها بخجل، واحمرت بلون الورود المبتلة بندى الفجر.
حمحم بحرج، ونهض يحك عنقه كأنه يبحث عن مفر من اعتراف غير مقصود، ثم قال بسرعة
"أنا، أنا رايح هحضرلك حاجة تاكليها، عقبال ما عم ربيع يجيبلك الأدوية"
تحرك مبتعدًا، لكنه ما لبث أن توقف فجأة، استدار إليها مجددًا وقال بنبرة جادة
"ونسيت أقولك، إن شاء الله بكرة هاخدك لاستشاري مخ وأعصاب جاي من لندن، كنت باعتله إيميل عن حالتك ومعاه التقارير اللي خدتها من المستشفى، ورد عليّ وقال إنه هيوصل بكرة الصبح، هنروح له، وبعد ما يطلب أشعة وتحاليل، هيقرر ينفع نعملك العملية ولا لأ"
قطبت جبينها بضيق وعيناها تقلبت بين الخوف والرفض ثم تمتمت بشك
"عملية إيه؟"
وبعد لحظة صمت، أكملت بحدة
"تقصد العملية اللي قولتلي عليها قبل كده؟، بس أنا مش عايزة أعملها"
نظر إليها بدهشة، لكن قبل أن يتكلم، استرسلت بلهجة مرتعشة
"مش خايفة من الموت، أنا خايفة لو نجحت العملية وعرفت أنا مين، ألاقي كابوس أو حقيقة يكون وضعي الحالي أرحم منها بكتير"
ضاقت عيناه بغموض، ثم قال ببطء
"يعني عاجبك حالات الإغماء والتعب اللي بتجيلك كل وقت والتاني؟"
رفعت عينيها إليه بحزن، وأجابت بصوت خافت لكنه محمل بأثقال من الألم
"مفيش حد بيعجبه التعب والمرض يا دكتور، أنا حاليًا نفسيًا متدمرة، بقيت أخاف أنام عشان ماحلمش بكوابيس، وحاسة إني عايشة مهددة، هتصدقني لو قولتلك إني بخاف أنزل الشارع لوحدي؟، هواجس كتير بتطاردني، خايفة أتحول لمريضة نفسية أو أتجنن"
ألتقطت أنفاسها ثم اردفت بضعف
"أنا تعبانة أوي يا رحيم، تعبانة نفسيًا أكتر من تعبي الجسدي"
لم تستطع منع الدموع التي انهمرت كالسيل، فتوقف الزمن للحظة كأن العالم كله بات محصورًا بين نظراتهما.
مد يده يمسح دموعها برفق وقال بصوت دافئ كحلم في ليلة باردة
"ماتخافيش طول ما أنا جنبك"
ثم ابتسم بعفوية، وأردف مازحًا ليخفف عنها
"وعلى فكرة، أنا ما استسلمتش لسه، وهفضل أقولك تتجوزيني لحد ما تقولي، أجل يا طبيب، موافقة وهيا بنا إلى أقرب مأذون"
ضحكت وسط دموعها، كأن مزاجها تغير بلحظة، لكنها عادت لتسأله هذه المرة بجدية
"ولو وافقت والدتك هتوافق؟، هتقول للناس إيه لما يسألوك عني؟ هي مين؟ مين أهلها وأصلها وعيلتها؟!، وأنا ماعنديش حاجة أقدر أقدمها لك"
نظر إليها بعمق و اخبرها بثقة
"وأنا مش عايز منك أي حاجة، وسبق وقولتلك جوازنا مش هيخلي حد يقدر يقربلك، وهتفضلي في أماني وحمايتي، وبالنسبة لماما عمرها ما هتقف في طريق سعادتي"
تأملته بحيرة، ثم تمتمت بتردد
"وأنت سعيد معايا؟"
ابتسم وأجاب بسؤال آخر
"وأنتِ شايفة إيه؟"
ابتلعت ريقها، ونظرت بعيدًا للحظات قبل أن تهمس
"أنا شايفة تديني فرصة أفكر، على الأقل أكون مستعدة نفسيًا"
شرد قليلًا، كأنه يفكر في أمر هام وأخبرها بنبرة واثقة
"حالتك النفسية علاجها موجود عندي"
نظرت إليه بتوجس، وقالت ببطء
"مش فاهمة، تقصد إيه؟"
ابتسم بغموض واجاب بهدوء
"اديني وقت وهتعرفي كل حاجة بنفسك المهم، أنتِ واثقة فيا قبل كل شيء؟"
هزت رأسها بالإيجاب دون تردد، وابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيها وهي تهمس بصوت صادق
"ومن أول يوم شوفتك"
ساد الصمت بينهما، لكنه لم يكن صمتًا عابرًا بل ذلك النوع الذي يحمل بين طياته آلاف الكلمات غير المنطوقة، ويدوي في الأجواء رغم هدوئه.
❈-❈-❈
يمكث قبالة المدفأة ذات النيران المشتعلة، يرفع كأسه إلى شفتيه مرة بعد أخرى، يرتشف نبيذًا أحمر كدمائه التي تغلي في عروقه.
انعكست ألسنة اللهب في عينيه المضطرمتين، فيما كانت الأخشاب تتآكل تحت وطأة النار، كما يتآكل قلبه تحت وطأة الذكريات.
كلما استعاد خيانتها الآثمة، تآكلت روحه أكثر واشتد وجعه كأن جراحه لم تندمل قط.
كان القيصر قد همس له بصوت حذر، كلماته كسهام مسمومة تخترق وعيه
"احذر من تلك الحية، أنتَ مجرد وسيلة لتصل إلى غايتها"
ترددت الكلمات في ذهنه كصدى بعيد، ومنذ أن عاد بها إلى القلعة، لم يفارق خياله مئات السيناريوهات الانتقامية التي راودته.
أراد أن يعاقبها، أن يذيقها ذات الألم الذي تجرعه، أن يجعلها تتوسل عند قدميه طلبًا للصفح، لكنه سقط في شَرَك قلبه... وهذا ما يثير جنونه.
كيف له أن يتردد؟ كيف يسمح لعاطفته أن تقوده وهو الذي لم يعرف للرحمة سبيلًا؟!
قطع شروده صوت خطوات منتظمة تخترق صمت المكان، ارتفع صدى ارتطام كعب الحذاء بالأرضية الرخامية، حتى وقفت صاحبة الخطوات عند مدخل القاعة، وانحنت قليلًا قبل أن تقول بنبرة يكسوها التردد
"سيدي، السيدة سيلينا لم تأكل شيئًا إلى الآن، كلما أدخل إليها الغرفة وأضع صينية الطعام، لا تنظر إليها حتى وتمر الوجبة تلو الأخرى دون أن تتناول لقمة واحدة"
لم ينبس ببنت شفة، ظلت نظراته مسمرة على النيران المتراقصة أمامه، وكأنما يستمد منها يقينًا.
وبصوت أجش حاسم أمرها
"اذهبِِ أنتِ الآن"
انحنت الخادمة مرة أخر وانصرفت على الفور، بينما نهض هو بخطوات ثابتة واتجه نحو الدرج الحجري المؤدي إلى الأسفل.
فُتح الباب الحديدي الكبير بصرير ثقيل اخترق السكون، وتلاه باب آخر بعد خطوات معدودة.
كان المشهد يوحي بالرهبة، بل يبعث في النفس رجفة لا إرادية.
سار في ممر طويل، تتراقص ظلاله تحت إضاءة خافتة تزيده وحشة، مع برودة رطبة تتسلل إلى العظام، كأنك تخطو بين جدران سجن روماني قديم، حيث تختلط الرهبة بالغموض.
توقف أمام باب حديدي أقل حجمًا من البوابة الرئيسية وإلى جانبه قفل إلكتروني لا يُفتح إلا ببصمة اليد.
وضع كفه فوق اللوحة، فتوهجت الأضواء الصغيرة بلون أحمر قبل أن تصدر صوتًا ميكانيكيًا خافتًا، وانفتحت الأقفال تلقائيًا.
عبر العتبة بخطوات ثابتة، وما إن دلف إلى الداخل حتى بدت الغرفة أشبه بزنزانة معتمة، تجرد السجين من كل أمل، وتهيئه لأسوأ أيام حياته.
كانت جالسة في الزاوية، تسند ظهرها إلى الجدار البارد، وقد ضمت ساقيها إلى صدرها، تحتمي من قسوة البرد بين ذراعيها.
رغم أن المكان مدعم بنظام تدفئة مركزي، إلا أنه تعمد تعطيله هنا، في هذه الغرفة تحديدًا، كما يفعل دائمًا مع كل عدو يقع في قبضته، أو كل خائن يحاول التمرد عليه.
تقدم بخطوات رتيبة، لم يكن بحاجة إلى إصدار صوت، ومع ذلك شعرت بقدومه قبل أن ترفع رأسها.
لم تكن بحاجة إلى أن تراه لتعرف أنه هو، فذاكرتها لا تزال تنزف من ذاك اليوم، حين جرها من خصلاتها كما يُساق الشاة إلى الذبح.
فعندما فاجئها بوجوده في منزل التابع للقيصر، ولج في سكون وألقى عليها معطفه الثقيل بعنف، لم يكن فعلًا نابعًا من شفقة، بل كان غطاءً فرضه عليها لتستر جسدها، إذ لم تكن ترتدي سوى الغلالة والمأزر الخاص بها فوقها، استعدادًا للقاء حميمي مع القيصر، ألد أعدائه!
وعند عودتهما إلى القلعة، لم يمهلها لحظة لالتقاط أنفاسها.
نزلت من السيارة، فأطبق على خصرها بذراعه وسار بها وسط رجاله و الحراس المنتشرين في الأرجاء يراقبون المشهد في صمت مطبق.
لم ينبس ببنت شفة حتى بلغا هذا المكان، حيث يقف الآن.
عندها رفعت رأسها أخيرًا، تحدق فيه بعينين زائغتين، وكأنها تستجدي منه شفقة لن تأتي.
بصوت مرتعش، حاولت أن تتوسله
"رجاء فلاد انصت لي...
كادت تنهض و تمسك بيده فأوقفها باشارة من يده و أمرها بصوته الأجش
" كلمة أخرى و سأقتلع لسانك بيدى"
ازدردت ريقها بصعوبة، عينها تتعلق به كالغريق الذي يبحث عن طوق نجاة، لكنه لم يمنحها سوى مزيد من الهاوية.
ارتسمت على وجهه ابتسامة قاتمة، لا تحمل أي رحمة.
كان الهواء مشبعًا برائحة دخان التبغ الممزوجة بعطره النفاذ، وعبق الخمر الذي يتسلل بين أنفاسه، كأنه طيف من الظلام يحوم حولها، يحيط بها من كل جانب، يخنقها دون أن يلمسها.
وقفت أمامه، ووجهها شاحب، وعيناها تنضحان بالقهر، لكنها لم تتفوه بحرف واحد.
رفع حاجبه بازدراء وسألها بصوت منخفض يحمل نذير الخطر
"لماذا لا تأكلين؟"
لم تجب بل تجاهلت سؤاله كأنها لم تسمعه، لكن صمته لم يدم طويلًا، إذ عاد يسألها بنبرة ملؤها الغضب الكامن
"ألم تسمعي؟ أم أصابك الصمم؟"
رفعت رأسها ببطء، نظرت إليه بعينين تحدقان في وجهه ببرود، وكأنها تعلن تحديها الصامت، ثم نطقت بجملة مقتضبة حملت بين طياتها كل ما تشعر به من رفض
"لا أريد"
انحنى أمامها وارتكز على عقبيه، رفع يده إلى شعرها الأشقر، يعبث به ببطء كمن يربت على حيوان أليف قبل أن يُجهز عليه، ثم همس بصوت خفيض لكنه محمل بالتهديد
"الطعام هنا ليس اختياريًا بل إجباريًا"
جذب خصلاتها بين أصابعه، شدها قليلًا حتى مال رأسها للخلف، ثم تابع بصوت خبيث يتسلل إلى أعماقها و كأنه سم زعاف
"لا تتعجلي أمر موتك، فما زال لديك متسع من الوقت، هيا أخبريني ما الصفقة التي بينكِ وبين القيصر؟ وما المقابل؟، أهو جسدكِ؟! هل بعتِ نفسكِ له كعاهرة بلا ثمن؟"
ارتجف جفناها، لكنها تماسكت، رفعت عينيها بحدة، كانت نظرتها صريحة ومليئة بالكراهية والعداء، ثم أجابته ببرود قاتل
"ليس من شأنك"
ضحك ضحكة قصيرة خالية من المرح، ثم اعتدل واقفًا، تمتم بصوت خافت ساخر
"أجل، إنه بالفعل ليس من شأني"
لكن كلماته الأخيرة بالكاد خرجت من شفتيه، إذ عاجلها بجذب خصلاتها بعنف ضار، أجبرها على إمالة رأسها، حتى أصبح وجهها قبالة وجهه، أنفاسه الحارة تلفح بشرتها، وعيونه تخترق أعماقها، رأى الخوف الذي تحاول إخفاءه.
ابتسم ابتسامة قاتمة، ثم رفع يده الأخرى، وهوت كالسوط على وجهها بصفعة مباغتة، ارتد رأسها للخلف تحت وطأة الألم، وصرخة حادة شقت حنجرتها، لكنها لم تلبث أن تلاشت في الفراغ.
همس وكأن الصفع لم يكن سوى بداية ناعمة لما هو آت
"ما زال الوقت مبكرًا على الصراخ، وقت الحساب لم يحن بعد، والآن قولي لي الحقيقة، لأنني إن اكتشفتها من مصادري الخاصة، وليس منكِ، فحينها ستتمنين الموت من فرط العذاب الذي ستتلقيه علي يداي"
شعرت بحرارة الألم تتغلغل في خدها، وفروة رأسها تكاد تُقتلع مع خصلاتها، لكنها تماسكت، عضت على أسنانها، وأجبرته على سماع صوتها، رغم كل شيء
"وماذا ستفعل معي؟"
ثم انفجرت ضاحكة، ضحكة مجنونة مشبعة بالمرارة، وكأنها تتحدى عذابها، أردفت بصوت يحمل من الألم أكثر مما يحمل من السخرية
"هل ستجعل رجالك يتناوبون عليّ، كما فعل شقيقك بي من قبل؟"
دفعها نحو الجدار تاركًا خصلاتها،فتراجع إلى الخلف مع قوة اندفاعها نحو الجدار، أطلق ضحكة متهكمة حادة كنصل السبف، ثم أخبرها بصوت مشحون بالسخرية والقسوة
"أنا لست نيكولاس بلا نخوة، وليتكِ أدركتِ الفرق بيننا قبل فوات الأوان، لقد أخطأت حقًا حين منحتكِ قيمة ومكانة لا تستحقينها، كنت أصم أذني عن حديث أخي، حينما كان يخبرني عن أفعالكِ القذرة، ظننتُ أنه يسعى إلى إبعادي عنكِ بدافع الكراهية، لكن ليتني أصغيتُ له! كنتُ مخطئًا، فشقيقي كان محقًا، أنتِ لستِ سوى عاهرة لكل الرجال"
شعرت بطعنة في صدرها من كلماته، لكن كبريائها لم يسمح لها بالاستسلام أو الانكسار، اعتدلت بصعوبة تتلمس بيدها الجدار خلفها حتى استوت واقفة رغم الألم الذي كان يتخلل عظامها.
رفعت وجهها المدمى إليه، وبعينين تضجان بالسخرية سألته بنبرة متهكمة
"ولما طلبت الزواج بي إذًا؟ وأنتَ ترى فيّ امرأة بلا شرف؟!"
لم تمنحه فرصة الإجابة، بل اقتربت منه رغم الألم، رغم النزيف الذي خط شفتها السفلي أثر صفعته، رغم الوجع الذي خلفه عنفه عليها، اقتربت أكثر حتى لامست أنفاسُها الساخنة وجهَه المتجهم وهمست بثقة وزهو
"سأخبرك أنا فلاديمير، لأنني أجري في عروقك كما تجري دماءك بها، لأنك تعشقني، لأنك متيم بي حتى الجنون، أليس كذلك؟"
تشنج فكه من وقع كلماتها، وأظلمت عيناه بالغضب، فقد لامست في قلبه وترًا حساسًا، وكأنها ضغطت بجرأة على موضع الجرح الذي كان يحاول إنكاره.
هي تعرف مدى عشقه لها، وتتمادى في إذلاله بتلك المعرفة، تستفزه لأنها تعلم أنه لن يؤذيها، أو هكذا كانت تظن.
لكن الحمقاء لم تدرك أن للصبر حدودًا، وأن بركانه الخامد قد بدأ بالثوران.
لم يرَ أمامه سوى غيمة سوداء حجبت كل منطق، فلم يشعر بنفسه إلا وهو يطبق بيده على عنقها، ويدفعها بقوة نحو الجدار البارد.
شهقت وهي تشعر بقبضته تزداد إحكامًا حول عنقها، نظرت إليه برعب، فهي تعلم أنه حين يغضب لا يعود يعرف للرحمة طريقًا، وأنه حين يصل إلى هذه المرحلة، فهو كالنار المضرمة، لا تهدأ حتى تحرق كل ما يمر في طريقها، ولا تترك خلفها سوى رمادٍ هش.
همس بصوت هادئ، لكنه كان أكثر رعبًا من صراخ الغاضبين، همس بكلمات جعلت أطرافها ترتجف رغم محاولتها الحفاظ على تماسكها
"نعم، كنت أحبكِ، وطلبتُ يدكِ للزواج، وكان زفافنا سيشهد عليه شعب روسيا بأكمله، كنتُ أراكِ جوهرة لا تقدر بثمن، ولكني كنتُ أعمى وأحمق حين منحتكِ قيمة لا تستحقينها، لكنني أستفيق الآن، وستعرفين مكانتك الحقيقية علي حالًا"
اقترب منها أكثر حتى كاد يلتصق بها، همس في أذنها بنبرة تقطر قسوة
"من اليوم لن تكوني سوى عشيقتي، بل عاهرتي"
هزت رأسها برفض غير مصدقة ما تسمعه و عينيها تتسع من الفزع عندما فهمت ما يرمي إليه، فصاحت بصعوبة من ضغط قبضته علي نحرها
" أنا لست عشيقة لأحد، و لم أحبك يوماً، أنت، أنت الذي توهمت هذا الحب، اتعلم شئ؟"
ابتسمت ثم اردفت
"أنا أكره عائلة رومانوف جميعاً، والدك الذي كان يعاملنا كالعبيد لديه، و أخيك المجنون، و أخيراً أنت، و لو كان الأمر بيدي كنت سأتخلص منكم جميعاً منذ سنوات"
كلماتها كانت أشد قسوة عن كلماته لها، اصابته في مقتل، فهي لديها حقد دفين من الماضي تجاه عائلته و كانت تتظاهر بالحب و الود لأجل أهداف أخرى، صاح بقسوة
" لماذا؟"
"قولت لك يا أحمق ليس من شأنك"
هدر معقبًا علي ردها اللاذع
"إذاً عليكي أن تتحملي ما ستتلقيه من الآن فصاعداً"
و قبل أن تدرك مغزى حديثه، باغتها بجذب معطفه و قام بخلعه عنها عنوة تحت صراخاتها و مقومتها
"اتركني، اتركني أيها الـ*****"
مد يده إلي تلابيب المعطف الحريري "كوني عشيقة مطيعة و ارضي سيدك، أليست تلك الثياب ارتديتها من أجل امتاع هذا الـ****"
قام بتمزيق المعطف و الغلالة بكل ضراوة، أخذت تقاومه و محاولاتها ضعيفة أمام قوته، فماذا ستفعل أمام الوحش الضاري وهي بتلك الضعف و الحالة المزرية، أخذها عنوة ودون رحمةأو شفقة.
تعالت صرخاتها وتردد صداها بين الجدران لتصبح بالفعل عشيقة له بدلاً من زوجته!
❈-❈-❈
جلست تُلبس صغيرها قميصه الأبيض المكوي بعناية، كانت يدها تتنقل بين أزراره برفق، بينما أمسكت الهاتف بين كتفها وأذنها، تتحدث بصوت هادئ لكنه يحمل شيئًا من العجلة
"ما تقلقيش عليا يا تيتا، باخد بالي من أكلي كويس، وعندي متابعة مع الدكتورة بعد ساعتين و بجهز الولاد عشان الناني هتاخدهم النادي ولما أخلص المتابعة هعدي عليهم آخدهم، وهانجيلك على طول"
جاءها صوت جدتها عبر الهاتف، مزيج من القلق والحنان يحمل دفء السنوات التي قضتها راعية ومحبة
"هتيجي ولا هاتضحكي عليا زي المرة اللي فاتت؟"
ابتسمت ابتسامة صغيرة، وكأنها تستطيع رؤية تعبيرات وجه جدتها رغم المسافة، ثم ردت تطمأنها
"لاء، جاية لك ما تقلقيش، المرة اللي فاتت تمارين الولاد كانت متأجلة، وما ينفعش يغيبوا، قصي عنده بطولة يا تيتا"
تنهدت الجدة وبصوت يغلبه الدعاء والرضا قالت
"ربنا يعينك ويقويكي على تربيتهم يا حبيبتي، خدي بالك من نفسك ومنهم"
"حاضر يا تيتا، مع السلامة... سلام"
وضعت الهاتف برفق على سطح الكومود، بينما كانت عيناها لا تزالان معلقتين بنظرة حانية على صغيرها.
أخذت نفسًا عميقًا، تحاول أن تكبح ذلك التوتر الخفي الذي تسلل إلى صوتها حين هتف طفلها بالسؤال الذي طالما خشيت سماعه.
"لو سمعت من الناني أي شكوى منك تاني، هحرمك من النادي والتمارين والتليفون، وأي حاجة أنت بتحبها"
بدت حازمة وعيناها تشعان بصرامة لم يألفها، إلا أن الصغير لم يتراجع، بل زفر بضيق واضح، متأففًا بأسلوب كشف عن استيائه المكبوت.
قطبت جبينها ونبرتها صارت أكثر حدة "أنت بتنفخ ليه؟، كلامي مش عاجبك؟"
لم يتحمل قصي الصغير كبت مشاعره أكثر، فصرخ بانفعال طفولي موجوع
"وأنا زهقت منك، عايز بابي، ما بقاش ييجي ليه؟، سابنا ليه؟!"
كلماته أصابتها كسهام مسنونة أوجعتها رغم أنها كانت مستعدة لها، بل وتوقعت هذا الانفجار الصغير منذ مدة.
للحظة، شعرت أن جسدها قد تجمد، وكأنها نسيت كيف تنطق أو تبرر.
لكن سرعان ما تماسكت، وأجابت بصوت هادئ تخفي به رجفة قلبها
"بابا مشغول اليومين دول في الشركة، وأول ما يخلص هيجي ياخدكم ويخرجكم في الإجازة"
لم تدرِ إن كانت كذبتها البيضاء ستُقنعه، لكنها كانت عاجزة عن مواجهة الحقيقة أمام طفلها في هذه اللحظة.
وقبل أن تتطور المحادثة إلى ما هو أشد إيلامًا، جاءها صوت طرقات خفيفة على الباب ثم أطلت المربية برأسها قائلة
"مدام دنيا، يلا لو سمحتِ كده هنتأخر"
أحست بارتياح طفيف، كمن أُعطي فرصة للهرب من موقف خانق.
أجابت على الفور وهي تلتقط نفسًا عميقًا
"خلاص يا سحر، الولاد جاهزين"
نظرت مرة أخرى إلى صغيرها، لم تكن متأكدة إن كان اقتنع بما قالته، لكن لم يكن لديها وقت لتفسير المزيد.
كل ما أرادته الآن هو أن تمضي هذه اللحظة الثقيلة دون أن تترك أثرًا أكبر في قلب طفلها الصغير.
سلمت الأولاد إلى المربية وأوصتها عليهم، وما إن غادروا حتى وجدت نفسها وحيدة، غارقة في أفكارها.
سرحت طويلًا في كلمات ابنها، ذاك الذي لم يعلم بعد بأمر انفصالها عن والده.
يبدو أن غياب طليقها بدأ يترك أثرًا نفسيًا على صغارهما، بل عليها أيضًا.
فمنذ أن ألقي عليها اليمين، وهي ليست على طبيعتها، تميل إلى العزلة، تبكي وتنهار، تشتاق إليه، تمسك متعلقاته أو ثيابه، تستنشق عبقه العالق بها، ثم تنفجر في نحيب مُر، تصرخ باسمه بشوق ولوعة، وكأن النداء قد يعيده إليها.
أفاقت من شرودها على بلل دموعها الساخنة على وجنتيها، فسارعت إلى مسحها قبل أن تتذكر موعد فحصها الطبي للاطمئنان على جنينها.
نهضت بتثاقل، وتوجهت إلى الحمام، أدارت صنبور المياه، وضبطت درجة الحرارة، ثم بدأت في خلع ثيابها استعدادًا للاستحمام، علّ المياه تغسل عنها شيئًا من تعب روحها، من اشتياقها، من وحدتها التي تسكنها منذ أن أصبح بيتها بلا ظله.
وفي الخارج، فُتح المصعد وخرج منه، فقد عاد لتوه من الشركة بعد أن مكث فيها أيامًا، محاولًا دفن نفسه وسط أكوام العمل، علّه يهرب من صخب أفكاره.
فتح باب المنزل بمفتاحه، فاستقبله هدوء ثقيل.
المصابيح مطفأة، ما عدا ضوء خافت يتسلل من غرفة النوم، وصوت خرير الماء يشي بأن الحمام مشغول.
أدرك أنها بالداخل، حدق في الغرفة الأخرى الخاصة، وكأنما يتفحص غيابه عنهم.
شرد لحظة، ثم تذكر مكالمة أحد رجاله، الذي أخبره أن أولاده برفقة المربية، متجهين إلى النادي الرياضي.
توجه إلى الخزانة، فتحها وأخرج حقيبة ثياب شاغرة، ووضعها على الفراش، لكنه ما لبث أن لمح ملابسها الملقاة بعفوية على السرير. مدّ يده إليها، أمسك بثوبها برفق، ورغم أنه نظيف ومغسول، إلا أن رائحتها لا تزال عالقة به.
رفع الثوب إلى أنفه، واستنشق بعمق، أغمض عينيه وكأنه يعانقها بين طياته. يضمه إلى صدره وتركه بين ذراعيه، كأنما يحتضن شبحها، كأنما يحاول أن يستعيدها ولو للحظة عابرة، قبل أن يلفظه الواقع من جديد إلى قسوته.
خرجت من الحمام، فوجدته،
تسمرت في مكانها، وجف الدم في عروقها، بينما هو واقف هناك، يحتضن ثوبها القطني، يرفعه إلى وجهه، يستنشق عبيره العالق به، تمامًا كما كانت تفعل هي حين يشتد بها الشوق إليه!
راقبته بصمت، وتحركت شفتاها باسمه دون أن تصدر صوتًا.
"كنان!"
كانت روحها تتهجى وجوده أمامها، تتلمس ملامحه التي تحفظها عن ظهر قلب، وقد أضاءت عيناه ببريق الحنين. أحس بوجودها، فانتفض ناظرًا إليها بنظرة حملت كل معاني الاشتياق واللوعة.
كانت تقف أمامه، مُتلفعة بمنشفة قطنية تلف جسدها، تبدأ من أعلى صدرها حتى منتصف فخذيها، بينما التفت منشفة أخرى حول شعرها المبلل، فتتساقط قطرات الماء من أطرافها لتتلاشى فوق كتفيها العاريين.
لاحظت حركة شفتيه الخافتة، يهمس بكلمة واحدة
"وحشتيني"
لم تشعر به وهو يقترب منها، عيناه تفيض بالهيام، أنفاسه تلتهب شوقًا، لكنه توقف فجأة، وكأنه تذكر شيئًا، لقد ألقى لفظ الطلاق، فهل يجوز له هذا القرب؟، أهو حلال أم حرام؟
لكن قبل أن ينطق، تفاجأ بأناملها تُطبق على شفتيه برفق، ومن بين وجيب أنفاسها، انطلقت همستها
"رُدني ليك"
اتسعت عيناه بدهشة غير مصدق، هل تطلب منه الرجوع حقًا؟، أهذه حقيقة أم محض حلم يوشك على التبدد؟!
أومأ برأسه، شفتاه ترسمان بسمة مغمورة بالحب، ثم همس بصوت عميق
"أنا رديتك"
وما إن خرجت كلماته، حتى ألقت نفسها بين ذراعيه، تعانقه بكل ما أوتيت من قوة وكأنها تخشى أن يُنتزع منها مرة أخرى.
"واحشني أوي"
خرجت الكلمات من بين شفتيها متلهفة، تائهة بين شهقات الحب، وما لبثت أن رفعت رأسها نحوه، تطبع قبلة دافئة على عنقه، فاشتعلت نار الشوق في جسده، واستعر به الحنين حد الاشتعال.
أبعد رأسها قليلًا، ينظر في عينيها المتوهجتين، لم يعد قادرًا على كبح جماح مشاعره، فانقض على شفتيها، يقبّلها بكل ما يختلج في قلبه من عشق واشتياق.
بادلته الشغف، تفيض منه وتنهل إليه بلا قيود ولا حواجز، كأنها تريد أن تعوض كل ما فات، كل لحظة قهر وافتقاد.
أبعد المنشفة عن رأسها، وألقى بها بعيدًا، ثم أمسك بخصلاتها المبللة، وعيناه تتابعان قطرات الماء التي انسابت على كتفيها العاريين كأمطار هطلت فوق زهرة لم تروَ منذ زمن.
ألتقم عنقها بقبلات متوهجة، جعلت أنفاسها تتلاحق، وشعرت بجسدها يتهاوى من بين يديه، حتى وجدت نفسها مستلقية على الفراش، يداها بجوارها، تتخلل أنامله أصابعها، بينما ما زال يجوب شفتيها وعنقها، ينتشلها من بحر الفراق الذي غرقت فيه طويلًا.
توقف للحظة، ينظر إليها بعينين يملؤهما العشق ثم قال بنبرة تشع حبًا، تتفجر منها الكلمات دون تصنع، تحمل في طياتها ما يعجز عنه الوصف
"أنا مقدرتش أستحمل أبعد عنك أكتر من كده، أنا نفذتلك طلبك، وطلع أصعب من الاحتمال، أنا بحبك يا دنيا، لا ده أنا بعشقك أوي"
استمعت إليه ونظراتها هائمة في ملامحه، مغمورة بعشقه، لم تره يومًا بهذه الصورة، ولم يرها هو كذلك من قبل، كانت في أوج رغبتها واحتياجها إليه، ولهذا لم يتردد لحظة في تلبية نداء قلبها.
اقترب منها ببطء، كمن يخشى أن تذوب بين يديه إن لمسها، لكن نظرتها إليه كانت مزيجًا من الحنين والتسليم، فأدرك أن لا شيء يمنعه من الغرق في هذا العالم الذي لا يتسع الآن إلا لهما.
شعرت بحرارة أنفاسه تلامس عنقها، فتسارعت دقات قلبها، تترجم ما عجزت شفتاها عن البوح به.
لم يكن في تلك اللحظة سوى همسات متناثرة، أنامل تستكشف ما كان مألوفًا لكنه يتجدد كل مرة، وكيانان يلتقيان في انصهار لا يحتاج إلى تفسير.
و بعد لقاء لن ينسي و سيظل محفور في ذاكرة كليهما، لم يبقَ سوى صدى أنفاس متقطعة وجسدين يحتضنهما سكون دافئ، حيث لا زمن، ولا مكان، فقط نبضان توحدا في لحن أبدي.
❈-❈-❈
ظلام وسكون يُخيمان على أرجاء الغرفة، لا صوت سوى أنفاس متقطعة تتردد في الأرجاء، كأنما المكان يلفظ أنفاسه معها. تلك الممددةُ فوق الفراش، استيقظت على وقع إحساس غريب يسري في جسدها.
فتحت عينيها، ولكن لم ترَ شيئًا!
كانت هناك عُصابة سوداء تحجب عنها الرؤية، أكانت مجرد وسيلة لمنع الضوء من إزعاجها أثناء النوم؟ أم أن الأمر أخطر من ذلك؟!
حاولت أن تُحرك جفونها مجددًا، ولكنها شعرت بثقل غريب يضغط على رأسها، وكأن روحها تُسحب من بين أضلاعها.
اخترقت أنفها رائحة دخان كثيف، نفاذة إلى حد أن أنفاسها أصبحت متقطعة، فكانت رايحة احتراق لفافة تبغ!
إذاً لم تكن وحدها في الغرفة.
شعور بارد تسلل إلى ساقها، أنامل غريبة تتحرك ببطء، تصعدُ من أسفل ثوبها حتى بلغت فخذها، تململت بجسدها في اضطراب، وخرج صوتُها واهنًا مرتجفًا
"يونس، بتعمل إيه؟"
لكن الصمت كان سيد اللحظة!
حاولت أن تحرك يدها لتزيح العُصابة، لكن لا جدوى!، حيث توجد قيود حديدية تحكم وثاق معصميها، تمنعها من الحركة بحرية.
ارتعشت أصابعها وكأنها تتحسس مصيرها المجهول.
وفي تلك اللحظة، تسللت صورة خاطفة إلى ذهنها، آخر ما تتذكره قبل أن تفقد وعيها.
نظرات مرعبة، نظرات ذاك الرجل!
شهقة مرتعبة أفلتت من صدرها، حاولت النهوض بجذعها، ولكن القيود كبلت حركتها.
زفرت أنفاسها في هلع ثم صرخت بأعلى صوتها، تستغيث باسم زوجها
"يونس؟، يونس؟، الحقني"
وفي تلك اللحظة، تُنزع العُصابة عن عينيها بعنف، يُلقى بها إلى أحد أركان الغرفة، فتتسع حدقتاها في فزع وهي تحدق في الوجه الذي تجلى أمامها، في الرجل الذي لم يكن زوجها!
رددت بصدمة
"مهند!"
يتبع....
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا