رواية غرام الذئاب الفصل السادس عشر 16بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
رواية غرام الذئاب الفصل السادس عشر 16بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
#الفصل_السادس_عشر
#غرام_الذئاب
#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب
#ولاء_رفعت
يا من سكن قلبي، واحتل مساحاته كأنك خُلقت فيه ومنه،أما تعي كم أحببتك؟
لقد رأيتك في كل شيء، في ضوء الصباح حين يتسلل إلى غرفتي خفيفًا كهمسك،
وفي صمت الليل حين يثقل صدري باشتياقي إليك، وفي ارتجاف قلبي كلما مر اسمك أمامي عابرًا.
-أحمد الشريف & علا-
عادت تجر أذيال الصدمة، يتلاطم في رأسها صراع عاصف من الأفكار.
لم تستوعب بعد ظهور غريمتها من غياهب النسيان، ولا عودة هذه الأخيرة لتقتحم واقعها، فتُصدم بالنبأ الذي كاد يعصف بعقلها، زواج ابن خالتها بمن كانت لا تزال على متزوجة و لا تعلم، يا لسخرية القدر!
فتحت باب الشقة بخطى واهنة، فاستقبلها ظلام كثيف، يخترقه ومضة ضوء خافتة؛ كانت نقطة نار متوهجة تنبعث من لفافة تبغ تحترق على مهل، كما يحترق صاحبها جالسًا في انتظارها.
ترددت للحظة، ثم امتدت يدها المرتجفة تضغط زر الإضاءة، فإذا به أمامها، قابع فوق المقعد الهزاز، مائل الجسد، وعيناه تنظران إليها نظرة كفيلة بأن تبث الرعب في قلب أشجع الناس.
شهقت بفزع عميق، وأخذت تلتقط أنفاسها المبعثرة.
قال لها ونبرته تنضح بالهدوء القاتل الذي زاد من رعبها
"إيه مالك؟! شوفتي عفريت؟"
كانت عيناه ونبرة صوته وحدهما كافيتين لأن ينهارا أعصابها الواهية، فوق ما أصابها من أهوال ذلك اليوم.
تمتمت وهي تصد عنه بوجهها، تلوذ بالصمت الذي يسبق العاصفة
"ياريت تأجل أي خناق دلوقتي عشان مش قادرة أتكلم وعايزة أنام"
ومرت من أمامه بخطى متثاقلة، لكنه قبض على معصمها فجأة بقسوة، ألقى بما تبقى من لفافة التبغ داخل وعاء كريستالي صغير، ثم نهض عن كرسيه، واقترب منها بنظرات متوحشة، وقال بحدة
"أنا مش قولتلك قبل كده رجلك ماتعتبش باب البيت غير لما تستأذنيني، وتستني أقولك آه ولا لأ؟!، ومفيش خروج غير عند باباكي، وهي ساعة زمن وترجعي على طول؟!"
زفرت بسخط ظاهر، مما أوغر صدره اشتعالًا.
رفع معصمه أمام وجهها، مشيرًا إلى الساعة، واستطرد بغضب
"بقالك فوق التلات ساعات، وفي الفويس تقوليلي رايحة عند مامتك!"
أجابته بجفاف نافد الصبر
"آه، كنت عند ماما التلات ساعات، إيه عملت جريمة يعني؟!"
دفعها بعنف على الكرسي المجاور، ثم صرخ في وجهها
"كدابة، أنا لسه قافل مع باباكي، وقبل ما أسأله عنك لاقيته هو اللي بيسألني عليكي، معني كده إنك مكنتيش هناك، بتكدبي عليا ليه؟!، شايفاني **** ومش راجل قدامك؟!"
استجمعت بقايا كرامتها لترد عليه بحدة قاطعة
"إيه اللي بتقوله ده؟!، لو سمحت ما أسمحلكش تتكلم معايا بالأسلوب الفالجر، ولا تقول ألفاظ بتوع البلطجية والسرسجية اللي في الشارع"
اقترب منها أكثر حتى كادت أنفاسه الخانقة تلامس وجهها، وعيناه تشتعلان بشرر أسود، وقال ساخرًا
"بقيت بلطجي وسرسجي يا دكتورة رودينا عشان بسأل بقالك تلات ساعات برة البيت بتعملي فيهم إيه؟!، و ياتري كنتي بتقابلي مين؟!"
هبت واقفة، دفعت صدره بقوة وصرخت باكية
"إياك دماغك توديك لبعيد، كنت بتمشى وبغير جو، ارتحت؟!، اتخنقت من الحبسة وجو الخناق كل شوية، ومعاملتك اللي زي الزفت معايا، من أول ما اتجوزنا وأنا عايشة في عذاب"
تاهت عيناها على المنضدة الصغيرة القريبة، فوقعتا على طبق فاكهة وإلى جانبه سكين لامع.
اقتربت منه وهي تقول بمرارة تملأ صوتها
"استحملت منك كتير، لحد ما فاض بيا ومابقتش عارفة ألاقيها منك ولا من ماما، بدأت أدخل في مرحلة اكتئاب بسببكم، هقولك على حاجة أنا هريحكم مني خالص"
وفي لحظة جنون، اختطفت السكين، ووجهته نحو نحرها المرتجف قائلة
"هموت نفسي عشان ترتاحوا كلكم"
اتسعت عيناه في ذهول مرعب، ورفع كفيه مستغيثًا، يهتف بكل ما أوتي من رجاء
"سيبي السكينة من إيدك يا مجنونة"
ظلت تردد بهيستيريا، ودموعها تتساقط كأنها سيل جارف لا يعرف السكون
"مش إنت عايز كده؟!، أنا هخلصك مني"
استغل اضطرابها وفقدانها للتركيز، فدفع يدها الممسكة بالسكين دفعة حاسمة، فسقطت من يدها على الأرض، ثم ركل السكين بقدمه بعيدًا عن متناولها.
لم يتردد بل جذبها إليه بين ذراعيه، واحتواها كمن يحتضن زهرة أوشكت أن تذبل، وأخذ يربت على ظهرها في محاولات بائسة لتهدئتها
"اهدي، اهدي بالله عليكي، أنا مش عارف أتلم على أعصابي، آسف على الحالة اللي وصلتك ليها"
بدأ نحيبها يخبو رويدًا رويدًا، كأنما البحر الهائج قد بدأ يستكين، رفعت رأسها عن صدره، وعيناها الغارقتان بالدموع تتطلعان إليه في دهشة، كأنها لا تصدق أذنيها.
تمتمت بصوت منكسر
"إنت ممكن في تسيبني يا ياسين؟"
أشاح بنظره عنها للحظات، كأنما يهرب من سؤالها الذي فاجأه، ثم قال برفق
"تعالي جوه، ادخلي ارتاحي ونبقى نتكلم بعدين لما تبقي كويسة"
لكنها وقد أثقلها الألم واليأس، تمسكت به وهي تهمس بصوت خفيض متهدج
"مش قادرة أمشي..."
وكادت تسقط أرضًا لولا أنه أسرع وأمسك بها، رفعها بين ذراعيه دون تردد، وسار بها نحو الغرفة بخطوات ثابتة.
أنزلها برفق على الفراش وكاد أن يبتعد، لكنها أمسكت بيده، وعيناها الراجيتان تستجديانه بكل ما أوتيت من ضعف
"ماتسيبنيش... أنا خايفة أوي"
توقف وحدق فيها بدهشة مشوبة بالشفقة، وقال وهو يطالع ارتجاف جسدها
"خايفة من إيه؟"
لم تجبه بكلمات، بل كانت نظراتها المرتجفة وجسدها المنكمش يخبران بحاجتها الماسة إلى حنانه ودفء احتوائه.
تردد قليلًا كمن يصارع قرارًا داخله، ثم جلس أمامها، ومد ذراعيه ليعانقها.
التفتت إليه بكل كيانها، وغاصت في حضنه كمن وجد مأمنه بعد طول تيه.
ابتسمت خلف ظهره ابتسامة صغيرة لم يراها، وكأنها تحتفي بتحقق حلم من أحلامها.
استمعت إلى أنفاسه التي تعالت أثر العناق، فاعتزمت ألّ تجعل الأمر عابرًا كسحابة صيف.
مالت برأسها، وطبعت شفتيها برقة على عنقه.
ارتجف جسده تحت لمستها، فقامت بتقبيله لثوان، ثم توقفت تنتظر رد فعله.
التفتت إلى مرآة الزينة المقابلة، فرأت انعكاسه وقد أغمض عينيه، وكأنه قد غاب عن العالم.
رفعت رأسها عن كتفه، وتطلعت إلى ملامحه المستسلمة، ثم ترددت قبل أن تخطو خطوة أخرى؛ لكنها تذكرت كل مرة دفعها فيها عنه حين اقتربت، كل جفوة صدها بها، فاستجمعت شجاعتها، وطبعت قبلة خفيفة علي جانب شفتيه.
ألقت نظرة جديدة على وجهه، وفي تلك اللحظة، فتح عينيه فانقبض قلبها وجلًا، لكن مهلًا، لم يمهلها فرصة للتراجع؛ إذ انقض على شفتيها بقبلة جامحة، سحبتها إلى دوامة من المشاعر العارمة.
دفعها برفق إلى الفراش فاستلقت عليه، ومازال يقبلها بجنون حتى أوشك الهواء أن ينفد من رئتيهما.
ابتعد عنها قليلًا، نهض بجسده ليمنحها فرصة لالتقاط أنفاسها، لكنها نظرت إليه برجاء صامت ألا يتركها.
مد أطراف أنامله يلامس بشرة خدها المتوهجة بحمرة الرغبة، وهبط بأنامله الرقيقة على طول عنقها، وعيناه تتبعان كل حركة لها بنهم كالغارق في بحر الملذات.
توقفت أنامله عند مقدمة ثوبها، ثم رفع بصره إليها فالتقت عيناهما في إشارة صامتة، اعطته الموافق عبر نظراتها بأن يفعل ما يشاء و ما يحلو له.
لحظات معدودات، وكان ثوبها مخلوعًا وملقى على الأرض، يتبعه قميصه ثم بنطاله و كل ما يتبعهم من ثيابهما، فقد تحررا من كل عائق.
ذاب الجسدان في محيط من اللذة، حين فصلا وعيهما عن العالم المحيط، واستسلما لذلك الإغراء العذب الذي لا يقاوم.
❈-❈-❈
أسرعت الخطى إلى حيث يرقد طه، الذي تنبه لوقع خطواتها المتسارعة، فسارع إلى إخفاء هاتفه أسفل الوسادة، وتظاهر بالنوم.
إلا أنها لم تُخدع؛ دفعت ذراعه بلطف حازم وهي تهتف
"ألحق يا طه، قوم شوف الكارثة"
انتفض من مكانه مذعورًا، عاقدًا حاجبيه وهو يسأل بفزع
"كارثة إيه بس لا قدر الله؟"
ناولته هاتفها قائلة بإلحاح
"خد موبايلي، اقرأ بنفسك"
أخذ الهاتف، وما إن توغل في قراءة المنشور حتى تغيرت ملامحه، وخيم الحزن والغضب على قسماته، هتف بامتعاض
"إزاي حصل ده؟"
نهض من على السرير، وبتصميم ظاهر قال
"حضري لي طقم هدوم عقبال ما آخد دش، هاروح لهم على القصر"
تعلقت به بنظراتها وسألته برجاء
"أغير هدومي وأجي معاك؟"
أجابها بلهجة آمرة، وقد انعقدت الدهشة والصرامة في صوته
"اقعدي يا شيماء، يعني هتسيبي العيال لوحدهم، اقعدي ذاكري لهم ولا اعملي حاجة مفيدة"
استشاطت غيظًا وهتفت
"بتزعقلي يا طه؟"
لكنه حسم الموقف بحدة لم تقبل الجدال
"مش وقتك يا شيماء، روحي يلا اعملي اللي قولتلك عليه"
استوقفته فجأة، قبل أن يدلف إلى الحمام، وصوتها يحمل مزيج من الجد والسخرية
"بقولك، هو يعني ألف بعد الشر عليا، لو حصلي زي مرات ابن عمك، هتقلب الدنيا عشاني زي ما عمل ليها؟"
توقف ثم وضع يديه على كتفيها ونظر في عينيها، وابتسم ابتسامة ماكرة، ظنت للحظة ستكون بداية لاعتراف رقيق، فإذا به يقول وهو يتصنع البراءة
"يا سلام يا شوشو، ده أنا هافضل أبعت للي خاطفك جواب شكر كل يوم، وهادبح عجول وخرفان وأوزع لحمتهم لله"
اتسعت عيناها صدمة، فسألته وقد بدا على وجهها مزيج من التهديد والحزن
"أنت قد كلامك ده يا طه؟"
حين رأى ملامحها المتغيرة، ارتبك قليلاً وحك فروة رأسه، ثم أسرع بتصحيح الموقف، مجاهدًا رسم ابتسامة اعتذارية على محياه
"إيه يا حبيبتي، مالك قفشتي ليه؟!، كنت بهزر معاكي، أنا مقدرش أعيش من غيرك، أومال مين اللي ينكد عليا قصدي يرسم البسمة على شفايفي، ولا مين يرفعلي الضغط قصدي يرفعلي هرمون السعادة غيرك يا شوشو"
عقدت ساعديها أمام صدرها، ونظرت إليه بعينين نصف غاضبتين، نصف ضاحكتين، وقالت مهددة بنبرة ساخرة
"طيب، قوم يا قلب شوشو خدلك دش ولم نفسك، بدل ما كان هيبقي حموم، هخليه لك غُسل يا نور عيني"
تقهقر بخطواته إلى الوراء، وهو يلوح بيديه قائلاً
"لاء وعلى إيه، الطيب أحسن، و حسبي الله و نعم الوكيل، وربنا على الظالم والمفتري"
وما لبث أن فر هاربًا من أمامها، فتبعته بضحكة خافتة، ثم تمتمت بكلمات حملتها الريح إلى قلبها وحده
"ألف بعد الشر عليك يا حبيب روحي وقلبي، ده أنت اللي مصبرني على الدنيا من بعد اللي جرالي، ومابقاش ليا حد غيرك، يارب، يارب يباركلنا فيه، ويبعد عنه كل شر، ويبعد عنه شياطين الإنس والجن، خصوصاً الشيطانة اللي ساكنة جمبنا"
"آمين"
عقب من بعدها فشهقت بفزع، إذ التفتت خلفها فوجدته واقفًا، أخذت تلتقط أنفاسها المتلاحقة، وقد تصاعدت كأنها تحمل نبض قلبها بين أضلاعها.
قالت بصوت مضطرب
"حرام عليك يا طه، قلبي كان هيوقف من الخضة"
ابتسم في دلال، ثم جذبها من خصرها برفق محب، وقد تلألأت عيناه بوميض عشق دفين، وهمس في أذنها قائلاً
"بعد الشر علي قلبك، قوليلي بقى الكلام الحلو والدعوات اللي خطفت قلبي كلهم ليا؟، معقول بتحبيني أوي كده؟"
حدقت في عينيه، وقد انسكب من نظراتها سيل من العشق لا يعرف للحدود سبيلاً.
مالت نحوه، وهمست بشغف تغلفه رعشة الوله
"كلمة حب دي قليلة على اللي جوايا ليك يا طه، أنا عارفة إني مجنونة ومتهورة أحيانًا، بس كل ده بيبقى بدافع حبي ليك ومن غيرتي عليك"
ضحك بخفة، وربت على خدها بحنو بالغ، ثم أردف
"ده أحلى جنان، وعلى فكرة أنا بتبسط أوي لما بشوف غيرتك عليا، أي نعم بتقلب في الآخر على دماغي، بس بيبقى على قلبي زي العسل"
نظرت إليه بعينين تشعان لهفة، وقالت وهي تغمره بعناق دافئ
"بجد يا سي طه؟"
"جد الجد يا قلب طه"
قربت شفتيها من أذنه وهمست ك بحب يكاد يفيض من روحها
"بحبك أوي يا حبيبي، يا أبو عيالي"
ربت على ظهرها بيد غلفها الحنان ثم مال عليها وهمس بنبرة لا تعرف للحياء طريق "حبيبك وأبو عيالك بيقولك عايزك تحميه"
ضحكت بخفة ودفعته برفق في كتفه "عيالك قاعدين بره، عيب"
ابتعد عنها وألقى بالمنشفة على كتفه، نظر إليها نظرة ماكرة وقال بمزاح يعرف أن عواقبه لن تمر بسلام
"عيب!، خلاص هاروح أخبط على روميساء أشوفها فاضية تحميني ولا لأ، وهي بصراحة ما هاتصدق"
ما إن ألقى كلماته حتى ولى مبتعدًا، فتبعته ركضًا وصاحت بصوت غاضب مازجته نغمة من الدلال
"مين يا عينيا؟! إنت اللي جيبته لنفسك يا حبيبي، مش بقولك شكله هيبقى غُسل مش حموم"
لحقت به ودلفت خلفه إلى الحمام، وأوصدت الباب بإحكام من الداخل.
وسرعان ما صدحت من خلف الباب صرخات طه، تتبعها ضحكات زوجته المنتصرة.
ارتفع صوتها، وهي ترد ضاحكة بانتصار "طلبتها ونُولت يا حبيبي، صوت كمان وكمان، خلي العفاريت تلبسك و أنا اللي هاطلعهملك من جتتك برضه"
وفي الخارج، جلس صغيرهما يتطلع بفضول إلى شقيقته، وهمس متسائلاً
"هو بابا بيصوت ليه في الحمام؟ ماما بتعمل فيه إيه؟"
أجابته شقيقته وهي تهز كتفيها غير مبالية
"بالتأكيد استفزها، وإنت عارف ماما لما حد ينرفزها، ما بتشوفش قدامها"
وضع الصغير يده على مؤخرة رأسه، يتلمس أثر ضربة ما زالت مطبوعة عليه، وقال متنهدًا
"فعلاً عندك حق، دي لسه صوابعها معلمة على قفايا من يومين لحد دلوقتي"
ضحكت شقيقته، ثم مالت عليه تحذره هامسة
"ركز في الأسئلة وجاوبها كلها صح، قبل ما ترجعلك وتعلم صوابعها على قفاك ووشك"
وما كادت تكمل عبارتها، حتى تعالى صراخ والدهما مجددًا من خلف باب الحمام
"كفاية يا شيماء، كفاية يا مفترية"
❈-❈-❈
كان واقفًا تحت تدفق الماء، كمن يحاول غسل خطاياه بماء لا يطهر ولا يغفر.
أسند جبينه المنهك إلى الحائط البارد، يستند كفاه على الحائط، وقد عاد إلى واقعه المرير، ينهشه الندم نهش الذئب لفريسته.
أي ضعف هذا الذي اجتاحه؟!
أي خيانة تلك التي ارتكبها في حق قلبه قبل أن تكون في حق عهوده؟!
كيف سمح لنفسه أن ينسى مليكة فؤاده، أن يغدر بذكراها، ولو كانت قد فارقت دنيا الناس، فهي ما تزال تنبض في عمق روحه حية، عصية على الفناء؟
اختنق؛ اختنق من نفسه، من جسده، من ذلك الضعف الذي سحق كرامته تحت أقدام الرغبة العابرة.
وفي الخارج، كانت ممددة فوق الفراش، يعلو صدرها وينخفض تحت وطأة أنفاس مضطربة، وقد تدثر جسدها حتى كتفيها العاريين، تحاول عبثًا أن تستوعب ما جرى، كأن اللحظات انفلقت عنها فكانت بين تصديق وذهول.
لحظة سعادة خاطفة لامست قلبها، انعكست على شفتيها المرتعشتين، لكنها سرعان ما ذبلت حين تسللت إلى ذاكرتها صورة زوجته الأولى، كطيف ثقيل الظل.
تقلصت ملامحها، واندلعت نظرة تتميز بالخبث والدهاء، وتحد في عينيها، همست في عقلها، كمن يقسم وعدًا لا رجعة فيه
"ياسين من حقي أنا وبس... وزي ما امتلكته النهاردة، بكرة هامتلك قلبه كله"
ببطء ونهم لا يخلو من نصر خفي، نهضت وهي تشد الدثار حول جسدها بانتصار. التقطت المنشفة القطنية، ولفتها على عجل حولها.
خطت نحو الحمام، وقلبها يدق بعنف لا تدري له تفسير.
طرقت الباب طرق خافت، انتظرت... فلم يجبها سوى صوت اندفاع المياه.
ابتسمت ابتسامة متشفية، مدت يدها إلى المقبض، وأدارته بخفة، ولجت إلى الداخل.
كان أمامها غارقًا تحت سيل الماء، ظلت تتأمل جسده، عضت شفتها السفلى بخجل عابر تلاشى حين خلعت منشفتها وأسقطتها عند قدميها، هيهات وخطت بخطوات مترددة نحو الكابينة، تسللت إلى الداخل، وقفت خلفه واقتربت تطوقه من ظهره بذراعيها المرتعشتين.
لم يشعر بها؛ كان لا يزال سجين خياله القديم، يعيش ذكرى عناق ياسمينته التي لا تموت في قلبه.
استدار ببطء، وعيناه مغمضتان كمن يسير في حلم مستحيل، ثم احتواها بين ذراعيه، يقبلها بنهم ظمآن.
دفعها برفق قاس نحو اللوح الزجاجي، ولا تزال شفاهه تطبع على جسدها قبلات تائهة، تبحث عن ماض ضائع.
تأوهت تأوهًا واهيًا،انتبهت إليه مسامعه و ايقظته من غفلته، فجأة انفجرت في روحه جراحه كلها.
توقف عن ما يفعله، فتح عينيه فجأة كمن يفيق من غيبوبة ورأى الحقيقة المرة.
ما بين ذراعيه، لم تكن ياسمينته، لم تكن روحه القديمة... إنها رودينا.
وكأن ما حدث بينهما منذ قليل و ما تم قبلها لا وجود له، جحظت عيناه فجأة، واحمرت أوداجه كمن باغته لهيب، صاح بها صوته الأجش الغاضب، كالرعد الجهوري في وادٍ مقفر
"إيه اللي دخلك عليا وأنا بستحمى؟!"
تخثر الهواء حولها وانكمش جسدها من الذعر في زاوية، ابتلعت ريقها وكأنها تبتلع مرارة العالم بأسره.
تاهت قدماها ولم تجد لها مهربًا إلا أن ألصقت ظهرها بالزجاج البارد خلفها، علّ صقيعه يُطفئ الحريق الذي اشتعل في وجنتيها، اخبرته بتوتر كسير كأنها تذرع الصبر لديه
"أنا لاقيتك اتأخرت، دخلت أطمن عليك، و كمان وحشتني"
رمقها بنظرة حارقة، ثم سرعان ما توترت ملامحه حين أبصرها عارية تمامًا أمامه، فانقبضت أهدابه، وأغلق عينيه بقسوة من يسد طريق الفتنة قسرًا، وأطلق أمره الحاد قاطعًا ما تبقى من خيوط الرحمة
"ثواني وهفتح عيني، ألاقيكي اختفيتي من قدامي"
انغرست كلماته كسهام مسنونة في قلبها، وأدمت كرامتها الغضة.
شيء ما في داخلها انكسر، شيء عميق لا تداويه الأعذار ولا يُرمم بالندم.
كيف غفلت عن حقيقة أنه حين ضمها يومًا، لم يكن يراها بل كان يعانق أطياف ماضيه، يستدعي شبح زوجته الغائبة، وهي المسكينة لا تدري.
أي غفلة تلك التي جعلتها تفتح له قلبها، وتترك له جسدها، وكأنها تفرش عمرها سجادة تحت قدميه، ليعبر فوقها نحو ذاكرته لا نحوها.
بخطوات أثقلتها الخيبة، انسلت من الكابينة، تجر جسدها الذي ارتعد من البرد والقهر.
تناولت منشفة مطوية بعناية فوق الرف، ولفت بها عريها، كأنها تحتمي من سيف الاحتقار المسلول فوق عنقها.
وخلال بضع ثوان، كانت قد خرجت من الحمام، تجر وراءها خيوط انكسارها.
❈-❈-❈
منذ يومين، لا يكُف هاتفها عن الرنين منذ أن تركها لم تكن صبا نائمة كما ادعت، بل كانت تراقب شاشة الهاتف بعينين زجاجيتين، تتجاهل صوته كما يتجاهل القلب نداء مَنْ أوجعه. تعمدت أن لا ترد كما تعمدت أن تبني بينهما جدارًا من صمت لا يهدم.
وكلما ذهب لزيارتها في قصر والدها، كانت الأبواب تغلق في وجهه بلطف مزيف، وحجّة جاهزة من حماه يخبره إنها نائمة بعد أن تناولت المهدأ كما يذكره بوصايا الطبيب أن لا يزعجها أحد خاصة من يؤثر علي حالتها النفسية بالسلب.
لكن قصي قد ضاق صدره بالصبر، علم من أحد رجاله أنها ستذهب إلى الشركة صباحًا.
لم يضيع وقت، سبقها إلى هناك وجلس داخل مكتبها مستندًا إلى مقعدها، يملأه الحنين والغضب والعتاب في آن واحد.
و في بهو الشركة تتحدث مع زوجة والدها
"لسه واصلة حالًا يا چيچي، ما تقلقيش عليا"
"طب خدي بالك من نفسك و ياريت ماتعرضيش لنفسك لأي ضغط نفسي أو ضغط الشغل"
"حاضر اطمني، خدي بالك أنتي من زوزو و مالك لما يرجع من المدرسة خليه يخلص الـ homework بتاعه"
"تمام يا حبيبتي، اسيبك تشوفي شغلك و هابقي اتطمن عليكي كل ساعة، سلام"
"باي"
دلفت إلي المصعد و ضغطت علي رقم الطابق، و ها هي قد وصلت ، تحمل أوراقها وتدون شيئًا في هاتفها، وما إن رفعت عينيها حتى تجمدت خطواتها، وانبعث الغضب في قسمات وجهها كبركان قُدر له الانفجار.
سألته بصوتٍ حاد
"إيه اللي جابك هنا؟"
ابتسم هو بهدوء متعمد وكأن ما يقوله لا يحمل من الخطورة إلا ما يوحي به صوته من برود
"جيت أطمن على حبيبتي اللي ما بتردش على تليفوني، وكل ما أروح أشوفها ألاقيها نايمة وتعبانة"
لم يكن من الصعب عليها أن تفهم ما يرمي إليه، نظراته كانت تصرخ باتهام مبطن، وعيناه تكشفان أنه يعلم يقينًا أنها تتجاهله عن عمد.
ردت بحدة وقد اشتد العبوس على وجهها
"أيوه، أنا ماكنتش عايزة أرد عليك، ولا أشوفك أصلاً، واتفضل اخرج من هنا، عشان عندي شغل كتير ومش فاضية، ولا عندي طاقة أتكلم"
كان يدرك تمامًا أن غضبها ليس عابرًا، وأن الصفح لن يكون قريب المنال، ومع ذلك تجاهل لهجتها، كأنه يراها طفلة تتدلل بحنقها.
نهض من خلف المكتب ووقف أمامها، واضعًا يديه في جيبي بنطاله، ونظر إليها بعين هادئة وقلب ملتهب
"هي ساعة زمن، نروح فيها أي مكان، وأرجعك على هنا تكملي شغلك"
رفعت حاجبها في إصرار صارم، و ردت بقوة
"لاء، عندي meeting مهم، وما ينفعش أتأخر على الناس اللي المفروض يكونوا موجودين دلوقتي"
وقبل أن يعلق أو يضيف، سمعت طرقات خفيفة على باب المكتب، أعقبها دخول المساعدة التي اخبرتها
"مدام صبا، الوفد التركي وصل"
ردت الأخرى بنبرة رسمية
"خمس دقايق، وخليهم يتفضلوا"
أومأت المساعدة برأسها وانصرفت، فالتفتت صبا نحو قصي وقالت بحدة
"عن إذنك"
ظل يُحدق فيها لثوان في صمت، حتى شعرت بالقلق من سكونه غير المعتاد. وفجأة تحرك نحو طاولة الاجتماعات، وسحب أحد الكراسي وجلس عليه كأنه صاحب المكان.
زمت شفتيها، وجزت على أسنانها من الغيظ، سألته بانفعال
"إنت بتعمل إيه عندك؟!"
أجابها بهدوء يُقصد به الاستفزاز
"زي ما إنتي شايفة، هاحضر معاكي الاجتماع"
رمقته بتعجب متصاعد
"وبصفتك إيه إن شاء الله؟"
قالها وهو يرفع رأسه بشموخ مفتعل
"بصفتي أولًا جوزك و حبيبك، وثانيًا وكيل أعمالك"
كاد صبرها ينفد، فاطلقت تعقيبها بحدة غاضبة
"قصي، أنا بجد ماعنديش ذرة واحدة صبر، غير إني مش عايزة أشوفك ولا أسمع صوتك، ارتحت بقى؟!"
لكن طرقات أخرى على الباب قاطعت هذا الاشتباك الحواري الحاد، ودخلت المساعدة من جديد وهي ترحب بأعضاء الوفد التركي.
❈-❈-❈
اعتادت منذ آخر لقاء بينهما أن حياتها أصبحت محدودة بين العمل في المنزل مع الخدم، وبين العناية بابنها.
هي التي اختارت هذا القدر، ولا تهتم إلا أن يعيش ابنها في سلام، حتى وإن كان ذلك على حساب حياتها الشخصية وسعادتها.
لذا كانت تتحاشى لقاء من يشعل فؤادها نارًا، تعلم جيدًا أنها قد ظلمت كليهما، لا سيما هو، بعد محاولاته المتكررة لإثبات عشقه الذي لم يجد إلا الفشل.
بينما هو، فقد أصبح يبتعد عن الأماكن التي كانت تحمل ذكرياتهما، ويتجنب رؤيتها حتى لا ترى ضعفه أمامها كلما تلاقت عينهما.
وكانت الآن تغرق في سبات عميق بعد ليلة طويلة من البكاء، احتراقًا في لوعة لا تنطفئ.
كيف لا وقد سمعت من خادمتين يتحدثان بصوت خافت حول أمر هز قلبها، أمر لم يكن في حسبانها، مهما ساءت الأحوال بينهما.
طرقات على الباب أزعجتها من سباتها، فاستفاقت بصعوبة، تقلبت في فراشها، وأمسكت بهاتفها لتكتشف إنه وقت الظهيرة.
نهضت ببطء وكأن ثقل الأيام يتراكم على جسدها، جمعت خصلات شعرها المبعثرة، ثم ألقت الوشاح على رأسها بعجلة غير مُرتبة.
فتحت الباب لتجد أمامها آخر من تود رؤيته، بالأحرى رؤيتها.
"إنتي لسه نايمة يا علا هانم؟!"
دخلت السيدة شيريهان الغرفة، وعينها تستعرض تفاصيلها المتواضعة كما لو كانت تفحص أثاث غرفة الخدم المتواضع.
لم تجب علا ولكن السيدة شيريهان ابتسمت ابتسامة ساخرة
"هو ده تمامك فعلًا، واللي يليق بيكي كخدامة"
نظرت الأخرى إليها بسخط، ثم قالت بلهجة حادة تشق الصمت
"ماتنسيش حضرتك الخدامة دي تبقى مرات ابنك الكبير، وأم أخوه الصغير"
غليت مشاعر الغيظ في قلب شيريهان، لكنها أظهرت ابتسامة كاذبة، وأجابتها بنبرة هادئة، لكنها مليئة بالغطرسة
"مجرد جواز مؤقت، لكن ابني هيتجوز اللي هاتليق بيه قدام الناس، ده أنا حتى معرفش إذا كنتي عارفة إن خطوبته النهاردة ولا لأ"
تجمدت علا في مكانها، كأنما صُعقت رغم أنها قد سمعت الخبر في الأمس، لكنها تظاهرت باللامبالاة، لا لتفشي ضعفها أمامها.
ابتسمت ابتسامة باهتة، في حين كان الألم يمزق قلبها بأشواك غير مرئية، وأجابتها بصوت مختنق
"ألف مبروك، هو يستاهل كل خير"
استطردت الأخرى بنبرة مليئة بالثقة
"هو فعلاً يستاهل كل خير، لأنه أحمد بيه الشريف، ابن الحسب والنسب، واللي يوم ما يتجوز بجد، تكون واحدة ماسبقش ليها الجواز قبل كده، وتكون كمان بنت ذوات يتشرف بيها"
ردت علا بكلمات هادئة، لكنها مشبعة بالسخرية اللاذعة
"كلام حضرتك مظبوط عشان كده بطلب منك، ياريت تقنعيه يطلقني، وكل واحد يروح لحاله، ويخليه مع بنت الذوات، وأنا وابني نعيش في وسط الناس اللي شبهنا"
ضحكت ضحكة سخرية مريرة، تلك التي لا تدع وراءها إلا صدى قاس يعكس حالة الفراغ الداخلي الذي تجرعت منه مرارة الأيام، ثم قالت وقد امتلأت عيناها بنوع من الازدراء والبرود
"أنا أتمنى يطلقك من كل قلبي، بس للأسف اللي ربطنا بيكي هو حفيدي، واللي بالمناسبة هو مننا، وإحنا الناس المفروض يعيش في وسطهم، يعني أنتي اللي ملكيش مكان هنا"
وبرغم تلك الابتسامة الزائفة التي ارتسمت على شفتي علا، كانت عيناها تغرقان في بحر من القهر والحزن، كأنهما تُخبئان أسرار لزمن بعيد، وكأنهما لا تعرفان كيف يخفيان الألم عن الأنظار، فقد تجلت قوتها في كلماتها عندما ردت على شيريهان بنبرة متزنة، لكنها مشبعة بالعزم والتحدي
"و أنا ابني يا شيريهان هانم عمره ما هيفارقني، زي ما حضرتك مش عايزة ابنك يفارقك وتعيشي حياة انتي اللي بتخططيها و بترسميها"
تجهم وجه شيريهان، وتحركت ملامحها وكأنها تحاول تحطيم رأس تلك العلا التي بالرغم من حالتها المزرية، ما زالت تقف أمامها وترد بكلمات مشبعة بالقوة والكبرياء، كبرياء أنثى لا تنحني تحت أي ظرف من الظروف.
"براڤو عليكي يا علا، كده فهمتي الأمور صح، كويس أوي، ابني مش هايعمل غير اللي بخطط ليه، وهو عليه التنفيذ، ووضعك الحالي هايستمر لحد ما تخلص فترة حضانة حفيدي، ووقت ما تخلص هخلي أحمد يطلقك، فياريت ما تتعشميش في حاجة تانية"
ثم همت بالذهاب، ولكنها توقفت فجأة وكأنها تذكرت شيئ هام، لتلتفت مرة أخرى وتقول، وكأنها تُلقي قنبلة في وجه هذه المسكينة
"و اه صح قبل ما أنسى، بالنسبة للي حصل ما بينكم في الشقة اللي كان واخدكم فيها، ده مجرد رغبة راجل في ست، مش نابع من حب زوج لزوجته، حبيت أنبهك وأخرجك من الوهم، يلا بقى ألبسي اليونيفورم عشان الشغل كتير النهاردة، عايزة حفلة خطوبة ابني الكل يحكي عنها"
ثم ألقت سهامها السامة، التي اخترقت قلب هذه المسكينة، كانت كالسكاكين التي تُدمي، وجعلت روح علا تشعر بثقلها، وكأنها طعنة في فؤادها، لتفقد التوازن وتغرق في بحر من التفكير.
ثم غلقت شيريهان الباب خلفها بقوة، وكأنها رسالة تخبر به الأخرى أن الأبواب أمامك كلها ستكون موصدة مثل باب تلك الغرفة.
❈-❈-❈
ثلاثة رجال أنيقين دخلوا بخطوات واثقة، بادرت صبا إلى استقبالهم بابتسامة رسمية تخفي وراءها قلقًا مكبوتًا.
قالت المساعدة وهي تشير إليهم تباعًا
"مستر كيفانش يلديمير، مدير ونائب عن مجموعة شركات دينيز فاشون، ومساعده مستر قدير، والمسؤول القانوني الأستاذ إحسان أوغلو"
اقترب منها أحدهم ــ كيفانش ــ كان متوسط الطول، يرتدي بدلة أنيقة لكن قميصه مفتوح يكشف جزءًا من صدره، يظهر منها سلسلة ذهبية تتأرجح على رقبته، وقرط ألماس يلمع في أذنه. ملامحه تحمل طابع أنثوي مبالغ فيه، مما جعل حضوره لافت، لكن ليس بالضرورة مُحبب.
قال وهو يبتسم بثقة زائدة
"رأيتكِ على شاشة الهاتف في حفل الافتتاح، لكن لم أعلم أنكِ في الحقيقة... أجمل بكثير، كثيرًا للغاية"
ترددت صبا للحظات قبل أن تمد يدها لمصافحته، كانت تدرك خطورة اللحظة، لكنها قررت أن تتمسك بالبروتوكول، ومضت تصافحه على مضض غير أن ما لم تتوقعه، هو ما فعله ذلك الرجل بعد المصافحة، إذ قرب يدها من شفتيه، وكاد يُقبّل ظهر كفها...
ولم تكن بحاجة إلى أن تلتفت لترى قصي، فقد شعرت بنيران غيرته تندلع خلفها، تُحاصرها من كل الجهات، تدرك تلك النظرات من قبل، وها هي الآن تُحدق فيها من جديد تترصدها، تنتظر فقط لحظة الانفجار....
كان جسد كيفانش يصطدم بالحائط أثر اللكمة التي تلقاها من قبضة هذا الأسد الضاري، صرخت صبا
"قصي، لاء"
لا يبالي لصرخاتها، اقترب من الزائر الغريب و قبض علي تلابيب قميصه و كاد يلكمه مرة أخرى، فامسكت صبا بذراعه تتوسله
"كفاية هايموت في إيدك وهانروح كلنا في داهية"
لم يشعر بنفسه وهو يدفعها بعيدًا كي لا تدخل، غير مدرك لدفعته القوية لها، مما سبب لها السقوط علي الأرض وارتطام مقدمة رأسها في حرف الطاولة، و بالرغم من جرح رأسها الذي تنسدل منه الدماء، كان كل همها ما تحمله في احشائها، وضعت يدها علي بطنها وبدأ يداهمها الألم فتأوهت باستغاثة.
ألتفت الجميع لها، وخاصة قصي الذي تفاجئ بما اقترفه دون وعي منه، دنا منها و حملها.
"حبيبتي ما أخدتش بالي، مكنتش أقصدك أنتي خالص"
ركض بها إلي الخارج، فاخبرته من بين تأوهاتها
"كلم بابا و چيهان بسرعة"
"أنا معاكي ما تخافيش"
وصل إلي سيارته، ادخلها في المقعد الخلفي، وذهب في مقعد القيادة علي الفور لينطلق سريعًا إلي أقرب مشفى.
❈-❈-❈
انتهت من ارتداء الزي، وكأنها قد اتخذت قرارها في سرها، قرارً يضع حد لتلك اللحظات التي تقتحمها على حين غفلة، بينما تتلاطم مشاعرها بين القوة التي تكاد تفتت من الداخل وبين ضعف لا تود الاعتراف به.
لم تعد قادرة على تحمل رؤيته مع أخرى، تلك الغصة التي تجتاحها كلما فكرت في الأمر، وكأنها تتنفس من بين شقوق الألم الذي يعصر قلبها.
خرجت من الغرفة بهدوء، وقد عزمت الأمر.
حينما لفت نظرها أحد العاملين وهو يحمل غلاف من القماش الأسود، فطنت على الفور إلى هوية ما يحمله، فاقتربت منه وسألته بلهجة تحمل ما بين كلماتها بعض من الحدة، لكن الصوت كان يكاد يخفي وراءه مشاعر متباينة
"هي دي بدلة البيه؟"
أجاب العامل، وقد بدا عليه التردد، لكنه أخبرها بحذر
"أحمد بيه قالي أطلعها من أوضته، لأنه بيخلص شوية شغل في الشركة، وهيجي علي ميعاد الحفلة"
ردت عليه وهي تشعر بثقل القرار الذي اتخذته، ولكن في عينيها كان هناك شيء من العزم
"عنك أنت، أنا هطلعها له بنفسي"
صمت العامل لحظة، حين علم أنها زوجة سيده، وكأن تلك الحقيقة جعلت الهواء يثقل من حوله.
بينما هي أخذت البدلة بين يديها، وواصلت صعودها إلى أعلى.
دخلت الغرفة في هدوء غريب، وكأنها لا تريد إحداث أدنى ضجة.
كانت الغرفة مظلمة، يكتنفها السكون، وكأنها تعكس حالة روحها المضطربة. اقتربت من حيث وضعت البدلة، وقامت بفتح سحاب الغلاف بهدوء شديد، حتى يتسنى لها رؤية تلك البدلة لتتأكد إنها من أجل حفل خطوبته علي أخرى بالفعل.
ظلت تنظر إليها بحزن، كما لو كانت تود أن تجد فيها إجابة لأسئلة لا تجد لها جواباً.
أخذت تتجول في الغرفة، خطواتها ثقيلة، وحركاتها بطيئة وكأنها تسير عبر الزمن، حتى توقفت أخيرًا عند الفراش. جلست على حافته، وتمكنت كفها من لمس مكان نومه، ذلك المكان الذي لطالما شاركته فيه.
أمسكت وسادته، وضمتها بين ذراعيها، كأنها تريد أن تستنشق رائحته التي لا تفارق قلبها، وهي تشمها بعمق انسدلت دمعة من عينها، كأنها تتسلل لتسقط على وسادته، وتحمل معها وجعًا لا يفارق قلبها.
تذكرت تلك اللحظة التي شاركته فيها الفراش في المنزل الآخر، كانت أجمل يوم عاشته، شعرت وكأنها تحلق معه بين النجوم، وتتمناها أن تكون اللحظة الأبدية التي لا تهبط إلى أرض الواقع.
لكن فجأة باغتها حديث والدته عن تلك الليلة، وظل يتردد في مسامعها كأنما يلاحقها في كل زاوية من قلبها.
تركت الوسادة، ومسحت عبراتها بأناملها الناعمة، ثم أخرجت ورقة مطوية وضعتها فوق الكمود، ثم أجرت اتصالاً هاتفياً و انتظرت رد الطرف الآخر، و سرعان ما تفوهت بحسم
"أنا موافقة"
كانت تعلم جيدًا أن هذا الاختيار ليس له حل سواه، لم تعد مكترثة لما سيحدث أو للنتائج المترتبة على ما ستفعله، فقد كانت قد اتخذت قرارها الذي لا رجعة فيه.
و في الأعلي داخل غرفة شيريهان، كانت تقف خلف النافذة و تنتظر أمر ما، صدح رنين هاتفها فاجابت علي الفور
"عملتي إيه؟"
اجاب صوت أنثوي
"كله تمام يا شيري زي ما قولتي لي بالظبط، و زي ما توقعتي، لسه مكلماني و قالتلي موافقة"
"تمام، و لو في أي جديد بلغيني علي طول"
"أمرك"
"سلام"
انهت المكالمة في هدوء، و تنظر نحو الخارج خلال زجاج النافذة بزهو و انتصار علي وشك الحدوث!
يتبع...
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا