رواية عن تراض الفصل الثاني وعشرون بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
رواية عن تراض الفصل الثاني وعشرون بقلم آيه شاكر (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
(٢٢)
#رواية_عن_تراض
سُرعان ما انطفأت ابتسامتها، واستبدلتها بنظرة مستفزة، مالت برأسها قليلًا، وقالت بسخرية، وهي تطوي ذراعيها أمام صدرها:
-إنت مش طبيعي أبدًا... هو المفروض إني كده أوافق أتجوزك بقى؟ واضح إنك بتقرأ روايات كتير زي تُقى وعامر وعايش في الخيال!
مطّ شفتيه ببرود، وردّ بنبرة هادئة ودون أن يرفع بصره بها:
-لا خالص، أنا ماليش في الروايات، بقرأ كتب ومقالات بس.
ثم رفع ذقنه بغرور، وهندم ياقة قميصه بحركة واثقة، قبل أن يضيف بنبرة مستفزة:
-وبعدين، هو إنتِ تطولي تتجوزيني أصلًا؟ دا عرض ما يتفوتش.
اتسعت عيناها قليلًا، ثم رفعت حاجبًا وقالت بسخرية لاذعة:
-يا سلام على التواضع...
ضحك بخفوت، قبل أن يميل نحوها قليلًا ويقول بمكر:
-أنا لو منك أوافق من غير تفكير... أنا شايف حياتنا هتبقى كلها...
-مشاكل! أنا من موقعي هذا شايفانا وإحنا بنشدّ في شعر بعض هناك!
قالتها سراب مقاطعة كلامه ساخرة، فضحك، ثم دسّ يديه في جيبي بنطاله وسار خطوتين ببطء...
رمقته بحنق وهو يبتعد، ثم هرولت تلحق به، وسارت بجواره قبل أن تخاطبه بحدّة:
-إنت مش بس مستفز... إنت قليل الذوق كمان! بتمشي وتسيبني كده؟!
لم يُعلّق وكأنها لم تتحدث، فقط سلط بصره على مقهى قريب، وقال بنبرة هادئة لكنها تحمل أمرًا مستترًا:
-تعالي نشرب قهوة.
توقفت فجأة، أربكها تغيّره السريع في نبرة حديثه، فتلعثمت:
-آآ... أنا لسه مفطرتش.
نظر إلى مطعم مجاور، وردّ بلا تردد:
-يبقى نفطر الأول.
-لا... استنى آآ...
لم ينتظر كلماتها ودلف إلى المطعم بخطوات هادئة، فتبعته «سراب» على مضض، وهي تمتم نازقة، ورغم أنها نادرًا ما تأكل خارج البيت، لكنها أرادت أن تُطيل مدة بقائها معه... فقط قليلًا.
كان المطعم يقع في الطابق الثاني، بإطلالة رحبة على الشارع تعكس نبض الحياة خارجه...
جدرانه الزجاجية الشفافة تمتد من الأرض حتى السقف، مما يمنح الزائرين شعورًا بالانفتاح وكأنهم معلقون في فضاء المدينة، يراقبون حركة المارة والعربات المتتابعة دون أن يفصلهم عنها سوى حاجز من زجاج مصقول...
جلس «عمرو» قبالة «سراب» على الطاولة، هي تتأمل الشارع عبر الزجاج وهو يتظاهر الإنشغال بهاتفه وكأنه وحده، وكأنها لم تكن تُجالسه...
التفتت إليه، تقطب جبينها وهي تتأمله بشرود.
كيف يعرض عليها الزواج ثم يتجاهلها بهذه الطريقة؟ إنه شديد الاستفزاز! كيف ستعيش معه؟ لا، لا يمكنها ترك الأمور هكذا، عليها مواجهته بكل صراحة وإنهاء هذا الصراع الذي يرهق قلبها.
تنهدت بعمق، ثم، وكمن يطرق بابًا مؤصدًا، نادته:
-عمرو!
رفع رأسه عند سماع اسمه، والتقت نظراتهما... لحظة واحدة، لكنها كانت كفيلة بإيقاف الزمن، كأن عقارب الساعة تعثرت عند هذه الثانية بالذات.
تاهت عيناها في عمق نظرته، واهتزت الكلمات فوق لسانها، لكنها لم تخرج.
ماذا كانت ستقول؟ لا تدري... نسيت، تمامًا كما ينسى المرء خطواته عند السير في ضباب كثيف...
سرعان ما خفضت بصرها بحياء، خشية أن يفضحها الصمت أكثر مما قد تفعل الكلمات...
ارتبكت، واشتدت دقات قلبها حتى بدت وكأنها طبول حرب تدوي داخل صدرها، وكأن معركة مشاعرها قد بدأت بالفعل.
أما هو، فأشاح وجهه متظاهرًا بالتماسك، لكن داخله كان يعج بالفوضى، كمدينة ضربها الإعصار فجأة، فتناثرت شوارعها واختلطت ملامحها.
كيف لم يدرك منذ زمن بعيد أنه متيم بها؟ متى زُرعت بذور هذا الشعور داخله حتى نمت واستحكمت دون أن ينتبه؟ وكيف بالله وقع في أسر تلك المستفزة؟
ساد الصمت بينهما حتى جاء النادل ووضع الطعام. شكره «عمرو» بابتسامة خفيفة، ثم نظر إلى «سراب» قائلاً بنبرة عادية، وكأنه لا يخوض معركة داخلية شرسة:
-يلا ناكل.
بدأت بتناول الطعام ببطء، لكنها لم تكن تشعر بمذاقه، عقلها كان ساحة لمعركة من الأفكار المتشابكة... هل هي سعيدة بعرضه الزواج؟ أم أنها خائفة؟ أم اجتمع الشعوران؟ وماذا ستفعل؟
★★★★★★
ظلت «شيرين» جالسة على الأريكة، تحاصرها الأفكار وتتصارع داخلها المشاعر، كانت عيناها شاردتين، تتبعان الفراغ دون أن تراه، حتى انفتح باب البيت ودخل «عامر»...
بمجرد أن وقعت عيناه عليها، هرول إليها وهو يقول بصوت متوترًا رغم هدوئه الظاهر:
-كنتِ فين يا ماما؟ دورت عليكِ في البيت كله؟
-عايز حاجة؟
قالتها وهي ترفع عينيها إليه ببطء، بدا وجهها شاحبًا، مُرهقًا، لكن نبرتها جاءت جامدة، كأنها تحتمي بها...
شعر «عامر» أن هناك أمرًا غريبًا، نظراتها لم تكن كما اعتادها، صلبة لكن متكسرة في العمق...
جلس جوارها وسألها بلطف ممزوج بالقلق:
-إنتِ كويسة يا حبيبتي؟
أومأت بنفس الجمود، لم تحاول حتى أن تصنع طمأنينة زائفة، وهذا ما زاد إحساسه بالريبة، تأملها قليلًا قبل أن يسألها بصراحة، وهو يراقب كل خلجة في ملامحها:
-ماما... إنتِ فيكِ حاجة؟ جاوبيني بصراحة... هـ... هو إنتِ مش عايزاني أتجوز تُقى؟
لاح على شفتيها شبح ابتسامة، لكنها لم تصل إلى عينيها، قالت وهي تخفي اضطرابها:
-بالعكس يا حبيبي، نفسي أشوفك سعيد مع اللي قلبك اختارها.
لم يقتنع عامر، لم يكن هذا صوت أم تحتفي بفرحة ابنها، كان صوتًا هشًّا، كأنها تخشى أن ينهار جدار صمتها...
ضيق عينيه قليلًا وقال بنبرة متوجسة:
-أومّال مالك؟ حاسس إنك مش متحمسة... ومن أول ما ارتبطت بتقى وإنتِ متغيّرة!
اهتزت نظراتها، وتشوشت للحظة وكأنها تبحث عن مخرج، ثم تمتمت بصوت خافت بالكاد سُمع:
-هو بس... الأحداث الأخيرة مخلياني متوترة، غير كده والله، ربنا يعلم إنت وتقى غاليين عندي قد إيه.
ابتسم «عامر»، لكن عينيه ظلّتا متيقظتين، يشككان في صدق كلماتها...
أمسك بيدها وقبّلها برفق، ثم نهض قائلًا:
-هروح عند بدر، تقى مستنياني هناك عشان نتكلم مع خالها، يمكن نوصل لحاجة.
ثم أضاف بابتسامة يحاول بها كسر التوتر الذي يسود بينهما:
-ادعيلنا يا ماما... نفسي كل حاجة تتحل وأتجوزها بسرعة، وبعد تسع شهور بالظبط نجيب توأم... عارفة، أنا مش هسكت إلا لما أجيب ست عيال زيك إنتِ وبابا كده.
حدقت «شيرين» في وجه ابنها، وعيناها تائهتان، لم ترد عليه، لكنها لم تحتمل أكثر... وكأن كلماته ضغطت زر دموعها...
انفلتت شهقاتها من بين شفتيها كأنها كانت محتجزة منذ زمن، وانسابت دموعها بلا مقاومة.
اتسعت عينا عامر بفزع، هرع يجثو أمامها وهو يمسك يديها المرتعشتين، ثم ضمها إليه بحنان مغلف بالقلق، خرج صوته متوسلًا:
-إيه يا حبيبتي؟ فيه إيه؟ مالك يا ماما؟
هزت رأسها نفيًا، وهي تحاول التماسك، مسحت دموعها بسرعة وكأنها تخجل من ضعفها أمامه، ثم تمتمت بصوت حاولت أن تجعله ثابتًا:
-مفيش يا قلب ماما... أنا بس تعبانة شوية، وهدخل أريح.
لم يقتنع، أمسك بكتفيها بلطف وألحّ:
-طيب يلا نروح نكشف...
-أنا كويسة... هنام شوية بس وهقوم حلوه.
قالتها ثم نهضت متجهة إلى غرفتها بخطى ثقيلة، خطواتها وحدها كانت كافية لتشعل القلق داخله هرول يسير جوارها حتى دخلت غرفتها وأغلقت الباب...
ظل عامر واقفًا مكانه يتأمل الفراغ الذي خلفته والدته، وهو يشعر بانقباض لم يفهمه، وكأن هناك شيئا ما تخفيه والدته، تسائل هل هي مريضة وتخفي ذلك؟!
توهج القلق في داخله، لم يرَ والدته بهذا الضعف من قبل... هو على يقين أنه لم يكن مجرد تعب عابر، كان هناك شيء أكبر، شيء تخفيه عنه.
رنّ هاتفه وكان «بدر» على الطرف الآخر، يخبره بضرورة حضوره فورًا، فالتفت عامر يُطالع باب غرفة والدته المغلق، طرق الباب فأتاه صوت شيرين:
-أيوه؟
-أنا رايح عند بدر يا ماما ومش هتأخر.
-ماشي يا حبيبي، متقلقش يا عامر أنا هنام.
قالتها شيرين بثبات تحاول طمئنته، ثم استلقت على فراشها، كأنما تحاول الاحتماء بصمته، لكن الدموع خذلتها، فانفـ.ـجرت بالبكاء من جديد، وشهقاتها المكتومة تفضح أوجاعًا لم تجرؤ على النطق بها، كأنها أسرار ثقيلة تأبى أن تتحول إلى كلمات.
بينما تنهد عامر بعمق وقبل أن يخرج من البيت أخرج هاتفه على الفور، ليجري مكالمة جماعية ضمّت «وئام»، و«هيام»، و«رائد»، ناقلًا إليهم كل ما حدث بدقة، دون أن يُسقط تفصيلة واحدة...
كانت كلماته متسارعة، مشحونة بالتوتر، وكأنها تحاول اللحاق بتسارع الأحداث.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
★★★★★★
وفي المطعم
وضعت «سراب» الملعقة فجأة، كأنها صارت أثقل من أن تحملها يدها المرتعشة حين عاد صوت «تُقى» يرنّ في رأسها، كجرس إنذار يخترق أفكارها، ويهز ترددها بعـ ـنف:
"عمرو عصبي... إنتِ وعمرو ما تنفعوش لبعض."
تابعت «عمرو» وهو يقطع طعامه بتركيز، لم تستطع تجاهل الصراع الذي يشتعل داخلها، فابتلعت ريقها وقالت بصوت متردد، بالكاد يُسمع وسط الضجيج حولهما:
-عمرو...
-أممم..
همهم دون أن يرفع رأسه، كي لا يلتقي بنظراتها مجددًا...
ازدردت ريقها مجددًا، وكأنها تبتلع مخاوفها، ثم قالت بصوت خافت، كمن يطلق اعترافًا يكبله منذ زمن:
-أنا خايفة.
تجمدت يده في الهواء قبل أن يلقي الشوكة جانبًا ويرفع رأسه فورًا، وكأن الكلمة اخترقت أعماقه...
وما إن التقت عيناه بعينيها حتى شعر بانقباض حاد في صدره... كان هناك بريق رطب في نظراتها، كأنها تقف على حافة الانهـ ـيار...
أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال بدفء، وكأنه يحاول بناء جسر من الطمأنينة بينهما قبل أن يجرفهما تيار القلق معًا:
-أنا عارف إن اللي بتمري بيه صعب و... ومش عارف إذا كان وجودي جنبك هيطمنك ولا لأ... بس أنا معاكِ، وهنعدي كل حاجة، صدقيني.
لم ترد، فقط أومأت برأسها ونظرت عبر زجاج المطعم إلى الشارع، وكأنها تبحث عن إجابة بين المارة، عن علامة تخبرها أي طريق يجب أن تسلك، فهي لم تكن تخشى فقط كل ما يحدث حولها... كانت خائفة من نفسها، ومن هذا الارتباط الذي لم تكن متأكدة أنها قادرة على مجاراته.
انتظرت منه كلمات تزرع اليقين في قلبها، تمنحها إجابة تقطع شكوكها، فتمتمت بصوت مختنق، تنذر ارتجافاته بقرب الانهيار:
-آآ... أنا منمتش طول الليل، ومبطلتش عياط من امبارح... أنا مش عارفة المفروض أعمل إيه يا عمرو! إيه الصح؟ إني أتجوز بدر؟ ولا إني أتجوزك إنت؟ ولا متجوزش خالص...
-تتجوزيني أنا طبعًا... أنا أصلًا مش هسمحلك تتجوزي حد غيري.
قالها بصوت ثابت، ويقين لا يقبل التشكيك، كأن الأمر محسوم منذ الأزل...
التفتت إليه بسرعة، تراقب ملامحه التي تحولت فجأة من الثبات إلى التوتر، كمن أدرك متأخرًا خطورة ما نطق به.
أشاح بوجهه، كأنه يهرب من وقع كلماته، لم يكن ينوي الكشف عن مشاعره بهذه الطريقة، لم يحن الوقت بعد...
كان يريد أن يتغلغل حبه في قلبها بصمت، أن ينمو كزهرة لا تشعر بها إلا حين تتفتح بالكامل...
عضّ على شفته السفلى، تردد للحظة، ثم تلعثم:
-لازم نتجوز عشان... عشان أنا عارف إنك مش عايزة تتجوزي بدر، وبدر كمان بيحب واحدة تانية، فأنا... هتجوزك عشان أحميكِ، لأنك... لأنك غالية عندي أوي... يعني بعتبرك زي أختي.
كلماته سقطت فوقها كصفعة مباغتة، لم تتوقعها، ولم تستطع تفاديها...
حدقت فيه بدهشة، كأنها لا تصدق ما سمعت... أخته؟! هل هو أحمق أم يتعمد كسر قلبها بهذه البساطة؟ كانت تنتظر منه كلمة واحدة فقط، تطمئنها، تثبت لها أنها ليست مجرد خيار منطقي، بل رغبة، حاجة، حب!
لكن بدلاً من ذلك، منحها تلك الكلمة... "أختي".
ساد بينهما صمت ثقيل، كأن الهواء من حولهما صار أكثر كثافة...
كان «عمرو» يتظاهر بتأمل الشارع والمارة، بينما في داخله كان العراك على أشده، يبحث عن كلمات تعيد الأمور إلى نصابها، كلمات تصلح ما أفسده بغبائه، لكنه لم يجد سوى الفراغ.
شعر بارتجافة أنفاسها، فالتفت نحوها سريعًا، يتفحص ملامحها بقلق... لا تبكي! حسنًا، هي لا تبكي، لكنها ليست بخير أيضًا...
كان القلق واضحًا في عينيها، في الطريقة التي تعض بها على شفتيها، في تنفسها المتسارع...
أشاح بصره مجددًا، كأنه يمنحها مساحة لالتقاط أنفاسها.
عاد يقطع طعامه ببطء، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة، وكأنه قرر انتشالها بعيدًا عن هذا التوتر. مازحها بنبرة مرحة:
-عارفة يا سراب؟ أنا اكتشفت إني مستفز فعلًا... وإنسان لا يُطاق الصراحة، بس دا ميمنعش إن إنتِ كمان مستفزة.
رفعت حاجبها في دهشة، بينما تابع والضحكة تتسلل إلى صوته رغم كل ما يشعر به:
-تصدقي بالله؟ أنا وإنتِ تعبانين في دماغنا... افتكري كده كل خناقاتنا.
تسللت الابتسامة إلى شفتيها رغم التوتر الذي ينهش داخلها، كأن كلماته فتحت لها بابًا للهروب من أفكارها الثقيلة...
استرجعت كل مشاحناتهما، ثم تمتمت بنبرة شبه متعجبة:
-بتبقى الدنيا بتولّع حوالينا، وإحنا سايبين كل حاجة وواقفين بنتخانق! بس إنت اللي بتكون السبب في كل مرة...
-يا سلام، طيب يا ستي إنتِ بريئة وأنا اللي وحش...
رغم أن كلماته لم تكن دعابة صريحة، إلا أن الضحك تسلل إليهما ببطء، كأنهما يمسكان بحبل خفي ينتشلهما من ثقل اللحظة، ضحكا، ليس لأن الأمر مضحك، بل لأنهما كانا في حاجة إلى الضحك... فقط كي يتنفّسا.
ضحكا للحظات، قبل أن يشير «عمرو» إلى الطعام قائلاً بلهجة مرحة:
-كُلي، كُلي قبل ما الأكل يبرد.
شرعت في تناول الطعام، لكن سرعان ما تركت الشوكة جانبًا وعادت تنظر إلى الشارع بشرود.
لاحظ عمرو شرودها، فسأل:
-مالك؟
تمتمت بنبرة هادئة يغلفها قلق جاد:
-ساندوتش الشاورما ده طعمه حلو أوي يا عمرو... وده هيزودني بتاع نص كيلو على الأقل!
ظل «عمرو» يتأملها للحظات، قبل أن ينفـ ـجر ضاحكًا، كبح ضحكاته بصعوبة وقال:
-يا ستي كُلي متقلقيش... إنتِ أصلاً محتاجة تزيدي شويه.
لم تُعلّق، فقط ظلّت تراقبه وهو يأكل، وعيناها تمتلئان بمزيج من الحب والحيرة.
لاحظ نظراتها المتمعنة، وابتسامة خفيفة شقت طريقها إلى شفتيه، لكنه تظاهر بعدم الانتباه، منشغلًا بطعامه، وبعد لحظة صمت قال دون أن يرفع نظره إليها:
-إن شاء الله لما نكتب الكتاب، مش هسيبك غير لما تعملي فورمة تعجبك... ودي واحدة من مميزات إنك تتجوزيني على فكرة!
لم تجبه، فقط استمرت في تأمل ملامحه، زاعمة أنه لا يلحظها، لكنه كان يشعر بعيونها تحاصره وأربكته نظراتها المتفحصة، فشرد قليلًا، ثم عاد بنبرة ماكرة:
-عايز أقولك على ميزة فيا محدش يعرفها... وهي إني بغض بصري، يعني مش بعرف أبص لأي بنت، ولو حصل بالغلط بحس إن الشيخ يحيى بيديني على قفايا، وصوته بيرن في ودني وهو بيقول: «غض بصرك يا لطخ».
ألقى جملته الأخيرة وانفـ ـجر ضاحكًا حتى تراقصت نغمات ضحكته في الهواء، كوميض خاطف في سماء غائمة.
ابتسمت رغمًا عنها، مأخوذة بتلك الضحكة العفوية، ثم رأت كيف ألقى الشوكة من يده بتنهيدة وكأنه يئس من أن تفهم شيئًا، قبل أن يرفع عينيه إليها أخيرًا، ويقول بنبرة يملؤها الدعابة والعجز معًا:
-بالله عليكِ... متبصليش كده يا سراب... أنا بتكسف!
كأن كلماته صفعتها، فحادت بنظرها سريعًا. حقًا، لقد تمادت... سواء في تأمل ملامحه الآن، أو حين نظرت إلى بدر قبل قليل. لم تكن من أولئك اللواتي يطلن التحديق في وجوه الرجال، لكنها كانت تبحث عن صدى ذلك في قلبها، تحاول أن تفك شفرة حيرتها بين بدر وعمرو...
تلعثمت وهي تحاول التملص من اضطرابها:
-آآ... أنا مش بتأمل في جمالك... بس مستغربة ضحكك الكتير ده!
اشتعل وجهها بحمرة الخجل، فخيّم الصمت بينهما، ثقيلًا كأنهما يخشيان كسر الفقاعة الهشة التي تحيط بهما، حتى قطع عمرو الصمت فجأة، بنبرة عفوية ظاهرًا، لكنها حملت شيئًا خفيًا بين طياتها:
-إيه رأيك نشتري سكوتر؟
قالت وهي تعبث بطعامها، ودون أن ترفع نظرها:
-أنا نفسي أوي يكون عندي سكوتر، لكن انسى إني أشترك معاك في حاجة أو أدفع معاك جنيه واحد.
ابتسم، وكأن ردها جاء كما توقع تمامًا، ثم قال ببساطة زلزلت كيانها:
-لا مش هخليكِ تدفعي، متقلقيش... هو هيبقى بتاعنا إحنا الاتنين، بما إننا هنتجوز إن شاء الله.
قالها بنبرة حاسمة كمن يقرر أمرًا لا يقبل الجدل...
كان قد لمح ترددها، وخشي أن ترفض الزواج، فأراد أن يذكرها بعرضه دون أن يمنحها فرصة للتراجع. رمقها بطرف خفي، يراقب وقع كلماته عليها...
أما هي، فتذبذبت نظراتها، وارتبكت أنفاسها، حتى تجمدت أصابعها على الملعقة للحظات، كأنها فقدت القدرة على الحركة.
جاءها طوق النجاة على هيئة رنين هاتفها.
رمشت بسرعة، تلتقط أنفاسها المبعثرة، ثم خفضت عينيها إلى الشاشة، حيث لمع اسم تُقى أمامها...
مدّت يدها لالتقاط الهاتف، كانت ترتجف، ارتجافة خفيفة لكنها كافية لفضح اضطرابها...
راقبها بصمت، ابتسامة خفيفة تتسلل إلى شفتيه وهو يلاحظ ارتباكها الواضح... لكن قبل أن ينطق بشيء، دوّى رنين هاتفه باسم عامر، فعدل جلسته وأجابه تاركًا ما تبقى من الحديث معلقًا في الهواء بينهما.
استغفروا🌸
★★★★★★
عادت «تُقى» لتجلس قبالة خالها بعدما أنهت مكالمتها مع «سراب»، لكن نبرة الأخيرة المضطربة ظلت عالقة في ذهنها، تدور كصدى لا يتلاشى.
قطع شرودها صوت البدري وهو يسأل:
-كلمتيها يا تُقى؟
أومأت سريعًا قبل أن تجيب:
-أيوه يا خالي، جايه حالًا...
جلس «بدر» بدوره وقال:
-أنا كمان كلمت عامر، وهو في الطريق.
قطب «البدري» جبينه وقال بنزق:
-مع إني قلت تُقى تكلم عامر، وإنت اللي تكلم سراب يا بدر!
رفع «بدر» كتفيه بلا مبالاة وقال:
-المهم إننا كلمناهم يا جدو.
ساد الصمت ثقيلًا كأنفاسهم المتحفزة لما هو قادم...
تبادل «بدر» وجده النظرات الحذرة، كأنهما يسيران على حبل مشدود فوق هوة لا يعلمون عمقها...
وأخيرًا، اخترق «البدري» الصمت بصوت ثابت لكنه يحمل شيئًا من الإصرار:
-لازم تتكلم مع سراب يا بدر، هي تعتبر خطيبتك دلوقتي.
تشنج فك «بدر»، حدقت عيناه قليلًا في نقطة غير محددة، كأنه يجاهد أفكاره قبل أن ينطق...
أراد أن يعترض، أن ينفي، أن يصرخ حتى، لكن إن تجرأ وقال أي شيء الآن، فقد ينفعل جده ويغادر بلا رجعة، وهذا آخر ما يريده، فتنفس ببطء، وقال بهدوء محسوب:
-حاضر يا جدي...
وجّه «البدري» نظراته إلى «تُقى»، وقال برجاء:
-وإنتِ كمان يا تُقى، اتكلمي معاها وعقّليها...
-والله، من غير ما حضرتك تقول، اتكلمت معاها فعلًا... وهتكلم تاني...
قالتها «تُقى» بسرعة، فأومأ البدري بصمت، وعاد الهدوء يخيّم من جديد، لكنه هذه المرة كان أثقل، كأن الهواء نفسه تحوّل إلى جدار غير مرئي يضغط عليهم.
استند «البدري» إلى عصاه، عيناه تحدقان في الأرض، غارقًا في بحر من الذكريات، قبل أن يطلق تنهيدة طويلة، وكأنه يحمل جبالًا فوق صدره، ثم قال بصوت عميق:
-على فكرة يا تُقى يا بنتي... أنا زيكم، نفسي أعرف السر ورا اختفاء أختي من عشرين سنة... يعني أنا معرفش أي حاجة.
انعقد حاجبا «بدر»، وحدّق في جده متفحصًا، ثم سأل:
-أومال بعتّ تجيب سراب وعمرو وعامر ليه يا جدو؟
أطبق البدري أصابعه على رأس عصاه، وأطرق للحظات، كأنه يعيد ترتيب أفكاره قبل أن يجيب:
-عشان ننهي الموضوع ده... اصبروا، هقولوكوا كل حاجة لما يجوا.
كانت كلماته بمثابة شرارة أشعلت الترقب في الأجواء. تبادل «بدر» و«تُقى» نظرات سريعة، كأنهما يحاولان قراءة ما يخفيه، لكن «البدري» ظل جامدًا، عيناه تحدقان في اللاشيء، ينتظر... ويتساءل في أعماقه: هل حقًا سيخبرهم بكل شيء؟
استغفروا🌸
★★★★★★
توقف «عمرو» و«سراب» عند مقدمة الشارع، وقال عمرو بخفة:
-اسبقيني بقى، مش عايزين ندخل الشارع مع بعض... خالتك سعيدة لو شافتنا مش عايز أقولك!
ضحك وهو ينطقها، فابتسمت سراب، وردّت بتلقائية:
-اسكت، دا إنت مش عارف حاجة... دي كل ما تشوفني أصلًا تسألني: "عمرو هيتقدملك إمتى؟"
وقبل أن يتمكن عمرو من إضافة أي كلمة، ظهر مشهد آخر أمامهما قطع الحديث تمامًا...
كانت وئام تقترب، تحمل طفلها الذي لم يبلغ العامين، بينما تسير بجوارها مريم، تمسك بيد شقيقها الثاني. وخلفهم، رغدة ورحمة، خطواتهما بطيئة، مترددة، كأنهما تتعثران تحت وطأة أفكارهما.
وصلت وئام إليهما وضيقت عينيها، تتنقل بنظراتها بين عمرو وسراب، وكأنها تجمع خيوط المشهد في رأسها، ثم سألت:
-واقفين كدا ليه؟ إنتوا كنتوا مع بعض ولا إيه؟
كأنهما نسيا التنسيق للحظة، فجاء ردهما في نفس الوقت لكن بإجابتين متناقضتين، نطق عمرو:
-لا.
-أيوه.
قالتها سراب وسرعان ما حاولت التعديل، في اللحظة ذاتها التي قرر فيها عمرو تصحيح رده أيضًا، ليزداد المشهد ارتباكًا:
-لأ.
-أيوه.
تنهّدت وئام بعمق، وكأنها تطرد من صدرها أمرًا لا يستحق العناء، ثم سلّمت طفلها لعمرو، الذي احتضنه بابتسامة دافئة.
تبادلت «سراب» السلام مع الفتيات، ثم داعبت خد الصغير الذي يحمله عمرو بابتسامة دافئة، وتابعوا السير معًا في صمت، لم يقطعه سوى وقع خطواتهم فوق الأرض.
عند منزل «ضياء»، توقفت «وئام»، أشارت نحوه قائلة:
-أنا هطلع مع رغدة ورحمة يا عمرو، اسبقوني إنتوا.
لكن قبل أن يتحرك أحد دوّى صوت مألوف يناديهم من الأعلى، جعلهم يرفعون رؤوسهم تلقائيًا نحو مصدره...
وكانت سعيدة، تطل من شرفتها، عيناها يقظتان، تمسحان المشهد بنظرات فضولية متلهفة، قالت بحماس لم يخلُ من التدخل المعتاد:
-إزيّكوا يا متواضعين؟ كنتوا فين كلكوا كده؟ دا إنتوا عيلة زي العسل!
تبادلوا النظرات النازقة، وكأنهم جميعًا يفكرون في الرد نفسه: يا ليتنا دخلنا قبل أن ترانا!
ولما لم يأتِ منهم رد، أضافت سعيدة بضحكة رنانة:
-مرات ابني حامل... وعقبال كل البنات والشباب! لما يتجوزوا طبعًا، وعقبالك يا وئام مرة كمان، و... عقبالك يا سراب إنتِ وعمرو!
قالت أخر جملة متخابثة، فتجمدت «سراب» في مكانها، كأن قدميها التصقتا بالأرض، بينما تسللت حرارة الخجل إلى وجهها دون استئذان.
أما «عمرو»، فاكتفى برد مقتضب، كأنه يقتلع الكلمات من فمه فقط لإنهاء الموقف:
-مبروك.
وقالت وئام نفس الكلمة قبل أن تدلف البناية مع رغدة ورحمة بينما أشار عمرو لسراب والبقية للتحرك، غير راغب في إطالة الحديث، فسارت سراب جوار مريم تحاوط كتفيها بحنو، بينما هرول شقيقها يسير جوار عمرو بالأمام ويمسك يده...
ومن خلفهم، تمتمت «سعيدة» مستاءة من رد فعلهم الفاتر:
-آه يا عيلة متكبرة... طيب وربنا ما أنا قيلالكم عن جدكم.
**********
عند مدخل البناية...
لوحت «سراب» لـ «مريم» وهمّت بالدخول إلى بيتها، متجاهلة «عمرو» لكن استوقفها صوته الهادئ:
-هطلع الحلوين دول فوق، وهحصلك يا سراب.
أومأت «سراب» دون أن تنظر إليه، لا تدري لمَ أصبحت تخجل منه! وكأن عمرو المستفز، قد تحول فجأة إلى شخص آخر... شخص يربكها ويهز شيئًا بداخلها...
دخلت البناية لكنها توقفت للحظة، التفتت دون وعي، لتراقبه في صمت.
كان يحمل الصغير بحرص، يثبت جسده الصغير بذراعه القوية، بينما يُخرج المفتاح من جيبه باليد الأخرى، وفي الوقت نفسه، كان يمازح مريم وشقيقها، يضحك معهما بعفوية...
للحظة... تخيلت سراب حياتها معه، معه وهو يحمل طفلهما، يضحك معه، يحتضنه كما يفعل الآن...
الصورة خطفت أنفاسها، ودفء غريب تسلل إلى قلبها، جعل شفتيها تتسعان في ابتسامة ناعمة دون أن تشعر....
عمرو ليس بذلك السوء الذي تظنه... صحيح أنه سريع الغضب ويستفزها، لكن في داخله حنان نادر، وقلب نقي لا تخطئه العين.
وكأن إحساسًا غير مرئي ناداه، فتوقف «عمرو» عند عتبة منزله، والتفت بلا سبب واضح، التقطت عيناه ابتسامتها التي لم تستطع إخفاءها...
للحظة، عقد حاجبه بدهشة، قبل أن ترتسم على شفتيه ابتسامة خفيفة... لكنها صادقة.
تلك الابتسامة جعلت قلبها يختلج بلا سبب مفهوم.
انتفضت «سراب» فجأة، وكأنها استيقظت من حلم قصير، فسارعت بصعود السلم، وكأنها تهرب من أفكارها قبل أن تتجذر أكثر... تابعها عمرو، بنظرة تشي بالكثير، قبل أن يدخل بيته ويغلق الباب وراءه...
لكن ما فاته، أن مريم كانت تتابع المشهد برمّته، بعينين يقظتين ترصدان كل تفصيلة، وبابتسامة صغيرة تشي بفطنتها، فلم يخفَ عليها ذلك التوتر الخفي، ولا تلك المشاعر المتطايرة بين أعينهما...
★★★★★★
وبعد فترة
في شقة بدر جلسوا جميعًا والصمت يسكن المكان
وكأن الجميع ينتظر ما سيقوله «البدري»، الذي بدا مترددًا، يتنفس ببطء كمن يختار كلماته بعناية، لكنه في كل مرة يهمّ بالنطق يتراجع في اللحظة الأخيرة. لم يحتمل «عامر» هذا التردد، فسأله:
-حضرتك كنت عارف خطورة حسين ومع ذلك بعتتنا القاهرة نقابله!
حدّقت تُقى في خالها برجاء، صوتها خرج ضعيفًا لكنه يحمل إلحاحًا دفينًا:
-قولنا أي حاجة تعرفها يا خالي... بالله عليك... يمكن نوصل لبابا...
تنهد «البدري»، وأشاح بوجهه للحظة، كأنه يقـ.ـاتل كلمات تحاول الإفلات من شفتيه...
وأخيرًا، أعاد نظره إليهم وقال بصوت متردد:
-بصوا يا ولاد، أنا والله ما أعرف حل الألغاز دي كلها... لكن لما بعتّكم القاهرة، كنت فاكر إن كارم لما يعرف إنكم في خطر، هيظهر... لكنه للأسف ما ظهرش.
ابتلع ريقه، وأحكم قبضته على عصاه كأنها الملاذ الوحيد له، طاف بنظراته عليهم جميعًا، كمن يخشى رد فعلهم، ثم أضاف بصوت خافت:
-وطبعًا كنت خايف عليكم... وكنت باعت وراكم رجالة كمان، وهما اللي خلّصوا على الكلبين اللي طلقهم عليكم أخو بدر... إنما أنا معرفش حاجة تانية.
كلماته حملت صدقًا، لكنها لم تكن كافية لطمأنتهم، كان واضحًا أن هناك المزيد، شيء يخفيه، ظهر ذلك في الطريقة التي ازدرد بها لعابه، وفي عينيه اللتين لم تستقرا على أحد...
تبادلوا النظرات، كل منهم غارق في أفكاره، حتى قطع البدري الصمت فجأة، كأنه يريد الهروب من ثقل الحديث السابق:
-أنا المهم عندي أطمن على سراب وبدر قبل ما يحصلي حاجة.
نظر «بدر» و«عمرو» إلى بعضهما بنظرة غامضة، بينما زفرت «سراب» باضطراب، قبل أن تنطق بتردد:
-جدي... آآ... أنا مش هتجوز بدر.
رفع «البدري» حاجبيه في دهشة، قبل أن يقول بنفاد صبر:
-تاني يا سراب؟
لكن قبل أن تجيب، تنحنح «عمرو» لينقذ الموقف وقال:
-آآ... مش وقت الكلام ده يا جدي... متقلقش، هنقنع سراب تتجوز، بس قولنا... كنت تعرف إيه عن عمي كارم؟
صمت «البدري» للحظة، وتذبذبت نظراته بين وجوههم قبل أن يعتدل في جلسته، متحدثًا بصوت لم يخلُ من التوتر:
-مكنتش أعرف عنه حاجة... راجل غني من القاهرة، اتجوز أختي، وكان بينه وبين أبويا شغل...
حدّقوا به جميعًا، مترقبين المزيد، لكن كلماته توقفت عند هذا الحد، للحظة، بدا وكأنه على وشك البوح بشيء آخر، شيء أكثر أهمية، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، وابتلع بقية الحديث.
ساد الصمت المشحون، وكأنهم جميعًا أدركوا أنه يخفي شيئًا، فحاصروه بأسئلتهم، يحاولون اقتلاع الحقيقة منه، لكنه تملص منهم، يراوغ بردود مبهمة، ويتجنب النظر المباشر إليهم.
وهكذا... انتهى المجلس دون التوصل إلى أي شيء، تاركًا خلفه مزيدًا من التساؤلات التي لم تجد لها إجابة.
انصرف الجميع، وبقي بدر واقفًا مع عمرو عند الباب. وضع بدر يده على كتف الأخير وربّت عليه، قبل أن يسأله بخفوت:
-اتكلمتوا؟
أومأ «عمرو» إيجابًا، وقال بصوت هادئ يحمل شيئًا من القلق:
-كلمتها، وهخلي ماما تكلمها برضه... بس هي باين عليها التردد، وكأنها مش حاسة بأي مشاعر تجاهي!
هزّ «بدر» رأسه معترضًا، وقال بثقة:
-لا لا... معتقدش، أنا حاسس إنها بتبادلك نفس الشعور.
أطرق «عمرو» للحظات، وتسللت إلى نبرته خيبة أمل خفيفة:
-معتقدش يا بدر... أنا مش حاسس بكده.
ثم رفع رأسه مجددًا، وأضاف وفي عينيه بريق إصرار:
-بس أنا مش هَيأس، إن شاء الله هخليها تبادلني نفس الشعور.
ابتسم «بدر» وربت على كتفه، قائلًا:
-طمنتني... وامتى بقى هتقول لجدي؟
-هقول لبابا وماما الأول، وأخد الموافقة الصريحة من سراب، وبعدين أقول لجدك.
-ربنا يسعدك يا غالي.
قالها «بدر» فابتسم «عمرو»، ولوّح له قبل أن يبدأ في نزول الدرج...
أما «بدر»، فتنفس بارتياح وهو يغلق الباب خلفه، وقد شعر وكأن ثقلًا كان يجثم فوق صدره انزاح أخيرًا.
وفي الأسفل...
عند شقة تُقى وسراب، كان «عامر» يتحدث معهما عن «شيرين» وشعوره أنها تعاني من شيء تخفيه!
وبينما كان مستغرقًا في الحديث، ظهر «عمرو» يهبط بخطوات متعجلة، عاقد الحاجبين، لكن وجهه يحمل شيئًا من التردد، وما إن بلغهم، حتى توقف قبالة سراب، أخرج من جيبه علبة صغيرة باللون الأزرق، تأملها لحظة قبل أن يمدها نحوها، وصوته يخرج خافتًا، تحمله ابتسامة دافئة:
-نسيت أديكِ دي.
رمقته «سراب» بنظرة مترددة قبل أن تسأله بصوت هادئ:
-إيه دي؟
أحاطت أصابعها بالعلبة برفق، كأنها تخشى أن تنكسر بين يديها، بينما تابع عمرو بنظرة عميقة:
-حاجة كنت شاريها لكِ... وعلى فكرة، أنا مردتش أقول لجدك حاجة، مستني ردك الأول...
تسارعت نبضاتها، وكأن العلبة الصغيرة بين يديها تحمل أكثر من مجرد هدية، بل تحمل سؤالًا ينتظر إجابة صريحة، أضاف «عمرو» بصوت بدا وكأنه يحيطها بهالة من الدفء:
-مستني ردك عليا...
لم تكن بحاجة إلى مرآة لترى احمرار وجنتيها، فقد شعرت بالدماء تتسلل إليها كتيار دافئ، يجتاحها بحياءٍ لم تستطع السيطرة عليه...
كان «عامر» و«تقى» يتابعان حوارهما ويتبادلان النظرات، قبل أن يرفع عامر حاجبه مستفهمًا:
-إنت مستني ردها على إيه؟
واصل «عمرو» نزوله دون أن يلتفت، وألقى بجملة مقتضبة:
-ملكش دعوة.
تابعه «عامر» بعينين متسعتين، ثم ضحك بصوت خافت حين أدرك الأمر، لوّح لتُقى ولحق به وعلى وجهه ابتسامة لم يستطع إخفاءها.
أما تُقى، فحولت أنظارها إلى سراب التي كانت تحدق في العلبة بصمت، وكأنها تزن وزنها بين يديها، قبل أن تستدير وتدخل الشقة....
وما إن أُغلق الباب خلفهما، حتى سألتها تُقى بفضول واضح، صوتها يحمل مزيجًا من المفاجأة والترقب:
-عمرو يقصد إيه؟
أجابت «سراب» ببساطة، دون أن تبدو عليها أي انفعالات:
-عرض عليا الجواز.
ثم استدارت ومضت نحو المرحاض، تاركة «تُقى» واقفة في مكانها، تحدّق في الفراغ لثوانٍ طويلة، وكأن الإجابة لم تستوعبها بعد...
لكن أضاء شيئًا في عينيها، وتمدد شيئًا في زاوية شفتيها ببطء... ابتسامة صافية، عميقة، لم تحتَج معها إلى أي كلمات.
كانت «تُقى» تخشى على «سراب» مرارة الحب غير المتبادل، فقد لمحت مشاعرها نحو «عمرو» منذ زمن بعيد، وكانت تظن أنه لا يبادلها الشعور...
حاولت أن تثنيها عنه بكلماتها الحذرة، محاوِلة إبعادها عن وهم قد يجرّها إلى الألم، لكن الآن... كل شيء صار أوضح...
استغفروا🌸
★★★★★★
مضى النهار...
استقر الليل بعد العشاء، يغمر الشارع بسكونه الممزوج بنسيم صيفي دافئ، يمر بين الأشجار هامسًا، فتتراقص الأوراق الخضراء تحت الأضواء الخافتة...
كان الأطفال يتسابقون بدراجاتهم، وضحكاتهم تتردد بين الجدران، تضيف للشارع نبضًا خاصًا، وكأن الليل هنا ليس وقتًا للراحة، بل للحكايات التي تُروى على مهل، تحت سماء الصيف التي تمتد بلا حدود تتناثر فيها نجوم واهنة تتوارى خلف ضوء المصابيح وكأنها تراقب من بعيد صخب الحياة الدافئ على الأرض.
خرجت «رغدة» من بيتها، تمسك بعدد من الروايات القديمة، تنوي تبديلها بأخرى من عند «رائد»، علها تفرّ عبرها من زحمة الأفكار والأحداث التي تحيط بها، فلازالت لا تحتمل نظرات جدها وكلماته المقتضبة رغم اعتذارها له أكثر من مرة...
تباطأت حين وقع بصرها على بدر، الذي كان يقف في شرفته يتحدث عبر الهاتف، فتملّكها الارتباك لا إراديًا.
ضمّت الكتب إلى صدرها بذراع، بينما رفعت يدها الأخرى تلامس نظارتها بتوتر، وكأنها تحاول إخفاء ارتباكها بحركة عفوية لم تكن كافية لإخفاء الاضطراب في عينيها.
كانت «سعيدة» تجلس في شرفتها، تحرك مروحتها اليدوية في كسل، وحين لمحتها، نهضت واقفة اشرئبت برأسها قليلًا لتلاحظ وقوف بدر في شرفته...
اتسعت ابتسامتها بمكر وهي تهمس لنفسها:
-قمر... البِت قمر! طيب والله الاتنين قمر ولايقين على بعض... لازم أقول لجدتها، ولازم أوفّق راسين في الحلال!
أومأت برأسها بإصرار، وعيناها تشعّان عزيمة واضحة، لكن ابتسامتها تلاشت فجأة وتحولت إلى شهقة قـ ـوية حين دوّت ضحكات صاخبة، تبعها زئير دراجة نارية على متنها ثلاثة شبان يقتربون بسرعة، يدورون حول رغدة كأنهم ذئاب جائعة تحاصر فريسة وحيدة.
هدر بدر من شرفته:
-ولاه إنت وهو امشي يله...
تجاهلوه وكأنهم لم يسمعوا صوته، فهرع بدر يخرج من بيته...
بينما صاح أحدهم بمرح ساخر، وكلماته تحمل شراسة خبيثة:
-يلا ياض ارمي مية النار!
وفي لحظة خاطفة، اندلق السائل على وجهها قبل أن تستوعب حتى معنى الكلمات.
سقطت الكتب من يدها وصرخت صرخة حادة مزّقت الهواء، تبعها ضحكاتهم المتوحشة، وانطلقت الدراجة كطلقة نار، تاركة خلفها تلك المسكينة تتراجع للخلف مترنحة، ويدها تقبض على وجهها، وشهقاتها تتحول إلى عويل موجع يخترق الليل...
بينما صاحت سعيدة بفزع قبل أن تنزل من شرفتها:
-مية نـــــــــــار!!
وعلى الصعيد الأخر
اجتمعت العائلة حول «شيرين»، عيونهم تحاصرها بقلق خفي، كأنها قطعة زجاج يخشون أن تنكسر، ولمَ لا وهي أمهم! الحضن الدافئ الذي يخافون أن يتلاشى، والركن الذي لا يريدون أن يهتز.
ورغم الإرهاق النفسي الذي يجذبها نحو الأسفل، ابتسمت، ورفعت يدها تطمئنهم، وهي تقول:
-يا ولاد، والله أنا كويسة... خلاص بقى، كفاية قلق.
ضحك «عامر» محاولًا تبديد التوتر، وغمز بعفوية:
-لا لا، إحنا مش هنصدق إلا لما تقومي تعمليلنا العشا بإيدِك يا ماما!
اختلطت ضحكته بالابتسامات التي بدأت تخفّف ثقل الجو، فردّت شيرين وهي تهز رأسها مستسلمة:
-طيب، هقوم أعمل العشا يا سيدي.
لكنهم لم يتركوها تتحرك.
انحنت «وئام» وقبّلت يد والدتها بحنان، ولحق بها «رائد» الذي انحنى بدوره يقبّل جبينها قبل أن يحيط كتفيها بذراعيه.
لم يلبث أولادها أن احتضنوها، واحدًا تلو الآخر، كأنهم يثبتون وجودها بينهم، كأنهم يؤكدون أنها ما زالت هنا، معهم، ولم تؤخذ بعيدًا.
تأملت وجوههم، تلك العيون التي تعرفها كما تعرف ملامحها في المرآة، وجوه حملت فيها عمرها كله. أخذت نفسًا عميقًا وهمست بيقين هادئ:
-إنتوا رزقي يا ولاد إنتوا وعيالكم... الواحد لما بيشوفكم، بيحس إنه عمل حاجة في حياته.
كان «يحيى» يراقب بصمت، عقد ذراعيه، واستند إلى ظهر مقعده بهدوء...
كان الوحيد بينهم الذي يعرف، الذي يفهم... لكنه ظل صامتًا...
فأي سر يدخل قلب يحيى، يُغلق عليه كضريح لا يُفتح أبدًا.
ساد الصمت للحظات، حتى نطق محمد بنبرة هادئة:
-أومال عمي دياب فين؟
أجابه «رائد»، وهو يلقي نظرة خاطفة نحو الباب كأنه يتوقع دخوله في أي لحظة:
-راح مع عمي ضياء يجيبوا طلبات للعطارة...
فرك «محمد» جبينه ببطء، وكأنه يسترجع أمرًا نسيه للحظات، ثم تمتم وهو يهز رأسه باستيعاب:
-آه صح... بابا قالي إنه هيروح مع عمي النهارده.
وفجأة، دوى جرس الباب بعنـ ـف، كأنه يُقرع بغضب لا بطلب، وقبل أن ينهض أحد، انفتح الباب بقـ ـوة جعلت الجميع يلتفتون برهبة.
كان الداخل ابنة «رائد»، ممتقعة الوجه، فهرعت إليها «نداء»، تسألها:
-فيه ايه يا أروى؟
تجمدت الكلمات في حلقها لثوانٍ قبل أن تنطق بصوت مخنوق، كل حرف فيه يحمل رجفة الفاجعة:
-رغدة... حد رمى عليها مية نار وجري!
انفجرت الصرخات!
شق الفزع الأجواء، ولم يدرِ أحد من الذي ركض أولًا، لكنه كان سباقًا محمومًا نحو المجهول، نحو الخوف الذي تجسد فجأة في صورة فتاة قد تكون قد فقدت وجهها إلى الأبد...
********
كان «بدر» أول من وصل إليها وقلبه يكاد يثب من صدره.
نظر إلى وجهها، وإلى أصابعها المرتجفة التي تغطيه، قال لاهثًا:
-شيلي إيدك يا رغدة... شيلي إيدك بالله عليكي!
لم تستطع، كانت تنتفض كعصفور مرتعش، تبكي بجنون، تتشبث بوجهها كأنها تحاول حمايته.
اجتمع الناس حولها، بعضهم يصرخ، آخرون يتهامسون، تقدمت سعيدة وسحبت يدها بلطف قائلة:
-مفيش حاجة يا بنتي... متقلقيش...
تجمدت رغدة، ارتجفت شفتاها، رفعت عينيها الغارقتين بالدموع إلى «بدر»، لم تستطع النطق سوى بسؤال واحد:
-وشي يا مستر...؟
نظر «بدر» إليها، إلى ملامحها التي لم يمسسها سوء، ثم ابتلع خوفه وهز رأسه سريعًا ليطمئنها:
-مفيش حاجة... دول شوية عيال بيستظرفوا... اهدي، اهدي... معلش.
ارتجفت أناملها وهي ترفع هاتفها، تلهث وهي تتفحص انعكاس وجهها بعينين زائغتين، ثم شهقت بارتياح:
-الحمد لله... الحمد لله...
لكن ظل جسدها يهتز، وكأن الخوف رفض مغادرة قلبها.
ثم دوّت أصوات الأقدام الراكضة، تتقاطع مع الهمهمات المتوترة التي ملأت المكان.
كان أول من وصل من العائلة عمها «محمد»، امتدّت يديه بقلق ليمسح على وجهها، كأنه يحاول التأكد من أنها بخير، تمتمت بفزع:
-رموا حاجه على وشي يا عمو...
جاء صوته مطمئنًا رغم التوتر الذي يغلّفه:
-مفيش حاجة يا حبيبتي... الحمد لله.
لم ينتظر ردّها، بل ضمّها إلى صدره، يمنحها أمانًا لم يكن يعلم إن كانت تحتاجه أم لا.
لكن اللحظة لم تدم طويلًا...
حين وصلت زوجة أبيه، جدتها «فاطمة»، امتدّت يدها بجذبٍ حاد، فصلتها عنه دون تردد...
لم تنظر إليه، ولم تنطق بكلمة، لكنه فهم، هي تكرهه، ترى أن والده «ضياء» يفضله على بقية أبنائها، وتمقت وجوده بينهم...
لم يكن يعلم أن رؤيتها له كانت تعيدها إلى سنوات مضت، إلى ذلك الجرح القديم الذي لن يندمل أبدًا، حين تزوج «ضياء» عليها دون أن يخبرها، ثم مضت الأعوام، تعايشت... لكن الندبة في قلبها لم تزل.
تسابق الجميع للاطمئنان عليها، وجاءت الأصوات متداخلة، الأسئلة تتوالى، والقلوب تنبض بالقلق.
لم يتحرك «محمد» من مكانه، فقط حاوط كتفي «رحمة» التي كانت تبكي، وانحنى يهمس لها بصوت دافئ:
-أختك كويسة يا رحمه... إيه فيه إيه بطلي عياط؟
قالت والحشرجة تخنق كلماتها:
-اتخضّيت يا عمو.
لم يقل شيئًا، فقط قبل رأسها وضمها إليه بحنان.
لطالما كان يتجنبهم، لطالما حرص على البقاء بعيدًا، كي لا يزعج زوجة والده «فاطمة» حتى لا تُزعج والده، تجنّبًا للمشاكل قدر استطاعته.
انتشرت الهمهمات في الأرجاء، الأصوات تتلاطم، والقلق يفيض في المكان...
وفي وسط كل ذلك، تنفس «بدر» بعمق، ثم سلم «يحيى» الكُتب التي سقطت من يد «رغدة» وتبادل معه نظرة خاطفة لكنها تشي بالكثير والكثير...
أطلق «بدر» خطاه بعيدًا، ووجهه يحمل أثر حديث عميق دار بينه وبين «نادر» قبل حادثة رغدة، طلب فيه الأخير لقاءه...
بعد فترة...
في سيارة «نادر»، جلس «بدر» إلى جواره في المقعد الأمامي...
كانت السيارة تتحرك ببطء، لكن داخل كليهما يعج بالعواصف...
أنفاس «نادر» مضطربة، وأصابعه تنطبق بقـ ـوة على المقود كأنه يحاول تثبيت شيء في داخله قبل أن يتفلت منه.
أما «بدر»، فقد ظل عقله عالقًا عند «رغدة» وما حدث قبل قليل، حتى انتزعه من أفكاره الفرملة المفاجئة وتوقف السيارة قبل أن تصطدم بأخرى أمامها، فاستدار إلى «نادر» متفحصًا ملامحه المشدودة وقال بقلق:
-انزل يا نادر، خليني أسوق أنا... إنت شكلك فيك حاجة.
لم يرد «نادر»، فقط أدار المحرك مجددًا وأكمل القيادة، كأنه لم يسمع شيئًا، كان بعيدًا، شاردًا، ليس في الطريق، بل في نفسه، في ما يفعله... في ما أصبح عليه.
لقد شرع مؤخرًا في نشر فيديوهات وعظ عبر مواقع التواصل، ووجد نفسه يلقى صدى واسعًا لكن مع كل رقم يتصاعد، كان هناك همس داخلي يتسلل إليه: هل هذه هي الحقيقة؟ أم أنه يختبئ خلفها؟
هل تراه يبحث عن التوبة... أم عن الشهرة؟ هل يرتدي قناع الدين كما قال ضياء؟
كلما ظن أنه هرب، طاردته الذكريات...
رحمة، وذاك الفيديو الذي مزّقها، والندم الذي لم يفلح في محوه.
لسعه ضميره بقسوة، وراودته رغبة مُلحة في الاعتراف، في أن يفتح صدره ويحكي كل شيء... لكن هل يملك الشجاعة؟ أم أنه، ببساطة، يتمسك بحقه في الستر؟ أليس المهم أنه تاب ورجع؟ فلماذا كل شيء حوله يدفعه للنظر إلى الخلف؟ إلى ذنوبه التي لم تُمحَ، إلى صورته القديمة التي ما زالت تتربص به، وإلى ذلك السؤال الذي همس به يحيى بعدما صارحه بكل شيء: "هل تغيرت حقًا؟"
قطع «بدر» الصمت مرة أخرى، وصوته يحمل قلقًا عارمًا:
-يا نادر، انزل... خليني أسوق أنا.
أوقف «نادر» السيارة والتفت إلى «بدر» ببطء.
لاحظ الأخير كيف كانت يداه ترتعشان فوق المقود، كيف كان وجهه شاحبًا على غير عادته.
سأله «بدر» بحذر:
-إنت كويس يا نادر؟
هز «نادر» رأسه نافيًا، زفر بعمق كأنه يحاول دفع ثقل يجثم على صدره، ثم استدار إلى بدر وسأله بصوت خافت، لكنه مشحون بالمشاعر:
-هو أنا وحش أوي؟
لم يكن السؤال يحتاج إلى إجابة بقدر ما كان نادر يحتاج إلى طمأنة، إلى أي شيء يخفف وطأة ما يشعر به. فغمزه بدر بمكر، وقال بابتسامة خفيفة:
-والله إنت عسل.
لاح على شفتي «نادر» شبح ابتسامة، شاحبة وسريعة التلاشي ولم يُعلّق، ربت بدر على فخذه بلطف وقال:
-انزل، خليني أسوق... نروح كافيه، نتكلم شوية، وتقول كل اللي في نفسك.
كان ذلك ما يحتاجه نادر بالفعل... صديق يفهمه...
ارتجل «بدر» من السيارة، وفي اللحظة نفسها خرج «نادر»، لم يدرك أيٌّ منهما أن العيون تترصدهما في العتمة.
وقبل أن يستوعبا أي شيء، توقفت دراجة نارية أمامهما، نزل منها ثلاثة شباب، تحركوا بسرعة خاطفة كأنهم كانوا ينتظرون هذه اللحظة بالضبط.
لم يكن هناك وقت للتفكير.
ضـ ـرب أحدهم «بدر» على رأسه ثم دفعه دفعةً قوية فاختل توازنه وارتطم رأسه بالرصيف، تشوّش بصره للحظات، لكنه أجبر نفسه على التركيز...
و«نادر» يحاول مقاومة الثلاثة لكن فجأة...
غاص نصل حاد في بطن نادر، ولم يدرك نادر ما حدث إلا عندما شعر بتيار ساخن يتسلل أسفل قميصه.
أصبح الهواء ثقيلاً، وكأن كل شيء تباطأ حوله...
وضع يده على بطنه، فوجدها تبتلّ بسائل دافئ، رفعها ببطء أمام عينيه...
-د*م.
نطقها بنبرة مرتجفة قبل أن يسقط أرضًا...
عمت فوضى عارمة وتداخلت أصواتهم المتوجسة:
-بسرعه... بسرعه قبل ما حد يجي...
-اركب...
-هات الموتوسيكل وحصلنا...
سمع «بدر» ذلك الحوار، وهو يرى بتشوش أحد المهاجمين يندفع إلى داخل سيارة «نادر» بينما تسلل آخر إلى المقعد المجاور له، أما الثالث فامتطى دراجة نارية وانطلقوا جميعًا في سرعة، تاركين خلفهم فوضى الدماء والأنين.
تناهى إلى سمع «بدر» صوت «نادر»، متقطعًا بين أنفاسه اللاهثة:
-مش عايز أموت... لسه... لسه... رحمة...
ارتجف صدر «بدر» للحظة، لكنه سرعان ما انتفض من صدمته، ترنح وهو يركض نحو نادر، وجسده يكاد يسقط لكنه أجبر نفسه على البقاء واقفًا، هتف بصوت مختنق:
-متخافش يا نادر، متخافش...
حاول تثبيت نظره رغم الرؤية المشوشة، رفع يده مستنجدًا بأول سيارة لمحها، وقبل أن يصرخ بندائه، اخترق المشهد أنوار سيارات عدة، تومض فجأة وسط الظلام، وكأنها جاءت من العدم...
استغفروا 🌸
********
في بيت دياب، طرح «عمرو» موضوع زواجه من «سراب»، فرحّب الجميع، عبثت «وئام» بشعر أخيها، قائلةً بمكر:
-أخويا العسل اللي عايز يتجوز هو كمان...
زحف «عمرو» ببصره نحو «شيرين»، التي تجلس جواره، تتابع الحديث بصمت، تردد قبل أن يسألها متلعثمًا:
-إيه رأيك يا ماما؟
رفعت «شيرين» حاجبها قليلًا، متأملةً ملامحه، ثم تنهدت بنبرة تجمع بين الدعابة والحنان:
-مع إني هعاني معاكم عشان مش بتبطلوا خناق، بس على بركة الله... هكلم والدك.
كتم «عمرو» ضحكة خفيفة، قبل أن يحك مؤخرة رأسه بحرج، وقال متلعثمًا:
-طيب، هو أنا عرضت عليها الجواز... بس هي لسه مردتش عليا لحد دلوقتي.
ساد الصمت للحظات، وتردد صدى كلماته في عقل «شيرين»، قبل أن تهز رأسها بأسفٍ مصطنع، وتقول بسخرية ناعمة:
-إنت عارف مشكلتك إيه يا عمرو؟ إنك شكاك ومتردد... ومش متربي.
ضحك «عمرو» بخفة، رافعًا يديه دفاعًا عن نفسه:
-لا، أنا متربي على فكرة!
وقبل أن يُكمل، تلقى ضـ.ـربة مباغتة على كتفه من والدته، التي رمقته بذهول، ثم شهقت قائلة بحدة مصطنعة:
– إنت عرضت على سراب الجواز من غير ما تقولي؟!
انفـ ـجر الجميع ضحكًا بينما تراجع «عمرو» قليلًا، رافعًا يديه باستسلام:
– ما هي مردتش عليا يا ماما...
تلفتت «شيرين» حولها سريعًا، كأنها تبحث عن سـ.ـلاح مناسب، ثم أمسكت وسادة صغيرة وقذفته بها بقـ ـوة، قائلة بحدة ظريفة:
-قوم امشي... امشي يا عديم التربية!
قهقه «يحيى» وهو يتدخل بنبرة دافئة:
-خلاص يا أمي، امسحيها فينا...
لوّحت «وئام» بيدها، مشجعة بحماسة:
-لا يا ماما، اديله فوق دماغه!
التقط «عمرو» الوسادة من يد والدته، قبل أن يمسك يدها بحنان، ويطبع قبلة على كفّها وهو يبتسم بأسف:
-حقك عليا يا ست الكل... سامحيني...
ابتسمت «شيرين»، رمقته بنظرة متصنّعة التأمل، ثم قالت بتنهيدة درامية:
-هشوف رد سراب الأول... وبعدها أبقى أفكر أسامحك ولا لأ.
وتعالت الضحكات من جديد...
انتشرت همهمات العائلة في الأرجاء، أصوات خافتة تحمل خليطًا من التعليقات والضحكات، بينما ظلّت «شيرين» صامتة، تتأمل وجوههم واحدًا تلو الآخر. لم تكن بحاجة إلى الحديث، فملامحها وحدها كانت تقول الكثير.
مال «عمرو» نحوها قليلًا وقال بنبرة دافئة:
-متزعليش مني.
لمعت ابتسامة خفيفة على شفتيها، وربّتت على كتفه بحنان، قبل أن تقول بثقة ودفء:
-أنا عمري ما أزعل منك... ربنا يسعدك يا ابني، ويسعدكم كلكم يا ولادي.
لم يتردد «عمرو» في الإمساك بيدها مجددًا، وقبّلها بإخلاص، قبل أن يتمتم بعاطفة صادقة:
-ويدّيكي الصحة، يا ماما... إنتِ وبابا يا رب.
لكن اللحظة لم تكتمل...
اخترق صوتٌ حادٌ السكون، قادمٌ من الشارع، يهتف بصوت عالٍ، مليء بالاستعجال والرهبة:
-عــــــــمـــــــرو! عــــــــــامـــــــر!
نهض «عمرو» ليرد، بينما تسللت «شيرين» من بينهم وأشارت لـ «يحيى» ليتبعها إلى غرفة مجاورة.
أغلقت الباب خلفهما وهمست بلهفة:
-سألت؟
أومأ يحيى بتنهيدة طويلة وقال:
-كنت عارف الإجابة، بس روحت لجنة الفتوى مخصوص عشان أتأكد...
ازدردت ريقها وسألته بتوتر:
-قالولك إيه؟
نظر إليها بحزم وقال:
-لازم تقولي لتقى، يا أمي... عارف إنها خطوة متأخرة، بس لازم تعرف.
ارتجفت شفتاها، ورفعت يديها إلى صدرها كأنها تحاول تهدئة دقات قلبها المتسارعة، قبل أن تهمس:
-آه يا قلبي ياني... هقولها إيه بس يا يحيى؟ عامر مش بيخلف، وأنا كنت عارفة وخبّيت عليها... فات الأوان يا ابني.
ساد الصمت للحظة، قبل أن يطرق يحيى برأسه ويمرر يده على وجهه، ثم قال بنبرة هادئة لكنها حاسمة:
-مش عارف أقولك إيه يا أمي... بس لازم تعرف، ولو مش قادرة خلي وئام تقولها.
هزت شيرين رأسها بعناد، وعيناها تلمعان بدموع حبستها:
-لا... لا، أنا مش هقول لحد... وانت كمان مش هتقول، مفهوم؟ الطب مش دايمًا بيكون عنده إجابة لكل حاجة، يمكن ربنا يرزقه... يمكن تحصل معجزة... أنا هدعي لابني ليل ونهار، مش دعوة الأم مستجابة؟ ربنا مش هيخذلني، مش هيخذلني...
أراد أن يعترض، أن يقول لها إن الأماني وحدها لا تغيّر الحقائق، لكنه رأى إصرارها، فزفر بيأس وحاول اقناعها:
-بس يا أمي...
قاطعته بحدة، وقد جففت دموعها بسرعة كأنها ترفض حتى الاعتراف بها:
-مفيش "بس" يا يحيى! ملكش دعوة، ومتخلّينيش أندم إني حكيتلك!
استدارت بسرعة واندفعت خارج الغرفة، بينما تبعها يحيى مُطلقًا تنهيدة طويلة، لكنهما لم يدركا أن هناك أذنين، التقطتا كل كلمة، كان عليهما التأكد من خلو الغرفة قبل أي حديث...
استغفروا 🌸
★★★★★
كانت «سراب» تجلس قبالة «البدري»، الذي كان يُحدّق في التلفاز بشرود، بينما عيناها مسمّرتان على شاشة هاتفها، تتصفح بلا تركيز.
ابتسمت لا إراديًا حين تذكرت هديته... خاتم رقيق يزين إصبعها، تأملته للحظة، ثم رفعت يدها تتحسس السلسلة الفضية حول عنقها، حيث الاسم المنقوش على ظهرها بالإنجليزية: "عمرو".
نظرت إلى شاشة هاتفها من جديد، حيث لا تزال رسالته الأخيرة عبر الواتساب معلقة أمام عينيها منذ ساعات:
"لو موافقة، ابعتي صورة وإنتِ لابسة الخاتم، وأنا هفهم."
صورت يدها عدة مرات، كانت على وشك إرسال الصورة... لكنها في كل مرة، تتوقف.
قطع صوت «البدري» أفكارها:
-رنّي كده على بدر يا سراب، عشان أقوله يجيبلي معاه العلاج.
رفعت رأسها ببطء، كأنها انتُزعت من شرودها، رمشت مرتين قبل أن ترد بصوت هادئ:
-حاضر يا جدو.
اتصلت ببدر، لكنه لم يُجب.
كررت الاتصال مرة تلو الأخرى، لكن لم يُجب...
توقفت لحظة، تحدق في الشاشة، قبل أن تشعر بنظرات «تُقى» تخترقها من المطبخ.
كانت تراقبها بصمت، عيناها تحملان أسئلة لا تغفل عنها سراب.
طوال النهار كانت سراب تتفاداها، تهرب من أسئلتها ومن قلقها الذي يعكس حيرتها هي ذاتها بشأن عمرو.
لم تقل «تُقى» شيئًا، فقط أشارت لها بأن تأتي.
تنهدت «سراب»، وسارت نحو المطبخ بتثاقل.
وفي الخلفية، كان صوت «تُقى» يرتفع، كأنها تحاول جعل الأمور طبيعية بينما تنشغل بإعداد شيء ما:
-تشرب شاي يا خالي؟
جاء صوت «البدري» من الخارج، ثابتًا كعادته، دون أن يُشيح بنظره عن التلفاز:
-لا يا تُقى، اعملي أي عصير... حتى لو ليمون.
-من عنيا.
قالتها «تُقى»، لكنها ما إن خطت «سراب» داخل المطبخ، حتى جذبتها من ذراعها فجأة.
كانت عيناها تلمعان بإصرار واضح، وسألتها بهمس:
-احكيلي عمرو كلمك إزاي؟ وإيه اللي حصل؟ وإمتى؟
تملصت «سراب» من قبضتها بلطف، لكن أنفاسها لم تكن مستقرة.
همست بنبرة متوترة، تحاول إنهاء الحديث قبل أن يبدأ:
-مش وقته... اعملي لخالك عصير.
لم تمهل «تُقى» فرصة للرد، فقد استدارت فجأة نحو الشرفة عندما سمعت صوتًا ينادي من الخارج:
-عمرو! عامر!
على الجانب الآخر
-الحقوا أصحابكوا! الناس بتقول لقوهم سايحين في د**مهم وخدوهم المستشفى!
قالها الشاب، فتجمد «عمرو» للحظة، وتبادل نظرة سريعة مع عامر الذي وصل للتو، سأل عامر بقلق:
-مين أصحابنا؟
-نادر العميد... والشاب اللي ساكن قصادكم!
وفي الشرفة المجاورة
أطبقت «سراب» يدها على فمها، وشهقة مذعورة تفلتت منها، وهي تتمتم بهمس لم يُسمع:
-بدر!
ارتجفت أطرافها، وجف حلقها، لم تُمهل عقلها لحظة لاستيعاب الصدمة.
هرعت إلى غرفتها، انتزعت أول قطعة ملابس وقعت عليها يدها، ولفت حجابها على عجل...
عندما همّت بالخروج، اصطدمت بنظرة البدري المتفحصة، وسؤاله:
-رايحه فين يا سراب؟
تجمدت للحظة قبل أن تردّ بنبرة حاولت تثبيتها رغم ارتجافها:
-جايه اهوه يا جدو.
وقبل أن تغلق الباب، جاءها صوت تُقى القلق:
-رايحة فين؟
التفتت إليها «سراب» وهمست، تروي لها ما سمعت. قطّبت «تُقى» جبينها وقالت دون تردد:
-طيب، اصبري ثواني، هلبس وآجي معاكِ...
-هسبقك على تحت وإنتِ شوفي هتقولي لخالك ايه!
خرجت «سراب» من البناية، وقلبها يخفق بعـ.ـنف، وكأن صدرها لم يعد يتسع لأنفاسها المتلاحقة...
لم يكن لديها وجهة محددة، لكنها كانت تعلم أنها لا تستطيع البقاء ساكنة.
في نفس اللحظة...
انفتح باب بيت دياب بعجلة، وخرجوا...
كانت «نداء» مشدوهة، منذ سماعها كلام الشاب وهي تتمتم بالدعاء لأخيها «نادر»، ويدها ترتجف في كف «رائد»، الذي كان يحاول تهدئتها دون جدوى.
أما «عمرو» و«عامر» و«يحيى»، فوقفوا متجمدين، الصدمة مرسومة على ملامحهم وهم يطالعون «محمد»، الذي كان يتأهب لقيادة سيارته، وعينيه تحملان توترًا خفيًا.
هرولت إليهم سراب، وخرج صوتها مندفعًا:
-أنا عايزة آجي...
رفع «يحيى» يده كأنه يحاول كبح اندفاعها:
-تيجي فين؟ اقعدي بس وهنطمنك.
طالعت «عمرو»، وعيناها تلمعان بدموع متحفزة للسقوط، همست برجاء، وبصوت مهتز:
-خدني معاك يا عمرو؟
كان يعلم أنه لن تتراجع لذا قال:
-ماشي تعالي...
وصلت «تُقى»، والقلق يشع من عينيها. قبل أن تنطق، أقبل إليها «عامر» يسألها مباشرة:
-خالك عرف؟
هزّت رأسها نافية، قبل أن تسأل بلهفة:
-هو إيه اللي حصل؟
قاطع «يحيى» الحديث سريعًا:
-أنا هروح أركب مع محمد، وحصلونا...
ثم ركض نحو السيارة التي انطلقت بسرعة ما أن صعد إليها..
بينما مسحت «سراب» وجهها بكفها في محاولة لتثبيت أنفاسها، لمح «عمرو» وميض الخاتم في إصبعها، لكن لم يكن هذا وقت الأسئلة، لم يكن هذا وقت أي شيء سوى الذهاب...
-يلا...
قالها «عمرو» بصوت حازم، فبدأوا بالسير، قلوبهم تضـ ـرب بقـ.ـوة في صدورهم وخطواتهم واسعة متوترة، تسللت يد «عامر» برفق نحو يد «تُقى» وقبض عليها، كأنه يثبتها، وكأنه يطمئن نفسه قبلها...
أما «سراب»، فكانت تسير جوارهم، لكنها في وادٍ آخر... عقلها يرسم أسوأ السيناريوهات الممكنة، وقلبها يرفض تصديق أي منها.
استقلوا تاكسي، واتجهوا نحو المستشفى...
بدا الطريق أقصر مما ينبغي، لكن خنقهم بالترقب.
وصلت سيارة محمد أولًا ثم التاكسي بعدها مباشرة...
وعندما عبروا أبواب المستشفى، وقعت أنظارهم عليه...
كان «بدر» يسير جيئة وذهابًا، نظراته شاردة، يداه تنقبضان وتنبسطان في قلق، وجهه يحمل ألف سؤال، ولا إجابة واحدة...
تنفست «سراب» بارتياح لرؤيته، بينما هرول إليه الجميع يسألونه عما حدث، وهو يروي بثبات، حتى خرج صوت نداء مرتجف:
-نادر فين؟ أخويا فين؟
توقف «بدر»، رفع عينيه المثقلتين بالحزن ونطق بصوت خافت:
-في العمليات...
صرخت نداء وأطلقت العنان لدموعها فضمها رائد بينما مرر يده على وجهه، يمسح أثر الدموع التي لم يستطع اخفاؤها وهناك صداع ينشب داخل رأسه ولازالت الرؤية مشوشة قليلًا حتى الأصوات ترهق سمعه...
وضع «يحيى» يده على كتفه في محاولة لتهدئته، فأطلق «بدر» زفرة ثقيلة، ثم سأل بصوت متهدج، أقرب للاستسلام:
-هو أنا ليه بيحصلي كده يا شيخ؟
ربّت يحيى على كتفه مجددًا، محاولًا بث شيء من الثقة:
-اهدى يا بدر، ربك كريم.
وقبل أن يرد «بدر» شعر بالدنيا تميل من تحته، الرؤية صارت أكثر تشوشًا، الضوضاء تحولت إلى طنين مكتوم...
حاول أن يتماسك، أن يركز عينيه على أي شيء، لكن الأرض بدت وكأنها تهرب من تحت قدميه...
ثم، في لحظة... سقط.
ركض يحيى وعامر نحوه، بينما انحنت تُقى وسراب بفزع. كانت عينا بدر نصف مفتوحتين، أنفاسه متلاحقة، ونظراته زائغة، وكأنه يحاول أن يستوعب ما يجري.
-بدر! سامعني؟
قالها «يحيى» وهو يربت على وجهه، لكن بدر تمتم بكلمات غير مفهومة، قبل أن يغمض عينيه مجددًا.
صرخت سراب:
-حد ينادي دكتور بسرعة!
في غضون ثواني، رفعوه على نقالة، وبدأوا بفحصه بسرعة.
قال أحد التمريض:
-شكله ارتجاج في المخ، لأنه قالي إنه انضـ ـرب على دماغه.
قال أخر:
-هنحتاج نعمله فحص سريع.
تحركت النقالة داخل الممر الطويل، بينما أطبقت «تقى» يدها على فمها ودموعها تنهمر، فاقتربت «سراب» وضمتها في صمت وكأن عقلها لا يستوعب ما يحدث...
وبعد فترة
داخل غرفة الفحص، كان «بدر» ممددًا على السرير، عينيه مغمضتين، وأنفاسه منتظمة لكن وجهه ما زال متجهمًا وكأنه عالق في مكان بين الوعي واللاوعي.
وقف «يحيى» و«عامر»عند رأسه، بينما الطبيب يفحص الأشعة ويطمئنهم:
-الارتجاج بسيط، مفيش نزيف ولا كسر، بس لازم يفضل تحت الملاحظة النهارده... لما يفوق، ممكن يحس بصداع ودوار، فخلوه يرتاح.
هزّ «يحيى» رأسه بامتنان، ثم التفت إلى «بدر»، يراقبه بصمت...
كان الجو مشحونًا بالقلق، ليس فقط بسبب «بدر»، ولكن أيضًا بسبب نادر، الذي ما زال في العمليات...
وفجأة، انفرجت شفتا «بدر» بأنّة خافتة، ثم ارتجفت أصابعه قليلًا، قبل أن يتحرك ببطء، وكأنه يسبح في بحر ثقيل من الغموض.
فتح عينه اليسرى أولًا، ثم اليمنى، فوقع نظره على السقف الأبيض فوقه، ثم تحركت عيناه بتعب نحو الجالسين جواره.
تمتم بصوت مبحوح:
-نادر... فين؟
******
من ناحية أخرى
خرج الطبيب، من غرفة العمليات، فسأله رائد بلهفة:
-طمننا يا دكتور احنا أهل نادر؟
-متقلقوش مفيش أي إصابه في الأعضاء الداخليه، هننقله أوضه عاديه وهتقدرو تشوفوه... حمد الله على سلامته.
★★★★★
بعد فترة...
حين انتبه «نادر» شعر بوخز حاد في بطنه وهو يحاول التحرك، فاستسلم للألم وأطلق أنينًا منخفضًا. فتح عينيه ببطء على ضوء السقف الأبيض، كان كل شيء ضبابيًا للحظات قبل أن تتضح الرؤية تدريجيًا. تنقل ببصره بين الوجوه، ليجد نداء واقفة بالقرب منه، عيناها مليئتان بالقلق، بينما والدته تجلس على الجهة الأخرى، تراقبه بنظرة يغلبها الحزن والراحة في آن واحد.
ابتسمت والدته بحنان، قائلة بصوت متهدج:
-حمد الله على السلامة يا حبيبي...
كانت تنطق حرف الحاء هاء، فأغلق نادر جفونه للحظة، ثم تمتم بوهن وصوت خافت:
-أنا عايز... رحمة.
قطبت والدته حاجبيها وسألته بحنو:
-يا حبيبي إنت جعان! عايز لحمة؟ هعملك يا عيوني...
ازدرد «نادر» لعابه قبل أن يصحح بصوت أكثر وضوحًا:
-رحمة... عايز أشوف رحمة... رحمة صالح.
-مين دي؟
قالتها شيرين باستغراب، بينما وضعت «نداء» يدها فوق يده برفق، متفهمة، وقالت بصوت مطمئن:
-حاضر يا نادر، الصبح... إحنا قرب الفجر دلوقتي.
ساد الصمت للحظات، قبل أن يسأل «نادر» بصوت خافت، تتخلله لمحة من القلق:
-هو... إيه اللي حصل؟ وفين بدر!
حاول الاعتدال جالسًا، لكنه شهق خفية عندما لسعته آلام الجرح، فأرخى رأسه على الوسادة من جديد.
ربتت والدته على كتفه، وهمست بحزن:
-معلش يا بني... معلش يا حبيبي... منهم لله...
تقدمت «نداء»، قائلة بحزم وقلق:
-ريّح بس شوية يا نادر، متتكلمش دلوقتي... أنا هروح أطمن بابا بره.
استغفروا🌸
★★★★★★
مرت الليلة ثقيلة، بطيئة، محمّلة بالترقب.
لم يخبروا البدر سوى أن نادر تعرض لهجـ ـوم، وأنهم جميعًا معه في المستشفى، دون الخوض في التفاصيل...
أما خبر ارتجاج المخ، فلم يُشَع إلا مع إشراقة اليوم التالي، حين بدأ الناس يتنفسون الصباح، وخيم القلق على الجميع.
عاد «بدر» إلى البيت لكن ظل طريح الفراش، يلتزم بتعليمات الأطباء، فيما كان «عمرو» جالسًا جواره، يراقبه عن كثب حتى مرت أربع وعشرون ساعة كاملة.
ثم...
بعد يومين، أشرقت شمس جديدة.
ارتفعت في كبد السماء، تبث دفئها بقـ ـوة، حتى أن الهواء نفسه بدا مُشبَعًا بحرارتها، وكأنه يحمل بقايا التوتر العالق في الأجواء.
فتح بدر عينيه ببطء.
زفر بعمق، حين عادت إليه ذكريات ما حدث، وشعر بوخزة ثقيلة في صدره، وكأن شيئًا ما يضغط عليه بقـ ـوة، يجعله يختنق دون أن يدرك السبب تمامًا.
استغفر بصوت خافت، مرر يده على وجهه، ثم تأوه بصوت منخفض، قبل أن يعتدل جالسًا على طرف الفراش...
لم يكن مرهقًا فقط، بل كان هناك شيء آخر يثقله، شيء لا يستطيع أن يسميه بعد، بات يخشى ما تخبئه الأيام القادمة.
نادى على جده، لكن... لم يأته رد، الصمت كان الإجابة الوحيدة.
نهض بتثاقل، مشى في الغرف باحثًا عنه، لكن المكان كان خاليًا...
التقط هاتفه، طلب رقمه بسرعة، وبمجرد أن سمع صوته، سأله بلهفة:
-جدو، إنت فين؟
جاءه صوت الجد مطمئنًا، هادئًا كعادته:
-أنا عند تُقى تحت... هطلعلك حالًا.
أغمض بدر عينيه للحظة، ثم قال بنبرة أكثر هدوءًا:
-لا، خليك براحتك، أنا جايلك.
تنهد، ثم نهض أخيرًا، وتوجه إلى الحمام، فتح صنبور الماء، وغسل وجهه بالماء البارد، محاولًا تبديد آثار النوم عن ملامحه، لكن هناك شيء في داخله ظل مستيقظًا، يرفض أن يهدأ...
وعلى الجانب الآخر
صعدت «رغدة» الدرج ببطء، مترددة عند كل خطوة، وكأنها تسير فوق حقل ألغام.
كلما اقتربت، زادت ضـ ـربات قلبها، وازداد ترددها، لكنها كانت بحاجة للاطمئنان عليه... أقنعت نفسها أنه فقط من باب كونه مدرسها، لا أكثر!
هزت رأسها مستنكرة لا، لن تفعل.
استدارت على الفور، وهمّت بالنزول، لكن... في اللحظة ذاتها، انفتح الباب خلفها.
تجمدت، لم تتحرك ولم تلتفت أما هو، فوقف عند الباب، يراقبها لحظة صامتة، قبل أن ترتسم على شفتيه ابتسامة خفيفة، قال:
-إزيك يا رغدة؟
ازدردت لعابها بصعوبة، التفتت ببطء نحوه، ثم قالت بنبرة مرتعشة:
-إزيك يا مستر؟ آآ... أنا كنت طالعة فوق أجيب...
صمتت وعقلها يبحث عن أي مخرج مناسب، لكن قلبها يرفض الكذب، وأخيرًا، استسلمت.
خفضت بصرها، تمتمت بصوت متلعثم:
-بصراحة... آآ... أنا مبعرفش أكذب... كنت جاية أشوفك، بس كنت همشي و...
تنهدت، تحشرج صوتها، وسالت دموعها قبل أن تستطيع منعها، فأخذت تمسح وجهها بمنديلها المرتجف، بينما هو راقبها بحنان، وقال بابتسامة دافئة:
-أنا بخير والله... اهدي.
لكنها لم تهدأ، بل شهقت باكية، وواصلت تمتمتها من خلف شهقاتها:
-حضرتك... آآ... أنا مش وحشة يعني عشان جيت هنا... أنا بس كنت عايزة أطمن عليك وهمشي... أنا آسفة...
رفع عينيه نحوها، تأمل ارتباكها، ثم قال بصوت رخيم:
-والله عارف، إنتِ بنت محترمة وجدعة... بس بلاش عياط، اهدي...
وفجأة...
تناهى إلى مسامعهما صوت خطوات تقترب صاعدة الدرج، فارتبكت رغدة، بينما تصلبت ملامح بدر.
تقدما بحذر، يترقبان هوية القادم، ثم تبادلا نظرة متوجسة، فلا شك أن تلك الخطوات تحمل ما لا يُحمد عقباه.
يتبع
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا