رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثالث)جمر الجليد الفصل الأول والثاني بقلم شروق مصطفى حصريه
رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثالث)جمر الجليد الفصل الأول والثاني بقلم شروق مصطفى حصريه
الفصل الاول جزء الثالث وانصهر الجليد حصري
الفصل الأول وانصهر الجليد الجزء الثالث جمرالجليد بقلم شروق مصطفى
بعد مرور خمس سنوات على أبطالنا، نجدهم يستعدون للاحتفال بعيد ميلاد ابنتهم الوحيدة.
قالت همسة لزوجها، وهي تتابع التحضيرات:
– استنى يا وليد، اتصلت بالمحل وأكدت عليه نستلم الساعة 8 عشان ميتأخروش.
توقف وليد قبل أن يغادر، محدثًا إياها:
– كلمتهم والله، متقلقيش. هنزل أجيب شوية لعب وحاجات ناقصة، وهكلم معتز أشوفه. وانتي كلمي مي، ونعمل محاولة بينهم يمكن.
ردت همسة ببعض الحزن:
– ياريت بجد... حاضر، هكلمها.
– يلا، ولو احتاجتي حاجة كلميني.
---
هاتفت همسة مي بعد مغادرة زوجها، وبعد قليل جاءها صوتها:
– الندلة اللي مش بتسأل! وحشتيني يا بت!
– همستي حبيبتي، وانتي أكتر والله.
– لو وحشتك كنتي كلمتيني، ونشوف بعض زي الأول.
– معلش... حقك عليا، هشوفك والله ونتكلم. وسيلا كمان وحشتني أوي.
– طيب إحنا فيها، نتقابل النهاردة في النادي، عيد ميلاد بنوتي، وسيلا موجودة برضه.
ردت مي بسعادة وبصوت طفولي:
– حبيبي الصغنن! كل سنة وهي طيبة. وحشتني خالص، بس صدقيني، هجيلك يوم تاني والله ونتكلم... محتاجاكم أوي، وبوسيلي كتير، عقبال ما أشوفها.
– ليه يوم تاني؟ خليها النهاردة، هزعل منك لو مجيتيش بجد، تعالي، موحشتكيش لمتنا كلنا؟
مي بغصة ألم، تحدثت بخفوت:
– أكيد واحشني طبعًا... بس مش هينفع، بجد.
– مش هضغط عليكي، بس ضروري نتكلم.
– حاضر، هكلم سيلا وأكلمك ونتقابل، بس بلاش البيت، خلينا نخرج في أي مكان بره.
– اتفقنا. هروح أكمل شوية حاجات، وخلي بالك على نفسك.
– حاضر، مع السلامة يا حبيبتي.
---
بعد أن أغلقت مع صديقتها، أخرجت زفيرًا طويلًا حمل معه الكثير من التأوهات المؤلمة. كلمة "لمّتنا" أوجعتها، فالسعادة مرّت كلمح البصر، لكن الحزن لا يزال مخيمًا في القلب ولم ينتهِ بعد.
دخلت إليها والدتها، فمنذ طلاقها وهي حبيسة الغرفة، ذبلت كثيرًا. ربتت على كتفها بحنو:
– وبعدهالك يا مي، بقالي ست شهور على كده... حبسة نفسك ودمعتك ما نشفتش يا بنتي.
ابتسمت مي محاولة التماسك، لكن ابتسامتها كانت باهتة:
– أنا كويسة يا ماما، والله.
قالت الأم بقلة حيلة، وقد رأت نور ابنتها ينطفئ:
– اخرجي، قابلي أصحابك طيب، أو روحي النادي، انزلي اشتغلي... الهي نفسك عشان ما تفكريش فيه.
– مليش نفس أعمل أي حاجة بجد... حتى لسه همسة قافلة معايا، عيد ميلاد بنتها في النادي، بس اعتذرت.
– ليه؟ روحي يا حبيبتي وانبسطي، شوفي أصحابك. هتفضلي حابسة روحك لحد إمتى؟ عمر الزعل ما يروح بالحَبسة، ولا العياط هيرجع اللي فات.
– مش هينفع أروح... أكيد هو هناك معاهم.
قالت الأم محاولة دفعها للأمام:
– طيب ليه مش بتقابلي أصحابك؟ حتى سيلا! الصراحة ما سابتكيش، كل يوم تكلمني وانتي مسافرة تطمِّن عليكي... كلميها.
صمتت الأم لحظة ثم أردفت:
– يا بنتي، العمر لسه قدامك... مش من تجربة فشلتي فيها تيأسي وتعتزلي الناس. إللي حوالينا مش هيسيبونا في حالنا، لكن لو قوية، اتحديهم.
ردت مي والدموع تملأ عينيها، غير مصدقة:
– أنا انكسرت... جوايا وجع ونار لسه قايدة، لحد دلوقتي مش مصدقة اللي حصل. حاسة إني في حلم، بجد.
زفرت الأم بقوة، تستجمع كلماتها لتقوي ابنتها التي لم يكتمل زواجها وطُلقت، لأسباب قاهرة. حثّتها على المثابرة في هذه المعركة التي فرضها عليها المجتمع بلقب "مطلقة" وكأنها أذنبت، فقالت:
– يا خايبة، أنتي الكسبانة... هو الخسران وهيندم عمره كله. صدقيني، ربنا نجّاكي. مش من أول وقعة تستسلمي كده. لو وقعتي، اقفي، واحمدي ربنا إنك لسه بطولك.
– أحنا كلنا جوّه ساقية بتمشي... في اللي بيستمر، وفي اللي يقع ويقوم ويكمل، وفي اللي يقع وما يقدرش. الحمدلله إنك بطولك، من غير عيل... فوقي لنفسك، وارمي اللي فات وراكي وابدأي حياة جديدة. أنا مش هعيش لك العمر كله، لازم توقفي على رجلك... على أرض صلبة.
ارتمت مي في أحضان والدتها، تقبلها بلهفة:
– بعد الشر عليكي، متقوليش كده.
اعتدلت الأم، وتحدثت وهي شاردة:
– والله يا ماما، هحاول أرجع من تاني... ادعيلي إنتي بس.
– قومي صلي ركعتين واشكري ربنا. "وَتَحْسَبُونَهُ شَرًّا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ" دايمًا حطيها في بالك... وأنا دايمًا بدعيلك يا بنتي.
– يلا، هروح أجهز الغدا... وتعالي ساعديني، أخوكي ومراته والعيال جايين.
ابتسامة باهتة ارتسمت على وجهها، وهزّت رأسها موافقة، ثم قامت لأداء ركعتين لله.
---
مساءً – داخل أحد النوادي
في حديقة المطعم، زُيّن المكان بفروع الزينة والبالونات، ممتدة على حوض السباحة، مما أعطى مشهدًا مبهجًا للعين، وجوًا مرحًا على أنغام أعياد الميلاد. كان الأطفال يركضون ويلهون بألعاب الميلاد.
تقدمت سيلا نحو الطفلة الصغيرة، تحدثت بفرح وهي تقبّل وجنتيها:
– حبيبة خالتو يا ناس! كل سنة وانتي طيبة يا قلبي، اتفضلي هديتك.
همس، بصوت طفولي مبهور:
– الله! حلوة أوي يا خالتو.
أخذت اللعبة وركضت تلهو مع أصدقائها، ومع بنات عمها التوأم كنزي وكرما، اللتين تبلغان سبع سنوات. وأثناء اللعب، انتبهت لشيء ما، فتركت يد من كانت تمسك بها، وركضت بلهفة نحوه.
في تلك اللحظة، صُدمت سيلا من شيء ما أمامها. حزنت داخليًا لما آل إليه حالهم، لكنها صمتت... فليس هذا وقت الحديث أو العتاب.
---
ركضت الصغيرة حينما شاهدت صديقتها في المدرسة بصحبة شخصٍ ما، فهرولت إليها بفرحة واحتضنتها بسعادة، محدثةً ببراءة:
– دودو صاحبتي! أنتي جيّه عشاني، صح؟
ردّت الأخرى بسعادة لرؤيتها:
– أنا جيه مع بابي وتيتة.
ثم رفعت رأسها لأعلى، تمسك بطرف بنطاله وتتوسله:
– بابي، بابي... عاوزة أروح ألعب مع صاحبتي، بلييييز!
فهم بدر الأجواء من حوله، وما ترتديه الصغيرة من ثوب أبيض وتاج على رأسها:
– مش هينفع يا دودو... استني بس.
لكن الصغيرة شدّت يده، بينما يدها الأخرى جذبت يد صديقتها "همس"، التي همست لها:
– تعالي... ده عيد ميلادي كبير!
نظر بدر إلى والدته، طالبًا النجدة في هذا الموقف، فهم ليسوا من ضمن الضيوف. تدخل وليد سريعًا عندما لاحظ ابنته قد ابتعدت وتركت الحفل، وتحدثت ابنته إليه:
– يا بابي، دودو صاحبتي! عاوزاها معايا.
تعرّف وليد على بدر ووالدته، ورحّب بهم بلطف، عارضًا مشاركتهم الحفل. وافقوا، لتجذب الصغيرة صديقتها خلفها، يركضون بسعادة.
دخلوا سويًا إلى الحفل، وتفاجأ بدر عندما رأى عاصم أمامه. وكاد وليد أن يقدّمهم لبعض، إلا أنه فوجئ بهما يتعانقان. هتف عاصم:
– إيه المفاجأة الحلوة دي!
هتف وليد بدهشة:
– انتو تعرفوا بعض؟!
قهقه بدر، وهو يربت على كتف عاصم:
– طبعًا! ده حبيبي وأعز صديق، بس بقالنا كتير ماشفناش بعض.
ردّ عاصم بمزاح:
– الندالة ليها أصولها، عارف؟ أمال فين بنوتك؟
ردّ بدر محاولًا كتم ضحكته:
– لا وانت الصادق... الندالة ليها عنوان، وعنوانها إحنا!
ضحك وليد وهو يشير نحو الأطفال:
– ونِعم الصحاب! همس صادرت بنتك خلاص... دول طلعوا صحاب كمان في المدرسة!
ظلوا يتحدثون وينشغلون في الحوار، ثم انضم إليهم معتز وعامر. استمر عيد الميلاد حتى نهايته، وكانت النهاية مليئة بالسعادة للبعض، واللامبالاة للبعض الآخر، وبعض الشفقة في قلوب آخرين...
..
كان يقود سيارته، وكل تركيزه منصب على الطريق أمامه، في صمتٍ تام حتى قطعته سيلا قائلة:
– جميل عيد الميلاد أوي.
ردّ دون أن يلتفت إليها:
– آه... أوي.
عاد الصمت من جديد، لكن عقلها لم يتوقف عن التفكير فيما رأته سابقًا؛ حين رأت معتز، شقيق زوجها، يسير بصحبة فتاة وقد تبادلا لمساتٍ حميمية وكأن بينهما علاقة حب! وكأن ما حدث مؤخرًا لم يكن على باله أصلًا. بقلم شروق مصطفى
استطردت حديثها، والحزن يعلو ملامحها:
– إيه اللي معتز عامله ده؟ ومين اللي معاه دي؟ لحق ينسى مي ويرتبط بالسرعة دي؟
أخرج عاصم زفيرًا طويلًا، ثم شدّ قبضته على المقود حتى أبيضت عروقه، وازدادت سرعته دون أن ينتبه، ثم قال بغضبٍ مكتوم، مكررًا ذات الكلمة:
– غبي... متسرع.
أحست سيلا بالخطر، فحاولت تهدئته، منادية برجاء:
– أهدي يا عاصم، خلي بالك من الطريق... هدي السرعة، أرجوك.
انتبه أخيرًا لحالته، فخفّف السرعة وتوقف بجانب الطريق، ثم اعتذر بهدوء:
– آسف... محسّتش بنفسي، أنتي كويسة؟
هزّت رأسها بالإيجاب، ثم أردفت:
– متقلقش... كويسة.
صمتت لثوانٍ، ثم تابعت بنبرة حزينة:
– هو خلاص كده؟ مفيش أمل لرجوعهم تاني؟ واللي بيعمله ده بيوصلنا إنه مش في دماغه أصلًا وبيعيش حياته... يعني ليه؟ مش قادرة أصدق إن قصتهم تنتهي كده.
قال عاصم بأسف:
– للأسف... بقى شخص تاني معرفهوش، آه لو أعرف بس السبب!
تنهدت سيلا بأسى:
– أنا حاولت أكلم مي كتير بس مفيش فايدة... ورُحتلها لاقيتها سافرت عند خالتها، حالتها مدمّرة، حرام اللي بيحصل بينهم ده.
قال عاصم وهو يدير المقود بسخرية:
– ماسك بنت معاه... مش عارف بيضحك على نفسه ولا على مين. غبي
سألته سيلا بتساؤل واضح:
– مش الدكتور كان ضمنكم آخر مرة وبقى كويس؟ ليه اتغير كده بعدها؟
أجاب عاصم بقلة حيلة، وهو يشعر بقلبه يؤلمه:
– مش عارف حاجة بجد... بعد الحادثة اتغير، رغم إن مي ما سبتوش، لكن جواه اتغير.
قالت سيلا بدعاء صادق:
– ربنا يرد ضالته ويهديه ويرجع لصوابه قبل فوات الأوان.
– يارب... – تنهد عاصم مجيبًا.
ثم حاول تغيير الأجواء قليلًا، فابتسم وقال:
– بس كنتي زي القمر النهارده يا أميرتي.
ابتسمت سيلا برقة:
– أميرتك مرة واحدة؟ بكّاش أوي على فكرة!
ضحك عاصم وهو يجذبها إليه بين ذراعيه:
– بكّاش في حب أميرتي وبنوتي... إيه بقى؟
قالت بحبٍ صادق:
– ربنا يباركلي فيك يا رب... ويفرحك زي ما بتفرحني بكلامك وحنانك عليا.
ردّ عاصم وهو يقود، ممسكًا بيدها وقبّلها:
– أنتي أول فرحة ليا... دخلتي حياتي ونوّرتيها، ومش عاوز حاجة غير كده.
فجأة، دوّى صوت من بعيد:
– روح يا بني هاتلنا جوز الكناريا دول على جنب!
نظر عاصم في المرايا الجانبية، ورأى أمين شرطة يلوّح له وهو يقود على مهل.
تمهل في القيادة، وتوقف على جانب الطريق عندما رأى لجنة أمنية أمامه. اقترب أمين الشرطة منه، وبصوتٍ أجش قال:
– تعالالي يا عم النحنوح... على جنب كده، خلّي اللي وراك يعدّي، شكلك هتأنّسنا شوية!
نظرت سيلا إلى عاصم بصدمة، ثم تبادلا النظرات، وحاول عاصم تهدئتها، مشيرًا لها بألا تخرج من السيارة. لكن لم تمضِ ثوانٍ حتى أصدر الأمين صوت طرقٍ على سقف السيارة وهو يهتف:
– يلا انزل... إنت والأمورة اللي معاك كده!
يتبع
الفصل الثاني جزء الثالث جمر الجليد
الفصل الثاني وانصهر الجليد ج3
بقلم شروق مصطفى
– يلا انزل... ياعم النحنوح أنت والأمورة اللي معاك كده وريني نفسك..
نزل من السيارة بكل شموخ وكأن الأرض لا تسعه، وبدون أي تمهيد، انقضّ على الأمين ممسكًا بياقة بدلته، وصوته يخرج كصفير الأفعى، حادًا وباردًا:
_ إنت أد اللي عملته دا.
أخرج الكارنيه الخاص بجهاز المخابرات، لا يزال مشتبكًا معه، يحدّق فيه بعينين ملتهبتين بالغضب، وكأن نظرته وحدها كفيلة بإيقاع العقاب.
+
لم تمر لحظات حتى وصل الضابط الآخر، وحين أبصر وجه عاصم عرفه مباشرة، أدّى له تحية عسكرية خاصة، نبرة صوته خافتة ومليئة بالرهبة:
_ تمام يا فندم، إحنا آسفين جدًا، معاليك.
لم ينبس عاصم ببنت شفة، اكتفى بنظرة صارمة، قبل أن يستدير، يركب سيارته، وينطلق مبتعدًا. وبينما كانت عجلات السيارة تلتهم الطريق وصوت أنفاسه عاليه، انطلقت ضحكة عالية من المقعد المجاور. التفت إليها بنظرة نارية، لكنها كانت تحاول عبثًا كتمان ضحكتها.
قالت سيلا، بصوت مرتجف من الضحك:
_ بس ما تنكرش إنك كنت نِحنوح... واتمسكنا متلبسين يا حضرة الظابط نحنوح...
غمز لها عاصم بنظرة ماكرة:
_ فرحانة فيا؟ ماشي... لينا بيت، يا سيلا، وشوفي النحنوح ده هيعمل فيكي إيه.
ابتسم بمكر، وضغط على دواسة البنزين، منطلقًا في الطريق.
وصلوا إلى البيت ترجل من السيارة ودار حولها ببطء، فتح لها الباب وأشار بيده وهو يقول بنبرة منخفضة، تنضح بالثقة:
_ اتفضلي يا حرم النحنوح.
ضحكت سيلا وهي تخطو إلى الداخل:
_ إنت ناوي على إيه بالضبط؟
أغلق الباب خلفها بهدوء، وخطا نحوها، صوته ينساب كهمس الليل، يحمل شيئًا من المزاح وكثيرًا من التهديد اللذيذ:
_ ناوي أورّيكي يعني إيه تعيشي مع ضابط مخابرات نِحنوح.
قهقهت وهي تبتعد عنه قليلاً، تقول بخفة:
_ بس إنت شكلك واخد الدور بجد.
مدّ يده نحوها بخفة:
_ تعالي هنا، وخليكي جريئة زي ما كنتي من شوية.
تقدّمت منه خطوة، عيناها لا تزالان معلّقتين بعينيه، ثم فجأة، أطلقت ضحكة قصيرة، ضحكة ملأت المكان بشيء من الحياة والعبث، وقالت بمرحٍ مراوغ، وكأنها تؤجل المواجهة للحظة التي تختارها هي:
– دا بعدك.
ثم استدارت بسرعة، وركضت بخفة نحو الداخل، ضحكتها تسبقها، وأغلقت باب الغرفة خلفها في حركة مسرحية، تاركة عاصم واقفًا في مكانه، يحدّق في الباب المغلق، وابتسامة لا إرادية تتسلل إلى وجهه.
تمتم بحنق، وهو يخطو ببطء نحو الباب، نظراته مشتعلة بمزيج من التحدي والدهشة:
– سيلا... إنتي بتلعبي بالنار.
اقترب أكثر، خطواته ثابتة كمن يتهيأ لمعركة من نوع خاص. وضع يده على المقبض، تأمله لحظة، ثم أدار المقبض ببطء، وكأنه يمنحها فرصة أخيرة للتراجع.
لكن الباب كان مغلقًا من الداخل.
ابتسم ابتسامة جانبية، ساخرة، ورفع حاجبيه كأنها زادته إصرارًا لا تراجع فيه. تمتم مجددًا، نبرته تحمل وعدًا مريبًا:
– ماشي... وريني بقى هتستخبي لحد إمتى.
مدّ يده وطرق الباب طرقًا خفيفًا، نبرته هذه المرة أكثر هدوءًا، لكنها مشبعة بذلك الغموض الخطير:
– افتحي يا سيلا... أنتي اللي بدأتي اللعبة.
.................................................
صباح اليوم التالي
خلصتي يا سيلا ولا لسه؟ أعدي عليكي؟ أنا لسه طالع من الشركة.
قالها عاصم من هاتفه وهو في طريقه إلى الخارج.
على الجانب الآخر، كانت سيلا تنهي بعض أعمالها داخل الجريدة وهي تهاتف زوجها:
– "ةلا يا عاصم، روح إنت. مي كلّمتني من شوية، هخلّص وأقابلها في كافيه. أنا ما صدّقت إنها كلّمتني أصلًا.
عاصم بابتسامة دافئة:
– طيب يا حبيبتي، كلّيميني لو في حاجة. مع السلامة.
أغلقت المكالمة، ثم أكملت كتابة بعض التقارير أمامها. وبعد دقائق، هاتفت صديقتها:
– ها يا حبيبتي، أنا خلّصت. أنتي فين؟
– "مي؟
– أه، خلاص، هلبس الطرحة وأنزل. هنتقابل في الكافيه... عارفاه؟
بقلم شروق مصطفى حصري
– سيلا: آه، عارفاه. تمام، هسلّم التقارير وأستناكي. باي يا قمر.
ربّتت والدتها على ظهرها بعد أن أغلقت مع صديقتها وقالت بابتسامة مشجعة:
– كويس، انزلي وغيّري جو. سيلا جدعة وبتحبك، اتكلمي معاها. طالما كاتمة جواكي، الكتمة غلط.
– هحاول يا ماما، بجد هحاول. حاضر.
– يكتبلك في كل خطوة سلامة يا رب.
– ما تحرمش منك يا رب. هنزل أنا عشان هي مستنياني. مع السلامة."
– "سلام، يا قلب أمك.
خرجت سيلا من المنزل، فيما جلست الأم على أقرب أريكة، تغالب دموعها التي انهمرت بصمت، وهي تهمس بحرقة:
– ملحقتيش تتهني وتفرحي يا بنتي... إحنا السبب. استعجلنا عليه وقلنا يتعدل ويتقي ربنا... آه يا حبيبتي... استغفر الله العظيم يا رب من كل ذنب. لك الأمر من قبل ومن بعد.
ثم نهضت لتكمل روتينها اليومي، تحاول أن تتماسك، لكنها تحمل في قلبها غصة لن تزول بسهولة.
....
داخل الكافيه
نهضت سيلا فور أن لمحت مي تدخل من الباب، واحتضنتها بشدة، ثم جلستا معًا من جديد.
قالت سيلا بسعادة لرؤيتها:
– "إيه الغيبة دي كلها؟ وحشتيني أوي."
ردّت مي باشتياق:
– "وإنتي كمان والله. أول ما رجعت من عند خالتي كلمتك على طول. وحشني الكلام معاكي بجد."
هتفت سيلا بمحبة:
– "يا قلبي! من وقتها وأنا بحاول أوصلك، معرفتش، وعرفت من مامتك إنك سافرتي لخالتك البلد. كل يوم أكلم طنط وأطمن عليكي، بجد مش مصدقين اللي حصل."
أجابت مي بتنهيدة حزينة ووجع داخلي:
– "نصيبي كده، هعمل إيه."
صمتت سيلا لحظة، حزينة على صديقتها، ثم قالت:
– "ليه ما كلمتيش حد مننا؟ أنا أو عاصم؟ ليه قررتوا كل حاجة لوحدكم كده مرة واحدة؟"
تنهدت مي بحرارة:
– "معلش يا سيلا، مش قادرة أتكلم في أي حاجة دلوقتي عن اللي حصل. بس أنا طالبة منك خدمة صغيرة، ياريت تقدري تعمليها لي."
حاولت سيلا بث الطمأنينة لها:
– "هسيبك براحتك، وقت ما تحبي تتكلمي أنا موجودة، مش هضغط عليكي. اطلبي يا حبيبتي اللي انتي عاوزاه."
قالت مي ببعض الحرج:
– "يعني... كنت عاوزاكي تتوسطي لي عند أستاذ أحمد إني أرجع الجريدة تاني."
فرحت سيلا وقالت بحماس:
– "بجد؟ ياريت والله! أصلاً الجريدة دمها تقيل أوي من غيرك، وكمان لسه في محرر استقال وعمل لنفسه جورنال مع أصحابه وساب الشغل. سيبيلي الموضوع ده، وأنا قريب جدًا هكلمك أقولك. بس انتي استعدي."
صمتتا لحظة، ثم تحدثت سيلا بحماس:
– "ويا سلام بقى نرجع نطلع مؤامرات سوا! فاكرة لما طلعنا الغردقة والكوارث اللي حصلت فيها؟"
تناست مي همها قليلًا، وابتسمت:
– "فاكرة؟ لما عاصم وقعك في البسين؟ كان يوم فظيع! كنتوا ناقر ونقير، قط وفار، وهو أبو لهب كده في نفسه مش طايق حد!"
قهقهت سيلا بصوت عالٍ، متناسية تواجدها داخل الكافيه:
– "يا خبر! هو ده يوم يتنسي؟ ولا لما افتكرته واللي عمله فيا زمان، وقمت دلقت عليه مية بردة وهو قاعد، وأنا ملحقتش أجري من قدامه! بس إيه؟ ثبّتُّه برضه، ما سبتّهوش... ضربة تحت الحزام!"
ابتسمت مي بهدوء:
– "أوووه، بجد أيام جميلة أوي أوي. لا، انتي حمستيني بجد للشغل."
قالت سيلا بعد أن هدأت من الضحك:
– "قريب بإذن الله نتجمع كلنا."
...
دلفت سيلا إلى مملكتها،
وجدت عاصم جالسًا يتابع حاسوبه الخاص، فأغلقه فور أن جلست بجانبه، وأحاطها بذراعيه بحنان، قائلًا بود:
– اتأخرتي ليه كده؟ كل ده كلام؟
نظرت سيلا إلى ساعتها وتحدثت:
– خالص، يعتبر مقعدتش معاها غير ساعة بس. السكة كانت زحمة جدًا.
ثم تابعت وهي تنهض:
– هقوم أحضّر لنا الأكل حالًا، زمانك جعان. أنا ميتة من الجوع أصلًا.
أجابها عاصم وهو ما زال يحتضنها:
– ارتاحي إنتي، خلي دادا فاطمة تحضّره. احكيلي بقى، عملتوا إيه؟ وهي أخبارها إيه؟ ولا مش فارق معاها زي معتز؟
تنهدت سيلا بعد أن التقطت بعض الأنفاس:
– لا، اللي أنا حسيته من كلامها إنها موجوعة أوي، بس مش قادرة تتكلم. وسيبتها براحتها. المهم إنها عايزة تخرج من اللي هي فيه، وعاوزة ترجع الجريدة تاني. هكلم أستاذ أحمد... يا رب يوافق بس.
قال عاصم بجدية:
– سيبي موضوع المدير عليّ. من بكرة هخلّيها تنزل، متقلقيش. ربنا يهدي الحال... ولو إني شاكك في حاجة كده.
نظرت له سيلا باهتمام:
– شاكك في إيه؟ قولي.
عاصم، وقد مرّ الألم في عينيه، قال وهو يحاول كتم ما يشعر به:
– أول ما أتأكد منها، هقولك.
قالت سيلا بمزاح:
– هممم... حس مخابراتي بقى هيشتغل؟
ضحك عاصم وهو يجذبها ويدغدغها:
– أيوه، هو حس ده! ويلا قومي بدّلي هدومك عشان جعان... بدل ما أبدلها لك أنا بطريقتي!
ركضت من أمامه بسرعة وهي تقهقه، هامسة:
– آه يا سافل!
ردّ عليها ضاحكًا:
– سمعتك! بس لما تيجي...
...
على الجهة الأخرى، دخلت مي إلى غرفتها مباشرة، بينما الذكريات تهاجمها من كل زاوية، كأنها كانت مختبئة تنتظر لحظة ضعف لتنهشها.
لقاء سيلا فتح جرح كانت بالكاد تحاول تغطيه…
أخرجت صورة لهُ من خزانتها، تلك الصورة التي ظلت تخبّئها كأنها تخبئ قلبها معها.
تأملت ملامحه التي أحبّتها، تفاصيل وجهه التي حفظتها عن ظهر قلب، وابتسمت...
ابتسامة موجوعة، مختنقة، حينما مرّ أمام عينيها ذلك الخبر الذي حطم قلبها ذات يوم...
الخبر الذي لم يكسره فقط، بل بعثر كل ما بينهما.
كانت ثلاث سنوات من الحب، والدلال، والتدليل...
ثلاث سنوات ظنتها عمرًا كاملًا من الأمان.
وفي ذكرى زواجهما، أرادت أن تفاجئه كما اعتادت...
دخلت المطبخ، بكل شغفها، بكل حبها، تُعدّ ما يحب من الحلويات،
لم تعلم أن القدر كان يُعدّ لها مفاجأته الخاصة...
قاسية... صادمة...
أخذت حمامًا دافئًا، تعطّرت، وارتدت فستانها الأحمر الناري...
ثم جلست تنتظره، بعينين يملؤهما الشوق... وغفَت على أملٍ لم يتحقق.
رنّ الهاتف،
رفّت جفونها، قلبها دقّ بقوة، يدها ارتعشت وهي تلتقط الهاتف...
اسمه على الشاشة.
لكن الصوت؟ غريب... خشن... ليس هو...
أجابت بصوت مهزوز قليلًا:
– "أ... ألو؟"
– "حضرتك تعرفي صاحب الرقم ده؟ هو دلوقتي في مستشفى الشروق، عمل حادثة...
سكت الزمن...
تجمّدت كل الأصوات...
النبض تاه بين الرجاء والصدمة...
– آه... س-سمعت... جاية حالًا.
مرّ الشهر الأول كالكابوس،
جسده مكسور، روحها متعبة... لكنها لم تتخلَّ، لم تبتعد.
كل لحظة ألم كانت تعيشها معه، تحملها بصبر، بحب، بوفاء...
كانت يده وسنده، ظله في غيابه عن نفسه...
لكنّه؟
كان كمن فقد قلبه مع الحادث، أو ربما... كان قد تركه عند غيرها!
النفور بدأ، الجفاء، القسوة...
كأنها لم تكن حبيبته يومًا، كأنّ ما كان... حُلُم.
ذات يوم، بينما كانت منشغلة في المطبخ تطهو له أكلاته المفضلة،
سمعت صوت سقوط شيء، فركضت بسرعة لتجده يحاول الإمساك بالعكاز بعد أن سقط.
أسرعت إليه لتساعده بلهفة:
– منادتيش عليا ليه يا حبيبي؟ تعالَ عاوز تروح فين؟
ناولته العكاز، واقتربت لتُسانده،
لكنّه غرز يده فيها ليُبعدها عنه، ثم صرخ بصوتٍ عالٍ:
– مش عاوز مساعدة من حد... امشي من وشي!
قالت وهي تبتلع دموعها:
– بس أنا مش حد! أنا حبيبتك... إنت نسيت؟ لو مكنتش جنبك، مين هيقف غيري؟
صرخ بها مجددًا:
– أنا مش محتاج حد جنبي! ومش عايزك! افهمي بقى... ابعدي عني!
أمسك العكاز، وتحرك ببطء حتى وصل إلى الحمّام...
ركضت هي بسرعة إلى المطبخ، تُكتم دموعها قبل أن تنهار حصونها، وظلّت تُهدّئ نفسها وتكمل ما كانت تفعله.
الجدران بدأت تتهالك...
وهي وحدها، تسندها دموعها...
ساعدته ذات صباح في ارتداء ملابسه، لكنه أبعد يدها عنه عند أزرار القميص وأغلقها بنفسه، ووجهه إلى الجهة الأخرى، ينفر منها...
نظرت إليه بعدم تصديق،
أهذا هو الذي كان يعشق قربها؟
يبتعد عنها بنفور وكأنها في كابوسٍ تنتظر أن تستفيق منه، لكنه طال كثيرًا.
–للدرجة دي مش طايقني؟
همست بها مي بصوت مبحوح وهي تبتلع خنقتها، ثم استدارت وغادرت.
راقبها وهو يراها تبتعد، وقال بجمود:
– أخويا هيوصلني... ما تتعبيش نفسك وتيجي.
لم تجبه، فقط هزّت رأسها بصمت، وواصلت خطواتها البطيئة بعيدًا…
كأن كل خطوة كانت بتسحب معاها جزء من روحها.
بعد قليل، حضر عاصم، سلّم عليها، ولاحظ حزنها، فطمأنها أن كل شيء سيكون بخير، وغادر هو وأخوه لزيارة الطبيب...
تحسّن كثيرًا، وتخلّى عن العكاز،
لكنه لم يتخلَّ عن إهانتها، ولا ذلك الجفاء، ولا تلك العصبية والتنمّر الذي زاد عن حدّه.
بقلم شروق مصطفى
#قصص_الحياة
ذات يوم، كانت تبتسم في المرآة، تحاول أن تتجمّل له، أن يراها...
أن يراها كما كانت.
لكنّه دخل...
نظر إليها، وقال:
– إيه القرف اللي عاملاه ده؟ غوري اغسلي وشك.
تذكرت أيضًا يوم وصول رسالة إلى هاتفه وهو في الحمام،
أخذها الفضول لقراءتها... يدها ارتجفت، وقلبها اعتصرها ألمٌ لم تختبره من قبل.
وصلت يا بيبي ولا لسه؟ طمّني عليك وكلّمني لما مراتك تنام... بحبك يا بيبي أوي.
– مستحيل لأ، لأ الخيانة وصلت يخوني لأ... مش هتحمّلها أبدًا، طيب ليه؟.
أهذا جزاء الحب والوفاء؟ أهذا هو الوعد الذي قطعه لي؟ أهذه هي التوبة التي نواها من قبل؟ ماذا فعلتُ له ليطعني بسكينٍ مسموم؟ لماذا...؟
أسئلة كانت تملأ غرفته ولم تجد لها إجابة، فبعد أن قرأت الرسالة، انفجرت أنهار الدموع من عينيها...
ألهذا ينام بغرفة أخرى؟ ويمسك هاتفه ويضحك لها فقط؟! خرجت تجر خيبتها قبل ان تواجهه فهي غير مستعدة الأن....
يتبع
تكملة الرواية بعد قليل
جاري كتابة الفصل الجديد للروايه حصريا لقصر الروايات اترك تعليق ليصلك كل جديد أو عاود زيارتنا الليله
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله الجزء الاول 1من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثاني 2من هناااااااااا
الرواية كامله الجزء الثالث 3من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا