رواية حصنك الغائب الفصل السابع عشر والثامن عشر بقلم دفنا عمر (حصريه في مدونة قصر الروايات)
رواية حصنك الغائب الفصل السابع عشر والثامن عشر بقلم دفنا عمر (حصريه في مدونة قصر الروايات)
الفصل السابع عشر:
----------------
عيناها ترصد رد فعله وهو يتذوق طعامها الذي أمرها بحكم لعبتهما أمس أن تطهوه مفردها..الجميع يراقبه بتشويق يمتزج بتسلية.. أما هو.. غرق بعالم أخر.. نكهة طعامها أشعرته بنشوى خاصة ومتعة أصبحت تعتريه وهو يكتشف كل أمر يخصها وميزة في شيء تتقنه وگ أن ابنة العم تتغلل بأفكاره وتحتله دون إرادته.. گ المجذوب.. وكما هي بارعة فيما صنعت.. كان عابد أبرع في مدارة انبهاره وهو يتمتم ممتعضًا: هو ده الأكل اللي بقالك ساعتين بتعمليه؟ أمي أكلها أحلى، تاخدي ستة من عشرة!
+
_ أنت كداب!
+
نعتته بالكذب حانقة وهي تواصل مع همسات الجميع المضحكة: أنت مش حاسس بنفسك يا ابني.. أكلت نص صينية البسبوسة بالقشطة.. وقبلها ضربت طبق بشاميل محترم وتقولي ستة؟! انا غلطانة اني طاوعت نصاب زيك!
+
_ وعقابًا علي كدبه.. هاخد انا البسبوسة
+
رمق عابد ياسين بحنق وتمتم وهو يجذب من يده الصينية:
ده بعينك.. محدش هيدوق منها أصلا.. أنا وهوندا بس اللي هناكل منها
ثم حدث زمزم قائلا: على فكرة انا أكلت عشان مافطرتش، وكمان مجاملة عشان خاطر صاحبي الصغير..بس تسلم ايدك ياستي.. يلا الكلمة الطيبة صدقة
+
وتركها مزبهلة والعم أدهم يضحك: سيبك منه ده معتوه.. بس المفجوع ابني أخد الصنية كلها
+
_ لا ماتقلقش يا عمو.. عاملة حسابي.. عملت صنيتين عشان الكل يدوقها.. كان قلبي حاسس بحركة الندالة دي!
+
تذوقها الجميع وقد بدا استحسانهم بما صنعت.. بينما ياسين تبع صديقه وراقبه وهو يطعم مهند ويأكل معه بتلذذ شديد.. فاقترب واضعًا كفيه بجيب بنطاله وعيناه تتفحصه قائلا:
+
_ من إمتى بتحب جوز الهند؟؟؟ طول عمرك مابترضاش تاكل أي حاجة داخل فيها ريحته!
+
ربما تُخفى عن الجميع دواخلك وتتقن وأدها.. إلا عن رفيق يستطع قرءتك گ خطوط كفه.. هكذا قرأ ياسين المسطور بقلب رفيقه..حاول عابد قدر استطاعته تضليله:
إيه ياعم كرومبو.. أصلا مش باين فيها ريحة جوز هند خالص..عشان كده عجبتني! وبعدين انت مالك أصلا!
+
لم يتخلى ياسين عن ملامحه الجادة مستأنفًا: مخبي عليا إيه يا ابن خالتي..؟
+
_ أنا مش فاهم مالك انهاردة دمك بارد ليه.. أنت مش نازل القاهرة يا ابني؟
_ نازل بكرة يا اخويا .. واحتمال اغيب شوية وماجيش ويك اند هنا.. أهو فرصة ارتاح منك!
+
واستدار مغادرًا ثم وقف وأدار عنقه قائلا: أصبر على البسبوسة ياصاحبي.. ماتستعجلش عليها ومايغركش مظهرها من برة.. لأنها من جواها لسه محتاجة تتماسك وتندمج عشان تتحد مع كيان تاني.... ثم واصل كلماته الغامضة: قصدي مع مكون تاني!
+
غاب عن محيطه بينما هو يطعم الصغير بشرود وكلمات ياسين تدور برأسه..ودون انتباه لم يطعم الصغير الذي ينتظر بفمٍ منفرج شهي، ولما طال شرود عابد.. أطلق الصغير أول نداء باسم رفيقه " آبد"..!
+
التفت عابد فور سماعه همهمة الصغير بدهشة وخيل له ان صغير لفظ أسمه، فقال ليتيقن: بتقول إيه ياحبيبي.. أنت ندهت عليا؟ طب قول كده تاني! قول عابد!
+
استجاب الصغير ببساطة بعد ان منحه ابتسامة خجولة متمتم بتلعثم محبب " آبد"..!
+
_ يا ابن اللذينا، بتنطق أسمه قبل أسمي.
+
التفت عابد لزمزم وهو يضحك بسعادة طاغية:
يعني سمعتيه وهو بيقول اسمي.. أول مرة يناديني!
+
وراح يحتضن الصغير ويقبله ويقذف جسده الصغير بالهواء ويعود ويتلقفه، والصغير يضحك كلما عاد الكَرْة مرددًا اسم عابد وگأنه أدرك أهمية ما قال من رد فعل الأخير..!
+
راقبتهما زمزم بعين شاردة وإحساس غيرة اعتراها وهي تتصور لو كان أسم زياد هو من لفظه الصغير أولًا، ورغمًا عنها تبدلت ملامح عابد أمامها وتجسدت به ملامح زوجها الراحل.. كأنه هو من يضحك ويداعب صغيرهما..!
فالتفت لها قدرًا وهو يرى نظرتها الغائبة.. ولأنه صار معها گ العراف يقرأ ويفسر ببراعة خباياها خمن مسار أفكارها وهي تطالعه.. أو بالأحرى تطالع فيه زوجها..!
+
طغى عليه الضيق وعاد يطالع الصغير الذي يطالبه بالمزيد من مداعبته.. فانغمس معه بوصلة مزاح أخرى حاول بها إخفاء شعور قاسي داخله.. ثم وصله همهمتها الخافتة:
+
_ مهند بيحبك أوي.. عشان كده نطق اسمك، وكده تبقى احتليت المركز التاني عن جدارة في المنافسة في قلبه مع بابا..!
رمقها بغموض: بس أنا متعود دايما اكون الأول يا زمزم! حتى لو جيت متأخر.. أوعدك إن خريطة قلبه هتتغير واكون الأول جواه!
+
نادرًا ما تراه يتحدث معها بكلمات غامضة وجادة.. اعتادته مازح أغلب الأوقات.. لكنها تغاضت عن تساؤلاتها وأخذت الصغير لتحممه وغادرت تحت أنظاره التي تابعتها وصوت أفكاره يهمس:
+
هل يمكن أن يتحدا ويصبحا كيان واحد ويمحي كل شيء قبله ويصبح الأول كما زعم أمامها منذ لحظات؟؟؟ ظل سؤاله معلق دون إجابة شافية..!
___________________
+
في واحد طالب يقابل حضرتك يا عاصم بيه"
أذن للفتاة المسؤلة عن تنطيم عبور العملاء إليه بالسماح لدخول من ذكرته!
+
_ السلام عليكم يا عاصم بيه!
+
ابتسم بود: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا استاذ ظافر، أهلا بيك شرفتني بزيارتك!
_ الشرف ليا أنا..! معلش جيت بدون معاد مسبق
ابتسم عاصم: معاد إيه أنت تيجي في أي وقت، اتفضل وقولي تشرب إيه؟
+
_ مافيش داعي انا مش هفضل كتير، جيت لسببين!
_ لأ ع الأقل نطلب فنجانين قهوة.. وأمر الفتاة بإحضارهما ثم التفت لظافر: على فكرة أنا جيت المطعم مع يزيد بس انت ماكنتش موجود!
+
عبر سريعًا طيف ذكرى رؤيتها بصحبته وكيف تجنب لقائها خوفًا من توتر الأجواء وأن يصدر منها تصرف شبيه بسابقه.. أما السبب الخفي كان شعور غريب بتأثير تلك الفتاة عليه بشكل لم يختبره قبلًا..! تأثير أربكه بالقدر الذي جعله يريد الهروب حتى يستجمع أفكاره! تنحنح نافضًا شروده القصير: عامر قالي، معلش كنت في مشوار.. ماليش حظ اشوفكم..!
أومأ عاصم برأسه: ولا يهمك.. تتعوض بعدين!
+
_ منا جاي عشان نعوضها بمناسبة حلوة!
عقد حاجبيه بتساؤل أفصح عنه: مناسبة إيه خير؟
+
ظافر بحذر يشوبه بعض التردد: قبل أي حاجة تسمحلي اسأل على بنت حضرتك؟ يعني عشان اللي حصل المرة اللي فاتت.. اتمني تكون حالتها افضل!
+
حدجه عاصم بنظرة ثاقبة برهة تمتم بعدها: بخير!
+
أوجسه نظرته الثاقبة واقتضابه فقال: أسف لو تطفلت بس
قاطعه: لا ابدا.. وبعتذر مرة تانية عن تصرف بنتي، زي ماقولتلك هي تعبانة شوية!
+
روى فضوله بسؤال أخر: هو إيه سبب حالتها دي؟!
لم يمنحه عاصم. سوى رد أخر مقتضب: يعني حاجة حصلت معاها من فترة!
هز رأسه باحباط لأنه لم يحصل ما بغيته، وأدرك تحفظ والدها ولم يشأ أن يكون فضولي واكتفى بغمغمة صادقة: ربنا يشفيها وواصل بحديثه:
+
واتمنى تقبل عزومتي لحضرتك انت واسرتك الكريمة عشان تشاركونا احتفالنا أول خميس من الشهر الجاي لأن هيكون مر على إنشاء الكافيه والمطعم بتاعي أنا وعامر سنتين الحمد لله وناويين نعمل احتفال مميز..فلو تشرفوني هكون مبسوط جدا.. وعشان نعوض المرة اللي فاتت، خصوصا إني عايز اعرف تقييم ورأيك للأصناف اللي هتتقدم، لأن في منها من ابتكاري الخاص!
+
تمتم بإعجاب واضح: ماشاء الله! مشروعكم عمره سنتين بس وازدهر كده؟ ومش بحسد والله بس حقيقي شيء يدعو للفخر لتجربة شباب زيكم؟! برافو يا ظافر، وواضح انك بتعشق مهنتك جدًا، مش مجرد مشروع مربح..!
+
_الحمد لله، أنا من زمان كنت محدد أدخل الكلية اللي حاببها وتعزز عشقي للمهنة دي..!
_ ومين السبب في حبك لطهو الطعام واحترافه!
+
_ جدتي الله يرحمها..كانت من أصول سوريا، عشان كده صممت المطعم بطراز دمشقي..وواصل استرساله بنبرة دافئة: كنت بحس ان جدتي دايما ليها نكهة خاصة في اي أكلة أو حتى مشروب بتعمله..وسألتها مرة، ليه نفس الأكلة لما بيعملها أكتر من شخص بنفس الطريقة، بتطلع بنكهات مختلفة رغم ان المكونات واحدة؟! ..وكان جوابها بقدر بساطته ابهرني!
+
وواصل باستمتاع والذكرى تطوف بعقله متخيلًا جدته الجميلة فضية العينين : قالتلي لأن الناس مزيج من النكهات الخاصة زي التوابل اللي بنستخدمها.. في اللي حامي زي الشطة الحمرة.. وفي البارد زي البابريكا.. وفيه الفواح زي القرنفل والحبهان
وفي الفرحان اللي طبقه بيضحك من جماله.. وفي الغضبان وبتتحرق أكلته زي دمه الفاير من غضبه.. باختصار الأكل بيتأثر بمشاعرنا وبيحس بيها..!
+
أهتم عاصم بحديثه الدافيء ومال على ظهر مقعده عاقدًا ذراعيه منصتًا باهتمام لحديث ظافر الذى اكمل استرساله الممتع:
+
كلام جدتي خلاني احب اكتشف العالم ده وهي اللي علمتني ازاي اعرف الأشخاص من اختيارات أكلها .. ولما بحثت واثقلت بحثي بدراسة وكورسات.. عرفت إن الطعام بيمثل هوية للإنسان وحضارة شعوب وبيدل على مدى تطورها.. عشان كده كل شعب له وصفاته اللي بتميزه عن غيره وبتحسسه بالأنتماء لوطنه.. بدليل أي مغترب عن بلده بيكون حريص انه يدور على أكلات معينة ريحتها بتنقله من مكانه وتزرعه وسط أهله وحبابيبه وبيحس بنفس الدفى!.. بيعيش في خياله نفس الذكرايات.. يعني باختصار "أكلات" كل شعب هي تراث صعب يتنازلوا عنه.. زيها زي الأثار القديمة اللي لا تقدر بتمن!
+
تألقت حدقتي عاصم بإعجابه لظافر وشاركه بذكرى له مع والدته متأثرًا بحديثه: تعرف إن لحد انهارده لما بشتاق لأمي الله يرحمها بطلب من دُرة أكلة معينة كانت دايما تعملها لينا.. ومجرد ما ادوقها أحس إن أمي قريبة مني.. تنهدا وابتسامة حنين تظلل شفتيه: كلامك فكرني بيها يا ظافر.. وحقيقي منبهر بعمق أفكارك ومعلوماتك عن اسرار مهنتك وحبك ليها..!
+
تنحنح الأخير: الله يرحم والدة حضرتك.. وأسف أكيد صدعت بكلامي وعطلتك عن شغلك!
+
هز عاصم رأسه نفيا : بالعكس.. انا استمتعت بكلامك لدرجة اني عايز معلومات اكتر، ولأول مرة هتخليني اجرب اقرأ في المجال ده، رغم ان ليا ميول محددة في القراءة!
+
_ لو حابب اساعدك باقتراحات معينة انا تحت أمرك..
ودلوقت اسمحلي استأذنك بس بأكد على حضرتك تاني دعوتي واتمنى تشرفني بحضورك!
+
_مش عارف اقولك إيه، المشكلة ان بنتي بتتوتر شوية من الزحمة وخايف اي تصرف منها يفسد أجواء احتفالك..
+
عاجله ظافر: مين قال كده؟ أنا مستوعب كويس إن الأنسة بتنزعج من الزحمة والصوت العالي، عشان. كده جهزت لحضرتك ركن مخصوص وهادي ليكم وللمهندس أحمد ويزيد.. خصوصا اني عامل فقراة بسيطة للأطفال والكبار كمان اعتقد هتبسط بنت حضرتك وانتم كمان هتقضوا سهرة مبهجة!
+
هتف عاصم باستحسان: شكله هيكون يوم مميز فعلا.. خلاص بإذن الله نحضر مادام مصمم!
+
تسربت الراحة لتقاسيم ظافر بعد أن أخذ وعدًا صريح وواصل بحماس: شكرا لحضرتك.. وبإذن الله يكون يوم. مميز بيكم!
+
وقبل أن يغادر ظافر، عاجله عاصم بسؤال طرأ على ذهنه بغتة: إنت منين ياظافر؟
+
_من المنصورة..!
____________________
+
_ هو ياسين اخوكي راح فين..؟
+
عطر وهي تلوك بعضًا من الفول السوداني الذي تحبه
_ قال هيعدي على خالتو وعابد!
+
_ وانتي ماروحتيش ليه معاه..؟
_ ورايا مذاكرة يابابا.. بس لو حضرتك روحت بالليل هروح معاك..!
_ ومالوا نروح كلنا بالليل نسهر معاهم.. التجمعات دي مابتتعوضش يا عطر.. ربنا يابنتي يديمكم لينا وتملوا حياتنا..!
+
نهضت وجلست على ركبتيه: ويحفظك لينا يا بابا..! إيه رأيك تشرب مُسكافة معاية؟
+
_ مُسكافة؟ لا يا قلب ابوكي بلاش..النسكافيه بيعلي الضغط والدكتور قالي اخفف من شرب الحاجات دي..!
+
قبلت خده: سلامتك يا روح قلبي!
+
_ يا سلام على السهوكة.. قومي من على رجل ابوكي.. العضمة كبرت ومايتحملكيش يا دبدوبة!
+
ضحك ناجي لجملة زوجته، فأغاظها أكثر: دي غزالة.. وقولتلك بطلي غيرة من بنتك!
+
فدوة بعبوس حقيقي: الغزالة بتاعتك دماغها ناشفة، وبتضيع منها فرص مش هتتعوض!
+
ادركت عطر أين يتجه حديثها، فنهضت من فوق قدمي أبيها، واستأذنتها وذهبت غرفتهما..!
+
فنظر ناجي لزوجته بضيق:
وبعدين معاكي يافدوة.. ده كلام يتقال؟..أنا بنتي ترفض اللي هي عايزاه.. إيه يعني بترفض العرسان.. دي لسه صغيرة.. وبعدين اوعي تكلميها كده تاني..عطر لسه بتكمل دراستها.. ليه نستعجل عليها.. كل البنات بتتجوز.. لكن مش كل بنت هتكون مهندسة وتحقق ذاتها زي بنتك اللي بتحبطي طموحها
+
باستنكار قالت: انا يا ناجي بحبط طموحها؟ يعني اما يجيلها ابن اكبر عيلة في المنصورة.. وعايز بس خطوبة وهيستناها اما تخلص..وهي ترفض مش ده رفص للنعمة؟!
+
_بنتي هي النعمة اللي خسرها.. وأنا عارف انتي هدفك إيه.. إنتي كل همك انها تبقى في المنصورة جنبك ومش تبعد عنك صح؟ انبسطي ان العريس قال هيسكنها معاكي في نفس البلد عشان كده زعلانة عليه..!
+
جادلته: ودي حاجة استحق عليها عقاب؟ وبعدين تنكر أصالة العيلة دي واخلاق الولد نفسه؟
+
دنى منها وقال: ده زينة شباب المنصورة.. وعيلته ونعم الناس والأصل! بس بنتي مش قليلة ومن حقها تحدد رغبتها.. في بنات بتفرح بالخطوبة وبتسعى ليها.. لكن بنتك طموحة.. عايزة تعمل كيان الأول.. دماغها عاقلة ودي حاجة تفرحك.. وبعدين يافدوة ماينفعش تضغطي عليها.. كده هتبعديها عنك وتعملي بينكم مسافة.. ثم ربت على ظهرها: عارف انك متعلقة بيها.. بس سيبيها تتنفس مكان ماتحب وزي ما تحب..زي ما اخوها بيقرر أمور حياته بدون تدخل مننا.. عطر كمان زيه!
+
تنهدت وهي توميء له بصمت عابس.. فشاكسها:
بس قوليلي.. وشك منور كده ليه وخدودك حمرة!
+
ضحكت وغزى وجنتاها حُمرة الخجل الفطري للأنثي مهما زاد عمرها وقالت: اضحك عليا بكلمتين!
+
لاعب حاحبيه بمكر محبب: طب تعالي أقولك كلمة سر يا فدوتي!
+
استنكرت بخجل: ياراجل كلمة إيه احنا كبرنا على الكلام ده يا ناجي!
غمغم بحنق: أهو ده بقى الكلام اللي يعجز طب روحي اعمليلي مُسكافة على رأي عطر كده كده الضغط علي.. ولا أقولك هروح لبنتي تعملي ومش عايز منك حاجة!
+
تبعته وهو يغادرها بعبوس مضحك، فصفقت بكفيها وهي تضحك ثم تنهدت ودعت داخلها ان يحفظه هو وفلذتي قلبها ياسين وعطر!
__________________
+
محمد: وحشني التمشية معاك بين الأراضي الخضرة يا ناجي!
ابتسم له الأخير ببشاشة: وانا كمان والله.. فاكر كنا قد إيه اصحاب ولينا أسرار! ماكنتش تحكي لأدهم وعاصم اللي بتحكيهولي!
+
هتف محمد براحة: كنت كتوم شوية في الكلام مع اخواتي الكبار رغم ان علاقتنا من زمان مترابطة بس انت عارف كل شاب كان له أمور مش بيقدر يشارك بيها غير اصحابه!
_ عندك حق.. طب انت ناوي تعمل ايه في شغلك؟ هترجع للتدريس في جامعة المنصورة؟
+
_ انا فعلا فاضلي لسه 9 سنين اقدر امارس فيها شغلي تاني گ دكتور جامعة.. بس حسيت إن ادهم محتاجني معاه.. انت عارف هو وعابد كمان واقع منهم الأمور الأدارية والحسابات وبيستعينوا بمحاسب تاني..!
+
_عايز رأيي؟ ركز مع أخوك أدهم ودير معاه المزرعة والأراضي، كفاية تدريس لحد كده، وبعدين انت بتقول بنتك زمزم هتشتغل في المزرعة في تخصصها..!
+
_ أيوة ما انت عارف هي نفس دراسة عابد وعاصم عمهم.. وابنها هتبقى تسيبه مع جدته وهي مطمنة!
+
_ على خير.. وواصل: بس جوزتها بدري ليه كده؟
_ نصيبها.. كان جوزها جارنا ومعيدها في الجامعة.. وكانوا بيحبوا بعض أوي واتفقوا يتجوزوا بعد أخر سنة في جامعتها، على أساس هينزل يستقر بيها مع أهله.. ويكون والدته ظبطت شقة تمليك ليهم وفرشتها.. بس قضاء ربنا ياناجي الفرحة تتسرق من بنتي بعد اقل من شهر لجوازها.. عاشت فترة صعبة. اوي لما شافت زياد بيموت قصاد عنيها.. كانت زي بلقيس بنت اخويا.. منعزلة ومابتتكلمش ورافضة. تصدق موته.. لحد ما ربنا كرمها برحمته وبعتلها مهند ابنها.. هو اللي رجعها تاني..!
+
ربت ناجي على كتفه برفق:
معلش ياخويا.. ازمة وعدت.. واهي بقيت زي الفل أهي وزي القمر.. وبكرة ربك يعوضها الأحسن!
+
تنهد محمد بما يجيش بصدره:
يارب يا ناجي اطمن عليها.. زمزم مش سهل تفتح قلبها تاني وتستقبل فكرة زواج جديد.. انا عارفها كويس.. حبها لزياد كان قوي ومترسخ جواها لحد دلوقت.. ثم نظر له مواصلا بوحه لما بصدره:
أنا كذا مرة اسمعها بتكلم جوزها على انه سامعها.. بتحكيله عن مهند.. بخاف عليها اوي.. بس سالت الطبيب قال ده طبيعي يفضل في دماغها خصوصا ان معداش علي وفاته كتير.. وقالي بالعكس كلام النفس ده شيء صحي.. بدال ماتنعزل وتكتئب.. وقال ده عرض هينتهي كل اما هتنغمس في حياتها والتغيرات اللي هتقابلها..!
+
_ بإذن الله وسطينا هتكون افضل.. حياتها هتتملي.. مش هتفضى تفكر فيه.. مهند هيكبر وشغلها واهلها.. ماتقلقش يامحمد الخير جاي خليك متفائل
+
_ بإذن الله ..انت سايبني اكلمك عن نفسي وناسي اني معرفش عنك امور كتير.. عطر عاملة ايه، سمعت من كريمة مرات اخويا ان جالها عريس ورفضته
+
هز رأسه ساخرًا: سبحان الله.. الستات دول مايتبلش في بقهم لقمة فينو حتى
+
ضحك محمد: هو كان سر
_ لأ بس ماكانش حاجة ملموسة نتكلم فيها.. عريس واترفض.. انما الست فدوة زعلانة عليه اوي!
+
_ طب وانت رأيك ايه فيه؟
+
_ الولد كويس جدا.. بس البنت مش حابة.. دراستها اهم دلوقت.. وانا معاها.. الجواز مش هيطير
+
_ عندك حق.. كله بأوانه، وربنا يصلح حال ولادنا..!
_ اللهم امين!
_________________________
+
" يعني ظافر طلع من المنصورة؟"
+
عاصم: أيوة يادكتور ده اللي عرفته و ماتوقعتوش، بس هو قال بعدها انه عايش في القاهرة.. يعني بردو احتمال مقابلته لبنتي مازال ضعيف..!
+
ابتسم الطبيب بثقة: مين قالك؟ هو احنا كنا نعرف انه من المنصورة؟ مش قولتلك قبل كده ان اللي نعرفه مش دايما بيكون هو كل الحقيقة؟ ومتأكد ان لسه في خفايا هتظهر.. بس الأول نشوف رد فعل بلقيس لما تروح هناك وتشوفه تاني، وقتها هناخد خطوة تانية في طريقة علاجها..
+
_ هو حضرتك ناوي على حاجة معينة؟ فهمني!
تمتم الطبيب بتحفظ : بعدين هتفهم!
+
_______________________
+
اختفاؤه من عالمها ثانيا بعد ان وجدته أورث روحها الحزن والكآبة.. عادت لذات النظرة الجامدة وردود أفعالها المعدومة كأنها انغمست ثانيا بقمقم عالمها الوهمي معه.. نفذت شهيتها وهي تعتقد انها فقدت أثره العزيز، لا تدري عن تلك التي تراقبها بحزن مماثل بعد ان انتعش قلب أمومتها بعودتها ولو جزئيا للحياة.
_ معرفش بنتي مالها ياعاصم.. بعد ما فرحنا انها بدأت تستجيب، رجعت كأنها انتكست.. عيونها بقيت حزينة كأنها زعلانة.. حتي اللقمة بتاكلها بالعافية!
+
يستمع لزوجته وهو يتمعن بالنظر لأميرته الجالسة بشرفتها وحيدة وهو يغمغم بغموض: متخافيش يادُرة.. بإذن الله اما تحضر احتفال المطعم هتتحسن.. يمكن المرة دي يحصل حاجة جديدة زي قبل كده..!
هتفت بما بعتمل داخلها من مخاوف: أيوة بس انت عارف حصل يوم ما روحنا المطعم إياه .. الأفضل نزور مطعم تاني!
+
_بالعكس تماما.. ده سبب أكتر من كافي اننا نروح هناك ونحاول نفهم سبب التغير اللي حصل مع بلقيس.. ده غير انه أجواء احتفالية هتساهم جدا في علاجها، وهتعتاد الأختلاط مع الناس بالتدريج..دي توصيات الدكتور بتاعها اللي متابع معايا كل حدث بتتعرضله بلقيس، اطمني يادرة وكمان يزيد معانا، انتي وادعيلها..!
+
غمغمت بدعوات هامسة قبل ان تذهبت لتجاورها وتحادثها لعل صغيرتها تستجيب..!
____________________
+
عادت بعد أداء مناسك العمرة، ومكوثها بضعة أيام بتلك المدينة التي تضم أطهر بقاع الأرض.. وقد قررت أن تؤديها بهذا التوقيت، لتحقق رغبتها أولًا..ثم تتركك مجالًا لولدها رائد وعروسه الذي مضى على زواجهما قُرابة أسبوعان.. وهاهي تعود لمنزلها داعية من الله أن يجد ولدها لروحه السكن والاستقرار بتلك الزيجة.. ولو رآت كيف اندمج مع زوجته رودي.. لعلمت كم كان قرارها صائب.. أخيرًا ستطمئن تجاهه، سيكون معه زوجة تحبه وترعاه بغيابها..!
+
_ حمد لله على السلامة يا طنط!
+
ربتت والدة رائد على رأسها: مافيش طنط بعد انهاردة ياحبيبتي.. انتي بقيتي زي بنتي وأكتر.. عايزاكي تقوليلي يا ماما..!
+
منحتها ابتسامة راضية وسعيدة: حاضر يا ماما..!
واحتضنتها بشدة، فتسائلت الأم:
طمنيني يا رودي.. أبني عامل إيه معاكي؟! مبسوطين؟ قدرتي تحتويه وتقربيه منك؟
+
ابتعدت رودي عن صدرها وغمغمت: الحمد لله دلوقتي افضل من الأول.. حسيته اتعود عليا.. ومبقاش يعمل مسافة بنا خالص.. وواصلت بحنان عاشقة لزوجها:
أوعدك يا ماما هخلي رائد أسعد إنسان في الدنيا.. هخليه ينسى كل حاجة تعباه..!
+
ترقرقت مقلتاها: يعني اموت وانا مطمنة يابنتي! اطمن انك هتتحملي منه أي حاجة وتراعي ظروفه مهما حصل؟
+
انزعجت وأسرعت تهتف بصدق:
بعد الشر عليكي يا أمي.. ليه بتجيببي سيرة الموت.. انتي هتعيش وسطينا وتفرحي بينا وبولادنا كمان..!
+
ضحكت بعين دامعة: أنا كفاية. عليا اطمنت انك معاه وخلاص مش عايزة حاجة تاني من الدنيا يا رودي!
+
وجففت دموعها وهتفت: طب هو فين يا بنتي، وحشني وعايزة اشوفه!
+
_ لسه نايم يا ماما.. بس أكيد هيفرح اما يصحي يلاقيكي.. اتفضلي حضرتك ارتاحي وأنا هعملكم أحلى غدى بنفسي عشان نتلم كلنا..!
+
منحتها الأم ابتسامة راضية وهي تغادر، وتمتمت داخلها بكلمات خفية.. وعزمت ان تصلي الآن وتسجد شكر لله أن ابلغها زواج ولدها والاطمئنان عليه!
_________________________
+
تعمدت رودي بعد تناول ثلاثتهم الغداء أن تتركهما بمفردهما متعللة بصنع عصير طازج لهما.. فمؤكد والدة رائد تريد محادثته ببعض الخصوصية!
+
_ عامل إيه مع مراتك ياحبيبي؟ مبسوط؟
+
اجابها باقتضاب: الحمد لله!
_ يعني راضي عنها يا بني.. حاسس بالراحة ليها؟
+
لا ينكر أن زوجته استطاعت بذكاء الأستحواذ على اهتمامه وجعلته بتكيف على وجودها بأسرع مما تخيل.. حنانها زائد عن الحد.. ترعاه كطفلها.. وتعشقه كمتيمة منذ زمن.. لا تخجل من إعلان عشقها له طوال الوقت بكل الطرق.. تُربكه بأنوثتها الطاغية التي استطاعت جذبه منذ لحظتهما الأولى.. هو بالفعل يشعر بالراحة معها..
+
فأردف بعد برهة قصيرة:
أيوة يا ماما انا مرتاح مع رودي جدا.. مقدرش انكر مجهودها الكبير من أول لحظة انها تقربني ليها، ونجحت في ده لحد كبير..!
ثم تسائل ليروي فضوله تجاهها: ماما بما أننا جيران.. هو انا علاقتي برودي كانت كويسة فعلا؟ كان في بنا حاجة يعني.. انا مش فاكر أي حاجة ولا ازاي كنا. بنتعامل.. بس حاسس انها بتحبني من زمان.. مش ممكن قوة المشاعر دي كلها تكون اتولدت من وقت قريب بعد الحادث اللي حصلي!
+
أجابته : انتم طول عمركم اصحاب.. وبتعملوا كل حاجة سوا.. بس هي كانت ساعات تاخد منك جمب اما تلاقيك بتكلم بنات تانية.. رودي كانت بتحبك وبتغير عليك بس ما بتقولش لكن انا كنت بحس بده، وكنت بتمنى يجي اليوم اللي تقولي فيه عايز اخطبها.. بس انت عمر ماحسيت منك انك بتحبها أكتر من صديقة مفضلة وجارة الطفولة.. فكنت بسكت واقول لو ليهم. نصيب في بعض محدش هيمنعهم.. وسبحان الله حصل اللي حصل، ولقيتها أول واحدة جمبي.. بتسأل يوميا وبتهتم بيك وزعلت عشانك.. عشان كده اختارتها ليك يا رائد.. حسيت ان هي دي اللي هتنفعك وتساعدك وتخرجك من ازمتك!
+
وملست على جانب وجه: وكان عندي حق.. حبها قدر يخترق عزلتك ويشدك ليها.. ولسه ياحبيبي اما ربنا يرزقكم بولاد هترتبط بيها وتستقر أكتر.. ووقتها هتنسي انت كنت إيه قبلها.. ذكرياتك وتاريخك هيتكتب سطر سطر معاها.. عشان كده بوصيك يا ابني.. خد بالك منها، أوعي تزعلها ولا تبعدها عنك.. ساعدها زي ما بتساعدك انكم تكونوا مبسوطين.. عيش حياتك من غير ما تفكر تاني في الماضي اللي اتنسى بخيره وشره.. ماتدورش عليه تاني مهما كنت فيه طيب ولا شرير خلاص مش هتفرق.. ابدأ من جديد وارسم حياتك زي ما بتتمنى.. دي فرصة من. ربنا أكيد وراها أسباب هو وحده يعلمها.. توعدني يا رائد تعمل بوصيتي دي؟
+
انقبض قلبه لحديثها.. وجثم على صدره شعور ثقيل انه سيفقدها.. فاحتضن كفها وتمتم بحب ربما يظهره للمرة الأولى منذ مرضه:
+
أوعدك اعمل اي حاجة تطلبيها.. بس اوعديني انتي كمان تكوني جمبي دايما وتفضلي ماسكة ايدي!
+
أثلح صدرها لهفته وخوفه عليها.. وكأنه ما عاد إليها إلا الآن.. فضمته بشدة فوق صدرها بجوار القلب المتربع داخله وأردفت ببكاء: أنا معاك يا ابني سواء عشت ولا موت روحي ودعواتي وقلبي هيكونوا محاوطينك يا نور عيني!
+
ضمها أكثر..فضمته هي الأخرى دون حديث.. لترتوي منه قبل أن. تحين لحظة رحيلها التي تشم رائحته وتشعر بقربه.. لكنها تنهدت براحة واطمئنان لا تعرف لما غزى روحها بتلك القوة.. ابعدته عن حضنها وقالت: أنا هروح أصلي وارتاح شوية.. وانت روح لمراتك.. انا عارفة. انها قاصدة تسبنا لوحدنا ومش هتيجي إلا أما حد فينا يروح يناديها.. ارتاحوا في أوضتكم وأنا كمان هنام.. محتاجة أنام دلوقت!
+
تمنى أن يظل متشبث بها كطفل يخاف فراق والدته.. وانقباض قلبه يزداد.. لكنه طمأن نفسه انه مجرد شعور زائف.. والدته ستغفو قليلا.. ما الداعي للقلق!
فقط ستغفو ويراها في المساء ويحتسي جوارها فنجان قهوته.. هذه المرة سيطلب منها إعداد قهوتهما، يشتهي تذوقها بنكهتها..ويعلم أن هذا الأمر سيسعدها كثيرا..سيقترب منها أكثر لن يضيع الوقت بأفكاره السوداء بعد الآن.. سينعم بدف زوجته ووالدته ويكتفي بهما.. لن يسعى بتذكر الماضي والنبش به.. فلا يريده بعد الآن..!
+
وقبل أن يغادر، تلقفته بضمة أخيرة وتشممته بشراهة وكأنها تعبيء رئتيها بعبقه.. ثم ودعته بابتسامة بشوشة..ود أن يجلس معها والخوف لفراقها يملاءه.. ولأنها على موعد لا تستطع مخالفته.. طالبته بالرحيل لزوجته.. لتستعد هي للقاء أخر..!
.................. ..
+
سجدة تليها سجدة.. والعين تدمع.. والقلب يدعو.. والشفاة ترتجف بدعوات مُلحة لخالقها.. أن يكون بعون أبنائها وخاصتًا رائد.. دعت كثيرًا أن ينير قلبه ويهديه لطريق السعادة وراحة البال وأن يغفر له ذنوب خفيت عنها ولا يتذكرها هو.. دعت له أن يشمله برحمته ويرعاه ويخفف عنه رحيلها الذي أوشك.. ربما بقيت دقائق أو ساعات..لا تدري..لكنها ستظل فوق سجادة صلاتها تصلي وتسجد وتدعوا..لعل الله يحقق لها أخر أمانيها الخفية.. أن تموت وهي ساجدة!
+
وقد نالت ما تمنت.. رحلت والدة رائد وجبهتها تتوسد سجادتها.. المبتلة بدموعها.. گ أخر قطرات لها فوق تلك الأرض! وبين. حنبات هذا العالم.. لتذهب لعالم أخر.. وتحيا حياة أخرى!
_____________________
+
طافر: إيه الأخبار ياعامر.. في اي حاجة ناقصة؟
_ لا كله تمام ماتقلقش والزباين ابتدوا يجوا.. والشيفات شغالين والدنيا زي الفل!
+
_ الحمد لله!
+
لاحظ عامر توتره ومراقبته لموضع دلوف الرواد، فتسائل: بس انت مالك؟ في حاجة؟
_ لا خالص، كله تمام
_ امال كأنك مستني حاجة أو حد.. شايفك متوتر
+
هو بالفعل كذلك، ينتظر الفتاة ولا يعرف لما يترقب وصولها.. ولما تزور مخيلته كثيرًا..وهو يربط بينها وبين أشياء بعيدة.. لكنه تظاهر بالهدوء مجيبا رفيقه:
+
_ بيتهيألك.. توتري عشان عايز اليوم يمشي زي ما احنا راسمينه
عامر: لا من الناحية دي اطمن خالص.. بأمر الله هيكون يوم جميل!
+
وقعت عين ظافر عليها وهي تتوسطهم والديها گعادتها متعلقة اناملها بهما..تمرر عيناها على الوجوه مثلما فعلت بالمرة الماضية.. ترى عن ماذا تبحث؟؟ لمح يزيد يتبعهم، فغمغم عامر:
+
_ عاصم بيه واسرته وصلوا يا ظافر!
أومأ لصديقه بشرود طفيف: شوفتهم!
عامر: تمام أنا هروح أرحب بيهم..!
....................
+
اصبحت تعرف الطريق الذي يوصل إليه..رغم أن والديها لم يتحدثا گعاداتهما عن وجهتهم.. لكن ما ان اقتربت من نفس معالم طريق أدركته المرة الفائتة.. حتى انتعش داخلها الأمل انها ستراه..حتما هو هنا.. تشعر بوجوده بطريقةٍ ما..!
..............
أما يزيد فيحلل كل نظراتها منذ دلفت إلى هنا.. تبحث عن احدهم بين الوجوه التي لم تعد تهابها كثيرا.. وهنا بالأخص! ماذا سيحدث لها حين تأتي هذا المكان تحديدًا؟ وگ أنها تنسلخ من رداء خوفها وحذرها فوق أرض تلك البقعة.. ماذا سيحدث إذًا حين تلقاه؟ وماذا سيفعل هو؟!
...............
+
وبزاوية غير ملحوظة يتابع أحدهم ما يحدث بحدقتين ثاقبتين واهتمام شديد..مترقبًا الجميع وبالأخص..هي.. بلقيس!
............ .
+
انتظر قليلا بعد ذهاب عامر وترحيبه، ثم استعد ليذهب إليهم، وما أن أصبح قُبالتهم حتى تمتم مرحبا
بنبرته الرخيمة:
_ أهلا بيك ياعاصم بيه نورتنا انت واسرتك الكريمة!
بادله الأخير تحيته، ثم واصل ظافر ترحيبه ليزيد: نورت يابشمهندس!
رد الأخير باقتضاب: شكرا..!
+
أخذ قرار سابق ألا ينظر إليها، لكن هيهات أن تنصاع المُقل لصاحبها وهي تهدي بلقيس المتعلقة بملامحه نظرة عفوية هربت منه لمحياها الباسم، فهز رأسه بتحية صامتة وبسمة قصيرة وتمتم وهو يوجه حديثه سريعًا لوالدتها الجالسة بالجوار، والتي تتمتع بقدر كبير من الجمال رغم عمرها: اتمنى الفقرات تعجب حضرتك وسهرة سعيدة للكل!..بادلته دُرة التحية.. ثم انسحب من بينهم فتبعته بلقيس ببصرها وهي تراه يبتعد ليعود العبوس يكسوا وجهها بعد رحيله من محيطها.. لكنه هنا وهذا يكفي لتستكين براحة ويتلاشى كل خوف وتوتر، وتلقائيها رُسمت بسمة راضية على شفتيها بشكل غير معهود، بعد أن كان الجمود والشرود هما المسيطران عليها !
+
لقاء أعينهما العابر ثم بسمتها الهادئة وسكون حدقتاها المتابعة للجميع دون خوف.. شفرات تلقفتها عين عاصم المتفرسة، ويزيد الذي يحلل كل ما تصدر منها ..حتى دُرة أدركت تلك التغيرات.. وشخص رابع قابع في زاويته الخفية يراقب عن كسب كل مايحدث!
_______________
1
بدأ ظهور مقدمي الطعام للزبائن وهم يرتدون أزياء لشخصيات كرتونية مبهجة، لتنتشر مظاهر مرحة والأطفال يشهقون بسعادة ومرح يطالعوهم بإعجاب خطف أنظار زويهم من الكبار وهم يضحكون مستمتعين بتلك الأفكار المميزة..!
+
انعكست بهجت الأجواء إلى نفس بلقيس التي شعرت بهدوء نفسي لمجرد وجود أنفاسه تُعبيء الفضاء حولها..أما يزيد فكل لحظة تمر في مراقبتها تُرسخ داخله يقين أن بلقيس تعرفه بشكلٍ ما وتطمئن له، لذا جاءت استجابتها بظهوره..شعر بشيء چاسم على صدره وكأنه سيختنق، استأذن ليختلي بنفسه قليلا عله يخمد نيران ضيقه.. وبطريق مروره بين الطاولات تصادف مرور ظافر.. ودون أن يعي يزيد منح الأول نظرة تشي ببعض الحدة استعجب لها الأخر وهو يتابع رحيله بزاوية أقل صخبًا..فلحقه وما ان أصبح خلفه حتى تمتم: خير ياباشمهندس.. في حاجة ضايقتك هنا؟
استدار له يزيد بملامح جامدة: لأ، مافيش!
+
تقدم ظافر خطوتين ليحذو حذوه، مغمغمًا وهو يطالع نقطة ما أمامه: انا ليه حاسس انك مضايق مني ياباشمهندس؟ لو على الموقف اللي...... ..
+
قاطعه يزيد: دي حاجة اتخطيناها خلاص وأظن انت عرفت ان بنت عمي تعبانة شوية وتصرفها غير مقصود.. وانا مش مضايق منك ولا حاجة!
+
ثم أعطاه ظهره گ إيحاء صريح لمغادرة ظافر..!
وبالفعل استدار مبتعدًا، لكن أوقفه سؤال يزيد المباغت ( إنت شوفت بنت عمي قبل كده؟)
+
كاد أن يجيب إجابة قاطعة بالنفي، لكنه تذكر رؤيته العابرة لها في المنصورة! فاستدار ليزيد:
+
_ هي أول مرة تشوفني.. لكن انا شوفتها من فترة في المنصورة بالصدفة كانت في الشارع ووقعت وكنت هقرب عشان اساعدها بس جت واحدة عجوزة اخدتها.. هي ماشافتنيش وقتها.. وانا ماكنتش اعرفها
+
ثم بحث بهاتفه عن صورتها التي التقطها قدرًا وهو يواصل: حتي بردو بدون قصد كنت باخد سيلفي لقيتها ظهرت في زاوية، وده اللي خلاني ابص عليها
+
تأمل يزيد الصورة جيدا.. وأدرك أنها كانت بالقرب من منزلها بالفعل بملابس بيتية!..
+
ظافر: وتاني مرة شوفتها لما جيتم بيها هنا..يعني انا فعلا مستغرب ومش فاهم سبب للي حصل!
+
شرد يزيد وهو يطالعه والتساؤلات تزداد.. هل يعقل ان اسمه على المعطف مجرد تشابه أسماء وأنه ليس له علاقة بالأمر؟ كيف له أن يتأكد؟ لا يود سؤال مباشر.. خاصتًا والرجل لم يذكر له أي شيء يخص الحادث، ويبدو انه صادق ولا يكذب..!
+
_ طيب ممكن اسألك سؤال وتجاوب بصراحة!
ظافر: أكيد!
_في حاجة تخصك ضاعت منك من فترة؟
+
اعتصر ظافر ذهنه ليتذكر، فلم يجد شيء فقده سوى معطفه وقنينة عطره يوم إنقاذه للفتاة.. ولكن هل يجوز ذكر هذا لأحد؟
+
_ ياريت ماتخيبش ظني وتجاوبني بصدق!
+
حثه يزيد على الحديث بعد أن لمح تردده.. فتمتم ظافر: هو في حاجة فقدتها فعلا من فترة، هقولك إيه هي بس في المقابل ماتسألنيش فقدتها ازاي!
+
أومأ يزيد بموافقته صامتًا.. فجاءته إجابة نقلت كل ظنونه وهواجسه المتأرجحة على حافة الظنون.. لترسوا به على أرض اليقين!
+
_ فقدت جاكت جلد وبرفان!
____________________
+
حانت لحظة تسجيل الرواد أساميهم على كوبونات صغيرة وُزعت عليهم.. بعد أن نوه عامر على الجميع المشاركة في هذا السحب، ومن ثَمَ سيفوز من يتم اختيار أسمه عشوائيًا بوجبة غداء مجانية له ولعائلته ثلاث أيام متوالية!
+
عامر: مش هتشارك ياعاصم بيه؟ ممكن تكتب أسم الأنسة!
استقبل عاصم. الاقتراح بشيء من الحيرة. ولكن بعد مبادلته النظرات مع أحدهم، وافق قائلا:
_ ماشي ياعامر هكتب أسم بلقيس بنتي..!
+
ولأنها مدركة لكل ما يدور حولها بيقظة مستحدثة بحالتها، التقطت الأخيرة الورقة من بين أصابع والدها وتحت أنظار أبويها المذهولة نقشت حروف أسمها المقترن باسم والدها والابتسامة تزين شفتيها.. ثم أعادتها إليه مرة أخرى!
+
لم يكن بالأمر ما يثير دهشة عامر الذي تناول الورقة وذهب ببساطة ليضعها بصندوق السحب.. بينما أبواها اتسعت أعينهم عن أخرها مع تلك الطفرة الجديدة ثم ترقرقت مقلتيهما فرحًا مع تجاوب بلقيس بهذا الشكل وتفاعلها المدهش لما يصير حولها.. وابتسامتها التي تعزف بها على أوتار قلوبهما النهمة لكل إشارة تعافي تصدر من وحيدتهما..!
+
دُرة: شوفت ياعاصم.. شوفت بلقيس عملت إيه؟!!
+
تجرع ريقه بانفعال مكتوم دون حديث.. وبعيناه ألاف الكلمات من الشكر والحمد على هذا التقدم الذي أثلج صدره، ثم عاد يطالع أحدهم بزاوية ما.. وأومأ لصاحبها وكأنه يشاركه انفعاله.. وعاد ثانيًا ينظر لقرة عينه ووالدتها تمطر كفها بقبلات دافئة وهي تلفظ أسمها بتأثر زلزل قلبه!
______________________
+
هو منقذها.. هو ملاذها الذي أختبئت تحت عباءته محتمية به من العالمين.. هو من تبحث عنه الملكة من بين وجوه الفرسان حولها.. هو من تكتسي روحها بالأمل والقوة ما أن تستشعر وجوده، حتى لو كان وجوده مجرد عبق.. عبق غزى رئتيه وكاد يخنقه وهو يستمع لجوابه الصادم أنه أضاع معطفه وقنينة عطره.. غافل عن أنهما كانا الحصن الآمن لتلك الشاردة.. حبيبته!
+
لم يكن ليظل بينهم بعد معرفة تلك الحقيقة.. غادر حتى لا يرى ما يدميه أكثر.. لن يتحمل بعد الآن نظراتها وهي تفتش عنه بين الجميع وتتبع أثره.. ولن يأمن حماقته إن خانته أعصابه وانفلتت من زمامها.. غادر بعذرٍ كاذب للعم ..وهاهو على أعتاب باب منزله يحاول لملمة ذاته المبعثرة مرة أخرى ليتجاوز تلك المفاجأة بخلوة يطوق لها بشدة!
______________________
حانت لحظة سحب الكوبونات عشوائيًا بواسطة طفل صغير ابتهج بتلك المهمة حين أختاره عامر من بين الجميع، وراح يلاطفه:
+
_ أسمك إيه ياحبيبي وعندك كام سنة؟
الطفل ببعض الحياء لشعوره بتصويب أنظار الجميع عليه: أسمي يونس ياعمو، وعندي 5 سنين!
عامر: ما شاء الله ده انت بيقت راجل أهو، وأسمك حلو أوي وحبيته.. طب يلا يابطل أسحب أول كوبون عشان نعرف أول فايز!
امتدت يد الصغير لتلتقط أصابعه إحدى الوريقات، وما أن طالعها عامر حتى هتف بصياح مازح:
+
_ أول فايز معانا مولود محظوظ ياجماعة حتى في أسمه وأنا مش "بحسد أنا بس "بقر"..
صاحب أول اختيار عشوائي هو " فايز عبد السلام"..!
صدح تصفيق الجميع مع همهمات مازحة وضحكات!
+
_ يلا يا يونس.. أسحب الكوبون التاني يابطلي!
+
أطاعه الصغير وأعاد "الكَرْة" فصاح عامر مواصلًا مزاحه: الحمد لله الجنس الناعم اللطيف أحتل الاختيار التاني..ضحكوا الرواد، ورمقه ظافر بعتاب كاتمًا ضحكته وهو يراقبه من زاوية قريبة عاقدًا ساعديه بعد أن رفض ان يتولى هو السحب مع الصغير مكتفيًا بالمتابعة وسط الجميع!
+
_ الفائزة التانية معانا هي " أسماء صلاح"..!
+
صفق الجميع بحماس، وبعثت صاحبة الأسم ولدها الصغير يستلم الكوبون، فتلقفه عامر وقبله هاتفًا:
_ إسمك إيه ياحبيبي وعندك كام سنة؟
_ إسمي زيزو وعندي أربع سنين واخويا اسمه بودي
+
داعبه عامر وأعطاه الكوبون ليعود لوالديه، ثم جاء لحظة سحب أخر رقة!
+
عامر: وبما إن الأستاذ ظافر شريكي في كل حاجة، من حقه يسحب هو اللي أخر أسم معاكم!
حدجه ظافر بوعيد واقترب منه هامسًا بأذنيه:
مش هتبطل فصولك الباردة.. مش قولتلك ماليش في جو الشو بتاعك ده واسحب انت كل الأسامي؟!
_ ياعم اتحرك كده ومتعمليش فيها زبون.. اسحب اخر أسم وزقطط كده السهرة حلوة والزباين مبسوطة وشكلها مش هتروح بيوتها الليلة وهتنام تحت الترابيزات.
+
قاوم ظافر ضحكته وتجاهله واستدار يداعب الصغير يونس برقة: يلا ياحبيبي اسحب أخر فايز معانا..!
الصغير: طب وأنا ياعمو مش هفوز .
جثى ظافر على قدميه وقبل وجنته وتمتم بحنان:
مين قال كده.. طبعا ليك جايزة جميلة.. بس قولي فين بابا وماما؟
+
ابتهج الصغير لحصوله على وعد بجائزة هو الأخر، وأشار لطاولة والديه هاتفًا بحماس بريء:
بابا محمود اهو وماما نيهال جمبه اللي بتشاورلي دي يا عمو شايفهم..؟!
حاد ظافر بنظره فوجد أبويه يطالعوا صغيرهم يونس بسعادة ملوحين له بعلامة مشجعة لمواصلة ما يفعل!
+
فتبادل ظافر معهما تحية صامتة مبتسمًا، وشرع الصغير بسحب أخر كوبون، لكنه توقف قائلًا:
أسحبه انت المرة دي ياعمو وأنا هقراه بصوت عالي عشان ماما وبابا يتبسطوا مني لئني بقيت أقرأ لوحدي! ..تبسم له ظافر بحنان وتمتم برفق:
حاضر يا يونس عشان عيونك بس، وبالفعل غمس أصابعه وانتقى عشوائيًا إحدى الوريقات وأعطاها للصغير الذي تولى هو الإعلان عن إسم الفائز! أو بالأحرى.. الفائزة!
+
_ ب..بلقيس.. أبو..المجد!
+
تلى الصغير الأسم بتلعثم طفيف فصفق الرواد له بحماس مشجعين مهنئين، بينما أبيه يطلق صفيرًا داعمًا لطفله تفاخرًا به.. ووالدته تفتح ذراعيه لتتلقف جسده الصغير وهو يتمايل مهرولًا إليها مختبئًا بين أحضانها ببعض الخجل بعد تلك المهمة!
+
أما هو فتلاشت ابتسامة تدريجيًا بعد أن قرأ الصغير أسم الفائزة! أسم يعرف صاحبته جيدًا ولم يتوقع أبدًا مشاركتها بهذا السحب، والأكثر غرابة في الأمر كله أن يكون اسمها من نصيبه هو.. وگأنها تنتظره ليحرر حروفها الرقيقة وينتشلها من قيد صندوق..! ________________________
الفصل الثامن عشر!
____________
+
" روحي استلمي الكوبون يا بلقيس! "
+
أراد أبيها أن يختبر المزيد من رد فعلها.. هل تستجيب لتروي أبوته العطشى لتعافيها؟ وجاءته الإجابة سريعًا وهو يراها تنهض متوجه إليه.. إلى من تعرفه.. من لا تخافه.. ولا تخاف في وجوده شيء!
+
راحت تقترب وكلما دنت منه كلما انفصل عن حاضره وأصبح محيطهما ساكن الحركة، متجمد برواده الحاضرين گ لقطة تعرض على شاشة لا يتحرك بها سوى تلك الفاتنة التي تتهادى إليه بخطوات عزفت على أوتار ثباته فبعثرته وصار فُتات.. عسل عيناها يتألق ويكاد يسيل من حدود عيناها ليتدفق على وجنتيها، تطالعه بابتسامته مهلكة..وما أن وقفت أمامه حتى بسطت كفها الرقيق تطالب بورقتها المحتضنة حروفها.. حروفها التي تشابكت بأصابعه قدرا.. قدرًا لا يفهمه..قدرًا حيره..ولا يعرف لما تُنسج حولهما تلك المصادفات گ خيوط عنكبوت.. نعم دعاها من خلال أبيها ليختبر تأثيرها عليه لينفي لعقله أنها تستحوذ على تفكيره، وأنه حين رآها بحلم قصير الليلة الفائتة.. لا يعني هذا شيئًا ..مجرد حلم عابر.. لكنه الآن ينهزم مع همسها الضعيف وهي تغمغم له بخفوت شديد.. شديد لدرجة أنه لم تلتقطه أذنيه.. ماذا كانت تقول؟! فليسألها دون تأخير.. هي فرصته ليسمع صوتها عن قرب و…………
7
( أنت جريت قبل ما تاخد هديتك يا يونس، أنت كمان كسبت كوبون بأسمك تحضر بيه مع أسرتك ثلاث أيام متتالية) قام أبيه تلك المرة يستلمه مع بعض عبارات الشكر!
+
صوت عامر نحر فرصته الوحيدة أن يسألها عن ماذا كانت تهمس! وهل تعرفه قبلا؟ وهل……. كم سؤال وود طرحه لمعرفة جوابه .. لكن الفتاة أخذت ورقتها ورحلت.. تركت بالهواء عبقها الذي يشبه عبقه.. لتتصاعد درجات حيرته ولتلتهب جذوة غموضها أكثر وأكثر..!
+
وعاد صوت عامر يصدح من جديد:
+
_ لحسن الحظ ان الفايزة التالتة معانا، والدها يبقى " السيد عاصم أبو المجد" اللي مشاركنا ببصمة هنا بمنتجاته الغذائية المميزة..ودلوقت بهني جميع الفائزين مرة تانية وشكرا لمشاركتكم احتفتلنا المتواضع لمرور عامين على مشروعنا اللي كبر بثقتكم فينا.. وبإذن الله انتظروا المزيد وكل مميز مننا..!
……………… ..
بينما عامر يحدث عاصم ، كان الأخير بملكوت أخر ..حدقتاه التقطت رحيل ظافر ورصد قبلها توتره ونظراته لابنته.. ابنته التي تبدل حالها منذ خطت قدميها هذا المكان، وكأن فك شفرتها لا تُحل إلا هنا.. عيناها لا يضوي عسلها إلا حين ترى ظافر.. البسمة لا تفارق شفتيها، تجاوبها وهي تخط أسمها بوعيٍ اعتقد انه لن يعود لها بتلك السهولة.. كل مرة يُحضرها لمحيطه تحدث بحالتها طفرة.. ربما الطبيب لديه حق بظنونه، ظافر وبلقيس تلاقوا بطريقةٍ يجهلوها.. لكن حتمًا سيعلم كل شيء بوقت قريب.. قريب جدًا..!
_______________________
+
_ وحشني صوتك يانور عيني.. اتكلمي بقى يا بلقيس.. قولي وحشتيني يا ماما..!
+
تريد ان تتكلم وتستجيب لتلك الباكية المشتاقة لسماع صوتها، لكن شيئًا ما يعجزها..يُلجمها.. وكأن حروفها مقيدة ولا تتحرر إلا حين تراه..!
+
أحاطت وجهها براحتيها: هفضل مستنية اللحظة اللي هتحكيلي فيها كل حاجة جواكي وتفتحيلي قلبك زي زمان يا بلقيس.. أنا اللي عمرك ماخبيتي عني حاجة.. ودايما كنتي كتاب مفتوح قدامي..!
+
أُظلمت عيناها وتجمد عسلها بسحابة دموع وخبأت وجهها بصدر والدتها تحتمي بها گ القطة ..ليت صفحاتها تُشرع من جديد لتقرأها كما كانت.. ليتها لم تخدع.. ليتها لم تكذب..هي تستحق النفي بعالمها الذي عاقبت به ذاتها.. ابتعدت حتى لا تسبب بأذاهما من جديد بسذاجتها.. ابتعدت لأكتشافها قذارة البشر وقباحتهم..!
+
أدركت خوفها فاشتدت ذراعيه حولها وهي تهدئها: متخافيش ياحبيبتي انتي في حضن أمك وفي عين ابوكي.. محدش هيقدر يأذيكي تاني..!
+
وجففت باقي عبراتها وقالت بمرح: إيه رأيك أما بابا يجي من عند الدكتور بتاعك نسهر كلنا ونشوف فيلم زي زمان؟
+
هزت رأسها بابتسامة، فقبلتها دُرة بعمق وراحت تتحدث معها لتعيد لحظات دافئة حين كانا يثرثران بشتى الأحاديث..! حتى إن لم تحدثها لكن يكفي نظراتها المتفاعلة معها.. لم تعد غائبة وشاردة..وهي أكيدة أنها بيومٍ قريب ستملأ العالم حولهما بشدو صوتها وضحكتها..!
______________
+
يعني ظافر هو منقذ بلقيس يا دكتور؟!"
+
أردف الطبيب بنبرة قاطعة: بعد اللي شوفته بنفسي امبارح في المطعم..من ردود أفعال بلقيس، أكاد أجزم إن هو اللي انقذها.. وبشكلٍ ما تواجد معاها يوم الحادث.. وده كلام مبقاش فيه شك عندي يا سيد عاصم!
+
شعر بالتخبط من حديث طبيب ابنته، وكل الدلالات بالفعل تشير لصحة ما يقول الأول!
+
فاستطرد الطبيب حديثه:
_ انت مش قولتلي ان ظافر أصله من المنصورة؟
عاصم بإقرار: أيوة هو قال كده!
_ يبقي واضحة، هو كمان عارفها.. لأنه امبارح حاول يتجنبها.. ولما اسمها فاز في السحب اتوتر جدا.. صدقني كل اللي بقوله بنيته على أساس ردود افعال مستحيل اكون أخفقت في تقيمها گ طبيب متخصص..في رابط ما بيجمع ظافر وبلقيس!
+
_ طب والعمل دلوقت..بنتي فعلا مش بتتحسن غير في وجوده، مش معقول كل يوم اخدها عنده، احل الموضوع ده ازاي؟ أكلمه مثلا واشرحله ولا إيه بالظبط؟!
+
الطبيب: أكيد هنتكلم معاه..ومن ناحية توديها هناك فهي هتروح فعلا..لأن حسب فوزها في السحب هتروح 3 أيام بشكل طبيعي ومجاني!
+
_ يعني قصدك اروح بيها هناك.. وده هيبان طبيعي!
+
ضوت عينه بغموض مغمغما:
لأ، مش انت اللي هتوديها يا سيد عاصم!
الأخير بتساؤل: أمال مين؟
_________________________
+
منذ وفاة والدته وهو بحال لا يسر.. أنطوى وأصبح لا يستجبب لمحاولتها بإخراجه من عزلته وحزنه.. حتى حين أتى شقيقه " أيهم" لم يستطع مساعدته.. وبعد فترة اضطر للعودة لعمله وأسرته وحياته وهو يوصيها بشدة على " رائد" وأنه سيتواجد بأي لحظة يحتاجون فيها إليه..وطلب منها الصبر، فحتمًا ستنقشع الغمة ويذهب البائس عن قلب زوجها ويعود إليها.. وهي صابرة.. لن تكل أو تمل من مساعدته واخراجه من قوقعة حزنه وكآبته.. مهما عاندها وقاومها ستكون جدارًا صلب يتلقى كل زوابعه وعواصف عضبه إلى أن يهدأ ويسلم لأمر الله وقدره..!
+
غاب في غفوته كثيرًا.. ستوقظه حتى يأكل ويتناول دوائه!
عبرت إليه وراحت تداعب خصلات شعره بنعومة، ثم تمرر أناملها على ظهره بحركات تعلم أنها تروقه، هي عاداته التي تعلمها.. انحنت عليه بصدرها وتمتمت جوار أذنه بحنان: حبيبي رائد.. يلا كفاية نوم بقى ياقلبي.. قوم عشان تاخد علاجك وكمان. تقعد معايا شوية انا عملتلك حاجة بتحبها هتفتح نفسك! وكمان هنقرء سوا قرءان لمامتك..! دي الهدية اللي هي بتستناها روحها كل يوم منك!
+
تسرب صوتها الحاني لمدارك عقله..فتح جفنيه ببطء وطافت عيناه عليها وتذكر والدته كيف كانت توقظه بهذا الدفء.. أصبحت زوجته تتفنن بكل شيء يمكن أن يشعره بالراحة والسكينة.. ولا يعرف هل تعلم مسبقا ما يحبه.. اما هو من صار يستقبل كل ماتجود به براحة.. اعتدل بنصف جلسه والحزن يشوب وجهه على فراق والدته التي رغم فقدانه كل شيء لم يفقد شعوره بحنانها حتى لو أظهر لها العكس دائما.. ليتها ظلت معه.. ليتها ظلت حتى يتذكر كيف كان يعاملها.. لكنها رحلت وتركته! لتزداد غربة روحه دونها..!
+
تنبأت بمسار أفكاره، فأحاطت وجهه الكئيب براحتيها وقبلت جبينه قبلة طويلة، ثم أمالت رأسه على صدرها لتبثه دفء مشاعرها وهي تغمغم:
كل حاجة هتعدي يا رائد..مامتك هتفضل موجودة بروحها حواليك ودعواتها هتفصل باقية ليك..! ثم رفعت رأسه وراحت ترسل لعيناه فيضًا من عشقها له وهو يتلقى نظراتها الحانية گ قطرات الندى التي تروي شيئا داخله مستمعا لوعودها الصادقة:
+
أوعي تحس بالغربة وانا معاك.. أنا وطنك يا رائد.. أنا موجودة عشانك انت وبس..حتى لو طوفان دمر كل ماضيك..يمكن يكون ده احسن ليك ومنتهى الخير اللي انت مش عارفه..مين قال ان لو الذاكرة رجعت هتكون مبسوط؟ مش يمكن تكون اتعس إنسان وتقول يا ريتني ما افتكرت! أرضى بنصيبك مهما الدنيا خدت منك ناس حبيتها..احمد ربنا انه عوضك.. انا استنيتك كتير اوي يا رائد..مكانش عندي أمل اشيل اسمك في يوم، عشان كده مش هضيعك ابدا ولا هسيبك تحس بالضياع وانا موجودة.. انا الحاضر اللي هتعيشه.. أنا ذكرياتك الجاية واللي اوعدك إنها هتكون جميلة..ساعدني اعديك من المحنة عشان انا وانت في مركب واحد.. طول ما انت ضايع انا ضايعة وتايهة!
+
خدرته مشاعرها الجارفة ولآليء دموعها تتساقط على بشرتها الناعمة.. ولمست كلماتها أوتار قلبه..ووجد نفسه گ المسحور بعروس البحر التي شقت الموج الساكن بشاطئه واقتحمت عزلته..وبدون مقدمات جذبها لأحضانه وغمرها بقبلات متلاحقة كأنه أيضًا يعدها بألا يضيعها أو يستسلم للضياع بعد الآن..وبلحظات انغمسا سويًا بعالم من متعتهما الحلال.. فنسى حزنه وهو ينهل من بحرها ولم يهاب الغرق.. ونست هي بانصهارها بين ضلوعه من تكون!
__________________________
+
أرقدت رأسه على قدميها التي لا تكسوها سوى غلالة شفافة وأناملها تغوص بخصلاته السوداء وعيناها تتأمل استرخاءه الشارد وهو يطالع نقطة بعيدة.. متذكرة بنشوة لحظاتهما الماضية كيف كانت! وكيف ذاب معها دون حواجز بمشاعر بدت كل يوم تتأصل جذورها داخله تجاهها.. لمساته ونظراته وكلماته جميعها تنكهت بحنانه وكأنه يخبرها انه استسلم لقدره عازفًا عن فك طلاسم ماضيه مكتفيًا بحاضره معها..!
+
_ من امتى وانتي بتحبيني؟
+
باغتها بسؤاله وهو يطالعها من زاوية رقاده كطفل يتوسط برأسه حِجر والدته بدلال.. فتألق الليل بعيناها وهي تجيبه بنبرة لمست قلبه بصدقها:
_ من يوم ماعرفت ان في حاجة في الدنيا دي اسمها حب..وقد ما فرحت بحبك وخبيته جوايا.. انكويت بالغيرة عليك وانا بشوفك بتتنقل بين بنات حوا ومش حاسس بحبي وشايفني صديقة..! كنت بتقطع اما بشوفك مع غيري او احس انك ممكن تحب حد.. كنت عايشة بالأمل انك تحبني انا.. رفضت كل اللي كان بيتقدملي.. كنت بشوفك أبو ولادي الوحيد يا رائد!
+
رفع كفه ليمرر انامله على وجهها الناعم بحنان وهو يغمغم بصوت يطرب خلاياها الهائمة به:
متحاسبنيش على ماضي مش فاكره.. لكن حاسبيني من دلوقت!
+
_ احاسبك على إيه؟
+
همست بخفوت فاعتدل ليجيب سؤالها وعيناه تطوف على تقاسيمها بحنان ورغبة لا تهدأ كلما بصرها:
_ حاسبيني على الحاضر معاكي.. حاسبيني لو بصيت لغيرك بعد كده.. وأكيد ده مش هيحصل!
_ ليه؟
تسائلت بلهفة مترقبة كلماته، فجاد عليها بما لم تتوقعه وهو يقول:
اللي آوتني في عز ضياعي وعملت من حضنها حصن حماني وطن بدد غربتي.. ووهبت ليا روحها سكن عن طيب خاطر..وداوت بصبرها جروحي وأوجاعي واتحملت كل عواصفي وغضبي وحزني، ازاي اشوف غيرها بديل؟!
+
غامت رؤيتها بدموع تسربت من ينبوع عينيها، فتتبعتها أصابعه وكلما جففها زاد سيلها غزارة..فغمسها لتتوسط قلبه وهو يهدهدها برقة تاركًا لمشاعرها العنان على صدره.. هو يفهم ما تشعر وأصبح يشاطرها كل شيء..حتى رغبتها التي اشتعلت بين احضانه شاركها جنونها وهو يتلقى جوع روحها بنهم مماثل! ليتحدا بكيان واحد لن ينفصل إلا بنزع الروح عن جسديهما المتلاحمان!
_____________________
+
تراقب طفلتها وهي تلعب بين أبناء العم وضحكتها تملأ الأرجاء وتطرب قلبها وعيناها تفيض حبًا، وهمست لزوجها الذي يجاورها:
+
_كان نفسي بلقيس ماتبقاش جميلة كده يا عاصم.. اللي عانيته في حياتي بسبب جمالي خلاني خايفة عليها لما تكبر ماتلاقيش واحد يصونها.. خايفة تكون مطمع لحد معندوش ضمير..!
+
تمتم وعيناه لم تحيد عن صغيرته:
متخافيش يا دُرة انا مستحيل اخلي مخلوق يأذيها ، هتفضل تحت عيني طول الوقت..ثم برقت عيناه بتمني: تعرفي نفسي في إيه يا دُرة؟
_ نفسك في أيه؟
استدار وعاد يطالع ابنته التي تتمايل على أرجوحة صغيرة بمساعدة عابد: نفسي يزيد ابن اخويا هو اللي يتجوز بنتنا لما تكبر.. مافيش حد ممكن استأمنه عليها غيره.. انا بحب يزيد أوي.. وعارف معدنه وأخلاقه وشهامته.. يزيد رغم انه طفل بس عنده القدرة يهتم بكل اللي حواليه برجولة مبكرة ..مبالك اما يكبر؟ لو يزيد اخد بنتنا هموت وانا مرتاح في قبري!
+
هتفت بجزع: بعد الشر عليك ياحبيبي.. ربنا يحفظك ليا انا وبنتك.. ثم استطردت تشاطره الرغبة: ياريت ياعاصم.. انا كمان بحب يزيد وبتمنى نفس أمنيتك يارب تتحقق ويزيد وبلقيس يكونوا لبعض..!
+
بينما هما يتهامسان..كان يتابع حوارهما ذاك الطفل قدرًا ودون أي نيه للتلصص، فقط مصادفة جعلته يمر من تلك الزاوية ليقطف إحدى أزهار حديقتهم كي يهديها خلسه لابنة العم الجميلة بلقيس.. طفلته المدللة وأميرة قلبه الذي رقص فرحًا بعد سماع حوار العم الأقرب له.. إذًا اقترانه بها حين يشتد عوده هو امنية الغالي! ..اطمأنت روحه المتيمة ان رغبة العم وزوجته وافقت رغبته التي اخفاها عن الجميع.. متى إذًا تمضي الأيام ليصبح شابًا يافعًا ويختطفها على جواد عشقه لترمح بين جنبات قلبه؟ حتما ستبادله مشاعره حين تكبر..لما لا.. أليس يهتم بها.. يلاعبها.. يحوطها بحنانه الفطري ويخاف عليها.. وهي تتقبل رعايته وتكافئه دائما بضحكاتها حوله وركضها خلفه.. هي أيضًا تحمل نفس النبته لذات العشق.. وستدرك هذا حين تصبح شابة..!
+
_يزيد.. يزييييد.. ماترد عليا.. عملت إيه في مشروع بتاع 6 أكتوبر؟! وصلت لاتفاق؟
+
انتفض يزيد من شروده على صوت رفيقه، وتمتم:
معلش يا احمد سرحت شوية.. بخصوص مشروع اكتوبر.. ايوة اتفقنا بشكل مبدئي ماتقلقيش!
+
رمقه بنظرة ثاقبة وقال: مالك يا يزيد؟
_ مافيش..!
_ يزيد أنت من امبارح مش مظبوط وبتسرح كتير.. في حاجة حصلت معاك؟"
رد باقتضاب: قولت مافيش يا أحمد!
_ إزاي مافيش.. انت تركيزك ضايع من بعد مارجعت من سهرتك مع عمك في مطعم ظافر.. في حاجة حصلت ضايقتك؟ ده انا قلت هتكون مبسوط عشان بنت عمك معاك يعني و… ..
+
قاطعته همسة يزيد: مين قالك انها معايا.. ؟!
+
لم يكن سؤال بقدر ما كان إقرار بحقيقة بدت جلية داخله ويقين شطر قلبه بعد كشفه أن ظافر هو ملاذ حبيبته.. وليس هو.. يقين وضعه أمام صورة لا تقبل التضليل، هي متعلقة بهذا الشخص دون غيره.. نظراتها، لهفتها، دماء الحياة التي تُضخ بوجهها حين تراه.. كلها أشياء تخبره بهذا الواقع الذي دمر أمله المستتر ان تعود إليه حين تتعافى وتراه بشكل جديد وأعمق من ذي قبل.. لكن هيهات أن يحدث.. بوصلتها ليست متوجهة لزاويته.. بل لأخر.. وعليه أن يعيد حساباته.. خرائط أحلامه بها يجب أن تُمحى من عقله بعد الآن.. لن يتعلق بأذيال عشقها حتى وان نزف كل دمائه واحتضر.. فلم يمت أحدًا من العشق قبلًا..الحياة تمضي بصاحبها بكل الأحوال.. ومن الغباء أن يترك روحه أسيرة دون أن يحررها من قيدها اللعين.. إن كان طمسها داخله قرار.. سيكون أهم وأعظم قرار اتخذه بكل حياته..!
+
_ يزيد أنا قلقان عليك بجد، حاسس إنك تعبان يا صاحبي.. أحكيلي وفضفض يمكن ترتاح! اتكلم وانا هسكت ومش هناقشك بس خرج اللي جواك يا يزيد بلاش تسكت!
+
التفت له ومقلتيه تَستطرُ بها كل معاني العزيمة رغم طيف الألم الواضح: " ماحَكَ جلدكَ مثل ظافرِك"..يعني محدش هيساعدني غير نفسي يا أحمد.. وأنا عارف ازاي هساعد نفسي وابقى كويس!
________________________
+
ثلاثتهم جائعون وسط صحراء وهو بينهما حائر..
أمامه تفاحة واحدة تبدو شهية.. هل يقتسمها بينهما.. أم يأكلها وحده؟..وجد أحداقهما تطالعانه باستجداء هز قلبه.. وقرر التنازل لهما عن تفاحته وليبحث لنفسه عن شيء يسد جوعه الغريب.. شطرها نصفين وأعطاها لهما وابتعد يطالعهما بابتسامة رضا يخفي بها ألم جوعه الذي يفترس معدته.. وفجأة ظهر شاب أخر من العدم بصحرائهم القاحلة.. ليقف جوار بلقيس ينظر لها.. فابتسمت له ومنحته نصف تفاحتها كاملة واختبئت خلفه لتعلنها صراحتًا انه أصبح ملاذها الوحيد بتلك الصحراء..بينما هو يراقبها بحسرة وخذلان وألم فاق جوعه حتى أن برد شديد سرى بعروقه وأحتل جسده المرتجف.. اقتربت " عطر" بذات اللحظة ومنحته نص تفاحتها مبتسمة وهي تمسك يده.. فتبدل صقيعه بدفء عجيب أنساه كل وجعه وخذلانه من الأولى.. ونبتت حوله أزهار لم ترى عينه مثيلها من قبل! ورائحة فواحة جديدة على أنفه.. وبقدر غرابتها، بقدر ما أنعشته وردت روحه بقدرة عجيبة!
+
رنين متواصل صدع ليخترق مدارك عقله.. ليهتز عالمه ويتلاشى ويعود لأرض واقعه ملتقطًا هاتفه مجيبا بنعاس: السلام عليكم!
+
صوت أنثوي يشوبه بعض التردد:
وعليكم السلام. ورحمة الله وبركاته..!
صباح الخير يا يزيد.. أسفة لو بتصل بدري كده بس!
+
استعاد جزءًا من وعيه متسائلا: عطر؟!
+
_ أيوة يا يزيد.. أسفة لو بتصل بدري كده بس!
+
_هو الساعة كام؟
+
_ الفجر أذن من نص ساعة!
+
فاعتدل بعد أن طغت الريبة على البقية الباقية من نعاسه قائلا: الفجر؟ وليه اتصلتي في وقت زي ده.. حصل حاجة عندك؟ حد تعبان؟ خالتي ولا عمي فيهم حاجة؟؟؟
+
_ أهدى يا يزيد في إيه كلهم بخير والله مافيش حد تعبان
+
انعقد حاجبيه: كلكم بخير؟! أمال كلمتيني ليه دلوقت.. طب انتي كويسة؟ في حاجة مضيقاكي؟
+
تشعر بحماقة شديدة الآن! كيف تشرح وضعها واتصالها الغير لأئق بتوقيت محرج گ هذا.. والأهم كيف تطمئن عليه بعد هذا الحلم العجيب اللذي أرقها وجعلها تنتفض مفزوعة وهي تناديه..شيء قبض صدرها وأشعرها أنه ليس بخير.. شعور أفقدها رجاحة العقل وهي تدق هاتفه بهذ الوقت المتأخر لتسمع فقط صوته وتطمئن عليه"
+
_ عطر.. ماتردي عليه انتي قلقتيني عليكي!
+
تجرعت ريقها بتوتر وهتفت كاذبة: أنا أسفة كنت قصدي أكلم ياسين.. بس رنيت عليك غلط!
+
اشتم رائحة كذبها فغمغم بعد أعاد ظهره للوراء مسترخيًا:بلاش كدب.. انتي قاصدة تكلميني.. في حاجة مضيقاكي؟ انطقي يابنتي!
+
صمتت هنيهة، وبعد إلحاح منه أجابته: أقولك ومش هتتريق عليا زي عوايدك!
+
_ قولي مش هتريق.
+
ترقرقت عيناها لا إراديًا وخيالها يعيد عليها تفاصيل حلمها المفزع به وهو يقف على حافة صخرة صخمة.. يده تبحث عن منقذ يجذبه من الحافة.. مدت يدها تحاول أنقاذه.. فلم تصل إليه.. فتزعزعت به الصخرة وأوشك على السقوط لبئر لا ترى فيه سوى الظلام.. صرخت منادية عليه فاخترق صوتها أذن والدتها التي هرولت توقظها.. ثم حذرتها أن لا تقص حلمها لأحد حتى لا يُفسر..لم تخبرها.. ولن تخبره..!
+
_ ياعطر.. انتي بتروحي فين.. قولي حصل إيه وولله مش هسخر منك!
+
تنهدت وهي تجفف دموع زحفت على وجنتها وهتفت:
خلاص يا يزيد مافيش حاجة.. انا بس حلمت حلم وحش وقمت مفزوعة.. وماما قالتلي مانحكيش أحلامنا الوحشة لحد لأنها ممكن تتحقق..!
+
تذكر نصف التفاحة التي منحتها له عطر في حلمه، فتمتم ببعض الشرود: أنا كمان حلمت حلم.. بس مش قادر احدد هو حلو ولا وحش..!
تسائلت: حاسس بأيه بعد ماصحيت منه؟ سمعت إن أثر الحلم جوانا هو نص تفسيره! يعني حسب شعورك بعده هتعرف حلو ولا وحش!
+
غاص عقله بتفاصيله وتذكر بلقيس وهي تختفي خلف ذاك الغريب وتعطيه نصف تفاحتها وتركته جائع.. فشعر بنصلٍ حاد يُرشق بقلبه.. لكنه تذكر أيضًا عطر وهي تمنحه النصف الأخر وكيف تبدلت صحراءه لأبهي صورة، وعبأت الفضاء حوله رائحة زكية.. فتبدد حزنه لسعادة غزته بقوه! أيهمار إذًا يُرجح ويصنف حلمه؟ ضيقه في الأولى ..أم سعادته مع الثانية!؟!
+
_ مش هتحكيلي حاسس بإيه بعد الحلم؟
+
تسائلت بحذر لتطمئن، فراوغها: لو حكتيلي حلمك.. هحكيلك حلمي!
_ مش هقدر.. ثم عادت تهمس بخجل:
بس انت كويس بجد يا يزيد ومافيش حاجة مزعلاك؟
+
امتزج صوتها بحنان غريب استشعره بنبرتها..وتذكر أنه بالفعل لم يكن بحالة جيدة بعد أن تيقن من صلة ظافر بحادث بلقيس، وأنه بطريقة لا يعلمها يؤثر بها .. كيف إذًا شعرت عطر بما يعانيه؟؟
+
_ يعني مش عايز تقولي؟
+
قاطعت استرسال ذاته بسؤالها فابتسم مجيبا بامتنان: أنا كويس ياعطر.. اطمني!
+
تنهدت براحة، فوصله تنهيدتها فتعجب قائلا: يااااه.. انتي كنتي للدرجة دي قلقانة يا قردة!
+
لم تستاء تلك المرة.. يكفيها أن الراحة عادت تستوطن روحها بعد حلمها القاسي به.. فليقول ما يشاء..لن تغضب!
+
_ماشي الله يسامحك، عموما انا هقفل وأسفة على اتصالي في الوقت ده!
_ ولو قولتلك ياعطر إنك اتصلتي في الوقت المناسب؟
+
_ إزاي؟
+
_ كنت محتاج حد يسأل عليا ويكلمني دلوقتي بالذات.. حد غير أمي أو بابا أو اخواتي اللي قلقهم كان هيزيد لو سمعوا صوتي..!
+
_ وانا افرق إيه عنهم؟؟؟
+
تسائلت بترقب، فغمغم بصدق:
أنتي بتقدري تغيري مودي وتخليني ابتسم واضحك، طول عمرك بتقدري تعملي كده!
+
_ هترجع تتريق عليا؟ أنت شايفني أراجوز بيضحك؟!
+
هتفت بحنق طفولي محبب، فضحك مرددًا:
لا والله أنا بقول الحقيقة بدليل اهو طول المكالمة بضحك معاكي مع إني قبلها ماكنتش كده.. وبعدين أراجوز إيه ده انتي مهندسة قد الدنيا..!
+
ابتسمت بغرور: أيوة كده اعترف بمكانتي..!
+
_ منا معترف يا باشا من زمان.. ولسه منتظرك عشان تيجي تتدربي الأجازة الجاية وتاخدي خبرة في شغلك! وقبل ما تبرطمي بكلام فارغ.. أنسي تشتغلي عند حد غريب.. أنا سبتك المرة اللي فاتت لأنك كنتي زعلانة! فاهمة ياقردة؟؟
+
_ وانت على كده في الشركة هتقولي ياقردة قدام الناس؟
هتف بغرض استفزازها: اه طبعا عادي هقولك كده!
+
كاد يتخيلها وهي تجز على أسنانها وتهتف بحنق: طب مش جاية وابقى شوفلك قردة بجد تتنطط بين المكاتب وتجننك!
ضحك ملء صوته ولا يعرف كيف يتبدل مزاجه السيء ما أن يحادثها.. بينما هدرت هي بعبارات غضب طفولية كما يراها دائما ثم أغلقت معه..
________________
+
" تليفون حضرتك بيرن يا هانم! "
+
التقطت السيدة الهاتف وما أن سمعت ما قاله محدثها حتى اعتصرت الهاتف بين أصابعها وحدقتاها يقتام سوادها، ورعشة خوف تسللت لفرائصها:
+
_ بلقيس خرجت لوحدها؟؟؟؟ إزاي ؟ يعني ابتديت ترجع لوعيها؟
أجاب محدثها: معرفش يا" تيماء" هانم بس دي أول مرة اشوفها خارجة من غير والدها أو والدتها..!
+
هدرت بفحيح غاضب: أنت مش بتاخد مني فلوس عشان تقولي معرفش.. تقب وتغطس وتجيلي أرار الموضوع.. لازم اعرف بلقيس لسه تايهة ولا ابتدت تخف ووعيها يرجع! ولا عايزني ازعل وازعلك معايا!
+
الشاب بخوف من بطشها: اديني حضرتك فرصة لبكرة وهعرفلك كل حاجة!
+
اغلقت وعيناها شاخصة ومئات الاحتمالات تطوف رأسها.. فإن عادت بلقيس وتماثلت للشفاء ستكون نهايتها..فلن تعود هِرّة ناعمة وساذجة كمان كانت..ستعود بمخالب قاسية لن تهدأ إلا حين تنغرز بعنقها لتقتلها انتقامًا وثأرًا.. ستتذكر كل شيء فعلته بها وكيف وشت بها وسلمتها لذئاب بشرية وتركتها فريستهم يلوكوها كيفما شاءوا.. وهي لن تنتظر مصير گ هذا.. طبيعتها المسالمة الآن لن تقوى على مجابهة انتقام تخاف مجرد تصوره! لن تسمح أبدًا بخسارة ما تحياة.. وربما تدفعها غريزة البقاء لذنبٍ جديد وجرم أبشع گ دفاع مستحق عن ما حصدته..!
1
وآن الآوان لتخطيط أخر إن عادت للملكة قوتها..!
___________________________
+
" الحقني ياعاصم.. بنتي مش لاقياها في البيت كله.. بلقيس اختفت"
+
استقبل ثورتها بهدوء مريب: اهدي يا دُرة.. أطمني أنا عارف هي فين متخافيش!
+
_ عارف؟! ازاي عرفت، طب قولي هي فين طمني!
+
بدت نبرته غامضة تشبه إجابته: راحت المكان الوحيد اللي بتنسى فيه خوفها وحذرها..راحت ترجع نفسها الضايعة.. واحنا لازم نسيبها تمشيه بإرادتها.. مش هنحاصرها تاني دُرة!
_______________________
+
قدميها تعرف الطريق إليه.. عقلها يستوعب وجوده ببساطة عجيبة لا تناسب التيه الذي تحياه.. وكأنها لا تدرك حقيقة سوى أن منقذها هناك، ما عاد مجهولًا..تعي بسلاسة غريبة كيفية الوصول "لحصنه" لتتدثر بأمانه الذي ما عاد غائب.!
+
عبرت بوابة المطعم الزجاجية.. متجنبة النظر لرواده القليلين بهذا الوقت.. طافت أنظارها كل الزوايا بحثا عنه.. فوجدته هناك يحادث شابً أخر، فافتربت حتى غدت خلفه، فبصرها عامر تقف ساكنة تطالع صديقه الغير منتبه لها.. فلوح بعيناه كي ينظر خلفه.. فالتفت لتتراءى له بنفس طلتها ودفء عيناها شبيهة العسل..! لاحظ ارتجافة طفيفة أصابتها، ربما أحداق المحيطين حولها أزعجتها بشكلٍ ما.. فتخطي دهشته سريعًا وتمتم بصوت رخيم: إنتي جيتي ازاي..؟ عاصم بيه معاكي؟
+
أظهرت ورقتها الصغيرة وكأنها تذكره باستحقاقها المجيء بعد فوز أمس.. وجد نفسه يبتسم وهو يسأل بصوت هاديء: فهمت، يعني جاية عشان وجبة الغدا؟ انتي جعانة دلوقت؟!
هزت رأسها بذات الصمت!..فقادها لطاولة منعزلة نوعًا ما عن طاولات الرواد، وتبعته بتسليم تام، فقال: تحبي تاكلي إيه؟
لم تجيبه، ولما طال صمتها غمغم: تحبي تاكلي على ذوقي؟ أومأت برضا فاستطرد: طيب خليكي هنا ماتتحركيش.. وانا هعملك أوردر واجي..اتفقنا!
+
أطاعته بسكونها.. فغادر تحت أنظار " عامر" الذي تابع ما حدث بذهول فاغرًا فاهه ببلاهة، وبدا على وجه معالم غباء واضحة! ثم غمغم لذاته بتعبيراته وجهه الذاهلة: هو في إيه بالظبط؟
______________________
+
_ وصلت المطعم..!
_ تمام.. فتح عينك وإياك تغفل عنها لحظة!
_ تحت أمرك!
__________________
+
_ ممكن افهم إيه اللي بيحصل؟
+
تأفف ظافر: وبعدين معاك يا عامر.. قولتلك مافيش حاجة البنت جاية تتغدى وده حقها بالكوبون اللي فازت بيه امبارح!
+
_ ظافر.. مابحبش حد يستغباني.. البنت دي مش طبيعية.. نظراتها ليك غريبة، وانت كمان فيك حاجة متغيرة..! هو أنت تعرفها من قبل كده؟
+
_ لأ..! لفظها قاطعة ثم أكمل وهو يبتعد عنه ملوحًا: استعجل الأوردر اللي انا طلبته وركز في شغلك ياعامر بلاش دور المحقق بتاعك ده..!
+
حك عامر ذقنه بنظرة شاخصة متمتمًا لذاته: أقطع دراعي إن ما كان في حاجة تخص البنت دي مش طبيعية.. بس هتروح مني فين ابن الشباسي!
___________________
+
يراقبها باندماج وهي تتناول طعامها وفتاته يتساقط منها، ويدها مرتعشة قليلًا، تحشو فمها بحبات الأرز وهي تترقبه وكأنها تخاف أن يختفي من أمامها لحظة، غير عابئة بما يتساقط أو غير مدركة له.. فقط ترصد وجوده!
+
رغمًا عنه ابتسم وشعور غريب غزاه تجاهها، كأنها طفلته وهو المسؤلة عنها..! تذكر اتصاله على أبيها منذ دقائق وتوصية عاصم له ان يهتم بها وأن يقوم بتوصيلها لمنزلهم الذي أرسل إليه موقعه، تعجب داخله من هذا الطلب وتلك الأرياحية والثقة التي منحه إياها.. لكن بكل الأحوال هو سيكون أهلًا لتلك الثقة..
+
انتبه فجأة أنها تهم بابتلاع قطعة لحم ضخمة دون أن تعي، فحذرها قائلا: لا أستني ماينفعش تبلعي قطعة الأستيك كلها بدون تقطيع، تحبي اقطعها قطع صغيرة عشان تاكلي بسهولة؟!
1
أشارت له بإيماءة، فشرع بتمزيق شريحة اللحم وفتتها لقطع صغيرة، ووضعها فوق حبات الأرز هاتفا: يلا بقى خلصيها كلها، عشان أوصلك لبيت والدك..!
+
أطاعته وهي تأكل وربما لا تشعر بمذاق أو حتى جوع فقط تطالعه.. بعد برهة شعرت بامتلاء معدتها حد الآلم وآنت من كثرت ما تناولته.. فأزاحت صحنها بعيدا.. فأردف: شبعتي؟
هزت رأسها، فقال وهو يناولها محرمة معقمة: طب خدي دي نظفي مكان أكلك..!
فعلت ومازالت أهدابها عالقه بوجه، فشرد وعقله يتسائل
لما أصابتها تلك الحالة وهذا الخرس؟!
الخرس؟؟!! كيف مع همسها أمس؟!.. يبدو أنها تتحدث أحيانًا..أشتعلت رغبته الفضولية لمعرفة ما همست له أمس، فأحنى كتفيه قليلا وتمتم:
+
كنتي بتقوليلي إيه امبارح وانتي بتستلمي الكوبون؟!
حدقتاها تتحرك على وجهه فيعود ليهمس: إنتي تعرفيني قبل كده؟ ممكن تكوني شوفتيني في المنصورة صح؟ أكيد شوفتيني هناك!
+
سعلت فجأة واختنقت، فهرع يناولها كاسة مياه، تجرعتها كاملة ثم صارت أنفاسها تلهث أثر اختناقها القصير، فتمتم:
+
أنا أسف لو وترتك بأسئلتي.. خلاص يلا عشان أرجعك بيتك!
………………… .
+
المارة يحدجوهما بنظرات متعجبة، وهم يشاهدون تشبثها الغريب بذراعه، فحاول إثنائها برفق وقد صابه حرج شديد:
+
أنسة بلقيس ..مايصحش تمسكيني كده أهدي ومتخافيش..! سيبي دراعي وانا همشي جمبك! لم تستجيب فواصل:
الناس كده هيفهموا غلط.. اسمعي كلامي وامشي جمبي وانا واوعدك مافيش حاجة هتأذيكي.. يلا وريني الشجاعة!
+
تعجب لاستجابتها تلك المرة، وأصابعها تحرر ذراعه ببطء لترتخي جانبها وعيناها معلقة بمحياه أغلب الوقت، أما هو عيناه تتفقد الطريق باهتمام، فاحتمالات تعثرها واردة بكثرث لتركيزها المشتت بين الطريق والنظر إليه!
+
تعمد ألا يستقل معها سيارة، أولا لقرب البيت بمسافة تسمح بالترجل.. وثانيٍا كي يجعلها تسير بجوار المارة حتى تعتاد احتكاك الأخرين، افترض ان هذا سيفيدها.. ربما وفق بهذا التصرف لقراءته كتب متخصصة بالطب النفسي الذي يجذبه أحيانًا لمطالعته والإبحار في خباياه..!
+
(هل تتشبث هكذا بالجميع؟ هل يلمس ضعفها كل عابر سبيل..؟ كم يشفق عليها، بحالتها تلك وجمالها الملحوظ هي مطمع لكثيرين.. ومازال يتعجب لثقة أبيها أن يتولى هو توصيلها.. لما لم يفترض أنه شخصٍ سيء ومستغلًا لفتاته؟ لو كنت بموضعه ما استأمنت أحدًا..!)
+
ظلت التساؤلات ترتع وتجول بذهنه وهو سائر جوارها وحالتها تستفزه ليحلل تصرفاتها دائمًا..وغموضها يثيره بشكل كبير..!
+
لاح الآن منزلها.. وها هي والدتها تقف قرب البوابة ويبدو عليها علامات القلق ..قلت ما أن اقتربت: السلام عليكم.. متخافيش حضرتك.. هي جت المطعم، بس انا اتصلت فورا بسيد عاصم عرفته بوجودها، وطلب مني أوصلها، وقالي انه هيبلغ حضرتك ويطمنك!
+
تمتمت وهي تتفحص ابنتها: قالي، وكتر خيرك انك وصلتها لهنا..!..فواصل: واضح أنها حفظت الطريق خصوصا انه مطعمي مش بعيد عنكم..!
_ أيوة فعلا واضح كده.. طب اتفضل يا ابني عاصم في الطريق ووصاني ارحب بيك!
_ لا أعفيني يا امي مش هقدر.. لازم ارجع عشان شغلي!
عاتبته: يعني مش عايزنا نرد جميلك.. طب حتى فنجان قهوة على السريع.. يلا اتفضل وعاصم دقايق هيكون هنا، هو قال عايزك بخصوص شغل بينكم!
تذكر ظافر بالفعل أنه أخبره بطلبية مواد غذائية. جديد لمطعمه، فرضخ بتهذيب: طيب تمام.. بس اتمنى عاصم بيه ما يتأخرش! ..
_ لا اطمن هو. على وصول!
+
تبعها بعد ذلك ووصله همس السيدة المُدلل لابنتها وهي تحدثها:
( زمانك جوعتي يانور عيني.. هحضرلك أكل حالًا)
+
حمحم بحرج قائلا: أنا أسف حضرتك للتدخل بس الأنسة بلقيس اتغديت كويس جدا ومش هتاكل دلوقت!
+
دُرة بدهشة: اتغديت؟ غريبة دي تقريبا مش بترضيي تاكل بسهولة من حد غيري.. يمكن بالصدفة أكلتها حاجة بتحبها؟!
_ أنا معرفش هي بتحب إيه.. بس هي أكلت شريحة استيك، ورز أبيض!
+
اتسعت عيناها بذهول مردفة: استيك؟؟؟ أكلته بجد؟؟
غمغم بتأكيد: أيوة والله أكلته ما شاء الله!
مازالت على ذهولها وهي تقول: بس بلقيس عمرها ما حبت اللحمة بكل أنواعها..!! مستحيل كانت تاكل لحوم!
+
شابته الدهشة هو الأخر ولم يجد ما يعلق به فصمت، ثم تسلل إليه سعادة من نوع أخر، إنتشاء رجولي أنه استطاع انجاز شيء معها لم يفعله قبله.. تلك الجميلة لا تأكل اللحم.. لكن تناولته من يده هو.. وهذا استثناء ارضاه بشكل لا يفهمه! ألهذا الحد يؤثر بها؟ لما؟ عاد السؤال يطوف داخله إلى وصلا إلى ردهة الأستقبال بفيلتهم الأنيقة، فقالت دُرة:
اتفضل يا ابني هطلع بلقيس أوضتها وهاجي يكون عاصم وصل!
أومأ لها بتهذيب فرحلت، وعين بلقيس عالقة به حتى توارت عن ناظريه تمامًا.. فجالت عيناه أرجاء محيطه بدايتًا من بعض الثرايات الرقيقة المعلقة بسقف الردهة، ثم قطع الأثاث الكلاسيكي القديمة الموزعة بشكل أنيق في الأركان وألوان الجدران التي تناغمت مع كل هذا وأضفت على المكان طلة مريحة للنفس والعين ..!
+
بينما حدقتاه تطوف الزوايا وقعت على برواز فخم يضم بين أضلعه بلقيس بشعرها شديد الطول والسواد ووجهها يضحك مُلصقة وجنتها بوجنة أبيها.. ومقلتاها يضوي عسلها بروعة، ونظرتها مفعمة بالثقة والذكاء وربما لمس لمحة غرور، لكن لم يراها منفرة.. فمن حظى بفتنها يليق به بعض الغرور وإن كان لا يفضل تلك الصفة إن تجاوزت الحد .. شرد بها وباسباب تحولها لتلك الفتاة الهشة الخائفة من مجرد صوت صاخب حولها.. من سرق تلك النظرة وأين ذهب شعرها الذي نقص من طوله الكثير.. كم هي لغز بالنسبة له ولا يعرف له حلًا.. ظل على شروده وهو يحلل وجهها ولم يعي لشيء إلا حين سمع أحدهم من خلفه: السلام عليكم!
+
التفت سريعًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!
عاصم: أسف تعبناك معانا وعطلناك يا ظافر..!
_ لا أبدا مافيش تعب! بس
عاصم: بس أيه؟
ظافر: بدون زعل يعني.. بنت حضرتك ماينفعش تروح مكان لوحدها بحالتها دي.. زي ما انت فاهم مافيش أمان.. ممكن تتعرض لأي موقف يأثر عليها أكتر..!
+
أثنى عاصم داخله على أخلاق هذا الشاب وأمانته.. هو محق لا يجوز الثقة بأحد.. وهو بالفعل لم يمنحه ثقته كما ظن ظافر، فكل خطوة خطتها قدم ابنته ولحظة قضتها خارج حدود عرينه كانت تحت أنظاره من خلال مقاطع بث مباشر تابعه بهاتفه، بعد أن استعان لأجلها بأحد رجال الحراسات الخاصة والمدربة على المراقبة دون لفت انتباه والقدرة العالية على الحماية إذا لزم الأمر..منحها الحرية.. لكن وهي تحت بصره.. لن يتركها تتأذى مرة أخرى.. كما لن يقيدها بعد ذلك!
+
_أسف لو ملحوظتي ضايقة حضرتك!
+
هكذا تمتم طافر، فأجابه عاصم: بالعكس كلام صح جدا وبشكر أمانتك وصدق النصيحة ياظافر..!
+
( عاصم بيه.. الجاكت اللي حضرتك طلبته! )
+
تناول المعطف من الخادمة وأمرها بالرحيل، ثم. نزع عنه غلافه البلاستيكي الشفاف، ووضعه أمامه والتزم بعص الصمت، ثم غمغم بعدها وكأنه يحدث نفسه: تعرف إن صاحب الجاكت ده هو اللي انقذ بنتي؟!
+
جحطت مُقلتي ظافر بذهول متفحصًا المعطف الذي التقطه بتلقائية وهو يفتشه بموضع محدد، وما أن بصر أسمه المحتجب بجيب صغير بحروفه المعدنية، حتى حدثت له صدمة حقيقية جعلته يجلس على أقرب مقعد له وذاكرته تستعيد بقوة تفاصيل ذاك اليوم البعيد وكأنه يحياة مرة أخرى، حين طارد بسيارته هو وصديقه ثلاث أوغاد وأنقذ فتاة غارقة بدمائها مشوهة الوجه ببشاعة..وشعر كأن همهمتها المستغيثة تصدح من جديد بتلابيب عقله المشوش.. مسد ظافر جبينه وانعقاد حاجبيه وتقطيبته تزداد تجعيدًا..كل هذا وعاصم يراقبه ردود أفعاله عن كثب، وخبرته وشعوره گ أب.. أخبره أن كل ظنونه هو والطبيب في محلها.. ذاك الشاب هو من أنقذ ابنته.. هو ملاذها الذي تعلقت به ولا تجد في سواه ملاذ!
+
أغرورقت عيناه وهمس بمشاعر متهدجة:
+
_ يعني انت اللي انقذت بنتي يا ظافر؟
+
رفع عينه ونظر إليه فوجد رجلًا أخر مغاير لذاك المتماسك القوي.. وجد أبٍ بأقصى صور الضعف ودموعه مُسالة على وجه.. كم مؤلم بكاء الرجل وكم هو حدث جليل..والد معذب مفطور القلب على ابنته.. لم يتحمل قلب ظافر رؤية انهيار ذاك الرجل المهيب، فاقترب منه وأمسك كفيه بقوة وهو يحدثه برفق: عملت اللي قدرت عليه يومها.. ياريتني قدرت انقذها من البداية.. بس للأسف لما شوفتها كانت………… !
+
صمت ظافر متجرعا غصته لا يعرف ماذ يقول وكيف يصف ما رآى.. فانهار عاصم منتكس الرأس يبكي بشكل لم يستطع مقاومته.. فما كان من ظافر سوى رفع هذا الرأس المنتكس وصوته بدأ بقوة السيف وهو يؤازره: متبكيش يا عاصم بيه.. واللي عنده بنت زي بنتك عمره راسه م تنحني أبدًا .. لو كنت شوفت وشوش الخنازير اللي خطفوها ازاي متشوهة بمخالبها والرعب والخزي ماليهم بعد ما بنتك قاومتهم بكل قوة وشجاعة كنت عرفت انها علمتهم درس لو عايشين مستحيل ينسوه.. ولولا إني كنت عايز انقذها يومها، أقسم بربي ماكنتش سبتهم..! بس ربنا مش هيسيبهم.. خليك واثق في ربنا.. محدش بيهرب من أثامه.. ذنب بنتك هيلاحقهم عايشين ولا ميتين! ( ماتو) هكذا همس عاصم من بين بكاءه
فهتف طافر: ماتو؟ إزاي؟ عرفت ازاي؟
+
هدأت وتيرة بكاءه قليلا وقص له باقتضاب ملابسات ماحدث بعدها.. فسبح ظافر بقصاص ربه العادل بوقتها واستحقاق ثلاثتهم ذاك المصير المأساوي!
……………………… ..
مضى بعض الوقت، استعاد عاصم رباطة جأشه، وراح يقص له كل تحليلات الطبيب واستنتاجاته وربط تعافي بلقيس به.. وبعد أن صار كل شيء واضح، تسائل ظافر:
+
_ يعني الطبيب محتاج يقابلني؟
_ أيوة.. بيقول انك انت الوحيد بعد ربنا اللي تقدر تساعد في علاج بنتي وتخليها ترجع لطبيعتها تاني..!
+
غمغم ظافر بشهامة هي سمة من سماته: وانا أي حاجة في ايدي وممكن تساعد بنتك هعملها.. وبإذن الله هزور الطبيب انهاردة مش هستنى لبكرة.. وربنا يمن عليها بشفائه عن قريب!
………………..
تركه ظافر وراح يلملم ذاته المبعثرة المآخوذة بفعل اكتشاف تلك الحقيقة..أن الفتاة التي أنقذها هي ذاتها بلقيس؟! كيف حدثت كل تلك الصدف بينهما.. وكأنها عالقة به بخيط رفيع لا تبصره عين.. اينما وجد أحدهم.. حضر الأخر بطريقةٍ ما..!
+
تُرى.. ماذا تُخبيء المقادير لبلقيس؟
هل بظهور تيماء مرة أخرى ستصاب بمحنة جديدة وينالها كيد حية رقطاء؟
وهل وجود ظافر سيمثل فارقًا لها وتتعافي بشكل كامل؟
انتظروا الفصل القادم
_____________________
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا